كائن لا تحتمل خفته

من معرفة المصادر

كائن لا تحتمل خفته، رواية من تأليف الكاتب التشيكي ميلان كونديرا، نُشرت عام 1984.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الرواية

كونديرا               ميلان كونديرا
          ميلان كونديرا




ترجمة : ماري طوق

المركز الثقافي العربي










 كائنٌ لا تُحتمل خِفّته .  تأليف :ميلان كونديرا .  ترجمة : ماري طوق .  الطبعة الثانية ، 1998  جميع الحقوق محفوظة .  الناشر : المركز الثقافي العربي  العنوان  الدار البيضاء /42 الشارع الملكي (الأحباس ) * فاكس /305726/ * هاتف /303339 – 307651/ .  28 شارع 2 مارس * هاتف 271753 – 276838/ * ص.ب./4006/ درب سيدنا . العنوان :  بيروت / الحمراء – شارع جان دارك – بناية المقدسي – الطابق الثالث .

* ص .ب . /5158-113/ * هاتف /352826 -343701/ * فاكس /343701-1-00961/ . 

روايَــــــة




تأليف ميلان كونديرا ترجمة مَاري طوق



المركز الثقافي العربي

القسم الأول الخفة و الثقل 1

العَوْدُ الأبدي فكرة يكتنفها الغموض و بها أربك نيتشه الكثيرين من الفلاسفة : أن نتصور أن كل شيء سيتكرر ذات يوم كما عشناه في السابق ، و أنَّ هذا التكرار بالذات سيتكرر بلا نهاية ! ماذا تعني هذه الخرافة المجنونة ؟ تؤكد خرافة العَوْدُ الأبدي ، سلباً ، أن الحياة التي تختفي نهائياً ، و التي لا ترجع إنما هي أشبه بظل و دون وزنٍ و ميتة سلفاً . و مهما تكن هذه الحياة فظيعة أو جميلة أو رائعة فإن هذه الفظاعة و هذا الجمال و هذه الروعة لا تعني شيئاُ . هي غير ذات أهمية مثل حرب وقعت في القرن الرابع عشر بين مملكتين أفريقيتين فما غيّرت شيئاً في وجه التاريخ ، مع أن ثلاثمائة ألف زنجي لاقوا فيها حتفهم و في عذابات تفوق الوصف . فهل كان سيتغير شيء لو أن هذه الحرب بين المملكتين الأفريقيتين في القرن الرابع عشر قد تكررت مراتٍ لا حصر لها في سياق العود الأبدي ؟ بلى : كانت ستؤول إلى كتلة متراصفة من الجماجم ، و تفاهتها ستكون متصلة دون توقف . و لو قًدّر للثورة الفرنسية أن تتكرر باستمرار ، لكان المؤرخون الفرنسيون أقل فخراً بروبسبيير . و لكن ، بما أنهم يتحدثون عن شيء لن يرجع ثانية ، فإن السنوات الدامية تصير مجرّد كلمات و نظريات و مجادلات ؛ تصير أكثر خفة من الوبر و لا تعود مخيفة . هنالك فرق شاسع بين روبسبيير الذي لم يظهر سوى مرة في التاريخ و روبسبيير الذي يعود بشكل دائم ليقطع رؤوس الفرنسيين .


لنقل إذاً أن فكرة العود الأبدي تحدد أفقياً لا تبدو فيه الأشياء كما نعرفها : تظهر لنا من دون الظروف التخفيفية لعرضيتها . هذه الظروف التخفيفية تمنعنا في الحقيقة من إصدار حكم معيّن . هل بالإمكان إدانة ما هو زائل ؟ إن غيوم المغيب البرتقالة تضفي على كل شيء ألق الحنين ، حتى على المقصلة . منذ زمن ليس ببعيد فاجأني شعور غير معقول : كنت أتصفح كتاباً عن هتلر فوجدت نفسي مأخوذاً أمام بعض من صوره . ذكرتني بزمن طفولتي التي عشتها خلال الحرب . كثيرون من أفراد عائلتي لاقوا حتفهم في معسكرات اعتقال نازية . و لكن ما أهمية موتهم أمام صورة هتلر التي ذكرتني بزمن غابر من حياتي ، بزمن لن يعود ؟ إن هذه المصالحة مع هتلر تفضح عمق الشذوذ الأخلاقي الملازم لعالم مبني أساساً على انعدام العَوْد . ذلك أن كل شيء في هذا العالم مغتفر سلفاً و كل شيء مسموح به بوقاحة .

2

لو قُدّر لكل ثانية من حياتنا أن تتكرر مراتٍ لا حصر لها ، لكنّا معلّقين على الأبدية مثلما علّق يسوع المسيح على صليبه . هذه الفكرة فظيعة . ففي عالم العَوْد الأبدي ، كل حركة تحمل ثقل مسؤولية لا تطاق .. و هذا ما جعل نيتشه يقول : إن فكرة العود الأبدي هي الحمل الأكثر ثقلاً . إذا كان العَوْد الأبدي هو الحمل الأثقل ، يمكن لحيواتنا عندئذ أن تظهر على هذه القماشة الخلفية بكلّ خفّتها الرائعة . ولكن هل الثقل هو حقاً فظيع ؟ و جميلة هي الخفة ؟ إن أكثر الأحمال ثقلاً يسحقنا ، يلوينا تحت وطأته و يشدنا نحو الأرض . و لكن لو ألقينا مثلاً نظرة على شعر الحب خلال العصور كلّها لرأينا أن المرأة ترغب في أن تتلقى حمل جسد الذَكَر . إذاً ، فالحمل الأكثر ثقلاً هو في الوقت ذاته صورة للاكتمال الحيوي في ذروته . فكلما كان الحمل ثقيلاً ،


كانت حياتنا أقرب إلى الأرض ، و كانت واقعية أكثر و حقيقية أكثر . و بالمقابل ، فإن الكائن الإنساني عند الغياب التام للحمل يصير أكثر خفة من الهواء ، محلّقاً بعيداً عن الأرض و عن الكائن الأرضي . يصير شبه واقعي و تصبح حركاته حرّة قدر ما هي تافهة . إذاً ، ماذا علينا أن نختار ، الخفة أم الثقل ؟ ذاك هو السؤال الذي طرحه بارمينيد على نفسه في القرن السادس ما قبل المسيح . حسب رأيه ، العالم منقسم إلى أزواج من أضداد : النور – الظلمة ؛ السميك – الرقيق ؛ الحار – البارد ؛ الكائن – اللاكائن . كان يعتبر أن أحد قطبي التناقض إيجابي ( المضيء ، الحار ، الرقيق ، الكائن ) و القطب الآخر سلبي . قد يبدو لنا هذا الانقسام إلى إيجابي و سلبي في نطاق سهولة صبيانية باستثناء حالة واحدة : أيُّهما هو الإيجابي ، الثقل أم الخفة ؟ كان بارمينيد يجيب : الخفيف هو الإيجابي و الثقيل هو السلبي . هل كان على حق أم لا ؟ هذا هو السؤال . و شيء واحد أكيد : النقيضان الثقيل – الخفيف هما الأكثر غموضاً و التباساً بين كل المتناقضات . 3 منذ سنوات عديدة و أنا أفكر بتوماس . غير أني رأيته بوضوح للمرة الأولى في ضوء هذه الأفكار . رأيته وافقاً أمام نافذة شقته و عيناه تحدقان بثبات عبر الجهة الأخرى من الفناء ، إلى حائط المبنى المقابل . و لم يكن يدري ماذا عليه أن يفعل . كان قد تعرّف إلى تيريزا منذ ثلاثة أسابيع تقريباً في مدينة صغيرة من بوهيميا ، حيث أمضيا ساعة معاً على الأكثر . اصطحبَتْه إلى المحطة و انتظرت معه حتى استقلَّ القطار . بعد عشرة أيام جاءت تزوره في براغ حيث مارسا الحب في اليوم نفسه . و في الليل أصابتها نوبة من الحمى فأمضت عنده أسبوعاً كاملاً يلازمها الزكام . عندئذ أحسّ بحب لا يفسّر نحو هذه الفتاة التي كان يجهلها في

الواقع . بدت له مثل طفلة وضعت في سلة مطلية بالقطران و تُركت في النهر ليلتقطها عند ضفة سريره . مكثت عنده أسبوعاً ، ثم بعد أن شفيت رجعت إلى المدينة التي تسكن فيها على بعد مئتي كيلومتر من براغ . . هنا تتموضع اللحظة الحاسمة في حياة توماس و التي كنت أحدثكم عنها لتوّي : إنه واقف أمام النافذة و عيناه محدقتان عبر الجهة الأخرى من الفناء ، إلى حائط المبنى المقابل و يفكر : أَفَعَلَيه دعوتها للإقامة في براغ ؟ هذه مسؤولية ترعبه . لماذا لا يدعوها الآن إليه فتجيئه في الحال لتقدم له حياتها كلها . أَوَ هل يجب التخلي عن هذه الفكرة ؟ و في هذه الحالة تبقى تيريزا خادمة في مشرب جعة في حيّ صغير من الريف ، و هكذا لا يعود يراها . هل يريدها أن توافيه أم لا ؟ ينظر عبر الفناء ، عيناه محدقتان إلى الحائط المقابل و يبحث عن حل . يرجع أيضاً و أيضاً إلى المرأة المستلقية على سريره ، لم تكن تذكره بأحد من حياته السابقة . لم تكن لا عشيقة و لا زوجة . بل كانت طفلاً أخرجه من سلة مطلية بالقطران ووضعه على ضفة سريره . كانت قد غفت . جثا أمامها . كان لهاثها المحموم متسارعاً و سمع تأوهاً خافتاً . ألصق وجهه بوجهها و همس لها كلمات مؤاسية أثناء نومها . في غضون لحظة بدا له أنها تتنفس بهدوء أكثر و أن وجهها يستدير تلقائياً نحو وجهه . كان يشم رائحة الحمى الحامزة من شفتيها و كان يتنشقها و كأنه يريد أن يمتلئ بحميم جسدها . عندما تصوّر أنها كانت تقيم عنده من سنوات و أنها الآن تحتضر . أحسّ فجأة أنه لا يمكن له أن يعيش بعد موتها . بل سيتمدد قربها و يموت معها . و إذ هزّت كيانه هذه الرؤية ، دفن وجهه في الوسادة قرب وجهها و بقي طويلاً على هذه الحال . الآن ، ها هو واقف أمام النافذة يتذكر هذه اللحظة . أكان ذلك غير الحب و قد أراد أن يعلن عن نفسه بهذه الطريقة ؟ و لكن هل كان ذلك الحب فعلاً ؟ كان متيقناً من أنه كان يرغب في

الموت إلى جوارها ، و هذا الشعور كان مغالىً فيه إلى حد بعيد ، فهو يراها للمرة الثانية في حياته . أم كان بالأحرى ردة فعل هستيرية لرجل أدرك في أعماقه عدم قدرته على الحب فَراح يلعب ، لكنّ لنفسه ، ملهاة العشق ؟ في الوقت ذاته ، كان وعيه الباطن مرتخياً إلى درجة أنه اختار لتمثيليته هذه خادمة مقهى ريفية مسكينة لم يكن لها عملياً أي حظ في الدخول إلى حياته ! كان ينظر إلى حيطان الفناء المتسخة من دون أن يفهم إذا كان ما يعانيه جنوناً أم حباً . كان بإمكان رجل حقيقي في هذه الحالة أن يتصرف على الفور . لذلك كان يأخذ على نفسه هذا التردد و حرمان أجمل لحظة في حياته من كل معنى ، ( كان جاثياً أمام سرير المرأة الشابة و هو مقتنع بأنه لن يقوى على العيش من بعدها ) . كان يوسع نفسه توبيخاً ، و لكنه اقتنع في النهاية بأن عدم معرفته بما يريده أمر طبيعي جداً . لا يمكن للإنسان أبداً أن يدرك ماذا يفعل ، لأنه لا يملك إلا حياة واحدة ، لا يسعه مقارنتها بِحَيوات سابقة و لا إصلاحها في حيوات لاحقة . أيهما هو الأفضل ، العيش مع تيريزا أم البقاء وحيداً ؟ لا توجد أية وسيلة لنتحقق أي قرار هو الصحيح ، لأنه لا سبيل لأية مقارنة . كل شيء نعيشه دفعة واحدة ، مرةً أولى و دون تحضير . مثل ممثل يظهر على الخشبة دون أي تمرين سابق . و لكن ما الذي يمكن أن تساويه الحياة إذا كان التمرين الأول الحياة نفسها ؟ هذا ما يجعل الحياة شبيهة دائماً بالخطوط الأولى لعمل فني ، و لكن حتى كلمة (( خطوط أولى )) لا تفي بالغرض . فهي تبقى دائماً مسودة لشيء ما ، رسماً أولياَ للوحة ما . أما الخطوط الأولى التي هي حياتنا فهي خطوط للاشيء و رسم دون لوحة . ردّد توماس المثل الألماني القائل : مرة ليست في الحسبان ، مرة أبداً . ألاّ تستطيع العيش إلى حياة واحدة كأنك لم تعش البتة .


4

لكن ، في ذات يوم و أثناء استراحة بين جراحتين ، أبلغَتْه ممرضة أنه مطلوب على الهاتف . سمع صوت تيريزا عبر السماعة ، كانت تخابره من المحطة . سرّ لذلك . لسوء الحظ كان مشغولاً هذا المساء فلم يدعها لزيارته إلا في الغد . ما إن أقفل السماعة حتى ندم لأنه لم يطلب منها أن تأتي في الحال . كان الوقت لا يزال يسمح له بإلغاء موعده . تساءل عمّا ستفعله تيريزا في براغ طول الساعات الست و الثلاثين التي تفصلهما عن لقائهما ، فرغب في ركوب سيارته و الانطلاق بها بحثاً عنها في شوارع المدينة . وصلت مساء ذلك الغد . كانت تحمل حقيبة ذات حزام طويل . وجدها أكثر أناقة من المرة السابقة . كانت تتأبط كتاباً ضخماً : (( آنا كارينين )) لتولستوي . كانت تصرفاتها مرحة و ربما صاخبة . و كانت تجهد لتبرهن أن مرورها لم يكن إلا من باب الصدفة وحسب ، و بسبب ظروف خاصة : فوجودها في براغ كان لدواعٍ مهنية و ربما ( كانت مزاعمها غامضة جداً ) للبحث عن وظيفة جديدة . بعدها ، وجدا نفسيْهما ممدّدين على السرير جنباً إلى جنب عاريين و منهمكين . كان المساء قد حلّ . سألها عن مكان إقامتها و أراد اصطحابها في السيارة . أجابت بانزعاج بأنها ستفتّش عن فندق و أنها وَدَعَتْ حقيبتها في المحطة . عشية البارحة ليس إلا ، كان يخشى أن تأتي لتمنحه حياتها فيما لو دعاها للمكوث عنده في براغ . الآن عندما سمعها تقول له بأن حقيبتها كانت في المحطة قبل أن تمنحه إياها . صعد إلى جانبها في سيارته المتوقفة أمام البناية ، ذهب إلى المحطة فأمسك بالحقيبة ( كانت ضخمة و ثقيلة للغاية ) و أتى بها و تيريزا إلى بيته . كيف حدث أنه قرر بهذه السرعة في حين أنه كان يتردد ما يقارب الخمسة عشر يوماً و لم يرسل لها حتى بطاقة بريدية ؟


كان هو نفسه مدهوشاً : كان يتصرف بخلاف مبادئه . ها قد مرت عشر سنوات على طلاقه من زوجته الأولى ، و هو يعيش طلاقه في جو من الابتهاج مثلما يحتفل أناس آخرون بزواجهم . كان قد فهم إذ ذاك أنه لم يُخلق ليعيش في كنف امرأة واحدة أياً تكن هذه المرأة ، و أنه غير قادر على أن يكون هو نفسه حقاً إلا عازباً . كان يحرص إذاً كل الحرص على تنسيق نظام حياته بشكل لا يمكن معه لأية امرأة أن تأتي لتقيم عنده مع حقيبتها . و فوق ذلك ، فهو لا يملك إلا سريراً واحداً . و مع أنه سرير واسع بما فيه الكفاية ، فإنه كان يؤكد لشريكاته أنه لا يقدر على النوم مع أحد على فراش مشترك . كان يُعيدهن جميعهن إلى منازلهن بعد حلول منتصف الليل . من جهة أخرى ، حين بقيت تيريزا عنده في المرة الأولى بسبب الزكام ، لم ينم إلى جوارها ، بل أمضى ليلته الأولى على كنبه كبيرة ، و لياليه المتتالية في عيادته في المستشفى على كرسي طويل كان يستعمله أثناء الخدمة الليلية . لكنه في هذه المرة نام قربها . عندما استيقظ في الصباح وجد أن تيريزا لا تزال نائمة و هي تمسك بيده . هل بقيا ممسكَيْن بأيديهما هكذا طوال الليل ؟ كان يصعب عليه تصديق هذا الأمر . كانت تتنفس بعمق أثناء نومها و تمسك بيده ( بقوة ، لم يكن قادراً على الإفلات من قبضتها ) ، و كانت الحقيبة الثقيلة للغاية ملقاة قرب السرير . لم يكن يجرؤ على سحب يده من قبضتها لئلا يوقظها ، فاستدار بحذر على جنبه ليتمكن من مراقبتها بشكل أفضل . مرة أُخرى قال في نفسه : إن تيريزا طفل وضع في سلة مطلية بالقطران و رُميت في مجرى النهر . هل في إمكان المرء أن يترك سلة في داخلها طفل تنجرف مع مياه النهر الهادرة ؟ لو لم تخرج ابنة فرعون سلة موسى الطفل من الماء لَمَا كان العهد القديم و لا كانت معه حضارتنا ! في بداية أساطير كثيرة هناك أحد ما ينقذ طفلاً لقيطاً .لو لم يلتقط بوليب أوديب الطفل لما استطاع سوفوكل أن يكتب أجمل مسرحياته التراجيدية . لم يكن توماس يدرك من قبل أن الاستعارات شيء خطير . لا يمكننا أن نمزح مع الإستعارات . فالحب قد يولد من استعارة واحدة .


5

كان قد عاش سنتين تقريباً مع زوجته و أنجب طفلاً . عهد القاضي في حكم الطلاق بالطفل للأم و أجبر توماس على أن يقدم لهما ثلث معاشه . إلى جانب ذلك ، كفل له بأنه يستطيع رؤية ابنه مرتين في الشهر . و لكن كلّما كان يريد رؤية ابنه كانت الأم تُرجئ الموعد . لو أغدق عليهما بهدايا فخمة لكان في وسعه طبعاً أن يراه بطريقة أسهل . أدرك إذاً أنه يُفترض به أن يدفع للأم ثمن حب ابنه و أن يدفع سلفاً . كان يتصور نفسه ملقّناً ابنه أفكاراً متنافية على الأصعدة كافة مع أفكار أمه ، و كانت هذه الفكرة بالذات تنهكه . منعته الأم ذات يوم أحَد من أن يخرج مع ابنه في آخر لحظة ، فقرر ألا يعود لرؤيته أبداً . على كل حال ، فما الذي يجبره على التعلق بهذا الطفل دون غيره ؟ و لا شيء يربطه به غير ليلة طائشة . كان على استعداد لأن يدفع ما عليه من مال بأمانة و لكن لا يذهب بأحد الأمر لأن يطلب منه ، باسم مشاعر أبوية غير محددة ، أن يناضل لاكتساب حقه كأب ! من البديهي ألاَّ يكون أحد على استعداد للقبول بهذا المنطق . فوالداه بالذات أداناه و أوضحا له بأنه هو توماس ، لو رفض الاهتمام بابنه فسيتوقفان هما أيضاً عن الاهتمام بابنهما . لذلك ، كانا يستمران في التعاطي مع كنتهما بمودة تفاخرية ، متبجحين أمام الأقارب بموقفهما النموذجي و بصواب أحكامهما . نجح إذاً خلال فترة قصيرة في التخلص من زوجة و ابن و أم و أب . و لم يتبقَ له مما مضى إلا الخوف من النساء . كان يرغب فيهن إنما كان يخاف منهن . بين الخوف و الحب وجب عليه أن يجد تسوية ما ، تسوية سماها (( الصداقة الجنسية )) . كان يؤكد أمام عشيقاته : وحدها العلاقة المجردة من العواطف ، حيث لا يمكن لأحد من الشريكين أن يدّعي أن له حقوقاً على حياة الآخر و حريته ، يمكنها أن تجلب السعادة للإثنين معاً . و حتى يتم له اليقين بأن الصداقة الجنسية لا تُخلي المكان أبداً لعدائية


الحب ، فإنه لم يكن يرى عشيقاته الدائمات إلا في فترات متباعدة جداً . كان يعتبر أنن هذه الطريق هي المثلى ، و يفتخر بها أمام أصدقائه : (( علينا اعتماد القاعدة الثلاثية . يمكننا أن نرى المرأة نفسها في فترات متقاربة جداً شريطة ألا تزيد على ثلاث مرات . أو يمكننا أن نعاشرها لسنوات طويلة لكن شريطة أن نترك على الأقل مهلة ثلاثة أسابيع بين اللقاء و الآخر )) ، كان هذا النظام يمنح توماس إمكانية ألا يقطع علاقاته بعشيقاته الدائمات و أن يكون له في الوقت نفسه عشيقات عابرات . لم يكن أحد يفهمه . كانت سابينا وحدها من بين صديقاته هي التي تفهمه . كانت رسامة . كانت تقول : أحبك كثيراَ لأنك بخلاف (( الكيتش )) تماماً . لا يمكنك أن تكون في أي سيناريو لفيلم أمريكي أو لفيلم روسي غير حالة مثيرة للقرف . و الحالة هذه طلب من سابينا أن تساعده في إيجاد عملٍ لتيريزا . وحسُبُ ما تُلزم القواعد غير المكتوبة للصداقة الجنسية ، وعدته بأن تبذل جهدها . و فعلاً لم تتأخر في إيجاد وظيفة لها في مختبر للصور في إحدى المجلات الأسبوعية . لم تكن هذه الوظيفة تتطلب كفاءة معينة ، و لكنها تمكنت من رفع تيريزا من منزلة الساقية في حانية إلى منزلة موظفة في الصحافة . قدّمتها سابينا بنفسها إلى مكتب التحرير ، ففكر توماس حينئذ أنه لم يجد في حياته صديقة أفضل منها .

6

كانت شرعة الصداقة الجنسية ، غير المكتوبة ، تستدعي إلغاء الحب من حياة توماس . فلو أنه خرق هذا الشرط لوجدت عشيقاته الأخريات أنفسهن في وضع دوني و لَثُرْن لذلك . فقد دبّر إذن لتيريزا شقةً صغيرة مستأجرة استئجاراً تباعياً حيث نقلت إلى هناك حقيبتها الثقيلة . كان راغباً في السهر عليها و في حمايتها و في الاغتباط بحضورها . لكنه لم يكن يشعر بحاجة تستدعيه لتغيير نمط حياته ، و لم يكن يريد ، إلى ذلك ، أن يعرف أحد أنها تنام عنده . فالنوم المشترك هو جسم الجريمة للحب .



لم يكن ينام قط مع النساء الأخريات . كان الأمر سهلاً حين يذهب لرؤيتهن في بيوتهن فباستطاعته الذهاب و الحالة هذه ساعة يشاء . و لكن الأمر كان أكثر مشقة حين يأتين إلى عنده فيجد نفسه مضطراً لأن يشرح لهن بأنه سيرجعهن إلى بيوتهن بعد حلول منتصف الليل . و السبب أنه يعاني من الأرق و لا يمكنه أن يغفو و أحد جواره . لم تكن هذه الحجة منافية للحقيقة ، و لكن السبب الجوهري كان أسوأ من ذلك ، و لم يكن يجرؤ على الاعتراف به لشريكاته : في اللحظة التي تلي الجنس ، كان يشعر برغبة جامحة في البقاء وحيداً . كانت تنفره أن يستيقظ في وقت متأخر من الليل و يجد نفسه بالقرب من كائن غريب . كان يمقت النهوض الزوجي عند الصباح و لا يرغب في أن يسمعه أحد و هو يغسل أسنانه في الحمام ، ثمّ و أن إلفة الإفطار المزدوج لم تكن تستهويه . من أجل ذلك فوجئ للغاية عندما استيقظ ووجد أن تيريزا تشد على يده بقوة ! كان ينظر إليها غير مستوعب تماماً ما الذي حدث . فاستعاد الساعات التي مرّت و أحس أنه يتنشق منها عطر سعادة غريبة . منذ ذلك الحين و كلاهما يغتبط مسبقاً بالنوم سوية . و أميل تقريباً للقول بأن الهدف من الجماع بالنسبة لهما لم يكن النشوة بل النعاس الذي يعقبها . و هي ، خاصة ، لم تكن تستطيع أن تنام من دونه . لو صدف و بقيت وحيدة في شقتها الصغيرة ( التي لم تعد إلا مجرد خدعة ) كانت غير قادرة على إغماض جفن طيلة الليل . أما بين ذراعيه فكانت تغفو دائماً مهما تكن درجة اضطرابها . كان يروي من أجلها بصوت خافت قصصاً يبتدعها أو ترّهات مخيّلتها إلى رؤى مشوّشة تأخذ بيدها إلى الحلم الأول . كان يملك تأثيراً خارقاً على إغفائها و كانت تغفو في الدقيقة التي يقرر أن ينتقيها . كانت تمسكه أثناء النوم كما فعلت في أول ليلة : تشد بقوة على معصمه أو على إصبع من أصابعه أو على عرقوبه ، و كان عليه أن يستعين بحيلة ما كي يفلت منها دون أن يوقظها . فيسحب إصبعه ( معصمه أو عرقوبه ) من قبضتها ، مما كان يجعلها تستيقظ قليلاً ، ذلك أنها كانت تراقبه بانتباه حتى




أثناء نومه . كان يدس في يدها مكان معصمه شيئاً ما ليهدّئ من روعها ( بيجاما ملفوفة أو خفّاً أو كتاباً ) فتضغط عليه في الحال و بقوّة كأنه قطعة من جسده . ذات يوم كان يحاول إغفاءها و كانت هي لا تزال في المدخل الأول للنوم و تقدر على أن تردّ على أسئلته . قال لها : - (( حسناً ، إنّي ذاهب الآن . – سألته : (( إلى أين ؟ )) . فقال لها بلهجة حازمة - : (( إنّي خارج )) . قالت : (( سأذهب معك )) فانتصبت في سريرها . – قال : (( لا ، لا أريد . إني ذاهب للأبد )) . ثم خرج من الغرفة إلى المدخل . فنهضت و تبعته إلى المدخل و هي ترفرف بعينيها . كانت عارية تحت قميص قصيرة ، و كان وجهها جامداً من دون تعابير و لكن حركاتها نشيطة . خرج من المدخل إلى الرواق ( الرواق المشترك للمستأجرين ) و أغلق الباب في وجهها . ففتحت الباب بحركة عنيفة و تبعته مقتنعة و هي عند حدود النوم أنه ينوي الذهاب إلى الأبد و أن عليها أن تستبقيه . نزل طابقاً ثم توقّف عند قرص الدرج و انتظرها . فلحقت به و أمسكته من يده و أعادته قربها إلى السرير . فكّر توماس : إن مضاجعة امرأة و النوم معها رغبتان ليستا مختلفتين فحسب بل متناقضتان أيضاً . فالحب لا يتجلى بالرغبة في ممارسة الجنس ( و هذه رغبة تنطبق على جملة لا تحصى من النساء ) و لكن بالرغبة في النوم المشترك ( و هذه الرغبة لا تخصّ إلا امرأة واحدة ) .

7

عند منتصف الليل ، أخذت تيريزا تنتحب أثناء نومها . فأيقظها توماس و لكنها حين رأت وجهه قالت بحقد : (( اغرب عن وجهي ! أغرب من وجهي ! )) . ثم روت له ما رأته في المنام : كانا في مكان ما و برفقتها سابينا ، في غرفة شاسعة . كان هناك سرير في وسط الغرفة و كأنما وسط حلبة مسرح . أمرها توماس بالبقاء في الزاوية و ضاجع سابينا على مرأى منها . كانت تنظر إلى هذا المشهد فيسبب لها عذاباً هائلاً . ثم أخذت تغرز إبراً تحت أظافرها مطفئة ألم


النفس بألم الجسد . (( كان هذا يؤلمني بشكل فظيع )) ، قالت و شدت على قبضتيها كما لو أن يديها كانتا فعلاً مثخنتين بالجراح . ضمّها بين ذراعيه ( كانت ترتجف دون توقف ) فغفت شيئاً فشيئاً و هي تعانقه . و إذ فكر صباح الغد في هذا الحلم تذكر شيئاً. فتح درج مكتبه و أخرج حزمة رسائل من سابينا . عثر على المقطع التالي بلحظة : (( أرغب في أن أضاجعك داخل مُحترفي و كأننا على حلبة مسرح . سيكون هناك أناس حوالينا و لن يكون لهم الحق في الاقتراب . و لكن لن يتمكنوا من إشاحة بصرهم عنا . . . )) . و الأسوأ في الأمر أن هذه الرسالة كانت مرفقة بالتاريخ . كانت رسالة حديثة العهد مكتوبة بعد انقضاء وقت طويل على وجود تيريزا عند توماس . استشاط غضباً : (( فتشْتِ في رسائلي ! )) . قالت من دون أن تحاول الإنكار : (( حسناً ، بإمكانك طردي ! )) . لكنه لم يطردها . كان يراها هناك ، تلتصق بحائط محترف سابينا و هي تغرز إبراً تحت أظافرها . فضمّ أصابعها في يديه و داعبها ثم حملها إلى شفتيه و قبَّلها و كأن آثاراً من دم فضُلَتْ هناك . و لكن ابتداء من هذه اللحظة بدا و كأن كل شيء يتآمر ضده . فلم يكن يوم ليمر إلا و تعرف فيه شيئاً جديداً عن مغامراته السرية . في بادئ الأمر كان ينفي كل شيء ، و لكن حين تكون الأدلة صارخة ، كان يحاول أن يثبت أن لا تناقض بين حياته كرجل مرتبط بعدة نساء و بين حبه لتيريزا ! لم يكن منطقياً في ما يقول . فتارة كان ينفي خياناته ، و يبررها تارة أخرى . كان يتصل ذات يوم بصديقة له ليتّفق معها على موعد . حين أقفل الخط سمع ضجة غريبة في الغرفة المجاورة ، ضجة تشبه اصطكاك الأسنان . كانت قد جاءت إليه صدفة على غير علم منه . و كانت تمسك في يدها



زجاجة مهدّئ و تشرب من عنقها فترتجف يدها و يرتطم زجاج القنينة بأسنانها . هبَّ لنجدتها كمن يريد تخليصها من الغرق . سقطت قنينة الناردين و أحدثت بقعة كبيرة على السجادة . كانت تتخبط بين ذراعيه محاولة الإفلات منه فظلَّ ممسكاً بها هكذا لمدة ربع ساعة ، إلى أن هدأت . كان يدرك أن حالته متعذر تبريرها لأنها مبنية أصلاً على لا مساواة تامة : كانا قد ذهبا معاً ، قبل اكتشافها لمراسلاته مع سابينا بوقت طويل ، إلى ملهى برفقة بعض الأصحاب احتفالاً بتسليم تيريزا وظيفتها الجديدة . كانت قد تركت مختبر الصور لتصبح مصوَّر في المجلة . و كما أنه لا يهوى الرقص ، تولَّى إذاً أحد زملائه الجدد في المستشفى أمر تيريزا ، كانا ينزلقان بخفة رائعة على حلبة الرقص ، و بدت تيريزا أجمل من أي وقت مضى . كان مذهولاً عندما رآها تستبق رغبة مراقصها بدقة و انصياع و بأقلّ من ثانية بدت له هذه الرقصة و كأنها تؤكد أن إخلاص تيريزا و رغبتها الجارفة في أن تنفذ ما يجولْ في خاطر توماس ليسا مرتبطين بالضرورة بشخص توماس ، إنما هما على أهبة للتجاوب مع نداء أي رجل تصادفه . لم يكن أسهل عليه من تصور تيريزا و هذا الزميل الشاب في وضع عاشقين . كانت هذه السهولة بالذات التي كان يستطيع معها أن يتصورهما في مثل هذا الوضع ، تجرحه ! كان جسد تيريزا قابلاً تماماً لأن يتصوره مستغرقاً في عناق عاطفي مع أي جسد ذكر كان ، هذه الفكرة عكّرت مزاجه . عندما رجعا في وقت متأخر من الليل ، اعترف لها بأنه كان غَيران . كانت هذه الغيرة غير مبررة و المنبثقة من تصور نظري بحْت ، برهاناً على أنه يعتبر وفاءها له شرطاً واجباً . و لكن ، و الحالة هذه ، كيف بإمكانه إذاً أن يستاء منها حين تغار من عشيقاته الموجودات فعلاً ؟




8

أثناء النهار ، كانت تيريزا تحاول جاهدة ( لكن دون أن تتمكن فعلاً ) لأن تصدق ما يقوله توماس و أن تكون سعيدة كما فعلت حتى الآن . غير أن الغيرة المكبوتة في النهار كانت تظهر بشكل أكثر عنفاً في أحلامها التي تنتهي دائماً بنحيب لا ينقطع إلا حين يوقظها توماس . كانت أحلامها تتكرر على شكل حلقات متنوعة أو مسلسلٍ تلفزيوني . ثمة حلم كان يتكرر باستمرار على سبيل المثال ، و هو حلم الهررة التي تقفز إلى وجهها مُنشبة مخالبها في جلدها . في الحقيقة يمكن تفسير هذا الحلم بسهولة : الهرة في اللغة التشيكية كلمة عامية تعني فتاة جميلة . كانت تيريزا إذاً تشعر أنها مهددة من النساء ، كل النساء . فالنساء كلُّهن عشيقات محتملات لتوماس و لهذا فهي تخاف منهن . كان يتم إرسالها ، ضمن إطار سلسلة أخرى من الأحلام إلى الموت . أيقظها ذات ليلة و هي تزعق من الذعر فروت له هذا الحلم : كانت هناك بركة سباحة كبيرة مسقوفة . كان نحو العشرين من النساء فقط . كنا جميعاً عاريات و كان علينا أن نسير الواحدة تلو الأخرى حول البركة . كانت هناك سلة كبيرة تتدلى من السقف و في داخلها رجل يرتدي قبعة كبيرة الأطراف تخفي وجهه ، لكني كنت عارفة انه أنت . كنتَ تعطينا الأوامر و تصرخ ، و كان علينا أن نغني ، و نحن نسير ، و نثني ركابنا ، و حين تنسى امرأة أن تثني ركبتيها ، كنتَ تطلق عليها الرصاص من مسدس فتسقط قتيلة داخل البركة ، فتأخذ الأخريات في الضحك ثم في الغناء بقوة أكبر . أما أنت فلم تكن تفارقنا لحظة واحدة ، ما إن تخطئ واحدة حتى تُرديها قتيلة . كانت البركة ملآنة بالجثث العائمة على وجه الماء . و أنا كنت أعرف أنني لن أقدر على تنفيذ انثناءتي المقبلة و أنك ستقتلني . أما السلسلة الثالثة من أحلامها فكانت تروي ما الذي يحدث لها بعد موتها . كانت ترقد في عربة كبيرة للموتى شبيهة بشاحنة نقل انتشرت حولها




جثث نساء لا عدّ لها بحيث أن الباب الخلفي بقي مفتوحاً و تدلّت منه السيقان . كانت تيريزا تزعق : (( أنظروا ! لست ميتة ، ما زلت أحتفظ بحواسي كافةَ ! ـــ نحن أيضاً لا نزال نحتفظ بحواسنا كلّها ، قالت الجثث هازئة . كانت ضحكتهم تشبه تماماً ضحكة أولئك النساء اللواتي لا يزلن على قيد الحياة ، اللواتي كن يقلن لها فيما مضى و بمتعة إن أسنانها ستفسد و إن مبيضّيْها سيُصيبهما المرض و إن التجاعيد ستغزوها . و هذا طبيعي جداً ، لأن أسنانهن ، هن ، قد فسدت و مبيضهن أصابه المرض و قد غرتهن التجاعيد . و ها هن يشرحن لها الآن ، و هن يضحكن الضحكة ذاتها ، أنها ميتة و أن كل شيء منتظم . فجأة شعرت برغبة في التبويل فصرخت : (( لكن بما أني أشعر برغبة في التبويل فهاكن الدليل على أنني لسْتُ ميّتة ! )) . و من جديد ضحكن ملء أشداقهن : ((هذا أيضاً طبيعي أن تشعري برغبة في التبويل ، فحواسك ستبقى كما عهدْتها لوقت طويل ، كمثل الأشخاص الذين بترت أيديهم فيما ينتابهم الشعور بوجودها لوقت طويل . نحن أيضاً لم يعد لدينا بول و نشعر مع ذلك برغبة دائمة في التبويل . التصقت تيريزا بتوماس بقوة في السرير و هي تقول : (( كن جميعهن يخاطبنني دون رفع الكلفة و كأنهن يعرفنني منذ الأزل ، كأنهن كن صديقاتي . أما أنا فكنت خائفة من أن أُجبر على البقاء معهن إلى الأبد )) .

9

جميع اللغات المتحدرة من أصل لاتيني تصوغ كلمة (( كومباسيون )) أي الشفقة انطلاقاً من أداة التصدير (( كوم )) مع إضافة الجذر (( باسيو )) الذي يعني في الأصل (( عذاب )) . تترجم هذه الكلمة في اللغات الأخرى ، في التشيكية مثلاً أو البولونية أو الألمانية أو السويدية ، إلى كلمة مؤلفة من أدارة تصدير


مماثلة و متبوعة بكلمة (( شعور )) . ( إلى سو – سيت في التشيكية ؛ Wspolczucie في البولونية ، ميت – غفول ، في الألمانية ؛ ميد – كانسَلاَ في السويدية ) . كلمة شفقة تعني في اللغات المتحدرة من أصل لاتيني أننا لا نستطيع أن نشاهد عذاب الآخر بقلب بارد . و بكلمة أٌخرى : نشعر بالتعاطف مع من يتعذب . هناك كلمة أُخرى لها المعنى نفسه تقريباً و هي الرأفة ( في الإنكليزية (( بيتي )) و في الإيطالية (( بيتيا )) ، إلخ ) . و هي توحي أيضاً بنوع من التسامح مع الكائن الذي يتألم . أن نشعر بالرأفة تجاه امرأة فهذا يعني أن نكون أوفر حظاً منها ، و أن ننحني نزولاً حتى مستواها . من هنا فأن كلمة شفقة توحي عموماً بالارتياب ، و هي تُعنى بشعور يُعتبر أقل منزلة و لا علاقة له بالحب إطلاقاً . أن نحب أحداً شفقة به فهذا يعني أننا لا نحبّه حقاً . في إطار اللغات التي تصوغ كلمة شفقة ، ليس عن طريق إضافة الجذر (( عذاب ، و لكن بإضافة كلمة (( سنتيمان )) أي شعور ، تستعمل الكلمة في المعنى نفسه تقريباً . لكن يصعب القول إن كانت تحدد شعوراً سيئاً أو وضيعاً . فالقوة الخفية الكامنة في اشتقاق هذه الكلمة تضفي عليها ضوءاً آخر و تضمنها معنى أغنى : أن نشعر بالشفقة ( (( كو – سنتيمان )) ) فمعنى ذلك أن نتمكن من مشاطرة الآخر تعاسته . إنما معنى ذلك أيضاً أن نشاطره مطلق شعور آخر : الفرح أو القلق أو السعادة أو الألم . هذه الشفقة بالذات ( بمعنى سوسيت و Wspolczucie و ميت – غفول وميد – كانسّلا ) تعني إذاً القدرة القصوى على التخيل العاطفي و فن التخاطر بين الانفعالات . و هذا الشعور هو الأسمى في سلم المشاعر . عندما حلمت تيريزا في نومها بأنها تغرز إبراً تحت أصابعها فضحت نفسها و كشفت بذلك لتوماس أنها كانت تفتش في أدراجه سراً . لو أن امرأة أخرى تصرفت كذلك لكان توماس امتنع نهائياً عن التعاطي معها . و بما أن تيريزا كانت واعية لهذا الأمر ، قالت له (( اطردني )) . و لكن توماس لم يمتنع عن طردها فحسب ، بل أمسك يدها و قبَّل رؤوس أصابعها . لأنه في هذه اللحظة كان يعاني هو أيضاً من الألم الذي ينتابها تحت أظافرها ، كأن




أعصاب أصابع تيريزا متصلة مباشرة بدماغه هو . من لا يملك الأعطية الشيطانية للشفقة ( أي مشاطرة الشعور )) سيُدين تصرف تيريزا ببرودة ، لأن حياة الآخر الخاصة شيء مقدس ، و لأنه يجب ألا نفتح الأدراج حيث يحتفظ برسائله الشخصية . و لكن ، و بما أن الرأفة أمسكت قدر توماس ( أو لعنة حياته ) ، خُيّل إليه إذاً أنه هو نفسه جثا أمام درج مكتبه المفتوح ، غير قادر على إشاحة بصره عن الجمل المكتوبة بيد سابينا . كان يفهم شعور سابينا و هو غير قادر على الحقد عليها فحسب ، بل كل حبه لها يزداد أكثر فأكثر .

كانت تصرفات تيريزا تزداد فظاظة و تشوشاً . ها سنتان قد مرّتا على اكتشافها خياناته ، و كل شيء يسير من سيء إلى أسوأ . كأن ذلك دون خلاص . كيف ذلك ! ألا يمكنه أن يحسم أمره مع صداقاته الجنسية ؟ لا فهذا الأمر قد يفتته . . لم تكن لديه القدرة ليتحكم بشهيته للنساء الأخريات . و حتى لو حصل هذا الأمر فلماذا الإقلاع عنها إذاً ؟ كان هذا الافتراض يبدو له سخيفاً ما هو سخيف الإقلاع عن الذهاب لحضور مباراة في كرة القدم . و لكن هل لا يزال في المستطاع الحديثُ عن المتعة ؟ كان ما أن يذهب لموافاة إحدى عشيقاته حتى يشعر بالعدائية حيالها مقسماً على أنها المرة الأخيرة التي سيراها فيها . كان يرى صورة تيريزا مائلة أمام عينيه ، و كان عليه أن يسكر على عجلة كي لا يعود للتفكير فيها . فمنذ أن عرفها و هو غير قادر على مضاجعة النساء الأخريات من دون اللجوء إلى الكحول ! و لكن لهاثه الذي تفوح منه رائحة الكحول كان بمثابة دليل بسيط يفسح المجال أمام تيريزا لتكشف خياناته بسهولة أكبر . ها قد انغلق الفخ عليه : ما أن يذهب لموافاتهن حتى لا يعود يشعر بالرغبة فيهن . و لكن ما أن يمر عليه يوم واحد دونهن ، حتى يختلق رقم هاتف ليحدّد موعداً مع إحداهن . كان يشعر أنه أحسن ما يكون عند سابينا . فهو يعرف أنها كتومة ، و عندما يكون معها ألا يخشى من افتضاح أمره . كانت ذكرى حياته النموذجية كرجل عازب تطفو أمامه في المحترف مثل ذكرى غابرة من حياته . ربما لم يكن يدرك هو نفسه إلى أي حد قد تغير : كان يخاف أن يرجع متأخراً إلى البيت لأن تيريزا في انتظاره . لاحظت سابينا ذات مرة أنه كان ينظر إلى ساعته خلال المضاجعة ، و أنه كان يسعى إلى تسريع النهاية . ثم أخذت تجول المحترف عارية و بمشية متكسرة . ثم توقفت أمام لوحة غير مكتملة موضوعة على الحمالة ، و أخذت تسترق النظر إلى توماس الذي كان يرتدي ثيابه على عجل . ارتدى ثيابه و ظلّت إحدى قدميه عارية . فنظر حواليه ثم زحف و أخذ يفتّش عن شيء ما تحت الطاولة . قالت : (( حين أنظر إليك ، أشعر أنك موشك على التماثل مع موضوع لوحات الأبدي : التقاء عالمين في عرض مزدوج . فمن خلف هيئة توماس الإباحي وجه لا يصدق للعاشق الرومانسي . أو على العكس : من خلال صورة تريستان الذي لا يفكر إلا بتريزا يلوح العالم الجميل المعذور لللإباحي )) . انتصب توماس و سمع بأذن شاردة كلمات سابينا : (( سألته : عمَّ تفتّش ؟ ـــ عن جوربي . فتشتْ معه في الغرفة ثم زحفتْ و أخذت تبحث تحت الطاولة : ـــ قالت سابينا : لا يوجد جورب هنا . . من المؤكد أنك نسيت أن ترتديه قبل مجيئك .



ـــ كيف لم أرتدِه ! زعق توماس و هو ينظر إلى ساعته . فلم آتِ بجورب واحدٍ طبعاً . ــ ليس هذا بأمر مستبعد . أنت ساهم للغاية منذ فترة . مستعجل دائماً و تنظر إلى ساعتك . ليس بالمستغرب إذاً أن تكون قد نسيت ارتداء جوربك )) . عندها قرر أن يرتدي حذاءه حتى بقدمٍ عارية . (( الجوّ بارد في الخارج ، قالت سابينا . سأعيرك جورباً )) . و ناولَتْه جورباً أبيض طويلاً مشبّكاً على آخر الموضة . كان يعرف جيداً أن هذه طريقة للانتقام . لقد قامت بإخفاء جوربه لتعاقبه على أنه نظر إلى ساعته خلال الجماع . و لكن مع هذا البرد في الخارج لم يتبقّ له إلا الخضوع . رجع إلى البيت و هو يرتدي جوربه في قدم ، و القدم الأخرى جورباً نسائياً أبيض ملفوفاً عند عرقوبه . كان واقعاً في ورطة لا خلاص منها : ذلك أنه كان مرسوماً في نظر عشيقاته بالوصمة الشائنة لحبه لتيريزا ، ومرسوماً في نظر تيريزا بالوصمة الشائنة لمغامراته مع عشيقاته ؟ 11

تزوجها ليخفف من عذابها ، ( صار في إمكانهما أخيراً أن يلغيا عقد الإيجار التبعي ، فهي لم تسكن في الشقة الصغيرة منذ فترة بعيدة ) و اقتنى لها جرو كلب صغيراً . كانت الأم سنبرنارا تخص زميلاَ لتوماس ، و الأب عسبور أحد الجيران . لم يعد أحد منها راغباً في تربية هجناء صغار ، و كان زميله تعذبه فكرة قتلها . توجب على توماس إذاً اقتناء أحد الجراء عارفاً أن الجراء التي لا يقتنيها ستموت . كان يشعر بأنه مثل رئيس جمهورية يقف أمامه أربعة


محكومين بالإعدام ، و هو لا يمكنه أن يغفو إلا عن واحد . و في النهاية اختار أحد الجراء و كان أنثى يشبه جسدها جسد أبيها و رأسها يذكّر بأمها السنبرنار . أخذها إلى تيريزا فحملت التوتو إلى صدورها فبال الحيوان فوراً على قميصها . 

وجب عليها بعد ذلك إيجاد اسم للكلبة . كان توماس يرغب في اسم يعرف الآخرون من خلاله بأن هذه الكلبة تخص تيريزا دون غيرها . فتذكر عندئذ الكتاب الذي كانت تتأبطه حين جاءت إلى براغ دون أن تعلمه . و اقترح بأن تسمى الكلبة (( تولستوي )) . لكن تيريزا احتجت : ــ (( لا يمكنك أن تدعوها تولستوي فهي أُنثى . فَلْنَدعُهَا بالأحرى آنا كارينين )) . ــ ليس في الإمكان تسميتها آنا كارينين ، لأن لا وجود لامرأة تملك مثل هذا الفم الضحوك ، قال توماس . فلنسمَّها كارينين بالأحرى ، أجل كارينين ، هذا ما كنت أتصوره تماماً . ــ لكن ألا تخلُّ تسميتها كارينين بحياتها الجنسية ؟ ــ محتمل ، قال توماس . أن تصير الكلبة ذات ميول سحاقية إذا ناداها أصحابها باسم كلب . و الأغرب في الأمر أن تكهن توماس كان في محله . تتعلق الكلبات عادة بصاحبها أكثر مما تتعلق بسيدتها . و لكن حالة كارينين كنت بخلاق ذلك . قررت أن تتعلق بتريزا و كان توماس ممتناً لها . . كان يداعب رأسها و هو يقول : (( أنتِ على حق يا كارينين . هذا بالضبط ما كنت أنتظره منك . بما أنني لن أتوصل إلى ذلك بمفردي وجب عليك أن تساعديني )). و لكنه لم يكن يتوصل إلى إسعاد تيريزا حتى بمعونة كارينين . أدرك ذلك بعد مرور عشرة أيام على احتلال الدبابات الروسية لبلاده . كان ذلك في آب أغسطس 1968 و كان يتصل بتوماس يومياً مدير مستوصف خاص في



زوريخ كان تعرّف إليه من خلال مؤتمر عالمي . كان خائفاً على مصير توماس فعرض عليه الذهاب لتولّي منصب هناك .

12

إذا كان توماس قد رفض من غير تردد عرض الطبيب السويسري فهذا بسبب تيريزا . . كان يعتقد أنها لا ترغب في الذهاب إلى هناك . من جهة أخرى ، أمضت تيريزا الأيام السبعة الأولى من الاحتلال في حالة من الرعدة أشبه بالسعادة . كانت تجول الشوارع و في يدها آلة التصوير . كانت توزع أفلامها على الصحافيين الأجانب الذين يتقاتلون للحصول عليها . . و ذات يوم أظهرت جسارة فائقة و التقطت عن قرب صورة لضابط روسي و هو يشهر مسدسه في وجه المتظاهرين . فأُلقي القبض عليها و أمضت ليلة في الحيّ الروسي العام . و مع أنهم هددوها بالقتل عادت لتلتقط الصور في الشوارع ما إن أطلقوا سراحها . لكن كم كانت دهشة توماس كبيرة عندما قالت له إبّان اليوم العاشر للاحتلال : ــ (( أحقاً لا تريد الذهاب إلى سويسرا ؟ ــ و لماذا أذهب ؟ ــ هنا يريدون محاسبتك )) . فاستدرك توماس بلهجة مستسلمة : ــ (( و من لا يريدون محاسبته . و لك قولي لي : هل أنت قادرة على العيش في الخارج ؟ ــ و ما الذي يمنع ؟ ــ بعدما رأيتك مستعدة للتضحية بحياتك من أجل بلادك ، أتساءل الآن كيف بإمكانك أن تغادريها ؟ ــ (( مذ رجع دوبتشك و كل شيء تغيّر )) . قالت تيريزا .

كان هذا صحيحاً : المرح العام لم يدم إلا فترة الأيام السبعة الأولى للاحتلال . . ذلك أن الجيش الروسي اقتاد رجال الدولة التشيكيين و كأنهم مجرمون . لا أحد كان يعرف أين مكانهم ، و كان الجميع خائفين على مصيرهم ، و كان الحقد على الروس يُسكر مثل الكحول . كانت تلك أيام العيد المسكر للكراهية . كانت تغطي مدن بوهيميا آلاف الملصقات المرسومة باليد و المرفقة بكتابات تهكمية ، و قصائد الهجاء و رسوم كاريكاتورية تصور بريجنيف و جيشه الذي كان الجميع يهزأون منه كمن يهزأ من فرقة مهرّجين جهلاء . و لكن لا يمكن لعيد أن يستمر إلى الأبد . فخلال هذا الوقت كان الروس قد أرغموا رجال الدولة التشيكيين المخطوفين على توقيع تسوية في موسكو . ثم رجع دوبتشك مع هذه التسوية إلى براغ و قرأ خطابه عبر الراديو . كانت أيام الاحتجاز الستة قد أضعفته إلى درجة لم يعد يستطيع معها الكلام إلا بصعوبة . كان يتأتئ و يستعيد أنفاسه عند منتصفِ كل جملة مسجّلاً وقفات لا تنتهي تستغرق ما يقارب نصف الدقيقة . أنقذت التسوية البلاد مما هو أسوأ : الإعدامات ، و النفي بالجملة إلى سيبيريا الذي كان يخيف الجميع . و لكن شيئاً واحداً بدا واضحاً من ساعته : كان على بوهيميا أن تنحني أمام الغازي و أن تتأتئ إلى الأبد و أن تستعيد أنفاسها كما فعل ألكسندر دوبتشك . فالعيد انتهى و تمَّ الدخول في دائرة الذل اليومي . كانت تيريزا تشرح هذا كله لتوماس و كان يعلم أن ما تقوله صحيح . لكن خلف هذه الحقيقة يختبئ سبب آخر أكثر أهمية و هو ما يجعل تيريزا راغبة في ترك براغ : أضحت حياتها هنا تعيسة . عاشت أجمل أيام حياتها و هي تلتقط صوراً للجنود الروس في شوارع براغ ، معرّضة نفسها للخطر . خلال تلك الأيام فقط انقطع المسلسل التلفزيوني لأحلامها و صارت لياليها ناعمة البال . فقد حمل الرسول لها الصفاء مع دبّاباتهم . أما الآن و قد انتهى العيد ، عادت تخاف من لياليها و ترغب في الانسحاب من أمامها . فبعد أن اكتشفت أنها تستطيع ضمن ظروف معينة أن تشعر أنها أكثر قوة و رضى عن ذاتها ، رغبت في السفر علَّها تحظى بظروف مماثلة هناك .



ــ (( ألا يزعجك أن تكون سابينا هاجرت إلى سويسرا ؟ )) . سأل توماس . قالت تيريزا : جنيف ليست زوريخ . هناك ستزعجني أقلّ مما كانت تزعجني في براغ ، أنا متأكدة . ليس سعيداً من يرغب في ترك المكان الذي عاش فيه . امتثل توماس لرغبة تيريزا هذه في الهجرة كمل يمتثل متّهم لحكم المحكمة . فخضع للأمر و ألفى نفسه فيما بعد بصحبة تيريزا و كارينين في أكبر مدينة من مدن سويسرا .

13

ابتاع توماس سريراً ليتمكن من الإقامة في منزل جديد فارغ ( إذ لم يكن في حوزتهما مال لشراء أثاث آخر ) و أكبَّ على العمل بهمَّة رجل مسعور يبدأ حياة جديدة و هو في سن الأربعين . اتصل مرات عديدة بسابينا في جنيف . . من حسن حظّها أنها كانت تفتتح معرضاً هناك قبل ثمانية أيام من الاجتياح الروسي ، فاشترى هواة الرسم السويسريون جميع لوحاتها بدافع من التعاطف مع بلادها الصغيرة . (( أصبحت ثرية بفضل الروس ! )) . قالت و هي تقهقه عبر الهاتف . ثم دعت توماس لزيارة محترفها الجديد مؤكدة له أنه لا يختلف في شيء عن محترفها في براغ . كان راغباً بكل طيبة خاطر في الذهاب لرؤيتها و لكنه لم يكن يجد ذريعة ليبرر أمام تيريزا . مما دفع بسابينا للمجيء إلى زوريخ . نزلت في أحد الفنادق . ذهب توماس لرؤيتها بعد انتهائه من عمله و أنبأها بقدومه من مكتب الاستعلامات ثم صعد إلى غرفتها . فتحت له الباب ثم انتصبت أمامه على ساقيها الجميلتين الرشيقتين و هي متعرية في سليب و صدرية . كانت تضع على رأسها قبعة و تمعن النظر إلى توماس من دون أن تتحرك أو تنبس بكلمة . و بقي توماس هو أيضاً جامداً و صامتاً . ثم أحسّ أنه كان منفعلاً للغاية . فنزع القبعة عن رأسها و وضعها على طاولة السرير ثم تضاجعا دون أن ينبسا بكلمة .

عندما قفل عائداً من الفندق إلى منزله في زوريخ ، ( المؤنث منذ فترة طويلة و بطاولة و كراسٍ و كنبات و سجادة ) فكَّر و هو مغتبط بأنه يحمل معه نمط حياته كما تحمل الحلزونة بيتها . كانت تيريزا و سابينا تؤلفان قطبي حياته ، قطبين متباعدين و متناقضين ، و مع ذلك ، جميلين . و بما أنه كان يحمل معه نمط حياته إلى كل مكان كشيء زائدٍ في جسده ، كانت تيريزا تستمر في رؤية الأحلام نفسها . بعد أن مرّت على وجودهما في براغ ستة أو سبعة أشهر ، وجد عند عودته متأخراً ذات مساء ، رسالة على الطاولة . كانت تخبره فيها أنها رجعت إلى براغ ، و أنها رحلت لأنها لم تعد تقوى على العيش في الخارج . . كانت تعي جيداً أنه يُفترض بها أنها تكون سنداً لتوماس لكنها تعي أيضاً أنها غير قادرة على ذلك . كانت تظن لسذاجتها أن الحياة في الخارج سوف تغيرها . إذ خُيل إليها أنها لن تعود خسيسة بعدما عايشت أيام الاجتياح ، بل سوف تصبح من الآن فصاعداً ناضجة و متعقلة و شجاعة . إلا أنها بالغت في تقدير نفسها . فاكتشفت لاحقاً أنها بمثابة عبء عليه و هذا بالضبط ما لم تكن ترغب فيه . فأرادت استدراك النتائج قبل فوات الأوان . و ليسامحها أيضاً لأنها اصطحبت كارينين معها . تناول حبوباً منّومة من عيار قوي لكنه لم يغمض له جفن حتى الصباح ، لحسن الحظ كان يوم سبت و في إمكانه البقاء في منزل . للمرة الخمسين راجع الموقف برمّته : لم تعد الحدود بين بوهيميا و بقية دول العالم مفتوحة كما كانت إبّان الفترة التي سافرا فيها . فلا البرقيات و لا الاتصالات كانت لتعيد تيريزا ، لأن السلطات لن تسمح لها بالخروج . كان رحيل تيريزا نهائياً و كان غير قادرٍ على أن يصدّق .

14

كانت فكرة أنه غير قادر على فعل شيء تغرقه في حالة من الذهول و تهدّئ من روعه في آن . لا أحد كان يجبره على أن يأخذ قراراً . و لا عاد

بحاجة إلى تأمل حائط المبنى المقابل و هو يتساءل إذا كان راغباً في العيش معها أم لا . ذلك أن تيريزا قررت كل شيء بنفسها . ذهب ليتناول غذاءه في مطعم . كان يشعر أنه حزين . لكن يأسه الأولي أخذ يتلاشى أثناء تناوله الوجبة و كأنه قد أعيا و فقد من زخمه ، مُخلياً المكان للكآبة . كان يستعيد السنوات التي أمضاها برفقتها و يفكر أن قصتهما لا يمكنها أن تنتهي بشكل أفضل . فحتى لو خُلقت من جديد لما قُدّر لها أن تنتهي بطريقة أخرى . ذات يوم جاءت تيريزا لزيارته دون أن تعلمه . و ذات يوم رحلت بالطريقة نفسها ، وصلت مع حقيبة ثقيلة و عادت بحقيبة ثقيلة . دفع ثمن الغذاء و خرج من المطعم ، ثم ذهب للقيام بجولة في الشوارع مفعماً بكآبة تزداد حلاوة . وراء سبع سنوات مع تيريزا و ها قد اكتشف الآن أن هذه السنوات هي أجمل في الذكرى منها في الواقع . كان الحب بينه و بين تيريزا جميلاً ، بكل تأكيد ، و لكنه كان متعباً : وجب عليه دائماً أن يخفي أمراً ما ، و أن يتكتم ، و أن يستدرك ، و أن يرفع من معنوياتها ، و أن يؤاسيها ، و أن يثبت باستمرار حبه لها و أن يتلقى ملامات غيرتها و ألمها و أحلامها ، و أن يشعر بالذنب ، و أن يبرر نفسه و أن يعتذر . . الآن كل التعب تلاشى و لم تبقَ إلا الحلاوة . كانت سهرة السبت لا تزال في بدايتها . كانت يتجول وحيداً للمرة الأولى في زوريخ و يتنشَّق عميقاً عطر حريته . . ها إن المغامرة تترصد له عند زاوية كل شارع ، و ها إن المستقبل يرجع غامضاً من جديد .. كان يعود إلى حياته كعازب ، هذه الحياة الوحيدة التي يمكن أن يكوَّن ذاته حقاً فيها . عاش سبع سنوات متقيداً بتريزا و تيريزا لاحقت بنظراتها كل خطوة من خطواته . كما لو أنها وثقت قدميه بكرة المحكومين بالإعدام . أما الآن فصارت خطوته فجأة أكثر خفة . . كان يحلّق تقريباً في فضاء بارمينيد السحري : كان يتذوق الطعم العذب لخفّة الكائن .



هل كان راغباً في الاتصال بسابينا في جنيف أو في مخابرة إحدى نساء زوريخ اللواتي تعرّف إليهن مؤخراً ؟ لا لم تكن لديه أدنى رغبة في ذلك . كان يعرف أن ذكرى تيريزا سوف تسبب ألماً مبرحاً إن هو اجتمع بواحدة أخرى .

15

دام هذا الافتتان الغريب الكئيب حتى مساء الأحد . نهار الاثنين تغير كل شيء . غزت تيريزا فكره فجأة : كان يحس بما كانت تعانيه و هي تكتب رسالتها الوداعية . . أحسّ كم أن يديها ارتجفتا . كان يراها تجر حقيبتها الثقيلة بيد و رسن كارينين باليد الأخرى ، و كان يتخيلها تدير المفتاح في قفل الشقة في براغ فيشعر بأسى الوحدة يعصف في وجهها عندما تفتح الباب . كان شعوره بالشفقة ، ( لعنة التخاطب العاطفي ) خلال هذين اليومين من الكآبة العذبة ، قد سكن . كانت الشفقة تنام كما ينام عامل المنجم يوم الأحد بعد أسبوعٍ مضنٍ لكي يتمكن من العودة للعمل في الأعماق نهار الاثنين . كان توماس يعاني مريضاً في عيادته فإذا به يتخيل مكانه . فذكّر نفسه : لا تفكر فيها ! لا تفكر فيها ! قال في نفسه : أنا مريض بالشفقة . جيّد إنها فكرت في الذهاب و إنني لن أراها بعد اليوم عليَّ أن أتحرر ليس منها فحسب بل من شفقتي أيضاً ، ذلك المرض الذي لم يكن ولي عهد به و الذي نقل إليَّ جرثومة عُصَيَّة . كان قد أحس يومي السبت و الأحد بعذوبة خفة الكائن تأتيه من عمق المستقبل . أما يوم الاثنين فأحسّ نفسه تحت ثقل حمل لا عهد له به من قبل . فالأطنان الحديدية للدبابات الروسية مجتمعة لم تكن شيئاً في موازاة هذا الحمل . إن ألمنا بالذات ليس بأثقل من الألم الذي نعانيه مع الآخر و من أجمل الآخر و في المكان الآخر ؛ ألم يضاعفه الخيال و ترجعّه مئات الأصداء . كان ينهر نفسه و يأمرها بألاَّ تمتثل للشفقة ، و كانت الشفقة تُصغي إليه



حانية الرأس كأنها متهم . كانت الشفقة تعرف بأنها تتجاوز حدودها و لكنها ظلّت تعاند سراً. مما حدا توماس بعدة خمسة أيام من رحيل تيريزا على إبلاغ رئيس العيادة ( و هو الشخص ذاته الذي كان يتصل به يومياً إلى براغ إبّان الاجتياح الروسي ) بأن عليه أن يعود على وجه السرعة . كان يشعر بالخجل عارفاً بأن المدير سيجد تصرفه غير مسؤول و لا يُغتفر . رغب ألف مرة في أن يعترف له بكل شيء و في أن يحدثه عن تيريزا و الرسالة التي تركتها على الطاولة . و لكنه لم يفعل . إن طبيباً سويسرياً لا يمكنه أن يرى في تصرف تيريزا غير عمل هستيري مغيظ . و توماس لن يسمح لأحد بأن يسيء الظن بتيريزا . كان المدير مغتاظاً بالفعل . هزَّ توماس كتفيه و قال : (( ليس من ذلك بدُّ )) . كان ذلك تلميحاً إلى العبارة الموسيقية الأخيرة من رباعية بيتهوفن الأخيرة التي تتألف من هاتين الفكرتين : أليس من ذلك بدُّ ؟ ليس من ذلك بدّ . و لكي يكون معنى هذه الكلمات واضحاً جلياً ، دوّن بيتهوفن في مطلع العبارة الموسيقية الأخيرة الكلمات التالية : (( القرار الموزون بخطورة )). كان توماس يجد نفسه ، من الآن ، بفضل هذا التلميح إلى بتهوفن ، في جوار تيريزا . فهي كانت أجبرته على شراء أسطوانات لرباعيات بيتهوفن و سوناتاته . في أية حال ، كان هذا التلميح مؤاتياً أكثر من تصوّر ، فالمدير كان مولعاً بالموسيقى . قال له و هو يبتسم ابتسامة مشرقة مقلّداً بصوته نَغَم بيتهوفن : (( أليس من ذلك بدّ ؟ )) . و قال توماس مرة أخرى : (( أجل ، ليس من ذلك بدّ ! )) .



16

يبدو أن بيتهوفن بخلاف بارمينيد ، كان يعتبر ، الثقل شيئاً إيجابياً . فعبارة (( القرار الموزون بخطورة )) مقرونة بصوت القدر ( (( ليس من ذلك بدّ )) ) . إذاً الثقل و الضرورة و القيمة ثلاثة مفاهيم متلازمة جوهرياً : لا شأن إلا لما هو ضروري ، و لا قيمة إلا لما له وزن . هذه القناعة نابعة من موسيقى بيتهوفن . ومع أنه من الممكن ( إن لم يكن على الأرجح ) أن تقع مسؤوليتها على شارحي بيتهوفن أكثر مما تقع على بيتهوفن نفسه ، فأننا جميعنا نشاطرها اليوم : فإن ما يصنع عظمة الإنسان بالنسبة لنا هو أن يحمل قدره كما كان أطلس يحمل قبة السماء فوق كتفيه . إن البطل البيتهوفنيّ ربّاع يرفع أثقالاً ميتافيزيقية . كان توماس يسير باتجاه الحدود السويسرية ، و في تصوّري أن بيتهوفن كان شخصياً بجبينه المقطب و شعره الأشعث ، يدير جوقة الإطفائيين المحليين عازفاً على شرف وداعه للهجرة لحن سير عنوانه : (( ليس من ذلك بدّ ! )) . و لكنًه وجد نفسه ، بعد عبوره الحدود التشيكية ، وجهاً لوجه أمام رتل من الدبابات الروسية . فأوقف سيارته عند مفرق طريق و انتظر مدة نصف ساعة إلى أن مرّت . تمركز جنديُّ دبابةٍ مخيف يرتدي بذلة سوداء وسط مفرق الطرق و أخذ ينظّم السير و كأن طرق بوهيميا تخصه هو دون سواه . (( ليس من ذلك بدّ ! )) ، كان توماس يردد في نفسه و لكنه لم يلبث أن يشك في ذلك : (( هل كان الأمر ضرورياً حقاً ؟ )) . نعم ، كان البقاء في زوريخ و ترك تيريزا لوحدها في براغ ، أمراً غير محتمل . و لكن كم من الوقت كان سيمر و الشفقة تعذبه ؟ الحياة بطولها ؟ أم سنة ؟ أم شهر ؟ أم أسبوع واحد ؟ كيف بإمكانه أن يعرف ، كيف بإمكانه أن يتحقق من ذلك ؟



يمكن لأي طالب خلال قيامه بالتمارين العملية للفيزياء ، أن يُجري بتجارب معيّنة لإثبات صحة الافتراض العلمي . أما الإنسان فلا يملك إلا حياة واحدة ولا يملك أية إمكانية لإثبات الافتراض عبر التجربة . . لذلك ، فهو لن يعرف أبداً إن كان على حق أم لا عندما يمتثل لشعوره . هذا ما كان يفكر فيه و هو يفتح باب الشقة . قفزت كارينين إلى وجهه مما سهَّل لحظة اللقاء . كانت الرغبة في الارتماء بين ذراعي تيريزا ، ( هذه الرغبة التي كانت تعتريه لحظة صعوده إلى السيارة في زوريخ ) . قد تلاشت تماماً . كانا يقفان متواجهين وسط سهل يغطيه الثلج و كانا يرتجفان من البرد .

17

منذ اليوم الأول للاحتلال و الطائرات الروسية تحلّق طيلة الليل في أجواء براغ . كان توماس غير قادر على النوم لأنه فَقَد التعود على هذه الضجة . و أخذ يتقلب في جميع الاتجاهات إلى جانب تيريزا المستغرقة في النوم . كان يفكر في حديث جرى منذ سنوات تحدثا خلاله عن صديقه ز . . . ، حيث صرَّحت له آنذاك بذلك : (( لو لم ألتقِ بك لوقعت في غرامه بالتأكيد )) . منذ ذلك الحين أغرقت هذه الكلمات توماس في كآبة غريبة . كـأنه فهم فجأة أن الصدفة هي التي جعلت تيريزا تتّيم به بدلاً من صديقه ز . . . ، و أنه يوجد ، بمنأى عن حبها المتحقق لتوماس ، إمكانات لا حصر لها للوقوع في غرام رجال آخرين . في اعتقادنا جميعاً أنه لا يُعقل لحبّ حياتنا أن يكون شيئاً ما خفيفاً ، دون وزن . كلنا نتصور أن حبنا هو قدرنا و أن حياتنا من دونه لن تعود حياتنا . كما و أننا نقنع أنفسنا بأن بيتهوفن شخصياً بجبينه المقطّب و شعره الأشعث ، يعزف من أجل حبنا الكبير لحن : (( ليس من ذلك بدّ ! )) . كان توماس يتذكر تعليق تيريزا فيما يخص صديقه ز . . . مستنتجاً أن قصة حب حياته لا ترتكز في النهاية على (( ليس من ذلك بدّ )) ، بل تستند بالأحرى إلى (( كان بإمكان هذا أن يحدث تماماً بطريقة مغايرة . . . )) .


لسبع سنوات خَلَتْ أُعلن (( صُدفة )) عن وجود حالة خطيرة لالتهاب السحايا في مستشفى المدينة التي تسكن فيها تيريزا . فاستدعي رئيس القسم في المستشفى التي كان توماس يعمل فيها لمعاينة هذه الحالة على وجه السرعة . و لكن ، و على سبيل(( الصدفة )) ، كان رئيس القسم يعاني من ألم عرق النَّسا ، و لم يكن بإمكانه أن يتحرك . فأرسل توماس نيابة عنه إلى ذلك المستشفى الريفي . . كانت هناك في المدينة خمسة فنادق ، و لكن توماس نزل (( صُدفة )) في الفندق حيث تعمل تيريزا . و جلس (( صدفة )) في مشرب الجعة لمضيعة الوقت قبل مجيء القطار . و كانت تيريزا تقوم بعملها (( صدفة )) فقدّمَتْ (( صُدفة )) المشروب لتوماس . وجب إذاً وجود من صُدَفٍ ست لتدفع بتوماس إلى تيريزا . و كأنه في حال تُرك لذاته ، لما كان اقتاده شيء إليها . رجع إلى بوهيميا من أجلها . إن قراراً بهذه الأهمية يستند إلى علاقة حب هي من العَرَضية بحيث أنها لم تكن لتبصر النور لو لم يُصَبْ رئيس القسم بعرق النَّسا منذ سبع سنوات . و ها إن هذه المرأة التي هي التجسيد المطلق للصدفة ، تنام الآن إلى جانبه و تتنفس ملء رئتيها . كان الوقت متأخراً و بدأ توماس يشعر بألم في معدته ، كما يحصل له عادة في لحظات الضيق . تحوّل تنفس تيريزا لمرة أو مرتين إلى غطيط خفيف . لم يكن توماس يشعر بأدنى شعور من الشفقة . شعور واحد فقط : ضغطً في فجوة معدته ، و يأَسٌ من أنه عاد .





القسم الثاني الروح و الجسد

1

سيكون ساذجاً من قبل الكاتب أن يجعل القارئ يعتقد أن شخصياته وُجدت فعلاً . لا ، هي لم تخلق من جسد امرأة بل من بضع جمل موحية أو من موقف حرج . توماس مثلاً خُلِق من جملة : مرة ليست في الحسبان ، مرة هي أبداً . أما تيريزا فخّلِقَتْ من بضع قرقرات . حين تخطت في المرة الأولى عتبة شقة توماس ، أخذت أَمعاؤها تقرقر . يجب ألا تُفَاجأ فهي لم تتناول غذاءها و لا عشاءها بعد ، بل اكتفت بسندويش تناولته آخر الصبيحة على الرصيف ، قبل أن تصعد إلى القطار . ذلك أن فكرة سفرها الجريئة أنستها الأكل . لكن حين لا نهتم بجسدنا ، نصير عندئذ ضحايا له بسهولة . أيّ عذاب في أن تسمع بطنها يتكلم و هي تقابل توماس ! و استطاعت بذلك أن تنسى أصوات بطنها .

2 خُلِقت تيريزا إذاً من حالة تعبّر بشكل سافر عن ثنائية الجسد و الروح ، تلك التجربة الإنسانية الأساسية . قديماً ، كان الإنسان يسمع بدهشة هذا الضرب المنتظم الذي يأتيه من عمق صدره ، و يتساءل عمَّا يكون . لم يكن بإمكانه أن يعدّ نفسه مماثلاً لشيء مجهول و غريب اسمه الجسد . كان الجسد بمثابة قفص ، في داخله شيء مت



ينظر و يسمع و يخاف و يُدهش . و هذا الشيء ، هذه البقية الباقية ، هذه النتيجة الحاصلة عن الجسد ، هو الروح . اليوم ، كفّ الجسد بالتأكيد عن أن يكون لغزاً : فالذي يدق في الصدر هو القلب كما نعرف ، و الأنف ليس إلا نهاية القصبة الناتئة عن الجسد التي توصل الأوكسجين إلى الرئتين . أما الوجه فهو لوحة الضفة التي ترسو عليها أعمال الجسد كلها : الهضم و النظر و السمع و التنفس و التفكير . لحظةَ استطاع الإنسان أن يسمّي أجزاء الجسد ، صار الجسد يُشغله أقل . كلنا نعرف أن الروح ما هي إلا نتيجة نشاط المادة السنجابية في الدماغ . و أن ثنائية الروح و الجسد اختفت خلف عبارات علمية ، و هي لم تعد اليوم إلا مزاعم عفا عليه الزمن ، و مثيرة للسخرية . لكن يكفي أن نحب حتى الجنون و أن نسمع مع ذلك أمعاءنا تقرقر فتختفي مقولة وحدة الجسد و الروح ، و يختفي معها ذلك الوهم المثالي للعصر العلمي .

3

كانت تحاول أن ترى روحها من خلال جسدها . لذلك كانت تنظر مراراً إلى نفسها في المرآة . و بما أنها كانت تخاف من أن تباغتها أمها و هي في هذا الوضع ، فإن هذه النظرات كانت تحمل إذاً طابع آفة سرية . لم يكن اعتدادها بنفسها هو الذي يجذبها إلى المرآة ، بل دهشّتها من اكتشافها لذاتها فيها . كانت تنسى أنها أمام لوحة الضفة التي ترسو فيها أعمال الجسد ، معتبرة أن روحها تنكشف عبر ملامح وجهها ، ناسيةً أن الأنف هو نهاية القصبة التي توصل الهواء إلى الرئتين ، لترى فيه تعبيراً صادقاً عن طبيعتها . كانت تتأمل نفسها طويلاً في المرآة . و كان يزعجها أحياناً أن ترى ملامح أمها مستقرة على وجهها . لذلك ، كانت تواصل بعنادٍ متزايد النظر إلى نفسها في المرآة ، و هي تركّز كل جهودها لتنزع عنها سيماء أمها فيصير الوجه صفحة بيضاء لا يتبقى عليها إلاَّ ما يخصها هي . كانت اللحظة التي تستطيع


فيها أن تنجح في ذلك لحظة مُسكِرة : كانت الروح حينئذ تطفو على سطح الجسد شبيهة بطاقم يقفز من قلب السفينة و يجتاح الجسر ملوّحاً بذراعيه نحو السماء ، و آخذاً في الغناء .

4

لم تكن تشبه أمها من ناحية الشكل فحسب إنما أشعر أحياناً أن حياتها أيضاً ليست إلا امتداداً لحياة أمها . كما أن جريان كرة البليارد هو امتداد للحركة التي قامت بها اللاعب . متى و أين بدأت هذه الحركة التي تحوّلت فيما بعد إلى حياة تيريزا ؟ بالضبط لحظة امتدح تاجر من براغ جمال ابنته ، أم تيريزا . كان عمر الأم حينها ثلاث أو أربع سنوات ، و كأن يقول لها إنها تشبه عذراء رافييل . فحفظت هذا الأمر جيداً ، و بدل أن تصغي ، و هي على مقاعد الدراسة ، للأستاذ ، كانت تتساءل أي رسم بإمكانها أن تشبه . عندما صارت في السن التي تؤهلها للزواج ، كان لديها تسعة عشاق . كانوا يطوقونها جاثين أمامها ، و هي وسط هذه الدائرة مثل أميرة . و لم تكن تعرف أيهم تختار : فالأول كان الأجمل و الثاني الأرهف و الثالث الأكثر ثراء و الرابع الأقوى بين الرياضيين ، و الخامس من عائلة محترمة ، و السادس يروي لها أشعاراً ، و السابع جال حول العالم ، و الثامن عازف كمان ، و التاسع الأكثر رجولة بين الرجال . و لكنهم كانوا جميعاً يبحثون بالطريقة نفسها ، و ركابهم منتفخة بالطريقة نفسها . و اختارت في النهاية ، التاسع ليس لأن الأكثر رجولة ، بل لأنه كان يتقصّد عدم الانتباه عندما كانت تهمس في أذنه أثناء الجماع : (( احترس جيداً ! احترس جيداً )) . لذلك اضطّرت للإسراع في الزواج لأنها لم تجد طبيباً يجهضها . و هكذا ولدت تيريزا . توافر أفراد العائلة الذين لا يحصى عديدهم من كل صوب ، انحنوا فوق المهد و أخذوا يلثغون . أما أم تيريزا فلم تكن تلثغ . بل كانت تصمت و تفكر بالعشاق الآخرين فتجدهم كلهم أفضل



من التاسع . كانت أم تيريزا تحب كثيراً ، مثل ابنتها ، النظر إلى المرآة . لاحظت ذات يوم وجود تجاعيد حول عينيها ففكرت أن الزواج لا معنى له . التَقَتْ ذات يوم برجل لم يكن يملك رجولة إطلاقاً و كان يجرُّ وراءه عدة أعمال احتيال و طلاقَيْن . و بما أنها لم تعد تحب العشاق المنتفخة ركابهم ، شعرت إذاً برغبة جامحة لأن تجثو بدورها فسقطت راكعة أمام النصّاب و تركت زوجها و تيريزا . أصبح الأكثر رجولة بين الرجال أنفسهم . كان تعيساً إلى درجة أنه لم يعد يبالي بشيء ، يقول ما يفكر فيه بصوت عالٍ و في كل مكان . فانزعجت الشرطة الشيوعية من أفكاره غير اللاَّئقة فاستجوبته و زجّته في السجن .. و هكذا طُردت تيريزا من البيت الذي جرى ختمه بالشمع الأحمر ، و انتقلت لتعيش مع أمها . بعد فترة قصيرة توفي أتعس الرجال في السجن . أما الأم التي لحقت بها تيريزا فانتقلت لعيش مع النصّاب في مدينة صغيرة عند أسفل الجبال. كان زوج الأم يعمل موظفاً في مكتب والأم بائعة في أحد المخازن . رُزِقت ثلاثة أولاد أيضاً . ثم ، نظرت ذات يوم إلى هيئتها في المرأة فاكتشفت أنها صارت عجوزاً بشعة .

5

و إذا أدركت أن كل شيء ضاع من يدها ، أخذت تفتش عن متهم . و متهماً كان الجميعُ : متهم زوجها الأول الرجوليّ و اللامحبوب ، فهو لم يطعها عندما همست في أذنه بأنه ينتبه . و متهم زوجها الثاني المحبوب و الأقل رجولة ، لأنه اقتادها بعيداً عن براغ إلى مدينة ريفية صغيرة ، و لأنه كان يجري وراء تنانير النساء إلى درجة أنها عاشت في غيرة متواصلة . حيال زوجيْها كانت عزلاء ، دون سلاح . أما الكائن الوحيد الذي ينتمي إليها دون أن يتمكن من الإفلات منها ، و الرهينة التي يمكن أن تدفع عن الآخرين كافةً ، فكانت تيريزا . على أية حال ، ربما كان صحيحاً أنها مسؤولة عما حصل لأمها . فهي


التقاء أخرق لحيوان منوي من الأكثر رجولة بين الرجال ، و بويضة من أجمل النساء . بدأت الأم انطلاقاً من هذه الثانية المحتومة التي اسمها تيريزا ، ماراتون حياتها الفاسدة . كانت تردّدٌ من غير كلل على مسامع تيريزا بأن كون المرأة أُمّاً يعني أنَّ عليها أن تضحي بكل شيء . كانت كلماتها مقنعة ، فهي تعبر عن تجربة امرأة أضاعت كل شيء . كانت كلماتها مقنعة ، فهي تعبر عن تجربة امرأة أضاعت كل شيء بسبب ابنتها . كانت تيريزا تصغي إليها مقتنعة بأن أعظم قيمة في الحياة هي الأمومة ، و أن الأمومة هي التضحية المثلى . إذا كانت الأم تمثل التضحية بحد ذاتها ، فالابنة و الحالة هذه خطأ لا يُعوّض .

6

بطبيعة الحال ، لم تكن تيريزا على علم بواقعة تلك الليلة التي همست أمها فيها في أذن الرجل الأكثر رجولة بين الرجال ، بأن ينتبه . كان الشعور بالذنب الذي أحست به مبهماً كالخطيئة الأصلية . و كانت تفعل كل ما في وسعها للتكفير عنه . فبعد أن أخرجَتْها أمها من المدرسة و هي في سن الخامسة عشرة ، عمِلَتْ كساقية ، و كانت تعطيها كل ما تجنيه . كانت على استعداد للقيام بكل ما يجعلها تستحق حبها . . كانت تهتم بتنظيف البيت و تُعنى بإخوتها و أخواتها و تمضي طيلة نهار الأحد في الفرك و الغسيل . كان هذا الأمر يدعو إلى الأسف لأنها كانت الأكثر ذكاءً في صفها . كانت راغبة في أن ترتقي و لكن أنَّى لها أن ترتقي في هذه المدينة الصغيرة ؟ كانت تغسل الثياب واضعة كتاباً قرب المغطس ، فيبتل الكتاب من نقاط الماء و هي تقلب الصفحات . كان الاحتشام معدوماً داخل المنزل ، فأُمها تتجول في الشقة و هي في ملابسها الداخلية ، و أحياناً دون صدرية ، و أحياناً أُخرى عارية تماماً في أيام الصيف . أما زوج والدتها فلم يكن يتجول قطّ و هو عارٍ تماماً ، إلا أنه كان يترقب دائماً فرصة وجود تيريزا في المغطس لكي يدخل إلى الحمام . فأقفلت على نفسها في ذات يوم بالمفتاح و لكن أمّها و بّختها قائلة : (( من تعتبرين نفسك ؟ ماذا تعتقدين ؟ لن يلتهم لك جمالك ! )) .


( هذا الموقف يظهر بوضوح أن كراهية الأم لابنتها كانت أقوى من غيرتها على زوجها . و بما أن غلطة الابنة لا حدود لها فإنها كانت تشمل أيضاً خيانات الزوج . فأن تجرؤ الابنة على الاستقلال برأيها و المطالبة بحقوقها – كحقها مثلاً في أن تقفل الباب على نفسها في غرفة الحمام – أمر ترفضه الأم أكثر مما ترفض الإقرار بنيّة جنسية محتملة يضمرها الزوج لتيريزا ) . 

كانت الأم تتجول ، ذات يوم شتائي ، عارية الغرفة مضاءة . فهرعت تيريزا لإنزال الستارة لكي لا يرى أحد أمها من البناية المقابلة . فسمعتها تضحك خلف ظهرها . في اليوم التالي ، جاءت بعض الصديقات لزيارة أمها : جارتها و صاحبتها في المخزن ، و معلمة الحي ، و امرأتان أو ثلاث كن يأتين بانتظام . جاءت تيريزا لتجلس معهن لحظة و برفقتها ابن إحدى هؤلاء النسوة و هو صبي في السادسة عشر من عمره . فاغتنمت الأم الفرصة لتروي لصديقاتها كيف أرادت تيريزا أن تحافظ على الإحتشام . كانت تضحك و جميع النساء كن يقهقهن . ثم قالت الأم : (( تيريزا لا تريد أن تعترف بأن الجسد الإنساني يبول و يضرط )) . كانت تيريزا تحمر خجلاً ، لكن أمها تابعت مع ذلك : (( و ما الضرر في ذلك ؟ )) . وردتّ بنفسها على سؤالها فأفلتت للحال بضع ضرطات طنانة . فانفجرت النساء كلهن بالضحك .

7

تتمخط الأم بصوتٍ عالٍ و تروي أمام الناس تفاصيل من حياتها الجنسية و تعرض طاقم أسنانها . و هي تتفنن في سحبه بضربة لسان واحدة و ببراعة لافتة فتترك الفك الأعلى يسقط فوق الأسنان السفلى و هي تبتسم ملء فمها ، فيصبح وجهها مقشعرّاً مثل جلد الدجاجة . ليس تصرفها برّمته إلا ضربة واحدة عنيفة ترمي بها شبابها و جمالها . حين كان العشاق التسعة يتلحقون جاثين أمامها ، كانت تحرص على عريها كل الحرص. و كانت تقيس قيمة جسدها بمعيار حشمتها . أذا كانت قد أصبحت فاحشة الآن فهذا لأنها تريد أن تسدل ستاراً عظيماً على حياتها


السابقة ، و أن تصرخ بأعلى صوتها إن الشباب و الجمال اللذين غالت في تقديرهما لا يساويان شيئاً في الحقيقة . تبدو لي تيريزا إذاً و كأنها امتداد لهذه الحركة التي قذفت بها أمها حياتها كامرأة جميلة ، بعيداً . (و إذا رأينا أن لتيريزا نفسها حركات عصبية و أن تصرفاتها تفتقر إلى التواني الأنيق ، فيجب ألا نُفاجأ : فهذه الضربة العنيفة لأمها ، و المدمّرة لذاتها هي هي تيريزا ) .

8

تطالب أم تيريزا بأن تُنصف و يعاقَب المتهم ، تصر على أن تبقى ابنتها معها في عالم الفحش ، حيث الشباب و الجمال لا يساويان شيئاً ، و حيث العالم مجرد معسكر اعتقال كبير للأجساد المتشابهة و حيث الأرواح متوارية . الآن ، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل آفة تيريزا السرية و نظراتها المتكررة أمام المرآة ، فالأمر هو بمثابة صراع مع أمها و رغبة في ألا تكون جسداً كباقي الأجساد ، بل في أن ترى طاقم النفس يتدفق من قلب السفينة ليستقر على صفحة وجهها . لم يكن الأمر سهلاً فالروح كانت تختبئ في قعر الأحشاء حزينة و خائفة و خجلة من أن تظهر نفسها . كانت على هذه الحال عندما التقت بتوماس للمرة الأولى . كانت تتغلغل بين السكارى في مشرب الجعة و جسدها ينوء تحت ثقل أكواب الجعة التي كانت تحملها فوق الصينية . . و كانت روحها هناك في جوف معدتها أو في البنكرياس . في هذه اللحظة سمعت توماس يناديها . كان هذا النداء ذا شأن فهو صادر عن شخص لا يعرف أمها و لا السكارى الذين تسمع كل يوم تعليقاتهم الفاحشة الرخيصة . كان وضعه كغريب يرفعه فوق الآخرين . و ثمة شيء آخر : كان هناك كتاب مفتوح على الطاولة . . و في هذا المقهى لم يكن لأحد من قبل كتاب مفتوح على الطاولة . كان هذا الكتاب بالنسبة لتيريزا علامة على وجود أخوة سرية . فهي لم تكن تملك ، في مقابلة


عالم التفاهة الذي يحيط بها ، إلا سلاحاً واحداً : الكتب التي تستعيرها من مكتب البلدية و خصوصاً الروايات . كانت تقرأ أكداساً منها ، ابتداءً بفيلدنغ و انتهاءً بتوماس مان . كانت هذه الروايات تمنحها فرصة للهروب الخيالي ، و تقتلعها من حياة لم تكن تعطيها أي شعور بالاكتفاء . لكنها كانت أيضاً تعني لها بصفتها أدوات : كانت تحب أن تتنزه و هي تتأبط كتباً . كانت تميّزها عن الآخرين مثلما كانت العصا تميّز المتأنق في القرن الفائت . ( المقارنة بين الكتاب و عصا المتأنق ليست صحيحة تماماً فالعصا التي تميّز المتأنق كانت تجعل منه شخصاً عصرياً و (( على الموضة )) . أمّا الكتاب الذي يميّز تيريزا عن النساء الأخريات فيجعلها خارج زمامها . كانت طبعاً أكثر شباباً من أن تفهم ما هو (( قديم الزي )) في شخصيتها . كانت تجد المراهقين الذين يتنزهون حولها حاملين ترانزستورات زاعقة ، بُلهاء ، و لم يكن يخطر في بالها أنهم عصرين ) . إذاً ، الرجل الذي كان يناديها غريب و عضو في أُخوة سرية . كان يتكلم بلهجة مؤدبة فأحست تيريزا عندئذ أن روحها تندفع إلى السطح عبر شرايينها كلها و أوعيتها الشعرية و مسامها ، لكي تتم له رؤيتها .

9

شعر توماس ، بعد رجوعه من زوريخ إلى براغ ، بضيق حين فكر أن لقاءه بتريزا كان حصيلة صدف ست بعيدة الاحتمال . لكن ، خلافاً لذلك أفلا تقاس أهمية حدث ، و كثرة معانيه بارتباطه بأكبر عدد ممكن من الصدف ؟ وحدها الصدفة يمكن أن تكون ذات مغزى . فما يحدث بالضرورة ، ما هو متوقع و يتكرر يومياً يبقى شيئاً أبكم . وحدها الصدفة ناطقة . نسعى لأن نقرأ فيها كما يقرأ الغجريون في الرسوم التي يخطفها ثفل القهوة في مقر الفنجان . كان وجود توماس ، بالنسبة لتيريزا ، في مشرب الجعة حيث تعمل ، تجسيداً مطلقاً للصدفة . كان جالساً وحده أمام طاولة و كتاب مفتوح . ثم رفع عينيه ناحيتها و ابتسم : (( واحد كونياك )) . كانت الموسيقى ، في هذه اللحظة بالذات ، تعزف عبر الراديو . ذهبت تيريزا لإحضار كأس كونياك عن طاولة الشرب . و أدارت زر الراديو لتزيد من قوة الصوت فهي تعرف أن هذه الموسيقى لبيتهوفن ، الذي تعرّفت إليه يوم أتى رباعي موسيقي من براغ للقيام بجولة في المدينة الصغيرة . ذهبت تيريزا ( التي كانت تتوق (( للأرتقاء )) كما نعلم ) إلى الحفلة الموسيقية حيث كانت الصالة الخالية ، و هي وحدها مع الصيدلي و زوجته . كان هناك رباعيٌّ من الموسيقيين على حلبة المسرح و ثلاثي من المستمعين في الصالة . و لكن الموسيقيين كانوا لطفاء للغاية فلم يلغوا الحفلة بل عزفوا لهم وحدهم ، طيلة السهرة ، الرباعيات الثلاث الأخيرة لبيتهوفن . دعا الصيدلي الموسيقيين إلى العشاء بعد انتهاء الحفلة ، ثم توسّل إلى المستمعة المجهولة أن تنضم إليهم . منذ ذلك الحين صار بيتهوفن بالنسبة لها صورة عن (( الجانب الآخر )) من العالم . و الآن ، و فيما كانت راجعة لتقدم لتوماس كأس الكونياك التي تناولتها عن طاولة الشرب ، حاولت جاهدة القراءة في هذه الصدفة : كيف اتفق أنها سمعت موسيقى بيتهوفن في اللحظة نفسها التي استعدت فيها لتقديم الكونياك إلى هذا الغريب الذي أعجبها ؟ للصدفة وحدها مثل هذا السحر ، لا الضرورة . وكي يكون حبّنا غير قابل للنسيان ، يجب أن تجتمع الصدف من اللحظة الأولى مثلما اجتمعت العصافير فوق كتفي القديس فرنسيس الأسيزي .

10

ناداها ليدفع الحساب . ثم أغلق الكتاب ( هذه العلامة المميزة على وجود أخوّة سرية ) فرغبت في معرفة ماذا كان يقرأ .

سألها : هل يمكنك أن تسجلي الثمن على ورقة . حسابي في الفندق ؟ 

ــ بالتأكيد . ما هو رقم غرفتك ؟



دلّها على مفتاح معلّق في نهاية لوحة خشبية تحمل الرقم ستة مكتوباً باللون الأحمر . قالت : (( غريب . أنت تقيم في الغرفة رقم ستة )) . فسألها : (( وما الغريب في الأمر ؟ )) تذكرت أن البناية التي كانت تقيم فيها مع أهلها في براغ قبل طلاقهما ، كانت تحمل الرقم ستة . و لكنها قالت شيئاً آخر تماماً ( و لا يمكننا إلا أن نُعجَب بحيلتها ) : (( أنت في الغرفة رقم ستة . و أنا أنهي عملي في الساعة السادسة )) . قال الغريب : و أنا سأصعد في قطار الساعة السابعة . لم تدِر ماذا تقول . مدّت له ورقة الحساب ليوّقّع عليها و حملتها إلى مكتب الاستقبال . عندما أنهت عملها كان قد ترك الطاولة ، فهل فهم قصدها الخفي ؟ أحسّت أنها متوفرة عند خروجها من المطعم . في الجهة المقابلة ، وسط المدينة الصغيرة المتسخة ، كانت هناك حديقة صغيرة كئيبة ، شكّلت لها دائماً جزيرة جمال صغيرة : مرجة و أربع شجرات حور و مقاعد و صفصافة باكية و جنبات فرسيثية (*) . كان جالساً على مقعد يمكن منه رؤية مدخل مشرب جعة . كانت تجلس على المقعد ذاته مساء البارحة و هي تحمل كتاباً فوق ركبتيها ! فهمت حينئذ ( كانت عصافير الصدفة تتجمع على كتفيها ) أن هذا الغريب مقدّر لها . ناداها ثم دعاها للجلوس قربه . ( فأحست تيريزا أن طاقم النفس يندفع ليجتاح جسر جسدها ) . رافقته بعد ذلك إلى المحطة ، و قبل أن يغادر أعطاها بطاقة دعوة و رقم هاتفه : (( فيما لو أتيتِ صدفة إلى براغ . . . )) .




(*) (forsythias ) نوع من الشجر . 11

و لكن ، أكثر من بطاقة الدعوة هذه التي أعطاها إياها في آخر لحظة ، إن ما شجع تيريزا على الذهاب من بيتها و تغيير حياتها هو نداء الصدف ( الكتاب ، بيتهوفن ، الرقم ستة ، المقعد الأصفر في الحديقة الصغيرة ) . ربما هذه الصدف القليلة ( و التي هي على كل حال بسيطة و عادية و جديرة فعلاً بهذه المدينة التافهة ) هي التي حرّكت حبها و صارت مصدر الطاقة التي سترتوي منه حتى النهاية . إن حياتنا اليومية مفخخة بالصدف و تحديداً باللقاءات العرضية بين الناس و الأحداث ، أي ما نسمّيه المصادفات : و المصادفة هي لحظة يقع حدثان غير متوقعين في الوقت نفسه فيتلاقيان : توماس يظهر في مشرب الجعة لحظة تعزف موسيقى لبيتهوفن عبر الراديو . في أغلب الأحيان تمر مصادفات كثيرة دون أن نلاحظها إطلاقها . فلو أن اللحام في الزاوية جلس أمام الطاولة مكان توماس ، لما كانت تيريزا لاحظت أن الراديو يعزف موسيقى لبيتهوفن ( مع أن تلاقي بيتهوفن و اللحام يعدُّ أيضاً مصادفة غريبة ) . لكن الحب المُبرم عزّز في داخلها الشعور بالجمال و هي أبداً لن تنسى هذه الموسيقى . و في كل مرة ستسمعها ستنفعل ، و سيكون كل ما يحدث حواليها في هذه اللحظة محاطاً بهالة هذه الموسيقى ، و جميلاً . في مطلع الرواية التي كانت تتأبطها تيريزا يوم جاءت إلى براغ ، تلتقي آنّا بفرونسكي في ظروف غريبة . كانا واقفين على رصيف المحطة عندما سقط أحدهم تحت القطار . و في نهاية الرواية آنّا هي التي تلتقي بنفسها تحت القطار . قد تبدو هذه الحركة المتوازية حيث يظهر الحافز نفسه في مطلع الرواية و في نهايتها ، منسوجة (( على منوال الأقاصيص )) شيئاً (( مختلفاً )) و (( مصطنعاً )) و (( من دون حياة )) . ذلك أن الحياة الإنسانية مركبة على هذا النحو تماماً . فهي مركبة مثل مقطوعة موسيقية . فالإنسان ، بدافع من إحساسه بالجمال ، يحوّل الحدث العرضي ( موسيقى بيتهوفن أو الموت في المحطة ) إلى لازمة تسجَّل في الحال في مقطوعة حياته ، و هو يرجع إليها و يكررها . و يغيّر فيها و يطوّرها كما يفعل أي موسيقيّ بالفكرة الرئيسية لسوناتته . كان بإمكان آنّا أن تنهي حياتها بطريقة أخرى مختلفة تماماً . و لكن حافز المحطة و الموت ، هذا الحافز الذي لا يُنسى لاقترانه ببداية الحب ، كان يجذبها في لحظات اليأس ، بجماله القائم . فالإنسان ينسج حياته على غير علم منه وفقاَ لقوانين الجمال حتى في لحظات اليأس الأكثر قتامة . لا يمكن إذاً أن يأخذ أحد على رواية افتتانها بالاتفاق الغامض للصدف . ( مثلاً ، تلاقي فرونكسي و آنّا و الرصيف و الموت أو تلاقي بيتهوفن و توماس و تيريزا و كأس الكونياك ) . لكن يمكن أن يؤخذ بِحقٍّ على الإنسان حين يُعمي عينيه عن هذه الصدف فيحرم بالتالي حياته من بُعد الجمال .

12

و إذ شجَّعتها عصافير الصدف المتجمعة على كتفيها ، أخذت تيريزا عطلة أسبوع دون أن تعلم أمها ، و صعدت في القطار . دخلت مراراً إلى المرحاض لكي ترى نفسها في المرآة ، لكي تتوسل إلى روحها بألاّ تبرح ثانيةً واحدةً جسر جسدها في هذا اليوم المصيري من حياتها . و إذا كانت تنظر إلى نفسها هكذا ، اعتراها الخوف : كانت تشعر أن حلقها ملتهب . . أتراها ستصاب بالمرض في هذا اليوم المقدر ؟ و لكن لا وسيلة للتراجع . خابرتْه من المحطة و لحظة فُتح الباب أرسل بطنها فجأة قرقرات مفزعة ، فخجلت . كأنَّ أمها كانت هناك داخل بطنها تضحك لتفسد عليها لقاءها . حسِبت أول الأمر أنه سيرميها في الخارج بسبب هذه الأصوات غير اللائقة ، غير أنّه أخذها بين ذراعيه . كانت ممتنة له لأنه غير مبالٍ بقرقراتها ، فقبّلته بشغف متزايد و عيناها تغشاهما الضبابة . ثم بعد دقيقة بالكاد مارسا الحب . كانت تصرخ خلال المضاجعة . فحمى الزكام قد اعترتها و نهاية القصبة التي تنقل الهواء إلى الرئتين كانت حمراء و مسدودة . ثم رجعت في المرة الثانية مع حقيبة حيث كدّست حوائجها كلها ، و قد




قررت ألا ترجع أبداً إلى المدينة الصغيرة . لم يدعُها إلى زيارته إلا مساء الغد ، فأمضت الليلة في فندق رخيص . عند الصباح ، و دعت حقيبتها في مكتب الاستعلامات في المحطة ، ثم تسكعت طيلة النهار في شوارع براغ و هي تتأبط (( آنا كارينين )) . و عند المساء قرعت و فتح لها . لم تتخلَّ عن الكتاب و كأنه بطاقة دخولها إلى عالم توماس . كانت عارفة أنها لا تملك جواز مرور آخر تثرثر و تتكلم بصوتٍ عالٍ و تضحك . و لكن ، و كما في المرة الأولى ، ما إن تجاوزت العتبة حتى ضمّها بين ذراعيه و مارسا الحب . فغرقت في ضباب لا يمكن من خلاله رؤية شيء ، بل سماع صراخها فقط .

13

لم يكن صراخها لهاثاً و لم يكن تأوّهاً ، بل صراخ حقيقي . كانت تصرخ بصوت عالٍ إلى درجة أن توماس أبعد رأسه عن وجهها و كأن صوتها الزاعق سيثقب طبلة أذنه . لم يكن هذا الصراخ تعبيراً عن الشبق فالشبق هو التعبئة القصوى للحواس : نراقب الآخر بانتباه بالغ و نسمع أدنى أصواته . لكن صراخ تيريزا كان بخلاف ذلك ، يريد أن يُرهق الحواس و يمنعها من الرؤية و السمع . كانت المثالية الساذجة لحبّها هي التي تزعق في داخلها راغبة في إلغاء كل التناقضات ، و في إلغاء ثنائية الروح و الجسد ، و حتّى في إلغاء الزمن . أكانت عيناها مغمضتين ؟ لا ، لكنها كانتا جامدتين لا تنظران إلى شيء ، شاخصتين إلى فراغ السقف . و أحياناً كانت تدير رأسها تارة إلى هذا الميل و تارة أخرى إلى ذاك . عندما هدأ صراخها ، نامت قرب توماس و أمسكت بيده طوال الليل . منذ كانت في الثامنة و هي تغفو جامعة يديها و متخيلة أنها تمسك الرجل الذي تحبه ، رجل حياتها . كان مفهوماً إذاً أن تشد بهذا العزم على يد توماس




أثناء نومها : فهي كانت تتهيأ لهذا الأمر منذ الطفولة و تتمرن عليه .

14

يفترض بفتاة شابة تقدّم البيرة للسكارى ، عوضاً عن (( أن ترتقي )) ، و تمضي أيام الآحاد في غسيل الثياب المتسخة لإخوتها و أخواتها ، يفترض بها إذاً أن تكون قد خزَّنت في داخلها حيوية هائلة لا يقدر على فهمها أولئك الذين يذهبون إلى الجامعة و يتثاءبون أمام الكتب . فتيريزا قرأت أكثر منهم و تعرف الكثير عن الحياة دون أن تعي ذلك . إذ ليس ما يميّز العصامي عن ذلك الذي يتابع دراسته ، سعة الإطلاع ، و لكن مستويات مختلفة من الحيوية و الثقة بالنفس . كان الحماس الذي أكبّت به على الحياة عند قدومها إلى براغ ، ضارباً و هشاً في آن . كانت تخشى من أن يجرؤ أحد على أن يقول لها : (( لسْتِ في مكانك هنا ، ارجعي من حيث أتيتِ ! )) . كان إقبالها على الحياة مشدوداً بكليته إلى خيط واحد : إلى صوت توماس الذي جعل روح تيريزا بخجل ، تطفو على السطح . صحيح أنها وجدت وظيفة في مختبر الصور و لكنها كانت غير قادرة على الاكتفاء بها . كانت تريد أن تلتقط بنفسها الصور . أعارتها سابينا صديقة توماس كتباً تحوي دراسات وافية عن الصور الشهيرة ، ثم وافَتْها إلى مقهى و شرحت لها أمام كتب مفتوحة الأهمية التي تنطوي عليها هذه الصور . و كانت تيريزا تصغي إليها بانتباه صامت ، شبيه بالانتباه الذي نادراً ما يصادفه الأستاذ على وجه أحد التلامذة . . و هكذا فهمت تيريزا بفضل سابينا القرابة التي تجمع التصوير بالرسم . فصارت تجبر توماس على مرافقتها في الذهاب إلى كل المعارض و قد نجحت خلال فترة قصيرة في نشر صورها الخاصة بها في المجلة وتركت المختبر لتنتقل للعمل بين المصوّرين المحترفين للمجلة . ذهبا في ذلك المساء إلى أحد الملاهي برفقة بعض الأصحاب للاحتفال بترقيتها . و رقصوا فاغتمَّ توماس . و حين ألحّت عليه ليقول لها ما به ،



أسرَّ لها ، أثناء العودة في الطريق ، أنه كان غيوراً لأنه رآها ترقص مع زميله . (( أحقاً جعلتك تغار ؟ )) ، رددت هذه العبارة عشرات المرات و كأنه كان يعلمها بأنها نالت جائزة نوبل و رفضت أن تصدق . طوّقته بذراعيها و شرعت ترقص معه في الغرفة . إنما رقصتها لم تكن تشبه بشيء الرقصة المتمدنة التي أدّتها على حلبة الملهى قبل قليل ، لا بل كانت تشبه رقصة شعبية تتألف من مجموع قفزات غريبة . كانت تيريزا ترفع ساقيها عالياً ثم تقوم بقفزات عالية خرقاء و هي تجره في أنحاء الغرفة الأربعة . و لكن ، للأسف ، ما لبثت أن أصابتها الغيرة بدورها بعد فترة قصيرة . أما غيرتها فلم تكن بالنسبة لتوماس بمثابة جائزة نوبل ، و لكن حملاً لم يستطع التحرر منه إلا قبل سنة أو سنتين من وفاته .

15

كانت تسير عارية حول بركة السباحة ، وسط موكب النساء الأخريات العاريات . و كان توماس واقفاً داخل سلة معلقة في السقف . . كان يزعق مجبراً إياهن على الغناء و ثنى الركاب . و ما إن تقوم امرأة بخطوة خاطئة حتى يرديها قتيلة بطلقة من مسدسه . أرغب مرة أخرى في الرجوع إلى هذا الحلم : لم يبدأ الرعب لحظة أطلق توماس الرصاصة الأولى ، إنما الحلم كان مرعباً منذ البداية . أن تسير عارية وسط النساء العاريات كان بالنسبة لتيريزا الصورة الأكثر بدائية للرعب . فهي لمّا كانت تقيم مع والدتها ، كانت تمنعها من أن تقفل باب الحمام بالمفتاح ، و تقول لها : جسدك لا يتميز بشيء عن الأجساد الأخرى . لذلك لا حق لك في الاحتشام و لا داعي لتخفي شيئاً موجوداً بمليارات النماذج ، و بالطريقة عينها . فجميع الأجساد كانت متشابهة ، ضمن عالم أمها ، و تسير في صف منتظم ، الواحد تلو الآخر . منذ الطفولة كان العري يمثل لتيريزا علامة التماثل الإجباري لمعسكر الاعتقال ، علامة الذل .


ثمة شيء آخر مرعب في بداية حلمها : كان على جميع النساء أن يغنين ! لم تكن إذاً أجسادهن متشابهة فقط و رخيصة بالتساوي ، و مجرد آلات صوتية خالية من الروح ، إنما كانت النساء ، إلى ذلك ، مغتبطات بأنفسهن ! كان ذلك هو التضامن المتهلل لمن هن دون روح . كن سعيدات فهن أنزلن عن أكتافهن حمل الروح ، تلك الصورة الخداعة للتفرد . و ذلك الكبرياء المضحك ، و ها قد أصبحن جميعهن متشابهات . كانت تيريزا تشاركهن الغناء لكن من غير شعور بالغبطة . كانت تغني لأنها كانت خائفة من أن تقتلها النساء لو أنها لم تغنَّ . و لكن ما معنى أن توماس كان يطلق عليهن الرصاص من مسدسه فيرديهن قتيلات و يسقطن الواحدة تلو الأخرى في البركة ؟ النساء المغتبطات ، لكونهن يتشابهن تماماً و لا يتمايزن بشيء فيما بينهن ، كن في الحقيقة يحتفلن بموتهن المقبل الذي سيجعل تشابههن مطلقاً . و لم تكن فرقعة الطلقة النارية إلا الخاتمة السعيدة لمشيهن الجنائزي . كن يضحكن متهللات لكل طلقة مسدس ، ثم يتصاعد غناؤهن بقوة أكبر حين تنزلق إحدى الجثث ببطء في الماء . و لماذا كان توماس بالذات هو الذي يطلق النار ؟ و لماذا أيضاً كان يريد أن يطلق النار على تيريزا ؟ لأنه هو الذي أرسلها إلى هناك وسط أُولئك النساء . هذا ما كان الحلم يريد أن يقوله لتوماس ، لأن تيريزا لا تعرف أن تقول ذلك بنفسها . لقد جاءت لتعيش معه هاربة من عالم أمها حيث جميع الأجساد متساوية. جاءت لتعيش معه آملة أن يصبح جسدها فريداً و غير قابل للاستبدال . لكن ، ها هو بدوره يرسم بنفسه الإشارة التي تساويها بالأخريات : فهو كان يقبّلهن جميعاً بالطريقة نفسها و يغدق عليهن المداعبات ذاتها و لم يكن هناك فرق واحد ، و لا فرق ، أي فرق بين جسد تيريزا و الأجساد الأخرى . كان قد أعادها إلى العالم الذي ظنَّت أنها أفلتت منه ، أرسلها لتسير عارية في ركب النساء العاريات .




16

كانت ترى بالتناوب ثلاث دفعات من الأحلام : كانت الدفعة الأولى حيث تعاقبها الهررة بشراسة ، تعبّر عما كانت تعانيه و هي على قيد الحياة . و الدفعة الثانية التي تُظهر صوراً متعددة شتّى بشأن إعدامها . أما الدفعة الثالثة فكانت تحكي عن حياتها في العالم الآخر ، حيث يصبح الذل حالة أبدية . لم تكن هذه الأحلام بحاجة إلى حلّ رموزها ، فهي توّجّه اتهاماً واضحاً إلى توماس ، واضحاً إلى درجة أن توماس لم يعد له من حيلة سوى الصمت و مداعبة تيريزا و هو مطأطأ الرأس . زد على ذلك أن هذه الأحلام ، إلى فصاحتها ، كانت جميلة . لقد أغفل فرويد هذا الجانب في نظريته عن الأحلام . فالحلم ليس فقط بلاغاً ( بلاغاً مرموزاً عند الاقتضاء ) بل هو أيضاً نشاط جمالي و لعبة للخيال . و هذه اللعبة هي بحد ذاتها قيمة . فالحلم هو البرهان على أن التخيل و تصوّر ما ليس له وجود ، هو إحدى الحاجات الأساسية للإنسان ، و هنا يكمن أصل الخطر الخادع الكامن في الحلم . فلو أن الحلم ليس جميلاً ، لأمكننا نسيانه بسهولة . لذلك ، كانت تيريزا ترجع باستمرار إلى أحلامها و تعيدها في مخيلتها و تختلق منها أساطير . أمّا توماس فكان يعيش في كنف السحر المنوّم ، سحر الجمال الأليم لأحلام تيريزا . في ذات يوم ، قال لها فيما كانا جالسين أمام طاولة في إحدى الحانات : (( تيريزا ، حبيبتي تيريزا ، أنت تبتعدين عني . إلى أين تبغين الذهاب ؟ تحلمين كل يوم بالموت كما لو أنك راغبة فيه حقاً . . )) . كان النهار مشرقاً ، و كان العقل و الإرادة قد أمسكا الدفة من جديد . كانت نقطة من النبيذ الأحمر تسيل ببطء على حافة الكأس فيما تيريزا تقول : (( ليس في استطاعتي حيلة . أفهم كل شيء و أعرف أنك تحبني . أعرف أيضاً أن خياناتك لا تحمل أي طابع مأساوي . . . )) . كانت تنظر إليه بحب و لكن يتملكها الخوف من المساء الآتي ، الخوف



من أحلامها ، فحياتها مقسومة إلى شطرين ، و الليل و النهار يتزاحمان للتأثير عليها .

17

من يبغي (( الارتقاء )) باستمرار ، عليه أن يستعد يوماً للإصابة بالدوار . لكن ما هو الدوار ؟ أهو الخوف من السقوط ؟ و لكن لماذا نصاب بالدوار على شرفة السطح حتى و لو كانت مزودة بدرابزين متين ؟ ذلك أن الدوار شيء مختلف عن الخوف من السقوط . إنه صوت الفراغ ينادينا من الأسفل فيجذبنا و يفتتنا . أنه الرغبة في السقوط التي نقاومها فيما بعد و قد أصابنا الذعر . موكب النساء العاريات حول البركة ، الجثث المغتبطة بموت تيريزا في عربة الموتى ، كل ذلك يؤلف الهاوية التي ترعبها و التي هربت منها ذات مرة و لكنها تجذبها في آن بطريقة غامضة . كان هذا هو دوارها . كانت تسمع نداء عذباً للغاية ( فرحاً تقريباً ) يدعوها للتخلي عن القدر و الروح ، يدعوها للتضامن مع من هن دون روح . و كانت ، في لحظات الضعف ، ترغب في التجاوب معه و العود إلى أمها ، كانت ترغب في أن تعيد طاقم النفس من على جسر جسدها إلى مكانه ، و أن تنزل للجلوس وسط صديقات أمها ، و تضحك إن أفلتت الواحدة منهن أو الأخرى ضراطاً زنّاناً ، و أن تمشي عارية في ركبهن ، حول البركة و هي تغنّي .

18

كانت تيريزا على خلاف مع أمها قبل رحيلها عن العائلة ، هذا صحيح . لكن لا ننسى أنها كانت تحب أمها مع ذلك حبّا يائساً . كانت على استعداد لفعل أي شيء من أجلها ، لو أنها فقط طلبت ذلك منها بلهجة الحب . و عدم سماعها لهذه اللهجة هو الذي أمدّها بالقوة للرحيل . و لقد فهمت الأم أن عدائيتها لم تعد تنفع مع ابنتها ، فأرسلت لها


رسائل مجرية للدموع ، حيث كانت تشتكي من زوجها و رب عملها و صحتها و أطفالها ، و تقول إن تيريزا هي الكائن الوحيد الذي تبقّى لها في هذا الوجود . خيّل إلى تيريزا أنها سمعت في آخر الأمر لهجة الحب الأمومي التي كانت تتوق إليها طيلة عشرين سنة ، فشعرت برغبة في العودة . كانت هذه الرغبة تزداد كلّما أحسّت أنها ضعيفة . فخيانات توماس كانت تكشف لها في الحال عجزها . ومن هذا الشعور بالعجز يولد الدوار ، هذه الرغبة الهائلة في السقوط . خابرتْها الأم و قالت لها إنها تعاني من السرطان و لم يتبق لها غير أشهر قليلة تعيشها . فتحوَّل اليأس الذي كانت تغرقها فيه خيانات توماس ، على إثر هذا الخبر ، إلى تمرد . كانت تلوم نفسها لأنها خانت أمها في سبيل رجل لا يحبها . كانت على استعداد لنسيان ما عانته من أمها ، و مستعدة الآن لتفهمها و لو كانت أمها شريرة في السابق ، فهذا فقط لأنها كانت تعيسة للغاية . أخبرت توماس عن مرض أمها ، ثم أعلمته أنها ستأخذ عطلة أسبوع لتذهب لرؤيتها . و قالت ذلك بلهجة متحدية . و كما لو أن توماس قد حزر بأن الدوار هو الذي يشّد تيريزا الآن إلى أمها ، فهو لم يوافق إذاً على هذه الرحلة . اتصل بمستوصف المدينة الصغيرة ، لأنّ سجلات الفحوص السرطانية في بوهيميا مفصلة بشكل وافٍ ، فَتَمَكّنَ من التحقق بسهولة من أن أم تيريزا لا تعاني من أية عوارض سرطانية و أنها لم تستشر طبيباً حتى منذ سنة . أذعنت تيريزا له و لم تذهب لرؤية أمها ، و لكنها في اليوم نفسه سقطت أرضاً في الشارع . صارت مشيتها متعثرة تسقط كل يوم تقريباً ، ترتطم ، تُفلت الشيء الذي تمسكه ، من يدها . كانت تشعر برغبة لا تقاوم في السقوط ، و تعيش في دوار مستديم . ذلك الذي يسقط يقول : (( انتشلني ! )) . و بصبر و دأب كان توماس ينتشلها .





19

(( أود لو أمارس الحب معك في محترفي و كأننا على حلبة مسرح . سيكون هناك أناس حوالينا و لن يكون لهم الحق في الاقتراب منا ، لكنهم لن يستطيعوا مع ذلك إشاحة أبصارهم عنا . . . )) . مع مرور الوقت ، أخذت القساوة الأولية لهذه الصورة تبهت ، و بدأت تثيرها . مّرات عديدة كان تهمس بهذا الكلام لتوماس أثناء المضاجعة . كانت تقول في نفسها إن ثمة وسيلة للإفلات من العقوبة التي تمليها عليها خياناته : أن يصطحبها معه إلى عند عشيقاته ! ربما بفضل هذه الحيلة سيرجع جسدها فريداً و لا مثيل له بين الأجساد . وسيصير جسدها و كأنه شخص توماس بالذات و بديلاً له و معاونه . تعانقا . و همست له : (( سأعريهن لك و أغسلهن في المغطس و أهيئهن لك . . . )) . كانت ترغب في أن يتحولا إلى مخلوقين مزدوجي الجنس ، و أن تصير أجساد النساء لعبتها المشتركة .

20

أن تصير شخصه الثاني في حياته المزدحمة بالنساء ! لم يكن توماس راغباً في أن يفهم ذلك . لكنها لم تكن تستطيع التخلص من هذه الفكرة ، فحاولَتْ التقرب من سابينا ، و عرضت عليها أن تأخذ لها صوراً . دَعَتْها سابينا إلى محترفها و تعرفت تيريزا أخيراً على الغرفة الفسيحة التي ينتصب السرير الواسع المربع في وسطها و كأنه منصة . (( كم هو معيب أنك لم تأتِ إلى زيارتي بعد ! )) ، قالت سابينا و هي تريها اللوحات المصطفة قرب الحائط . ثم أخرجت لوحة قديمة كانت رسمتها و هي لا تزال طالبة ، وكانت تمثل ساحة تعمير لمصاهر الحديد . رسمتها عندما كان معهد الفنون الجميلة يصر على الالتزام بالواقعية الأكثر صرامة ( فالفن اللاواقعي كان يعتبر بمثابة محاولة لتدمير الاشتراكية ) . كانت سابينا ، بدافع من ميلها الرياضيّ للرهان ، تحاول جاهدة في أن تكون أشد صرامة من أساتذتها . كانت طريقتها في الرسم حينها تعتمد على الخطوط الدقيقة جداً ، مما يجعل لوحتها شبيهة بالصور الملونة . (( هذه اللوحة بالذات ، ألحقْتُ الضرر بها حين سال طلاء أحمر فوقها . في البداية غضبت و لكن هذه اللطخة أخذت تعجبني و يخيَّل للناظر بأنها صدْع . . كأن ساحة التعمير لم تعد ساحة تعمير واقعية إنما ديكور عتيق متصدع يعطي عن بُعد وَهم الحقيقة . ثم بدأت ألهو بهذا الصدع و أوسِّعه و أتخيل ما يمكن أن يُرى من خلاله . و بهذه الطريقة رسمت سلسلة لوحاتي الأولى التي سميتها (( ديكورات )) . من البديهي أنه لم يكن يُفترض بأحد أن يراها ، و إلا لطُردت من المعهد . نرى في المقدمة ، ضمن هذه اللوحات ، عالماً واقعياً تماماً ، أما في الخلف ، كما على قماشة خلفية ممزَّقة لديكور مسرحي ، فنرى شيئاً ما مختلفاً ، شيئاً غامضاً أو تجريدياً )) . توقفت عن الكلام ثم أضافت : (( في المقدمة الكذب المحسوس و في الخلف الحقيقة التي لا يُدرك كنهها )) . كانت تيريزا تصغي إليها بانتباه غريب يشبه ذلك الانتباه الذي نادراً ما يتسنى لأستاذ أن يصادفه على وجه أحد التلامذة . و استنتجت أن جميع لوحات سابينا ، لوحاتها السابقة و لوحاتها الحالية ، تتحدث في الواقع عن الشيء نفسه باستمرار . فكلُّها تعبر عن التلاقي المتزامن بين موضوعين أو بين الخلف يتراءى بشفافية ، مصباح سرير أو يَد طالعة من طبيعة نموذجية ميتة مؤلفة من تفاح و جوز و شجرة ميلاد مضاءة . شعرت فجأة بالإعجاب حيال سابينا . و كما أن الفنانة كانت متوددة للغاية ، أخذ هذا الإعجاب ، الذي لا تشوبه الخشية أو الحذر ، يتحول إلى استلطاف . لوهلة نسيت أنها أتت لتأخذ صوراً لسابينا ، فاقتضى أن تذكرها سابينا بذلك . أشاحت بنظرها عن اللوحات فرأت السرير منتصباً كمنصة وسط الغرفة .




21

كانت هناك قرب السرير طاولة و على هذه الطاولة قاعدة على شكل رأس ، تشبه تلك التي يستعين بها المزيّنون لعرض الشعور المستعارة . قاعدة سابينا لا تحمل باروكة بل قبعة . قالت سابينا و هي تبتسم : (( هذه القبعة ورثتها عن جدي )) . لم تَر تيريزا مثل هذه القبعات السوداء و المستديرة الصلبة من قبل ، إلا في السينما . كان شارلي شابلن يرتدي دائماً واحدة تشبهها . ابتسمت بدورها و أمسكت القبعة ، ثم تفحصتها طويلاً و قالت : (( هل ترغبين في أن أصوّرك و أنت ترتدينها ؟ )) . أجابت سابينا مطلقة ضحكة صاخبة . ألقت تيريزا القبّعة جانباً ثم قبضت على (( كاميرتها )) و شرعت تلتقط الصور . بعد أقل من ساعة ، قالت : (( ماذا لو صورتك عارية ؟ ـــ عارية ؟ قالت سابينا . ـــ نعم . قالت تيريزا مرددة اقتراحاً بلهجة حازمة . ــ يجدر بنا أن نشرب و الحالة هذه )) ، قالت سابينا : ثم ذهبت لتفتح قنينة نبيذ . كانت تيريزا تشعر بشيء من الانقباض . كانت صامتة فيما سابينا تجول الغرفة و هي تمسك الكأس بيدها و تتحدث عن جدها الذي كان مختاراً لمدينة صغيرة في الريف . لم تكن سابينا تعرفه . كل ما تبقى من ذكراه هذه القبعة و هذه الصورة حيث نرى وجهاء واقفين على منصة . و أحد هؤلاء الوجهاء كان جد سابينا . لا أحد يعرف بالضبط ماذا كانوا يفعلون هناك . فربّما كانوا يشاركون في احتفال أو يدشنون نصباً تذكارياً لوجيه ما كان يلبس هو أيضاً قبعة في مناسبات احتفالية . تكلمت سابينا بإسهاب عن القبعة و عن جدها . ثم ، بعد أن أفرغت كأسها الثالثة ، قالت : (( انتظريني دقيقة )) و اختفت في غرفة الحمام .


ثم رجعت و هي ترتدي مئزراً . أمسكت تيريزا آلة التصوير و ألصقتها على عينها . فخلعت سابينا المئزر .

22

كانت آلة التصوير تقوم مقام عينٍ آلية لتيريزا تراقب من خلالها عشيقة توماس ، و أيضاً مقام حجابٍ تستر به وجهها . استغرقت سابينا وقتاً طويلاً لتقرر خلع مئزرها ، إذ كان الموقف أصعب مما تصورت . ثم ، بعد مرور بضع دقائق ، اقتربت من تيريزا و قالت : (( الآن جاء دورك لأصورك أنت . اخلعي ثيابك )) . كانت هذه الكلمات (( اخلعي ثيابك )) و التي سمعتها مراراً من فم توماس ، محفورة في ذاكرتها . و الآن ها هي عشيقة توماس توجّه هذا الأمر للزوجة . و هكذا فإن المرأتين تربط بينهما الجملة السحرية نفسها . . كان تلك طريقة توماس في أن يجعل حالة جنسية تولد على حين غفلة من حديث تافه : ليس عن طريق المداعبات أو اللمسات أو الإطراء أو الرجاء ، بل من خلال أمر ينطق به بغتة و ارتجالاً لكن بلهجة حازمة و مستبدة و بعيدة و لم يكن عندها ليَمُسّ قط المرأة التي يتوجه إليها . و حتى لتيريزا ، كان يقول مراراً و بالنبرة نفسها بالضبط : (( اخلعي ثيابك ! )) . و على الرغم من أنه كان يسرّ ذلك بنبرة رقيقة هامسة ، فإن هذه الكلمات كانت أمراً ،و كانت تشعر دائماً أنها مهتاجة لمجرد الإذعان لها . بيد أنها كانت تسمع لتوها هذه الكلمات نفسها ، كانت رغبتها في الخضوع تكبر على قدر ما كانت تشعر أن إذعانها هذا لشخص غريب إنما هو جنون مطبق . . و هذا الجنون يزداد حلاوة نظراً إلى أن الأمر صادر ليس عن رجل ، بل من امرأة . انتشلت سابينا الآلة من يدي تيريزا فخلعت تيريزا ثيابها . كانت تقف عارية و عزلاء . عزلاء تماماً لأنها جُرّدت من الآلة التي استعملتها لتحجب وجهها ، و التي كانت تشهرها نحو سابينا و كأنها سلاح . الآن كانت تحت رحمة عشيقة توماس ، و كان هذا الإذعان الجميل يُسكرها . ليت هذه اللحظات التي تقف فيها عارية أمام سابينا لا تنتهي أبداً ! .


في اعتقادي أن سابينا أيضاً شعرت بسحر الموقف الغريب ، حين رأت أمامها زوجة عشيقها منقادة و خجلة بطريقة عجيبة . ضغطت على المسيّب مرتين أو ثلاثاً . ثم ، و قد ارتعبت من هذا السحر ، ضحكت بأعلى صوتها لتبدده في أقصر مهلة . و ضحكت تيريزا أيضاً . ثم ارتدتا ثيابهما من جديد .

23

ارتكبت جميع الجرائم السابقة في الأمبراطورية الروسية في حمى ظلمة من الكتمان . فَنَفْيُ نصف مليون من سكان (( لتوانيا )) و قتل مئات الآلاف من البولونيين و صُفَّي التتر في (( كريميه )) ، كل هذه الجرائم بقيت في الذاكرة من دون صور تقيم الدليل على وقوعها ، فبقيت إذاً كشَيء متعذر إثباته و سيتمّ إظهارها عاجلاً أم آجلاً و كأنها محض اختلاق . أما اجتياح تشيكوسلوفاكيا في سنة 1968 ، فهو بخلاف ذلك ، قد جرى تصويره و نقله إلى السينما ، و هو موجود في دوائر الوثائق في العالم أجمع . استغلَّ المصورون التشيكيون الفرصة التي أعطيت لهم و قاموا بالعمل الوحيد الذي كان بإمكانهم به : الاحتفاظ بصورة الاغتصاب للمستقبل البعيد . أمضيت تيريزا الأيام السبعة تلك في شوارع براغ و هي تلتقط صوراً لجنودٍ و ضباط من الروس في أوضاع مشبوهة مختلفة . و لم يكن الروس مستعدين لمثل هذا الأمر . فالتعليمات التي كانوا تلقّوها واضحة و هي تُعنى بالطريقة التي عليهم أن يتبعوها فيما لو أُطلق عليهم الرصاص أو قذفوا بالحجارة . و لكن لم يعلّمهم أحد من قبل كيفية التصرف حيال الكاميرا . قامت تيريزا بالتقاط مئات الأفلام من الصور . وزّعت نصفها تقريباً على صحافيين أجانب في شكل بكرات للتطهير ( كانت الحدود لا تزال مفتوحة و الصحافيون يتوافدون من الخارج ، لذهابٍ و إيابٍ على الأقل ، و كانوا يأخذون بامتنانٍ أدنى الوثائق . تُنشر العديد من صورها في مختلف المجلات الأجنبية ، و هي عبارة عن صور دبابات ، و قبضات متوعدة ، و مبانٍ مدمرة ،


و موتى مغطين بعلم دامٍ مثلث الألوان ، و شباب منطلقين بأقصى سرعتهم ملوّحين للدبابات بالأعلام التشيكية المرفوعة في نهاية عصى طويلة ، و فتيات في مطلع صباهن مرتديات تنانير قصيرة جداً وهن يقبلن المارة المجهولين أمام أعين الجنود الروس التعساء و المتعطشين للجنس . فالاجتياح الروسي ، تكرر ، لم يكن مأساة فحسب ، إنما كان أيضاً عيداً للحقد الذي لن يتسنى لأحدٍ أبداً أن يفهم هناءته الغريبة .

24

أخذت معها إلى سويسرا خمسين صورة و أظهرتها بنفسها بعناية و فن فائقين . ثم ذهبت تعرضها على مجلة واسعة الانتشار . استقبلها رئيس التحرير بالترحاب ( كان التشيكيون يحملون كلَّهم فوق رؤوسهم هالة الشقاء ، و كان ذلك يؤثر في قلوب السويسريين الطيبين ) . ثم دعاها للجلوس على كنبة ، تفحص الصور و أبدى إعجابه بها و قال أن لا حظ لها في أن تُنشر ( (( على الرغم من أنها جميلة )) ) فالحدث قد أضحى بعيداً جداً الآن . اعترضت تيريزا : (( و لكن في براغ ، لم ينتهِ شيء بعد )) ، حاولت أن توضح في لغة ألمانية رديئة أن هناك في بلدها المحتل كانت تُنشأ ، في هذا الوقت بالذات و بالرغم من كل شيء ، تجمعات عمالية داخل المصانع . و أنَّ الطلاب لا يزال يُضربون احتجاجاً على الاحتلال ، و أن البلد برمته يتابع حياته كما في السابق . و هذا بالضبط ما هو غير معقول ! و لم يكن أحد يهتم ! . أحسّ رئيس التحرير بالارتياح حين دخلت امرأة نشيطة إلى الغرفة فقطعت الحديث و هي تعطيه ملفاً : (( أحمل لك ريبورتاجاً عن شاطئٍ للعراة )) . خشي رئيس التحرير اللبق من أن تجد هذه التشيكية التي كانت تصوّر الدبابات ، صورة لأناس عراة تماماً على شاطئ ، شيئاً مستهجناً . فأزاح الملف بعيداً حتى حافة الطاولة و سارع يقول إلى القادمة الجديدة : (( أعرّفك على زميلة من براغ . أحضرت لي صوراً رائعة )) .



صافحت المرأة تيريزا و أخذت الصور . (( خلال هذا الوقت ، أنظري إلى صوري )) . أكبًّت تيريزا على الملف و أخرجت منه الصور قال رئيس التحرير لتيريزا بلهجة يشوبها الذنب : (( إنها متناقضة تماماً مع صورك ، أنت )) . أجابت تيريزا : (( بل على العكس ! مثلها تماماً )) . لم يفهم أحد ما تعنيه هذه الجملة . و أنا أيضاً وجدْتُ صعوبة في أن أفسر ما كانت تريد تيريزا أن تقوله عندما قارنت شاطئاً للعراة بالاجتياح الروسي . أخذت تقلّب الصور و توقفت طويلاً عند صورة ففيها عائلة مؤلفة من أربعة أشخاص : الأم عارية تماماً منحنية فوق أولادها و ثدياها الضخمان يتدليان مثل ضروع عنزة أو بقرة . وفي الخلف الأب منحني أيضاً إلى الأمام و خصيتاه شبيهتان بضرعيْن منمنمين . ــ (( ألا تعجبكِ الصور ؟ سأل رئيس التحرير )) . ــ (( إنها مصوَّرة بشكل جيد )) . ــ (( أعتقد أن الفكرة تصدمها )) ، قالت المصوَّرة . ما أن نراكٍ حتى نخمّن مسبقاً أنك لم تذهبي إلى شاطئ للعراة . ــ بالطبع لا ، قالت تيريزا . و ابتسم رئيس التحرير : نعرف في الحال من أي بلد أنت . غريب كم هي متزمتة البلدان الشيوعية ! )) . أضافت المصوّرة بتحبّب أمومي : (( أجساد عارية . و لكن هذا أمر طبيعي جداً ! و كل ما هو طبيعي جميل ! )) . تذكرت تيريزا أمها و تتجول في الشقة عارية . كانت تسمع الآن الضحكة التي واكبتها حين هرعت لتنزل الستائر خائفة من أن يرى أحد أمها و هي عارية تماماً .



25

دعت المصوّرة تيريزا لشرب فنجان قهوة في الحانة . ــ (( صورك مثيرة جداً للاهتمام . لاحظت أنك تصورين الجسد الأنثوي بإحساس خارق . تعرفين بماذا أُفكر ؟ بهؤلاء الفتيات اللواتي صورتهن في أوضاع مثيرة ! . ـــ العشاق الذين يتبادلون القبل أمام الدبابات الروسية ؟ ــ أجل . بإمكانك أن تصبحي مصوَّرة لافتة للموضة . يفترض بك ، بالطبع أن تتعاوني مع عارضة ، و من الأفضل أن تكون مبتدئة مثلك . من ثمَّ تقومين بالتقاط بعض الصور و تعرضينها على أحد المكاتب . و من البديهي أنه يلزمك بعض الوقت لتلمعي . خلال ذلك يمكنني أن أساعدك . سأعرّفك إلى صحافي مسؤول عن زاوية (( حديقتك )) . ربما قد يكون في حاجة إلى صور لصبيّريات و ورود ، و أشياء من هذا القبيل . ـــ (( شكراً جزيلاً )) . قالت تيريزا بصدق و قد أحسّت أن المرأة الجالسة قبالتها مفعمة بالنوايا الطيبة . ثم فكرت لتوّها : لكن لماذا عليَّ أن أصور صبّاراً ؟ كان تنفرها فكرة أن تبدأ من جديد ما قامَت به في براغ آنفاً : أن تناضل من أجل وظيفة و في سبيل كل صورة منشورة . فهي لم تكن قط في حياتها طموحة بدافع التباهي . كل ما كانت ترغب فيه مفاده أن تفلت من عالم أمها . أجل ، اكتشفت ذلك فجأة بوضوح تام : صحيح أنها مارست عملها كمصوَّرة بكثير من الحماس ، و لكن كان بإمكانها أن توظّف هذا الحماس نفسه في أي عمل آخر . فمهنة التصوير لم تكن إلا وسيلة (( لترتقي )) و تعيش في كنف توماس . ثم قالت : (( أتعرفين ، زوجي طبيب و بإمكانه أن يًعيلني . لا أحتاج إلى مهنة التصوير )) . أجابت المصوّرة : (( لست أفهم كيف تقدرين على التخلي عن مهنة التصوير بعدما حققت صوراً جميلة كهذه ! )) .


نعم ، صور أيام الاجتياح شيء آخر . لم تلتقط تلك الصور من أجل توماس بل كانت التقطتها بالشغف ، ليس شغف التصوير بل شغف الحقد . و تلك الحالة لن تتكرر ثانية : على أية حال ، هذه الصور التي التقطتها بشغف لم يكن أحد ليقبل بنشرها ، لأنها لم تعد معاصرة . وحده الصبّار معاصر باستمرار ، و الصبّار لا يثير اهتمامها . قالت : ((هذا لطف منك . لكني أفضل البقاء في المنزل . لست بحاجة إلى العمل )) . قالت المصوَّرة : (( لكن هل يرضيكِ أن تبقى في المنزل ؟ )) ـــ (( أفضّل ذلك على تصوير الصبّار )) قالت تيريزا . قالت المصوّرة : (( حتى و لو قمتِ بتصوير الصبّار ، فهذه حياتك أنت . أما إذا كنت تعيشين فقط لزوجك فهذه ليست حياتك )) . أحسّت تيريزا فجأة بالانزعاج : (( حياتي هي زوجي ، لا الصبّار )) . أخذت المصوّرة تتكلم بشيء من الاحتداد : (( هل تريدين بذلك أن تفهميني بأنك سعيدة ؟ )) . قالت تيريزا ( أيضاً بانزعاج ) : (( لكني سعيدة ، بالطبع ! )) . قالت المصوَّرة : (( عندما تتفوه امرأة بهذه الكلمات فهي حتماً ً. . . )) ، و فَضّلَتْ ألاّ تكمل الجملة . فأكملتها تيريزا : (( تريدين القول : حتماً محدوداً جداً )) . تمالكت المصوَّرة نفسها ثم قالت : (( لا ، لم أقصد أن أقول محدودة بل عتيقة )) . قالت تيريزا بهيئة حالمة معك حق . (( هذا ما يقوله عني زوجي بالضبط )) .




26

و لكن توماس كان يمضي أياماً بطولها في العيادة ، فيما هي كانت تبقى لوحدها في البيت . لحسن الحظ أن هناك كارينين و بإمكانها أن تصطحبها في نزهات طويلة ! كانت تجلس ، حين تعود إلى البيت ، أمام كتاب لتعليم اللغة الألمانية أو الفرنسية . و لكنها كانت مصابة بالكرب و غير قادرة على التركيز . كانت تفكر مراراً في الخطاب الذي ألقاه دوبتشك عبر الراديو لدى رجوعه من موسكو . لم تكن تتذكر أي كلمة قالها بالتحديد و لكن لهجته المتأتئة كانت تطن في أذنيها . كانت تفكّر في الذي حدث له . كان أوقفه جنود غرباء في بلد هو رئيسها ، ثم اختطفوه و احتجزوه طيلة أربعة أيام في مكان ما في جبال أوكرانيا ، و أفهموه هناك أنهم سيقتلونه كما قتلوا قبل اثنتيْ عشرة سنة نظيره البلغاري إيمري ناجي . بعدها نقلوه إلى موسكو و أمروه بأن يستحم و يحلق لحيته و يرتدي ثيابه و يضع ربطة عنق . ثم عادوا و أعلموه أن مصيره لم يعد بين يدي فصيلة الإعدام و أجبروه على أن يعتبر نفسه من جديد رئيساً للبلاد و أجلسوه أمام طاولة قبالة بريجنيف و أرغموه على التفاوض . رجع مذلولاً و تحدث إلى شعب مذلول . كان مذلولاً إلى درجة لم يستطيع معها الكلام . و تيريزا لا تنسى ، ما عاشت ، وقفاته الثقيلة في منتصف الجمل . أكان منهوك القوى ؟ أم مريضاً؟ هل أعطوه مخدرات ؟ أم هل كان يائساً ؟ إذا لم يبق شيء من دوبتشك فستبقى تلك الفترات الطويلة الفظيعة من الصمت حين كان يحاول أن يستعيد أنفاسه أمام شعب بأكمله ملتصقٍ بأجهزة الراديو . ففي فترات الصمت هذه يكمن كل الذعر الذي نزل بالبلاد . كان ذلك في اليوم السابع للاحتلال . سمعت هذا الخطاب من غرفة التحرير لمجلة أصبحت في تلك الأيام الناطقة باسم المقاومة . . في ذلك الوقت ، كان كل الذين في الغرفة يستمعون إلى دوبتشك ، يحتقرونه و يحقدون عليه لأنه قَبِل بالتسوية ، و يشعرون أنهم مذلولون لإذلاله ، و أن ضعفه كان يُهينهم . الآن و هي تفكر في تلك اللحظات في زوريخ ، لم تكن تشعر بأي



احتقار لدوبتشك . ثم إن كلمة ضعف لم لها وقع الجناية . كلنا ضعفاء في مواجهة قوة أعظم منّا . حتى و لو كنا نملك جسداً مفتولاً مثل جسد دوبتشك . أخذ هذا الضعف ، الذي كان يبدو لها فيما مضى منفّراً و غير محتمل ، هذا الضعف الذي جعلها تغادر البلاد ، يُغويها فجأة . كانت قد بدأت تفهم أنها تنتمي إلى الضعفاء ، إلى معسكر الضعفاء ، إلى بلد الضعفاء ، و يفترض بها أن تكون وفيه لهم . لا لشيء إلا لمجرد أنهم ضعفاء و لأنهم يستعيدون أنفاسهم في أواسط الجمل . كان هذا الضعف يغويها كما قد أغواها الدوار من قبل ، يغويها لأنها كانت تشعر أنها هي أيضاً ضعيفة . فهي من جديد تتآكلها الغيرة ، و من جديد يداها تأخذان بالارتجاف ، تنّبه توماس للأمر و قام بحركته المألوفة : أمسك يديها و أخذ يضغط بأصابعه ليهدئ من ارتجافها . فأفلتت منه . ــ (( ما بالك ؟ ــ لا شيء . ــ ماذا تريدين أن أفعل من أجلك ؟ ــ أريد أن تصير عجوزاً ، أن تكون أكبر بعشر سنوات ، أكبر بعشرين سنة ! )) . و كانت تريد أن تقول : أريد أن تصير ضعيفاً ، ضعيفاً قدر ما أنا ضعيفة .

27

لم تكن كارينين قد استحسنت مطلقاً الرحيل إلى سويسرا ، فهي كانت تكره التغيير . فالزمن ، بالنسبة لكلبة ، لا يجري ضمن خط مستقيم ، و لا يؤدي مساره تبعاً لحركة متواصلة نحو الأمام ، و متقدمة أكثر فأكثر ، و منتقلة من شيء إلى آخره ، بل يرسم حركة دائرية تشبه حركة عقارب الساعة ، إذ أن عقارب الساعة لا تتقدم بجنون إلى الأمام إنما تدور بشكل دائري على مرّ الأيام على ميناء الساعة وفقاً للمسار ذاته . كان يكفيهما في براغ أن يشتريا كنبة جديدة


أو أن يغيّرا مكان إناء الزهور ، حتى تحتج كارينين على ذلك . فإحساسها بالزمن كان يختل عندئذ . و هذا ما يحصل للعقارب تماماً فيما لو غيّرنا باستمرار الأرقام الموجودة على ميناء الساعة . لكن كارينين مع ذلك نجحت في أن ترد نظام الوقت القديم و الطقوس القديمة إلى نصابها في الشقة في زوريخ . كانت كل صباح تلج إلى غرفتها ، كما كانت تفعل في براغ ، و تفتتح نهارهما بقفزة على السرير ، ثم ترافق بعدها تيريزا في أولى جولاتها الشرائية الصباحية ، و تفرض ، كما كانت تفعل في براغ ، نزهتها اليومية . كانت كارينين ساعة حياتهما . و كانت تيريزا تفكر في لحظات اليأس أن عليها أن تصمد من أجل هذه الكلبة لأنها أضعف منها و أضعف ربما من دوبتشك و من وطنها المهجور . كانتا راجعتين من النزهة حين رنَّ الهاتف . رفعت السّمّاعة و سألت من المتكلم . كان هناك صوت امرأة تتكلم بالألمانية و تسأل عن توماس . كان صوتها لجوجاً ، و خُيّل إلى تيريزا أن نبرة احتقار تشوبه . و عندما قالت لها إن توماس خرج و لا تعرف متى سيرجع ، انفجرت المرأة بالضحك في الخط المقابل ثم أقفلت السمّاعة دون أن تستأذن . كانت تيريزا تعرف أنه يجدر بها ألاّ تعلّق أهمية على ذلك . فربّما هذه المرأة ممرضة في المستشفى أو مريضة أو سكرتيرة ، لا فرق . و مع ذلك أحسّت أنها مضطربة و غير قادرة على التركيز . فهمت أنها خسرت القوة القليلة الباقية لها عندما كانت في براغ ، و أنها باتت عاجزة عن احتمال هذا الحادث الذي هو تافه على كل حال . من يعش في الغربة يمشِ في فضاء خاوٍ فوق الأرض مجرداً من شبكة الرعاية التي تحيط بها ، كل كائن بشري ، بلاده الأم حيث توجد عائلته و زملاؤه و أصدقاؤه ، و حيث يستطيع أن يتواصل مع الآخرين دون جهد ، و في اللغة التي يعرفها منذ الصغر . صحيح أن تيريزا كانت في براغ تابعة لتوماس ،




لكن بقلبها فقط . أما هنا فهي تابعة له في كل شيء . ماذا سيصير بحالها فيما لو تركها ؟ هل عليها أن تمضي ما تبقى من حياتها خائفة من أن يتركها ؟ كانت تقول في نفسها إن لقاءهما كان مبنياً على الخطأ منذ البداية . فكتاب (( آنا كارينين )) الذي كانت تتأبطه في ذلك اليوم كانت هويةٍ مزيفة استخدمتها لتخدع توماس . لقد أوجد كلاهما ، التناوب ، جحيماً للأخر ، حتى و لو كانا متحابين . كانا متحابين ، صحيح ، و ذاك هو البرهان على أن الخطأ ليس صادراً عنهما و لا تصرفاتهما و لا عن مشاعرهما القابلة للتغير ، إنما هو نتيجة لتنافر طباعهما ، فهو كان قوياً و هي ضعيفة . كانت تشبه دوبتشك الذي يسجّل وقفة تستمر نصف دقيقة ، في منتصف الجملة : كانت تشبه بلدها الذي يتأتئ و يستعيد أنفاسه و لا يقدر على الكلام . و لكن ، يجدر بالضعيف أن يتعلم كيف يكون قوياً ، و يرحل عندما يصير القوي أضعف من أن يستطيع إيذاء الضعيف . هذا ما كانت تقوله في نفسها . ثمَّ دفنت وجهها في شعر كارينين قائلة : (( يجب ألا تغضبي مني يا كارينين . إذ سيكون علينا أن نغيّر مكان إقامتنا مرة أخرى بعد )) .

28

كانت تتجمع في إحدى زوايا المقصورة ، حقيبتها موضوعة فوق رأسها ، و كارينين متكورة عند قدميها . أخذت تفكّر في طاهي مشرب الجعة حيث كانت تعمل عندما كانت تقيم عند والدتها . لم يكن يفوّت فرصة إلا ليضربها على قفاها ، و كان اقترح عليها أكثر من مرة و أمام الجميع بأن تضاجعه . كان أمراً غريباً أن تفكر فيه هو بالتحديد مع أنه يمثّل لها كلَّ ما تكرهه . و لكنها تتملكها الآن فكرة واحدة مفادها أن تلتقيه و تقول له : (( كنت تقول إنك ترغب في مضاجعتي . حسناً ! ها أنذا )) . كانت تنوي فعل شيء ما يمنعها من الرجوع إلى الوراء . كانت تنوي تدمير ماضي سنواتها السبع الأخيرة دفعة واحدة . فالدّوار رجع يراودها مثل


رغبة مسكرة ، رغبة في السقوط لا تقاوم . يمكنني القول ربَّما إن الإصابة بالدوار تعني أن يكون المرء سكران من ضعفه الخاص . . فهو يعي ضعفه لكنه لا يرغب للتصدي له بل الاسترسال فيه . ينتشي بضعفه الخاص فيرغب في أن يكون أكثر ضعفاً ، يرغب في السقوط أمام أعين الآخرين في وسط الشارع ، يرغب في أن يقع أرضاً ، تحت الأرض بعد . كانت تُقنع نفسها ألاّ تبقى في براغ و ألاّ تعود للعمل كمصّورة بل أن ترجع إلى المدينة الصغيرة التي اجتثها صوت توماس منها . و لكنها حين رجعت إلى براغ ، اقتضى الأمر أن تمكث بعض الوقت هناك من أجل ترتيب أمور عملية . و هكذا كانت تؤجل رحيلها إلى أن ظهر توماس فجأة في الشقة بعد خمسة أيام . كانت كارينين تقفز إلى وجهه مجنّبه إياهما ضرورة الكلام ، لوقت طويل . ثم اقتربا مثل عاشقين لم يتعانقا بعد . سأل : (( هل كل شيء على ما يرام ؟ ــ نعم . ــ هل ذهبتِ إلى المجلة ؟ ــ اتصلت بهم . ــ ماذا قالوا ؟ ــ لا شيء . كنت أنتظر . ــ ماذا ؟ )) . لم تُجب . كانت غير قادرة على أن تقول له إنه هو من كانت تنتظره .




29

فلنعد إلى اللحظة التي سبق لنا أن عرفناها : كان توماس يائساً و معدته تؤلمه . و لم ينم إلا في ساعة متأخرة . بعد وقت قليل أفاقت تيريزا ( كانت الطائرات الروسية تحلّق في سماء براغ ، فيصعب النوم وسط هذه الضجة ) . و هذا أول ما فكّرت فيه : رجع من أجلها ، من أجلها غيَّر مصيره . من الآن فصاعداً لن يعود هو المسؤول عنها بل ستكون هي أيضاً المسؤولة عنه ! ثم شعرت أن هذه المسؤولية فوق طاقتها . ثم تذكرت : البارحة ، عندما ظهر على باب الشقة ، ما هي إلا لحظات قليلة و دقَّت ساعة كنيسة في براغ تمام الساعة السادسة . و في المرة الأولى التي التقيا فيها ، أنهت خدمتها في الساعة السادسة . كانت تراه أمامها جالساً على مقعد أصفر عندما سمعت دق الأجراس . لا ، ليس هذا تطيراً ، إنما هو حسُّ الجمال و قد حرّرها فجأة من قلقها و أمدّها برغبة جديدة للعيش . مرةً أخرى كانت عصافير الصدفة تحط فوق كتفيها . كانت تبكي فرحاً لا حدّ له بأن تسمعه يتنفَّس إلى جانبها .





القسم الثالث الكلمات غير المفهومة

1

جنيف مدينة فوّارات و برك. و حتى اليوم ، لا نزال نرى في الحدائق العامة ، الأكشاك حيث كانت تعزف الجوقات الموسيقية قديماً . . حتى أن الجامعة تختفي بين الأشجار . كان فرانز خارجاً من مبنى الجامعة و قد انتهى لتوّه من إعطاء محاضرته الصباحية . كان رذاذ الماء المتدفق من الدوّارات ينساب فوق المرجة و كان مزاج فرانز رائقاً . فهو سيذهب مباشرة من الجامعة إلى عند صديقته التي تسكن على بُعد بضعة شوارع من هنا . كان يمرُّ بها غالباً و لكن دائماً بصفته مهتماً لأمرها لا بصفته عاشقاً . على افترض أنه ضاجعها في المحترف ، فالأمر سيغدو حينئذ بمثابة انتقال من امرأة إلى أخرى في اليوم ذاته ، أي انتقال من الزوجة إلى العشيقة ، و من العشيقة إلى الزوجة . و بما أن الرجال و النساء ينامون في جنيف على الطريقة الفرنسية في سرير واحد ، فإن الأمر يغدو و الحالة هذه بمثابة انتقال في ساعات قليلة من سرير امرأة إلى سرير امرأة أُخرى . و حسب رأيه ، كان هذا مهيناً للعشيقة و الزوجة على حدٍ سواء ، و مهيناً له هو بالذات في الواقع . كان حبُّه للمرأة التي يهيم بها منذ بضعة أشهر شيئاً ثميناً للغاية ، بحيث أنه كان يبذل قصارى جهده في أن يجد لها فسحة مستقلة في حياته ، مملكة نقاء لا تُطال . كان يُدعى كثيراً لإلقاء محاضرات في جامعات أجنبية ، و كان الآن يقبل الدعوات كلها متلهفاً . . و بما أنها لم تكن متوفرة بالشكل اللاَّزم فأنه كان يكمّلها بمؤتمرات و ندوات وهمية لكي يبرر أسفاره أمام زوجته . أما صديقته التي كان يمكنها أن تتصرف بوقتها كما يحلو لها ، فكانت تصطحبه



في أسفاره . و هكذا عرّفها خلال فترة قصيرة من الزمن على عدة مدن أوروبية و مدينة أميركية . قال : ــ (( في غضون عشرة أيام يمكننا الذهاب إلى باليرما ، هذا إذا كنت غير معارضة )) . ــ (( أُفضَّل جنيف )) . كانت واقفة أمام الحمّالة تتفحص لوحة غير منجزة . حاول فرانز أن يمازحها : (( كيف يستطيع المرء أن يعيش و هو لا يعرف باليرما ؟ )) . قالت : أعرف باليرما . سألها بلهجة تشوبها الغيرة : ماذا ؟ ــ أرسلَتْ لي صديقة بطاقة بريدية من هناك فألصقتها على حائط الحَمّام . ألم تلاحظها ؟ ثم أضافت : اصغِ إلى حكاية هذا الشاعر الذي عاش في بداية القرن . كان عجوزاً للغاية و كان سكرتيره يقوم بتنزيهه . و ذات يوم قال له : (( ارفعْ رأسك يا سيدي و انظْر ، هذه أول طائرة تحلق فوق المدينة ! . ــ فأجاب السيد سكرتيره دون أن يرفع عينيه : (( أستطيع أن أتخيّلها )) . حسناً ، أرأيت . أنا أيضاً أستطيع أن أتخيل باليرما . . ستكون فيها الفنادق نفسها و السيارات نفسها الموجودة في المدن كافة . أما في محترفي ، فعلى الأقل اللوحات دائماً مختلفة . اغتمَّ فرانز . كان اعتاد إلى حدٍ بعيد على هذا الرابط بين حياته العاطفية و الأسفار التي عزم على القيام بها : (( فلنذهب إلى باليرما )) ، بلاغ جنسي واضح . و الجواب : (( أُفضّل جنيف )) ، لا يمكنه أن يعني بالنسبة له إلا شيئاً واحداً : لم تعد صديقته راغبة به . كيف يستطيع أن يبرر انعدام الثقة بالنفس هذا في حضرة عشيقته ؟



ليس هناك ما يدعوه للشك في نفسه على هذا النحو ! و هي ، لا هو ، التي مهدت لاكتساب صداقته بعد وقت قليل من لقائهما . فهو رجل وسيم و في أوج مهنته العلمية ، و يهابه زملاؤه حتى بسبب التفوق و العناد اللذين يظهرهما في خلال مجادلاته مع الاختصاصيين . لماذا إذاً كان يعيد على نفسه كل يوم أن صديقته ستتركه ؟ لا أملك إلا تفسيراً واحداً : لم يكن الحب بالنسبة له امتداداً لحياته العلنية إنما هو نقيض لها . كان الحب بالنسبة له رغبة في الاستسلام لنية الآخر الطيبة و رأفته . فمن يمنح نفسه للآخر بالطريقة التي يهب فيها الجندي نفسه ، عليه أن يرمي مسبقاً كل أسلحته ، و إذ يرى نفسه أعزل لا يمكنه عندئذ الامتناع عن التساؤل متى ستقع الضربة القاضية . يمكنني أن أقول إذاً إن الحب بالنسبة لفرانز هو انتظار مستديم للضربة القاضية . و فيما هو مستسلم لقلقه ، وضعت صديقته ريشتها جانباً و غادرت الغرفة . رجعت بعد قليل و في يدها زجاجة نبيذ . ثم فتحتها و صبَّت كأسين . شعر بحمل ثقيل ينزاح عن صدره . فالكلمات : (( أفضّل جنيف )) لم تكن تعني أنها لم تعد راغبة في مضاجعته و لكن على العكس تماماً . كانت تعني أنها سئمت من أن تقتصر لقاءاتهما الحميمة على إقامات وجيزة في مدن أجنبية . رفعت كأسها و أفرغته دفعة واحدة . و رفع فرانز كأس و شرب بدوره . كان شعوره بالرضى يشتد بالطبع لاستنتاجه بأن رفضها بالذهاب إلى باليرما هو في الواقع دعوة إلى الحب . لكنه من ثَّم شعر بشيء من الأسى : ذلك أن صديقته أخذت القرار بانتهاك قانون النقاء الذي كان ضمّنه لعلاقتهما . فهي لم تكن تدرك الجهود المضنية التي كان يبذلها في سبيل أن يحمي حبهما من التفاهة ، و لكي يعزله تماماً عن العش الزوجي . كان امتناعه عن مضاجعة عشيقته في جنيف قصاصاً فرضه على نفسه ليعاقبها جزاء زواجه من واحدة أُخرى . و هو كان يتعامل مع هذا الوضع و كأنه خطيئة أو عاهة . أما فيما يخص حياته العاطفية مع زوجته ، فلا شيء هناك



يستحق الذكر عملياً ، باستثناء أنهما كانا ينامان معاً في السرير ، و كل واحد منها يوقظ الآخر بشخيره ، و أنهما كانا يتنشقان نتانة جسديهما المشتركة . بالطبع كان يفضل النوم لوحده و لكن السرير المشترك يبقى رمز الزواج ، و الرموز كما نعرف لا تُمس . كان كَلما يندس في الفراش قرب زوجته ، يفكر في عشيقته و يتخيلها تندس قربه في السرير مكان زوجته . كانت الفكرة في كل مرة تُخجله فيحاول أن يباعد بين السرير الذي ينام فيه مع زوجته ، و بين السرير الذي يضاجع فيه عشيقته . سكبت لنفسها كأساً آخر من النبيذ . شربت جرعة . ثم ، دون أن تقول كلمة و بلا مبالاة غريبة ، و كأن فرانز لم يكن موجوداً ، نزعت قميصها ببطء . كان تصرفها كمثل طالب يجري تمريناً ارتجالياً في فن التمثيل ، و يفترض به أن يظهر فيه كما لو كان وحيداً ، و لا أحد يراه . بقيت في التنورة و الصدرية ، ثم ( و كأنها تذكرت فجأة أن هناك أحداً في الغرفة ) شخصت طويلاً إلى فرانز . كانت هذه النظرة تزعجه لأنه لم يكن يفهمها . هناك قواعد لعب تنتظم سريعاً فيما بين العشاق دون أن يعوها ، و لكنها تؤثر فيهم مثل سلطة القانون ، و عليهم ألا يخرقوها . أما تلك النظرة التي شخصت بها إليه فكانت متفلّته من هذه القواعد . و لم يكن هناك أي شيء مشترك بينها و بين النظرات أو الحركات التي تسبق عادة عناقهما . كانت هذه النظرة لا تعبّر عن تحدَّ أو إغراء بل يجول فيها سؤال ما . و لكن فرانز لم يكن يعرف إطلاقاً عمّا كانت تسائله هذه النظرة . خلعت تنورتها . ثم أمسكت بيده و دارت به باتجاه مرآة كبيرة مستندة إلى الحائط ، على بُعد خطوات قليلة ، ثم ، من دون أن تفلت يده ، أخذت تنظر إلى المرآة النظرة الشاخصة المتسائلة ذاتها ، تارةً إليها و تارة أخرى إليه . إلى جانب المرآة ، على الأرض ، كانت هناك قبعة معلقة فوق دكة تحمل رأساً مستعاراً . انحنت فأمسكت القبعة ثم أدخلتها في رأسها ،




فتغيرت الصورة للحال في المرآة : كانت هناك صورة لامرأة في ثيابها الداخلية ، جميلة ، لا تُطال ، لا مبالية و على رأسها قبعة غير لائقة إطلاقاً . . و كانت تمسك بيدها رجلاً يرتدي بذلة رمادية و يضع ربطة عنق . تعجَّب مرةً ثانية من أنه أساء فهم عشيقته . لم تتعرَّ من أجل أن تغريه بل لكي تتشيطن معه و لكي تلعب تمثيلية حميمة مرتجلة لهما وحدهما فابتسم ابتسامة تفهّم و امتثال . كان يعتقد أنها ستبتسم له هي أيضاً و لكن توقعه خاب . فهي لم تكن تترك يده بل كانت تجول بنظرها فيه و في القبعة في المرآة . تجاوزت مدة التمثيلية المرتجلة الحدود . كان فرانز يجد أن هذه الملهاة ( التي كان يقرّ بأنها ساحرة على كل حال ) قد طالت أكثر من اللازم . فأمسك القبعة الرجالية بين إصبعيه و انتزعها عن رأس سابينا و هو يبتسم ، ثم علقها فوق القاعدة . . كان الأمر كمن يمحو شاربين رسمهما ولد عفريت على صورة مريم العذراء . بقيت جامدة لبضع ثوانٍ تتأمل نفسها في المرآة . ثم غمر فرانز جسدها بقبلات رقيقة . و طلب منها مرة أخرى أن تصحبه إلى باليرما في رحلة تدوم عشرة أيام . فوعدته هذه المرة دون مواربة بالذهاب ، و على هذا غادر . عاد إليه مزاجه الجيّد ثانية . كانت جنيف التي لعنها طيلة حياته على أنها مدينة الضجر ، تبدو له الآن جميلة و حافلة بالمغامرات . ثم التفت و نظر إلى طاقة المحترف الزجاجية . كانت هذه آخر أسابيع الربيع و كان الطقس حاراً . و كانت النوافذ مسدلة ستائرها . بلغ فرانز حديقة ترتفع فوقها في البعيد قبب الكنيسة الأورثوذوكسية شبيهةً بكرات ذهبية التقطتها قوى خفيّة قبل تلاطمها و أثبتتها في الفضاء . كان هذا المشهد جميلاً . . نظر فرانز إلى الرصيف ليستقلّ مركباً يقلّه إلى جانب الآخر من البحيرة ، إلى الضفة اليمنى حيث كان يقيم .




2

بقيت سابينا وحيدة . انتصبت من جديد ، و هي لا تزال في ثيابها الداخلية ، أمام المرآة . اعتمرت القبعة من جديد و نظرت إلى نفسها ملياً . كانت متعجبة من أن تكون اللحظة الضائعة ذاتها تلاحقها بعد كل هذه السنوات . ها إن سنوات قد مرَّت عندما جاء توماس إليها و أسرته هذه القبعة . اعتمرها و أخذ يتأمل نفسه في المرآة الكبيرة التي كانت مستندة آنذاك إلى حائط شقة سابينا الصغيرة في براغ . كان يريد أن يرى كيف ستكون هيئته فيما لو كان مختار مدينة ريفية صغيرة خلال القرن الفائت . ثمّ ، و عندما أخذت سابينا تخلع ثيابها على مهل ، وضع القبعة على رأسها . كانا واقفين أمام المرآة ( كانا يقفان دائماً هكذا عندما كانت تخلع ثيابها ) يسترقان النظر إلى صورتهما . كانت في ثيابها الداخلية و كانت تعتمر القبعة . ثم انتبهت فجأة إلى أن هذه اللوحة تثير كليهما . تُرى كيف كان هذا ممكناً ؟ قبل ذلك بقليل كانت القبعة التي تضعها على رأسها تهمُّ بأن تكون مجرد مزحة . ماذا ! ألا تفصل المضحك عن المثير غير خطوة واحدة ؟ نعم . لأول وهلة حين نظرت إلى نفسها في المرآة ، وجدت الأمر مضحكاً . و لكن فيما بعد ، ضاع الضحك في الإثارة : فالقبعة لم تعد إثارة هزلية بل صارت تعني العنف ، العنف الذي يمارَس على سابينا و ينال من قيمتها كامرأة . كانت ترى نفسها عارية الساقين في سليب شفاف تظهر من خلاله العانة . كانت الملابس الداخلية تؤكد على سحر أُنوثتها ، أما القبعة الرجالية التي من لباد سميك فتنفي تلك الأنوثة و تغصبها و تهزأ منها . كان توماس واقفاً إلى جانبها بكامل ثيابه ، و هذا يعني أن خلاصة ما كانا يشاهدانه ليس النكتة ، ( إذ كان بإمكانه أن يكون هو أيضاً في ثيابه الداخلية و معتمراً قبعة رجالية ) بل الذل . و هي كانت تعرض هذا الذلّ بتحدٍ و فخر بدل أن ترفضه ، و كأنها سمحت لنفسها بأن تُغتصب بطوع إرادتها و أمام الملأ . ثم



حين لم تعد تقوى على البقاء في هذا الوضع ، أوقعت توماس على الأرض و تدحرجت القبعة تحت الطاولة ، كان جسداهما يتلويان فوق السجادة أمام المرآة . فلنرجع مرة أخرى إلى هذه القبعة : قبل كل شيء ، كانت هذه القبعة أثراً تركه جدّ منسي عمل مختاراً لمدينة صغيرة في بوهيميا ، أثناء القرن الماضي . و ثانياً ، كانت تذكاراً من والد سابينا . فبعد أن استأثر أخوها بميراث والديها على أثر جنازة والدها ، كابرت سابينا و رفضت بإصرار أن تدافع عن حقوقها ، و لكنّها قالت بلهجة ساخرة إنها ستحتفظ بالقبعة الرجالية على أنها الإرث الوحيد الذي بقي لها من والدها . و ثالثاً ، كانت من متممات الألاعيب الجنسية مع توماس . و رابعاً ، كانت رمزاً لتميّزها الذي تعمد في تغذيته . لم يكن في استطاعتها ، حين هاجرت ، أن تحمل الشيء الكثير ، و هي ، لكي تحمل معها هذا الشيء المزعج و الباطل استعماله ، وجب عليها إذاً أن تتخلى عن حوائج أُخرى أكثر منفعة . و خامساً ، كانت القبعة الرجالية قد صارت في الخارج رابطاً عاطفياً . و هي حين ذهبت للقاء توماس في زوريخ أخذتها معها ، ثم اعتمرتها عندما فتحت له باب غرفتها في الفندق . و عندئذ حصل شيء غير متوقع . لم تعد القبعة مضحكة و لا مثيرة بل صارت ذكرى من الماضي . و كان كلاهما منفعلاً فمارسا الحب كما لم يفعلا في أي وقت كان : لم يكن هناك مكان للألاعيب الماجنة ، و لا كان لقاؤهما امتداداً لألاعيبهما الجنسية حين كانا يتخيلان كل مرة نزوةً جديدة ، إنما كان تكثيفاً للوقت و نشيداً لذكرى ماضيها المشترك ، تكثيفاً عاطفياً لحكاية غير عاطفية توشك أن تتلاشى في البعيد . كانت القبعة تصير إذاً لازمة موسيقية في المقطوعة التي هي حياة سابينا . كانت هذه اللازمة تتكرر دائماً و أبداً آخذه في كل مرة معنى جديداً . و كانت هذه المعاني تمر كلها عبر القبعة الرجالية كما يمر الماء في مجرى



النهر . و أستطيع القول إن مجرى النهر هذا مشابه لمجرى نهر هيراقليط : (( إننا لا نستحم مرتين في النهر نفسه )) . كانت سابينا ترى أن القبعة الرجالية مجرى نهر يسيل فيه كل مرة نهر آخر ، نهر (( لغوي آخر )) ، حيث يثير الشيء نفسه كل مرة معنى جديداً ، و لكن هذا المعنى الجديد كان يرجّع ( مثل صدىَّ أو موكب أصداء ) كل المعاني السابقة . . فتظنُّ حينها كل تجربة جديدة معيوشة بإيقاع أكثر غنى .. و في زوريخ ، في غرفة الفندق ، كانا منفعلينْ عند رؤية القبعة ، و مارسا الحب وقتها و هما على حافة الدموع . ذاك أن هذا الشيء الأسود لم يكن فقط ذكرى لألاعيبهم الجنسية بل كان أيضاً أثراً تركه والد سابينا وجدها اللذان عاشا في أزمنة لا سيارات فيها و لا طائرات . ربّما في المستطاع الآن أن نفهم بشكل أفضل الهاوية التي تفصل بين سابينا و فرانز : صحيح أنه كان يصغي إليها بانتباه كلي و هي تحدثه عن حياتها ، و كانت هي أيضاً تصغي إليه بالانتباه نفسه . و صحيح أنهما كانا يفهمان المعنى الموضوعي للكلمات التي يتفوهان بها ، و لكن من دون أن يسمعا خرير النهر اللغوي المتدفق عبر هذه الكلمات . لذلك فإن فرانز أحسَ ، حين وضعت سابينا القبعة فوق رأسها ، بأنه منزعج كأن أحداً يتحدث إليه في لغة يجهلها . لم يكن يجد هذا التصرف ماجناً أو عاطفياً ، بل كان فقط تصرفاً غير مفهوم ، و غياب معناه أمر يربكه . طالما أن الناس لا يزالون في سن الشباب ، و طالما أن مقطوعة حياتهم الموسيقية لا تزال في أنغامها الأولى ، فإن بإمكانهم و الحالة هذه تأليفها سوّية و تبادل بعض اللوازم فيما بينهم ( مثل توماس و سابينا اللذين تبادلا لازمة القبعة الرجالية ) . و لكت حين يلتقون بعضهم ببعض في سن ناضج ، فإن مقطوعاتهم الموسيقية تكون قد قاربت على النهاية ، و كل كلمة و كلُّ شيء في كل واحدة منها تعني شيئاً مختلفاً في المقطوعة الأخرى . لو استعدت كل الممرات اللغوية بين سابينا و فرانز ، فإن لائحة الكلمات غير المفهومة ستؤلف قاموساً ضخماً . فلنكتفِ إذاً بمعجم صغير .




3


معجم صغير للكلمات غير المفهومة ( الجزء الأول ) امرأة : أن تكون سابينا امرأة فهذا وضع لم تختره بنفسها . و ما هو ليس ناتجاً عن اختيار لا يمكن اعتباره لا استحقاقاً و لا فشلاً . و سابينا تفكر أنه يفترض بنا ، حيال وضع فرض علينا ، أن نتصرف بطريقة مناسبة . كما و يبدو لها أيضاً أن احتجاجها على كونها امرأة أو الاعتزاز بذلك أمران سخيفان بالقدر ذاته . قال فرانز في أحد لقاءاتهما الأولى و بنبرة مميزة : (( سابينا ، أنتِ امرأة )) . لم تكن فاهمة لماذا بشرها بذلك على النحو الاحتفالي و كأنه كريستوف كولومبوس يبشر لتوّه باكتشاف أحد سواحل أميركا . و لكنها فهمت فيما بعد أن كلمة (( امرأة )) التي تلفظها بفصاحة مميّزة لم تكن تعبّر بالنسبة له عن صفة تميز أحد جنسي الصنف البشري ، و إنما كانت تمثل (( قيمة )) . إذ ليست كل النساء جديرات بأن يُدعيْن (( نساء )) . لكن إذا كانت سابينا هي (( المرأة )) بالنسبة لفرانز فما هو حال ماري – كلود زوجته الفعلية ؟ لعشرين سنة خلَتْ ( كانا يعرفان بعضهما حينذاك منذ أشهر قليلة ) هددَتْه بأنها ستنتحر لو هو تركها ، فوجد فرانز نفسه مفتوناً بهذا التهديد . لم تكن ماري – كلود من النوع الذي يعجبه ، و لكن حبها كان يبدو له سامياً . كان يجد نفسه غير جدير بحب كبير كهذا فاعتبر أن من واجبه أن ينحني أمامه بانخفاض كبير . و هكذا انحنى ساجداً حتى الأرض فتزوجها . و مع أنها لم تعد تظهر إطلاقاً حدة الشعور التي أظهرتها حين هددته بالانتحار ، فإن هذا الواجب بقي حياً في ضميره و مفاده : ألا يؤذي ماري – كلود مهما كان و أن يحترم المرأة فيها . غريب أمر هذه الجملة . . لم يكن يقول في نفسه إن عليه احترام ماري كلود بل : احترام المرأة في ماري – كلود . و لكن ، إذا كانت ماري – كلود هي نفسها امرأة ، فمن هي إذاً تلك المرأة

الأخرى التي تختبئ فيها و التي يجب عليه أن يحترمها ؟ أو تكون هذه الفكرة الأفلاطونية عن المرأة ؟ لا، بل كانت هذه المرأة أمه . لم يكن ليخطر بباله قط أن يقول مثلاً إنه يحترم المرأة في أمه . فهو كان يعبد أمه بحد ذاتها و ليس بسبب امرأة في داخلها . كانت الفكرة الأفلاطونية عن المرأة و أمه شيئاً واحدةً متلازماً . كان في الثانية عشرة من عمره تقريباً عندما تخلى والده عن أمه فوجدت نفسها بغتة لوحدها . كان فرانز يشك في أن أمراً خطيراً قد حدث ، و لكن أمه كانت تخفي المأساة خلف أحاديث حيادية و متزنة خشية أن تصدمه . في ذلك اليوم بالذات ، لاحظ فرانز ، عندما غادرا المنزل للقيام بنزهة في المدينة ، أن أمه كانت ترتدي فرديْ حذاء مختلفتين . اضطرب للأمر و رغب في أن يلفت نظرها لذلك و لكنه خشي أن يجرحها في الوقت نفسه . جال مع أمه ساعتين في الشوارع و هو غير قادر على إشاحة بصره عن قدميها . و إذ ذاك بدأ يفهم ما معنى العذاب . الوفاء و الخيانة : كان قد أحبّها منذ الطفولة و حتى اللحظة التي رافقها فيها إلى القبر . و أحبّها أيضاً في ذكرياته . من هنا كان يستقي فكرة أن الوفاء هو فضيلة الفضائل . فالوفاء يجعل حياتنا متماسكة ، و لولاه لكانت تبعثرت إلى آلاف الانطباعات العابرة . كان فرانز يحدّث سابينا مراراً عن والدته و ربمَّا عن قصد ، دون أن يعي ذلك : كان يقصد ربَّما أن تغوي قدرته على الوفاء سابينا فيكون هذا وسيلة ليجعلها تتعلق به . و لكن ، ما كان يغوي سابينا ليس الوفاء بل الخيانة . كانت كلمة (( وفاء )) تذكّرها بأبيها الذي كان رجلاً ريفياً متزمتاً ، يرسم أيام الآحاد ، من أجل متعته فقط ، الشمس الغاربة فوق الغابات و باقات من الورود في إناء . بفضله ، ابتدأت بالرسم و هي لم تزل صغيرة جداً . . عندما بلغت سن الرابعة عشرة وقعت في حب صبي من مثل سنها . فذُعر أبوها و منعها من الخروج بمفردها



لسنة كاملة . و في ذات يوم أَرَتَهْ صوراً لبيكاسو فضحك منها بصوت عالٍ . و لكن، إذا كانت لا تملك الحق في أن تحب صبياً في مثل سنها ، فلها الحق الأقل في أن تحب التكعيبية . ذهبت إلى براغ بعد حصولها على شهادة البكالوريا و هي مرتاحة لشعورها بأن بإمكانها أخيراً أن تخون منزلنا . الخيانة . منذ طفولتنا و الوالد و معلم المدرسة يكرران على مسامعنا بأنها أفظع شيء في الوجود . و لكن ما معنى أن نخون ؟ أن نخون هو أن نخرج عن الصف لنسير في المجهول . و سابينا لم تعرف ما هو أجمل من السير في المجهول . التحقت بمعهد الفنون الجميلة و لكن لم يكن مسموحاً لها بأن ترسم على طريقة بيكاسو . كان يُفْتَرض عليها آنذاك أن تطبق بجدّ ما كان يسمّى بالواقعية الاشتراكية ، و كان الطلاًب في معهد الفنون الجميلة يقومون بإجراء رسوم شخصية لرؤساء الدول الشيوعية . كانت رغبتها إذاً في أن تخون والدها قد بقيت غير مرتوية و السبب أن الشيوعية كانت مجرد أب آخر ، صارم و محدود مثل أبيها ، و يمنع الحب ( كان زمن التزمت هو السائد آنذاك ) و بيكاسو . تزوجت في براغ ممثلاً قليل الذكاء ، و لكنَّها تزوجته فقط لأن صيته كان ذائعاً كواحد غريب الأطوار ، و لأن أبويها ( أباها و الشيوعية ) كانا يعتبرانه غير مقبول . ثم توفيت أمها . في اليوم التالي ، بعد رجوعها إلى براغ وصلتها برقية : انتحر أبوها حزناً على أمها . أخذها الندم : أي خطأ فادح في أن يرسم والدها وروداً في إناء و في ألا يحب بيكاسو ؟ و هل كان خوفه من أن تعود ابنته حبلى و هي في الرابعة عشرة من عمرها ، يُعتبر أمراً ذميماً ؟ و ألا يتمكن من العيش دون زوجته هل هذا أمر يدعو إلى المهزلة ؟ ومن جديد ، رجعت فريسة للرغبة في الخيانة : أن تخون خيانتها بالذات . فأعلمت زوجها ( الذي لم تعد ترى فيه ذلك الرجل غريب الأطوار بل السكير المزعج ) أنها ستتركه . لكن إذ كنا نخون (( ب )) الذي خنَّا من أجله (( أ )) فهذا لا يعني أننا



سنتصالح مع (( أ )) فحياة الرسامة المطلّقة لا تشبه حياة والديها اللذين خانتهما , إن الخيانة الأولى لا يمكن إصلاحها و هي تثير عن طريق النتائج المتوالدة خيانات أخرى حيث تبعدنا كل واحدة منها أكثر فأكثر عن نقطة الخيانة الأولى . الموسيقى : الموسيقى بالنسبة لفرانز هي الفن الأكثر قرباً من الجمال الديونيسي الذي يقدّس النشوة . يمكن لرواية أو للوحة أن تدوّخنا و لكن بصعوبة . أما مع السمفونية التاسعة لبيتهوفن ، أو مع السوناتة المؤلفة من آلتيْ بيانو و آلات النقر لبارتوك ، أو مع أغنية للبيتلز ، فإن النشوة تعترينا . من جهة أخرى فإن فرانز لا يفرّق بين الموسيقى العظيمة و الموسيقى الخفيفة . فهذا التفريق يبدون له خبيثاً و بالياً ، فهو يحب موسيقى الروك و موزار على حد سواء . الموسيقى بالنسبة له محرّرة : إذ تحرره من الوحدة و الانعزال و من غبار المكتبات . و تفتح داخل جسده أبواباً لتخرج النفس و تتآخى مع الآخرين . كما أنه يحب الرقص إلى جانب ذلك و يشعر بالأسى لأن سابينا لا تشاركه هذا الولع . ها إنهما يتناولان العشاء سوية في المطعم ، و مكبرات الصوت ترافق مأدبتهما بموسيقى صاخبة موقّعة . ــ قالت سابينا : أية حلقة مفرغة . الناس يصابون بالصمم لأنهم يضعون الموسيقى عالية و بازدياد و بما أنهم مصابون بالصمم فإنه لا يتبقى لهم و الحالة هذه إلا أن يرفعوا من قوة الصوت بعد . ــ سألتها فرانز : ألا تحبين الموسيقى ؟ ــ لا ، قالت سابينا . ثم أضافت : (( ربما لو عشت في زمن آخر . . . )) . و فكّرت في عصر جان سيباستيان باخ حين كانت الموسيقى أشبه بوردة متفتحة وسط سهل شاسع يكسوه ثلج الصمت . فالضجيج يلاحقها تحت قناع الموسيقى مذ كانت صغيرة . و حين كانت طالبة في معهد الفنون الجميلة ، كان عليها أن تمضي عطلات كاملة في (( ورشة الشبيبة )) كما كانت تُسمّى آنذاك . كان الشباب يقيمون في مخيمات جماعية


، يعملون لبناء مصاهر للحديد . كانت مكبرات الصوت تقذف موسيقى زاعقة من الساعة الخامسة صباحاً إلى الساعة التاسعة . و كانت عندئذ تجتاحها رغبة في البكاء . و لكن الموسيقى كانت فرحة و لا يمكن الإفلات منها في أي مكان ، لا في المرحاض و لا تحت الغطاء في السرير . كانت الموسيقى مثل رهط كلاب أٌفْلِتَ عليها . كانت تعتقد وقتها أن العالم الشيوعي هو العالم الوحيد الذي تسوده بربرية الموسيقى هذه . و لكنها الآن ، في الخارج ، ها إنها تستنتج أن تحوّل الموسيقى إلى ضجيج بات سيرورة كوكبية تُدخل الإنسانية في الطور التاريخي للقبح الشامل . فالطابع الشامل للقبح يعلن عن نفسه عبر القبح السمعي الموجود في كل مكان : السيارات و الدراجات و القيثارات الكهربائية و المطارق الهوائية و مكبرات الصوت و الصفّارات . و لمن يتأخر القبح المنظور عن الظهور في كل مكان ليلحق بالقبح السمعي . بعد أن تعشيا صعدا إلى غرفتهما و مارسا الحب . ثم بدأت الأفكار تختلط في رأس فرانز و هو على عتبة النعاس . كان يتذكر الموسيقى الصاخبة في المطعم و يفكر : (( للضجة حسناتها . فَمعها لا يمكننا أن نميّز الكلمات )) فهو مذ كان صغيراً لابني يتكلم ويكتب و يعطي دروساً و يختلق جملاً و يبحث عن عبارات و يصححها ، إلى درجة لا يعرف أيّاً من الكلمات يعود صحيحاً في النهاية ، فيتلاشى معناها و يفقد من محتواه ، و لا يبقى منها إلا فضلات و ذراوات ، إلا غباراً و رملاً يعوم داخل دماغه و يجعله يشعر بالصداع الذي كان مرضاً ملازماً يؤرّقه . فشعر عندها فجأة برغبة غامضة لا تقاوم في سماع موسيقى هائلة ، في سماع ضجيج مطلق و صخب جميل و فرح يكتنف كل شيء و يُغرق و يختنق كل شيء ، فيختفي إلى الأبد الألم و الغرور و تفاهة الكلمات . فالموسيقى هي نفي للجمل ، هي ضد – كلمة ! كان راغباً في أن يبقى مع سابينا في عناق طويل ، في أن يصمت و ألا يتلفظ بأية جملة تاركاً المتعة تختلط بالجلبة الفاجرة للموسيقى . و على هذا الصخب الوهمي السعيد استغرق في النوم .




الضوء و الظلمة : الحياة بالنسبة لسابينا تعني الرؤية . و الرؤية يحدّها حدّان : الضوء الباهر الذي يعمي البصر و الظلمة التامة . ربّما من هنا مصدر كرهها لكل تطرف . فالحدود القصوى ترسم الفاصل الذي تختفي من بعده الحياة . ثمّ و أن الشغف بالتطرف سواء في الفن أو في السياسة رغبة مقنّعة في الموت . أما كلمة (( ضوء )) فهي لا توحي لفرانز بمنظر يضيئه النهار بعذوبة ، و إنما توحي بمصدر الطاقة بحد ذاته : أي الشمس أو المصباح أو الكشّاف . و تذكّره أيضاً بالاستعارات المألوفة : شمس الحقيقة ، نور العقل الباهر ، إلخ . . . و تجذبه الظلمة كما يجذبه الضوء على حد سواء . في أيامنا هذا يعتبر إطفاء الضوء أثناء ممارسة الحب تصرفاً مثيراً للضحك . هو يعرف ذلك و يترك ضوءاً صغيراً مضاءً فوق سريره . و لكنه لحظةَ يلجُ سابينا يغمض عينيه مع ذلك . و الظلمة التي يراها حينئذ ظلمة كلّية من دون صور أو رؤى ، ظلمة لا متناهية و لا حدود لها . هذه الظلمة هي اللاّنهاية التي يحملها كلٌ منا في أعماقه . ( نعم ، من يفتش عن اللاّنهاية ، ما عليه إلا أن يغمض عينيه ) . و لحظةّ يشعر فرانز بالنشوة تنتشر في حنايا جسده ، يتلّوى و يذوب في اللاّنهاية ، في ظلمة كيانه ليصير هو نفسه اللاّنهاية . لكن كلّما كبر الإنسان داخل ظلمته الداخلية ، كلّما تقلصت هيئته الخارجية . إن رجلاً مغمض العينين ليس إلا فضالة ذاته . و هذا أمر مزعج للرؤية . و سابينا لا تريد أن تنظر إليه حينها بل تغمض عينيها بدورها . و لكنها لا تشعر أن هذه الظلمة بالذات هي اللاّنهاية ، بل هي فقط التنافر مع ما تراه ، و كما و أنها إنكار لما هو مرئي و رفض للرؤية .

4

أقنعت سابينا نفسها أخيراً بالذهاب لحضور اجتماع يقيمه أبناء بلادها . مرةً أخرى ، كان الجدال يدور حول معرفة ما إذا كان يفترض بهم أن يحملوا السلاح لمقاتلة الروس أم لا . من البديهي أن الجميع كان يطالب هنا ، في


حمى الهجرة ، بوجوب القتال . و لكن سابينا اعترضت قائلة : (( عودوا إذاً ! و قاتلوا ! )) . ما كان يجدر بها أن تقول هذا . ها إن رجلاً شعره رمادي و مجعّد عند المزيّن يشهر سبَّابه الطويلة في وجهها : (( لا تتكلمي هكذا . جميعكم مسؤولون عمّا حصل . و أنتِ أيضاً . ماذا كنت تفعلين في بلادك ضد النظام الشيوعي ؟ أكنتِ ترسمين ، هل هذا هو كل شيء ؟ )) . يعتبر تفتيش المواطنين و مراقبتهم من النشاطات الاجتماعية الأساسية و الدائمة في البلدان الشيوعية . فَلِكي ينال رسام حقّه في إقامة معرض أو مواطنٌ على تأشيرة لقضاء عطلته على الشاطئ ، أو لكي تتم الموافقة على انضمام لاعب كرة إلى الفريق الوطني ، يجب أن تجتمع أصلاً كل أنواع التقارير و الشهادات التي تخصهم ، ( شهادة الناطور و زملاء العمل و الشرطة و خلية الحزب و لجنة التأميم ) و هذه التصاريح يجمعها فيما بعد و يقيَّمها و يراجعها موظّفون معدّون لهذه المهمة . أما ما يقال في هذه التصاريح فلا علاقة له البتة بموهبة المواطن في الرسم أو في لعب الكرة ، و لا علاقة له بما إذا كانت تسمح له حالته الصحية بقضاء عطلة على الشاطئ . هناك أمر واحد يهم و هو ما يسمّى (( بالخلفية السياسية للمواطن )) ( أي ماذا يقول المواطن ، بماذا يفكر ، كيف يتصرف ، هل يشارك في الاجتماعات أو في التظاهرات في الأول من أيار) . و بما أن كل شيء ( الحياة اليومية و الترقية و العطلات ) مرتبط بالطريقة التي يقيّمون فيها سلوك المواطن ، فإن الجميع مضطرون إذاً ، ( من أجل اللعب مع الفريق الوطني أو للتمكن من إقامة معرض ، أو لقضاء عطلة على شاطئ البحر ) للتصرف بطريقة تجعل علاماتهم حسنة . هذا ما كانت سابينا تفكر فيه و هي تسمع كلام الرجل ذي الشعر الرمادي . فهو لم يكن يهمه في أي حال أن يلعب أبناء بلاده بكرة القدم أو أن يرسموا بموهبة ، ( على أية حال لم يكن أي تشيكي يهتم إطلاقاً بما كانت ترسمه ) . إنما يهمه شيء واحد مفاده أن يعرف ما إذا كانوا مقاومين إيجابيين أم سلبيين ، في الطليعة أم في المؤخرة ، جديين أم مخادعين ، تجاه النظام الشيوعي .



بما أنها كانت رسَّامة فهي تعرف إذاً مراقبة الوجوه أيضاً مذ كانت في براغ ، سيماء الناس الذين هم مولعون بمراقبة الآخرين و تقييمهم . فأولئك الناس تكون سبّابتهم أطول قليلاً من الوسطى ، و يشهرونها دائماً في وجهه محدثيهم . على أية حال ، الرئيس نوفوتني مثلاً ، الذي حكم بوهيميا طيلة أربع عشرة سنة و حتى 1968 ، كان لديه تماماً الشعر الرمادي نفسه المجعّد عند المزيّن ، و بإمكانه أن يعتزَّ بأنه يملك السبابة الأكثر طولاً بين سكان أوروبا أجمعين . عندما سمع المهاجر المحنك من فم هذه الفنانة ، التي لم يرَ قط لوحاتها قبلاً ، بأنه يشبه ذلك الرئيس الشيوعي ، و احمرَّ عندئذ وجهه ، ثم شحب ، ثم احمرّ من جديد ، ثم شحب ، أراد أن يقول شيئاً فلم يقل ، بل استغرق في الصمت . صمت الجميع معه ، فما كان من سابينا إلا أن نهضت و غادرت . كانت سابينا تشعر بالانزعاج ، و لكن حين أصبحت على الرصيف ، قالت في نفسها : ما الذي كان يجبرها في الواقع على معاشرة تشيكيين ؟ ما الذي يجمعها بهم ؟ منظر ؟ لو طُلب منهم أن يقولوا بماذا تذكّرهم بوهيميا ، فإن هذه الكلمة ستثير في ذاكرتهم صوراً مشتتة لا جامع فيما بينها . أهي الثقافة إذاً ؟ و لكن أية ثقافة ؟ الموسيقى ؟ دوفراك وياناسك ؟ ربمّا . و لكن ماذا لو أن تشيكياً واحداً لا يحب الموسيقى ؟ تصير الهوية التشيكية دفعة واحدة شيئاً باطلاً . أم هل هم الرجال العظام ؟ جان هيوز ؟ لكن هؤلاء الناس لم يقرأوا في حياتهم كتاباً واحداً من كتبه . و الشيء الوحيد الذين بإمكانهم أن يفهموه بالإجماع هو اللهب ، و مجد اللهب الذي أُحرق فيه هيوز بسبب أنه هرطقي ، و من ثم مجد الرماد الذي صاره . و هكذا ، فإن ماهية الروح التشيكية ، فكرت سابينا ، كانت متمثلة في الرماد ، لا أكثر . و هؤلاء الناس لا يجمعهم سوى شيء واحد : هزيمتهم و الملامات التي يوجهها واحدهم للآخر . كانت تسير بعجل و أفكارها بالذات تجعلها أكثر اضطراباً من اختلافها مع المهاجرين . كانت تعرف أن أفكارها مجحفة بحقهم ، و يجدر بها الاعتراف بأن هناك تشيكيين مختلفين عن ذلك الشخص ذي السّبابة المفرطة في الطول . ثم



أن الصمت المزعج الذي عقب الكلمات التي وجهتها له ، لم يكن يعني أن الجميع يعيبون سلوكها . إنما كانوا بالأحرى مذهولين نتيجة هذا الظهور المباغت للحقد و هذا اللاتفهم الذي يقع الجميع ضحيته في الهجرة . و لكن لماذا لم تكن إذاً تشعر بالشفقة حيالهم ؟ لماذا لم تكن تجدهم مثيرين للشفقة و بائسين ؟ سبق لنا أن عرفنا الجواب : حين خانت أباها انكشف لها الحياة فجأة مثل طريق طويلة من الخيانات ، حيث كل خيانة تجذبها كأنها آفة أو انتصار . فهي لم تكن تريد البقاء في الصفّ و لن تبقى فيه ! لن تبقى إلى ما لا نهاية في الصفّ بمعية الناس ذاتهم و الكلمات ذاتها ! لذلك ، فإن إجحافها هي بالذات يثيرها إلى أقصى الحدود . ثم و أن سابينا لا تجد هذه الإثارة القصوى أمراً كريهاً ، لا بل على العكس فهي تشعر بأنها أحرزت انتصاراً و أن أحداً ما غير مرئي يصفّق له . و لكن النشوة أخلت بعد قليل المكان للقلق : سيكون عليها الوصول ذات يوم إلى نهاية هذه الطريق ! سيكون عليها أن تنتهي يوماً من كل هذه الخيانات ! و أن تتوقف نهائياً ! كان المساء قد حلَّ و كانت تمشي بعجلة على رصيف المحطة . كان قطار أمستردام على أهبة الرحيل . بحثت عن قافلتها و قادها مفتش بشوش الوجه إلى المقصورة ففتحت الباب و رأت فرانز جلساً على سرير لا يزال غطاؤه مرتباً . . نهض لاستقبالها فضمته بين ذراعيها و غمرته بالقبلات . كانت تشعر برغبة جامحة لأن تقول له كما تقول أتفه النساء : (( لا تتركني ، احتفظ بي إلى جوارك ، استعبدني ، كن قوياً )) . و لكنها لا تستطيع و لا تعرف أن تتلفظ بمثل هذه الكلمات . عندما أفلت عناقه ، قالت فقط : (( كم أنا سعيدة لأني بقربك ! )) . لم تكن تستطيع أن تقول أكثر من ذلك نظراً لتكتمها الطبيعي .




5

معجم صغير للكلمات غير المفهومة ( تابع ) المواكب : في إيطاليا أو في فرنسا ، بالإمكان إيجاد الحلّ بسهولة . فَحين يجبرك أهلك على الذهاب إلى الكنيسة تنتقم منهم بانضمامك إلى أحد الأحزاب ، ( الحزب الشيوعي أو التروتسكوي أو الماوي ، إلخ ) . أما والد سابينا فقط أرسلها أول الأمر إلى الكنيسة ثم خاف فيما بعد و أجبرها على الالتحاق بالشبيبة الشيوعية . لم تكن قادرة ، حين سارت في موكب الأول من أيار ، على السير بخطىً موزونة . مع أنَّ الفتاة التي خلفها كانت تناديها و تدس عمداً على كاحلها . و إذا كان عليها أن تغني فهي لم تكن تحفظ الكلمات قط بل تفتح فماً أخرس . فلاحظ زملاؤها هذا الأمر و وشوا بها . مذ كانت صغيرة و هي تأنف كل أنواع المواكب . تابع فرانز دراساته في باريس . و بما أنه كان متفوّقاً بشكل استثنائي فإنه ، مذ كان في سن العشرين ، و هو يضمن مهنة علمية أكيدة . و كان يعرف منذ ذلك الحين أنه سيقضي حياته بين جدران المكتب في الجامعة و المكاتب العامة و قاعتين أو ثلاث لإلقاء المحاضرات . كان يشعر عند هذه الفكرة بالاختناق . لذلك كان يرغب في الخروج من حياته كما يخرج المرء من بيته للذهاب إلى الشارع .. كان يسكن في باريس و كان يذهب تلقائياً إلى التظاهرات . كان يُسَر حين يذهب للاحتفال بشيء ما ، و للمطالبة بشيء ما ، و لمعارضة شيء ما . . و حين لا يكون وحيداً بل في الخارج بمعيّة الآخرين . كانت المواكب المتدفقة على جادة سان جرمان أو الوافدة من الجمهورية باتجاه الباستيل ، تسحر لبّه . فالجماهير التي تتقدم هاتفة بالشعارات هي صورة عن أُوروبا و تاريخها . فأوروبا هي مسيرة كبرى ، مسيرة من ثورة إلى ثورة ، من نضال إلى نضال ، و دائماً باتجاه الأمام .


ربما في وسعي أن أعبر عن ذلك بطريقة أُخرى : كان فرانز يشعر أن حياته كانت غير حقيقية بين أوراق الكتب . و كان يتوق إلى الحياة الحقيقية و إلى السير جنباً إلى جنب في ركاب رجال آخرين و نساء أُخريات . كان يتوق إلى صخبهم . لم يكن يدرك أن ما يعتبره غير حقيقي ، بينما المواكب التي كان يعتبرها هي الحقيقة كانت مجرد مشهد أو رقصة أو عيد ، و بكلمة أخرى : حلم . كانت سابينا تسكن و هي لمّا تزل طالبة في مدينة جامعية . و كان الجميع مجبرين في الأول من أيار على الذهاب باكراً إلى نقاط تجمع الموكب . و لكي لا يتغيّب أحد من الطلبة كان هناك طلاب مناضلون و مأجورون يتحققون عما إذا كان المبنى خالياً . كانت تذهب للاختباء في المراحيض و لا ترجع إلى غرفتها إلا حين يمر وقت طويل على انطلاق الجميع ؛ حينها كان يسود صمت لم تشهد له مثيلاً . كانت تصلها من بعيد ارتداد أمواج العالم المعادي . . بعد أن تركت بوهيميا بسنة أو سنتين ، صادف مرورها في باريس في يوم الاحتفال بالذكرى السنوي للاجتياح . كانت تُقام تظاهرة للاحتجاج في ذلك اليوم ، و لم تستطع أن تمنع نفسها من المشاركة فيها , كان هناك شبان فرنسيون يرفعون قبضاتهم زاعقين بشعارات ضد الأمبريالية السوفياتية . و مع أن هذه الشعارات كانت تُعجبها ، إلا أنها اكتشفت بدهشة أنها غير قادرة على الهتاف مع الآخرين . لم تستطع البقاء وسط الموكب إلا لدقائق معدودة : أعلمت بعض الأصدقاء الفرنسيين بهذه التجربة فتعجبوا منها قائلين : (( ألا ترغبين إذاً في النضال ضد اجتياح بلدك ؟ )) . كانت تود أن تقول لهم إن الشيوعية و الفاشية و كل أنواع الاحتلالات تخفي في طياتها سرّاً أكثر خطورة و شمولية . و صورة هذا السَّر تتجلى في مواكب الناس الماشين في صفوف و هم يرفعون قبضاتهم هاتفين بالمقاطع اللفظية نفسها و على نسق واحد . و لكنها كانت تعرف أنها لا تستطيع أن تشرح لهم ذلك ، فأحسَّت بالانزعاج و غيَّرت مجرى الحديث .




جمال نيويورك : كانا يمشيان منذ ساعات طويلة في نيويورك . . كان المشهد يتغير إثر كل خطوة يقومان بها و كأنهما يتعبان شعاباً متعرجة وسط منظر ساحر في أحد الجبال : ثمة شاب يصلي راكعاً وسط الرصيف ، و على مقربة منه زنجية جميلة تتثاءب و هي مستندة على شجرة ، و رجل يرتدي بذلة سوداء يؤشر بيديه ليدير فرقة موسيقية غير مرئية . كان الماء ينساب من فسقيّات بركة جلس حولها بنّاؤون يتناولون غذاءهم . و كانت سلالم معدنية ترتقي واجهات بيوت قرميدية حمراء قبيحة ؛ و هذه البيوت كانت من البشاعة إلى حد أنها صارت جميلة . على مقربة منها تنتصب ناطحة سحاب زجاجية و خلفها ناطحة سحاب أخرى في أعلاها قصر عربي صغير مزدان بالأبراج و القناطر و الأعمدة المذهّبة . كانت تفكر في لوحتها : هناك أيضاً ثمة أشياء تتجاوز مع أن لا علاقة لبعضها ببعض : من الأمام مصاهر حديد في طور البناء و في خلفية اللوحة مصباح . . و في لوحة أخرى مصباح آخر كُمَّته (*) القديمة التي من الزجاج المرسوم تتشظى إلى جزيئات صغيرة تعلو مشهد مستنقعات حزين . قال فرانز : (( كان للجمال الأوروبي على الدوام طابع تعمدي . . و كان هناك في أصله دائماً مقصد جمالي و خطة ذات نفس طويل . . فاقتضى بناء كاتدرائية أو مدينة من عصر الأنوار ، على أساس هذه الخطة ، قروناً طويلة . أما جمال نيويورك فمختلف تماماً . إنه جمال غير تعمدي ، نشأ دون أن يتعمد الإنسان التفكير به كَمِثل مغارة من الماء المتحجر . فهو مؤلف من أشكال قبيحة بحد ذاتها و لكن تجاوزها صدفة و دون أي تصميم مسبق و بشكل غير مرتقب يجعلها تتألق فجأة بشاعرية ساحرة )) . قالت سابينا : (( تقول الجمال غير التعمدي ، صحيح . و يمكننا أن نضيفْ أيضاً الجمال عن غير قصد . فقبل أن يختفي الجمال نهائياً عن وجه الأرض ، سيبقى موجوداً لبعض الوقت إنّما عن غير قصد . فالجمال عن غير


(*)  (Abat – jour )غطاء المصباح أو غلافه . 


قصد هو آخر مرحلة من تاريخ الجمال )) . كانت تفكر في لوحتها الأولى التي تعدُّ ناجحة فعلاً و حيث سال طلاء أحمر عن غير قصد فوقها . نعم ، كانت لوحتها مرسومة وفقاً للجمال غير التعمدي ، و كانت نيويورك الجزء الخفي و الحقيقي من لوحاتها . قال فرانز : (( ربما جمال نيويورك غير التعمدي هو أكثر غنى و تنوعاً بكثير من الجمال المفرط في الصرامة و الذي هيّأته مسبقاً خطة إنسانية . و لكن جمال نيويورك مختلف تماماً عن الجمال الأوروبي . إنه عالم غريب )) . كيف ؟ أيوجد شيء ما يتفقان في الرأي بشأنه ؟ لا ، هنا أيضاً الأمر مختلف . فغرابة الجمال النيويوركي تجذب سابينا بجنون . بينما هي تسحر فرانز و ترعبه في آن و تثير فيه الحنين إلى أوروبا . وطن سابينا : تتفهم سابينا تحتفظ فرانز حيال أمريكا . فهو مثال حي لأوروبا : أمّه أصلها من فيينا و أبوه فرنسي ، أما هو فسويسري . فرانز معجب بوطن سابينا . و هو ، حين تحدثه عنها و عن أصدقائها في بوهيميا ، و حين يسمع بكلمات سجون و مداهمات و دبابات في الشوارع و هجرة و مناشير و أدب ممنوع و معارض ممنوعة ، يشعر برغبة غامضة مفعمة بالحنين . و يُسرّ لسابينا : (( كتب عني أحد الفلاسفة مرةً )) . فقال إن كل ما أقوله ليس إلا نظريات منزّهة عن أية براهين ، و وصفني (( بأني أكاد أكون سقراط الهائل )) ، فشعرت عندها بأنه بالغ في إهانتي و رددت عليه بغضب . تخيّلي أن هذه الحادثة التافهة هي الأخطر التي شاهدتها في حياتي ! و أن حياتي أدركت بها أقصى حد ممكن من إمكاناتها المأسوية ! يعيش كلُّ منّا نحن الإثنين في مستويات مختلفة . دخلتِ إلى حياتي كما دخل غوليفر إلى مملكة الأقزام . سابينا تحتج إن الصراعات و الفواجع و المآسي لا تعني شيئاً البتة



و لا قيمة لها ، و هي لا تستحق الاحترام أو الإعجاب . فكل ما يمكن للجميع أن يحسد فرانز عليه هو العمل الذي يتمكن من إنجازه في سلام . يهز فرانز رأسه قائلاً : (( الناس في المجتمعات الميسورة ، ليسوا بحاجة إلى الأعمال اليدوية بل يكرسون أنفسهم للنشاط الذهني . لذلك فإن الجامعات في ازدياد مطَّرد و الطلاب أيضاً . و لكي يحظوا بشهاداتهم ، عليهم أن يختاروا مواضيع لإجازاتهم . و هناك عدد غير محدد من المواضيع فبالإمكان معالجة كل ما يخطر في الأذهان . و ها هي أكداس الورق المسوَّد تملأ الدوائر التي صارت أكثر حزناً من المقابر لأن لا أحد يأتي إليها و لا حتى في عيد القديسين . و هكذا فإن الثقافة تغرق في بحر من الكتب و في وابل من الجمل ، و في جنون الكميَّة . صدقيني ، إن كتاباً واحداً ممنوعاً في بلدك القديم لأهمّ بكثير من مليارات الكلمات التي تقذف بها جامعاتنا )) . في هذا الاتجاه بالذات يمكن أن يُفهَم ضعف فرانز حيال كل أنواع الثورات . فهو في السابق تعاطف مع كوبا ثم مع الصين ، ثم اشمأزت نفسه من فظاعة نظاميهما و خلص للاقتناع بمرارة بأنه لم يتبقَ له إلا هذا المحيط من الحروف التي لا قيمة لها و لا علاقة لها بالحياة . أصبح مدرّساً في جامعة جنيف ( حيث لا تظاهرات ) ونَشَر بنوع من التفاني ( كان يعيش في عزلة دون نساء و لا مواكب ) عدة أعمال علمية لاقت الكثير من النجاح . و في ذات يوم انبثقت سابينا مثل ظهور عجيب . كانت آتية من البلاد التي ذبلت فيها الأوهام الثورية منذ وقت طويل ، و لكن التي بقي منها أكثر ما كان يعجبه في الثورات و هو : الحياة التي تعاش فوق السلم العظيم للخطر و الشجاعة و الموت المهدّد . كانت سابينا تعيد له الثقة بعظمة المصير الإنساني . كانت جميلة بقدر ما تتراءى خلف قامتها مأساة بلادها الأليمة . للأسف ، سابينا لا تحب هذه المأساة . و كلمات سجون و مداهمات و كتب ممنوعة و احتلال و دبابات هي بالنسبة لها كلمات بشعة مجردة من أية حلاوة رومنطيقية . أما الكلمة الوحيدة التي لا تزال تظن في أذنيها مثل ذكرى حنين لبلادها هي كلمة مقبرة




المقبرة : المقابر في بوهيميا تشبه الحدائق . و الأضرحة هناك يكسوها العشب (( الأزهار الفاقعة الألوان .و الأنصاب الوضيعة تختفي وسط اخضرار الأوراق . منذ المساء تكتظ المقبرة بشموع صغيرة مضاءة ، فيُخيل للمرء أن الموتى يقيمون حفلة راقصة طفولية ، لأن الموتى أبريا كالأطفال . مهما تكن الحياة أليمة ، ففي المقبرة يُخيّم السلام على الدوام ، حتى خلال الحرب في عهد هتلر و في عهد ستالين ، و في ظلّ الاحتلالات . و حين كانت تشعر أنها حزينة ، كانت تركب سيارتها و تنطلق فيها بعيداً عن براغ لتتنزه في إحدى مقابرها المفضلة . كانت هذه المقابر الريفية على خلفية تلال مائلة إلى الزرقة ، جميلةٌ وكأنها مُهود . أما فرانز فهو يجد أن المقابر مزبلة قذرة من العظام و الحصى .

6

(( لن أصعد أبداً في سيارة بعد اليوم . يخالجني خوف عظيم من أن أصاب بحادث سيارة ! حتى و لو لم تكن الضربة قاضية ، فإن الصدمة التي تعقبها ترافقنا حتى نهاية أيامنا ! )) ، كان النحات يقول ذلك و هو ممسك بطريقة لا إرادية بسبّابته التي أوشك أن يقتطعها أثناء نحته الخشب ، و التي نجح الأطباء في إنقاذها بفضل معجزة . كانت ماري - كلود تزعق بلهجة مستوفية للأصول : (( ليس صحيحاً ما تقول . لقد حصل لي حادث سيارة و كان الأمر رائعاً . ما شعرت قط في حياتي أنني كنت أحسن حالاً مما أنا عليه في المستشفى ! لم أكن أستطيع أن أغمض جفناً و كنت أقرأ بطريقة تصل الليل بالنهار )) . كان الجميع ينظرون بدهشة ملأتها بالسرور عياناً. امتزج انقباض فرانز ( الذي كان يتذكر أن زوجته كانت محبطة للغاية إثر هذا الحادث و لا تتوقف عن النحيب )) بشيء من الإعجاب ( فموهبة ماري – كلود هذه في أن تبدّل صورة معاناتها تنمّ عن حيويّة جديرة بالاحترام ) .


ثم أردفت : (( هناك في المستشفى بدأت أصنّف الكتب إلى فئتين : الكتب النهارية و الكتب الليلية . و هذا صحيح ، هناك كتب للنهار و كتب أُخرى لا يمكن قراءاتها إلا في الليل )) . كان الجميع ينظرون إليها بدهشة يعتريها الإعجاب . وحده النحات الذي كان يمسك إصبعه قد تقيّض وجهه من ذكرى أليمة . التفتت ماري – كلود ناحيته : (( ضمن أي مجموعْة تضع ستاندال ؟ )) . لم يكن النحات مصغياً فرفع كتفيه بانزعاج . ثم قال ناقد فنّي ، كان على مقربة منه ، إن قراءة ستاندال هي حسب رأيه قراءة نهارية . أومأت ماري – كلود برأسها معلنة بصوتها الزاعق : (( هذا ليس صحيحاً ! لا و لا ، ثم لا ، أنت لست محقاً  ! ستاندال كاتب ليلي )) . كان فرانز يتابع النقاش عن الفن الليلي و النهاري من بعيد ، و كان لا يشغل باله إلا اللحظة التي ستدخل فيها سابينا . كانا قد فكرا سوية لبضعة أيام ما إذا كان مستحسناً أم لا أن تقبل سابينا الدعوة إلى حفلة كوكتيل تقيمها ماري – كلود على شرف جميع الرسامين و النحاتين الذين عرضوا في صالتها الخاصة . ذلك أن سابينا مذ تعرفت على فرانز ، و هي تتحاشى رؤية زوجته . و لكنها إذ خشيت أن تفضح نفسها ، اقتنعت بأن مجيئها سيكون أكثر طبيعياً أكثر و أقل إثارة للشبهة . و بما أنه كان يسترق نظرات خاطفة إلى المدخل ، تنبّه إلى أن صوت ابنته ماري – آن ، التي تبلغ ثماني عشرة سنة ، يخطب بإطناب و دون توقف في عمق الصالون . ترك المجموعة التي تترأسها زوجته لينظم إلى الحلقة التي تتزعمها ابنته ، حيث كان هناك شخص جالس على الأرض و الآخرون واقفين بينما ماري – آن جالسة على الأرض أمام المدعوين كان يعتبر آنذاك تصرفاً يؤكد على أن المرء طبيعي يتصرف على سجيته و تقدمي و اجتماعي و باريسي . و كانت ماري – كلود مشغوفة كثيراً بالجلوس على الأرض و في كل الأمكنة




المتوفرة . . حتى أن فرانز كان يخشى في أغلب الأحيان أن يجدها جالسة على أرض الدكان الذي تشتري منه السجائر . سألت ماري – آن الرجل الذي كانت تجلس أمامه : (( ماذا تفعل هذه الأيام يا آلان ؟ )) . فأراد آلان الساذج و الشريف أن يجيب بدقة على ابنة صاحبة الصالة . و أخذ يشرح لها طريقته الجديدة في الرسم و التي تجمع بين التصوير و الرسم بالزيت . ما كاد يلفظ ثلاث جمل حتى أطلقت ماري – آن صفيراً . لكن الرسّام كان مركّز الذهن فلم يسمع صفيرها و تابع يتكلم ببطء . همس فرانز : (( هل في استطاعتك أن تقولي لي لماذا تصفرين ؟ . ــ (( لأنني أكره التحدث في السياسة )) ، أجابت ماري – كلود بصوت عالٍ . كان هناك رجلان ، في الواقع ، واقفين في الحلقة نفسها يتحدثان في شأن الانتخابات الفرنسية المقبلة . فسألتهما ماري – آن التي كانت تشعر أنها معنية بإدارة الأحاديث عما إذا كان في استطاعتها الذهاب في الأسبوع المقبل إلى المسرح حيث ستقدم فرقة إيطالية أوبرا لروسّيني . فيما آلان الرسّام لا يزال مصراً على إيجاد عبارات أكثر دقة لكي يشرح طريقته الجديدة في الرسم ؛ و كان فرانز خجلاً من ابنته فقال لها ليسكتها بأنه يضجر حتى الموت حين يذهب لمشاهدة الأوبرا . قالت ماري – آن و هي تربت على بطن أبيها دون أن تحاول النهوض : (( أنت لا تفهم شيئاً . المغّني الرئيسي . جميل جداً ! يا إلهي كم هو جميل ! رأيته مرتين و منذ ذلك الوقت و أنا متيمة به )) . كان فرانز يتحقق من أن ابنته تشبه أمها بشكل لا يرقى إلى الشك . لكن لماذا لا تشبه هو بالأحرى ؟ الأمر لا رجاء فيه ، فهي لا تشبهه . سبق له ألف مرة أن سمع ماري – كلود تقول بأنها مغرمة بهذا الرسام أو بذاك ، أو بمغنّ أو بكاتب أو برجل سياسي ، و حتى أنها أُعجبت مرةً براكب درّاجات . جلَّي أن هذا الأسلوب في الكلام هو الأسلوب المتبع في مآدب العشاء في المدينة و الحفلات ، لكنه كان يتذكر أحياناً أنها ، منذ عشرين



عاماً ، قالت فيما يخصّه الكلام ذاته و هددته إلى ذلك بالانتحار . في هذه اللحظة بالذات ، دخلت سابينا . رأتها ماري – كلود فتقدمت لاستقبالها كانت ابنته تتابع حديثها روسيني ، و لكن فرانز كان آذاناً صاغية فقط لما تقول المرأتان فيما بينهما . بعد بضع جمل مؤدبة مرّحبة ، أمسكت ماري – كلود بالعقد الخزفي الذي كانت تضعه سابينا حول عنقها و قالت بصوت عالٍ جداً : (( ما هذا الذي تضعينه ! إنه مرعب ! )) . استأثرت هذه الجملة بانتباه فرانز . لم تكن ملفوظة بنبرة عدائية على العكس ، يُفترض بالضحكة العالية التي واكبتها أن تؤكد على الفور أن استهجان ماري – كلود للعقد لا يغيّر شيئاً في صداقتها للرسامة . . و لكن هذه الجملة لم تكن تندرج مع ذك في سياق اللهجة التي تخاطب بها ماري – كلود الآخرين عادةً . ــ (( صنعتهُ بنفسي )) ، قالت سابينا . ــ (( أجده مرعباً صراحة )) ، كررت ماري – كلود بصوت عالٍ . (( ما كان يجدر بك أن ترتديه . كان فرانز يعرف أن زوجته لا يهمها إطلاقاً أن تكون حيلة ما قبيحة أم جميلة . كان قبيحاً ما كانت ترغب في رؤيته قبيحاً ، و جميلاً ما كانت تود أن تراه جميلاً . لذلك ، كانت حلى صديقاتها جميلة عن سابق تصور . ربّما كان يمكنها أن تجدها قبيحة لكنها كانت تخفي ذلك بعناية ، فالإطراء صار منذ زمن بعيد طبيعتها الثانية . لماذا قررت إذاً أن تجد الحلية التي صنعتها سابينا بنفسها قبيحة ؟ كان الأمر ينجلي فجأة لفرانز : إذا كانت ماري – كلود قد صرّحت بأن حلية سابينا قبيحة ، فهذا لأنها قادرة على السماح لنفسها بأن تقول ذلك . في العالم الفائت ، لم يكن عرض سابينا ناجحاً بما فيه الكفاية و لم تكن ماري – كلود تهتم البتة بكسب ودّ سابينا . بل خلافاً لذلك ، كان لسابينا جميع الدوافع التي تدعوها لاكتساب ودّ ماري – كلود . و مع ذلك فإن تصرفها لم يفصح عن هذا الأمر .



نعم ، بدأ فرانز يفهم ذلك بوضوح كلي : اغتنمت ماري – كلود الفرصة لتؤكد لسابينا ( و للآخرين ) ما هو ميزان القوى الحقيقي الذي يحدد علاقتهما .

7

معجم صغير للكلمات غير المفهومة ( خاتمة ) كنيسة أمستردام القديمة : من جهة ، هناك البيوت التي تُرى من خلف نوافذها الكبيرة في الطوابق السفلية و الشبيهة بواجهات المخازن ، غرف العاهرات الصغيرة . ها هنّ جالسات في ملابسهن الداخلية لصق الزجاج على كنبات صغيرة مزدانة بالوسائد ، و كأنهنَّ قطط ضخمة ضجرة . و في الجهة الأخرى من الشارع كنيسة غوطية هائلة تعود إلى القرن الرابع عشر و بين عالم العاهرات و عالم المؤمنين تمتد ، مثل نهر فاصل بين مملكتين ، رائحة بول نفّاذة . من الداخل ، لم يبق من الفن الغوطي غير الجدران العالية العارية و الأعمدة و القبة و النوافذ . لا وجود لِلَوحة أو لتماثيل في أي مكان . و الكنيسة خاوية مثل قاعة تمارين رياضية . كل ما نراه فيها عبارة عن صفوفٍ من الكراسي في الوسط تشكل مربَّعاً حول منصة منمنمة تنتصب فوقها طاولة الواعظ الصغيرة ، و خلف الكراسي ثمة مقصورات خشبية و هي حجيرات معدّة للعائلات الثرية . الكراسي و الحجيرات الخشبية موضوعة هنا دون أدنى اهتمام بالشكل الهندسي للجدران و نسق الأعمدة ، و كأنها بذلك تريد أن تعبر عن لامبالاتها و عن احتقارها لفن العمارة الغوطي . قرون مرّت الآن على تحويل الإيمان الكلفاني الكنيسة إلى مجرد سقيفة بسيطة لا وظيفة لها غير حماية المصلّين المؤمنين من الثلج و المطر . كان فرانز مسحوراً : فهذه الصالة الهائلة قد عبرتها المسيرة العظيمة للتاريخ .


كانت سابينا تتذكر أن جميع قصور بوهيميا قد تأممت بعد الانقلاب الشيوعي و تحولت إلى مراكز تدريب و إلى مؤسسات للعجزة ، و إلى زرائب أيضاً . . قامت بزيارة إحدى هذه الزرائب : كانت هناك كلاليب بحلقات مثبتة إلى جدران الجصّ ، و الأبقار التي كانت معلّقة فيها تنظر حالمة عبر النوافذ إلى حديقة القصر حيث كانت تهرول دجاجات . قال فرانز : (( هنا الفراغ يسحرني . نكدّس المذابح و التماثيل و الصور و الكراسي و الكنبات و السجاجيد و الكتب ، ثم يأتي وقت البهجة الجماعية المحررة فيتم تكنيس كل هذا كما تكنّس الفضلات عن الطاولة . . هل في استطاعتك أن تتخيلي مكنسة هرقل التي كنست هذه الكنيسة ؟ )) . أشارت سابينا إلى حجيرة خشبية : (( كان الفقراء يبقون واقفين و الأثرياء جالسين في حجيراتهم . لكن هناك شيء يجمع مع ذلك بين صاحب المصرف و الفقير و هو : مَقْت الجمال )) . (( ما هو الجمال ؟ )) قال فرانز و قد فكّر فجأة بمعرض شاهده مؤخراً برفقة زوجته . فكّر بتفاهة الأحاديث التي لا تنتهي ، بتفاهة الثقافة و تفاهة الفن . عندما كان تلميذة ، كانت تعمل في (( ورشة الشباب )) ، و كانت روحها قد تشبعت سمَّ الأبواق المبتهجة المتدفقة دون توقف من مكبرات الصوت ، فانطلقت ذات يوم أَحَد راكبة على درّاجة . كانت توغّلت بضعة كيلومترات داخل غابة ، ثم توقفت في مدينة صغيرة مجهولة ضائعة وسط التلال . أسندت الدرّاجة إلى حائط الكنيسة و دخلت : كانوا يحتفلون لساعتهم بالقداس . . كان النظام الشيوعي آنذاك يضطهد الدين و كانت أغلبية الناس تتحاشى الذهاب إلى الكنائس . كان هناك بضعة عواجز جالسين عْلى المقاعد لا يهابون النظام بل يهابون الموت فقط . كان الكاهن يتلفظ جملة بصوت رخيم فيرددها الجمع وراءه سوية . كانت الجمل عبارة عن طلبات حيث تتكرر الكلمات ذاتها مثل ساح لا يمكنه إشاحة بصره عن منظر ، و مثل رجل لا يستطيع الاستئذان بالانصراف أبداً . جلست على مقعدٍ في الخلف . كانت تغمض عينيها أحياناً لا لشيء إلا لسماع موسيقى هذه الكلمات ، ثم تفتحهما من جديد فترى فوقها القبة



المطلية بالأزرق التي تزينها نجوم ذهبية كبيرة . فاستسلمَتْ للسحر . ما صادفته في هذه الكنيسة على غير موعد لم يكن الله بل الجمال . كانت تعرف جيداً في الوقت نفسه أن هذه الكنيسة و هذه الطلبات لم تكن جميلة بحدّ ذاتها و إنما هي جميلة بالمقارنة مع تجاوزها اللاَّمادي مع (( ورشة الشباب )) حيث كان تمضي أيامها في خضم الأغاني الصاخبة . كان القداس جميلاً لأنه بدا لها فجأة و بطريقة خفية و كأنه عالم جرت خيانته . أدركت منذ ذلك الحين أن الجمال هو عالم جرت خيانته و لا تمكن مصادفته إلا حين ينساه مضطهدوه عن غير قصد في مكان ما . . كان الجمال يختبئ خلف (( ديكورات )) موكب الأول من أيار ، و لكي يتم العثور عليه ، يجب تمزيق قماشة (( الديكور )) . قال فرانز : (( إنها المرة الأولى التي أقع فيها تحت تأثير سحر كنيسة )) . لم تكن البروتستانتينية أو التقشف هما اللذان يثيران حماسه ، إنما شيء آخر جوّاني صميم ، و لم يكن يجرؤ على الإفصاح عنه لسابينا . كان يُخيل إليه أنه يسمع صوتاً يُملي عليه أن يمسك بمكنسة هرقل و يكنس حياته معارض ماري – كلود و مغني ماري – آن و المؤتمرات و الندوات و الأحاديث التافهة و الكلمات التافهة . بدا له فراغ المساحة الشاسعة لكنيسة أمستردام و كأنه صورة انعتاقه الخاص . القوّة : كانت سابينا تلهو بذراعي فرانز في سرير من أسرّة الفنادق العديدة التي كانا يتضاجعان فيها ، و تقول : (( عجيب ، كم أن عضلاتك مفتولة ! )) . كان هذا الثناء يدخل السرور إلى قلب فرانز . نهض عن السرير ثم أمسك كرسياً من خشب السنديان من رِجله و شرع يرفعه ببطء عن مستوى الأرض . كان يقول لسابينا في الوقت نفسه . ــ (( لا خوف عليك ، أستطيع الدفاع عنك في كل الظروف . كنت بطلاً في الجودو من زمان )) .



نجح في رفع ذراعه عمودياً و هو يحمل الكرسي . ثم قالت له سابينا : (( يسعدني أن أراك قوياً إلى هذا الحد! )) . و لكنها أضافت في سرّها ما مفاده : فرانز قوي و لكن قوته موجهة فقط نحو الخارج . أما مع الناس الذين يعيش بينهم ، مع أولئك الذين يحبهم فهو ضعيف . ضعف فرانز يسمّى الطيبة . فرانز ليس على استعداد إطلاقاً لأن يوجه أوامر لسابينا . فهو لن يأمرها أبداً ، كما كان توماس يفعل في السابق ، بأن تضع المرآة على الأرض و أن تجول فوقها عارية تماماً . ليس لأن الشهوية تنقصه بل لأنه لا يقوى على إعطاء الأوامر . ثمة أشياء لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق العنف . و العلاقة الجنسية خاصة لا يمكن تصورها من دون العنف . كانت سابينا تنظر إلى فرانز و هو يجول الغرفة رافعاً الكرسي عالياً جداً . كان الأمر يبدو لها مثيراً للسخرية و يملؤها بحزن غريب . ألقى فرانز الكرسي و جلس مستديراً ناحية سابينا ثم قال : ــ (( ليس أمراً لا يروقني أن أكون قوياً ، و لكن بماذا يمكن أن تنفعني عضلات كهذه في جنيف ؟ أحملها معي و كأنها زينة ، كأنها ريشات الطاووس . لم يسبق لي أن ضربت أحداً في حياتي )) . كانت سابينا تلاحق أفكارها الكئيبة . ماذا لو أحبّت رجلاً كان يريد إعطاءها الأوامر ؟ من هو ذلك الذي سيرغب في التحكم بها ؟ و كم من الوقت ستتحمله ؟ و لا حتى خمس دقائق ! من هنا ، فإن أيَّا من الرجال لا يناسبها ، سواء كان قوياً أم ضعيفاً . ــ قالت : (( و لماذا لا تستعمل قوتك ضدي من وقت لآخر ؟ ــ قال فرانز برقّة : لأن الحب يعني أن نتخلّى عن القوّة )) . ففهمت سابينا أمريّن : الأول أن هذه الجملة كانت جميلة و صحيحة ، و الثاني أنه يوشك مع هذه الجملة أن يتجرد من صلاحيته في حياتها الجنسية .



العيش في الحقيقة : إنها عبارة استعملها كافكا في يومياته أو في إحدى رسائله . لم يعد فرانز يتذكر أين بالضبط . و لكن هذه العبارة تسحره . فما معنى أن نعيش في الحقيقة ؟ ثمة تعريف سلبي سهل : معناه ألاّ نكذب و ألا نُخفي و ألا نتكتم . و هو مذ تعرَّف إلى سابينا ، يعيش في الكذب فَتَارةَ يحكي لزوجته عن مؤتمر في أمستردام ، و تارة أخرى عن محاضرات في مدريد لا أساس لها من الصحة . و هو أيضاً يخاف من التنزه برفقة سابينا في شوارع جنيف . أن يكذب و أن يتخفى أمر ممتع لمجرّد أنه لم يفعل ذلك من قبل ، فهو يشعر عندها بدغدغة لذيذة كما عندما يقرر الأول في صفّه أخيراً أن يتنزه بدل الذهاب إلى المدرسة . أما العيش في الحقيقة و عدم الكذب على أنفسنا أو على الآخرين ، بالنسبة لسابينا ، فأمر غير ممكن ، إلا إذا عشنا بعيداً عن الناس ، فَما أن يكون هناك شاهد على أعمالنا حتى نتأقلم طوعاً أو كرهاً مع النواظر التي تراقبنا ، فلا يعود أي شيء مما نقوم به حقيقياً . أن نحظى بجمهور و أن نفكر بجمهور ، فهذا يعني أن نعيش في الكذب . سابينا تكره الأدب الذي يكشف فيه الكاتب عن حياته الخاصة أو عن حياة أصدقائه الخاصة . . و تفكر سابينا أن ذلك الذي يفقد حياته الخاصة يفقد كل شيء . و أن من يتجلى عنها بكامل إرادته ، إنما هو مسخ . لذلك فإن سابينا لا يؤلمها أن يكون عليها أن تُخفي حبّها , بل على العكس ، هذه هي وسيلتها الوحيدة لكي تعيش في الحقيقة . أما فرانز فهو متأكد أن أصل جميع أنواع الكذب يكمن في الفصل بين الحياة الخاصة و الحياة العامة : حين يكون المرء شخصاً في حياته الخاصة و شخصاً آخر في حياته العامة . فالعيش في الحقيقة ، بالنسبة لفرانز ، هو إلغاء الفاصل بين الخاص و العالم . و هو يتذكر في هذه المناسبة تلقائياً جملة لبروتون يقول فيها إن كان يود أن يعيش (( في منزل من زجاج )) ، حيث لا شيء خفيّ و كل شيء مُشّرع للأنظار كلها . عندما سمع زوجته تقول لسابينا : (( يا للحلية المريعة ! )) ، فهم عندئذ أنه




بات من المستحيل العيش في الكذب . و أنه كان عليه منذ تلك اللحظة أن يبادر للدفاع عن سابينا . و إذا لم يكن قد فعل ذلك ، فهذا فقط لأنه خاف من أن يُفتضَح أمرٌ حبّه السري أمام الناس . غداة اليوم التالي بعد الحفلة ، كان يُفترض به الذهاب لقضاء يومين في روما . كانت الكلمات : (( يا للحلية المريعة ! )) تظنّ من دون توقّف في أذنيه ، و بدت له زوجته في إطار وجهة نظر مختلفة . لم تعد كما كان يراها دائماً . إن عدائيتها المنيعة و الصاخبة و الديناميكية أزاحت عنه ثقل الطيبة الذي كان يرزح تحته طيلة عشرين سنة زواج . تذَّكرت المساحة الشاسعة داخل كنيسة أمستردام ، فأحس بالحماس الغريب و الغامض الذي يثيره فيه هذا الفراغ ، يتدفق في أعماقه . كان يجهز حقيبته عندما دخلت ماري – كلود إلى الغرفة . أخذت تتحدث عن مدعوي البارحة ، مصدّقة بحماس بعض الآراء التي سمعتها ، و مُدينةً بفظاظة بعضها الآخر . شخص فرانز إليها طويلاً ، ثم قال : (( ليست هناك محاضرة في روما )) . لم تكن تفهم : (( و لماذا تذهب إلى هناك إذاً )) . فأردف : (( لدي عشيقة منذ تسعة أشهر . لا أريد أن أراها في جنيف . لذلك أسافر بكثرة . فكرت أنه من المستحسن أن أخبرك بذلك )). حين تفوّه بالكلمات الأولى أحسّ بالخوف و غادرته شجاعته الأولى . فأشاح بوجهه كي لا يقرأ على وجه ماري – كلود وقع اليأس الذي تحدثه كلماته . بعد لحظة قليلة سمعها تقول : (( نعم . أنا أيضاً أعتقد أنه من المستحسن أن تخبرني بذلك )) . كانت نبرة كلماتها حازمة . رفع عينيه ناحيتها : لم تكن ماري – كلود منهارة قط . بل كانت لا تزال تشبه المرأة التي كانت تقول بصوت زاعق : (( يا للحلية المريعة ! ))



ثم تابعت قائلة : (( بما أنك تملك الشجاعة لإعلامي بأنك تخونني منذ تسعة أشهر ، هل تستطيع أن تقول لي أيضاً مع مَنْ ؟ )) . كان يدّعي دائماً أنه لا يُفترض به أن يؤذي ماري – كلود ؟ و بطريقة أخرى ، أين أصبحت صورة الأم التي كانت تربطه بزوجته ؟ صورة أمّه ، أمّه الحزينة المجروحة التي ارتدت فردتْي حذاءٍ مختلفتين ، غادّرت ماري – كلود ، و ربما لم تغادرها لأنها لم تكن موجودة فيها أصلاً . فهم كل هذا نتيجة هجمة مباغتة للكراهية . فقال : ليس هناك ما يدعو لأخفي عليك . بما أن خيانته أمر لا يجرحها ، فسيجرحها بالطبع أن تعرف من هي غريمتها . لفظ اسم سابينا و هو ينظر مباشرة إلى عينيها . بعد وقت قليل ، وافى سابينا إلى المطار . كان ، كلّما عَلَتْ الطائرة يشعر أنه يصير أكثر خفة . كان يقول في نفسه إنه في نهاية الشهر التاسع ، ها قد بدأ أخيراً يعيش في الحقيقة .

8

كان الأمر في نظر سابينا كما لو أن فرانز يقتحم باب حياتها الخاصة عنوة ، فترى من الشقّ رأس ماري – كلود و رأس ماري – آن و رأس الرسام الآن و رأس النحّات الذي كان يمسك بإصبعه طيلة الوقت ، و رؤوس جميع الناس الذي تعرفهم في جنيف . كانت تصبح رغماً عنها غريمة امرأة لا تعني لها شيئاً إطلاقاً . . ففرانز سيبادر إلى الطلاق و هي ستأخذ مكانها إلى جانبه على سرير زوجي كبير . و ستكون محط أنظار الجميع من قريب أو بعيد . و بدل أن تكون سابينا ، ستكون مرغمة على تمثيل دور سابينا و إيجاد الطريقة المناسبة للعبة . و هكذا ، فإن الحب الذي صار علانيّاً سيزداد وزناً ليصير حملاً ثقيلاً . كانت سابينا ، لمجرد التفكير بذلك ، ترزح تحت ثقله سلفاً . كانا يتناولان العشاء في أحد مطاعم روما و يشربان الخمرة ، و كانت سابينا قليلة الكلام .


فسأل فرانز : (( هل صحيح أنك لست غاضبة مني ؟ )) . فأكدت له أنها ليست غاضبة منه . كانت أفكارها مشوشة و لا تعرف تماماً و لا تعرف بعد ما إذا كان عليها أن تهلّل للأمر أم لا . كانت تفكر في لقائهما في عربة النوم لقطار أمستردام . شعرت في ذلك المساء برغبة في الارتماء عند قدميه و التوسل إليه ليستبقيها قربه حتى و لو اضطرّه الأمر لاستعمال القوة ، و ألا يدعها ترحل أبداً . كانت راغبة ذلك المساء في أن تنهي حساباتها نهائياً مع هذا السفر الطويل من خيانة إلى خيانة . كانت ترغب في التوقف . الآن ، ها هي تحاول أن تتمثل في ذهنها و بأقصى حدة ممكنة ، رغبتها السابقة ، أن تستعيدها و تتقوّى بها ، و لكن عبثاً . كان الشعور بالضيق أقوى من كل شيء . كانا متوجهين إلى الفندق وسط عجقة المساء ، و كان الإيطاليون حولهما يفرقعون و يزعقون و يشوّرون بأيديهم ، بحيث إنهما كانا يستطيعان المشي جنباً إلى جنب صامَتْين فلا يسمعا صمتهما . بعدها ، أمضت سابينا وقتاً طويلاً في الحمام و هي تهتم بنفسها . و كان فرانز أثناء ذلك ينتظرها تحت غطاء السرير الزوجي الواسع . و كان هناك كالعادة مصباح صغير مضاء . حين رجعت من غرفة الحمام ، أطفأت الضوء ، هذه هي المرة الأولى التي تتصرف فيها على هذا النحو . كأن يُفترض بفرانز أن يرتاب لهذا التصرف و لكنه لم ينتبه لأن الضوء لا يثير اهتمامه . فهو ، كما رأينا ، يبقى عينيه مغمضتين أثناء المجماعة . و لهذا السبب بالذات ، و لأنه كان يغمض عينيه ، أطفأت سابينا الضوء فهي ليس لديها أدنى رغبة في رؤية أجفانه المطبقة و لو لثانية واحدة . العيون ، كما يقول المثل ، هي نوافذ النفس . و هي كانت تشعر أن جسد فرانز ، الذي يتخبط فوقها و هو مغمض العينين ، جسد دون روح . كان شبيهاً بحيوان صغير لا يزال غير قادر على الرؤية فيرسل أصواتاً مستعطفة لأنه عطشان . كان فرانز بعضلاته المفتولة يشبه أثناء الجماع جرواً ضخماً يرضع من ثدييها . و هذا



صحيح ، كانت حلمتها الآن في فمه و كأنه يهّم بأن يرضع ! كانت تفكر أن فرانز ناضج في الأسفل و رضيع في الأعلى ، و أنها تضاجع رضيعاً ، مما جعلها توشك أن تشعر بالتقزز . لا ، هي لا تريد بعد اليوم أن تراه أن يتخبط بائساً فوقها و لن تمد له بعد الآن ثديها كما تمد كلبة ثديها لصغيرها . اليوم ، هذه آخر مرة ، إنها المرة الأخيرة التي لا رجوع فيها ! كان جلياً أنها تعرف أن قرارها ظلم خاص ، و أن فرانز هو أفضل رجل عرفته . فهو ذكي و يفهم لوحاتها و طيّب و شريف و جميل . و لكنها كانت كلّما وعْت هذه الصفات ، تعنّف رغبتها في أن تنكث بهذا الذكاء و هذه الطيبة و هذه القوة الخرقاء . أحبتّه في هذه الليلة بحمية أكثر توقداً من أي وقت مضى . كانت تستثيرها فكرة المرّة الأخيرة . كانت تعشقه ، محلّقة في مكان بعيد آخر بعيداً من هنا ، كانت تسمع بوق الخيانة الذهبي صادحاً في البعيد ، و كانت عارفة أنها غير قادرة على مقاومة هذا الصوت . بدا لها أن ثمة مسافة أخرى شاسعة من الحرية مشرعة أمامها ، و أن اتساع هذه المسافة يثيرها . و في أثناء ذلك ، كانت تعشق فرانز بجنون و بوحشية ، كما لم تعشقه من قبل . كان فرانز يشهق فوق جسدها و هو متأكد من أنه فهم كل شيء : فسابينا كانت صامتة أثناء العشاء و لم تفضح له عن رأيها بقراره ، و لكنها الآن تعطيه الجواب : ها هي تفضح له عن فرحتها و شغفها و موافقتها و رغبتها في أن نعيش معه إلى الأبد . كان يلوح له أنه فارس يخيّل في فراغ رائع ، في فراغ دون زوجة و دون ولد و دون بيت . فراغ رائع كنّسه بمكنسة هرقل . فراغ رائع سيملؤه بحبّه . كان يمتطي أحدهما الآخر و يخيّلان باتجاه مسافات يحلمان بها . كان كلاهما منتشياً من خيانة تحرّره . كان فرانز يمتطي سابينا و يخون زوجته ، و سابينا تمتطي فرانز و تخون فرانز .





9

لعشرين سنة خلت ، كان يرى أمه في زوجته أشبه بكائن ضعيف تجدر حمايته . . و هذه الفكرة كانت عميقة التجذر في كيانه حتى يستطيع التخلص منها في يومين . كان الندم يتآكله عندما رجع إلى المنزل : ربمَّا أصيب بنوبة عصبية بعد رحيله ، ربما سيجدها مثقلة بالأحزان . ثم أدار المفتاح داخل القفل بخجل و ولج إلى غرفته . حرص ألاَّ يحدث ضجة ثم أرهف السمع : نعم ، كانت في البيت . بعد تردد قليل ، ذهب ليقول لها صباح الخير كعادته . رفعت حاجبيها و هي تصطنع الدهشة : (( أرى أنك عدت إلى هنا ؟ )) . رغب في أن يجيبها ( بدهشة صادقة ) : (( و أين تريدين أن أذهب ؟ )) ، و لكنه صمت . ثم أضافت : (( لكي يكون كل شيء واضحاً بيننا ، لا أرى مانعاً في أن تقيم عندها منذ الآن )) . عندما باح لها بكل شيء يوم رحيله لم تكن لديه خطة معيّنة . كان على استعداد لدى عودته للتحدث إليها بمودة كلية حتى يقلّل ما أمكن من الأذيّة التي قد يسببّها لها . لم يكن يعلم أنها ستصر بعناد بارد على أن يرحل . شعر بأنه خائب من أن هذا التصرف كان يسهّل له الأمور . كان حريصاً طيلة حياته ألا يجرحها و بسبب هذا فقط ، فرض على نفسه الالتزام الطوعي بزواج أحادي خابل للذهن . و ها إنه يستنتج الآن و في نهاية العشرين سنة أن مراعاته كلها كانت غير مجدية ، و أنه قد امتنع عن النساء بسبب سوء تفاهم ! ذهب تواً ، بعد أعطائه المحاضرة في الجامعة في فترة بعد الظهر ، إلى سابينا . كان في نيته أن يطلب منها السماح له بقضاء الليلة عندها . قرع الجرس و لكن أحداً لم يفتح ، فذهب لانتظارها في المقهى المقابل و عيناه مسمّرتان على مدخل البناية . مرّت ساعات و لم يكن يدري ماذا يفعل . كان قد نام طيلة حياته في


سرير واحد إلى جوار ماري كلود . لو رجع الآن ، أيفترض به أن يتمدد قربها كما كان يفعل من قبل ؟ يمكنه بالتأكيد أن ينام على الأريكة في الغرفة المجاورة . و لكن ألن يكون هذا التصرف استعراضياً جداً ؟ ألن ترى زوجته فيه إفصاحاً عن العداء ؟ كان على استعداد لأن يبقى صديقاً مع زوجته ! و لكن أن يذهب للنوم بجانبها فهذا أمر مستحيل . كان يسمع من الآن أسئلتها المستهزئة : كيف ؟ ألا تفضل البقاء في سرير سابينا ؟ فآثر عندها أن يقضي الليلة في أحد الفنادق . رجع صباح اليوم التالي يدقُ على باب سابينا طوال النهار ، و دائماً دون جدوى . في اليوم الثالث ذهب يسأل الناطورة و لكنها لم تكن تعرف شيئاً ، فأرسلته إلى مالكة المحترف . اتصل بها و علم أن سابينا رحلت أول البارحة مسددة إيجار الأشهر الثلاثة المقبلة كما كانت تنص ورقة الإيجار . حاول لأيام عدة أن يضبط سابينا في البيت ، إلى أن وجد ذات يوم باب الشقة مفتوحاً . كان هناك ثلاثة رجال في ثياب زرقاء ينقلون الأثاث و اللوحات ليضعوها في شاحنة كبيرة متوقفة أمام المنزل . سألهم أين سينقلون الأثاث . أجابوا أنه من المحظّر عليهم بتاتاً أن يُخبروا أحداً عن العنوان . كان يهمُّ بأن يدس في جيوبهم بعض الأوراق المالية ليكشفوا له عن السر ، و لكنه وجد نفسه عاجزاً . كان الحزن يشلُّه تماماً فلا يفهم شيئاً و لا يستطيع أن يصرّح بما في نيته . كان يعرف فقط أنه كان يتوقع حدوث هذه اللحظة مذ تعرّف إلى سابينا . و ها قد حدث ما كان يجب أن يحدث . و فرانز لا يودّ الدفاع عن نفسه . وجد شقة صغيرة في المدينة القديمة . ثم مرَّ بمنزله السابق ، بعد أن تأكد من أن زوجته و ماري – آن غير موجودتين هناك ، و أخذ بعض الثياب والكتب الضرورية . ولكنه حرص على ألا يحمل معه شيئاً يمكن أن يسيء إلى ماري – كلود .



لمحها ذات يوم خلف زجاج صالة للشاي . كانت برفقة سيدتين . كان وجهها الذي حفرت فيه زمان إيماءاتها المفرطة تجاعيد لا حصر لها ، مفعماً بالحيوية . كانت السيدتان تستمعان إليها و لا تتوقفان عن الضحك . . لم يستطع فرانز أن يمتنع عن التفكير بأن هو موضوع حديثها . فمن المؤكد أنها عرفت أن سابينا اختفت من جنيف لحظة قرر الذهاب للعيش معها . إنها حكاية مُضحكة بالفعل ! و هو لا يمكنه أن يُفاجأ و الحالة هذه بأن يكون مَضْحكة صديقات زوجته . عاد إلى مسكنه الجديد حيث يستطيع أن يسمع جرس كاتدرائية مار بطرس . جرى تسليمه في هذا اليوم بالذات طاولة من أحد المخازن . فنسي عندها ماري – كلود و صديقاتها ، و نسي لوهلة سابينا أيضاً . كان مسروراً من أنه اختار الطاولة بنفسه . منذ عشرين سنة و هو يعيش وسط أثاث لم يختره بنفسه . فماري – كلود كانت تهتم بهذه الأمور وحدها . ها إنه يتخلص من كونه صبيّاً صغيراً ، للمرة الأولى ، ليصير رجلاً ناضجاً . و في الغد سيأتي النجّار فيوصيه على المكتبة التي كان أمضى عدة أسابيع في تصميم شكلها و حجمها و مكانها . يا للعجب ، أدرك فجأة أنه لم يكن تعيساً . كان حضور سابينا الجسدي أقل أهمية مما تصوّر . فالأهمّ منه هو الأثر الذهبي ، الأثر السحري الذي تركته في حياته و الذي لا يستطيع أحد بعد اليوم حرمانه منه . كما و أنها قد تسنّى لها ، قبل أن تختفي من أفقه ، أن تدس في يده مكنسة هرقل فيكنّس بها من حياته كل ما لم يكن يحبه . إن هذه السعادة المباغتة و هذا الانشراح و هذه الغبطة التي تمده بها حريته و حياته الجديدة ، و هذا هو الحاضر الذي تركته له سابينا . على أية حال ، ألم يكن قد فضّل دائماً اللاواقعي على الواقعي . فكما أنه كان يشعر بالارتياح في المواكب ، ( و التي هي ، كما قلت ، ليست سوى مشهد أو حلم ) أكثر مما يحس بذلك من وراء المنبر حيث يلقي المحاضرات . كان مع سابينا عندما كان يجولان العالم معاً و هو خائف على حبّه مع كل




خطوة . ها قد منحته أُعطية الحرية المباغتة للرجل الذي يعيش وحده ، و زيّنته بهالة الإغراء . صارت النساء تجده جذّاباً و ها إن إحدى طالباته تقع في غرامه . و هكذا بغتة ، و في فترة وجيزة للغاية ، تبدّل ديكور حياته كله . كان يسكن في شقة بورجوازية كبيرة مع خادمة و ابنة و زوجة . أما الآن فهو يجد نفسه في شقة صغيرة مفروشة في المدينة القديمة ، و صديقته الشابة تأتي لقضاء الليل عنده كل مساء تقريباً ! فهما ليسا بحاجة للذهاب إلى فنادق العالم كله لكي يضاجعها ، بل بإمكانه أن يفعل ذلك في شقته الخاصة و على سريره الخاص و بحضور كتبه و منفضته الموضوعة على طاولة السرير . لم تكن جميلة و لا قبيحة و لكنها أكثر فتوة منه بكثير . كانت معجبة بفرانز كإعجاب فرانز بسابينا من قبل . و لم يكن الأمر غير ممتع . و إذا كان بإمكانه ربّما أن يعتبر استبداله سابينا بطالبة ترتدي نظّارات بمثابة انحطاط صغير ، فإن طيبته مع ذلك ، كانت تحرص على أن يستقبلها بسرور و يشعر حيالها بمحبة أبوية لم يستطع إشباعها من قبل . فماري – كلود لم تكن تتصرف على أنها ابنته و لكن على أنها ماري – كلود ثانية . ذات يوم ذهب لرؤية زوجته و قال لها إنه راغب في الزواج من جديد . هزّت ماري – كلود رأسها أن لا . (( و لكن إذا تطلقنا ، لن يتغير شيء و لن تخسري شيئاً . فسأترك لك شيء ! )) . قالت : ـــ المال لا أهمية له بالنسبة لي . ـــ ما الذي يهمك إذاً ؟ ــ الحب . قال فرانز متعجباً : الحب ؟ أطلقت ماري – كلود ابتسامة : (( الحب صراع و سأقاتل وقتاً طويلاً . حتى النهاية .



ــ الحب صراع ؟ ليست لي أدنى رغبة في القتال )) ، قال فرانز و خرج

10

أمضت سابينا أربع سنوات في جنيف ، ثم سكنت بعدها في باريس . و لكنها لم تكن تتوصل قط لأن تَشفى من كآبتها . و لو أن أحداً سألها عما أصابها لما استطاعت أن تعبّر عن ذلك بكلمات . يمكن اختصار مأساة حياة (( باستعارة )) الثقل . نقول مثلاً إن حملاً قد سقط فوق أكتافنا . فنحمل هذا الحمل . نتحمله أو لا نتحمله و نتصارع معه ، و في النهاية إما أن نخسر و إما أن نربح . و لكن ما الذي حدث مع سابينا بالضبط ؟ لاشيء . افترقت عن رجل لأنها كانت راغبة في الافتراق عنه . هل لاحقها بعد ذلك ؟ هل حاول الانتقام ؟ لا . فمأساتها ليست مأساة الثقل إنما مأساة الخفة . و الحمل الذي سقط فوقها لم يكن حملاً بل كان خفة الكائن التي لا تُطاق . حتى الآن ، كانت لحظات الخيانة تملؤها نشوة و فرحاُ خصوصاً لدى التفكير بأن طريقاً جديدة ستمتد أمامها ، و أن في آخر هذا الطريق مغامرة خيانة جديدة . و لكن ما الذي سيحدث لو أنّ هذا السفر انتهى ؟ يمكن لنا أن نخون أهلاً و زوجاً و حباً و وطناً ، لكن ما الذي يتبقى حين لا يعود هناك أهل لنخونهم أو زوج أو حبّ أو وطن ؟ كان سابينا تشعر بالفراغ يحيط بها . أيكون هذا الفراغ بالذات هو الهدف من خياناتها مجتمعة ؟ من البديهي أنا لا تعي هذه الحقيقة ، و هذا شيء مفهوم : فالهدف الذي نلاحقه محجوب عنا دائماً . . حين ترغب فتاة شابة في الزواج فهي ترغب في شيء تجهله تماماً . و الشاب الذي يركض وراء المجد لا يملك أدنى فكرة عن المجد . لذلك ، فإن الشيء الذي يعطي معنى لتصرفاتنا شيء نجهله تماماً . سابينا أيضاً ما هو الهدف من رغبتها في الخيانة . أيكون الهدف منها الوصول إلى الخفة غير المحتملة للكائن ؟ منذ رحيلها عن جنيف و هي تقترب أكثر فأكثر من هذا الهدف . ثلاث سنوات مضت على إقامتها في باريس عندما تلقت رسالة من


بوهيميا . رسالة من ابن توماس . كان قد سمعهم يتحدثون عنها فاستدلّ على عنوانها و قرر أن يكتب لها رسالة بصفتها (( الصديقة المقرّبة جداً من أبيه )) . و أخبرها عن موت تيريزا و توماس . . كان يقول في رسالته إنهما عاشا سنواتهما الأخيرة في قربة حيث كان يعمل توماس كسائق شاحنة . كانا يذهبان في أغلب الأحيان إلى المدينة المجاورة و يقضيان الليلة هناك في فندق صغير . كان في الطرقات تلالاً و منعطفات كثيرة فسقطت الشاحنة في الوادي و عُثر على جثتيهما مهشمتين تماماً . و اكتشفت الشرطة أن الفرامل كان في حالة سيئة للغاية . لم تكن حالها لتستقيم إثر هذا الخبر ، فهو الخيط الأخير الذي يربطها بالماضي ، و قد انقطع . تبعاً لعادتها القديمة ، حاولت أن تخفف عن نفسها بالقيام في جولة إلى إحدى المقابر . كانت المقبرة الأقرب مقبرة مونبارناس . و المقبرة تتألف من بيوت حجرية هزيلة و من مصلّيات منمنمة وسط القبور . لم تكن سابينا تفهم لماذا يرغب الموتى في أن يُقام فوقهم ما يُشبه القصور . هذه المقبرة هي الغرور ممثلاً في حجر . فبدل أن يكون سكان المقبرة أكثر تعقلاً بعد موتهم ، فإنهم أكثر حماقة مما كانوا و هم على قيد الحياة . كانوا يعرضون أهميتهم من خلال الأنصاب . لم يكن أولئك الراقدون هنا آباءً أو أخوة أو أبناء أو جدّات بل وجهاء و موظفين في الحكومة و أناساً ذوي ألقاب و رتب شرف . حتى أن أي موظفٍ في البريد كان يعرض أمام الملأ رتبته و درجته و وضعه الاجتماعي – أي قيمته ، بتفاخر . لاحظت و هي تمشي في أحد ممرات المقبرة أنه كان يتم دفن أحدهم بعيداً قليلاً من هنا . كان رئيس التشريفات يحمل أزهاراً ملء ذراعيه و يوزعها على الأقارب و الأصحاب : زهرة لكل واحد منهم . مدَّ زهرة لسابينا ، فانضمت إلى موكب الجنازة . كان يجب الطواف حول أنصاب عدة للوصول إلى حفرة التي نزعت عنها شاهدة القبر . انحنت فوقها . كانت الحفرة عميقة جداً . أفلتت الزهرة . رسمت الزهرة دوائر صغيرة ثم سقطت فوق النعش . لا توجد قبور بهذا العمق في بوهيميا . فالقبور في باريس عميقة قدر ما هي البيوت عالية . استرعى نظرها الحجر الذي ينتظر على حدة إلى جانب



الحفرة ، فملأها هذا الحجر رعباً ، فعادت مسرعة إلى البيت . فكرت النهار بطوله بهذا الحجر . لماذا يرعبها إلى هذا الحد ؟ فكرت بهذا الجواب : (( إذا كانوا يقفلون القبر بحجر ، فهذا لئلا يتمكن الميت من الخروج أبداً )) . و لكن في جميع الأحوال ، لن يتمكن الميت من الخروج من قبره ! أكان راقداً تحت التراب الصلصالي أم تحت حجر فالأمران سيّان ! لا ، الأمران ليسا سيّان : إذا كنا نقفل القبر بحجر فهذا لأننا لا نرغب في رجوع الميت . الحجر الثقيل يقول له : (( إبقَ حيث أنت ! )) . تذكرت سابينا قبر أبيها . فوق النعش ترب صلصالي و فوق هذا التراب تنبت أزهار ، كما و تمد شجرة قيقب جذورها إلى النعش . يمكن إذاً أن نتصور أن الميت يخرج من قبره عبر هذه الجذور و هذه الأزهار . فلو كان أبوها مغطى بحجر لما كانت تمكنت من التحدث إليه بعد موته . و لما أمكنها قط أن تسمع صوته و هو يغفر لها ، عبر أوراق الأشجار . لكن ، ماذا يمكنه أن يشبه القبر حيث يرقد توماس و تيريزا ؟ مرة أخرى عاودت التفكير فيهما . كانا يذهبان أحياناً إلى المدينة المجاورة و يقضيان الليل في الفندق . هزّها هذا المقطع من الرسالة لأنه كان شاهداً على أنهما كانا سعيدين . كانت ترى ثانية توماس و كأنه طالع من إحدى لوحاتها : في المقدمة دون جوان مثل ديكور خادع مرسوم بيد رسام ساذج ، و من أحد شقوق هذا الديكور يلوح لنا تريستان . لكن توماس مات بصفته تريستان و ليس بصفته دون جوان . والدا سابينا توفيا في الأسبوع نفسه ، أما توماس و تيريزا ففي اللحظة ذاتها . شعرت فجأة برغبة في أن تكون مع فرانز . عندما حدثته عن نزهاتها إلى المقابر ، أصيب بالغثيان و شبَّه المقابر بمزبلة من العظام و الحصى . . في ذلك اليوم ، امتدت بينهما هاوية انعدام التفاهم . .. و لكنها الآن فقط في مقبرة مونبارناس فهمت ما كان يعنيه ، و شعرت بالأسف لأنها لم تكن صبوة . لو بقيا معاً فترة أطول ، لربّما كان شرعا شيئاً فشيئاً في فهم الكلمات التي ينطقان بها ، و لربما أخذت مفرداتهما تقترب بحياء و بطء مثل عاشقْين خجولين للغاية . و لربما بدأت موسيقى كل


منهما تنصهر في موسيقى الآخر . و لكن الأوان قد فات . أجل ، الأوان قد فات . و سابينا تعرف أنها لن تبقى في باريس بل ستذهب أبعد ، أبعد بكثير . فهي لو ماتت هنا ، سيقفلون القبر عليها بحجر . و هذه فكرة لا تحتملها امرأة لا تعرف الراحة و لا تريد أن يوقفها أحد في سعيها . 11 كان جميع أصدقاء فرانز على علم بما جرى له ماري – كلود ، و على علم بما جرى له مع ماري – كلود ، و على علم أيضاً بما يجري له مع طالبته صاحبة النظارة الكبيرة . لكن وحدها قصة سابينا بقيت خافية على الجميع . كان فرانز مخطئاً حين اعتقد أن ماري – كلود تتحدث عنه أمام صديقاتها . و السبب أن سابينا جميلة و ماري – كلود لا ترغب في أن يقارب أحد بين وجهيهما . لا يسبق له أن طلب منها أية لوحة أو رسم أو حتى صورة شخصية لخوفه من أن يُفصح أمره . و بذلك ، اختفت من حياته دون أن تترك أثراً . أمضى معها أجمل سنة في حياته و لكن لم يتبقَ منها أي دليل محسوس . كان يشعر برغبة متزايدة في أن يبقى مخلصاً لها . حين يكونان لوحدهما في الغرفة ، ترفع صديقته الشابة أحياناً رأسها عن كتابها و تنظر إليه نظرة مستجوبة (( بماذا تفكر ؟ )) . فرانز جالس في الكنبة و عيناه مسمّرتان في السقف . و مهما يكن جوابه ، فهو بالتأكيد يفكر في سابينا . حين ينشر دراسة في مجلة علمية ، تكون صديقته أول من يقرأها و ترغب في مناقشته بخصوصها . أما هو فيفكر في ما ستقوله سابينا عن هذا البحث . فكل ما يفعله ، يفعله من أجل سابينا و بالطريقة التي ترضي سابينا . إنها لخيانة بريئة للغاية و معدّة على مقاس فرانز الذي لا يقدر إطلاقاً على الإساءة إلى الطالبة صاحبة النظارة . إذا كان يُنمي عبادة سابينا فهذا دين أكثر منه حب . على أية حال ، لقد جاء في لاهوث هذا الدين أن تُرسِل سابينا عشيقته الشابة : فبيْن حبه الأرضي وحبه ما فوق الأرضي يسود وئام تام . و بالمقارنة مع حبه ما فوق الأرضي الذي يتضمن بالضرورة ( بسبب أنه ما فوق أرضي ) جانباً كبيراً من الغموض و الاستغلاق ( فلنتذكر بهذا الخصوص معجم الكلمات غير المفهومة ، و تلك اللائحة الطويلة من تباين وجهات النظر ! ) فإن حبه الأرض يستند إلى تفاهم حقيقي . الطالبة أكثر فتوة بكثير من سابينا ، و مقطوعة حياتها لا تزال في أوّلها ، و هي تُدخل فيها كل اللوازم الموسيقية التي استعارتها من فرانز ، و بعرفان جميل . فكما أنّ مسيرة فرانز الكبرى نقطة جوهرية في إيمانها ، كذلك الموسيقى بالنسبة لها كما بالنسبة له نشوة ديونيسية . و هما يذهبان مراراً إلى الرقص ، يعيشان في الحقيقة و لا شيء مما يفعلانه خافٍ على أحد . و هما يسعيان لاكتساب ودّ الأصدقاء و الزملاء و الطلاب و المجهولين فيجالسانهم و يشربان و يثرثران معهم بمودة كلية . كما و ينطلقان معاً مرات عديدة للذهاب بنزهة إلى جبال الألب . ينحني فرانز إلى الأمام فتقفز الفتاة فوق ظهره و يجري بها عبر الحقول ملقياً بصوت عالٍ قصيدة ألمانية طويلة كانت أمه قد علَّمته إياها عندما كان صغيراً . تنفجر عندها الحبيبة بالضحك و تتعلّق برقبته مبدية إعجابها بمأبضيه و كتفيه و رئتيه . لكن الشيء الوحيد الذي لا يفهمه هو هذا التعاطف الخاص ، الذي يغذّيه فرانز في داخله ، مع جميع البلدان الرازحة تحت وطأة روسيا . في الذكرى السنوية للاجتياح الروسي ، نظمت مجموعة تشيكية احتفالاً بالمناسبة . كان هناك قليل من الناس في الصالة . و كان الخطيب رمادي الشعر مجعّدة عن المزين . كان يقرأ خطاباً طويلاً و ينجح في أن يجعل خونة المتحمسين الآتين إلى سماعة يضجرون . يتكلم الفرنسية دون خطأ و لكن بلكنة شنيعة . و هو من وقت لآخر يشهر سبّابته ليؤكد على فكرته ، كما لو أنه يريد تهديد الناس الجالسين في الصالة . الطالبة صاحبة النظارة جالسة إلى جانب فرانز و هي تكتم تثاؤباً . فيما فرانز يبتسم بطريقة بلهاء . عيناه شاخصتان إلى الرجل ذي الشعر الرمادي و الذي يجده لطيفاً بسبّاته العجيبة . يقول في نفسه إن هذا الرجل وسيط سري ، ملاك ينقل الرسائل بينه و بين آلهته . فيغمض عينيه و يحلم . يغمض عينيه كما أغمضهما في السابق على جسد سابينا في خمسة عشر فندقاً في أوروبا و فندق من أميركا .




القسم الرابع الروح و الجسد

1

رجعت تيريزا إلى البيت نحو الساعة الواحدة و النصف صباحاً ، فتوجهت إلى غرفة الحمام ، ثم ارتدت البيجاما و ارتمت على السرير إلى جانب توماس . كان نائماً . انحنت فوق وجهه ، و عندما وضعت شفتيها اشتمت عند شعره رائحة غريبة . فدسَّت منخريها هناك طويلاً ، تستنشقه مثل كلب . و فهمت أخيراً : إنها رائحة أُنثوية ، رائحة فرج امرأة .

عند الساعة السادسة ، رنّ المنبّه . كان هذا موعد استيقاظ كارينين . فهي تصحو دائماً قبلهما بوقت طويل من غير أن تجرؤ على إزعاجهما . كانت تنتظر بصبر رنين المنبه الذي يعطيها الحق في أن تقفز على السرير لتركل جسديهما و تداعبهما بخطمها . . حاولا في البداية أن يمنعاها عن ذلك فطرداها عن السرير ، و لكن الكلبة كانت أكثر عناداً من صاحبيها و فرضت في النهاية حقوقها . على أية حال ، استنتجت تيريزا مؤخراً بأن دعوة كارينين لافتتاح النهار ، أمر ممتع . لحظة الاستيقاظ بالنسبة لكارينين سعادة خالصة : فهي تتعجب بسذاجة بلهاء من أنها لا تزال في هذا العالم فُتسر لذلك صراحةً . أما تيريزا فتستيقظ غصباً عنها راغبة في إطالة الليل ، و في ألاَّ تفتح عينيها . 

الآن ، كانت كارينين تنتظر في المدخل و عيناها تنظران إلى المشجب حيث كان طوقها و مقودها معلقين . وضعت تيريزا الطوق حول رقبتها ، و ذهبتا لشراء الحاجيات . اشترت حليباً و خبزاً و زبدة كالعادة فطيرة لكارينين . في طريق العودة ، كانت كارينين تنطنط حولها و الفطيرة في فمها . لا شك في أنها

كانت تنظر حولها بفخر و سرور لأنها تلفت انتباه الآخرين فيشيرون إليها بالبنان . في البيت ، بقيت مترقبة عند عتبة الغرفة و الفطيرة في فمها ، انتظرت أن يلاحظ توماس وجودها فيقرفص بادئاً بالنباح و متظاهراً بأن سيأخذ الفطيرة منها . كان هذا المشهد يتكرر يومياً : كانا يلاحقان بعضهما عبر الشقة لمدة خمس دقائق ، إلى أن تختبئ كارينين تحت الطاولة و تلتهم بلمح البصر فطيرتها . ولكنها عبثاً انتظرت هذه المرة الاحتفال الصباحي . كان هناك جهاز ترانزستور موضوع على الطاولة ، و توماس يستمع .

2

كان الراديو يبث برنامجاً خاصاً بالمهاجرين التشيكيين . و هو يجمع أحاديث خاصة مسموعة بطريقة سرية و مسجلة من قبل جاسوس اندسَّ بين المهاجرين ليرجع إلى بلاده و يزعق بها هنا . كان البرنامج يتضمن ثرثرات تافهة مطعمة من وقت لآخر بكلمات نابية عن النظام المحتل . و يتضمّن أيضاً جملاً يتناوب فيها المهاجرون وصفَ بعضهم بأنهم أغبياء و مخادعون . كان البرنامج يشدد على هذه المقاطع بالذات . لأنه كان يجب الإثبات أن أولئك الناس يتكلمون بالسوء ليس عن الاتحاد السوفياتي فحَسب ( فهذا الأمر لا يشجبه أحد من سكان بوهيميا ) بل يتبادلون أيضاً النمائم دون تردد و يشبعون بعضهم شتماً . الغريب في الأمر أننا نسمع الكلمات البذيئة من الصباح حتى المساء ، و لكن يكفي أن نسمع عبر الراديو شخصية معروفة توقّع جملها بكلمات مثل (( إنهم يجعلونني أتغوّط )) ، فنشعر بالخيبة رغماَ عنا . (( ها إنهم يستلهون ببروشازكا ! )) ، قال توماس دون أن يتوقف عن الإصغاء . كان يان بروشازكا روائياً في الأربعين من عمره و يفيض بحيوية ثور . بدأ بانتقاد الوضع في بلاده جهازاً قبل 1968 بوقت طويل . كان أحد



رجال ربيع براغ الأكثر شعبية . ربيع براغ ، ذلك التحرير المدوّخ للشيوعية الذي انتهى بالاجتياح الروسي . بعد الاجتياح بقليل ، أخذت الصحف تزعق كلها صيحة الهجوم على الطريدة ، و لكن كلَّما كان بروشازكا محاصراً ، كان حب الناس يزداد . كان الراديو ( كنا في سنة 1970 ) يستهل إذاً على شكل حلقات بثّ أحاديث خاصة لبروشازكا ، كان قد أجراها قبل سنتين ( أي في ربيع 1968 ) مع أُستاذ جامعي . لم يكن أي من الرجلين يشك في أن جهازاً للتنصّت قد أُخفي في شقة الأستاذ ، و أنه يتم التجسس منذ زمن بعيد على أدنى حركة يقومون بها . كان بروشازكا يسلّي أصدقاءه دائماً بمبالغاته و شتائمه . و ها قد صار في الإمكان سماع هذه الشتائم في سلسلة حلقات عبر الإذاعة . عُنِيتْ الشرطة السرية ، التي نسّقت مقاطع هذا البرنامج ، و بالتشديد على المقطع الذي يسخر فيه الروائي من أصدقائه ، من دوبتشك مثلاً . و بالرغم من أن الناس لا يفوتون فرصة إلا يشتمون فيها أصدقاءهم ، فإنهم مع ذلك كانوا ساخطين على بروشازكا الذي يعبدونه أكثر مما كانوا ساخطين على الشرطة السرية التي يكرهونها ! أطفأ توماس الراديو و قال : (( هناك شرطة سرية في جميع أنحاء العالم . و لكنها فقط في بلادنا تبث تسجيلاتها عبر الإذاعة ! شيء عجيب ! )) . قالت تيريزا : (( ليس إلى الحد الذي تتصور ! عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري ، كنت أكتب يومياتي . و كنت أخاف من أن يقرأها أحد ، فخبّأتها في العليّة إلى أن عثرت عليها أمي في النهاية . و ذات يوم ، حين كنا نحتسي الشورباء أثناء الغذاء ، أخرجَتْها من جيبها و قالت : (( اسمعوني جيداً كلكم ! )) . ثم أخذت تقرأ بصوت عالٍ ، و عند كل جملة تتلوى من فرط الضحك . و قهقه معها الجميع ناسين متابعة الأكل )) .

3

كان يحاول دائماً إقناعها في أن تتركه يتناول إفطاره بمفرده ، و أن تبقى نائمة ، و لكنها كانت تعارض . فتوماس كان يعمل من الساعة السابعة حتى الرابعة ، و هي من الساعة الرابعة حتى منتصف الليل . و إذا لم يتناولا الإفطار



سوية ، فمعنى هذا أنهما لن يستطيعا التحدث إلى بعضها حتى يوم الأحد . كانت تنهض إذاً حين تنهض ، ثم حين يذهب تعود لتندس في السرير و تعفو . و لكنها كانت خائفة ، في ذلك النهار بالذات ، من أن تعود للنوم ثانية . فهي تريد الذهاب عند الساعة العاشرة إلى حمامات السونا في جزيرة صوفيا . كان هناك الكثير من الهواة و القليل من الأمكنة ، و لم يكن في المستطاع الحصول على مكان إلاَّ بفضل توصية . لحسن الحظ ، كانت أمينة الصندوق زوجة أستاذ مطرود من الجامعة ، و الأستاذ صديق لمريض قديم عند توماس . تكلّم توماس مع المريض مع الأستاذ ، و الأستاذ مع زوجته فحصت تيريزا أخيراً على مكان محجوز لها مرة في الأسبوع . ذهبت سيراً على الأقدام تحاشياً للقطارات المزدحمة دوماً حيث يتدافع الناس ملتصقين بعضهم ببعض بعدائّية ، و يدوس بعضهم أقدام البعض و يتنازعون أزرار المعاطف و يتبادلون الشتائم . كانت السماء تمطر رذاذاً . فأخذ المارّة يسرعون الخطى رافعين فوق رؤوسهم مظلاتهم المفتوحة . و فجأة بدأوا يتدافعون على الأرصفة . كانت قبب المظلات تتصادم . كان الرجال مؤدبين لدى مرورهم قرب تيريزا فيرفعون مظلاتهم عالياً ليفسحوا لها المجال . أما النساء فلم يكنً يتنحين قيد أُنملة . بل كن ينظرن أمامهن بوجوه قاسية ، و ينتظرن أن تعترف كل واحدة منهن للأخرى بأنها الأضعف فترضخ . كان لقاء المظلات يتحول إلى امتحان للقوى . في أول الأمر ، كانت تيريزا تحيد عن الطريق ، و لكن حين فهمت أن أدبها لم يكن يقابل بالمثل ، تسلّحت بمظلتها مثل الأخريات . مرات عديدة اصطدمت مظلتها بعنف بمظلة قادمة في اتجاهها و لكن أيّاً من النساء لم تكن تعتذر . كان يجري كل ذلك وسط الصمت . لمرتين أو ثلاث ، سمعت فقط : (( عاهرة ! )) أو (( تْفِهْ ! )) . كان هناك بين النساء المسلحات صبايا و ناضجات ، و لكن الصبايا كن الأكثر ضراوة في القتال . كانت تيريزا تتذكر أيام الاجتياح ، حين كانت الفتيات يرتدين تنانير قصيرة و يرحن و يجئن رافعات علم بلادهن على عصيّ . كان تصرفهن هذا أشبه بمداهمة جنسية للجنود الروس المجهزين لعدة سنوات من



العفّة . لا بدَّ أنهم كانوا يخالون أنفسهم في براغ موجودين على كوكب اخترعه كاتب خيال علمي ، على كوكب مسكون بنساء أنيقات فوق العادة و يعبرن عن احتقارهن عارضات سيقاناً طويلة رشيقة لم تشهد روسيا بأكملها لها مثيلاً منذ ما يربو على خمسة أو ستة قرون . خلال تلك الأيام ، التقطت صوراً لا تحصى لهؤلاء النساء الشابات ، على خلفية من الدبابات . كم كانت معجبة بهن آنذاك ! و لكنها اليوم ، ترى هؤلاء النساء بالذات يتقدمن ببقائها مشاكسات و شريرات . كن يرفعن مظلة بدل العلم و يحملنها بالتفاخر نفسه . كن على استعداد لأن يجابهن جيشاً أجنبياً و المظلة التي ترفض الإفساح للمرور ، بالضراوة ذاتها .

4

بلغت ساحة (( المدينة القديمة )) حيث تنتصب كاتدرائية (( ثيْن )) الصارمة و البيوت الباروكية المنتظمة وفقاً لمربعات غير متساوية . كان فندق المدينة ، الذي يعود إلى القرن الرابع عشر و الذي كان يحتل في الماضي قسماً كبيراً من الساحة ، متهدماً منذ سبعة و عشرين عاماً . إن فرصوفيا و دريسد و كولونيا و بودابست و برلين ، كل هذه المدن تغيرت معالمها بشكل مريع أثناء الحرب الأخيرة ، و لكن سكانها أعادوا بناءها و ترميم الأحياء التاريخية بشغف و عناية فائقة . كانت هذه المدن تثير في سكان براغ عقد نقص . فالمبنى التاريخي الوحيد الذي هدمته الحرب في مدينتهم هو فندق المدينة القديم هذا . لذلك قرروا الاحتفاظ إلى الأبد بأنقاضه خائفين من أن يلومهم أي بولوني أو ألماني على أنهم لم يعانوا بما فيه الكفاية . أمام هذه الخِرب الشهيرة التي يُفترض بها أن تبقى إلى الأبد شاهد اتهام ضد الحرب ، كانت ترتفع منصة مصنوعة من العوارض الحديدية و مبنية من أجل التظاهرة التي اقتاد إليها الحزب الشيوعي في الأمس شعب براغ أو سيقتاده غداً . كانت تيريزا تنظر إلى فندق المدينة المتهدم فذكرها هذا المشهد فجأة بأمها : رغبتها الشاذة في أن تعرض أنقاضها على الملأ و في أن تتباهى بقباحتها و تلوّح ببؤسها و تكشف عن جدعة يدها المبتورة و تجبر الجميع على



النظر إليها . . كان كل شيء في هذه الأيام الأخيرة يذكّرها بأمها ، فكأنّ العالم الأمومي الذي أفلتت من عشرات السنين يلحق بها و يطوّقها من جميع الجهات . من أجل هذا تحدثت أثناء الإفطار عن أمها التي قرأت يومياتها للعائلة فانفجرت الأخيرة بالضحك رغماً عنها . كذلك ، حين يُذاع حديث بين الأصحاب أمام كأس نبيذ على الملأ عبر الراديو ، فهذا لا يعني إلا شيئاً واحداً : العالم يتحول إلى معسكر اعتقال . كانت تيريزا تستعمل هذه العبارة منذ طفولتها لتعبّر عمّا كانت تعني لها الحياة بين العائلة . فمعسكر الاعتقال هو عالم حيث نعيش باستمرار الواحد فوق الآخر ، ليلاً و نهاراً . أما أعمال القساوة و العنف فترتدي طابعاً ثانوياً ( و غير ضروري البتّة ) . ذلك أن معسكر الاعتقال هو التصفية النهائية للحياة الخاصة . فبروشازكا ، الذي لم يكن في مأمن حتى و هو في بيته يتحدث إلى صديقه أمام كأس من النبيذ ، كان يعيش ( من غير أن يرتاب للأمر و هنا يكمن خطؤه الفادح ! ) في معسكر اعتقال . و تيريزا أيضاً كانت تعيش في معسكر اعتقال عندما كان تقيم عند أمها . و هي منذ ذلك الحين تعرف أن معسكر الاعتقال ليس شيئاً استثنائياً و لا يفترض به أن يفاجئنا ، إنما هو معطى بديهي و أساسي ، إنه شيء نأتي معه إلى العالم دون أن نتمكن من التخلص منه ، إلا إذا استعنّا بالحد الأقصى من قوانا كلها .

5

كانت النساء جالسات على ثلاثة مقاعد متدرجة و هن ملتصقات بعضهنّ ببعض إلى حد التلامس . ثمة امرأة في الثلاثين من عمرها ، جميلة الوجه للغاية ، كانت تتصبب عرقاً إلى جانب تيريزا . كان ثدياها الضخمان الهائلان يتدليان في أسفل كتفيها و يهتزان لدى أدنى حركة تقوم بها . عندما نهضت ، لاحظت تيريزا أن ردفيها أيضاً كانا شبيهين بخرجين ضخمين و لا علاقة لهما بوجهها . ربما هذه المرأة أيضاً تقضي ساعات طوالاً أمام المرآة و هي تتأمل جسدها محاولة أن ترى روحها تشف من خلاله ، كما تحاول تيريزا منذ



الطفولة . . من المؤكد أنها هي أيضاً اعتقدت في الماضي ، لحماقتها ، أن جسدها يمكن أن يكون شعار النسب لروحها . و لكن كم ستكون مرعبة تلك الروح التي تشبه مشجباً بأربعة جيوب ؟ نهضت تيريزا لتغتسل تحت المرشة . ثم خرجت لتتنشَّق الهواء . كانت لا تزال رذاذاً . . كانت على زورق تجسير مرميّ على بُعد بضعة أمتار مربعة من الفلتافا ، خلف ألواح خشبية عالية تحمي السيدات عن أبصار المدينة . عندما حنت رأسها ، رأت فوق صفحة الماء ، وجه المرأة التي كان تفكر فيها منذ قليل . كانت المرأة تبتسم لها . كان أنفها دقيقاً و عيناها كستنائيتين واسعتين و نظراتها طفولية . كانت ترتقي السلم فظهر تحت وجهها العذب خرجاها اللذان يرتجفان و يقذفان حولهما فقاقيع ماء باردة .

6

ذهبت لارتداء ثيابها . كانت أمام مرآة كبيرة . لا ، جسدها ليس مخيفاً . فهي لا تملك خرجين في أسفل كتفيها ، بل ثديين منمنمين . كانت أمها تسخر منها لأن ثدييها لم يكونا كبيرين بما فيه الكفاية ، لم يكونا كما يجب ، مما سبّب لها عقداً لم تتخلص منها إلا بفضل توماس . الآن ، يمكنها القبول بحجمهما و لكنها تأخذ عليهما لُعوتهما (*) الكبيرة و الداكنة جداً حول الحلمة . فلو أتيح لها أن تخط بنفسها رسم جسدها كاملاً ، لكانت جعلت حلمتيها مرهفتين و غير لافتتين للنظر و لا تكادان تبرزان من قبة نهديها . و لونهما بالكاد سيكون متمايزاً عن لون بشرتها . . إذ يخيَّل إليها أن هذه الدريئة الحمراء الكبيرة الداكنة هي من صنع رسام ريفي يقوم برسوم فاحشة للمعوزين .


 (*) السواد حول حلمة الثدي . 


كانت تتفحص جسدها متسائلة عما سيحدث فيما لو طال أنفها ميليمتراً في كل يوم ؟ كم سيستغرق الوقت حتى يصبح وجهها غير معروف ؟ و ماذا لو شرع كل جزء من جسدها في الكبر أو في الصِغَر إلى درجة يفقده معها كل شبه تيريزا ، هل ستظل هي نفسها ؟ هل ستبقى تيريزا ؟ بالتأكيد . فحتى لو افترضنا أن تيريزا لم تعد تشبه تيريزا بشيء ، فإن روحها في الداخل ستبقى مع ذلك هي هي دائماً و ليس بإمكانها إلا أن تتأمل برعب ما يحدث للجسد . لكن عندها ، أي صلة تعود تربط تيريزا بجسدها ؟ هل سيكون لجسدها حق ما باسم تيريزا ؟ و إذا لم يكن له هذا الحق ، فإلى من يُنسب إذاً هذا الاسم ؟ إلى مجرد شيء غير جسدي و غير مادي . ( هذه هي الأسئلة ذاتها التي تجول في رأس تيريزا من الصغر . ذلك لأن الأسئلة الهامة حقاً هي تلك التي يصوغها طفل . وحدها الأسئلة الساذجة هي الأسئلة الهامة فعلاً . تلك الأسئلة التي تبقى دون جواب . إن سؤالاً دون جواب حاجز لا طرقات بعده . و بطريقة أخرى : الأسئلة التي تبقى دون جواب هي التي تشير إلى حدود الإمكانات الإنسانية ، و هي التي ترسم حدود وجودنا ) . تيريزا جامدة و مفتونة أمام المرآة ، تنظر إلى جسدها و كأنه غريب عنها و مُقَرر مع ذلك لها هي دون غيرها . و هو بُنفرها إذ لا يملك القدرة لأن يصير الجسد الوحيد في حياة توماس . لقد خيّبها هذا الجسد و خانها . ليلةً بكاملها ، أُكرهت على أن تشتمّ عبر شعر توماس رائحة حميمة لامرأة أخرى . شعرت فجأة برغبة في أن تصرف هذا الجسد كما يصرف المرء خادمه ، في ألا تكون مع توماس إلا بالروح و أن تطرد الجسد بعيداً كي يتصرف كما تتصف سائر الأجساد الأنثوية مع الأجساد الذكورية ! بما أن جسدها غير قادر على أن يصير الجسد الوحيد لتوماس ، و بما أنه خسر بالتالي المعركة الكبرى في حياة تيريزا ، إذاً ! فليذهب بعيداً هذا الجسد ! .




7

رجعْت إلى المنزل ثم تناولت غذاءها واقفة في المطبخ دون شهية . نحو الساعة الثالثة و النصف ، وضعت المقود لكارينين و توجهت إلى الفندق الموجود في حي من الضواحي حيث تعمل . عندما سرّحوها من عملها في المجلة . وجدت لها عملاً آخر ، ساقية في حانة ، حدث ذلك بعد رجوعها من زوريخ بأشهر قليلة . و السبب أنهم لم يغفروا لها قيامها بالتقاط صور للدبابات الروسية خلال الأيام السبعة . حظيت بوظيفتها الجديدة بمساعدة بعض الأصدقاء و هم أناس كانوا خسروا عملهم في الوقت نفسه فالتجأوا إلى الحانة مثلها . كان هناك عند صندوق المحاسبة أستاذ سابق في اللاهوث ، و في غرفة الاستقبال سفير سابق . كانت تشعر بالخوف من جديد على ساقيها . حين كانت تعمل في السابق كخادمة مقهى في الريف ، كانت ترتعب لمرأى بطّات سيقان زميلاتها المكسوّة بالدوالي . كان هذا المرض يصيب جميع الفتيات اللواتي يمضين حياتهن ماشيات أو راكضات أو واقفات و في أيديهن أحمال ثقيلة . أما العمل هنا فكان أقل إجهاداً من عملها السابق في الريف . قبل شروعها في الخدمة ، كان ينبغي عليها أن تحمل بضعة صناديق ثقيلة من البيرة و المياه المعدنية . و لكنَّها كانت تقضي بقية الوقت واقفة وراء طاولة الشرب تسكب الكحول للزبائن ، أو تنظّف بين الحين و الآخر الأقداح في مجلى صغير في عمق الحانة . وكانت كارينين تبقى مضطجعة بأناة عند قدميها طيلة وقت الخدمة . كان قد حلَّ منتصف الليل عندما أنهت حساباتها و أخذت المال إلى مدير الفندق . ثم ذهبت لتودّع السفير الذي كان يخدم أثناء الليل . كان هناك خلف طاولة الشرب الطويلة في غرفة الاستقبال باب يؤدي إلى غرفة صغيرة حيث يمكن للمرء أن يغفو على فراشٍ صغير . كانت هناك على الجدران صور مُبرّوزة : حيث نرى السفير دائماً وسط أناس يبتسمون للكاميرا ،أو يصافحونه أو ، يجلسونه قربه ليوقّعوا على شيء ما . و في صورة موضوعة في الواجهة ، نرى قرب وجهه وجه جون . ف . كنيدي و هو يبتسم .



لم يكن يتحدث هذا المساء إلى رئيس الولايات المتحدة ، بل إلى رجل ستّينيّ مجهول التزم الصمت فجأة لدى رؤيته تيريزا . قال السفير : (( هذه صديقة . يمكنك أن تتكلم و أنت مطمئن البال )). ثم التفت إلى تيريزا قائلاً : (( حكموا على ابنه اليوم ليس إلاّ بالسجن لخمس سنوات )) . أُخبرت بأن ابن الرجل الستيني كان خلال أيام الاجتياح يراقب بمعية أصدقاء له مدخل أحد المباني التي تمركزت أمامها وحدة تابعة للجيش الروسي . ممّا لا شكَّ فيه أن التشيكيين الذين كانوا يخرجون من المبنى ، مخبرون لصالح الروس . كان يتعقبهم مع زملائه و يسجل الرقم العدائي لسيارتهم و يعطيها لمحرري محطة تشيكيّة سرية كانت تعمل على إنذار الشعب . و قد حدث له أن ضرب أحدهم بمساعدة أصدقائه . كان الستيني يقول : (( استطاع إنكار كل التهم إلى أن أروه هذه الصورة . فهذه الصورة هي وحدها الدليل الحسّي )) . ثم أخرج من جيب سترته ورقة مقتطعة من إحدى الصحف و قال : (( نُشرت هذه الصورة في جريدة التايمز في خريف 1968 )) . كان هناك في الصورة شاب يمسك شخصاً من عنقه و حوله أناس يراقبون . و كُتب في أسفل الصورة : عقاب لمتعاون مع العدو . أحسّت تيريزا بحمل ينزاح عنها . لا ، لم تكن هي التي التقطت هذه الصورة . رجعت إلى بيتها مع كارينين عبر شوارع براغ السوداء . كانت تفكر في الأيام التي التقطت فيه صوراً للدبابات : لَكَم كانوا سذجاً كلهم ! كانوا يعتقدون أن يخاطرون بحياتهم من أجل وطنهم ، فيما هم كانوا يعملون ، على غير علم منهم ، للشرطة الروسية . وصلت إلى البيت في الساعة الواحدة و النصف . كان توماس نائماً منذ وقت طويل . و مِن شَعره كانت تفوح رائحة أنثوية ، رائحة فرْج .




8

ما هو الإغراء ؟ يمكننا أن نقول بأن تصرف يلمّح إلى أن المقاربة الجنسية ممكنة ، و لكن من دون أن يجعل هذه الإمكانية تبدو على أنها يقين . و بكلمة أخرى : الإغراء هو وعد غير مضمون بالجماع . ها إنّ تيريزا واقفة وراء طاولة الشرب ، و الزبائن الذين تقدم لهم الشراب يتغزلون بها . أوَ تجدُ هذا السيل المتدفق من عبارات الإطراء و الكلمات المبطنة و النكات الفاحشة و الدعوات و الابتسامات و النظرات ، أمراً مستكرهاً ؟ لا ، إطلاقاً . بل تشعر برغبة لا تقاوم في منح جسدها ، ( هذا الجسد الغريب الذي تود لو تطرده بعيداً ) منحنه لارتداد الأمواج هذا . يحاول توماس إقناعها دون توقف بأن الحب و الجنس عالمان مختلفان . و هي كانت ترفض القبول بذلك . ها هي الآن محاطة برجال لا يثيرون فيها إي إعجاب . تُرى ماذا سيؤثر لو أنها تضاجعهم ؟ إنها تشعر برغبة في المحاولة حتى و إن كان هذا تحت شكل الوعد غير المضمون للإغراء . يجب ألاَّ نسيء فهم الأمر : هي لا تفتّش عن الانتقام من توماس و إنما تفتش عن منفذ للخروج من المتاهة . و هي تعرف أنها حمل ثقيل عليها لأنها تأخذ الأمور كثيراً على محمل الجد و تحوّل كل شيء إلى مأساة ، و لا تتوصل إلى فهم خفة العلاقات الجنسية و تفاهتها السعيدة . كانت تود أن تتعلم الخفة ! كانت تود لو أن أحداً يعلّمها كيف لا تكون (( مبطلة العهد ! )) . إذا كان الإغراء بالنسبة للنساء الأخريات طبيعة ثانية و روتيناً دون معنى ، فإنه بالنسبة لها حقل تجارب هام يجعلها تكتشف ما هي قادرة عليه . و لكن بما أنها تولي الإغراء أهمية وجدية كبيرتين ، فإنه يفقد عندئذ كل خفة ليصير متكلفاً و مصطنعاً و مفرطاً . فيصير التوازن بين الإيحاء و بين غياب الضمانة مفقوداً . ( و هنا بالذات تكمن البراعة الحقيقية في فن الإغراء ! )) . فهي من التسرع حين تَعِدُ بحيث تظهر بوضوح أن وعدها هذا لا يُلزمها بشيء و بكلمة أخرى ، الجميع يعتبرونها سهلة للغاية . ثم إن الرجال يسعون وراء إكمال ما كانت أوحت لهم به ، فيصطدمون بمقاومة مفاجئة لا يمكنهم أن يفسروها إلا نابعة من قساوة تيريزا المرهفة .


9

جلس مراهق في السادسة عشرة من عمره على مقعد فارغ أمام طاولة الشرب . ثم أخذ يتفوه بجمل مثيرة تنزل في الحديث كما ينزل خط مغلوط في الرسم فلا يمكن متابعته و لا محوه . قال لها : (( ساقاك جميلتان )) . فاعترضَتْ : (( كأننا نراها عبر خشب طاولة الشرب ! )) . و أوضح الفتى : (( و لكني أعرفك . أراقبك في الشارع )) . و لكن تيريزا كانت ابتعدت للاهتمام بزبائن آخرين . أمرها بكأس كونياك فرفضت . فاعترض المراهق : (( و لكني بلغت لتوي الثمانية عشرة . ــ أرني إذاً بطاقتك الشخصية . فردّ المراهق : ــ لا مجال . ــ حسناً ! خُذْ ليموناضة ! )) . ثم ، دون أن ينبس بكلمة ، نهض عن مقعده و خرج . ثم رجع بعد زهاء نصف ساعة للجلوس أمام طاولة الشرب . أخذ يومئ بحركات كثيرة و رائحة الكحول تفوح من فمه عن بعد ثلاثة أمتار . ــ (( ليموناضة  ! )) . قالت : ـــ (( أنت ثمل ! )) . أشار المراهق إلى لوحة معلقة في الحائط خلف تيريزا ، كُتب عليها : يمنع منعاً باتاً تقديم مشروبات كحولية لمن هم دون الثامنة عشرة . ثم قال و هو يشير إلى تيريزا بحركة عظيمة من يده : (( يُحظر عليك أن تقدمي لي الكحول ، و لكنه لم يُكتب في أي مكان أنه لا يحق لي أن أسكر )) . ــ أين فعلت بنفسك هذا ؟ سألت تيريزا . ــ في الحانة المواجهة . ثم أطلق ضحكة طويلة ، و طلب من جديد ليموناضة . ــ (( و لماذا لم تبقَ هناك إذاً ؟ )) . قال المراهق : (( لأنني أريد أن أنظر إليك . أحبك )) . حين تفوه بذلك ، انقبض وجهه بشكل غريب . لم تكن تفهم : أهو يهزأ بها ؟ أم يمهّد لصداقتها ؟ هل في الأمر ألعوبة ما ؟ أم أنه ببساطة كان سكران و لا يعرف ماذا يقول ؟ وضعت كوب الليموناضة أمامه ، ثم ذهبت للاهتمام بزبائن آخرين يبدو أن كلمة (( أحبك )) قد أنهكت المراهق ، لأنه لم يقل شيئاً بعدها . بل وضع دون ضجة المال على الطاولة و انسحب دون أن تلاحظ تيريزا . ما إن خرج حتى بادر بالكلام رجل أصلع قصير كان يتناول كأسه الثالثة : (( يا سيدة ، تعرفين أنه لا يحق لك تقديم الكحول لمن هم تحت السن ؟ )) . ــ (( و لكني لم أٌقدم له كحولاً ! أخذ كوباً من الليموناضة ! )) . ــ رأيت جيداً ماذا سكبت له في الليموناضة ! ــ ماذا تقول ! هتفت تيريزا . فأمرها الأصلع  : (( كأس فودكا أخرى )) ، ثم أضاف : (( منذ فترة طويلة و أنا أراقبك )) . عندئذ تدخل رجل طويل القامة كان اقترب من طاولة الشرب و رأى المشهد بكامله : ــ (( حسناً ! اعتبرْ نفسك محظوظاً لأنه يتسنّى لك النظر إلى سيدة جميلة و اقفل فاك ! )) .



فصرخ الأصلع : (( أنت ما دخلك في الأمر ! هذا شيء لا يعنيك ! )) . فسأل الرجل العملاق : (( و هل تستطيع أن تشرح لي ما دخلك أنت في هذا ؟ )) . قدّمت تيريزا كأس الفودكا التي كان الأصلع قد أمرها بها . فشربها دفعة واحدة ، ثم دفع الحساب و خرج . قالت تيريزا للرجل طويل القامة : (( أشكرك )) . فقال الرجل الطويل : (( ليس هناك ما يستوجب الشكر )) ، ثم خرج بدوره .

10

بعد أيام قليلة ، ظَهَر في الحانة من جديد . عندما رأته ، ابتسمت له و كأنه صديق : (( يجدر بي أن أشكرك مرة ثانية ، ذاك الأصلع يأتي إلى هنا غالباً ، و هو ثقيل الدم بشكل لا يطاق )) . ــ لا تفكري فيه . ــ لماذا كان يريد الإساءة إليّ في ذلك اليوم ؟ ــ ليس إلا سكيراً . أطلب منك مرة ثانية : لا تفكري فيه . ــ بما أنك تطلب مني ذلك ، فلن أفكر فيه بعد الآن . نظر الرجل فارع الطول في عينيها : (( يجب أن تعديني بذلك )) . ــ أعدك . فقال الرجال و هو لا يكف عن النظر في عينيها : (( يسعدني أن أسمعك تعدينني بشيء ما )) . كان الموقف في منتهى الإغراء : هذا التصرف الذي يوحي بإمكانية المقاربة الجنسية حتى و لو بقيت هذه الإمكانية نظرية بحتة و دون ضمانة .


ــ (( كيف حدث أنه أمكن الالتقاء بامرأة مثلك في الحي الأكثر رداءة في براغ ؟ )) . ــ (( و أنت ؟ ماذا تفعل في الحي الأكثر رداءة في براغ ؟ )). فقال لها إنه يسكن على مسافة ليست ببعيدة من هنا ، و إنه يعمل مهندساً ، و إنه توقف هنا صدفة في المرة السابقة عندما كان راجعاً من عمله .

11

كانت تنظر إلى توماس . لكن نظراتها لم تكن موجهة إلى عينيه ، بل إلى فوق على مسافة عشرة سنتمترات ، إلى شعره الذي كانت تفوح منه رائحة فرج امرأة أخرى . قالت : (( توماس ، لم أعد أقدر . أعرف أن لا حقٌ لي في التشكي . مذ رجعت إلى براغ و أنا أحظّر على نفسي الغيرة . لا أريد أن أكون غيورة و لكني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن ذلك . لا قدرة لي . ساعدني ، أرجوك )) . فتأبط ذراعها و اقتادها إلى حديقة صغيرة عامة حيث كانا يذهبان مراراً من سنوات . كانت هناك في هذه الحديقة مقاعد : زرقاء و صفراء و حمراء . عندما جلست ، قال توماس لها : (( أفهمك و أعرف ماذا تريدين . لقد رتبتُ كل شيء . عليك الآن أن تذهبي إلى (( مون – دو – بيير ؟ )) . ــ (( ستصعدين إلى فوق و عندها ستفهمين ؟ )) . لم تكن راغبة إطلاقاً في الذهاب . كان جسدها أضعف من أن يقوى على مغادرة المقعد . و لكنها لم تكن أيضاً على مخالفة أمرٍ لتوماس . فبذلت جهدها لتنهض . استدارت . كان لا يزال جالساً على المقعد و يبتسم لها بسعادة تقريباً .



ثم أشار لها بحركة من يده لكي يشجعها ، دون شك .

12

عندما وصلت إلى (( مون – دو – بيير )) و هي تلة خضراء تنتصب في وسط براغ ، لاحظت مذعورة أن لا أحد هناك . كان الأمر يثير الاستغراب فهناك دائماً جموع من براغ تتوافد عادة إلى المكان و في أي ساعة كانت ، للتنزه . أحست بالقلق ينهش قلبها . و لكن الممرات كانت ساكنة إلى حدٍ بعيد ، و كان هذا الصمت يبعث على الطمأنينة ، فأقلعَتْ عن المقاومة و استسلمت بثقة لذراعَيْ التلة . كانت تصعد إلى فوق متوقفة من وقت لآخر لتستدير إلى الوراء . كانت ترى تحتها أبراجاً و جسوراً كثيرة . كان القديسون يلوّحون بقبضاتهم و عيونهم الحجرية محدقة في الغيوم . كانت هذه أجمل مدن العالم . بلغت أعلى التلة . وراء الأكشاك حيث يبيعون عادةً مرايا و بطاقات تذكارية و خزفاً مبرغلاً ، ( كان البائعون متغيبين في ذلك اليوم ) تمتد مرجة خضراء فسيحة الأرجاء و مغروسة بأشجار قليلة . . لمحت هناك بضعة رجال . كانوا يجمدون قليلاً ، ثم يروحون و يجيئون ببطء متناهٍ ، أشبه بلاعبي غولف يتفحصون الحفرة ثم يرجّحون العصا بأيديهم لكي يحضروا أنفسهم قبل الشروع في المباراة . وصلت في النهاية بمحاذاتهم . كانت واثقة من أنها تعرف ثلاثة من بين الرجال الستة ، أتوا إلى هنا لكي يقوموا بالدور نفسه الذي تقوم به هي : كانوا مرتعبين ، كانوا و كأنهم راغبون في طرح أسئلة لا تُحصى و لكنهم آثروا السكوت خشية الإزعاج و نظروا حولهم نظرات حائرة . أما الرجال الثلاثة الآخرون فكانوا يفيضون طيبة و تسامحاً . كان أحدهم يمسك بندقية في يده . حين لمح تيريزا أشار لها بابتسامة قائلاً : (( أجل ، هنا )) . حيّته بانحناءة من رأسها و أحسّت بضيق هائل .



أضاف الرجل : (( حتى نتفادى الخطأ ، هل هذه (( رغبتك )) فعلاً )) . كان سهلاً أن تقول له : (( لا ، هذه ليست رغبتي )) ، و لكن خيانة ثقة توماس أمر غير وارد . إذ بأية حجة ستتذرع عندما تعود إلى البيت ؟ فقالت عندئذ : (( أجل ، طبعاً . هذه رغبتي )) . كان الرجل حامل البندقية يتابع : (( يجب أن تفهمي لأية غاية أطرح عليك هذا السؤال . نحن لا نفعل هذا إلا إذا كنا واثقين من أن الذين يأتون إلينا قد قرروا بأنفسهم و ملياً أن يموتوا . هذه خدمة نؤدّيها من أجلهم )) . نظر إلى تيريزا نظرة حائرة ، فتوجب عليها مرة أُخرى أن تؤكد لهم : (( نعم ، اطمئن ! هذه رغبتي )) . سألها : ــ (( هل تريدين أن تكوني البادئة ؟ )) . فأرادت أن تؤجل الإعدام و لو للحظات قليلة . ــ (( لا ، أرجوك ، لا . أريد أن أكون الأخيرة ، لو سمحْتَ )) . ــ (( كما تشائين )) . أجاب الرجل ثم مضى باتجاه الآخرين . لم يكن معاوناه يحملان سلاحاً . بل كانا هناك للاهتمام بالناس الذين يريدون الموت . فيقتادانهم من أذرعتهم و يرافقانهم إلى المرجة . و المرجة مساحة شاسعة مكسوة بالعشب على مدّ النظر . كان يمكن للمرشحين للإعدام أن يختاروا الشجرة التي تعجبهم . كانوا يتوقفون و ينظرون ملياً غير قادرين على الاختيار . و في النهاية اختار اثنان شجرتيْ دلب لكن الثالث كان يبتعد أكثر فأكثر دون أن يعثر على أية شجرة تناسب موته . و كان المعون الذي يتأبط ذراعه برقة ، يرافقه بأناة دون أن ينفذ صبره . و لكن الرجل في النهاية لم يعد يقوى على التقدم فتوقف أمام شجرة قيقب كثيفة الأوراق . عصب المعاونان أعين الرجال الثلاثة . كانت هناك فوق المرجة إذاً ثلاثة رجال متكئين إلى ثلاثة جذوع أشجار ، و كل واحد منهم معصوب العينين و رأسه باتجاه السماء .


سدّد الرجل حامل البندقية و أطلق النار . عدا أصوات العصافير لم تكن هناك أية ضجة . كانت البندقية مزودة بكاتم للصوت . كان بالإمكان فقط رؤية الرجل المتكئ إلى شجرة القيقب و قد بدأ يتهاوى . و دون أن يبتعد الرجل حامل البندقية عن مكانه ، استدار في اتجاه آخر فانهار الرجل المستند إلى شجرة اللب بدور وسط صمت مطبق . و لحظات قليلة ( كان الرجل البندقية يدور على عقبيه ملازماً مكانه ) و سقط المرشح الثالث للإعدام هو أيضاً على العشب .

13

اقترب أحد المعاونين من تيريزا دون أن ينبس بكلمة . كان يحمل في يده عصبة زرقاء داكنة . فهمت أنه يريد عصب عينيها . هزّت رأسها و قالت : (( لا ، أريد أن أرى كل شيء )) . لكن لم يكن هذا هو السبب الحقيقي لرفضها . فهي لم تكن قط شبيهة بالأبطال الذين صمموا بشجاعة على النظر في أعين مُعٍدميهم . بل و إنما كانت فقط محاولة منها لتأجيل موتها . إذا خُيّل إليها ما إن تُعصب عيناها حتى تكون قد دخلت إلى غرفة انتظار الموت ، من غير أمل في الرجوع . لم يحاول الرجل معارضتها ثم أخذها من ذراعها . كانا يمشيان على المرجة الفسيحة دون أن تتمكن تيريزا من أن تقرر أية شجرة ستختار . ثم أن لا أحد كان يجبرها على الاستعجال . لكنها كانت على يقين أنها لن تتمكن من الخلاصة في جميع الأحوال . رأت أمامها شجرة كستناء مزهرة . فاقتربت . ثم استندت إلى الجذع و رفعت رأسها : فرأت الأوراق يخترقها شعاع الشمس ، و سمعت في البعيد المدينة تدمدم بخفوت و عذوبة مثل صوت ألف كمان . رفع الرجل بندقيته .



بدأت شجاعتها تخونها . كانت يائسة من ضعفها و لكنها لم تستطيع السيطرة عليها ، فقالت : (( لا ! ليسَتْ هذه رغبتي )) . فأخفض الرجل للحال أستون البندقية و قال بهدوء كلي : (( ما دامت هذه ليست رغبتك ، لا يمكننا و الحالة هذه أن نقوم بهذا . ليس لنا الحق في ذلك )) . كان صوته ودوداً و كأنه يريد أن يعتذر من تيريزا لعدم قدرته على التنفيذ ما لم تكن هذه رغبتها . كان هذا اللطف يمزّق قلبها فألقت رأسها على جذع الشجرة و شهقت بالبكاء .

14

كان تعانق الشجرة و جسدها يختلج من البكاء ، و كأنَّ هذه الشجرة لم تعد شجرة و إنما صارت أباها الذي فقدته أو جدّها الذي لم تعرفه ، أو أبا جدّها ، أو جدّ جدّها ؛ رجلاً ما موغلاً في القدم ، آتياً من أعمق أعماق الزمن ليمد لها وجهه عبر قشرة الشجرة الخشنة . استدارت . كان الرجال الثلاثة قد ابتعدوا و هم يروحون و يجيئون على المرجة ، شبيهين بلاعبي غولف . ذلك أن البندقية التي في يد الرجل المسلّح تذكّر كثيراً بعصا الغولف . هبطت ثانية ممرات (( مون – دو – بيير )) متحفظة في داخلها بالحنين إلى الرجل الذي سُيطلق عليها النار و لم يفعل . اشتاقت إليه ، فهي كانت تعرف أنها ستراه بين دقيقة و أخرى . وإذ فكرت بذلك ، داهمها خوف شديد إلى درجة أحسّت معها بتشنج في معدتها و برغبة في التقيؤ .




15

كان المهندس قد دعاها إلى زيارته و رفضت لمرتين على التوالي . لكنها هذه المرة قبلت . تناولت غذاءها كالعادة واقفة في المطبخ ، ثم خرجت . كانت الساعة تقارب الثانية . كانت تقترب من مكان سكنه فأحسّت عندئذ بساقيها تبطآن من تلقاء ذاتهما . ثم فكرت أن توماس هو من أرسلها إلى هذا الرجل . ألم يكن يمضي الوقت و هو يشرح لها أن الحب و الجنس أمران مختلفان ؟ ستحاول بكل بساطة أن تؤكد نظريته . كانت تسمع صوته يقول لها : (( أفهمك و أعرف ماذا تريدين . لقد رتبت كل شيء . ستصعدين إلى فوق و ستفهمين )) . أجل . هي لم تقم سوى بتنفيذ أوامر توماس . لم تكن تود البقاء إلا هنيهة عند المهندس ، فقط الوقت لتشرب فنجان قهوة . فقط الوقت لتكتشف ما معنى أن تتقدم حتى حدود الخيانة . كانت تريد أن تدفع بجسدها باتجاه هذه الحدود و أن تتركه هناك لحظة ، كما على عمود التشهير . ثمَّ حين يحاول المهندس أن يضمها بين ذراعيه ستقول له كما قالت للرجل صاحب البندقية في (( المون – دو – بيير )) : (( لا ، لا ! ليست هذه رغبتي )) . و عندها سيُخفض الرجل أستون بندقيته و يقول بصوت عذب : (( إذا لم تكن هذه رغبتك ، لا يمكننا و الحالة هذه أن نقوم بهذا . ليس لنا الحق في ذلك )) . و ستلتفت عندها إلى جذع الشجرة و تشهق بالبكاء .

16

كانت البناية تعود إلى بداية القرن و تقع في ضاحية عمالية في براغ . ولجت في رواق جدرانه مطلية بالكلس . كانت الأدراج العتيقة للسلّم الحجري الذي يحيط به درابزين حديدي ، تؤدي إلى الطابق الأول . استدارت إلى الشمال ، على الباب الثاني حيث لا يوجد لا اسم و لا جرس ، قرعت . فُتح الباب . كان المسكن بكامله يتألف من غرفة واحدة تقسمها ستارة على بعد مترين من الباب لكي توحي بأن مدخل ، حيث يُوجد طاولة و موقد و برّاد . و لجت إلى الداخل فلاحظت قبالتها مستطيل النافذة العمودي في نهاية الغرفة الضيقة و الممتدة طولاً . في جهة ، كانت هناك مكتبة ، و في جهة أُخرى سرير و كنبة وحيدة . ــ (( بيتي متواضع للغاية ، قال المهندس . آمل ألاَّ يُخيّب هذا ظنك )) . ــ (( لا ، إطلاقاً )) ، قالت تيريزا و عيناها مسمرتان إلى الحائط الذي تحجبه تماماً رفوف مزدحمة بالكتب . لم يكن هذا الرجل يملك طاولة جديرة بهذا الاسم ، و لكنه مع ذلك كان يملك مئات الكتب . سرّت تيريزا لذلك . و القلق الذي رافقها و هي في طريقها إلى هنا ، أخذ يتلاشى . منذ طفولتها ، كانت ترى في الكتاب علامة على أخوة سرية . فمن يملك مكتبة كهذه ، ليس في مستطاعه إذاً أن يؤذيها . سألها ماذا بإمكانه أن يقدم لها : خمر ؟ لا ، لا ، لم تكن راغبة في الخمر . إذ كان هناك شيء ترغب في شربه ، فسيكون القهوة . اختفى وراء الستارة فاقتربت من المكتبة . استوقفها أحد الكتب و هو مسرحية مترجمة لسوفوكل : (( أوديب )) ، أمر غريب أن تجد هذا الكتاب بالذات عند هذا الرجل الذي تجهله . كان توماس قد أهداه لتيريزا من سنوات متوسلاً إليها أن تقرأ بانتباه ، و حدّثها عنه طويلاً . ثم نشر انطباعاته عن هذا الكتاب في إحدى الصحف ، فقلب هذا المقال حياتهما رأساً على عقب . كانت تنظر إلى ظهر الكتاب فتهدئ هذه الرؤية من روعها . كان الأمر كما لو أنّ توماس ترك عن قصد أثره هنا بمثابة رسالة تبلغها أنه قد رتَّب كل



كل شيء بنفسه . أخذت الكتاب و فتحته . . عندما سيرجع المهندس ، فسوف تسأله عن سبب اقتنائه لهذا الكتاب ، و عمّا إذ كان قد قرأه و ما هو رأيه فيه . و هكذا سيكون في وسعها الانتقال بفضل خدعة كلامية من المنطق المحفوفة بالمخاطر لمسكن المجهول ، إلى العالم الأليف لأفكار توماس . ثم أحسّت ببيده فوق كتفها . انتزع المهندس الكتاب من يدها و أرجعه دون أن يقول شيئاً إلى المكتبة ، ثم اقتادها إلى السرير . فكّرت بالجملة التي كانت قالتها إلى مُنفّذَ الإعدام في (( مون – دو – بيير )) ، فنطقت بها بصوت عالٍ : (( لا ، لا ! ليست رغبتي ! )) . كانت على اقتناع بأن هذه العبارة الساحرة ستغير الموقف و لكن هذه الكلمات كانت تفقد كل قدرة سحرية لها في هذه الغرفة . و في اعتقادي حتى أنها حثّت الرجل على أن يتصرف بطريقة أكثر تصميماً: شدّها ناحيته و وضع يده على نهدها . أمر عجيب : فهذه الملامسة حررّتها من قلقها في الحال . كما لو أن المهندس قد أَظهر لها من خلال هذه الملامسة ، جسدها . ففهمت عندئذ أن الرهان لا يقع عليها ( أي على روحها ) بل على جسدها ، و جسدها دون غيره . هذا الجسد الذي كان قد خانها و الذي طردته بعيداً ليلتحق بالأجساد الأخرى .

17

فكَّ زراً من قميصها منتظراً أن تكمل البقية بنفسها . و لكنها خيّبت توقعه . فهي كانت طردت جسدها بعيداً عنها ، و لا تريد بذلك أن تأخذ أمره على عهدتها . لم تتعرَّ لكنها في الوقت نفسه لم تقاوم . و كأن روحها . بالرغم من أنها تستهجن ما يجري ، قد اختارت مع ذلك أن تبقى على الحياد عرّاها من ثيابها ، و بقيت خلال هذا الوقت جامدة تقريباً . و حين قبّلها لم تتجاوب شفتاها معه . ثم شعرت فجأة أن فرجها رطب فذُهلت لذلك .


كانت كلّما شعرت أنها مهتاجة رغماً عن إرادتها ، يزداد اهتياجها أكثر . ها قد بدأت روحها الآن تمتثل بطريقة غامضة لمجريات الأمور ، و لكنها كانت عارفة أيضاً أن موافقتها هذه يجب أن تبقى مضمرة من أجل إطالة هذا الاهتياج الشديد . فَلَو أنها قالت نعم بصوتٍ عالٍ ، لو أنها قبلت أن تشترك بكامل إرادتها في تمثيلية الحب ، لاضمحلّت الإثارة . ذلك أن الأمر الذي كان يثير روحها بالذات هو خيانة الجسد لها و تصرفه ضد إرادتها ، فيما هي شاهِده على هذه الخيانة . ثم انتزع لها (( سلِيبّها )) فأصبحت الآن عارية تماماً . كانت الروح تتأمل الجسد عارياً بين ذراعي رجل غريب . فبدا لها هذا المشهد عجيباً كمن يتأمل كوكب المريخ عن كثب . و تحت هذه الإضاءة العجيبة فَقَد جسدها للمرة الأولى تفاهته ، و للمرة الأولى نظرت إليه مفتونة : كان تفرد جسدها و تميزّه الذي لا يضاهى يحتلان الصدارة . . إذ لم يعد جسدها ذلك الجسد الأكثر عاديّةً بين الأجساد ( كما بَدا لها حتى الآن ) و لكن الأكثر استثنائية بينها . لم تكن الروح قادرة على إشاحة بصرها عن شائبة الولادة المستديرة السمراء فوق العائلة تماماً ؛ كانت الروح ترى في هذه الشائبة ختماً و سمت به الحسد ، و كانت تجد أن تحرك عضو غريب على مقربة جداً من هذا الختم المقدس ، أمر فيه تجديف . تذكرت تيريزا حين رفعت عينيها و رأت وجهه ، أنها لم توافق قط على أن تجد الجسد ، و بالتحديد في المكان الذي طبعت فيه الروح ختمها ، بين ذراعي رجل لم تكن تعرفه و لا ترغب في معرفته . فاجتاحها كراهية مدوّخة . جمّعت ريقها عند شفتيها مستعدة لأن تبصق في وجه الرجل الغريب . كانا يراقبان بعضهما بالنَهَم ذاته ، يبدو أنه أحسَّ بغضبها فأخذ يعجَّل في حركاته . و إذ أحسّت تيريزا بالنشوة تعتريها أخذت تصرخ  : (( لا ، لا ، لا ! )) . كانت تقاوم المتعة التي تقترب . و بما أنها كانت تقاومها ، فإن المتعة المردوعة كانت تنتشر طويلاً في حنايا جسدها دون أن تجد منفذاً لتهرب منه ، كانت النشوة تسري في جسدها كما تسري حقنة المورفين في العرق . كانت تتخبط بين ذراعي الرجل و تضربه على غير هدى و تبصق في وجهه .





18

ترتفع المراحيض العصرية فوق الأرض مثل زهرة النيلوفر البيضاء . فالمهندس المعماري يفعل كل ما في وسعه كي ينسى الجسد بؤسه فلا يعرف الإنسان عما سيؤول إليه غائط أحشائه بعد أن تدفعه مياه الخوان مقرقرةَ . و مع أن قساطل المجارير تصل مجساتها حتى شققنا ، فإنها محجوبة بعناية عن أنظارنا و نجهل كل أمر عن (( بندقية )) البراز التي تقوم عليها غرف حماماتنا و نومنا و قاعات رقصنا و مجالسنا . أما مراحيض هذا المبنى القديم ، الواقع في ضاحية عمالية من براغ ، فكانت أقل خبثاً . كان المرحاض يرتفع يتيماً بائساً فوق بلاط الأرض الرمادي . و منظره لم يكن بزهرة النيلوفر بل بأنه مرحاض أي : الفوهة الواسعة للقسطل لم تكن عليه مقعدة خشبية فاضطرت تيريزا إلى الجلوس على الصفيحة المطلية بالمينا ، فجعلتها ترتعش . كانت تيريزا جالسة فوق المرحاض و كانت الرغبةُ التي تملكتها فجأة في إفراغ أمعائها ، رغبةً في الذهاب حتى نهاية الذل ، رغبةً في أن تكون جسداً ، جسداً فحسب ، في أن تكون ذلك الجسد الذي كانت أمها عنه أنه وُجد ليهضم و يتغوط . تيريزا إذاً تفرغ أمعاءها و تشعر الآن بحزن و وحدة يفوقان الوصف . إذ لا شيء أكثر تعاسة من جسدٍ عارٍ جالس فوق الفوهة العريضة لقسطل التفريغ . فقدت عندئذ روحها فضولية المشُاهد و عدوانيتها و كبرياءها : فمن جديدٍ ، غارت في قعر جسدها ، في تلافيفه الأكثر سرية و قبعت تنتظر هناك بيأس استدعاءها من جديد .

19

قامت عن المرحاض و شدّت على طرّادة الماء ، ثم رجعت إلى المدخل . كانت الروح ترتعش في الجسد المنبوذ العاري . كانت تيريزا تشعر أن الورقة التي مسحت بها مؤخرتها لا تزال عالقة هناك .


فحدث ساعتها شيء لا يُنسى : رغبت في موافاته إلى الغرفة و سماع صوته و ندائه . لو أنه يتكلم معها بصوت عذب و خفيض ربّما ستستعيد روحها الجرأة للصعود إلى سطح جسدها ، و ربما سوف يمكنها البكاء . ربَّما ستعانقه كما كانت عانقت في الحلم ، الجذع العريض لشجرة الكستناء . كانت في المدخل تحاول جاهدة أن تتمالك هذه الرغبة الجامحة في البكاء أمامه . كانت عارفة أنها لو لم تتمالك هذه الرغبة ، فسوف يحدث ما لا نرغب فيه ، ستقع في غرامه . في هذه اللحظة بالذات ، تناهى إلى سمعها صوت من عمق المسكن . عندما سمعت هذا الصوت غير المجسّد ( أي دون أن يترافق مع رؤية القامة الفارغة للمهندس ) أخذها العجب : كان الصوت خافتاً و حاداً . كيف لم تلاحظ ذلك قبل الآن ؟ ربما بسبب هذا الانطباع المُحيّر و المقيت الذي تركه هذا الصوت في داخلها ، استطاعت أن تقاوم التجربة ، فرجعت إلى الغرفة ، حيث لملمت ملابسها ثم ارتدت ثيابها على عجل و غادرت .

20

كانت راجعة من جولاتها الشرائية بصحبة كارينين التي تحمل فطيرة في خطمها . كانت الصبيحة باردة و متجلدة قليلاً . كانت تسير بمحاذاة أرض مفرزة تتخلل مسافاة البيوت الكبيرة جنائنُ مزروعة صغيرة جداً و حدائق صغيرة . توقفت كارينين بغتة ، و حدّقت بثبات إلى هناك . نظرت هي أيضاً إلى تلك الجهة دون أن يلفت نظرها شيء ما . كانت كارينين تجرّها فاستسلمت لها . وأخيراً ، رأت فوق الصلصال المتجلد لمسكبة صغيرة رأس زاغٍ أسود ذا منقار طويل . كان الرأس الصغير دون جسد يتحرك ببطء و يرسل من وقت لآخر صوتاً حزيناً أجش . كان كارينين مضطربة إلى درجة أنها تخلت عن الفطيرة . فاضطرت تيريزا لأن توثقها إلى شجرة لئلا تسيء إلى الزاغ . ثم انحنت و حاولت أن



تنبش التراب المكتوم حول رقبة العصفور المدفون حياً . لم يكن الأمر سهلاً فأحد أظفارها انكسر و نزف الدم منه . في هذه اللحظة ، سقط حجر قربها . رفعت بصرها فلمحت صبيين في العاشرة من عمرها عند زاوية أحد البيوت . نهضت . و إذ شاهدا ردةً فعلها و الكلب الموثوق إلى الشجرة ، ولّيا راكضين . ركعت من جديد على الأرض لتحفر التراب الصلصالي و تمكنت أخيراً من تحرير الزاغ من قبره ، لكن العصفور كان مشلولاً و غير قادر على المشي أو على الطيران . فغطّته بالمنديل الذي كانت تلفه حول عنقها و ضمته بيدها اليسرى إلى صدرها . أفلتت باليد اليمنى وثاق كارينين عن الشجرة و احتاجت إلى قوّتها لتتحكم بها وتبقيا إلى جانب ساقها . و بما أن يدها لم تكن فارغة لتبحث عن المفتاح في جيبها ، قرعت الجرس ، فتح لها توماس . فناولته مقود كارينين و أمرته قائلة : (( أمسكها ! )) و حملت الزاغ إلى غرفة الحمام . هناك ، وضعته على الأرض تحت المغسلة . كان الزاغ يتخبط دون أن يقدر على الحركة . كان هناك سائل سميك أصفر ينزف من جسده . صنعت له تيريزا محفّة من خرق عتيقة ، و وضعته عليها تحت المغسلة كيلا تصل إليه برودة البلاط . كان العصفور يحرّك جناحه المشلول يائساً و كان منقاره ناتئاً و كأنه ملامة .

21

كانت جالسة على حافة المغطس غير قادرة على إشاحة بصرها عن الزاغ المحتضر . كانت ترى في وحدته صورة مصيرها الخاص ثم رددت : لا أحد لي في هذا العالم غير توماس . هل علَّمتها الحلقة مع المهندس أن المغامرات العاطفية لا علاقة لها بالحب ؟ و أن هذه المغامرات خفيفة لاتزن شيئاً ؟ و هل صارت هي نفسها أكثر هدوءاً من ذي قبل ؟ إطلاقاً .


ثمة مشهد يلاحقها باستمرار : و هي خارجة لتوّها من المرحاض و كان سدها واقفاً في المدخل عارياً و متروكاً ، و كانت الروح المذعورة ترتعش في أحشائها . أحسَّت أن الرجل فيما لو خاطب روحها من عمق الغرفة في هذه اللحظة بالذات ، فسوف تشهق بالبكاء مرتمية بين ذراعيه . كانت تتخيل أن هناك صديقة لتوماس واقفة مكانها في المدخل أمام المرحاض ، و توماس في الغرفة مكان المهندس . لو أن توماس قال عندها كلمة للمرأة الشابة ، كلمة واحدة لا أكثر ، لارتمت بين ذراعيه باكية . تعرف تيريزا جيداً أن هذه اللحظة تشبه تلك اللحظة التي يولد الحب فيها : حين لا تستطيع المرأة أن تقاوم الصوت الذي ينادي روحها المذعورة ، و الرجل لا يستطيع أن يقاوم المرأة التي تصير روحها متنبهة لصوته. و تيريزا تعرف أيضاً أن توماس لن ينجو أبداً من أفخاخ الحب و هي ليس في مقدورها إلا أن تخاف عليه كل ساعة و كل دقيقة . و الحالة هذه ، بأي سلاح يمكن لها أن تتزود ؟ بوفائها فقط . . وفاؤها الذي منحته إياه منذ البداية و منذ اليوم الأول ، كما لو أنها كانت عارفة للحال أنها لا تملك شيئاً آخر لتمنحه إياه . فحبها بناء غير متساوق إلى حدّ عجيب : لأنه يرتكز على اليقين المطلق بوفاء تيريزا كما يرتكز قصر عملاق على عمود واحد . الآن ، لم يعد الزاغ يحرّك جناحيه تقريباً . كان بالكاد يحرّك رجله الممزقة المكسورة . لم تكن تيريزا تريد أن تتركه كما لو أنها ساهرة قرب سرير أخت تحتضر . و مع ذلك ذهبت أخيراً إلى المطبخ لتتناول غذاءها على عجل } عندما رجعت كان الزاغ قد مات{ .

22

إبّان السنة الأولى لعلاقتهما ، كانت تيريزا تصرخ أثناء الجماع ، و كان هذا الصراخ ، كما سبق لي أن قلت ، يحاول أن يعمي الحواس و أن يصمَّها . ثم صار صراخها يتضاءل ، و لكن كان دائماً يُعمي روحها فلا ترى شيئاً . عندما ضاجعت المهندس ، ردَّ غياب الحب الرؤية أخيراً إلى روحها .


كانت تأخذ حمام السونا و كانت تقف من جديد أمام المرآة . أخذت تتأمل نفسها و تسترجع في ذهنا مشهد الحب مع المهندس ، لم تكن تتذكر العشيق ، و كانت في الحقيقة غير قادرة على وصفه ، و ربّما لم تلاحظ كيف كان هيئته و عارٍ تماماً . الشيء الوحيد الذي كانت تتذكره ( و الذي كانت تنظر إليه مستثارة عبر المرآة ) هو جسدها و بالتحديد عانتها و الشائبة المستديرة فوقها تماماً . هذه الشّابة التي لم تكن ترى فيها حتى الآن إلا مجرد عيب جلدي ، بدأت تنطبع في ذاكرتها . كانت تريد أن تنظر إليها و تنظر إليها من جديد و هي على مقربة لا توصف من قضيب الرجل الغريب . لا يمكنني إلا أشدد على هذا ثانيةً : هي لم تكن راغبة في رؤية قضيب الغريب . بل كانت تريد أن ترى عانتها و هي على مقربة من هذا القضيب ، و عانتها تحديداً . لم تكن ترغب في جسد الآخر ، بل في جسدها هي ، الذي اكتشفت فجأة أنه كّلما كان أكثر قرباً و أكثر غرابة ، كان أكثر إثارة . ها إنها تنظر إلى جسدها المتلألئ بقطرات ماء صغيرة من المرشة و تفكر بأن المهندس سيمر بين يوم و آخر إلى الحَانة . كانت راغبة في أن يأتي و في أن يدعوها لزيارته ! راغبة في ذلك بشكل لا حدّ له !

23

كانت على مرّ الأيام تخشى ظهور المهندس ثانيةً أمام طاولة الحانة ، فتكون غير قادرة على أن تقول لا . على مر الأيام ، كانت خشيتها من أن تراه ، تخلي المكان لخشيتها من ألا يأتي . شهر قد مرّ و المهندس منقطعة أخباره . كان تيريزا عاجزة عن فهم السبب . فأفسحت الرغبة الخائبة المكان للقلق : لماذا لا يأتي ؟ . . كانت تقدّم الشراب للزبائن . ها قد رجع الأصلي القصير الذي كان اتهمها ذلك المساء بأنها تقدم الكحول لمن هم دون السن . كان يروي بصوتٍ عالٍ قصّة داعرة . القصة نفسها التي سمعتها مئات المرات من أفواه


السكارى الذين كانت تقدم لهم كؤوس جعة كبيرة في الريف . و إذ أحست بأن عالم أُمها ينقض عليها من جديد ، قاطعت حديثه بفظاظة شديدة . تضايق : (( ليس هناك أوامر تملينها عليّ ! اعتبري نفسك محظوظة لأننا نحن الذين نتركك تعملين في هذه الحانة )) . ــ (( (( نحن )) ، ماذا تقصد ب (( نحن )) ؟ )) . ــ (( نحن )) ، قال الرجل ثم أمر بكأس أُخرى من الفودكا . (( و تذكري أني لن أسمح لك بإهانتي )) . ثم أشار إلى عنق تيريزا التي كانت ترتدي عقداً مؤلفاً من عدة صفوف من اللؤلؤ الرخيص ، و قال : (( من أين لكِ هذا اللؤلؤ ؟ لا تقولي إنه هدية من زوجك الذي هو منظف بلاط . فهو لا يقدر على أن يشتري لك هذا اللؤلؤ مع الأجر الذي يكسبه ! هل هم الزبائن الذين يعطونك هذا ؟ و مقابل أي شيء ، قولي ؟ ــ اقفل فمك حالاً ، صرخت تيريزا . حاول الرجل أن يمسك العقد بين أصابعه : (( تذكري أن الدعارة ممنوعة عندنا ! )) . انتصبت كارينين و أسندت رجليها الأماميتين على طاول الشُرب و دمدمت متذمرة .

24

قال السفير : (( هو شرطي ! )) . فألمحت تيريزا : (( لو كان شرطياً لكان أكثر تكتماً . فماذا تنفع شرطة سرية حين لا تكون سرية ! )) . جلس السفير مقرفصاً و كأنه تعلّم ذلك في جلسات لليوغا . على الحائط كان كينيدي يبتسم فُيضفي على كلمات السفير طابعاً مقدساً . ثم قال بلهجة أبوية : (( سيدة تيريزا ، للشرطة مهام عدة . المهمة


الأولى كلاسيكية و مفادها أن يسمعوا ما يقوله الناس و يبلغوه لرؤسائهم . و المهمة الثانية هي التهديد . يُظهرون لنا أنهم يضعوننا تحت رحمتهم و مرادهم أن نخاف . هذا ما كان يبغيه رجلك الأصلع . و المهمة الثالثة تعنى بإعداد مواقف يمكنها توريطنا . ما من أحد عاد يهتم بأن تُتّهم بالتآمر على النظام لأن هذا يزيد من تعاطف الناس معنا لذلك ، فهم يفضلون العثور على حشيشة في قعر جيوبنا أو أن يثبتوا بأننا اغتصبنا فتاة فيْ الثانية عشرة . و يُحضرون صبية لتشهد على ذلك . فتذكرت تيريزا المهندس . كيف يمكنها أن تفسر عدم رجوعه ؟ كان السفير يتابع : (( ينصبون للناس فخاخاً ليستعبدوهم و يستغلوهم لنصب فخاخ للآخرين . و هكذا دواليك ، حتى يجعلوا شعباً بأكمله منظمة هائلة من المُخبرين )) . لم تكن تيريزا تفكر إلا بشيء واحد ، بأن المهندس مبعوث لها من قبل الشرطة . و لكن من يكون هذا الصبي الغريب الذي ذهب ليثمل في المقهى المقابل و من ثم رجع ليعترف لها بالحب ! فبسبب هذا الصبي خاصمها الشرطي و بادر المهندس إلى الدفاع عنها . ثلاثتهم إذاً لعبوا دوراً في سيناريو مهيأ مسبقاً .و كل ذلك أعدّ في سبيل أن تستلطف الرجل الذي تنصّ مهمته على أن يُغويها . كيف أنها لم تفكر ذلك ؟ ثم أن ذاك المسكن كان يوحي بالارتياب و لا يتناسب إطلاقاً مع هذا الشخص . فلماذا يقيم مهندس أنيق في مسكن بهذه الحقارة ؟ أهو حقاً مهندس ؟ كيف أمكنه إذاً أن يتغيب عن عمله في الساعة الثانية من بعد الظهر ؟ و هل في المستطاع تخيل مهندس يقرأ سوفوكل ! لا لم تكن المكتبة تلك تخصّ مهندساً . و هذه الغرفة كانت تشبه بالأحرى مسكناً مصادراً لمثقف معدم و موجود حالياً في السجن . عندما كانت في العاشرة من عمرها أوقفوا أباها و صادروا الشقة و المكتبة كلها . من يدري لأي مأرب استعملوا الشقة فيما بعد ؟ الآن ، كانت تفهم بوضوح لماذا لم يعد ثانية . لأنه قد أنجز مهمته و أية



مهمة ؟ كان الشرطي الأصلع قد أوحى بها دون أن يدري عندما قال : (( في الوقت الحاضر الدعارة ممنوعة عندنا ، لا تنسي هذا الأمر ! )) و ذلك المهندس المزيف ربما سيشهد بأنها ضاجعته و أنها طلبَتْ منه مالاً ! سيهدّدونها بإثارة فضيحة و يبتزونها لتُبلغ عن هؤلاء الذين يأتون إلى الحانة ليسكروا . كان السفير يحاول طمأنتها : (( مغامرتك لا تبدو لي خطيرة إلى الحد الذي تتصورن )) . فقالت تيريزا بصوت مخنوق : (( ممكن )) . و خرجت مع كارينين إلى شوارع براغ السوداء .

25

لكي نتحاشى العذاب نلجأ في أكثر الأحيان إلى المستقبل . فنتصور أن ثمة فاصلاً ما على حلبة الزمن يتوقف بعد العذاب الحالي عن أن يكون موجوداً . و لكن تيريزا لم تكن ترى أن هذا الفاصل موجود إزاءها . . و كان الرجوع إلى الوراء وحده يجلب لها شيئاً من المواساة . كان نهار أحد آخر . ركبا السيارة ليذهبا في نزهة بعيداً عن براغ . كان توماس أمام المقود و تيريزا إلى جانبه و كارينين على المقعد الخلفي . تمد أحياناً رأسها إلى الأمام لتلحس لهما آذانهما . في زهاء ساعتين وصلا إلى مدينة مليئة بالمياه المعدنية . كانا قد أمضيا بضعة أيام فيها لخمس أو ست سنوات خلَتْ . فأراد التوقف فيها لقضاء الليل . أوقفا السّيارة في الساحة ، و ترجّلا منها . ما زالت المدينة كما كانت في الجهة المقابلة الفندق الذي نزلا فيه تلك السنة ، و أيضاً شجرة الزيزفون القديمة أمام المدخل . على يسار الفندق تصطف قناطر خشبية قديمة و في نهايتها تنساب عينُ ماء في بركة رخامية . كان هناك أناس ينحنون فوقها ، كما في السابق ، و الأكواب في أيديهم . كان توماس يشير إلى الفندق . و لكن هناك شيئاً ما تغير على أية حال . . ففي السابق كان الفندق يُسمّى (( الفندق الكبير )) ، و الآن صار اسمه


استناداً إلى اللافتة (( البَيْكال )) . ثم نظرت إلى اللائحة عند زاوية المبنى و قد كُتب عليها : (( ساحة موسكو )) . فَجَالا معاً ( كانت كارينين تتبعهما لوحدها دون رسن ) في كل الشوارع التي كانا يعرفانها و تفحصا الأسماء : شارع ستالينغراد و شارع لينينغراد ، و شارع روستوف ، و شارع نوفوسبيرسك ، و شارع كييف ، و شارع أوديسا . و هناك دار تشيكوفسكي للنقاهة ، و دار تولستوي للنقاهة ، و دار ريمسكي كورساكوف للنقاهة . و هناك أيضاً فندق سوفوروف و سينما غوركي و مقهى بوشكين . كانت كل الأسماء مأخوذة من روسيا و من التاريخ الروسي . أخذت تيريزا تتذكر أيام الاجتياح الأولى . كان الناس يُخفون آنذاك اللافتات في كل الشوارع ، في كل المدن ، و يقتلعون من الطرقات الألواح المشيرة إلى الاتجاه . فأصبح البلد غير معروف في ليلة واحدة . كان الجيش الروسي يتسكع في البلاد دون أن يعرف وجهته ، و كان الضباط يفتشون عن مباني الإعلام و التلفزيون و الراديو ليحتلوها ، لكن دون من أن يتمكنوا من العثور عليها . و حين كانوا يسألون الناس عنها يهز هؤلاء الأخيرون أكتافهم أو يدلونهم على عناوين خاطئة و على اتجاهٍ خاطئ . و مع مرور السنوات ، يبدو أن هذا التستر عاد بالضرر على البلاد . فلا الشوارع و لا البيوت تمكنت بعد ذلك من استعادة أسمائها الأصلية . و هكذا مصغّرة . كانت تيريزا إذاً أن الماضي الذي أتيا للتفتيش عنه هنا قد تمت مصادرته . و كان يستحيل عليها البقاء لإمضّاء الليلة .

26

توجها من جديد إلى السيارة صامتْين . كانت تيريزا تقول في نفسها إن الأشياء كلها و الناس كلهم يعرّفون عن أنفسهم متنكرين : كانت المدينة القديمة بوهيميا قد اكتست بأسماء روسية . و التشيكيون الذين كانوا يلتقطون صوراً عن الاجتياح ، كانوا يعملون دون أن يدروا لمصلحة الشرطة السرية الروسية . فالرجل الذي أرسلها إلى الموت كان مُقنَّعاً بقناع توماس ،



و المهندس كان يريد أن يلعب دور رجل (( مون – دو – بيير )) ، و الكتاب في مسكنه كان رمزاً خادعاً وُجد هناك لتضليلها . و إذ فكرت في الكتاب الذي أمسكته في يدها ، مرَّت في خاطرها فكرة احمرَّ لها خداها خجلاً : كيف حدثت هذه الأمور ؟ قال المهندس إنه ذاهب لإحضار القهوة ، فاقتربت من المكتبة و انتزعت كتاب (( أوديب )) لسوفوكل . ثم عاد المهندس لكن دون قهوة . كانت تقلّب الموقف في جميع الاتجاهات : تُرى ، عندما ذهب متذرعاً لتحضير القهوة ، كم من الوقت بقي هناك ؟ لا شك في أنه بقي دقيقة على الأقل أو دقيقتين و ربما ثلاثاً . ماذا يمكن أن يكون قد فعل كل هذا الوقت في مدخل صغير ؟ هل ذهب إلى المرحاض ؟ كانت تيريزا تحاول أن تتذكر ما إذا كانت قد سمعت طرطقة باب أو قرقرة من طريدة الماء . لا ، بالتأكيد لم تسمع كذلك طرطقة باب . إذاً ماذا كان يفعل في المدخل ؟ و فجأة ، انجلى الأمر لها تماماً : لم تكن شهادة المهندس لوحدها كافية لإيقاعها في الفخ . . و إنما يجب إعطاؤهم دليلاً قاطعاً . فخلال هذا الغياب الطويل المشبوه ذهب المهندس ليضع كاميرا في المدخل . أو بشكل أفضل ، من المحتمل أن يكون قد أدخل شخصاً يحمل آلة تصوير فاختبأ خلف الستارة و قام بتصويرهما . منذ أسابيع قليلة كانت متعجبة من أن بروشازكا لم يكن يعرف أنه يعيش في معسكر اعتقال لا مكان للمرء فيه لأن تكون له حياة خاصة . لكن ماذا عنها هي ؟ عندما رحلت عن بيت أبيها ، اعتقدت لسذاجتها أنها أصبحت من الآن فصاعداً سيدة حياتها الخاصة . و لكن البيت الأمومي كان يمتد ليطال العالم كله و يُدركها في كل مكان . كانت تيريزا غير قادرة على الإفلات منه أينما ذهبت . نزلا الدرج وسط الحدائق ليبلغا الساحة حتى أوقفا السيارة . (( ما بكِ )) ، سألها توماس .




و قبل أن يتسنّى لها الوقت للإجابة ، ألقى أحدهم التحية على توماس .

27

كان الرجل فلاحاً في الخمسين غضّنت الريح وجهه . و كان توماس قد أجرى له عملية من زمان . ومنذ ذلك الوقت وهم يرسلونه كل سنة للاستشفاء في منطقة مياه معدنية . دعا توماس و تيريزا لشرب كأس . و بما أن الكلاب غير مسموح بها في الأماكن العامة ، ذهبت تيريزا إذاً لتضع كارينين في السيارة . في خلال هذا الوقت جلس الرجلان في المقهى لانتظارها . عندما رجعت كان الفلاح يقول : (( عندنا ، كل شيء هادئ . حتّى أنهم انتخبوني رئيساً للتعاونية من سنتين )) . قال توماس : (( تهانينا )) . ــ (( كما تعرفون ، هنالك الريف ، و الجميع يغادرنه . و في الجبال ، يعتبرون أنفسهم محظوظين فيما لو قبل أحد بالبقاء عندهم . ليس في إمكانهم السماح لأنفسهم بطردنا من عملنا )) . قالت تيريزا : (( سيكون إذاً المكان الأمثل لنا )) . ــ (( و لكنك هناك ستضجرين يا سيدتي الصغيرة . . هناك لا شيء ، لا شيء إطلاقاً )) . كانت تيريزا تنظر إلى الوجه الذي غضنته الريح . كانت تستلطف كثيراً هذا الفلاح . و أخيراً و بعد وقت طويل ، وجدت أحداً ما تستلطفه ! و للحال انبثقت لوحة ريفية أمام نظرها : قرية و قبة جرس و حقول و غابات و أرنب بري ينسحب مسرعاً من أحد الأثلام و خفير للصيد لابس لبدة خضراء . لم يسبق لها أن عاشت في الريف . كان الريف صورة رسمها خيالها من خلال الأحاديث أو من خلال قراءاتها . أو ربّما حفرها أجداد بعيدون في شعورها الباطن . و مع ذلك فإن هذه الصورة كانت واضحة في داخلها و نقية مثل صورة أم الجدة في ألبوم عائلي أو مثل محفورةٍ قديمة .



سأل توماس : هل ما زلت تشعر بالألم ؟ فدَلّه الفلاح على موضع خلف عنقه حيث تتصل الجمجمة بالعمود الفقري و قال : أشعر أحياناً بألم في هذا المكان . تحسس توماس المكان الذي أشار إليه مريضه القديم ، دون أن ينهض عن كرسيه ، طارحاً عليه بعض الأسئلة . ثم قال : (( لم يعد يحق لي أن أكتب لك وصفات . و لكن عند عودتك قل لطبيبك إنك تحدثت معي و إنني أمرتك بأن تأخذ هذا الدواء )) . ثم أخرج مذكرته من جيبه الداخلي و انتزع ورقة منها ، ثم كتب عليها اسم الدواء بأحرف كبيرة .

28

كانا يسيران باتجاه براغ . كانت تيريزا تفكر في الصورة حيث كان جسدها عارياً بين ذراعي المهندس . فبدأت تحاول أن تتحرّر من قلقلها : حتى و لو سلّمت بأن هذه الصورة موجودة فعلاً ، فلن تتسنّى لتوماس رؤيتها . لأن الصورة لا تخدم هؤلاء الناس في شيء إلا إذا استعملوها كورقة ابتزاز لتيريزا . مما يعني أن هذه الصورة إن أُرسلت إلى توماس تفقد كل قيمتها في الحال . و لكن ماذا سيحدث لو أن الشرطيين قرروا ألا يهتموا لأمر تيريزا مطلقاً ؟ في هذه الحالة ، ستصير الصورة وسيلة جيدة للمزاح . و إن عنَّ على بال أحدهم وضعها في ظرف و إرسالها على سبيل الضحك إلى عنوان توماس ، فلن يمنعه أحد من ذلك . و ماذا سيحصل لو أن توماس استلم مثل هذه الصورة . هل سيطردها خارجاً ؟ ربما لا . أو على الأصح لا . و لكن صرح حبهما الهش سوف ينهار تماماً لأنه مرتكز على العمود الوحيد لوفائها . و علاقات الحب هي مثل الأمبراطوريات ، ما أن يختفي المبدأ الذي بُنيت على أساسه حتى تختفي معه أيضاً .


كانت هناك صورة مائلة أمام عينيها : صورة الأرنب البري و هو ينسحب مسرعاً من ثلم و خفير صيد بلبدة خضراء و جرس كنيسة في أعلى الغابة . كانت تود أن تقول لتوماس بأن عليهما ترك براغ بعيداً ، بعيداً عن الأطفال الذين يدفنون طيور الزاغ أحياء ، بعيداً عن الشرطة ، بعيداً عن الفتيات المسلّحات بالمظلاّت . كانت تود أن تقول له إنه يجب عليها الانتقال للعيش في الريف ، و إن في هذا طريق خلاصهما الوحيد . التفتت نحوه . و لكن توماس كان صامتاً و عيناه شاخصتان إلى الطريق المكدّم الممتد أمامه . . كانت عاجزة عن اختراق سور الصمت الذي يعلو بينهما . و في الحالة نفسها عندما كانت تنزل من (( مون – دو – بيير )) من جديد : كانت تشعر بتشنج في معدتها و برغبة في التقيؤ . كان توماس يثير فيها الذعر فهو أقوى منها بكثير و هي أضعف منه بكثير . و كان يملي عليها أوامر لا تفهمها . و هي تحاول جاهدة تنفيذها و لكنها لم تكن تعرف كيف تتصرف . كانت تريد الرجوع إلى (( مون – دو بيير )) و الطلب من الرجل صاحب البندقية أن يسمح لها بعصب عينيها ، و الاستناد إلى جذع شجرة الكستناء كانت راغبة في الموت .

29

استيقظَتْ فوجدَت أنها لوحدها في البيت . خرجت و مشت باتجاه الشوارع التي تحاذي نهر الفلتافا . كانت راغبة في رؤية النهر و التوقف عند الضفة و النظر طويلاً إلى الماء . لأن رؤية الماء الجاري تهدّئ و تُشفي . النهر يجري عبر قرون و قصص الناس لا تنفك تحدث على ضفافه. و لكنها ما أن تحدث لتُنسى في الغد و النهر لا يتوقف عن الجريان . كانت تنظر إلى الأسفل متكئة إلى الدرابزين . كانت هذه أطراف براغ حين يجتاز النهر المدينة تاركاً وراءه روعة (( هرادشين )) و الكنائس : كان النهر



هناك يشبه ممثلة بعد انتهاء المسرحية منهكة من التعب و ساهمة البال . كانت المياه تسيل وسط ضفاف متسخة محاط بأسياج و بحيطان توجد خلفها مصانع و ملاعب مهجورة .. نظرت طويلاً إلى الماء الذي يبدو في هذا المكان أكثر حزناً و أكثر قتامة . ثم لمحت فجأة شيئاً غريباً وسط النهر ، أحمر ، نعم ، إنه مقعد . مقعد خشبي أرجله معدنية كتلك المقاعد التي يوجد منها بكثرة في حدائق براغ العامة . كان يعوم ببطء في وسط نهر الفلتافا و يعوم خلفه مقعد ثانٍ ، ثم مقعد ثالث و مقعد رابع . ففهمت تيريزا أخيراً أنها كانت ترى مقاعد الحدائق العامة في براغ تغادر المدينة منجرفة مع تيار الماء . كان هناك الكثير منها و دائماً بتزايد . كانت تسبح فوق الماء مثل أوراق الخريف حين تحملها المياه بعيداً عن الغابات . كان منها الأحمر و الأصفر و الأزرق . استدارت علّها تسأل الناس ما معنى الذي يجري . تسألهم لماذا كانت مقاعد الحدائق العامة في براغ تغادر مع التيار ؟ و لكن الناس كانوا يمرون أمامها لا مبالين . فسيّان عندهم أن يجري النهر عبر القرون في وسط مدينتهم الزائلة . أخذت تتأمل من جديد . كانت تشعر بحزن لا متناهٍ و تدرك أن هذا المشهد كان بمثابة وداع ، وداع من الحياة التي تغادر مع موكب ألوانها . كانت المقاعد قد توارت عن مدى رؤيتها . لكنها رأت أيضاً بضعة مقاعد أخيرة متخلفة عن الأخرى . ثم رأت أيضاً مقعداً أصفر و واحداً أزرق ، كان الأخير .

















القسم الخامس الخفة و الثقل

1 عندما جاءت تيريزا إلى توماس في براغ ، على غير انتظار ، كانت قد مارست الحب للحال في اليوم نفسه ، كما سبق أن قلت في القسم الأول ، و لكنها فيما بعد أصابتها الحمى . كانت ممدَّدة على سريره و كان جالساً قربها و هو مقتنع بأنها طفل وضع في سلة و أُرسل على مجرى المياه . و منذ ذلك الحين و هو يهوى صورة الولد اللقيط هذه ، و يفكر دائماً بالخرافات القديمة التي تظهر فيها هذه الصور . ربّما هنا يكمن الحافز الخفي الذي دفعه إلى الذهاب للتفتيش عن ترجمة (( أُوديب )) لسوفوكل . قصة ((أُوديب )) معروفة جداً : و مفادها أنّ راعياً عثر على لقيط رضيع فحمله إلى الملك بوليب فاحتضنه . عندما كبر (( أُوديب )) صادف على درب جبلية عربة كان يسافر فيها أمير مجهول . فتخاصما و قتل (( أُوديب )) الأمير . فيما بعد ، تزوج من الملكة جوكاست و أصبح ملكاً على (( الثيب )) . لم يكن يعلم أنّ الرجل الذي قتله في الماضي في الجبال كان أباه و أن المرأة التي يضاجعها كانت أمه . في غضون ذلك ، كانت المصائب تنزل بأبناء رعيته و تثقل كاهلهم بالأمراض . و عندما فهم (( أُوديب )) أنه كان هو نفسه المسؤول عن عذاباتهم ، فقأ عينيه بالدبابيس و غادر (( الثيب )) إلى الأبد .

2 هؤلاء الذين يعتقدون أن الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية هي فقط من اختراع مجرمين ، فإنهم يغفلون حقيقة أساسية : الأنظمة المجرمة لم ينشئها أُناس مجرمون و إنما أُناس متحمسون و مُقتنعون بأنهم وجدوا الطريق . الوحيد الذي يؤدي إلى الجنة . فأخذوا يدافعون ببسالة عن هذا الطريق ، و من أجل هذا قاموا بإعدام الكثيرين . ثم ، فيما بعد ، أصبح جليّاً و واضحاً أكثر من النهار ، أن الجنة ليست موجودة و أن المتحمسين كانوا إذاً مجرد سفّاحين . عندها ، أخذ كل واحد يقوم بمهاجمة الشيوعيين قائلاً : (( أنتم المسؤولون عن مصائب هذا البلد ( فهو معوزٌ و مفلس ) و عن خسارته لاستقلاله ( فهو واقع تحت سيطرة الروس ) و عن الاغتيالات القضائية ! )) . أما المتَّهمون فكانوا يجيبون : لم نكن عارفين ! لقد خُدعنا ! كنا مؤمنين بالقضية ! نحن أبرياء في قرارة قلوبنا . كان الجدال بتمحور حول هذا السؤال : هل كان صحيحاً أنهم لم يكونوا عارفين ؟ أم أنهم كانوا يتظاهرون فقط بأنهم غير عارفين ؟ كان توماس يتابع هذا الجدال ( كمثل حال عشرة ملايين من التشيكيين ) و كان يفكر بأنه بالتأكيد بين الشيوعيين أناس لم يكونوا قد سمعوا الكلام على الفظائع التي ارتكبت و التي لا تزال تُرتكب في روسيا ما بعد الثورة ) . و لكن كان من المحتمل أيضاً ألا تكون أغلبيتهم مطّلعة فعلاً على مجريات الأمور . و كان يفكر أن السؤال الأساسي ليس : هل كانوا عارفين ؟ بل : هل هم أبرياء لأنهم غير عارفين ؟ إن غبياً جالساً على العرش ، أهو منزّه عن كل مسؤولية فقط لأنه غبي ؟ . فلنُسلّم جدلاً بأن القاضي التشيكي الذي كان يطالب ، في بداية الخمسينات ، بعقوبة الإعدام لرجل بريء ، لنُسلّم أنه كان مخدوعاً من الشرطة الروسية السرية و من نظام بلاده . و لكن الآن ، قد عرف الجميع أن التهم باطلة و أن المحكومين أبرياء ، كيف بإمكان القاضي نفسه أن يحتشد للدفاع عن براءة ذمته و أن يلطم صدره قائلاً : ضميري لا تشوبه شائبة ، لم أكن أعرف هكذا كنت أعتقد ! و لكن ألا تكمن غلطته التي تعوّض هنا بقوله : (( لم أكن عارفاً ، هكذا كنت أعتقد ! )) ؟ .



عندها تذكر توماس حكاية أُوديب . أُوديب أيضاً لم يكن عارفاً بأنه يضاجع أمه ، و مع ذلك فإنه عندما عرف بالأمر لم يجد نفسه بريئاً . و لم يستطع تحمل مشهد الشقاء الذي سبب جهله ففقأ عينيه و غادر (( ثيب )) و هو أعمى . كان توماس يسمع زعيق الشيوعيين و هم يدافعون عن براءة ذمتهم ، قائلين بأنكم أبرياء ؟ كيف تجرؤن بعد على النظر حواليكم ؟ كيف ، ألم تصابوا بالهلع ؟ أو لا عيون لديكم لتبصروا ! لو كانت عندكم عيون حقاً لكنتم فقأتموها و غادرتم (( ثيب )) ! كانت هذه المقارنة تروق له إلى حد أنه كان يستعملها مراراً في أحاديثه مع أصدقائه ، و كان يعبّر عنها بعبارات أكثر لذعاً و أكثر فصاحة . كان يقرأ في تلك الفترة ، مثل كل المثقفين ، مجلة أسبوعية يطبع منها ثلاثمائة نسخة و ينشرها اتحاد الكتّاب التشيكيين الذي اكتسب استقلالاً ذاتياً لا يستهان به في ظلال النظام و الذي كان يتكلم أشياء لا يجرؤ الآخرين على التفوًه بها علانية . كانت المجلة الخاصة بهؤلاء الكتّاب تنشر مقالات يسألون فيها أسئلة على نمط (( من هو المذنب ، أو إلى أي حدّ ارتكبت جرائم قضائية خلال المحاكمات السياسية في السنوات الأولى للنظام الشيوعي )) ؟ كان السؤال ذاته يتكرر دائماً في كل هذه المجادلات و هو : هل كانوا عارفين أم لم يكونوا عارفين ؟ و بما أن توماس كان يعتبر هذه المسألة ثانوية ، كتب في ذات يومٍ خواطره عن أٌوديب و أرسلها إلى المجلة الأسبوعية . و بعد شهر تلقى جواباً من مسؤولي المجلة يتوسلون إليه فيه أن يمر بمكتب التحرير . و عندما ذهب إلى هناك ، استقبله صحافي قصير القامة و في غاية الاستقامة . ثم اقترح عليه أن يغيّر من تركيبة إحدى الجمل . و ظهر المقال فبما بعد الصفحة ما قبل الأخيرة في زاوية (( رسائل القراء )) . لم يكن توماس راضياً إطلاقاً عن المقال . كانوا قد ارتأوا استدعاءه إلى المجلة لكي يجعلوه يوافق على تغيير في تركيبة إحدى الجمل ، و لكنهم




اقتطعوا جزءاً كبيراً من المقال ، فصارت خواطره تقتصر على فكرة رئيسية ( مبسطة أكثر مما ينبغي و تعسفية ) و لم تعد تعجبه إطلاقاً . حدث ذلك أثناء ربيع 1968 . كان ألكسندر دوبتشك مستلماً سدة الحكم و محاطاً بالشيوعيين الذين كانوا يحسون أنهم مذنبون و مستعدون لعمل شيء ما من أجل إصلاح خطئهم . و لكن الشيوعيين الآخرين الذين كانوا يزعقون بأنهم أبرياء ، كانوا خائفين من أن يحيلهم الشعب الغاضب إلى المحاكمة . و كانوا يذهبون كل يوم ليشكوا أمرهم إلى السفير الروسي و يستمنحوا دعمه . و عندما نُشرت رسالة توماس ، أطلق هؤلاء الصرخة : هل وصل الأمر إلى هذا الحد ! يتجرأون على الكتابة علانية يجب فقء عيوننا ! بعد شهرين أو ثلاثة قرر الروس عدم السماح بالجدال الحرّ في أريافهم و احتل جيشهم في غضون ليلة واحدة بلد توماس .

3

كان توماس بعد رجوعه من زوريخ قد وجد وظيفة له في المستشفى نفسه الذي كان يعمل فيه في براغ . و لكن ، بعد قليل من الوقت استدعاه رئيس القسم . قال له : (( يا زميلي العزيز ، في النتيجة أنت لست كاتباً و لا صحافياً و لا منقذ الشعب ، بل أنت طيب و رجل علم . و أنا لا أود أن أخسرك و سأفعل كل ما في وسعي للاحتفاظ بك هنا . و لكني أرى أنه يجب أن ترجع عن هذا المقال الذي كتبته بخصوص (( أُوديب )) . هل أنت متمسك به إلى حد بعيد ؟ فقال توماس و هو يتذكر أن ثلث نصه قد اقتُلع : (( أستاذي ، إنه آخر شيء يمكن أن أتمسك به في هذا العالم )) . قال رئيس القسم : (( هل لديك فكرة عن مجريات الأمور ؟ )) . كان يدرك أن هناك أمرين في الميزان : من جهة شرفه ( الذي كان يقضي بألا يتراجع عما كتبه ) و من جهة ثانية هناك الأمر الذي تعوّد على اعتباره هدف حياته ( أي عمله كرجل علمي و كطبيب ) .


أردف رئيس القسم : (( تلك عادة قروسطية أن نفرض على رجل ما أن يرجع عن كلامه . لكن ماذا تعني عبارة (( رجع عن كلامه )) ؟ في أيامنا هذه ، ليس في إمكاننا أن نرجع عن قول فكرة ، بل في إمكاننا فقط أن ننقضها من الأساس . و بما أن الرجوع عن الكلام أمر مستحيل يا زميلي العزيز ، لا بل كلاميّ بحت و شكلي و وهمي و سحري ، فإنّي لا أفهم لماذا لا تنقذ لهم ما يطلبون منك . ففي مجتمع يحكمه الإرهاب ، ما فائدة البيانات و هي مبتزة إكراهاً ! لذلك يجدر برجل شريف ألاَّ يعيرها اهتماماً و ألاّ يصغي إليها . أقول لك ذلك يا زميلي العزيز من أجل مصلحتي و مصلحة مرضاك . يجب أن تبقى في وظيفتك )) . فقال توماس و التعاسة تبدو على وجهه : (( أستاذي ، من المؤكد أنك محق في ما تقول )) . ــ (( ولكن ؟ )) قال رئيس القسم و هو يجهد لقراءة أفكاره . ــ (( أنا خائف من أن أشعر بالخجل ؟ )) . ــ لكن مِنّ مَن ؟ أتولي اعتباراً كبيراً للناس الذين يحيطون بك حتى تهتم لما يفكرون ؟ ــ لا ، قال توماس . لا أولي اعتباراً كبيراً للناس . أضاف رئيس القسم : (( على كل حال ، لقد أكّدوا لي أن الإفادة لن تكون علنية . فُهم بيروقراطيون و يحتاجون لأن يضعوا في ملفّاتهم شيئاً يثبت أنك لست ضد النظام . و هذا ليتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم في حال أُخِذَ عليهم إبقاؤك في وظيفتك . لقد وعدوني بأن تبقى إفادتك سراً بينك و بين السلطات ، دون أن تكون لهم نية في نشرها )) . فقال توماس مُنهياً الحديث : (( أعطني مهلة أسبوع لأفكر )) .

4

كان توماس يُعدّ أفضل جرّاح في المستشفى . و كان يُشاع حينها أن



رئيس الخدمة الذي كان يقترب من سن التقاعد ، سيترك له منصبه عما قريب . و عندما سرى الخبر بأن السلطات العليا كانت تفرض عليه تقديم إفادة نقد ذاتية ، لم يشك أحد في أنه سيمتثل للأمر . و هذا أول أمر فاجأه  : أن يراهن الجميع على عدم استقامته مع أنه لم يقم بشيء يبرهن على صحة هذا الافتراض ، بدلَ أن يراهنوا على استقامته . و الشيء الآخر هو ردة فعلهم أمام تصرفه المفترض . و يمكنني بالإجمال أن أقسم ردة الفعل إلى فئتين : فالنموذج الأول لردّة الفعل يتضمن هؤلاء الذين كانوا هم أنفسهم ( هم أو أقاربهم ) قد تنكّروا لشيء ما ، و الذين أُجبروا على التصريح علانية أنهم على وفاق مع نظام الاحتلال ، أو هؤلاء الذين كانوا يتحضرون للقيام بذلك ( على مضض طبعاً ، لأن لا أحد يقوم بذلك عن طيبة خاطر ) . كان هؤلاء الناس بالذات يوجهون إليه ابتسامة غريبة لم يكن له عهد بها من قبل : الابتسامة الخجولة لتواطؤ سري ، كمثل ابتسامة رجليْن يتلاقيان صدفة في المبغى فيعتريها في البداية شعور بالخجل . و لكنهما فيما بعد يُسّران لكون شعورهما بالخجل متبادلا ً، فينشأ بينهما ما يسمّى رابطاً أخوياً . و كانوا يبتسمون له بتحبب متزايد لا سيما و أنه لم يكن يُعد امتثالياً في وقت من الأوقات . لذلك ، ستكون موافقته المفترضة على عرض رئيس القسم شاهداً على أن الجبن آخذ في أن يتحول ببطء و لكن بِيَقين إلى عادة في السلوك . و سيكف في وقت قصير عن أن يُحسب كذلك . فأدرك توماس بشيء من الهلع أنه لو كتب حقاً هذه الإفادة التي يملونها عليه ، لا شك في أنهم عندئذ سيدعونه لتناول كأس في بيوتهن و سيسعون إلى اكتساب صداقته . أما النموذج الثاني لردة فعل فيتضمن هؤلاء الذين كانوا هم أنفسهم ( هم أو أقاربهم ) مضطهدين و الذين كانوا يرفضون الموافقة على أية مساومة مع السلطة المحتلة ، أو هؤلاء الذين لم يكن أحد ليطالبهم بمساومة أو بإفادة ( ربما لأنهم كانوا أحداثاً و لم يكونوا بعد قد تورّطوا في شيء ) لأن لا أحد كان مقتنعاً بأنهم سيقبلون بذلك .


س . . . هو أحد هؤلاء و هو طبيب شاب و متفوق فضلاً عن ذلك . . سأل توماس ذات يوم : (( ماذا ، هل كتبت لهم (( ذاك الشيء ؟ )) . ــ (( عمّ تتكلم ، لو سمحت ؟ )) . ــ (( عن رجوعك عما قلته )) ، قال س . . . و لم يكن يقول ذلك عن خبث بل حتى كان مبتسماً . و كانت هذه الابتسامة مختلفة تماماً عن أنواع الابتسامات الأخرى ، ابتسامة الفوقية الأخلاقية الراضية عن نفسها . قال توماس : (( إسمع ، ماذا تعرف بشأن إفادة الرجوع عما قلته ؟ هل قرأتها ؟ ــ (( لا )) ، أجاب س . . . فقال توماس : (( ماذا تقول إذاً ؟ )) . كان س . . . يبتسم الابتسامة الراضية نفسها : (( هيا ، نعرف كيف تجري الأمور . فهذه الإفادات تكتب على شكل رسالة موجهة إلى المدير أو إلى الوزير أو إلى تارتمبيون الذي يَعٍدُ بأن الرسالة لن تُنشر كي لا يشعر كاتبها بالمذلة . هذه هي الحال ، أليس كذلك ؟ )) . رفع توماس كتفيه مستهزئاً و انتظر أن يُكمل . (( و بعد ذلك ، تُوضع الإفادة في الملف ، و لكن كاتبها يعرف أن بإمكانهم أن ينشروها في أية لحظة . من هنا ، فإنه لن يعود بإمكانه أن يقول شيئاً و لا أن ينتقد أي أمر و لا أن يعارض ، لأنّ إفادته ستنشر حينئذ و سيُفْتَضح أمره أمام الجميع . و في نهاية الأمر ، إنها طريقة لطيفة نوعاً ما . فبالإمكان تصور طرقٍ أسوأ منها بكثير . قال توماس : (( أجل ، تلك طريقة لطيفة جداً . و لكني متحرّق لأعرف من قال لك أنني وافقْتُ )) . رفع الزميل كتفيه هازئاً و لكن الابتسامة لم تتلاشَ عن وجهه . فَفَهِم توماس أمراً غريباً . لقد كان (( الجميع )) يبتسمون له ، و كان (( الجميع )) يتمنون أن يكتب إفادته ، لأنه لو رجع عن كلامه فسيُدخل السرور


إلى قلوب الجميع . كان بعضهم مغتبطين لأنّ تضخم الجُبن يعمّم سلوكهم الخاص و يُرجع لهم الشرف المفقود . و كان آخرون قد اعتادوا على أن يجدوا شرفهم امتيازاً خاصاً لا ينوون التخلي عنه مطلقاً . لذلك ، فإنهم يكنّون للجبناء محبة سرية ، فلولاهم لما كانت شجاعتهم إلا مجرد جهدٍ غير مجدٍ و غير مثير للإعجاب . لم يكن توماس قادراً على تحمل هذه الابتسامات ، و كان يتخيل أنها تلاحقه في كل مكان ، و حتى على وجوه المارّة المجهولين في الشارع . كما و أنه لم يعد قادراً على النوم . ماذا ؟ هل كان يعير هؤلاء الناس أهمية إلى هذا الحد ؟ إطلاقاً . فهو لم يكن يبالي بأمرهم و كأن يأخذ على نفسه أنه سمح لنظراتهم بأن تشوّش على أفكاره . فهل يمكن لمن كان لا يقيم أي اعتبار للآخرين أن يجعل مصيره مرتبطاً إلى حدٍ بعيد بحكمهم عليه ؟ ربما ارتيابه المتأصّل بالناس ( أي شكه فيما يختص بحقهم في تقرير مصيره أو الحكم عليه ) قد لعب دوراً في اختياره لمهنة تُثنيه عن أن يكون قبلة الأنظار . فذلك الذي يختار مثلاً مهنة الرجل السياسي يجعل عن طواعية من الجمهور حكماً له مؤمناً ساذجاً و صريحاً بأن عليه أن يكسب ودّه . و كما أنّ احتمال معاداة الجموع له يحثه بالتالي على القيام بمآثر أكثر فأكثر تطلباً ، كذلك فإن صعوبة تشخيص مرض ما تثير توماس بالطريقة نفسها . إن الطبيب ( بخلاف الرجل السياسي أو الممثل ) لا يحكم عليه إلا مرضاه و زملاؤه المقربون ، و هؤلاء يحكمون عليه مباشرة و صراحة و دون وسائط و بين أربعة حيطان . و هو يمكنه ، في مواجهته لعيون هؤلاء الذين يحكمون عليه ، أن يردّ مباشرة و أن يوضح رأيه مدافعاً عن نفسه . و لكن توماس الآن ( و للمرة الأولى في حياته ) كان يجد نفسه محط أنظار كثير لا عدَّ لها و لا يستطيع إحصاءها . و هو حيالها لم يكن يستطيع أن يرد لا بنظراته و لا بكلمات ، بل كان متروكاً تحت رحمتها . كانوا يتحدثون عنه في كل مكان ، في المستشفى و خارج المستشفى ( فَبْراغ كانت تعيش على أعصابها ، و كانت أخبار هؤلاء الذين يستسلمون و يَشون و يتعاونون مع النظام تنتشر بسرعة مدهشة مشابهة لسرعة مطنطنة أفريقية ) ، و كان يعرف هذا الأمر دون أن



يستطيع القيام بشيء حياله . كان هو نفسه مدهوشاً من رؤيته إلى أي حدّ كان هذا غير محتمل ، و في أي ذعر كان يغرقه . كان الاهتمام الذي يوليه إياه الجميع يجعله معتكر المزاج كمثل تدافع حشود أو كمثل التلامس مع أشخاص يقتلعون لنا ثيابنا في كابوس . ذهب للقاء رئيس القسم و أبلغه أنه لن يوقّع على شيء . شدّ رئيس القسم على يده بقوة أكبر من المعتاد بكثير ، و قال إنه كان يتوقع أن يتخذ هذا القرار . فقال توماس : (( أستاذي ، ربما بإمكانك أن تُبقيني على عملي حتى و لم أعطِ إفادتي )) . و كأنه كان يود أن يلمح له بأنه يكفي ، في حال أًجبر على الرحيل ، أن يهدد جميع زملائه بتقديم استقالاتهم . و لكن أحداً لم يفكر بالتلويح باستقالته . مما اضطُّرّ توماس بعد ذلك بوقت قصير ، ( شدَّ رئيس القسم على يده بقوة أكبر ممّا في المرة السابقة ، إلى درجة أن جلد يده صار مزرقاً )) إلى ترك منصبه في المستشفى .

5

وجد ، أوّل الأمر ، عملاً له في عيادة ريفية تقع على بُعد أربعة و عشرين كيلومتراً من براغ . كان يذهب إليها كل في القطار و يعود منهكاً من التعب ، في مستوصف في الضواحي . هناك ، لم يعد يستطيع أن يكّرس نفسه للجراحة بل كان يعمل بصفته طبيباً عاماً . كانت صالة الانتظار تكتظ بالمرضى ، و كان بالكاد يستطيع أن يخصص خمس دقائق لكلّ مريض . كان يصف لهم حبوباً من الإسبيرين أو يكتب شهادات مَرَضيّة ليقدموها لأرباب عملهم ، أو يرسلهم لمشاورة أطباء في الأقسام المختصة . و هكذا لم يعد يعتبر نفسه طبيباً بل موظفاً في مكتب . ثم ، في ذات يوم ، و عند انتهاء الخدمة ، جاء لزيارته رجل خمسيني كانت تمنحنه سمنته مظهراً جدياً . عرّف الرجل عن نفسه بصفته رئيس مجلس


الإدارة في وزارة الداخلية . ثمَّ دعا توماس للجلوس في المقهى المقابل . طلب قنينة نبيذ فاعترض توماس قائلاً : (( أقود سيارة و إذا أوقفتني الشرطة ، ستأخذ منّي رخصة السير )) . فابتسم عندها رجل وزارة الداخلية : (( إذا حدث لك شيء ، يمكن الاستشهاد بي )) ، ثم أعطى توماس بطاقة كتب عليها اسمه ( المزيّف طبعاً ) و رقم هاتف الوزارة . ثم استفاض يشرح لتوماس عن مقدار الاحترام الذي يكنه له . فالجميع في الوزارة ليسوا راضيين على أن تقتصر مهمة جرّاح في مثل مكانته ، على وصف حبوب للأسبيرين في مستوصف الضاحية . و أفهمه أيضاً بطريقة غير مباشرة بأن الشرطة ، و إن لم تكن تستطيع التصريح عن ذلك ، كانت تأسف أن يُطرد الاختصاصيون من مناصبهم بمثل هذه الوقاحة . و بما أن زمناً طويلاً قد مرَّ و لم يسمع توماس أحداً يُحسن الثناء عليه ، فإنه كان يستمع إذاً بانتباه كلي إلى الرجل القصير المتكرش ، و يكتشف لدهشته أنه كان مطّلعاّ كلّياّ و بالتفاصيل على نجاحاته في حقل الجراحة لَكَم نحن ضعفاء أمام المديح ! لم يكن في مستطاع توماس إلا أن يأخذ على محمل الجدّ ما كان يقوله رجل الوزارة . و لكن ذلك لم يكن بسبب الغرور فقط بل لانعدام الخبرة خاصة . فَحين يجد المرء نفسه في حضرة شخص متودد و مراعٍ و مؤدّب ، يصعب عليه كثيراً أن يُقنع نفسه في كل دقيقة بأن لا شيء مما يقول صحيح ، أو أن لا شيء حقيقي . و لكن ينجح في (( ألاّ يصدّق )) ( بطريقة مستمرة و جذرية و من دون دقيقة تردد ) يلزمه جهد خارق و دُربة أيضاَ ، أي محاضر استجواب بوليسية متكررة . و هذه الدربة بالذات هي التي كان يفتقر إليها توماس . ثم تابع رجل الوزارة : (( دكتور ، نعرف أن مركزك كان رفيعاً في زوريخ .و نحن نقدر كثيراً رجوعك إلى هنا . تلك مبادرة جيدة من قبلك . فأنت تعرف أن مكانك هنا )) . ثم أضاف و كأنه يريد توجيه ملامة لتوماس : (( و لكن مكانك الحقيقي في غرفة العمليات ! )) . فقال توماس : أشاطرك الـرأي .



بعد صمت قليل ، أردف الرجل بصوت يُدمي الفؤاد : (( و لكن ، قلْ لي يا دكتور ، أفي اعتقادك حقاً أنه يجب فقء عيون الشيوعيين ؟ أَلا ترى أنه أمر مستغرب أن يكون هذا الكلام صاداً عنك أنت بالذات ؟ أنت الذي أرجعْت العافية لأناس كثيرين ؟ فاعترض توماس قائلاً : و لكن هذا لا معنى له . إقرأْ جيداً ما كتبتُ . قال رجل الوزارة بلهجة تفتعل الأسف : (( قرأْتُه )) . ــ و هل عساي كتبت أنه يجب فقء عيون الشيوعيين ؟ فقال رجل الوزارة و صوته يزداد تحسراً : (( هذا ما فهمه الجميع )) . ــ لو أن قرأت النص كاملاً ، كما كنت قد كتبته ، لما أمكنك قط أن تفكّر بشيء مماثل . لقد اختُصر النص قليلاً . . فقال رجل الوزارة و قد أرهف السمع : (( ماذا ؟ ألم ينشروا مقالك كما كتبته ؟ ــ اختصروا منه . ــ كثيراً ؟ ــ الثلث تقريبا ً. كان رجل الوزارة يبدو و كأنّه صادق في سخطه : (( واضحٌ أن هذا لم يكن نزيهاً من قِبلهم )) . هزّ توماس كتفيه هازئاً . ــ (( كان يُفترض بك أن تدافع عن حقوقك ! كان يُفترض بك أن تطالب فوراً بتصويبٍ ما ! )) . فقال توماس : ماذا تريدين أن أفعل ! قَدِم الروس بعد ذلك بوقت قصير ، فانشغل الجميع بهموم أخرى . ــ لكن لماذا تجعل الآخرين يعتقدون بأن طبيباً في مكانتك يتمنىَّ أن


يفقد أناس معيّنون بصرهم ؟ ــ لكنَّ مهلاً ! لقد ظهر مقالي في مكان ما في آخر المجلة وسط رسائل أخرى . و هو لم يثر انتباه أحد ، إلا السفارة الروسية ، طبعاً لأنه كان يلائمهم . ــ لا تقل هذا يا دكتور ! لقد تجادلت بنفسي مع أناس كثيرين حدثوني عن مقالك و كانوا كلهم مدهوشين من أن تكون قادراً على كتابته . و لكن ، عندما قلت لي بأن مقالك لم ينشر بالضبط كما كتبته ، صار كل شيء أكثر وضوحاً بالنسبة لي . هل أوحوا لك إذاً بكتابته ؟ قال توماس : لا ، أرسلته من تلقاء ذاتي . هل كنت على معرفة بهؤلاء الناس ؟ ــ أيهم ؟ ــ هؤلاء الذين نشروا مقالك . ــ لا . ــ ألم تكلمهم من قبل ؟ ــ لم أرَهم سوى مرة واحدة . عندما طلبوا مني أن أمرّ بقسم التحرير . ــ و لأي غرض ؟ ــ بسب ذاك المقال . ــ و مع مَنْ تحدثتَ ؟ ــ مع صحافي . ــ و ما كان اسمه ؟ أدرك توماس أخيراً أن هذا كان استجواباَ . فقال في نفسه إن كلمة واحدة يقولها يمكنها أن تضع أحدهم في خطر . كان يعرف بكل تأكيد اسم الصحافي و لكنه أنكر (( لا أعرف )) . ــ فقال الرجل بنبرة مفعمة بالسخط على انعدام الصدق هذا : (( و لكن


هيّا يا دكتور ! يُفترض به أن يكون قد عرّف عن نفسه ! )) . إنه لمن المضحك ــ المبكي أن تصير أخلاقنا الحسنة بالتحديد في صالح الشرطة ، و السبب أننا لم نتعلم الكذب . فصيغة الأمر : (( قل الحقيقة ! )) التي رسّخها آباؤها و أمهاتنا في أذهاننا ، تجعلنا نشعر بطريقةٍ آلية بالعار حين تكذب حتى و لو كنا أمام الشرطي الذي يستجوبنا . و إنه لأسهل علينا أن نتخاصم معه و أن نشتمه ( و هذا لا معنى له ) من أن نكذب عليه صراحة ( فيما هذا هو الأمر الوحيد الذي يجدر القيام به ) . عندما سمع توماس رجل الوزارة يأخذ عليه انعدام الصدق ، أحسّ بأنه مذنب تقريباَ . ووجب عليه أن يقهر جداراً أخلاقياً لكي يتمكن من الاستمرار في كذبه : (( لاشك في أنه قد عرّف عن نفسه ، و لكنّ بما أن اسمه لم يكن يعني لي شيئاً ، فقد نسيته في الحال )) . ــ كيف كان شكله ؟ كان الصحافي الذي ذهب لمقابلته ، آنذاك ، قصير القامة . و كان شعره أشقر و قصيراً جداً و منتصباً . فحاول توماس أن يجد صفات مناقضة له تماماً فقال : (( كان طويل القامة و كان شعره طويلاً أسود )) . قال رجل الوزارة : آه صحيح ؟ و هل كانت ذقنه طويلة و معقوفة ؟ فقال توماس : أجل ، تماماً . ــ و محني الظهر قليلاً ؟ و ردّد توماس مرة أُخرى بعد أن فهم أن رجل الوزارة كان يشتبه بشخص ما : (( أجل تماماً )) . إنَّ توماس لم يشِ بصحافي تعيس فحسب بل إن وشايته كانت فوق ذلك كاذبة . ــ (( و لكن لماذا استدعاك ؟ و عمَّ تحدثتم ؟ )) . ــ كانوا يريدون أن أغيّر في تركيبة إحدى الجمل . بدا هذا الجواب و كأنه ذريعة تافهة . فاغتاظ رجل الوزارة من جديد لأن



توماس يرفض أن يقول الحقيقة : (( هيا يا دكتور ! لقد أكّدت لتّوك بأنهم حذفوا من النص ثلثه ، و الآن تقول لي بأنكما تحدثتما بخصوص تغيير جملة ! ألا ترى أن هذا ليس منطقياً البتَّة َ )) . وجد توماس على الفور و بسهولة أكبر جواباً ، و السبب أن ما قاله كان الحقيقة عينها فقال و هو يضحك : (( هذا ليس منطقياً ، و لكن هذا هو بالضبط ما حصل . لقد طلبوا مني أن أسمح لهم بالتغيير في تركيبة إحدى الجمل لكنهم فيما بعد اقتطعوا ثلث المقال )) . من جديد هزَّ رجل الوزارة رأسه هازئاً و كأن لم يكن في مستطاعه أن يستوعب تصرفاً لا أخلاقياً إلى هذا الحد ، ثم قال : (( لم يكن هؤلاء الناس نزيهين معك )) . افرغ كأس النبيذ مستنتجاً : (( دكتور ، لقد كنت ضحية التلاعب إنه لأمر يدعو إلى الأسف أن تدفع الثمن أنت و مرضاك . نعرف تماماً ما تتحلى به من مزايا يا دكتور . و سنرى ما في وسعنا أن نفعل )) . مدّ يده إلى توماس مصافحاً ثم استأذن بالانصراف بمحبة قلبية . ثم خرجا من المقهى و توجّه كل منهما إلى سيارته .

6

عكّر هذا اللقاء من مزاج توماس . فهو كان يأخذ على نفسه استسلامه للنبرة الجذلى للحديث . ما دام قد قبل بالتحدث مع الشرطي ( لم يكن مستعداً في الأساس لموقف كهذا و لم يكن عارفاً ماذا يبيح القانون و ماذا يحظّر ) كان يجدر به على الأقل أن يرفض الذهاب معه إلى المقهى و مشاركته في شرب كأس و كأنه يشارك صديقاً ! ماذا لو رآه أحد ما ، أحد يعرف ذلك الرجل ! بالطبع سيكون على استعداد لأن يستنتج بأن توماس مستخدم لدى الشرطة ! ثم لماذا قال لهذا الشرطي بأن مقاله قد اجتُزئ منه ! لماذا أوقفه على هذا الخبر و ليس هناك سبب يدعوه إلى ذلك ؟ شعر عندها بأنه مستاء من نفسه كل الإستياء .



بعد مرور خمسة عشراً يوماً ، رجع رجل الوزارة . و اقترح عليه الذهاب إلى المقهى المقابل كما في المرة السابقة . و لكن توماس فضّل البقاء في حجرة المعاينة . فقال الآخر و هو يبتسم : (( دكتور ، أفهمك )) . فصدمت توماس هذه الجملة . لأن رجل الوزارة كان يتكلم مثل لاعب شطرنج يؤكد لخصمه بأنه سجَّل خطأ في النقلة السابقة . كانا جالسين على كرسيهما وجهاً لوجه تفصل بينهما طاولة توماس . ثم أخذا يتحدثان لمدة عشر دقائق من انتشار وباء الزكام الذي يجتاح البلاد آنذاك . ثم قال الرجل : (( لقد فكرنا في وضعك ، لكانت الأمور أكثر سهولة . و لكن علينا أن نحسب حساباً للرأي العالم . إن مقالك ، شئت أم أبيت ، ساهم في إحياء الهستيريا المعادية للشيوعية . و لا أخفيك القول إنهم أوحوا لنا بمقاضاتك بسبب هذا المقال . فهناك شرعة قانونية تتعلق بذلك و مفادها تحريض الشعب على أعمال العنف )) . توقف رجل وزارة الداخلية للحظة محدّقاً في عيني توماس ، فرفع توماس كتفيه هازئاً . ثم تكلّم الرجل بنبرة مطمئنة : (( لقد تخلينا عن هذه الفكرة . أياً تكن مسؤوليتك فإن مصلحة المجتمع تقضي بأن تكون في المكان حيث يمكن أن توظّف قدراتك بالشكل الأفضل . رئيس قسمك القديم يقدرّك جلَّ تقدير كما و أننا سألنا عنك مرضاك . أنت اختصاصي كبير يا دكتور . لا يمكن لأحد أن يطالب طبيباً بأن يتعاطى السياسة . لقد جعلت من نفسك هزأة يا دكتور ، و عليك أن تصلح الأمر . من أجل هذا نود أن نقترح عليك نصاً لإفادة لكي تضعا حسب رأينا في تصرف الصحافة . ثم بعد ذلك نبذل كل ما في وسعنا لكي تُنشر في الوقت المناسب )) . ثم مدّ ورقة إلى توماس . و عندما قرأ توماس ما جاء فيها ، أصيب بالذهول . كان الأمر أسوأ بكثير مما التمس منه رئيس قسمه القديم أن يفعل منذ سنتين . إذ لم تكن الإفادة




رجوعاً بسيطاً عن مقال (( أُوديب )) ، بل كانت تتضمن جملاً عن حبّه للاتحاد السوفياتي و وفائه للحزب الشيوعي و تتضمن أيضاً اتهاماً للمثقفين الذين كانوا ، حسب ما جاء في الإفادة يريدون أن يقودوا البلاد إلى الحرب الأهلية . و لكنها كانت تتضمن على الأخص تشهيراً بمحرري المجلة الأسبوعية الخاصة بالكتّاب و باسم الصحافي طويل القامة و المنحني الظهر ( لم يكن توماس عن قصد فشوّه معنى المقال و جعل منه نداءً معادياً للثورة . و السبب أن هؤلاء كانوا ، استناداً إلى ما ورد في النص ، أجبن من أن يكتبوا بأنفسهم مقالاً مماثلاً مفضّلين الاختباء خلف طبيب ساذج . كان رجل الوزارة يقرأ الهلع في عينيّ توماس انحنى الأمام و ربَّت بمودة على ركبة توماس تحت الطاولة : (( دكتور ، هذه مجرد مسوّدة . ستفكر مليّاً في الأمر و إذا ارتأيت أن تغيّر عبارة أو أخرى فسيكون بإمكاننا التفاهم بشأن ذلك ، طبعاً . فالنص (( نصّك )) بعد كل حساب )) . أعاد توماس الورقة إلى الشرطي و كأنه خاف أن يحتفظ بها في يده ثانية واحدة بعد . كان يتخيل ، لوهلة ، أنهم سيتحققون من بصمات أصابعه . و بدل أن يستردّ رجل الوزارة الورقة ، أبعد ذراعيه بدهشة مصطنعة ( مثل إشارة البابا و هو يبارك الجموع من أعلى شرفته ) ثم قال : (( و لكن يا دكتور ، لماذا تعيدها إليّ ؟ يجب أن تحتفظ بها لتفكر في الأمر مليّاً في البيت )) . هزّ توماس رأسه نفياً ، ثم أمسك الورقة بصبرٍ في يده الممدودة . و كفّ رجل الوزارة عن تقليد البابا الأعظم و هو يبارك الجموع ، و اقتنع أخيراً بأخذ الورقة . كان توماس يريد أن يقول له بلهجة حازمة إنه لن يكتب شيئاً و لن يوقعّ على شيء . . و لكنه غيَّر لهجته في اللحظة الأخيرة و قال بهدوء : (( أنا لست أميّاً . لماذا ينبغي علي أن أوقع على شيء لم أكتبه ؟ ــ جيد جداً يا دكتور . يمكننا أن نسلك طريقاً معاكساً : تكتب في أول الأمر شيئاً بنفسك و من ثَّم نتباحث في شأنه سوية . أما الورقة التي قرأتها الآن



فيمكنك على الأقل أن تستخدمها كنموذج )) . لكنْ لماذا لم يرفض توماس حالاً و بشكل جذري اقتراح الشرطي ؟ . لأنه اعتمد هذه الفكرة بأسرع ما يمكن : زدْ على أن إفاداتٍ من هذا النوع ترمي إلى إفساد أخلاق أُمة بكاملها ( فالتعبئة السوفياتية كانت تسير في هذا الاتجاه ) فإن الشرطة كانت تلاحق في وضع كوضعه هدفاً محدداً : إذ ربما كانوا يستعدون لإقامة محاكمة ضد صحافيي المجلة الأسبوعية التي كان توماس بعث بمقاله لها . و في هذه الحالة ، ستكون إفادة توماس بمثابة وثيقة إثبات يستخدمونها في الحملة الصحافية التي ستُشنّ على الصحافيين المذكورين . . لو أنه رفض حالاً و بطريقة حازمة لا رجوع فيها ، فهو سيخاطر إذاً بقيام الشرطة بنشر هذا النص المعدّ مسبقاً و ترفقه بتوقيعه المزوّر . و عندها لن تنشر أية صحيفة إطلاقاً نفيه للخبر ! و لن يصدق أحد من الناس هم شديدو التلذذ بتحقير الآخرين حتى يفسدوا هذه المتعة بالشروح و التفسيرات ! و إذا كان قد أعطى الشرطة أملاً بأن سيكتب النص بنفسه ، فهذا لكسب الوقت لأنه كتب رسالة استقالته في اليوم التالي . كان يَفترض ( و افتراضه في محله ) أنه فيما لو هبط عن عمد إلى أسفل درجة في السلم الاجتماعي ( و التي توجّب حينها على آلاف المثقفين و من مختلف الفئات ، الهبوط إليها ) فإن الشرطة لن يكون في مستطاعها أن تملك أي وسيلة للضغط عليه ، فتكف عن الاهتمام بأمره . و لن يقدروا أيضاً على نشر إفادة تدعي أنها موقعة باسمه لأن الأمر ساعتّها لن يعود قابلاً للتصديق . و السبب أن الإفادات الدنيئة العلنية تترافق عادة مع ترقيات موقّعيها و ليس مع تدنيهم . و لكنّ الأطباء في بوهيميا هم مجرد موظفين و بإمكان الدولة تسريحهم من وظائفهم ساعة تشاء ، و لكنها غير مضطرة إلى ذلك . حاول الموظف الذي قدّم له توماس استقالته أن يقنع بالعدول عن ترك وظيفته . فهو كان مطّلعاً على شهرته و يحترمه . ففهم توماس فجأة بأنه غير واثق من أنه قام بالاختيار المناسب . و لكنه شعر مع ذلك بأنه ملتزم بقراره هذا و كأنه عهد على




الوفاء . فأصر عليه بعناده ، و هكذا أصبح مُنظَّف زجاج .

7

لسنوات خَلَتْ ، عندما كان توماس يقود سيارته من زوريخ إلى براغ ، كان يردد قائلاً : (( ليس من ذلك بدَّ )) و هو يفكر بحبه لتيريزا . و حين عبر الحدود ساوره الشك و بدأ يفكر فيما إذا كان قراره لا بدّ منه فعلاً : فَفَهم حينئذ أن سلسلة الصدف التافهة التي حصلت قبل سبع سنوات هي التي دفعته باتجاه تيريزا ( كانت هذه الصدف قد بدأت بمرض ألم عرق النَّسا الذي أصاب رئيس القسم ) و اقتادته إلى قفص لا وسيلة للفرار منه . هل يجب الاستنتاج من هذا أنه لم يكن في حياته (( ما ليس منه بدَّ )) ، إنه لم يكن في حياته ما يُسمّى ضرورة قصوى ؟ حسب رأيي ، ثمة ضرورة قصوى في حياته . و هي لا تتمثل في الحب بل في المهنة . فالشيء الذي دفعه للطب لم يكن الصدفة و لا القرار المنطقي و إنما رغبة داخلية دفينة . لو وُجدت وسيلة ما لتصنيف الكائنات إلى فئات فسيجري هذا التصنيف بالطبع وفقاً لتلك الرغبات الدفينة التي تقودهم باتجاه هذا النشاط أو ذاك ، الذي يمارسونه طيلة حياتهم . فكل فرنسيّ مثلاً مختلف عن الآخر ، و لكن جميع ممثلي العالم متشابهون سواء كانوا في باريس أم في براغ أم في المسرح الأكثر تواضعاً في أحد الأرياف . لأن الممثل هو ذاك الذي يقتنع منذ الطفولة بأن يقدم عروضاً أمام الجمهور المجهول . فمن دون هذه الموافقة الجوهرية التي لا علاقة لها بالموهبة ، بل هي شيء أعمق من الموهبة ، لا يمكن للواحد أن يصير ممثلاً . كذلك ، فإن الطبيب هو ذلك الذي يقبل أن يكرس نفسه للجسد البشري متحملاً جميع العواقب ، طيلة حياته . إن هذا العهد الأساسي ( لا الموهبة أو البراعة ) هو الذي يسمح له ، في خلال سنته الدراسية الأولى ، بالدخول إلى غرفة التشريح ليتخرجَ طبيباً بعد ذلك بست سنوات . الجراحة ترفع المبدأ الإلزامي لمهنة الطب إلى حده الأقصى حيث يلامس البشريُّ الإلهيَّ . عندما يُضرَب أحدهم بعنف على جمجمته بالهراوة ،


فإنه ينهار و يتوقف عن التنفس إلى الأبد . و لكنَّه في جميع الأحوال سيتوقف يوماً عن التنفس . لا أهمية لهذه الجريمة سوى أنها عجّلت بما سيقوم به الله آجلاً . فهو لم يكن يشك في أن يجرؤ الإنسان يوماً على إدخال يده في أحشاء الجسم التي خلقها مغلَّفة بعناية بالجلد و مختومة و محجوبة عن الأنظار . عندما وضع توماس ، لأول مرة ، المبضع على جلد مريض خامد تحت تأثير المخدّر و عندما شق هذا الجلد بضربة قوية محكمة و فتّقه تبعاً لخط مستقيم و دقيق ( كأنه قطعة لحم ميّتة أو كأنه رداء أو تنورة أو ستارة ) أحسّ حينئذ بشعور وجيز لكن حاد و بأنه يخرق المقدسات . و هذا الشعور بالضبط كان يشدّه في آن ! هذه الضرورة ، هذا الذي (( لا بدّ منه )) المتجذر عميقاً في داخله و الذي لم يدفعه إليه لا الصدفة و لا ألم عرق النَّسا الذي أصاب رئيس القسم ، و لا أي شيء خارجي . إذاً ، كيف تمكن في هذه الحاّلة من أن يتخلَّص بهذه السرعة و بهذا الإصرار و بهذه السهولة من شيء متجذر في أعماقه إلى هذا الحد ؟ ربما سيكون جوابه بأنه تصرّف على هذا النحو ليمنع الشرطة من استغلاله . و لكن ، و لنكن صريحين ، حتى و لو كان هذا الأمر ممكناً على الصعيد النظري ( فهناك حالات من هذا النوع حصلت فعلاً ) فإنه قلَّما كان محتملاً أن تقوم الشرطة بنشر إفادة مزورة مرفقة بتوقيعه . من البديهي أن يملك الواحد منا الحق في أن يخاف حتى من المخاطر القليلة الاحتمال . فلنقبل بذلك . و لنسلَّم أيضاً بأنه كان غاضباً من نفسه و من رعونته بالذات و بأنه كان يريد أن يتحاشى علاقات جديدة مع الشرطة لا فائدة تُرجى منها سوى أنها تزيد من حدة شعوره بالضعف . و لنسلّم أيضاً بأنه قد خسر وظيفة فعلاً من زمان لأن عمله الآلي في المستوصف حيث كان يصف حبوباً من الأسبيرين لا علاقة له بالفكرة التي كان يكوّنها عن مهنة الطب . ومع ذلك كله ، فإن فجائية قراره قد بدت لي غريبة . ألا تظنون معي أنها تخفي في طياتها شيئاً ما أكثر غموضاً ، شيئاً يتعدى مجال تفكيره المنطقي ؟


8

كان توماس قد شرع يحب بيتهوفن ليدخل السرور إلى قلب تيريزا .و لكنه لم يكن مولعاً بالموسيقى ، لذا أشك في أن يكون عارفاً بالحكاية الحقيقية لِلاَزِمة بيتهوفن الشهيرة : (( أليس من ذلك بدَّ ؟ ليس من ذلك بدّ )) . لقد جرت الحكاية على هذا النحو : كان هناك رجل يدعى دمبشر و كان مديناً لبيتهوفن بخمسين فوراناً . و ذات يوم جاء المؤلَّف الذي كان مفلساً باستمرار يطالب دمبشر بها ، فتنهد هذا المسكين قائلاً : (( أليس من ذلك بدّ ؟ )) وردّ عليه بيتهوفن و هو يضحك من كل قلبه : (( ليس من ذلك بدّ ! )) . ثم دوّن هذه الكلمات مع أنغامها على مفكرة و ألّف انطلاقاً من هذه اللاَّزمة الواقعية قطعة صغيرة من أربعة أصوات : ثلاثة أصوات فيها تغني (( ليس من ذلك بدّ ، نعم ، نعم ، نعم )) . و يضيف الصوت الرابع : (( أَخرج صرّة نقودك ! )) . ثم ، بعد أربع سنوات ، أصبحت اللاَّزمة ذاتها نواة العبارة الموسيقية الرابعة من الرباعية الأخيرة في مجموعة القطع الموسيقية رقم 135 . لم يعدد بيتهوفن يفكر إطلاقاً في صرّة نقود دمبشر . فصارت الكلمات (( ليس من ذلك بدّ )) تتخذ طابعاً احتفالياً متزايداً ، و كأن القدر كان يتفوه بها شخصياً . في لغة (( كانت )) ، حتى عبارة (( صباح الخير )) الملفوظة حسب الأصول ترتدي طابعاً ميتافيزيقياً . فاللغة الألمانية هي لغة الكلمات الثقيلة . (( ليس من ذلك بدّ )) لم تعد مجرد مزحة بل صارت (( القرار المفكّر فيه بخطورة )) . كان بيتهوفن قد حوّل إذاً إلهاماً فكهاً إلى رباعية جدية . و مزحة إلى حقيقة ميتافيزيقية . إنه لَمثَل هام على الانتقال من الخفيف إلى الثقيل ( إذاً مثل على التبدل من الإيجابي إلى السلبي ، حسب رأي بارمينيـــد ) . لكنّ الغريب في الأمر أن هذا التحوّل لا يفاجئنا . فلو أنَّ بيتهوفن انتقل من رباعيته الجدية إلى اتباع المزحة الخفيفة للأصوات الأربعة المتعلقة بصرّة نقود دمبشر ، لكان الأمر يثير سخطنا . بيد أن بيتهوفن لو فعل ذلك لكان تصرف تماماً من وجهة نظر بارمينيد : لكان انتقل إذاً من الثقيل إلى الخفيف ، و من السلبي إلى الإيجابي ! ففي البداية ، ستكون هناك حقيقة ميتافيزيقية كبرى ( تحت شكل عمل غير منجز ) و في النهاية مزحة و لا أخف ! ( على شكل

مقطوعة منجزة ) . و لكننا لم نعد نتقن التفكير مثل بارمينيد . أعْتَقِدُ أنَّ توماس كان ، في صميم أعماقه ، حانقاً منذ زمن بعيد على نغمة (( ليس من ذلك بدُّ )) لعدائيتها و احتفاليتها الصارمة . و كانت تراوده رغبة عميقة في أن يبدّل تمشياً مع وجهة نظر بارمينيد ، الثقيل إلى خفيف . فلنتذكر بهذه المناسبة أن لحظة واحدة كانت كافية في السابق ليمتنع إلى الأبد عن رؤية زوجته و ابنه . و أنه قد تلقىّ بارتياح تام قطع علاقة والديه به . فهل كان الأمر شيئاً آخر سوى ضربة عنيفة و قلّما كانت منطقية ، يدفع بها ما يّفرض نفسه عليه كمثل واجب ثقيل ، كمثل (( ليس من ذلك بدّ )) . جلَيّ أن الأمر حينئذاك كان يتعلق بــ (( ليس من ذلك بدّ )) خارجي تمليه الأعراف الاجتماعية ، فيما (( ليس من ذلك بدّ )) المتعلق بحبه للطب ، فكان ضرورة داخلية . لذلك ، فإن الأمر الآن كان أسوأ من السابق . لأن الضرورة الداخلية أكثر قوة و تحت بشكل أكثر عنفاً على التمرد . أنْ يكون المرء جرّاحاً ، فمعنى ذلك أن يَشرطَ ظاهر الأشياء ليرى ما الذي يختبئ داخلها . ربما هذه الرغبة هي التي حَدَتْ بتوماس للذهاب لرؤية (( ما وراء )) (( الذي ليس منه بدّ )) . و بكلمة أُخرى ، للذهاب لرؤية ماذا يبقى من الحياة حين يتخلى الإنسان عن كل ما كان اعتبره حتى الآن رسالته . بيد أنه ، حين جاء للمثول أمام المديرة اللطيفة لمؤسسات تنظيف الزجاج و الواجهات في براغ ، بدت له نتيجة قراره فجأة في كامل حقيقتها فكاد يرتعب منها . و عاش في جو الرعب هذا ، الأيام الأولى من تسلّمه وظيفته الجديدة . و لكن بعدها اجتاز ( في خلال أسبوع تقريباً ) الغرابة المخدّرة لحياته الجديدة ، اكتشف أنّه كان يجد نفسه فجأة في عطلة طويلة الأمد . كان يقوم بأعمال لا تعني له شيئاً و كان الأمر جميلاً . أخذ يتفهم شعور الناس ( الذين كان دائماً يشعر بالشفقة حيالهم ، حتى ذلك الحين ) الذين يمارسون مهنة لم يدفعهم إليها (( ما ليس منه بدّ )) ، بل يقدرون على نسيانها ما أن ينتهوا من عملهم . لم يكن قد عرف هذه اللاَّمبالاة السعيدة من قبل . و هو من كان في السابق حين لا تنجح عملية كما يتمنى ، يتملكه اليأس


و لا يعود قادراً على النوم ، و يفقد شهيته للنساء حتى كان (( ما ليس منه بدّ )) المتعلق بمهنته أشبه بِعَلوق يمتص له دمه . أما الآن ، فها هو يجوب براغ حاملاً عصاه الطويلة التي ينظف بها الواجهات . . كان متعجباً من اكتشافه أنه يحس نفسه أصغر بعشر سنوات . كانت بائعات المخازن الكبرى يناديه بالدكتور ( فالمطنطنة في براغ كانت تسير على الوجه الأكمل ) و يستشرْنه بشأن زكامهن أو آلامهن الحقوية أو تأخر عادتهن الشهرية . كن يشعرن بالخجل و هن يرينه يرش الواجهات بالماء و من ثم يُثبت فرشاة في نهاية عصاه و يشرع في التنظيف . لو كان في وسعهن ترك الزبائن في المخزن لكُنَّ بادرن إلى أخذ الفرشاة من يده و تنظيف ألواح الزجاج بدلاً عنه . كان توماس يعمل بخاصة في المخازن الكبرى ، و لكن المؤسسة كانت ترسله أيضاً إلى عند أشخاص معينين . كان الناس في ذلك الحين يعيشون الاضطهاد الممارس على المثقفين التشيكيين في حالة من التضامن المتباهي . عندما عرف مرضى توماس القدامى بأنه كان يعمل منظفاً للزجاج ، اتصلوا بالمؤسسة للبعث في طلبه . كانوا يستقبلونه بقنينة شمبانيا أو قنينة من العرق و يسجلّون على ورقته أنه قام بتنظيف ثلاث عشرة نافذة . ثم يمضون برفقته ساعتين و هم يثرثرون أو يقرعون الكؤوس . و عندما كان يغادرهم ذاهباً إلى أشخاص آخرين أو مخزن آخر ، كان يشعر أنه رائق المزاج كليّاً . كانت عائلات الضباط الروس تتوافد للإقامة في البلاد . كان الراديو يبث الخطابات الإرهابية لموظفي وزارة الداخلية الذين كانوا يحلّون محل الصحافيين المسرّحين . أما هو فكان يترنح سكران عبر شوارع براغ و في حالة رجل ينتقل من فرحة إلى فرحة . كانت هذه أيام عطلته الطويلة الأمد . كان يرجع إلى عهد حياته كرجل عازب . فهو وَجد نفسه فجأة دون تيريزا التي لم يكن يراها سوى في الليل حين ترجع من الحانة ، فيفتح عيناً في بداية نومه . و في الصباح حين كانت هي غارقة في النوم فيما هو معجّل للذهاب إلى عمله . كان يملك في متناول يده ست عشرة ساعة و كانت هذه فسحة حرية منحت إليه بطريقة مباغتة . و فسحة الحرية تعني له ، مذ كان في مطلع الصبا ، النساء.


9

عندما كان أصدقاؤه يسألونه كم يبلغ عدد النساء اللواتي حظي بهن في حياته ، كانت إجابته مراوغة . و حين كانوا يصرّون ، كان يقول : (( ما يقارب المئتين )) . كان بعض الحاسدين يؤكدون أنه يبالغ فيدافع عن نفسه قائلاً : (( هذا ليس بالعدد الكبير . إن علاقاتي بالنساء بدأت من خمسة و عشرين عاماً تقريباً . أقسموا مئتين على خمس و عشرين فيكون الحاصل ثماني نساء جديدات كل عام . و هذا ليس بكثير )) . و لكنه مذ كان يعيش مع تيريزا و نشاطه الجنسي يصطدم بصعوبات في التنظيم . لم يكن في مستطاعه أن يخصص له ( بين عمله في غرفة العمليات الجراحية و بين بيته ) إلا حيّزاً ضيقاً من الوقت ليستغله قدر الإمكان طبعاً ( كما يعتني المزارع الجبلي بقطعة أرضه بدأب متواصل ) . و لكن لا يمكن مقارنة ذلك بفسحة الست عشرة ساعة التي نزلت عليه فجأة نعمتها غير المتوقعة ( أقول ست عشرة لأن الساعات الثماني التي كان ينظف خلالها الزجاج ، كانت هي أيضاً تمنحه ألف فرصة للتعرف إلى بائعات جديدات أو إلى موظفات أو إلى مدبّرات منازل ، ولأخذ موعد منهن ) . عمَّ كان يبحث لدى كل هؤلاء النساء ؟ ما الذي كان يشدّه إليهن ؟ أليست العلاقة الجنسية إعادة دائمة للشيء نفسه ؟ إطلاقاً . تبقى هناك دائماً نسبة صغيرة من (( المتعذّر تصوره )) فهو حين كان يرى امرأة في كامل ثيابها ، كان في وسعه أن يتخيل تقريباً كيف ستبدو و هي عارية ( هنا كانت خبرة الطبيب تكمل خبرة العاشق ) . و لكن بين مقاربة الفكرة و دقة الواقع تبقى دائماً هناك ثغرة صغيرة ، ثغرةُ المتعذَّرِ تصورهُ . و هذه الثغرة بالذات هي التي لم تكن تتركه في سلام . ثم و أنَّ ملاحقة المتعذر تصوره لا تكتمل باكتشاف العري وحده بل تتعداه : كيف ستكون حركاتها و هي تخلع ملابسها ؟ ماذا ستقول عندما يضاجعها ؟ و كيف ستكون نغمة تنهداتها ؟ و أي تكشيرة سترتسم على وجهها حين وصولها إلى لحظة النشوة ؟ إنَّ تفرد الأنا يكمن بالذات في هذا الجزء من (( المتعذر تصوره )) الذي يملكه كل إنسان . ليس في الإمكان تخيل إلا ما هو مشترك بين الكائنات .

أما (( الأنا )) الفردية التي تتميز عن ما هو عام ، فهي تلك التي لا تدعنا نتكهن بها أو نحدسها . و هي أول ما يجب نزع الحجاب عنه لاكتشافه و امتلاكه لدى الآخر . كان توماس قد اهتمّ في السنوات العشر الأخيرة من نشاطه الطبي بالدماغ الإنساني على وجه أخص . . كان يعرف أن لا شيء أكثر صعوبة من الاستحواذ على (( الأنا )) . فبين هتلر و أينشتاين ، أو بين بريجنيف و سولجنستين هناك تشابه أكثر مما هناك اختلاف . و إذا أردنا أن نعبّر عن ذلك حسابياً نقول إنه يوجد فيما بينهم جزء من المليون من الاختلاف ، و تسعمائة و تسعة و تسعون ألفاً و تسعمائة و تسعة و تسعون بالمليون من التشابه . و توماس يسكنه هاجس اكتشاف هذا الجزء من المليون و الاستحواذ عليه . و هو هكذا يحدّد معنى هوسه بالنساء . فهو ليس مهووساً بالنساء بل بما تملكه كل واحدة منهن من (( المتعذّر تصوره )) . و بكلمة أخرى ، بهذا الجزء من مليون من الاختلاف الذي يميزّ امرأة عن سواها . (( ربما كان شغفه بالجراحة يتلاقى و شغفه بالجري وراء النساء . لذلك لم يكن يتخلى عن المبضع الوهمي حتى عندما يكون مع عشيقاته . كان يرغب في الاستحواذ على شيء ما ، كان دفيناً في أعماقهن ، شيء يجب أن تُمزَّق في سبيله القشرة الخارجية ) . يحق لنا بالطبع أن نتساءل لماذا لم يكن يفتش إلا من خلال الجنس عن هذا الجزء من مليون من الاختلاف . ألم يكن قادراً مثلاً على إيجاده في مشيتهن أو في ذوقهن في المآكل ، أو في ميولهن الفنية ؟ بطبيعة الحال ، هذا الجزء من مليون من الاختلاف موجود في جميع مجالات الحياة الإنسانية . و لكنه ظاهر علانية أينما كان و لا تدعو الحاجة إلى اكتشافه و لا يحتاج الأمر إلى مبضع . فأن تفضّل امرأة الجبنة في الحلويات ، أو ألاَّ تتحمل واحدة أخرى الأرضي – شوكي ، فهذه بالطبع علامة تمايز . و لكننا ندرك تلقائياً أن التمايز هذا تافه و غير مُجدٍ و أن اهتمامنا به و تفتيشنا فيه عن قيمة ما ، إنما هو مضيعة للوقت .


ولكن في الجنس وحده يظهر هذا الجزء و كأنه شيء ثمين . لأنه لا يمكن إدراكه علانية بل يجب امتلاكه . منذ نصف قرن ، كان هذا النوع من الامتلاك يتطلب الكثير من الوقت ( أسابيع و ربما أشهراً في بعض الأحيان ! ) لأن قيمة المحظية العاطفية كانت تقاس بالمدة التي اقتضاها امتلاكها . و لكن ، اليوم ، و بالرغم من أن المدة التي يستغرقها الامتلاك قد تقلصت بشكل محسوس ، فإن الجنس يبدو دائماً و كأنه الخزينة التي يختبئ في داخلها سر (( الأنا )) الأنثوية . إذاً ، لم تكن الرغبة في المتعة الجنسية ( مع أن المتعة تأتي تقريباً في الطليعة ) هي التي تدفع توماس لمطاردة النساء ، بل الرغبة في الاستيلاء على عالم ( في شرْطِ حسدِ العالم المسجّى بالمبضع ) .

10

في الإمكان نقسم الرجال الذين يلاحقون النساء بكثرة إلى قسمين : القسم الأول يبحث لدى كل النساء عن حلمه الخاص و عن فكرته الذاتية عن المرأة . و القسم الآخر تحركّ رغبة الاستحواذ على الاختلاف اللامتناهي للعالم النسائي الموضوعي . هوس الأولّين هوس رومنطيقي : فالشيء الذي يفتّشون عنه عند النساء هو أنفسهم و مثالهم الأعلى . و هم دائماً و أبداً خائبون لأن المثال كما نعرف يستحيل إيجاده . و بما أن الخيبة هي التي تدفعهم للتنقل من امرأة إلى امرأة أخرى ، فإنها تعطي تقلّبهم ذريعة ميلودرامية . و هناك الكثير من النساء العاطفيات اللواتي يجدن تعددية عشيقاتهن المستمرة مؤثّرةً في النفس . أما الهوس الآخر فهَوسٌ إباحي ، و النساء لا يجدنه مُؤثراً إطلاقاً : فبما أنَّ الرجل في هذه الحالة لا يُسقط على النساء مثالاً ذاتياً فإن كلَّ شيء عندئذ يثير اهتمامه و لا شيء يمكن أن يجعله خائباً في آن . . و هذا العجز عن الخيبة بالذات يحمل في حدّ ذاته شيئاً مخزياً . فبالنسبة للجميع هوس المُقَّبل الرومنطيقي لا يكلّ ( لأنه لا يُكفَّر عنه من خلال الخيبة ) . و بما أنَّ المُقَّبل الرومنطيقي يلاحق دائماً النموذج عينه من النساء فإننا لا نلاحظ أنه يغيّر عشيقاته ، و يسبب له أصدقاؤه خلافات مستمرة لأنهم لا يلاحظون فرقاً بين عشيقاته و ينادونهن كلهن بالاسم نفسه . أما المُقبّلون الإباحيون ( بالإمكان تصنيف توماس طبعاً ضمن هذه الفئة ) فإنهم يبتعدون ، أثناء سعيهم وراء المعرفة ، عن معايير الجمال الأنثوي المتعارف عليها ( و التي يأنفونها سريعاً ) و يتحولون في نهاية المطاف حتماً إلى هواةٍ للغرائب . و هم يعرفون هذا الأمر و يشعرون بقليل من الخجل . لذا فإنهم لا يظهرون برفقة عشيقاتهم أمام الملأ لئلا يزعجوا أصدقاءهم . كان ينظّف الزجاج منذ سنتين عندما استدعَتْه زبونة جديدة . ما أن رآها لأول مرة عند عتبة الباب حتى أسرته غرابتها للحال . كانت غرابتها متكتمة و متحفّظة و تبقى في حدود التفاهة المرحة ( كان ميل توماس إلى الغرائب لا يمت بصلة للإعجاب الفللّيني بالنساء المخيفات ببشاعتهن ) : كانت طويلة القامة فوق العادة ، أطول منه بكثير . كان أنفها دقيقاً و طويلاً جداً و وجها غريباً جداً إلى درجة يستحيل معها أن نقول إنها جميلة ( فالجميع سوف يعرضون ذلك ) و لكنّها لم تكن خالية من أي جمال ( على الأقل ، حسب رأي توماس ) . كانت ترتدي بنطلوناً و قميصاً بيضاء .و يخيّل للناظر أنها مزيج عجيب من صبي ضامر و زرافة و لقلق . كانت ترمقه بنظرات طويلة متيقظة و مستقصية ، و لا تخلو أيضاً من شعاع سخرية ذكية . قالت : (( أدخل يا دكتور )) . ففهم عندئذ أن المرأة تعرف من يكون . فسأل دون أن يُظهر أي تعجب : (( أين يمكنني أن أستعمل الماء ؟ فتحت باب غرفة الحمام . فرأى أمامه المغسلة و المغطس و المرحاض . و أمام المغطس و المغسلة و المرحاض كانت هناك سجادات صغيرة زهرية اللون . كانت المرأة تشبه زرافة و لقلقاً تبتسم غامزة بعينيها ، و كل ما كانت تقوله كان يلمّح إلى معنى و سخرية خفيين .


قالَتْ : (( غرفة الحمّام هي تحت تصرفك يا دكتور . إفعل هناك ما يحلو لك )). ــ (( هل أستطيع أن أستحم أيضاً ؟ )) فسألته : ــ (( هل تحب الاستحمام ؟ )) . ملأ دلواً من المياه الساخنة و رجع إلى الصالون ثم قال : (( من أين أبدأ ؟ )) . قالت و هي ترفع كتفيها هازئة : ــ (( هذا متوقف عليك )) . ــ هل يمكنني رؤية نوافذ الغرف الأخرى . ــ هل ترغب في مشاهدة شقتي ؟ كانت تبتسم كما لو أن تنظيف النوافذ إنما هو نزوة من نزوات توماس ، من غير أن تثير هذه النزوة اهتمامها إطلاقاً . دخل إلى الغرفة المجاورة . كانت نوافذها كبيرة و فيها سريران ملتصقان بعضهما ببعض و لوحة تمثل مشهداً خريفياً عبارة عن أشجار السندر المشعّة بالشمس الغاربة . عندما رجع ، كانت هناك على الطاولة قنينة نبيذ مفتوحة وكأسان . سألَتْ : (( ألا تريد أن تشد من عزمك قليلاً قبل البدء بعملك المضني ؟ )) . قال توماس و هو يجلس : (( بكل سرور )) . قالت : (( لا بدّ أنه أمر مثير للاهتمام أن تذهب إلى بيوت الناس ؟ )) . فقال توماس : (( ليس بالأمر السيء )) . ــ (( تلتقي في كل مكان بنساء أزواجهن في العمل )) . فقال توماس : (( ومرات كثيرة بجدّات و حموات )). ــ (( و عملك القديم ، ألا تحنّ إليه ؟ )) .


ــ (( قولي لي أولاً أين سمعتهم يتحدثون عن عملي السابق ؟ )) . فقالت المرأة : ــ اللقلق : مستخدِمك فخوراً بك جداً . ــ الآن أيضاً ؟ قال توماس متعجباً . ــ (( اتصلت بهم ليرسلوا لي أحداً لتنظيف الزجاج ، فسألوني هل كنت أرسل في طلبك أنت . يبدو أنك كنت جراحاً كبيراً طردوه من المستشفى . و أعتقد أن هذا يثير اهتمامي ! )) . ــ أنتِ فضولية بشكل غريب . ــ و هل هذا واضح ؟ ــ نعم ، من الطريقة التي تنظرين فيها . ــ وكيف هي طريقتي في النظر؟ ــ تطرفين بعينيك و تطرحين الأسئلة دون توقف . ــ لماذا ؟ ألا تحب الإجابة ؟ كان الحديث يتحول بفضلها إلى دعابة . و لم تكن أي كلمة قالتها تتعلق بالعالم الخارجي . بل كانت كلماتها كلها تتوجه إليهما وحدهما . و بما أن كليهما نصّب الحوار كموضوع رئيسي فلم يكن أسهل عندئذ من تكملة الكلمات بالملامسات . فَبينما كان توماس يتحدث عن عينيها اللتين تطرفان ، أخذ يداعبهما . و كانت هي ترد على كل ملامسة منه بمداعبة منها . لم تكن تتصرف بطريقة عفوية و إنما يدأب متعمّد . كانا و كأنهما يريدان أن يلعبا لعبة (( أفعل لك ما تفعله لي )) . كانا جالسين وجهاً لوجه ويدا كلَّ منهما موضوعتان على جسد الآخر . و لكنّها بدأت أخيراً تتمنع عندما حاول توماس أن يضع يده بين فخذيها . . لم يكن قادراً على التمييز فيما إذا كانت تتمنع بجدية . و لكنّ وقتاً طويلاً قد مرّ ، و دقائق عشر تفصله عن موعده مع الزبون القادم . فنهض شارحاً أن عليه الرحيل . كان خدّاها محمرين .

قالت : انتظر لأوقع لك على ورقة الحساب . اعترض قائلاً : و لكنّي لم أفعل شيئاً . قالت : (( هذه غلطتي )) . ثم أضافت بلهجة رقيقة وبطيئة و بريئة : (( يحب أن أستدعيك من جديد لكي تتمكن من إنجاز ما لم تتمكن من البدء به بسببي أنا )) . و بما أن توماس كان يرفض إعطاءها الورقة لتوقعها ، قالت بعذوبة و بلهجة من يتوسل خدمةً : (( أرجوك ، أعطني هذه الورقة )) . ثم أضافت : (( أنا لا أدفع بل زوجي . و أنت لا تقبض بل مؤسسة الدولة . هذه الصفقة لا تخصنا ، لا أنت و لا أنا )) .

11

كان اللاتناسق الغريب للمرأة الشبيهة بالزرافة و اللقلق يثيره لمجرد التفكير فيه : الدلال المقرون بالرعونة ، و الرغبة الجنسية المصّرح بها بسذاجة مصحوبةً بابتسامة ساخرة و التفاهة المبتذلة للشقة مقارنةً مع تفرد صاحبتها . تُرى كيف ستكون هيئتها و هما يمارسان الحب ؟ كان يحاول أن يتخيل ذلك ، و لكن الأمر لم يكن سهلاً . و أصبح هذا شغله الشاغل لأيام عديدة . عندما دعته لزيارتها في المرة الثانية ، كانت هناك قنينة نبيذ تنتظر على الطاولة مع كأسين . و لكن هذه المرة حدث كل شيء بسرعة . وجدا نفسيهما بعد قليل متواجهين في الغرفة ( كانت الشمس تغيب فوق مشهد أشجار السندر البيضاء ) فتعانقا . قال كعادته : (( اخلعي ثيابك )) و لكنها بدل أن تطيعه أمرته قائلة : (( لا ، أنت أولاً )) . لم يكن معتاداً على ذلك فاضطرب قليلاً . أما هي فأخذت تزرر له بنطلونه . (( اخلعي ثيابك ! )) ، أمرها بذلك عدة مرات ( و لكن بفشل مُضحك ) فلم يجد من وسيلة عندئذ إلا القبول بتسوية ، فمشى تبعاً لقوانين اللعبة التي فرضَتْها في المرة السابقة ( (( أفعل لك ما تفعل لي )) ) . نزعت عنه بنطلونه فنزع عنها تنورتها . ثم جرّدها من قميصها . و هكذا حتى وجدا

نفسيهما أخيراً عاريين وجهاً لوجه . وضع يده على فرجها الرطب ثم أنزل أصابعه باتجاه الثقب الشرجي و هو المكان الأحب عند النساء جميعهن . كان ثقبها ناتئاً للغاية مما يوحي بوضوح بأن الجهاز الهضمي الطويل ينتهي في هذا المكان بحدبة صغيرة . تحسّس الحلقة الصلبة السليمة ، ذلك الخاتم الأجمل بين الخواتم جميعها ، و الذي يسمّى في لغة الطب (( الصَّارة )) ) . عندها ، أحسَّ فجأة بأصابع المرأة تستقر في المكان نفسه من مؤخرته . فهي كانت تعيد حركاته كلها بدقة المرآة . ومع أنه ، كما قلت آنفاً ، قد عرف في حياته مئتي امرأة ، ( و مذ أصبح منظّف زجاج ، كان عددهن قد زاد كثيراً ) لم يحدث له من قبل أن رأى امرأة أطول منه تنتصب أمامه و تطرف بعينيها و تتحسس شرجه . فدفعها بقوة إلى السرير لكي يتغلب على إحساسه بالانزعاج . غَذَرَتْها فجائيةُ هذه الحركة فتهاوى جسدها الكبير على ظهره . كان وجهها المكسو بلطخات حمراء أشبه بالهيئة المذعورة لأحدٍ فقد التوازن . و بما أنه كان واقفاً أمامها أمسكها من تحت ركبتيها و رفع ساقيها المنفرجتين قليلاً عالياً . فبدت له ساقاها فجأة و كأنهما ذراعان مرفوعتان لجندي مذعور يستسلم أمام سلاح يُشهر عليه . كانت الرعونة المرفقة بالحماس و الحماس المرفق بالرعونة ، يثيران توماس بشكل رائع . تحابّا طويلاً جداً . كان يراقب وجهها المكسو بلطخات حمراء مفتشاً فيه عن الهيئة المرتعبة لامرأة يتعمد أحدهم إيقاعها فتسقط . كان هذا التعبير الذي لا يضاهى يُصعّد تيار الإثارة المتدفق إلى رأسه . عندما انتهيا ، ذهب للاغتسال في غرفة الحمام . فلحقت به و شرحت له مطوّلاً عن مكان الصابون و كفّ الحمّام و كيف عليه أن يتصرف للحصول على المياه الساخنة . فاستغرب أن تشرح له هذه الأمور البسيطة بهذا الإسهاب . فقال لها إنه فهم و إنه يرغب في البقاء وحيداً في غرفة الحمام . قالت له بنبرة متوسلة : (( ألا تريدني أن أشاهدك و أنت تغتسل ؟ )) . لكنه نجح أخيراً في إخراجها . كان يغتسل و يبول في المغسلة (و هذه


عادة شائعة عند الأطبّاء التشيكيين . كان يشعر أنها تتجول بنفاذ صبر أمام غرفة الحمام ، مفتشةً عن ذريعة تمكنها من الدخول إلى هناك . عندما سكّر الحنفيات ، لاحظ أن السكون تام في الشقة ، فخيّل إليه أنها كانت تراقبه ، كان شبه متأكد بأنها تلصق عينها الجميلة الطارفة في ثقب الباب . عندما غادر ، شعر أنه رائق المزاج . كان يحاول أن يتذكر الأساسيّ ، و أن يكثّف هذه الذكرى في صيغة كيمائية تسمح له بتحديد التفرد ( أي هذا الجزء من مليون من الاختلاف ) الخاص بهذه المرأة . فتوصل في النهاية إلى صيغة من ثلاثة عناصر : 1- الرعونة المقرونة بالحماس . 2- الوجه المذكور لأحد ما يفقد توازنه و يسقط . 3- الساقان المرفوعتان الشبيهتان بذراعي جندي يستسلم أمام سلاح يُشهر عليه . عندما كان يتلو على نفسه هذه الصيغة ، كان يغمره شعور مشرق ، شعور بأنه تمكن مرة أخرى من الاستحواذ على جزء من عالم ، بأنه اقتطع بمبضعه الوهمي قطعة رقيقة من نسيج القماشة اللامتناهية للكون .

12

هاكُم ما جرى معه في الفترة نفسها تقريباً : كان يلتقي مراراً بامرأة شابة في شقة كان يعيره إياها صديق حميم كل يوم حتى منتصف اليوم . بعد مرور شهر أو شهرين ذكَّرتْه بأحد لقاءاتهما : كان يمارسان الحب فوق السجّادة أمام النافذة ، و كانت البروق تلتمع و الرعود تزمجر . مارسا الحب في أثناء هبوب العاصفة . . و كان الأمر ، كما كانت تقول ، جميلاً لا يُنسى . كان توماس يسمعها متعجباً : نعم ، كان يتذكر أنهما تضاجعا فوق السجادة ( إذ لم يكن في شقة صديقه الصغيرة سوى سرير واحد ضيّق لا يُشعره بالارتياح ) و لكنه نسي تماماً أمر العاطفة ! يا للعَجَب ! فهو كان قادراً

على تذكر اللقاءات القليلة التي جمعته بها ، حتّى أنه كان يتذكر بالضبط الطريقة التي كانا يتضاجعان فيها ( فهي كانت ترفض أن يلجها من الخلف ) ، و كان يتذكر أيضاً الجمل القليلة التي تتفوه بها أثناء المواقعة ( فهي كانت تطلب منه أن يضمّ وركيها بقوة ، و كانت تعارض إذا نظر إليها )) و يتذكر كذلك (( تفصيلة )) ثيابها الداخلية – و لكنه لم يعد يتذكر إطلاقاً العاصفة . لم تكن ذاكرته تسجّل من مغامراته العاطفية غير الممرّ الضيّق الوعر للامتلاك الجنسي : الكلام المثير الأوّل ، و الملامسة الأولى و العبارة الفاجرة الأولى التي قالها لها و التي قالتها له و كل الممارسات المتهتكة الصغيرة التي كان يفرضها عليها شيئاً فشيئاً ، أو حتى تلك التي كانت ترفض القيام بها . أما البقية فكانت مستبعدة ( و بعناية تقارب الادعاء ) من ذاكرته . كان يتغافل أيضاً عن المكان الذي التقى فيه هذه المرأة أو تلك ، لأن هذه اللحظة حدثت قبل الامتلاك الجنسي . كانت المرأة الشابة تتحدث عن العاصفة فيما تغمر وجهها ابتسامة حالمة . و كان هو ينظر إليها متعجباً و بشيء من الخجل : فهي عاشت شيئاً جميلاً لم يشاركها فيه : كانت ردة الفعل الثنائية لذاكرتهما تجاه العاصفة الليلية تعبّر عن كل الاختلاف الذي يمكن أن يوجد بين الحب و اللاَّحب . لا أقصد باللاّحب ، أن توماس قد تصرف ببذاءة مع المرأة الشابة ، أو أنه لم يكن يرى فيها إلا أداة جنسية . على العكس ، فهو كان يحبها و كأنها صديقة و يقدّر شخصيتها و ذكاءها ، لا بل كان مستعداً لمساعدتها كلما احتاجت لذلك . لم يكن هو الذي يتصرفَ معها بسوء و إنما ذاكرته التي أقصَتْها بعيداً عن دائرة الحب دون أن يكون له هو دخل في الأمر . يبدو أن في الدماغ منطقة خاصة تماماً و يمكن تسميتها ب (( الذاكرة الشعرية )) ، و هي التي تسجّل كل الأشياء التي سحرتنا أو التي جعلتنا ننفعل أمامها ، و كل ما يعطي لحياتنا جمالها . مذ تعرّف توماس إلى تيريزا ، لم يعد لأي امرأة الحق في أن تترك أثراً و لو عابراً في هذه المنطقة من دماغه . كانت تيريزا تحتل ذاكرته الشعرية باستبداد مكنّسةً منها كل أثر للنساء الأخريات . لم يكن هذا عادلاً لأن المرأة الشابة التي مارست الحب معها مثلاً


فوق السجادة أثناء العاصفة لم تكن أقل جدارة من تيريزا بذاكرته الشعرية . كانت تصرخ له : (( أغمض عينيك و امسكني من وركيّ ثم ضمّني بقوة ! )) . لم تكن تستطيع أن تتحمل عيني توماس مفتوحتين ، و متيقظتين و متفحصتين أثناء الجماع . و لم تكن تتحمل أيضاً أن يكون جسده الذي يعتلي جسدها غير ملتصق به تماماً . لم تكن تريد أن يتفحصها توماس بل كانت تريد أن تجذبه إلى بحر السحر الذي لا يمكن الولوج فيه إلا بعينين مغمضتين . كانت ترفض أن تدبّ على الأربع لأن جسديهما في هذه الوضعية يتلامسان بالكاد ، ولأنه كان يستطيع مراقبتها عن مسافة تقارب الخمسين سنتمتراً . و هي كانت تكره هذه المسافة . لذلك ، كانت تؤكد أمامه بأصرار ، و هي تنظر إلى عينيه ، أنها لم تكن تستمتع بذلك ، مع أنّ السجادة كلها تبلّلت من متعتها . كانت تقول : (( لا أفتش عن المتعة بل أفتش عن السعادة . و المتعة دون السعادة ليست بمتعة )) . و بكلمة أخرى ، كانت تدق على باب ذاكرته الشعرية و لكن الباب كان مقفلاً . لم يكن هناك من مكان لها في ذاكرة توماس الشعرية . لم يكن هناك من مكان لها إلا فوق السجادة . ابتدأت مغامرة توماس مع تيريزا في المكان الذي تنتهي عنده بالضبط مغامراته الأخرى مع النساء . كانت المغامرة مع تيريزا تجري في الجهة الأخرى من الضرورة التي تدفعه لامتلاك النساء . فهو لم يكن ينوي نزع أي حجاب عند تيريزا . لقد وجدها منزوعة الحجاب . و مارس معها الحب دون أن يصرف وقتاً في الأخذ بمبضعه الوهمي الذي كان يشرط به جسد العالم المسجّى . وقع في حبها دون أن يصرف وقتاً في التساؤل كيف ستكون أثناء الجماع . حكاية الحب بدأت فيما بعد : كانت الحمى تنتابها و لم يكن يستطيع أن يرجعها إلى بيتها كما كان يفعل مع النساء الأخريات . كان راكعاً أمام سريرها عندما خطرت له فكرة بأنها أُرسلت إليه في سلة مع مجرى المياه . سبق لي أن قُلْتُ آنفاً إن الاستعارات خطيرة و إن الحب يبدأ من استعارة . و بكلمة أُخرى : الحب يبدأ في اللحظة التي تسجَّل فيها امرأة دخولها في ذاكرتنا الشعرية من خلال عبارة .



13

ما لبثت تيريزا أن جدّدت مكانتها في حياته : ذهبت لشراء الحليب كما في كل صباح ، و عندما فتح لها الباب رآها تضم طائر زاغٍ ملفوفاً بالمنديل الأحمر إلى صدرها ، كما تحمل الغجريات أطفالهن بين أذرعتهن . لن يكون في إمكانه أن ينسى أبداً منقار الزاغ الضخم البازغ من وجهه و كأنه اتهام . وجدته شبه مدفون كما كان يعامل القوزاقيون أعداءهم قديماً . (( إنهم أطفال ، الذين فعلوا به هذا )) ، كان في هذه الجملة شيء أكثر من مجرد تقرير . كانت التعبير عن القرف الذي تملّكها فجأة من الجنس البشري . فتذكر أنها قالت له مؤخراً : (( صرت أشعر بالامتنان لك لأنك لم ترغب قط في إنجاب الأطفال )) . البارحة ، كانت تشتكي من أن أحدهم شتمها في الحانة التي تعمل فيها . ثم أمسك عقد اللؤلؤ الذي تضعه حول عنقها مؤكّداً أنها كسبته من الدعارة . كانت مضطربة تماماً ، أكثر مما ينبغي ، فكّر توماس . و فجأة أزعجته فكرة أنه لا يراها إلا قليلاً منذ سنتين ، و لا تتسنّى له الفرصة ليضم يديها طويلاً إلى يديه و يمنعها من الارتجاف . كانت تراوده هذه الأفكار فيما هو ذاهب صباحاً إلى المكتب ليأخذ من الموظفة برنامج عمله اليومي . فوجد أن زبوناً قد طلب استدعاءه هو بالتحديد لينظف له النوافذ . ذهب إلى العنوان المكتوب معتكر المزاج خائفاً من أن يكون الزبون امرأة أُخرى تبعث في طلبه . كان الآن مستغرقاً كلياً في أفكاره عن تيريزا و لم تكن المغامرات تستهويه . عندما فُتح الباب ، أحسّ بالارتياح . رأى أمامه رجلاً طويل القامة منحني الظهر . ثم أنَّ ذقن الرجل طويل و معقوف يذكّره بأحدهم . ثم قال مبتسماً : (( تفضل يا دكتور)) و أدخله إلى الصالون . كان هناك شاب في انتظارهم . كان واقفاً محمرّ الوجه ، ينظر إلى توماس و هو يحاول جاهداً أن يبتسم .

قال الرجل : لا أرى هناك من داعٍ لأن أعرّفكما بعضكما على بعض . قال توماس دون أن يبتسم : (( لا )) ثم مدّ يده إلى الشاب مصافحاً . كان ابنه . ثم عرّف الرجلُ ذو الذقن الطويل المعقوف عن نفسه . فقال توماس : كنت واثقاً من أنك تذكّرني بأحدٍ ما . كيف لا ! بالطبع أعرفك ! بالاسم فقط . توزّعوا على كنبات تفصل بينها طاولة واطئة . فكّر توماس بأن الرجلين الجالسين قبالته كانا من صنيعه هو دون أن ينوي ذلك أو يرغب فيه : فهو قد صنع طفلاً تحت ضغط زوجته و صورة هذا الرجل الطويل المنحني الظهر تحت ضغط الشرطي . و لكي يبعد عنه هذه الأفكار ، قال (( طيّب ، بأية نافذة عليّ أن أبداً ؟ )) . فضحك الرجلان قبالته دون تردد . نعم ، كان الأمر واضحاً و هو لا يتعلق إطلاقاً بتنظيف النوافذ . فهو لم يُستدعَ إلى هنا من أجل تنظيفها بل ليُجتذب إلى كمين . لم يكن قد تحدث مع ابنه من قبل . و هذه هي المرة الأولى التي يصافحه فيها . لم يكن يعرفه إلا بالنظر و لا نيّة له في أن يعرفه بشكل آخر . و هو لم يكن يريد أن يعرف عنه شيئاً آملاً أن يعامله ابنه بالمثل . ثم قال الصحافي و هو يشير إلى رسم كبير مؤطر معلّق على الجدار قبالة توماس : (( ملصق جميل ، أليس كذلك ؟ )) . رفع توماس عينيه للمرة الأولى مذ دخل . كانت الجدران مكسوة بلوحات مُلفتة للنظر و بصور و ملصقات كثيرة . كان الرسم الذي أشار إليه الصحافي قد ظهر في أحد الأعداد الأخيرة من المجلة الأسبوعية قبل أن يمنعها الروس من الصدور . كان الملصق اقتباساً عن ملصق شهير ظهر سنة 1918 خلال الحرب الأهلية الروسية ، و كان يدعو الشعب للانضمام إلى الجيش الأحمر . كان يمثل جندياً يرتدي قبعة مزدانة بنجمة حمراء ، و نظرته



المفرطة في الصرامة تنظر إليك مباشرة ، و كان يصوّب يده نحوك شاهراً سبّابته . كان النص الروسي الأصلي يقول : (( أيها المواطن ألم تنضم بعد إلى الجيش الأحمر ؟ )) فاستُبدل بالجملة التشيكية التالية : (( أيها المواطن ، ألم توقّع أنت أيضاً على (( الألفيْ كلمة )) ؟ )) . كانت تلك مزحة موفقة جداً ! فالألفا كلمة هي أول بيان كبير ظهر في ربيع 1968 و كان يطالب بنشر جذري للديمقراطية في النظام الشيوعي . وقّع هذا البيان حشد من المثقفين ثم وقع عليه أناس عاديون . و بدأت تتدفّق التواقيع حتى لم يعد بالإمكان إحصاؤها . و عندما اجتاح الجيش الروسي بوهيميا و بدأت عمليات التطهير السياسية ، كان هناك سؤال موجّه إلى المواطن يقول : (( هل وقَّعت أنت أيضاً على بيان الألفيّ كلمة ؟ )) فَصُرِفَ هؤلاء الذين اعترفوا بأنهم وقّعوا من وظائفهم في الحال . قال توماس : رسم جميل ، أَتذكَّرُهُ . ابتسم الصحافي قائلاً : (( لنأمل ألا يكون جندي الجيش الأحمر سامعاً ما نقول )) . ثم أضاف بنبرة جادة : (( لكي يكون كل شيء واضحاً من البداية يا دكتور . هذا البيت ليس بيتي بل هذه شقة لصديق . إذاً ، ليست أكيداً من أن تكون الشرطة تسمعنا الآن . الأمر محتمل فقط . و لكن ، لو أني دعوتك إلى بيتي ، لكان الأمر أكيداً . ثم تابع من جديد بلهجة أكثر مرحاً : (( و لكني أنطلق من مبدأ أنه ليس هناك ما يستوجب أن نخفيه على أحد . على أية حال ، تصوّر المنفعة التي ستعود على المؤرخين التشيكيين في المستقبل ! سيجدون حياة المثقفين كلهم موضوعة في ملفات الشرطة و مسجّلة على شرائط كاسيت ! هل عندك فكرة عن الجهد الذي يقوم به المؤرخ الأدبي لو أراد مثلاً إعادة كتابة الحياة الجنسية لفولتير أو بلزاك أو تولستوي ؟ أمَّا في حالة الكتّاب التشيكيين ، فلن يكون لديهم أدنى شك . فكل شيء مسجّل ، حتى و أقلّ تنهيدة . ثم التفت ناحية آلات التسجيل الوهمية المخفية في الجدران ، و قال



بصوت عالٍ : أيها السادة ، أريد في مناسبة كهذه أن أشجعكم كالعادة على عملكم ، و أن أقدّم لكم الشكر باسمي و باسم مؤرخي المستقبل )) . فضحك ثلاثتهم ، ثم أخذ الصحافي يتكلم بإسهاب عن الظروف التي أحاطت بمنع مجلته من الصدور. و أخذ يتكلم أيضاً عمّا يفعله الآن الرسام الذي خطرت له الفكرة بأن يرسم هذا الكاريكاتور ، و عمّا يفعله الآن غيره من الرسامين و الفلاسفة و الأدباء التشيكيين . فبعد الاجتياح الروسي ، سُرّحوا جميعاً من أعمالهم و صاروا إمّا منظفي زجاج و حرّاساً في مواقف للسيارات أو حرّاساً ليليين ، و إما وقّادين للمراجل في الأبنية الشعبية ، أو كانوا و في أحسن الحالات ، سائقي تاكسي ، لأن هذا الأمر بالذات يحتاج إلى دعم مسبق . لم يكن ما يقوله الصحافي غير مثير للاهتمام ، و لكن توماس كان عاجزاً عن التركيز في معنى كلماته . كان يفكر في ابنه و يتذكر أنه التقاه في الشارع منذ بضع أشهر . و لم يكن الأمر صدفة بالطبع . و لكن ما يفاجئه الآن هو أن ابنه واقع لا بدّ تحت تأثير زوجته الأولى التي كانت شيوعية متصلبة . كان بإمكانه الآن أن يسأله كيف تسير الأحوال مع أمه ، و لكن السؤال بدا له في غير موضعه خصوصاً في حضرة رجل غريب . ثم وصل الصحافي أخيراً إلى صلب الموضوع . فقال إن عدد الناس الموقوفين بسبب تمسكهم بآرائهم بتزايد باطّراد . ثم أنهى حديثه بهذه الكلمات : (( فقررنا أخيراً أن نقوم بعمل ما )) . فسأل توماس : (( و ماذا تريدون أن تفعلوا ؟ )) . في هذه اللحظة ، تدخّل ابنه . كانت هذه هي المرة الأولى التي يسمعه يتكلم فيها . فتعجّب من اكتشافه بأنه كان يتأتئ . فقال : (( استناداً إلى ما نعرفه ، فإن المساجين يعامَلون معاملة سيئة ، و إن وضع بعضهم خطير فعلاً . لذا قرّرنا أنَّ كتابة عريضة موقّعة من المثقفين التشيكيين ، و الذين لا يزال لاسمهم وزن معّين ، ستكون أمراً جيداً . لا ، لم تكن هذه تأتأة و إنما حازوقة تجعل كلماته أكثر بطئاً ، بحيث إن



كل كلمة يلفظها تبدو وكأنها موقّعة و منوّه بها رغماً عنه . لا شك في أنه كان منتبهاً لهذا الأمر ، لأنّ خديه ، بعد أن كان رجع إليهما لونهما الطبيعي ، عادا للإحمرار من جديد . سأل توماس : هل تريدون أن أدلكم على أناس ينتمون إلى حقل اختصاصي و بإمكانهم مساعدتكم ؟ ضحك الصحافي قائلاً : لا ، لا نريد منك نصيحة . بل توقيعك ! )) . مرةَ أخرى أحسّ أنه موضع مديح ! مرةَ أخرى كان سعيداً لأن أحدهم لا ينسَ بعد أنه كان جرّاحاً ! فَمَانعَ من باب التواضع : (( اسمعوا جيداً ! إذا كانوا قد طردوني فهذا لا يعني أنني طبيب مشهور ! )) . قال الصحافي و هو يبتسم لتوماس : (( لم ننسَ المقال الذي كتبته في مجلتنا الأسبوعية )) . و بحماس لم يفهمه توماس ربما ، هتف ابنه : (( نعم ! )) . قال توماس : (( لا أفهم ماذا يستطيع أسمي أن يفعل : إذا كان على عريضة من أجل المساجين السياسيين . فهؤلاء الذين يُفترض بهم أن يوقّعوا ، يجب ألا يكون مغضوباً عليهم ، و أن يكونوا قد حافظوا على حدّ أدنى من التأثير على الناس المتسلمين زمام السلطة . ألا تعتقدون ذلك ؟ )) . ــ (( آه ، بالطبع ، يُفترض بهؤلاء أن يوقعوا ! )) ، قال الصحافي وهو يضحك )) . ثم أطلق ابن توماس ضحكة رجل عارفٍ الكثير من الأشياء . و قال : (( إلا أنَ هؤلاء لن يوقّعوا أبداً ! )) . و أضاف الصحافي قائلاً : (( لكن هذا لا يعني أننا لن نسعى لمقابلتهم ، فنحن لسنا طيبين إلى درجة أننا سنوفرّ عليهم تشنج عضلات وجوهم . و أود لو تسمع اعتذاراتهم ، فهي رائعة )) . فضحك الابن ضحكة مستصوبة . و أضاف الصحافي : (( بالطبع ، سيؤكدون جميعاً أنهم مُتَّفقون معنا على


جميع النقاط . و لكننا لو أصغينا إلى قولهم فعلينا أن نتصرف بطريقة أُخرى : علينا أن نكون خبراء بالتعبئة بطريقة أكثر تعقلاً و أكثر تكتماً . فهم خائفون من التوقيع و خائفون في الوقت نفسه من أن نفكر عنهم بالسوء إن لم يوقعوا )) . ضحك الابن و الصحافي معاً . قدّم الصحافي ورقة لتوماس كُتب عليها نص وجيز حيث يُطلب من رئيس الجمهورية ، و بلهجة مؤدبة نسبياً ، أن يُصدر عفواً شاملاً عن المساجين السياسيين . حاول توماس أن يجول الأمر في رأسه سريعاً : العفو عن المساجين السياسيين ؟ جيد جداً ، و لكن هل سيتم العفو عنهم فقط لأن أناساً ينبذهم النظام ( إذاً سجناء سياسيين محتملين ) يطالبون به رئيسَ الجمهورية ؟ النتيجة الوحيدة التي يمكن أن تصدر عن عريضة من هذا النوع هي أنه لن يتم العفو عن السجناء السياسيين ، حتى و لو اتفق أنهم كانوا يتهيأون فعلاً للعفو عنهم ! ثم قطع عليه الابن هذه الأفكار : (( المهمَ هو أن نجعلهم يعرفون أنه لا تزال في هذا البلد حفنة من الناس الذين لا يهابون شيئاً . و أن نُظهر مَنْ مع مَنْ . و أن نفصل القمح عن الزؤان )) . كان توماس يفكر : نعم ، هذا صحيح . و لكن ما علاقة هذا بالمساجين السياسيين ! فهناك أمر من أمرين : إمَّا الأمر يتعلق بالحصول على العفو ، و إما يتعلق بفصل القمح الجيد عن الزؤان . و الأمران مختلفان . سأل الصحافي : هل أنت متردد يا دكتور ؟ نعم . كان متردداً . و لكنه كان خائفاً من أن يقول هذا . كانت هناك على الحائط قبالته صورة الجندي الذي يشهر إصبعه مهدداً و هو يقول : (( هل ما زلت متردداُ للانضمام إلى الجيش الأحمر ؟ )) أو يقول : (( ألم توقع بعد على الألفيْ كلمة ؟ )) أو بالأحرى : (( هل وقّعت أنت أيضاً على الألفيْ كلمة ؟ أو أيضاً : (( ألا تريد أن توقّع على العريضة لالتماس العفو ؟ )) . و أياً يكن جوابه ، كان الجندي يهدده .



كان الصحافي يشرح لتوّه عمّا كان يفكر بشأن هؤلاء الناس الذين على الرغم من أنهم كانوا مقتنعين بضرورة العفو عن المساجين السياسيين ، يتذرعون في الوقت نفسه بألف حجة لكي لا يوقعوا على العريضة . و تلك الحجج كانت ، حسب ما يقوله الصحافي ، مجرد ذرائع يخفون خلفها جبانتهم . ماذا بإمكانه إذاً أن يقول عن توماس ؟ امتدّ الصمت طويلاً و لكن توماس قطعه هذه المرة ضاحكاً . ثم أشار إلى الرسم المعلق على الجدار و قال : (( انظروا إلى هذا الرجل الذي يهددني سائلاً هل سأوقّع أم لا . يصعب علينا التفكير تحت وطأة نظرته )) . ضحك ثلاثتهم طويلاً . ثم قال توماس : حسناً . سأفكر في الأمر . ألا يمكننا أن نلتقي في الأيام المقبلة ؟ قال الصحافي : يسرني جداً أن أراك . و لكن لم يعد هناك متسع من الوقت لإنجاز هذه العريضة . إذ إننا سنسلّمها غداً إلى رئيس الجمهورية . (( غداً ؟ )) . كان توماس يفكّر في الشرطي السمين الذي أعطاه الورقة حيث كان يتوجب عليه بالتحديد أن يشي ضمنها بالرجل ذي الذقن الطويل و المعقوف . كان الجميع إذاً يريدون إجباره على توقيع نصوص لم يكتبها بنفسه . قال ابنه : (( في هذه الحالة لن يكون هناك داعٍ للتفكير )) . كانت الكلمات فظة و لكن النبرة يشوبها شيء من التوسل . نظرا هذه المرة بعضهما إلى بعض مباشرة . فلاحظ توماس أن ابنه كان يرفع قليلاً الزاوية اليسرى من شفته العليا ، حين يمعن النظر . كانت هذه التكشيرة تشبه تكشيرته هو حين كان يتحقق بدقة أمام المرآة ما إذا كانت حلاقة لحيته جيدة . لذلك فإنه لم يستطع أن يكبت شعوره بالانزعاج لدى رؤيته هذه التكشيرة بالذات على وجه شخص آخر . عندما يعيش المرء باستمرار مع أولاده فإنه يعتاد إذاً على مثل هذه


الخصال و يجدها أمراً طبيعيّاً . و إذا حدث له و لاحظها فإن الأمر قد يُمتعه ربما . و لكن ، كانت هذه المرة الأولى في حياته التي يرى توماس ابنه ! و لم يكن معتاداً على الجلوس قبالة تكشيرته هو بالذات . افرضوا أن يداً بُترت منكم لكي تجري زراعتها لشخص آخر . ثم جاء أحدهم ذات يوم ، و جلس قبالتكم و أخذ يشوّر بهذه اليد بالذات وجهاً لوجه . لا شك أنكم ستخالونها فزاعة . مع أنكم تعرفون هذه اليد حقّ المعرفة ، و ستخافون من لمسها مع أن هذه يدكم . أخذ الابن يتابع قائلاً : (( أنت ، كما آمل ، في جانب المضطهدين ! )) . طيلة الحوار ، كان توماس يتساءل هل سيخاطبه ابنه مع رفع الكلفة أو دونها ؟ و هو حتى الآن كان يصوغ جمله بطريقة تجنبه هذا الاختيار . و لكنه هذه المرة اختار أخيراً . كان يخاطبه دون كلفة ، و تيقّن توماس فجأة من أن هذه التمثيلية بأكملها لم تكن تتعلق إطلاقاً بالتماس العفو للسجناء السياسيين ، بل كان موضوع الرهان يتعلق بابنه : لو أنه يوقع على العريضة فإن مصيرهما سيتلاقيان و سيُضطر توماس إلى التقرب منه . أما إذا لم يوقّع فإن علاقتهما بعضهما ببعض ستكون معدومة كما سبق لها أن كانت على الدوام . . و لكن الفرق هذه المرة أنها لن تكون معدومة بإرادته هو ، بل بإرادة ابنه الذي سيتنكر لأبيه بسبب جبانته . كانت حاله كمثل حال لاعب الشطرنج الذي لم يعد يستطيع فعل شيء لينجو من الهزيمة فيجد نفسه مضطراً للانسحاب من المباراة ، على كل حال ، إن وقّع أو لم يوقّع فالأمران سيّان تماماً . و هذا لن يغير شيئاً في مصيره و لا في مصير السجناء السياسيين . ثم قال : (( أعطني هذه الورقة )) ، و أخذها .

14

و كما لو أنه أراد أن يكافئه على اتخاذه هذا القرار ، قال الصحافي : (( المقال الذي كتبته عن (( أُوديب )) كان ممتازاً )) .


ناوله ابنه قلماً و قال : (( مِنَ الأفكار ما يشبه جريمة اعتداء )) . كان ثناء الصحافي يطربه و لكن استعارة ابنه بدت له مبالغاً فيها و في غير موضعها . فقال (( لسوء الحظ ، فإن هذه الجريمة لم توقع إلا ضحية واحدة : أنا . فبسبب هذا المقال لم أعد أستطيع القيام بعمليات جراحية لمرضاي )) . كان لهذه الكلمات وقع بارد يشوبه شيء من العدائية . و لكي يمحو الصحافي هذا النشاز الصغير ، استدرك ( بدا أشبه بأحد يقدّم اعتذاره ) قائلاً : (( و لكن مقالك ساعد أناساً كثيرين ) . كانت عبارة (( مساعدة الناس )) تعني لتوماس منذ الطفولة نشاطاً واحداً : الطب . ثم هل حدث لمقال في صحيفة أن ساعد أناساً من قبل ؟ ماذا كان هذان الإثنان يريدان إفهامه ؟ أنهما يردان حياته كلها إلى خواطر تعيسة كتبها عن (( أُوديب )) ، لا بل إلى أقل من هذا أيضاً : إلى كلمة (( لا )) وحيدة ساذجة كان تلفظ بها في وجه النظام ! ثم قال ( و دائماً بالنبرة الباردة نفسها و لكن دون أن يتعمد ذلك ): (( لا أعرف حقاً ما إذا كان هذا المقال قد ساعد أحداً ما . و لكني خلال عملي كجرّاح أنقذت حياة أناس كثيرين )) . ساد صمت جديد ثم قطعه قائلاً : (( الأفكار أيضاً يمكنها أن تنقذ الحياة )) . كان توماس يرى فمه هو بالذات في وجه ابنه ، قائلاً في نفسه : (( أمر مضحك أن نرى فمنا يتأتئ أمامنا )) . و تابع الابن بجهد ملحوظ : (( ثمة أمر رائع في مقالك و هو رفض المساومة . فهذه القدرة ، و التي نحن في طريقنا إلى خسارتها ، هي التي تميّز بوضوح الخير من الشر . . لم نعد نعرف ما معنى أن نكون مذنبين . فالشيوعيون وجدوا لأنفسهم ذريعة مفادها أن ستالين هو الذي خدعهم . كما عندما يبرر القاتل نفسه متذرعاً بأن أُمه لم تكن تحبه و أنه كان محروماً من العطف .و لكّنك جئت أنت فجأة و قلت : لا مكان للتبرير . إذ لم يكن أحد



في روحه ضميره أكثر براءة من (( أُوديب )) . ومع ذلك فقد عاقب نفسه بعد أن رأى فعلته )) . حاول توماس جاهداً أن يشيح ببصره عن الشفة التي كان يراها في وجه ابنه ، فأخذ يولي انتباه للصحافي . كان متضايقاً و يشعر برغبة في معاكستهما ، فقال : (( كما تعلمون ، كل هذا لم يكن إلا سوء تفاهم . فالحدود بين الخير و الشر حدود ملتبسة بشكل لا يوصف . . لم أكن أُطالب بالعقاب لأحد و لم يكن هذا هدفي . فأن تعاقب أحداً لا يدرك ماذا يفعل أمر بربري . أُسطورة (( أُوديب )) أُسطورة جميلة . و لكن استخدامها بتلك الطريقة . . . )) . كان على وشك أن يضيف شيئاً ما ولكنه تذكر أنه من المحتمل أن يُسجَّل قوله . و هو لم تكن لديه أدنى رغبة في أن يستشهد به مؤرّخو العصور المقبلة . أو أنه كان يخاف بالأحرى من أن تستشهد به الشرطة . فالأمر الذي كانت طالبته به هو بالضبط هذه الإدانة لمقاله . فأن يتمكن أخيراً من سماعه من فمه هو بالذات أمر يقززه . فهو يدرك أن كل جملة يتلفظ بها المرء في هذا البلد يمكن أن تبثَّ ذات يوم على الراديو . فَصَمت . سأل الصحافي : (( ما الذي دفعك إلى تغيير رأيك ؟ )) . فقال توماس : (( بل إني أتساءل بالأحرى ما الذي دفعني إلى كتابة هذا المقال )) . ثم تذكر على الفور : كانت قد جنحت إلى ضفة سرير مثل طفل متروك داخل سلة في مجرى المياه . نعم ، هذا هو السبب الذي دفعه للتفتيش عن هذا الكتاب ، راجعاً إلى عهد حكايات روميلوس و موسى و أُوديب . و فجأة رآها أمامه تضم صدرها الزاغ الملفوف بالمنديل الأحمر . كانت هذه الصورة تريحه و كأنها تريد أن تقول له إن تيريزا لا تزال حية و إنها كانت في هذه اللحظة في المدينة نفسها التي يقطن هو فيها ، و أن لا شيء غير ذلك يهم . قطع الصحافي الصمت قائلاً : (( أتفهم موقفك يا دكتور . أنا أيضاً لا أحب أن يجازيني أحد . و لكننا لا نطالب بالعقاب لأحد بل نحن نطالب بتوقف العقاب )) . ــ (( أعرف )) قال توماس . كان يتقبل الفكرة بأنه سيقوم في خلال ثوانٍ



بعمل نبيل ربَّما و لكن بالتأكيد غير مجدٍ إطلاقاُ ( لأنه لن يساعد بشيء المساجين السياسيين ) ، بعمل كان يستكرهه شخصياً ( فهو كان يتصرف وفق شروط مفروضة عليه ) . قال ابنه مرةً أخرى ( و بلهجة شبه متوسلة : (( إنه لمن واجبك أن توقع ! )) . واجبه ؟ و هل سيكون ابنه من يذكره بواجبه ؟ لا ، هذا أسوأ ما يمكن أن يقال له ! مثلَتْ أمام عينيه من جديد صورة تيريزا و هي تحمل بين ذراعيها الزاغ . فتذكر أنها قالت له : إن شرطيا جاء البارحة إلى الحانة و راح يضايقها . كانت يداها تبدآن بالارتجاف من جديد . لقد كَبّرت . لا شيء كان ذا أهمية بالنسبة له ، عداها . هي وحدها تهمه ، هي المتحدرة من صُدَفٍ ست ، هي الزهرة النابتة من ألم النَّسا الذي أصاب رئيس القسم ، هي التي كانت في الجانب الآخر من كل أنواع (( المحتمات )) ، هي الشيء الوحيد الذي كان متمسكاً به فعلاً . فلماذا عليه إذاً أن يتساءل بعد هل يجدر به أن يوقّع أم لا ؟ فهناك معيار واحد يزين به جميع قراراته و هو : ألاَّ يفعل شيئاً يمكنه أن يؤذي تيريزا . لم يكن توماس قادراً على إنقاذ المساجين السياسيين و لكنه كان قادراً على إسعاد تيريزا . لكن لا ، كان غير قادر أيضاً على تحقيق هذا الأمر . ولكنه كان على يقين أنه في حال وقّع على العريضة فستأتي الشرطة لمضايقته أكثر من ذي قبل ، و ستبدأ تيريزا بالارتجاف أكثر من ذي قبل . قال : (( إن إنقاذ زاغٍ مدفون حيّاً لَهُو أكثر أهمية بكثير من إرسال عريضة إلى رئيس الجمهورية )) . كان يعرف أن لا أحد سيفهم حرفاً مما يقوله ، و كان هذا الأمر خاصة يزيده رضى . كان يشعر بنشوة مفاجئة و غير متوقعة . تلك النشوة السوداء نفسها حين أعلن لزوجته بأنه لم يعد راغباً في رؤيتها . لا هي و لا ابنها . تلك النشوة السوداء نفسها حين رمى الرسالة التي ضمّنها تخلّيه إلى الأبد عن مهنة الطبيب ، في صندوق البريد . لم يعد واثقاً إطلاقاً من أنه يتصرف بشكل




حسن ، إنما كان واثقاً من أنه يتصرف حسب ما كان يرغب . فقال : (( أعذراني ، لن أوقّع )) .

15

بعد مرور بضعة أيام ، أخذت الجرائد كلها تتحدث عن العريضة . بالطبع ، لم يجرِ الحديث على أن العريضة كانت مجرد التماس بسيط لصالح المساجين السياسيين ، أو أنها كانت مطالبة لإعتاقهم من السجن . لا ، لم ترد في أية صحيفة جملةٌ من هذا النوع . و إنما كانت موضوعات الصحف ستتحدث مطوّلاً و بعبارات غامضة و متوعدة عن دعوة مخربة لا بدّ أنها تشكل ذريعة لإشعال فتيل حرب ضد الاشتراكية . كانت أسماء الموقعي منشورة بحذافيرها و مصحوبة بشتائم و كلمات لاذعة تقشعر لها الأبدان الأمر متوقعاً بالطبع . فكل نشاط علني ( تجمعاً كان أو عريضة أو تظاهرة في الشارع ) لا ينظمه الحزب الشيوعي يُعتبر غير قانوني و يعرض للخطر كل من يشارك فيه . الجميع كانوا على علم بهذا الأمر . و ربما هذا هو السبب الذي حدا بتوماس لأن يلوم نفسه أشد الملامة ، لعدم توقيعه العريضة . فما الذي منعه بجدّ من توقيعها ؟ ما عاد يفهم بوضوح الحوافز الكامنة وراء هذا الرفض . و ها إني أراه مرة ثانية كما بدا لي في أول هذه الرواية : (( أمام النافذة ينظر عبر الباحة إلى حائط البناية المقابل . إنه وليد هذه الصورة . فكما سبق و قلت لكم ، أشخاصي لا يولدون من أجساد أمهاتهم كما تولد الكائنات الحية ، و لكنهم يولدون من حالة أو من جملة أو من استعارة تحوي في داخلها برعم احتمالٍ إنساني صميم يُخيَّل للكاتب أنه لم يتسنَّ له اكتشافه أو أنه لم يكتب عنه شيئاً يستحق الذكر حتى الآن . و لكن ، ألا يجري التأكيد دائماً على أن الكاتب لا يسعه أن يتحدث إلا عن ذاته ؟


فالنظر بعجز عبر الباحة و عدم التوصل إلى قرار ، و سماع القرقرة المعاندة للبطن أثناء لحظة احتدام عاطفي ، و الخيانة و العجز عن التوقف على متابعة الطريق الرائعة للخيانات ، و رفع القبضة في موكب المسيرة الكرى ، و عرض النكات أمام آلات التسجيل التي أخفتها الشرطة ، كل هذه الحالات عرفتها و عشتها بنفسي ، لكنّ أيّاً من هذه الشخصيات لا تتحدر من هذه الشخصية التي هي أنا و الموجودة في بيان سيرتي . فشخصيات روايتي هي إمكاناتي الشخصية التي لم تتحقق . هذا مما يدفعني لأن أحبهم كلهم و لأن أرتعب منهم في الوقت نفسه . ذلك أن كل واحد منهم عَبَرَ حدوداً ليس في مستطاعي سوى الالتفاف حولها . و هذه الحدود التي عبروها ( و التي بعدها تنتهي (( أناي )) ) هي ما يشدني إليهم . لأن في هذا الجانب الآخر وحده يبدأ السر الذي تسبر غوره الرواية . فالرواية ليست اعترافاً ذاتياً للكاتب ، و إنما تنقيب عمَّا تصيره الحياة الإنسانية في الفخ الذي يسمَّى العالم . و لكن هذا يكفي . فلنعدْ إلى توماس . توماس أمام النافذة ينظر عبر الباحة إلى الحائط المتسخ للبناية المقابلة ،و يشعر بنوع من الحنين إلى ذلك الرجل طويل القامة ذي الذقن الطويل و المعقوف ، و إلى أصدقائه الذين لم يعرفهم و الذين لا ينتمي إليهم . كمن يلتقي بجميلة مجهولة على رصيف المحطة و قبل أن يتسنى له الوقت للدنو منها ، تكون قد صعدت إلى عربة - نوم في قطار متجه نحو ليشبونة أو إسطنبول . أخذ يفكر من جديد : ماذا كان يجدر به أن يفعل . حتى عندما كان يطرح جانباً كل ما له علاقة بالمشاعر ، ( مثلاً الإعجاب الذي كان يبديه بالصحافي و الغضب بسبب ابنه ) فهو لم يكن يتوصل إلى معرفة هل كان عليه أن يوقع على النص الذي عُرض عليه أم لا . هل صحيح أنه يجب علينا أن نرفع صوتنا حين يُسكت أحدهم رجلاً ؟ نعم . و لكن من جهة ثانية : لماذا كان الصحف تعلّق أهمية كبيرة على هذه العريضة . ألم يكن بإمكان الصحافة ( و هي تقع بأكملها تحت إشراف الدولة )




ألا تنبس بكلمة فيما يتعلق بالقضية من الأساس فلا يعلم شيئاً عنها ؟ إذا كانت قد تحدثت عنها فهذا يعني أن الأمر يلائم أسياد البلاد ! و أن هذه أعطية من السماء يستخدمونها من أجل تبرير حملة جديدة من الاضطهادات . إذاً ، ماذا كان يجدر به أن يفعل ؟ التوقيع أو عدمه ؟ بالإمكان أيضاً صوغ السؤال على الشكل التالي : أيهما أفضل ، الصراخ و التبجيل في نهايتنا ، أم السكوت و الحَوْز على احتضار أكثر بطئاَ ؟ أيوجد جواب واحد لهذه الأسئلة ؟ و من جديد خطرت له فكرة سبق لنا أن عرفناها و هي : الحياة الإنسانية لا تحدث إلا مرة واحدة ، و لن يكون في وسعنا أبداً أن نتحقق أي قرار هو الجيد و أي قرار هو السيء ، لأننا في كل الحالات لا يمكننا إلا أن نقرر مرة واحدة . لأنه لم تعطَ لنا حيا ثانية أو ثالثة أو رابعة حتى نستطيع أن نقارن بين قرارات مختلفة . و حال التاريخ كحال الإنسان . فالتشيكيون يملكون حكاية تاريخ واحدة .و ذات يوم ستنتهي هذه الحكاية مثل حياة توماس دون أن يقدَّر لها أن تتكرر مرة ثانية . ففي سنة 1618 ، تشجّع نبلاء بوهيميا و قرروا أن يدافعوا عن حرياتهم الدينية .و من شدة حنقهم على الأمبراطور الجالس على عرشه في فيينا ، ألقوا من نافذة هرادشين باثنين من ممثّليه الرفيعي المستوى . و هكذا ابتدأت حرب الثلاثين عاماً التي أدَّت إلى إباحة شبه تامة للشعب التشيكي . فهل كان التشيكيون يحتاجون آنذاك إلى الحذر أكثر مما كانوا في حاجة إلى الشجاعة ؟ قد يبدو الجواب سهلاً و لكنه ليس كذلك . بعد ثلاثمائة و عشرين سنة من هذا التاريخ ، أي في سنة 1938 و على إثر مؤتمر ميونخ ، قرر الشعب بأكمله أن يتخلى عن بلاده لهتلر . إذْ هل من المعقول أن يقاتلوا آنذاك لوحدهم عدوّاً يفوقهم عدداً بثماني مرات ؟ لقد أظهروا إذاً ، خلافاً لما فعلوا في سنة 1618 ، من الحذر أكثر مما أظهروا من الشجاعة . إن استسلامهم هذا أرّخ لبداية الحرب العالمية الثانية التي انتهت



بخسارتهم الكاملة لحريتهم كأمة مستقلة لعشرات السنين و لعدة قرون ربما ، فهل كانوا عندها يحتاجون إلى الشجاعة أكثر مما كانوا في حاجة إلى الحذر ؟ ماذا كان عليهم أن يفعلوا ؟ لو كان بإمكان التاريخ التشيكي أن يعيد نفسه ، لكانت التجربة للاحتمال الآخر أمراً مهماً بالطبع ، لأنه إذ ذاك يمكن المقارنة بين النتيجتين . و لكن ، بانعدام وجود هذه التجربة ، فإن هذه البراهين كلها تبقى لعبة افتراضات . مرة واحدة ليست في الحسبان ، مرة هي أبداً . تاريخ بوهيميا لن يتاح له أن يتكرر مرة ثانية و لا تاريخ أوروبا أيضاً . فتاريخ بوهيميا و تاريخ أوروبا هما محاولتان خطّهما انعدام الخبرة المحتم للبشرية . فالتاريخ خفيف بقدر ما هي الحياة الإنسانية خفيفة ، خفيفة بشكل لا يطاق ، خفيفة مثل الوبر، مثل غبار متطاير ، مثل شيء سيختفي غداً . فكّر توماس بشيء من الحنين أو من الحب ربّما في الصحافي الطويل القامة و المنحني الظهر . كان ذلك الرجل يتصرف و كأن كل ما يفعله سوف يتكرر مرات لا عدّ لها في سياق العود الأبدي . كان توماس متأكداً من أنه لا يشك في أعماله ، و مقتنعاً بأنه كان على حق . و هو لا يرى في يقين الرجل هذا دليلاً على بلادة الذهن بل علامة على فضيلة . كان يعيش في حكاية مختلفة عن حكاية توماس ، في حكاية لم تكن محاولة أولية ( أو لم تكن تعي نفسها على أنها كذلك ) .

16

بعد ذلك بوقت قصير ، خطرت له أيضاً هذه الفكرة . و أُنَّوه بها لألقي ضوءاً على الفصل السابق : لنفرض أن هناك كوكباً آخر في الكون حيث يمكن أن نولد مرة ثانية ، و حيث يمكن أيضاً أن نتذكر تماماً ما حصل لنا في حياتنا السابقة على الأرض و كل التجربة التي اكتسبناها في هذه الدنيا . و لنفرض أن هناك ربما كوكباً ثالثاً حيث يستطيع كل منا أن يبصر النور


مرة ثالثة مزوّداً بالخبرة التي اكتسبها خلال الحياتين السابقتين اللتين عاشهما . و أن هناك أيضاً و أيضاً كواكب أُخرى حيث يمكن للجنس البشري أن يلد من جديد مرتقياً في كل مرة درجةً ( أي حياة ) على سُلَّم الكمال . تلك هي الفكرة التي يكوّنها توماس عن العَوْد الأبدي . نحن أيضاً سكان هذه الأرض ( أي الكوكب رقم واحد ، كوكب انعدام الخبرة ) ، ليس في إمكاننا طبعاً إلا أن نكوّن فكرة غامضة جداً عما سيصير بحال الإنسان في الكواكب الأخرى . تُرى هل سيكون أكثر ثقلاً ؟ هل سيكون الكمال في متناول يده ؟ و هل سيتمكن من الوصول إليه بواسطة التكرار ؟ ضمن أفق هذه اليوطوبيا وحده ، يمكن لمفهومي التشاؤم و التفاؤل أن يكون لهما معنى : فالمتفائل هو ذلك الذي يتصور إن التاريخ الإنساني سيكون أقل ديمومة على الكوكب رقم 5 . و المتشائم هو الذي لا يصدّق هذا الأمر .

17

لجول فيرن رواية شهيرة كان يحبها توماس كثيراً عندما كان طفلاً و تدعى (( سنتان من العطلة )) . و هذا صحيح ، فإن الحد الأقصى لعطلة ما هو سنتان . و ها قد انقضت ثلاث سنوات تقريباً و توماس لا يزال منظّفاً للزجاج . خلال هذه الأسابيع الأخيرة ، أخذ يكتشف ( بحزن و لكن أيضاً بفرح غامض ) أنه بدأ يتعب جسديا ً( كان يشن كل يوم معركة و أحياناً معركتين جنسيتين ) و أنه ، دون أن يفقد شيئاً من شهيته للنساء ، لم يكن في استطاعته ممارسة الجنس معهنّ إلاّ لقاء شحن كامل لقواه كلها ( لا أعني قواه الجنسية و إنما قواه الجسدية ، فهو لم يكن يعاني صعوبات مع قضيبه بل مع نَفَسه . و هذا بالضبط ما كان يبدو له مضحكاً ) . كان يحاول ذات يوم أن يعيّن موعداً لفترة ما بعد الظهر . و لكن ، و كما


يحدث أحياناً ، لم تردّ أي صديقة من صديقاته على الهاتف فأوشك ما بعد الظهر أن يكون قاحلاً . كان يشعر باليأس . حاول أن يتصل عشرات المرات بامرأة شابة كانت طالبة في معهد التمثيل و جميلة جداً . كان جسدها الذي ذهّبته الشمس على أحد شواطئ العراة في مكان ما من يوغوسلافيا يزدهي بسمرة متسقة تماماً و كأنه قُلّب على شيش يدور بحركة عجيبة دقتها . خابرها من كل المخازن حيث كان يعمل و لكن دون جدوى . و نحو الساعة الرابعة ، عندما كان راجعاً بعد انتهاء جولته إلى المكتب ليقدم لوائح الحساب الموقَّعة ، نادته واحدة في شارع وسط براغ . كانت تبتسم له قائلة : (( دكتور ، أين تختبئ ! لقد سهوْتَ عن بالي تماماً ! )) . كان توماس يبذل جهداً ليتذكر من أين كان يعرفها . هل هي إحدى مريضاته القديمات ؟ كانت تتصرف معه و كأنها صديقة حميمة فحاول أن يجيبها بطريقة لا تُظهر أنه لا يعرف مَنْ تكون . و عندما كان يتساءل كيف سيقنعها بمرافقته إلى شقة صديقه الصغيرة و التي يملك مفتاحها في جيبه ، كشفت له ملاحظة مفاجئة عمّن تكون هذه المرأة : إنها طالبة في معهد التمثيل ، صاحبة الجسد البرونزي الرائع التي كان يخابرها دون توقف طيلة النهار . أمتعه هذا الحادث المزعج و أرعبه في الوقت نفسه : فهو لم يكن منهكاً جسدياً فحسب بل عقلياً أيضاً . فَسَنتا العطلة لا يمكن إطالتهما إلى غير أمد .

18

كانت العطلة دون طاولة العمليات عطلة أيضاً دون تيريزا : فإن أياماً بكاملها كانت تمر دون أن يتقابلا . و حين يجتمعان أخيراً في يوم الأحد ، كانا يمثلان رغبة و احدهما للآخر و لكن يظلاّن بعيدين كما في ذلك المساء حين رجع توماس من زوريخ و توجَّب عليهما أن يجتازا طريقاً طويلة قبل أن يقدرا على التلامس أو المعانقة . كان العلاقة الجنسية تمنحهما المتعة و لكنها لا تمنحهما أية مؤاساة . فهي لم تعد تصرخ كما كانت تفعل من قبل حين كانت تصل إلى لحظة النشوة ، بل كانت تبدو تكشيرتها و كأنها تعبّر عن الألم و عن


غياب غريب . لم يكونا متحدين بحنان إلاَّ في الليل أثناء النوم . كانا يمسكان دائماً بأيديهما فَتنسى عندئذ الهاوية (هاوية ضوء النهار ) التي كانت تفصل بينهما . و لكن هذه الليالي لم تكن تعطي توماس لا الوقت و لا الوسيلة لحمايتها و الاعتناء بها . لذلك فهو عندما كان يراها في الصباح ينقبض قلبه و يرتجف خوفاً من أجلها : كانت تبدو حزينة و متوعكة . ذات يوم اقترحت عليه أن يركبا السيارة و ينطلقا إلى مكان ما في الريف . ذهبا إلى مدينة المياه المعدنية حيث اكتشفا أن جميع الشوارع هناك قد تغيرت أسماؤها و أصبحت روسية ، وحيث التقيا بأحد مرضى توماس القدامى . أثَّر فيه اللقاء . فها إن أحداً يتحدث معه فجأة كما يجري التحدث مع طبيب . لقد اعتقد لوهلة أنه استعاد حياته السابقة بنظاميتها المريحة و ساعات المعاينة و نظرات المرضى الواثقة التي كان يتظاهر بأنه لا يعيرها اهتماماً فيما هي تمنحه حقاً الرضى الذي يفتقر إليه . أخذ توماس إذاً يردد في نفسه ، و هو يقود السيارة أثناء عودتهما ، أن رجوعهما من زوريخ إلى براغ كان خطأ فادحاً . كان يُبقي عينيه مسمّرتين باتجاه الطريق كي يتحاشى رؤية تيريزا . كان حضورها إلى جانبه ينكشف له في كل احتماليه التي لا تطاق . فلماذا كانت إلى جانبه ينكشف له في كل احتماليه التي لا تطاق . فلماذا كانت إلى جانبه ؟ و من ذا الذي وضعها في سلة و تركها لتجري مع المياه ؟ ولماذا قُدّر لها أن ترسو على سرير توماس ؟ و لماذا هي بالذات دون سواها ؟ كانا يسيران في السيارة ممتنعين من الكلام طيلة الطريق . كان الصمت ينتصب بينهما كالشقاء ، و يثقل في كل دقيقة . و لكي يتخلصا منه ذهبا بعجلٍ إلى النوم . و أثناء الليل أيقظها ليخلّصا من نحيبها فأخبرته : (( كنت مدفونة . منذ زمن بعيد . و كنت تأتي لزيارتي كل أسبوع . كنت تقرع على السرداب فأخرج . كانت عيناي ممتلئتين تراباً )) . كنت تقول : (( أنت ِلا تستطيعين أن تري شيئاً )) . ثم أخذْتَ تزيل التراب عن عينيَّ . و كنتُ أرد عليك : لكني في جميع الأحوال لن أرى شيئاً . فهناك فجوات مكان العينين .



ثم ذهبْتَ مدة طويلة و كنتُ أعرف أنك برفقة امرأة أُخرى . كانت الأسابيع تمر و أنت لا تعود . و أنا لم أعد أنام إطلاقاً ، لأنني كنت أخاف من أن أُفوتَ عودتك . و ذات يوم رجعت أخيراً و قرعت على السرداب ، و لكني كنت منهكة لأنني لم أنم من شهر كامل ، فبالكاد كانت لي القوة لأخرج من السرداب . و عندما تمكنْتُ من ذلك أخيراً ، كنتَ تبدو و كأنك خائب . كنت أعرف أنني لا أروق لك و أن خديَّ متجوفان و أنني أقوم بحركات فظة و غير متماسكة . ولكي أعتذر إليك ، قلت : سامحني لم أنم منذ ذلك الوقت . فقلْتَ لي بصوت مطمئن ، لكن خادع : أرأيتِ ، يجب أن ترتاحي ، أن تأخذي عطلة شهر . و كنت أعرف جيداً ماذا تقصد و أنت تتحدث عن العطلة ! كنتُ أعرف أنك تريد أن تبقى شهراً كاملاً دون أن تراني لأنك ستكون برفقة واحدة أُخرى . ذهبْتَ و نزلْتُ أنا من جديد إلى عمق القبر . كنت أعرف أنني سأبقى شهراً آخر دون نوم لأني لا أريد أن أفوّت عودتك . و أعرف أيضاً أنك حين ستعود بعد شهر ، سأكون أشد قبحاً و سنكون أكثر خيبة من قبل )) . لم يكن قد سمع في حياته حكاية مزّقت قلبه كهذه الحكاية . أخذ يضم تيريزا و جسدها يرتعش بين ذراعيه . كان يفكر أنه لم تعد لديه القوة ليتحمل الحب الذي يكنّه لها . بإمكان الكوكب أن يتهاوى على أثر تفجير القنابل . و يمكن للوطن أن ينهبه كل يوم مختلس جديد ، و يمكن لسكان الحي جميعهم أن يُساقوا إلى كتيبة الإعدام . يمكنه أن يتحمل كل هذا بسهولة أكبر مما يجرؤ على القول ، و لكنه غير قادر على تحمل الحزن الذي يسببه حلم واحد من أحلام تيريزا . كان يرجع إلى داخل الحلم الذي أخبرته به لتوّها : كان يراها أمامه : كان يداعب وجنتيها ثم يزيل التراب ، بحذرٍ شديد لئلا تلاحظ شيئاً ، من فجوتي عينيها . و يسمعها تقول هذه الجملة ، الجملة الأكثر إيلاماً بين الجمل كلها : (( لكني في جميع الأحوال لن أرى شيئاً . هناك فجوات مكان العينين )) .



كان قلبه ينقبض و يشعر أنه على شفير أن يصاب بالسكتة القلبية . عادت تيريزا إلى النوم من جديد . و لكنه هو لم يستطع النوم . كان يتخيلها ميتة و ترى أحلاماً رهيبة . و لم يكن في استطاعته إيقاظها لأنها ميتة . نعم ، هذا هو الموت : أن تنام تيريزا و ترى أحلاماً فظيعة دون أن يتمكن من إيقاظها .

19

خمس سنوات قد مرّت على اجتياح الجيش الروسي لبلاد توماس و براغ كانت تتغير كثيراً : لم يكن الناس الذين يصادفهم توماس في الشارع هم أنفسهم الذين كان يراهم في السابق و كان نصف أصدقائه قد هاجروا و النصف الآخر الذين لم يهاجروا ، ماتوا . و هذا الحدث لن يدوّنه أي مؤرخ . كانت السنوات التي أعقبت الاجتياح الروسي ، سنوات مآثم ، إذ لم يسبق أن حدثت وف يّات بهذه الكثرة . لا أتكلم فقط عن الحالات ( و هي نادرة على كل حال ) حيث طُورد أُناس حتى الموت كما حصل ليان بروشازكا . فبعد مرور خمسة عشر عاما ًعلى إذاعة أحاديثه الخاصة المسجّلة عبر الراديو يومياً ، أُدخل إلى المستشفى . لا شك أن السرطان الذي كان يرقد سراً داخل جسده منذ فترة طويلة بدأ يفتح مثل وردة . أُجريت العملية له بحضور الشرطة . و عندما اكتشفت هذه الأخيرة بأن ليس هناك من أمل في شفائه ، كفّت عن الاهتمام به و تركته يموت بين ذراعي زوجته . و لكن الموت كان ينزل أيضاً بهؤلاء الذين لم يكونوا مضطهدين مباشرة . كان اليأس الذي ضرب البلاد مستأثراً بالأجساد وزارعاً الذعر فيها ينفذ أيضاً إلى الروح . . كان البعض يتهربون من النِعَم التي كان النظام يريد أن يغدقها عليهم لإجبارهم علانية على الظهور إلى جوار القادة الجدد . هكذا حصل مع الشاعر فرانتزك هروبين الذي مات و هو يتهرب من محبة الحزب . فلحقه وزير الثقافة ، و هو الذي كان حاول بكل ما أوتي من قوة الفرار منه ، حتّى النعش و ألقى على قبره خطبة ضَمَّنها محبة الشاعر للاتحاد السوفياتي . ربما تلفظ بهذا الكلام الشنيع لعلّه يُقيم الميت من رقاد . و لكن العالم كان من البشاعة بحيث أن لا أحد كان يريد



أن يُبعث من بين الأموات . ذهب توماس إلى محرقة الجثث لحضور مأتم عالم إحياء شهير كان قد طُرِدَ من الجامعة و من أكاديمية العلوم . ولكي يتجنبوا أن تنقل الجنازة إلى تظاهرة ، كانوا يحظّرون الإشارة إلى ساعة الدفن على أوراق النعي . ولم يبلّغوا الأقارب إلا عند آخر لحظة بأن الفقيد سيتم إحراقه في الساعة السادسة و النصف صباحاً .

عندما دخل توماس إلى صالة مَحْرقة الجثث ، وجد صعوبة في فهم ماذا كان يجري . كانت الصالة مضاءة و كأنها صالة أستوديو . نظر حواليه مدهوشاً فلمح آلات التصوير في ثلاث زوايا من الصالة . لا ، ليس موظفو التلفزيون هم الذين يقومون بالتصوير . بل كانت الشرطة تصور حفل الجنازة لكي تتحقق من هوية المشتركين فيه . ثم اجتزأ زميل قديم للفقيد ، و هو كان لا يزال عضواً في أكاديمية العلوم ، على إلقاء بضع كلمات أمام النعش . لم يكن يفكر أنه سيصير بهذه السهولة نجماً سينمائياً . بعد الجنازة و بعد أن صافح الجميع عائلة الفقيد ، لمح توماس في إحدى زوايا الصالة جماعة صغيرة فَتعرّف فيها إلى الصحافي صاحب القامة الطويلة و المنحنية . شعر من جديد بالحنين إلى هؤلاء الناس الذين لا يهابون شيئاً و الذين تربطهم بعضهم ببعض صداقة قوية . اقترب منه و ابتسم له هامّاً بأن يقول صباح الخير و لكن الرجل ذا الجسم الفارع و المنحني قال له : (( احذر يا دكتور ، من الأفضل ألاَّ تقترب )) . كانت هذه الجملة غريبة . فهو كان يرى فيها إنذاراً صادقاً و محباً ( (( احترس ، إنهم يصوروننا ، لو توجهت إلينا بالكلام ستكون عندها نافعاً في استجواب جديد )) ) . و لكنه لم يكن يستبعد في الوقت نفسه أنها كانت تتضمن نبرة ساخرة ( (( لم تتسنَّ لك الشجاعة لتوقع على العريضة . كن منطقياً إذاً و لا تتعاطّ معنا )) ) . أيَّاً كان التأويل الصائب لهذه الجملة ، فإن توماس امتثل و انسحب . كان يشعر أن تلك الجميلة المجهولة التي صادفها على رصيف المحطة كانت تصعد إلى عربة نوم في قطار سريع . ثم في اللحظة التي أراد أن يُسرّ لها بإعجابه ، وضعت إصبعها على شفتيها لتمنعه من الكلام .



20

و في فترة ما بعد الظهر أيضاً جرى له لقاء هام . كان يقوم بتنظيف واجهة أحد محلات الأحذية عندما توقّف رجل شاب على بعد خطوتين منه . انحنى الرجل فوق الواجهة ليتفحص الأسعار . (( كل شيء يزداد ثمناً )) ، قال توماس دون أن يكف عن تمرير اسفنجته على الزجاج المبلّل . التفت الرجل . كان ذلك الزميل في المستشفى الذي دعوْتُه س . . . و الذي كان يبتسم ساخطا ًعلى توماس معتقداً أن هذا الأخير كتب رسالة النقد الذاتية . سُرَّ توماس لهذا اللقاء ( إنها المتعة الساذجة التي تجلبها لنا الصدفة ) و لكنه ما لبث إن لمح في نظرة زميله ( فهو لم يتسنَّ له في الثانية الأولى الوقت ليتحكم بردة فعله ) تعبيراً عن مفاجأة لا تروق له . ــ كيف الحال ؟ سأل س . . . و قبل أن يصوغ جوابه فهم توماس أن س . . . كان خجلاً من سؤاله . . كان جلياً أنه تصرف أحمق أن يبادر طبيب لا يزال يمارس مهنته إلى أن يسأل طبيباً ينظف الواجهات ، عن حاله . (( في أحسن ما يكون )) . أجاب توماس و هو يتصنَّع المرح لكي يخفف عن الطبيب انزعاجه . لكنه أحس فوراً أن عبارة (( في أحسن ما يكون )) يمكن أن تؤول رغماً عنه ( و بسبب النبرة الفكهة التي لجأ إليها بالذات ) . لذلك استعجل يقول : هل هناك من جديد في المستشفى ؟ فأجاب س . . . : لا ، كل شيء ، لمّا يزلْ على حاله . و لكن هذا الجواب و الذي كان يتظاهر بأنه محايد كلياً ، كان في غير موضعه تماماً . و كلّ منهما يعرف ذلك و يعرف أن الآخر يعرف : إذ كيف بإمكان كل شيء أن يكون على حاله فيما أحد الطبيبيْن منظّف زجاج ؟ ثم قال توماس متحرياً : (( و رئيس القسم ؟ )) .


ـــ ألا تراه ؟ سأل س . . . فقال توماس : (( لا )) . كان هذا صحيحاً . فهو منذ رحيله عن المستشفى لم يرّ قط رئيس القسم ثانية ، مع أنهما كانا في السابق معاونين ممتازين و حتى أنهما كانا يميلان تقريباً إلى أن يعدّا نفسيهما صديقين . و مهما يكن ، فإن (( اللاّ )) التي تلفَّظ بها لتوه كان فيها شيء من الحزن . فأخذ توماس يشك بأن س . . . قد استاء منه لأنه طرح عليه هذا السؤال ذلك أن س . . . بالذات و رئيس القسم لم يأتيا قط إلى زيارة توماس و السؤال عن أحواله أو عمّا إذا كان محتاجاً لشيء . كان الحوار بين الزميلين القديمين يصير مستحيلاً ، و لو أن كليهما يأسف لذلك و خصوصاً توماس . فتوماس لم يكن يحمل أي ضغينة لأصدقائه بسبب أنهم نسوه . و كان في نيته أن يشرح ذلك في الحال إلى الطبيب الشاب . كان راغباً في أن يقوله له : لا تكلّف نفسك هذا الانزعاج . فأَمْرٌ طبيعي أنك لم تحاول التردد لزيارتي ، فهذا يسير وفق المجرى المعروف للأمور لا داعي لأن تحمل نفسك أي شعور بالخجل ! فهذا من دواعي سروري أن ألتقيك ! )) و لكنه لم يجرؤ على هذا القول ، لأن أيّاً من كلماته لم يتضمن هذا المعنى الذي يحمّلها إياه الآن . و فوق ذلك ، يمكن لزميله القديم ساعتها أن يشتبه بأن يُضمر سخريةً وراء جملة صادقة على كل حال . و أخيراً قال س . . . (( اعذرني ، إني مستعجل )) . ثم صافحه و قال : (( سأتصل بك )) . في السابق ، حين كان زملاؤه يحتقرونه بسبب جبانته المفترضة كانوا يبتسمون له كلهم . أما الآن ، و فيما لم يعودوا قادرين على احتقاره ، لا بل صاروا مرغمين على احترامه ، فقد بدأوا يتحاشونه . و فضلاً عن ذلك ، فإن مرضاه القدامى لم يعودوا يدعونه إلى عبّ الشمبانيا احتفالاً به . و السبب أن وضع المثقفين المبعدين لم يعد استثنائياً بل صار حالة مستمرة و غير مستحبّة .




21

رجع إلى البيت ثم اندسَّ في الفراش و نام بسرعة أَكثر من المعتاد . بعد نحو ساعة تقريباً ، أيقظه ألم في معدته . كان هذا ألمه القديم الذي يعوده في لحظات الإحباط . فتح خزانة صيدليته ، لا توجد هناك أدوية . شتم . . لقد نسي أن يتزود منها ، فحاول أن يخمد نوبة الألم بقوة الإرادة و وُفَّق إلى ذلك تقريباً ، و لكنه لم يستطع الرجوع إلى النوم . عندما عادت تيريزا عند الواحدة و النصف صباحاً ، رغب في أن يتحدث إليها . أخبرها عن الدفن و عن الصحافي الذي رفض التحدث معه و عن لقائه بزميله س . . . قالت تيريزا : براغ تصير بشعة . قال توماس : هذا صحيح . بعد فترة قصيرة ، قالت تيريزا بصوت منخفض : الأفضل هو أن ترحل عن هنا . قال توماس : أجل . لكن ليس في إمكاننا الذهاب إلى أي مكان . كان يجلس على السرير مرتدياً بيجامته . جاءت و جلست قربه ثم طوّقته بذراعها . قالت تيريزا : إلى الريف . قال مدهوشاً : إلى الريف ؟ ــ هناك سنكون لوحدنا . لن نلتقي لا الصحافي و لا زملاءك القدامى . هناك سنلتقي أناساً مختلفين و الطبيعة التي ما زالت على عهدها . عندها أحسّ توماس من جديد بألم غامض في معدته . كان يشعر أنه عجوز و أن لا رغبة له في شيء آخر عدا قليل من الطمأنينة و السلام . ثم قال بعد جهد ، لأنه يتنفس بصعوبة عندما يكون مريضاً : (( ربما أنت على حق )) . أردفت تيريزا : سيكون عندنا كوخ و حديقة صغيرة و ستمضي كارينين


هناك أوقاتاً ممتعة جداً ــ نعم . قال توماس . تصور ماذا سيحدث لو أنهما ذهبا حقاً للعيش في الريف . هناك سيجد صعوبة في أن يحظى بامرأة جديدة كل ثمانية أيام . هناك ستكون إذاً خاتمة مغامراته الجنسية . كان الألم يزداد ، و لم يعد في استطاعته الكلام . فكّر أن مطاردته للنساء كانت هي أيضاً (( ما ليس منه بدٌ )) و ضرورة تستعبده . كان راغباً حقاً في أن يأخذ عطلة . و لكن عطلة تامة و تسريحاً من الضرورات كلها . إذا كان قد استطاع في أن يطلب تسريحاً من طاولة العمليات في المستشفى ، فلماذا لا يكون في إمكانه أيضاً أن يطلب تسريحاً من طاولة عمليات العالم حيث كان يفتح بمبضعه الخيالي خزنة (( الأنا )) الأنثوية فيكتشف هذا الجزء من مليون من الاختلاف ؟ و أخيراً لاحظت تيريزا : هل معدتك تؤلمك ؟ ردَّ بالإيجاب . ــ هل حقنت نفسك بإبرة ؟ أجاب نفياً برأسه ، ثم أضاف : نسيت أن أشتري أدوية . لامته على إهماله و داعبت جبينه العرِق . قال : أنا الآن أحسن حالاً . قالت : (( تمدد )) ثم دثّرته بالعطاء . ذهبت إلى غرفة الحمام ثم عادت بعد قليل لتتمدد إلى جانبه . أدار رأسه نحوها على الوسادة فأصيب بالذهول : كان الحزن المنبعث من عيني تيريزا غير محتمل . قال : اسمعيني يا تيريزا ! ماذا بك ؟ أنتِ غريبة الأطوار منذ فترة . أشعر بذلك و أعرفه .



هزت رأسها : لا ، ليس بي شيء . ــ لا تنكري ! قالت : إنه الأمر نفسه دائماً . (( الأمر نفسه دائماً )) ، هذا يعني إذاً أنها كانت تشعر بالغيرة و أنه كان خائناً باستمرار . و لكن توماس كان يُصر : لا يا تيريزا ، هذه المرة ، الأمر مختلف . فأنا لم أركِ في مثل هذه الحالة من قبل . احتجت تيريزا قائلة : حسناَ ، ما دمت تريد أن أقول لك : قم و اغسلْ رأسك ! لم يكن يفهم . قالت بحزن و دون عدائية و بشيء من الجنان : لشعرك رائحة نفّاذة منذ عدة أشهر . تفوح منه رائحة فرْج . لم أكن أريد أن أقول لك ذلك . و لكن ها إني لا أعرف كم من الليالي جعلتني أتنشق رائحة فرج إحدى عشيقاتك . و على إثر هذه الكلمات ، عاودته تشنجات معدته . كان الأمر ميؤوساً منه . فهو كان يغتسل بإفراط و يفرك جسمه كله يديه و وجهه بعناية فائقة كي لا يترك أي أثر لرائحة غريبة . كان يتحاشى في حمّامات النساء الأخريات أن يستعمل الصابون المعطّر . بل كان يتزود دائماً بصابونه الخاص المستورد من مرسيليا . لكن غاب عن باله أن يغسل شعره . أما الشعر فلا ، لم يكن يفكر في الأمر ! تذكّر عندئذ المرأة التي كان تفرشخ فوق رأسه و تأمره بأن يضاجعها بواسطة وجهه و أعلى جمجمته . كما كان يكرهها الآن ! و يكره هذه الأفكار البلهاء ! كان يجد أنه لا توجد وسيلة لأن ينكر . فهو لا يسعه إلا أن يضحك بسذاجة و يتحضر للذهاب إلى غرفة الحمام ليغسلَ رأسه . أخذت تداعب جبينه من جديد . (( إبقَ في سريرك . لا تحمّل نفسك هذا العناء . لقد تعودت الآن على الأمر )) .



كانت معدته تؤلمه و لكم يكن راغباً إلا في الهدوء و السلام . قال : سأكتب رسالة إلى ذلك المريض الذي التقيناه في مدينة المياه المعدنية . هل تتذكرين في أي منطقة توجد قريته ؟ قالت تيريزا : لا . كان توماس يشعر بمشقة في الكلام . كان يوفّق إلى تلفظ بعض الكلمات : (( غابات . . . تلال . . . )) . ــ (( أجل ، هذا ما عنيت . فلنرحل عن هنا )) . و لكن توقّفْ عن الكلام الآن . كانت لا تزال تداعب جبينه . كانا متمددين جنباً إلى جنب دون أن يقولا شيئاً . أخذ الألم ينحسر ببطء . و بعد قليل ، استسلم كلاهما إلى النوم .

22

استيقظ في ساعة متأخرة من الليل متعجباً من اكتشافه أنه رأى أحلاماً جنسية في منامه . كان لا يتذكر بوضوح إلا الحلم الأخير : كانت هناك امرأة عملاقة تسبح عارية في بركة للسباحة . كانت أطول منه بخمس مرات و بطنها مكسواً بشعر كثيف يمتد من بين فخذيها و حتى السرّة . كان يراقبها من عند الحافة و هو في أشد الهياج . كيف أمكنه أن يكون مهتاجاً في الوقت الذي تهدُّ جسدَه آلامُ معدته ؟ كيف أمكنه أيضاً أن تهيجه رؤية امرأة لا يسعها إلا أن تشعره بالقرف فيما لو كان مستيقظاً ؟ فقال في نفسه : هناك عجلتان مسننتان تدوران في اتجاه مخالف داخل آلات ساعة الدماغ . على واحدة منهما الرؤى و على العجلة الثانية ردّات فعل الجسد . فالسن الذي انطبعت عليه صورة عارية يتشابك في الجهة المقابلة مع السن الذي سجّلت عليه ضرورة الانتصاب . فلنفترض أن العجلة قفزت سناً واحداً لسبب أو لآخر. و أن سنّ التهيّج اتصل صدفة بالسنّ الذي رسمت عليه صورة لسنونوة في عزّ طيرانها ، عندما سينتصب قضيبنا لمرأى هذه السنونوة .


من جهة ثانية ، كان توماس قد اطلع على دراسة أجراها أحد زملائه و هو اختصاصي في مجال النوم . كان يؤكد فيها أن الرجل الذي يحلم ، هو في حالة انتصاب دائمة أياً يكن حلمه ، ارتباط الانتصاب بصورة امرأة عارية ليس إذاً إلا طريقة تعيير اختارها الخالق من بين آلاف الاحتمالات ليضبط بها حركة آلات الساعة في رأس الرجل . أما ما علاقة كل ذلك بالحب ؟ فلا شيء . إذا دارت عجلة سناً واحدة في رأس توماس فتهيج لمرأى سنونوة ، فهذا لن يغيّر شيئاً في حبه لتيريزا . إذا كان الهياج الجنسي آلية يتسلى بها الخالق ، فإن الحب ، خلافاً لذلك لا ينتمي إلا إلينا و يمكننا من خلال الإفلات من قبضة الخالق . فالحب هو حريتنا . الحب هو ما وراء كل (( ما ليس منه بد )) . و لكن هذا أيضاً لا يعطي فكرة كاملة عن الحقيقة . حتى و لو كان الحب مختلفاً عن آلية ساعة الجنس التي ابتدعها الخالق ليتسلّى ، فهو مع ذلك موثوق إلى الجنس كما توثق امرأة غضة عارية إلى رقّاص ساعة هائلة . قال توماس في نفسه : إن ربط الحب بالجنس هو إحدى الأفكار الأكثر غرابة للخالق . و قال في نفسه أيضاً ما معناه : الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الحب من غباء الجنس قد تكون في تعيير الساعة بطريقة مختلفة في رأسنا فنتهيّج لرؤية السنونوة . و على هذه الفكرة العذبة ، أخذه النعاس . و إذ هو على عتبة النوم ، هناك في المساحة الساحرة للرؤى المشوشة ، تيقن فجأة من أنه كان يكتشف حلّ الألغاز كلها و مفتاح السرَّ و يوطوبيا جديدة ، بل الجنة : كان يكتشف عالما ًحيث نتهيج لرؤية سنونوة و حيث بإمكانه أن يحب تيريزا دون أن يضايقه الغباء الأرعن للجنس . ثم نام من جديد .




23

كان وسط نساء عاريات يحمنّ حوله و كان يشعر بالتعب . ثم ، لكي يتمكن من الإفلات منهن ، فتح باباً يؤدي إلى غرفة مجاورة . رأى قبالته امرأة شابة مستلقية على أريكة . كانت هي أيضاً شبه عارية و في سروال داخلي فقط . كانت مستلقية على جنبها و متكئة إلى مرفقها و تنظر إليه و هي تبتسم و كأنها عارفه أنه سيأتي . اقترب منها فانتشرت سعادة قصوى في حنايا جسده . فها قد عثر عليها أخيراً و أصبح في مستطاعه الاختلاء بها . جلس قربها و همس لها بضع كلمات فأسرّت له بدورها ببضع كلمات . كانت تشع هدوءاً و حركات يديها بطيئة ناعمة . طيلة حياته حلم بمثل هذه الحركات الناعمة . طيلة حياته افتقد هذا الهدوء الأنثوي بالذات . ولكن ، في هذه اللحظة ، انزلق من النعاس إلى الوعي الجزئي . كان في تلك المنطقة المحايدة حيث لا نكون في حالة نوم و لا في حالة اليقظة أيضاً . كان يائساً من أنه رأى تلك المرأة تختفي ، و كان يقول في نفسه : يا إلهي ! يجدر ألا أفقدها . كان يحاول أن يستجمع قواه ليتذكر أين التقى بها و أي حياة عاش معها . هل من المعقول أن يتذكر هذا و هو يعرفها حق المعرفة ؟ عزم على أن يتصل بها باكراً . و لكنه ارتجف خوفاً لساعته عندما فكر أنه لن يتمكن من الاتصال بها و السبب أنه لا يتذكر اسمها . كيف أمكنه أن ينسى اسم شخص يعرفه حق المعرفة ؟ عندما استفاق تماماً ، فتح عينيه و قال في نفسه : أين أنا ؟ عرفْتُ ، أنا في براغ . ولكن تلك المرأة هل هي من براغ أيضاً ؟ ألم ألتقيها في مكان آخر ؟ أو لعلّني تعرفت إليها عندما كنت في سويسرا ؟ لزمه بعض الوقت ليفهم أنه لم يكن يعرف هذه المرأة و أنها لم تكن لا من زوريخ و لا من براغ ، بل من منطقة الحلم ، من لا مكان آخر غير الحلم . كان مضطرباً إلى حد بعيد فاستوى على حافة السرير . كانت تيريزا تأخذ نَفَساً إلى جواره . كان يقول في نفسه إن امرأة حلمه الشابة لا



تشبه أي امرأة من النساء اللواتي عرفهن في حياته . تلك المرأة الشابة التي بدت أليفة للغاية ، كانت غريبة عنه تماماً .و لكنها هي من رغب بها على الدوام . لو أنه وجدت ذات يوم جنّته الخاصة ، هذا فيما لو افترضنا أن هناك جنة ، لا بدّ أنه كان سيعيش فيها إلى جانب هذه المرأة . كانت المرأة الشابة لحلمه هي (( ما ليس منه بدّ )) لحبه ! تذكر عندها أسطورة أفلاطون الشهيرة (( المأدبة )) : ففي السابق كان البشر مزدوجي الجنس فقسّمهم الله إلى أنصاف تهيم عبر العالم مفتشة بعضها عن بعض . الحب هو تلك الرغبة في إيجاد النصف الآخر المفقود من أنفسنا . فلنفترض أن هذا صحيح و أن كل واحد منا يملك في مكان ما من العالم شريكاً كان يؤلّف معه فيما مضى جسداً واحداً . إذاً ، النصف الآخر لتوماس هو المرأة الشابة التي رآها في منامه . و لكن لن يتسنّى لأحد أن يصادف النصف الآخر من ذاته . لقد أرسلت له تيريزا عوضاً عن المرأة في سلة عبر مجرى المياه . و لكن ما الذي سيحدث لو أنه التقى فعلاً في وقت لاحق المرأة التي قُدرت له ، أي بالنصف الآخر من ذاته ؟ لمكن ستكون الأفضلية ؟ للمرأة التي وجدها في سلة عبر مجرى المياه أم للمرأة الطالعة من أسطورة أفلاطون ؟ أخذ يتصور بأنه يعيش في عالم مثالي إلى جوار امرأة حلمة . و ها إن تيريزا تمرُّ بالقرب من الشابيك المفتوحة لدارتهما . ها إنها تتوقف وحيدة على الرصيف و تُلتقي نحوه من بعيد نظرة حزينة حزينة . عندها ، سوف يشعر مرة أخرى بألم تيريزا . و عندها ، سوف يقفز من النافذة فَيُفاجأ بأنها تقول بمرارة ما عليه إلاَّ أن يبقى حيث يشعر بالسعادة . ثم تقوم بتلك الحركات العصبية و غير المتماسكة التي أثارت حنقه على الدوام و التي وجدها مزعجة على الدوام . فيمسك بيديها المرتجفتين و يضمها إلى يديه بقوة ليهدئ من روعهما . عندها أيضاً سيعرف أنه مستعد لأن يترك في أية لحظة بيت سعادته ، و أنه مستعد لأن يترك في أية لحظة الجنة التي يعيش فيها مع امرأة حلمه ،




و أنه سيخون (( ما ليس منه بدّ )) لحبّه في سبيل الرحيل مع تيريزا ، هذه المرأة المولودة من ستّ صُدَفٍ مضحكة . كان جالساً على السرير ينظر إلى المرأة النائمة إلى جواره و التي كانت تمسك بيده أثناء نومها : كان يشعر نحوها بحب لا يفسر . لا شك أنها في هذه اللحظة غارقة في نوم هش جداً لأنها فتحت عينيها و ألقت نحوه نظرات مذعورة . ثم سألته : إلامَ تنظر ؟ )) . كان يعرف أنه لا ينبغي عليه أن يوقظها بل أن يعيدها إلى النوم من جديد . حاول أن يجيبها بكلمات يمكن أن تبعث في فكرها شرارة حلم جديد . فقال : أنظر إلى النجوم . ــ لا تكذب ، أنت لا تنظر إلى النجوم بل تنظر أرضاً . ــ و لكن بما أننا في الطائرة ، فإن النجوم تحتنا . ــ (( آه ، حسناً )) قالت تيريزا . كانت تشد على يد توماس بقوة أكبر ، ثم ما لبثت أن استرسلت في النوم . كان توماس يعرف أن تيريزا كانت تنظر الآن عبر كوة طائر تحلّق عالياً جداً فوق النجوم .



القسم السادس المسيرة الكبرى

1

لم يتسنّ لنا أن نعرف الظروف التي مات فيها ابن ستالين إلاَّ من خلال مقال نشرته مجلة (( السانداي تايمز )) عام 1980 . فبعد أن أسره الألمان خلال الحرب العالمية ، أُدخل في معسكر الاعتقال نفسه مع ضباط إنكليز أسرى . كانت مراحيضهم مشتركة في المعسكر و كان ابن ستالين يتركها دائماً متّسخة . و الإنكليز ، لم يكونوا يحبون رؤية مراحيضهم ملطخة بالبراز ، حتى و لو كان ذلك البراز يخص ابن الرجل الأكثر نفوذاً في العالم آنذاك . كانوا يلومونه على ذلك فاستاء منهم . ثم عاودوا تأنيبه و أجبروه على تنظيف المراحيض . فغضب ثم تخاصم و تعارك و إياهم ، و طلب في النهاية مقابلة آمر المعسكر . كان يريده أن يحكم في نزاعهم و لكن الألماني كان أكثر اعتزازاً بنفسه من أن يتجادل بخصوص البراز . فأطلق ابن ستالين شتائم روسية شنيعة ثم انقضّ باتجاه الأسلاك الشائكة المحيطة بالمعسكر و المزودة بتيار من التوتر العالمي . ترك نفسه يتهاوى فوق الأسلاك . و جسده الذي لن يلوث المراحيض البريطانية بعد الآن ، بقي معلقاً هناك .

2

لم تكن حياة ابن ستالين سهلة , فلقد أنجبه والده من امرأة كان كل شيء يؤكد بأنه سيقتلها يوماً . كان ستالين الإبن إذاً إبناً للإله ( لأن أباه كان جليلاً و كأنه إله ) و ملعوناً في الوقت نفسه من الإله . كان الناس يهابون لسببين : الأول ، لأنه كان بإمكانه أن يؤذيهم بسلطته ( فهو على كل حال ابن


ستالين ) و بصداقته ( لأن الأب كان يمكنه معاقبة الصديق بدلاً من الإبن المنبوذ ) . اللعنة و النعمة ، السعادة و الشقاء ، لا أحد أحسَّ مثله فعلاً إلى أي حد هذه التناقضات قابلة للتبادل فيما بينها ، و إلى أي حد ضيّقة هي الحافة التي تفصل بين قطبيَّ الوجود البشري . في بداية الحرب أسره الألمان و سجنوه إلى جانب أسرى آخرين ينتمون إلى أمة كان يشعر نحوها دائماً بكره عميق و جامح بسبب تحفظها الغريب . و فوق ذلك كانوا يتهمونه بأنه وسخ ، هو الذي كان يحمل فوق كتفيه المأساة الأكثر عظمة التي قُدّر لها أن توجد (كان في الوقت نفسه كأنه ابن إله و ملاكاً ساقطاً ) فهل يجب أن يُدان بسبب أشياء غير عظيمة ( لا تخص الله و الملائكة ) و إنما بسبب البراز ؟ هل المأساة الأكثر عظمة و المأساة الأكثر ابتذالاً هما قريبتان بهذا الشكل المدوّخ ؟ قريبتان بشكل مدوّخ ؟ هل يمكن للتقارب إذاً أن يسبّب الدوار ؟ بالطبع ، غداً عندما سيقترب القطب الشمالي من القطب الجنوبي إلى حد التلامس تقريباً ، فسيختفي الكوكب حينها و سيجد الإنسان نفسه في فراغ مدوّخ مما يجعله يستسلم لإغواء السقوط . فإذا كانت اللعنة و النعمة شيئاً واحداً ، إذا لم يكن هناك فرق بين العظيم و الحقير ، إذا كان بالإمكان إدانته بسبب البراز ، فإن الوجود الإنساني يفقد معناه و يصبح ذا خفة لا تطاق . عندها ينقض ابن ستالين باتجاه الأسلاك الشائكة المكهربة ، لكي يرمي هناك بجسده ، كأنما على كفة ميزان ، فتصعد الكفة مدفوعة بالخفة غير المتناهية لعالم صار دون أبعاد . ابن ستالين قضى في سبيل البراز . و لكن الموت في سبيل البراز ليس موتاً مجرداً من المعنى . فالألمان الذين ضحّوا بحياتهم من أجل توسيع أمبراطوريتهم أكثر باتجاه الشرق ، و الروس الذين ماتوا لكي تمتد سلطة بلادهم أكثر من صوب الغرب . أجل ، كل هؤلاء ماتوا من أجل بلاهة ، و موتهم مجرّد من أي معنى و من أي مغزى عام . أما موت ابن ستالين فكان بالمقابل ، الموت الميتافيزيقي الوحيد وسط البلاهة العالمية للحرب .




3

عندما كنت صغيراً ، و فيما كنت أتصفح كتاب العهد القديم الذي أعدّ للأطفال و المزَّين بصور رسمها غوستاف دوريه ، كنت أرى الرب فيها طائراً فوق غيمة . كان رجلاً عجوزاً له عينان و أنف و لحية طويلة . و كنت أقول في نفسي إنه ما دام له فم فيُفترض به إذاً أن يأكل ، و إذا كان يأكل فهذا يعني أن لديه أمعاء . و لكن هذه الفكرة كانت ترعبني في الحال . و مع أني كنت من عائلة ملحدة ، فإنني كنت أشعر بأن هذه الفكرة المتعلقة بأمعاء الله فكرة تجديفية . و من دون أي إعداد لاهوتي ، كان الطفل الذي كنته آنذاك يفهم بشكل عفوي أن هناك تناقضاً بين الدونيات و الله . و كنت أفهم بالتالي هشاشة الفرضية الأساسية لعلم الإناسة المسيحي و التي تقول بأن الإنسان خُلق على صورة الله و مثاله . كان الغنوصيون القدامى يعون هذه المسالة بالوضوح ذاته الذي كنت أراها فيه لمّا كنت في الخامسة من عمري . و لكي تُحسم هذه المسالة اللعينة ، كان فالنتين ، و هو أستاذ كبير للغنوصية في القرن الثاني ، يؤكد أن المسيح (( كان يأكل و يشرب و لكنه لم يكن يتغوط )) . البراز إذاً هو مسألة لا هوتية أكثر صعوبة من مسألة الشر . فالله قد أعطى الحرية للإنسان و بذلك يمكننا أن نسلّم بأن الله ليس مسؤولاً عن جرائم البشر .

4

في القرن الرابع ، كان القديس جيروم يرفض جذرياً أن يكون آدم و حواء قد تمكنا من ممارسة الحب عندما كانا في الجنة . خلافاً لذلك ، كان دان سكوت إريجين و هو عالم لاهوتي شهير من القرن التاسع يسلًّم بهذه الفكرة . و لكن حسب رأيه ، كان بإمكان آدم أن يجعل عضوه ينتصب بالطريقة نفسها تقريباً التي يرفع فيها ذراعه أو ساقه ، إذاً ساعة يشاء و كيفما يشاء . و لا



يتبادرنَّ إلى أذهاننا أن هذه الفكرة تخفي وراءها الحلم الأبدي للرجل المسكون بهاجس العجز الجنسي . إنَّ لفكرة سكوت إريجين معنى آخر . إذا كان عضو الذكر يقوى على الانتصاب بمجرد إيعاز من الدماغ ، ينتج عن ذلك أن بإمكانه الاستغناء عن الإثارة . ذلك أن العضو لا ينتصب نتيجةً لاهتياج المرء بل لأنه يأمره بذلك . كان هذا اللاهوتي الكبير يعتقد أن الشيء الذي لا يتفق و الجنّة ليس الجماع و لا اللذة التي تعقبه . إنما الشيء الذي لا يتفق و الجنة هو الإثارة . فلنحفظ هذا جيدا ً: كانت اللذة موجودة في الجنة لا الإثارة . نستطيع أن نجد من خلال نظرية سكوت مفتاحاً لتبرير لاهوتي ( و بكلمة أخرى مفتاحاً لربانيّة ) للبراز . طيلة الفترة التي سمح للإنسان فيها أن يسكن الجنّة ، إما أنه ( تماماً كالمسيح حسب نظرية فالنتين ) لم يكن يتغوط ، و إما أن البراز لم يكن يعتبر شيئاً كريهاً ، و هذه الفرضية أكثر قابلية للتصديق . حين طرد الله الإنسان من الجنة ، أوحى له بطبيعته النجسة و بالقرف . و أخذ الإنسان يستر ما كان يُشعره بالعار ، و ما أن أزاح الحجاب حتى بهره ضوء عظيم . إذاً بعد أن اكتشف الإنسان الدنس ، اكتشف في الوقت ذاته الإثارة . فمن دون البراز ( بالمعنى الحرفي و المجازي للكلمة ) لما كان الحب الجنسي كما نعرفه : تصحبه دقات في القلب و عمى في الحواس .

كنت قد أشرت في القسم الثالث من الرواية إلى سابينا عندما كانت تقف نصف عارية مرتدية قبعتها الرجالية و إلى جانبها توماس و هو في كامل ثيابه . بَيْدَ أن هناك شيئاً لم أتطرق إليه . عندما كانا يراقبان بعضهما في المرآة و حين أحست بتفاهة الموقف تثيرها ، تصوّرت أن توماس سيُجلسها كما كانت ، أي معتمرة القبة الرجالية ، فوق المرحاض ، و أنها ستفرغ أمعاءها في حضرته . أخذ قلبها يضرب مثل الطبل و اختلطت عليها أفكارها فقلبت توماس على السجادة . في اللحظة التي تلت ، كانت تزعق من فرط اللذة .

5

إن الجدال بين هؤلاء الذين يؤكدون بأن الكون قد خلقه الله ، و بين


هؤلاء الذين يعتقدون بأنه وُجِد لوحده يتناول أمراً يتجاوز إدراكنا و تجربتنا . هنالك فرق كبير بين هؤلاء الذين يشكون بالكينونة على النحو الذي أعطيت به للإنسان ( قلّما يهم كيف و بواسطة مَنْ ) و بين هؤلاء الذين يتبنونها من غير تحفظ . في أساس المعتقدات الأوروبية كلها سواء كانت دينية أم سياسية ، هنالك دائماً الفصل الأول من سفر التكوين و الذي يتفرع منه أن العالم خلق كما كان يفترض به أن يكون ، و أن الكائن طيب ، و أن التناسل أمر محمود . فلنسمَّ هذا الاعتقال الجوهري ( الوفاق التام مع الكائن ) . إذا كان كلمة براز يُستعاض حالياً عنها في الكتب بنُقط ، فهذا ليس لأسباب أخلاقية . يجب ألا نذهب إلى حد الادّعاء بأن البراز شيء منافٍ للأخلاق ! فالخلاف مع البراز خلاف ميتافيزيقي . هناك أمر من أمرين : إما أن البراز شيء مقبول ( إذاً لا تقفلوا على أنفسكم بالمفتاح و أنتم في المراحيض ! ) ، و إما أن الطريقة التي خُلْقنا بها تثير جدلاً . ينتج عن ذلك أن الوفاق التام مع الكائن يتخذ مثاله الأعلى عالماً يُنتفى منه البراز ، و يتصرف كل واحد فيه و كأن البراز غير موجود . هذا المثال الجمالي يدعى (( الكيتش )) . (( كيتش )) هي كلمة ألمانية ظهرت في أواسط القرن التاسع عشر العاطفي ، ثم انتشرت بعد ذلك في جميع اللغات . و لكن استعمالها بكثرة أزال دلالتها الميتافيزيقية الأصلية و هي : كلمة كيتش في الأساس نفي مطلق للبراز . و بالمعنى الحرفي كما بالمعنى المجازي (( الكيتش )) تطرح جانباً كل ما هو غير مقبول في الوجود الإنساني .

6

الثورة الداخلية الأولى لسابينا على الشيوعية لم تكن ترتدي طابعاً أخلاقياً بل طابعاً جمالياً . فالشيء الذي كان ينفرها خاصة لم يكن بشاعة العالم الشيوعي أي ( القصور التي تحولت إلى زرائب ) و إنما قناع الجمال



الذي يتستر به ، و بكلمة أخرى (( الكيتش )) الشيوعي . و نموذج هذا الكيتش يتمثل في العيد الذي يسمّى الأول من أيار . كانت قد شاهدت مواكب الأول من أيار في تلك الحقبة حيث كان الناس لا يزالون متحمسين أو يواظبون على أن يظهروا كذلك . كانت النساء يرتدين قمصاناً حمراء أو بيضاء أو زرقاء . و لكن يعرضن من على الشرفات و النوافذ الزخارف من كل نوع : نجوم بخمس شعب و قلوب و أحرف . كانت تتقدم فصائل الموكب فرق أوركسترا صغيرة لتوقّع المشي المنتظم . و حين كان الموكب يقترب من المنصة كان الوجوه الأكثر تقطيباً تشرق بابتسامة و كأنها تريد أن تثبت أنها راضية كما ينبغي ، و بطريقة أصح ، أنها موافقة كما ينبغي . و هذا الوفاق لا يتعلق بوفاق سياسي بسيط مع الشيوعية بل بوفاق مع الكائن في حد ذاته . كان عيد الأول من أيار يرتوي من المنهل العميق للوفاق التام مع الكائن . و لم يكن شعار الموكب المضمر و اللامكتوب (( فلتحيَ الشيوعية )) بل كان (( فلتحيَ الحياة ) ! قوة السياسة الشيوعية و دهاؤها يكمنان في أنهما استأثرا بهذا الشعار . و هذا الحشو التافه بالذات ( (( فلتحيَ الحياة )) ) هو ما كان يدفع للالتحاق بالموكب الشيوعي حتى هؤلاء الأشخاص الذين كانت تتركهم الأفكار الشيوعية غير مبالين تماماً .

7

بعد انقضاء عشر سنوات ، ( كانت تعيش في أميركا آنذاك ) كان أحد أصدقائها و هو سناتور أمريكي يجول بها في سيارة ضخمة . كان أربعة صبية يجلسون متلاصقين على المقعد الخلفي . أوقف السناتور سيارته فنزل الأولاد و اندفعوا عبر مرجة كبيرة باتجاه ملعب فيه ميدان للتزلج . كان السناتور قد بقي أمام المقود يراقب بعين حالمة القامات الصغيرة الأربع التي تندفع راكضة . ثم التفت إلى سابينا و قال و هو يرسم دائرة بيده تشمل الملعب و المرجة و الأولاد : (( هذا ما أدعوه السعادة )) . لم تكن هذه الكلمات تعبيراً عن فرحة بالأطفال الذين يجرون و بالعشب الذي يطلع فحسب ، بل كانت لفتة تفهَّم لامرأة آتية من بلد


 شيوعي ، من بلدٍ كان السناتور مقتنعاً بأن العشب لا ينبت هناك و لا الأطفال يجرون . 

و لكن سابينا تخيّلت للتوّ هذا السيناتور واقفاً فوق منصة في إحدى ساحات براغ و على وجهه الابتسامة ذاتها التي يتوجه بها القادة الشيوعيون من أعلى منصاتهم إلى المواطنين المبتسمين بدورهم السائرين في مواكب ، عند أسفل أقدامهم .

8

كيف يستطيع هذا السناتور أن يعرف أن في الأطفال يكمن معنى السعادة ؟ هل كان يقرأ ذلك في أرواحهم ؟ لكن ماذا لو انقضّ ثلاثة منهم ، ما أن يبتعدوا عن ناظريه ، على الرابع و أخذوا يضربونه ضرباً شديداً متواتراً ؟ لم يكن السناتور يملك سوى حجة واحدة في صالح تأكيده : عاطفته . حين يتكلم القلب لا يعود لائقاً أن يصدر العقل اعتراضات . ففي مملكة (( الكيتش )) تسود ديكتاتورية القلب . من الجلي أنه يجب أن يشارك أكبر عدد ممكن من الناس ، الأحاسيس التي يثيرها (( الكيتش )) ، من هنا لا حاجة تدعو (( الكيتش )) لأن يخالف ما هو مألوف . بل هو يستعين بصور أساسية متجذرة عميقاً في ذاكرة الناس : الفتاة العاقة ، و الوالد المهجور ، و الصبية الراكضون على مرجة ، و الوطن الذي جرت خيانته ، و ذكرى الحب الأول . (( الكيتش )) يُسيل دون انقطاع دمعتيْ ثائر . الدمعة الأولى تقول : ما أجمل أن يُهرول صبية فوق مرجة . و الدمعة الثانية تقول : ما أجمل أن تتأثر الإنسانية جمعاء لدى رؤية صبية يركضون على مرجة ! وحدها الدمعة الثانية تجعل (( الكيتش كيتشاً )) . ذلك أن أخوة الناس جميعهم لا يمكن أن تُبنى إلاَّ على أساس (( الكيتش )) .


9

لا أحد يعرف ذلك بصورة أفضل مما يعرفه السياسيون . فما أن يروا آلة تصوير على مقربة منهم حتى يهبَّوا راكضين إثر أول طفل يصادفونه فيحملونه في أذرعتهم و يقبلونه في خده . (( الكيتش )) هو المثال الأعلى لكل السياسيين و لكل الحركات السياسية . في مجتمع تتعايش فيه تيارات شتّى وحيث يمكن لتأثير هذه التيارات أن يُمحى أو يحدّ بشكل متناوب ، يبقى في المستطاع الإفلات تقريباً من محاكم (( الكيتش )) . و يمكن للفرد عندئذ أن يحافظ على تميزه ، و للفنان أن يخلق أعمالا ًفنيّة مدهشة . و لكن في البلدان التي يستأثر فيها حزب سياسي بالسلطة كلها ، نجد أنفسنا حالاً في مملكة (( الكيتش )) الديكتاتورية . إذا كنت أقول ديكتاتورية فإني أقصد بذلك أن كل ما يطعن بــ (( الكيتش )) ملغىً من الحياة : كل إظهار للفردية ، ( لأن أي نشاز هو بصقه في وجه الأخوّة الباسمة ) و كلّ شك ( لأن من يبدأ بالشك في التفاصيل الصغيرة يتوصل في نهاية المطاف لأن يشك في الحياة بحد ذاتها ) . كذلك السخرية ( لأن كل شيء في مملكة (( الكيتش )) يؤخذ على محمل الجد ) ، و أيضاً الأم التي هجرت عائلتها ، أو الرجل الذي يفضّل الرجال على النساء مهدداً بذلك الشعار المقدس (( تناسلوا و املاؤا الأرض )) . انطلاقاً من وجهة النظر هذه ، فإن ما يسمى بــ (( الغولاغ )) يمكن اعتباره ثغرة عفنة يرمي فيها (( الكيتش )) التوتاليتاري بأوساخه .

10

كانت السنوات العشر الأولى أعقبت الحرب العالمية الثانية هي الفترة الأكثر هولاً للرعب الستاليني . ففي تلك الحقبة بالذات اعتُقل والد تيريزا لسبب تافه و طردت الفتاة التي كانت تيريزا و التي كان لها من العمر عشر سنوات من البيت . في ذلك الوقت ، كانت سابينا في العشرين من عمرها تتابع دراستها في معهد الفنون الجميلة . كان أستاذ الماركسية يشرح


لها و لزملائها في الدراسة تلك المسلّمة البديهية للفن الاشتراكي التي تقول بأن المجتمع السوفياتي قد وصل به الرقي إلى درجة أن الصراع الجوهري لم يعد صراعاً بين الخير و الشر ، بل بين الجيد و الأفضل . لم يكن البراز ( أي ما هو غير مقبول في الأساس ) موجوداً إلا في الجهة الأخرى من العالم ( في أميركا مثلاً ) و انطلاقاً من هنا ، أي من الخارج ، يمكن له أن يدخل تحت شكل جسم غريب ( الجواسيس مثلاً ) إلى عالم (( الأخبار و النخبة )) . في تلك الحقبة ، الأفظع بين الحقبات كلها ، كانت الأفلام السوفياتية التي تغص بها صالات السينما في البلدان الشيوعية متشبعة ببراءة غريبة . فالصراع الأكثر خطورة الذي يمكن له أن يحصل بين روسييَّن هو سوء التفاهم العاطفي : كأن يتوهم البطل مثلاً بأن البطلة لم تعد تحبه أو أن تفكر هي الشيء نفسه حياله . و في النهاية يرتمي كل منهما في ذراع الآخر و عَبَرات السعادة تقطر من أعينهما . التفسير المتفق عليه اليوم لهذه الأفلام هو على النحو التالي : كانت هذه الأفلام تصف المثال الشيوعي فيما الواقع الشيوعي كان أكثر قتامة بكثير . كان هذا الشرح يثير حنق سابينا : ففكرة أن عالم (( الكيتش )) السوفياتي يمكن أن يصير حقيقة ؛ و إمكانية أن تجبر على العيش فيه أمر يجعل شعر بدنها مقشعراً . كانت تفضّل دون أدنى تردد العيش في النظام الشيوعي الواقعي على الرغم من كل الاضطهادات و الصفوف أمام المذابح . ففي العالم الشيوعي الواقعي ، العيش ممكن . أما في عالم المثال الشيوعي المتحقق ، في هذا العالم المؤلف من البلهاء المبتسمين الذين لا يمكن للمرء أن يتوجه إليهم بأية كلمة ، فإنها قد تموت ذعراً في فترة لا تتعدى الثمانية أيام . يبدو لي أن الشعور الذي كان (( الكيتش )) السوفياتي يوقظه في نفس سابينا يشبه الذعر الذي عانته تيريزا أثناء حلمها التي تسير فيه وسط النساء العاريات حول البركة ، و حيث كانت مرغمة على إنشاد أغانٍ فرحة . كانت هناك جثث عائمة على وجه الماء . و لم تكن تيريزا تستطيع أن تتوجه لأية امرأة بكلمة أو أن تطرح عليها سؤالاً واحداً . كانت تسمع جواباً واحداً فقط



و هو المقطع التالي من الأغنية . و لم يكن بإمكانها أن ترمق أية واحدة منهن بنظرة متحفظة و إلاّ كن سيشيْن بها مشيرات إلى الرجل الواقف في السلة فوق البركة ؛ بأن يطلق عليها النار . إن حلم تيريزا يفضح المهمة الحقيقية لــ (( الكيتش )) و هي أن (( الكيتش )) قناع يخفي وراءه الموت .

11

في مملكة (( الكيتش )) التوتاليتارية تعطي الإجابات مسبقاً محرَّمة بذلك أي سؤال جديد . ينتج عن ذلك أن الإنسان الذي يتساءل هو العدو الحقيقي لــ (( الكيتش )) . السؤال هو مثل مسكين يمزق القماشة المرسومة للديكور فيصبح في المستطاع رؤية ما يختبئ خلفها . هكذا شرحت سابينا لتيريزا معنى لوحاتها : من الأمام الكذب الصارخ ، و من الخلف الحقيقة التي لا يُدركها كنهها . إلا أن هؤلاء الذين يناضلون الأنظمة المسمّاة توتاليتارية قلَّما يمكنهم النضال من خلال أسئلة و شكوك . فهُم أيضاً بحاجة إلى قناعتهم و إلى حقيقتهم البسيطة التي يفترض أن يفهمها أكبر عدد ممكن من الناس و أن تحدث إفرازاً دمْعياً جماعياً . ذات يوم ، نظّم حزب سياسي معرضاً للوحات سابينا في ألمانيا أمسكت سابينا بالكتيّب الذي يُعرّف بها : أمام صورتها رسمت أسلاك شائكة و في الداخل كانت هناك نبذة عن حياتها تشبه مسيرة القديسين و الشهداء : تعذَّبت ، و ناضلت ضد الظلم ، و أُرغمت على ترك بلادها المعذّب ، و ها هي الآن تتابع النضال . و كانت الجملة الأخيرة من النص تقول : (( من خلال لوحاتها تقاتل من أجل الحرية )) . اعترضَتْ و لكنّ أحداً لم يكن يفهمها . كيف ، أليس صحيحاً أن الشيوعية تضطهد الفن الحديث ؟ أجابت بغضب : (( عدوي ليس الشيوعية ، بل هو الكيتش ! )) .


و منذ ذلك الحين أحاطت سيرة حياتها بالغموض . و فيما بعد حين وجدت نفسها في أميركا ، توصّلت حتّى إلى إخفاء هويتها التشيكية . كان ذلك جهداً يائساً من قِبلها لتهرب من (( الكيتش )) الذي أراد الناس أن يصنعوه من حياتها .

12

كانت تقف أمام الحمالة التي أُسنِدت إليها لوحة غير مكتملة بعد ، كان هناك رجل عجوز جالس وراءها على كنبة يراقب كل خط تخطه بريشتها . ثم نظر إلى ساعته و قال : (( أظن أنه قد حان وقت الذهاب للعشاء )) . وضعت مجموعة ألوانها جانباً و ذهبت لتستحم قليلاً في غرفة الحمام . نهض الرجل عن كنبته و انحنى ليتناول عصاه المسندة إلى الطاولة ، كان باب المحترف يؤدي مباشرة إلى المرجة . كان المساء قد حلَّ . في الجانب الآخر ، و على مسافة عشرين متراً ، كان هناك بيت خشبي أبيض ، نوافذ طبقته الأرضية مضاءة . كانت مشاعر سابينا تهتز لروية هاتين النافذتين تسطعان في المغيب . كانت قد أكّدت طيلة حياتها عداءها لــ (( الكيتش )) ، و لكن ألم تكن تحمله هي أيضاً في أعماق نفسها ؟ (( كيتشها )) تمثّل في رؤية بيت هادئ عذب متناغم تتولاّه أُم مُحبّة و أب متشبع حكمةً . نشأت هذه الصورة في داخلها بعد موت أهلها . و بما أن مسار حياتها كان مختلفاً تماماً عن هذا الحلم الجميل ، فإن إحساسها إذاً بسحره كان يزداد . كانت تُحس أكثر من مرة بأن عينيها تدمعان حين تشاهد على التلفزيون فيلما ًعاطفياً تعانق ابنة عاقة فيه والداً مهجوراً ، أو حين تشاهد عند المغيب نوافذ منزل تسكنه عائلة سعيدة . كانت قد تعرفت إلى الرجل العجوز في نيويورك . كان غنياً و مُحباً للرسم . كان يعيش لوحده في فيلا في الريف مع زوجته التي كانت في العمر نفسه . كانت هناك ضمن ملكيته قبالة الفيلا زريبة قديمة فحوّلها إلى


محترف و دعا إليها سابينا . و منذ ذلك الوقت و هو يمضي أياماً كاملة يتابع حركات ريشتها . الآن ، كان ثلاثتهم يتناولون العشاء . المرأة العجوز تنادي سابينا بـ (( ابنتي الصغيرة )) ! ، و لكن خلافاً للمظاهر ، العكس هو الصحيح : فسابينا هنا كأمّ يتشبّث ولداها بتنورتها ، معجبين بها و مستعدين لإطاعتها في حال شاءت أن تصدر الأوامر . هل تكون قد وجدت أخيراً و هي على مشارف الشيخوخة الأبوين اللذين انسلخت منها و هي لا تزال شابة ؟ هل وجدت أخيراً الأطفال الذين لم يتسنَّ لها أن تنجبهم ؟ تعرف جيداً أن هذا وهم . فإقامتها عند هذين العجوزين الرائعين ليس إلا محطة مؤقتة . الرجل العجوز مصاب بمرض خطير ، و زوجته حين تجد نفسها من دونه ستذهب للإقامة عند ابنها في كندا . وعندها ستستأنف سابينا من جديد طريق الخيانات ، و تقرع في أعماق نفسها ، في خفة الكائن التي لا تطاق ، أغنية عاطفية مضحكة تتحدث عن نافذتين مضيئتين تعيش خلفهما عائلة سعيدة . هذه الأغنية تهز كيانها ، و لكنها لا تأخذ انفعالها على محمل الجد . تعرف جيداً أن هذه الأغنية هي مجرد كذبة جميلة . و في اللحظة التي يُعرّف فيها (( الكيتش )) عن نفسه بصفته كذبة ، يصير موقعه إذاً في جانب (( اللاكيتش )) . و إذ يفقد مقدرته السلطوية يصبح مؤثراً ككل ضعف بشري . ذلك أن لا أحد منا إنسان متفوق و لا أحد منا يستطيع أن يفلت نهائياً من قبضة (( الكيتش )) . أيّا يكن الاحتقار الذي يولّده فينا (( الكيتش )) ، فهو مع ذلك يؤلف جزءاً من الوضع البشري .

13

مصدر (( الكيتش )) هو الوفاق التام مع الكائن . ولكن ما هو أساس الكائن . هل هو الله ؟ أم الأنسانية ؟ أم النضال ؟ أم


الحب ؟ أم الرجل ؟ أم المرأة ؟ فيما يخص هذا الموضوع هناك نظريات عدة تقابلها أنواع من (( الكيتش )) فهناك (( الكيتش )) الكاثوليكي و البروتستانتي و اليهودي و الشيوعي و الفاشي و الديمقراطي و النسوي و الأوروبي و الأميركي و القومي و الأممي . منذ عهد الثورة الفرنسية و أوروبا مقسومة إلى نصفين ، النصف الأول يدعى اليسار ، و النصف الثاني يسمّى باليمين ، يستحيل عملياَ تحديد هذا الحزب أو ذاك استناداً إلى مبادئ نظرية معينة . ليس هناك ما يدعو للعجب ، فالأحزاب السياسية لا تستند أساساً إلى مواقف عقلانية و لكنها ترتكز إلى تشخيصات أو صور أو كلمات أو إلى نماذج أولية تؤلف في مجموعها هذا (( الكيتش )) السياسي أو ذاك . فكرة المسيرة الكبرى التي يتعشقها فرانز حتى الثمالة ، هي (( الكيتش )) السياسي الذي يجمع ناس اليسار في كل الأزمنة و من كل الاتجاهات . فالمسيرة الكبرى هي هذا المشي الرائع المتقدم إلى الأمام ، هي هذا المشي باتجاه الأخوة و المساواة و العدالة و السعادة و إلى ما هو أبعد أيضاً ، بالرغم من الحواجز كلها لأنه يُفترض أن تكون هناك حواجز لكي تكون المسيرة مسيرة كبرى . دكتاتورية البروليتاريا أم الديموقراطية ؟ رفض المجتمع الاستهلاكي أم تزايد الإنتاج ؟ المقصلة أم إبطال عقوبة الإعدام ؟ كل هذا الأمور ليست ذات أهمية . إن ما يجعل اليساريّ يسارياَ ليس هذه النظرية أو تلك بل مقدرته على إدخال أية نظرية كانت إلى (( الكيتش )) الذي يسمّى بالمسيرة الكبرى .

14

لا أعني بقولي هذا إن فرانز هو نموذج (( الكيتش )) . فكرة المسيرة الكبرى تلعب في حياته الدور نفسه الذي تلعبه في حياة سابينا الأغنية العاطفية التي تتحدث عن نافذتين مضاءتين . لأي حزبٍ يصوّت فرانز ؟ أخشى بالفعل ألا يكون قد صوّت في حياته إطلاقاً وأن يفضل الذهاب يوم


الانتخابات في رحلة إلى الجبل . هذا لا يعني أن المسيرة الكبرى قد كفّت عن التأثير عليه . ذلك أنه جميلٌ بأن نكون في عداد جماعة تمشي قُدماً عبر العصور ، و فرانز لم ينسَ مطلقاً هذا الحلم الجميل . ذات يوم اتصل به أصحاب من باريس . كانوا ينظمون مسيرة تأييداً لكمبوديا و دعوة للانضمام إليهم . في ذلك الوقت ، كانت كمبوديا تجر وراءها الحرب الأهلية و القصف الأميركي و الفظائع التي ارتكبها الشيوعيون المحليون فجعلوا عدد سكان هذا البلد الصغير يتقلّص إلى الخُمس ، و أخيرا ًاحتلال الفيتنام المجاورة لها و التي كانت مجرد أداة في يد روسيا في كمبوديا ، كان هناك الجوع و كان الناس يموتون دون أية عناية طبية . طالبَتْ المنظمات العالمية للأطباء مراراً بأن يسمح لها بالدخول إلى البلاد ، و لكن الفيتناميين كانوا يعارضون . فقرر عندئذ مثقفون غربيون كبار تنظيم مسيرة عند الحدود الكبودية علَّهم يفرضون ، من خلال هذا العرض العظيم الذي يجري أمام أنظار العالم بأسره قبول الأطباء في البلد المحتل . كان الصديق الذي اتصل بفرانز واحداً من أُولئك الذين كان يمشي إلى جانبهم في المسيرات عبر شوارع باريس ، تحمَّس أول الأمر لاقتراحه لكنه عاد و ألقى بنظره إلى الطالبة . كانت جالسة قبالته على الكنبة و عيناها تبدوان أكبر مما هما في الحقيقة خلف نظارتها التي كانت (( على الموضة )) . فأحسَّ فرانز أن عينيها كانتا تتوسلان إليه كي لا يذهب ، فقدّم اعتذاره لصديقه . لكنه ما إن أقفل السّماعة حتى ندم . كان يستجيب لرغبات حبيبته الأرضية مهملاً حبه السماوي . ألم تكن كمبوديا نسخة مختلفة عن وطن سابينا ؟ أي بلداً مجاوراً احتله الجيش الشيوعي ! بلداً واقعاً في قبضة روسيا ! فكّر فجأة أن صديقه شبه المنسي قد اتصل به بناء على إيعازٍ سري من سابينا . فالمخلوقات السماوية تعرف كل شيء و ترى كل شيء ، و سابينا ستراه فيما لوم اشترك في هذه المسيرة و ستسر لذلك و ستفهم أنه بقي على وفائه لها .



فسأل صديقته صاحبة النظارة التي كانت تتحسر على كل يوم تمضيه من دونه ، لكن دون أن تكون أيضاً قادرة على أن ترفض له طلباً : (( هل ستغضبين مني لو أني ذهبت إلى المسيرة مع ذلك ؟ )) . بعد أيام معدودة وجد نفسه في طائرة كبيرة في مطار باريس . كان هناك نحو عشرين طبيباً بين المسافرين يواكبهم نحو خمسين مثقفاً ( أساتذة و أدباء و نوّاباً و مغنين و ممثلين و عمدة ) ، و يرافقهم أربعمائة صحفي و مصور .

15

حطّت الطائرة في بانكوك . توجد الأربعمائة و سبعون طبيباً و مثقفاً و صحافياً إلى الصالة الكبيرة حيث كان هناك في انتظارهم أطباء آخرون و ممثلون و مغنون و فقهاء لغويون ، يرافقهم مئات من الصحافيين المزوّدين بمفكراتهم و بآلات التسجيل و آلات التصوير . في عمق الصالة منصة تعلوها طاولة عريضة كان يتحلق حولها عشرون أميركياً باشروا بإدارة الاجتماع . كان المثقفون الفرنسيون و من بينهم فرانز يشعرون بأنهم مذلولون و على هامش الاجتماع . كانوا هم من اقترحوا فكرة القيام بمسيرة تأييدا لكمبوديا . و مع ذلك ، فها هُم الأميركيون يمسكون ، و بطبيعة مثيرة للإعجاب ، بزمام الأمور . . و زيادة في المصيبة ، كانوا يتكلمون الإنكليزية دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء التساؤل هل بإمكان فرنسي أو دانمركي أن يفهما حرفاً مما يقولونه . بطبيعة الحال ، كان الدانمركيون قد نسوا منذ زمن طويل أنهم كانوا يشكلون أمّة قديما ً. و هكذا فإن الأوروبيين الوحيدين الذين فكروا في المعارضة هم الفرنسيون . و بما أنهم أناس مبدئيون ، فإنهم كانوا يرفضون الاعتراض باللغة الإنكليزية متوجهين بلغتهم الأم إلى الأميركيين الجالسين فوق المنصة . لم يكن الأميركيون يفهمون حرفاً مما يتفوه به الفرنسيون فكانوا يردون على كلماتهم بابتسامات لطيفة و مستصوبة . و في نهاية المطاف لم يعد أمام الفرنسيين من حيلة أخرى سوى صياغة اعتراضاتهم بالإنكليزية . (( لماذا



لا يجري التكلم إلا باللغة الإنكليزية في هذا الاجتماع ؟ ألا يوجد أيضاً فرنسيون هنا ! )) . دهش الأميركيون دهشة كبيرة من هذا الاعتراض الغريب العجيب و لكنهم لم يتوقفوا عن الابتسام ثم وافقوا على أن تُترجم جميع الخُطب . و استغرق البحث عن مترجم ، لكي يكون في المستطاع متابعة الاجتماع ، وقتاً طويلاً . ثم ، و بما أن الأمر كان يقتضي بأن يجري الاستماع إلى كل جملة في الإنكليزية ثم في الفرنسية فإن الاجتماع دام وقتاً مضاعفاً إن لم يكن أكثر من مضاعف لأن الفرنسيين بأجمعهم كانوا يتقنون الإنكليزية مما يضطرهم لمقاطعة المترجم و تصحيح أخطائه و التجادل معه في شأن كل كلمة . و جاء ظهور نجمة أميركية على المنصة تتويجاً للاجتماع . من أجلها أخذ مصورون يتدفقون في الصالة مؤكدين على كل حرف تتفوه به الممثلة بقعقعة من آلات التصوير . كانت الممثلة تتحدث عن الأطفال الذين يتعذبون و عن الوحشية الشيوعية و دكتاتوريتها و عن حق الإنسان في العيش بأمان ، و التهديدات التي تضغط على القيم التقليدية للمجتمع الراقي ، و الحرية الفردية ، و الرئيس كارتر الذي تُدمي فؤاده الأحداث في كمبوديا . قالت هذه الكلمات الأخيرة و هي تبكي . عند هذه اللحظة نهض طبيب فرنسي شاب ذو شاربين حمراوين و أخذ يزعق : (( نحن هنا من أجل إنقاذ أناس يحتضرون ! لسنا هنا من أجل إحياء مجد الرئيس كارتر ! لم نأتِ إلى هنا لكي نعارض الشيوعية بل من أجل العناية بمرضى ! )) . انضمَّ فرنسيون آخرون تأييداً للطبيب المشورب . كان المترجم خائفاً و لم يجرؤ على ترجمة ما كانوا يقولونه . و كما منذ قليل ، كان الأميركيون العشرون الجالسون على المنصة يرمقونهم بابتسامات مفعمة بالود . و كثيرون من بينهم كانوا يوافقون على ما يقولونه بإشارات من رؤوسهم . ثم خطرت لأحدهم فكرة أن يرفع قبضته فهو يعرف أن الأوروبيين يقومون بهذه الحركة تلقائياً في لحظات الابتهاج الجماعي .




16

كيف يحدث أن يوافق مثقفون يساريون ( لأن الطبيب المشورب كان واحداً منهم ) على السير في تظاهرة تعادي مصالح بلد شيوعي ، في الوقت الذي ألّفت فيه الشيوعية جزءاً لا ينفصم من اليسار حتى هذا التاريخ ؟ حين تصير جرائم البلد المسمّى بالاتحاد السوفياتي فاضحة للعيان ، يجد اليساريُّ نفسه أمام خيارين : إما أن يبصق على حياته السابقة و يقلع عن المشي في المسيرات و إما ( و هذا أمر محرج تقريباً ) أن يجعل الاتحاد السوفياتي أحد العوائق التي تحول دون المسيرة الكبرى ؛ وأن يتابع طريقه في السير مع الموكب . قلت في السابق إن ما يجعل اليسار يساراً هو (( الكيتش )) المسيرة الكبرى . هوية (( الكيتش )) لا تحدد من خلال استراتيجية سياسية بل من خلال صور و استعارات و لغة معينة . في الإمكان إذاً خرق العادة و معاداة مصالح بلد شيوعي ، و لكن ليس من الممكن تبديل الشعارات بشعارات أخرى . نستطيع أن نرفع قبضاتنا في وجه الجيش الفيتنامي ، و لكن لا يمكن لنا أن نصرخ في وجهه قائلين (( فلتسقط الشيوعية )) ، لأن الشعار (( فلتسقط الشيوعية )) شعار أعداء المسيرة الكبرى . و من لا يريد أن يفقد ماء الوجه عليه أن يبقى وفياً لطهارة (( كيتشه )) الخاص . لا أقول هذا لأشرح سوء التفاهم الكامن بين الطبيب الفرنسي و النجمة الأميركية التي حسبت أنها بسبب من أنانيتها ، ضحية الحساد و مبغضي النساء . كان الطبيب الفرنسي في الواقع يبرهن عن حساسية جمالية كبيرة : فالكلمات (( الرئيس كارتر )) ، (( قيمنا التقليدية )) ، (( الوحشية الشيوعية )) ، تشكَّل جزءاً من لغة (( الكيتش )) الأميركي و لا علاقة لها (( بكيتش )) المسيرة الكبرى .

17

في صباح اليوم التالي صعدوا جميعاً في الباصات ليعبروا تايلندا باتجاه الحدود الكمبودية . في الماء ، وصلوا إلى قرية صغيرة حيث خُصصت لهم بضعة بيوت صغيرة موتّدة . كان النهر بفيضاناته المرعبة يرغم الناس على السكن في الطبقات العليا . أما عند أسفل الأوتاد فكانت تحتشد الخنازير . كان فرانز ينام في غرفة يشاركه فيها أربعة أساتذة جامعيين . و كان يتوانى إلى سمعه أثناء نومه الخنازير في الأسفل و شخير أستاذ رياضيات شهير إلى جانبه . عند الصباح ، ركب الجميع في الباص . على بُعد كيلومترين من الحدود كان المرور ممنوعاً . كانت هناك فقط طريق ضيقة تؤدي إلى المركز العسكري الرابض على الحدود .توقفت الباصات . حين نزل الفرنسيون اكتشفوا أن الأميركيين قد تقدموهم مرة أخرى و تصدروا طليعة الموكب . كانت هذه اللحظة هي الأكثر حرجاً ، لأنها اقتضت أن يتدخل المترجم من جديد فحمي و طيس الجدال . و لكن في النهاية توصل الجميع إلى تسوية تقضي بأن يتصدر أميركي و فرنسي و مترجمة كمبودية طليعة الموكب ، و يتبعهم الأطباء و جميع الآخرين . فوجدت الممثلة الأميركية نفسها في المؤخرة. كانت الطريق ضيقة و محفوفة بحقول الألغام . كانوا يقعون في كل دقيقتين على ممر متعرج مؤلف من كتلتيْ باطون تعلوهما أسلاك شائكة ، و بين الكتلتين ممر صغير ، مما اضطرهم للمشي الواحد خلف الآخر . كان يتقدم فرانز على مسافة خمسة أمتار شاعر ألماني شهير و مغنَّ شعبي كان قد كتب تسعمائة و ثلاثين أغنية من أجل السلام و ضد الحرب . كان يحمل في نهاية العصا طويلة علماً أبيض يتلاءم للغاية و لحيته الكثيفة السوداء و يميّزه عن الآخرين . كان المصوّرون يروحون و يجيئون عدواً حول هذا الموكب الطويل . كانوا يلتقطون الصور فيركضون إلى الأمام ثم يتوقفون فيتراجعون و يقرفصون ثم يعودون للجري من جديد باتجاه الأمام . من وقت لآخر كانوا يهتفون باسم رجل أو امرأة شهيرَيْن فيلتفت المدعو بطريقة آلية في اتجاههم و يبدأون في هذه اللحظة بالذات بالتقاط الصور .




18

بدا أن هناك حادثاً وشيك الوقوع فخفَّف الناس الخطى و التفتوا إلى الوراء . رفضت النجمة الأميركية التي جُعل مكانها في مؤخرة الموكب ، أن تتحمّل وقتاً أطول هذا الذلّ فقررت أن تهاجم . أخذت تركض و كان ركضها كما يفعل الراكض في سباق الخمسة آلاف متر حين يرى أنه لا يزال في مؤخرة الفريق ، فيجمع قواه مندفعاً إلى الأمام و متجاوزاً جميع المتبارين . كان الرجال يبتسمون بانزعاج و يفسحون المجال للراكضة المنتصرة الشهيرة ، و لكن هناك نساء بدأن بالصراخ قائلات : (( في الصف ! هذه ليست مسيرة لنجوم السينما ! )) . لم تدعِ الممثلة مكاناً للخجل بل تابعت تقدمها راكضة يتبعها خمسة مصورين و كاميرامان اثنان . أمسكت امرأة فرنسية و هي أستاذة في الألسنية الممثلة من معصمها و قالت لها ( بلغة إنكليزية شنيعة ) : (( هذه المسيرة أقيمت للأطباء كي ينقذوا الكمبوديين المرضى من الموت . نحن لا نقيم هنا استعراضا ً للنجوم ! )) . كان معصم الممثلة محكماً داخل يد أستاذة الألسنية و كأنه داخل كماشة . لم تكن لديها القوة اللازمة للتملص منها . قالت ( بلغة إنكليزية ممتازة ) : (( هذا ليس من شأنك ! لقد شاركت في مئات المواكب ! في كل مكان ، يجب على الناس أن يروا نجوماً ! هذه رسالتنا ! هذا واجبنا الأخلاقي . ــ (( طُزّ ! )) قالت أستاذة الألسنية ( و في فرنسية ممتازة ) . فهمت النجمة الأميركية قولها و ذرفت دموعها بغزارة . (( ابقي كما أنت )) ، هتف لها كاميرامان . حدّقت الممثلة طويلاً في العدسة و دموعها تنساب على وجنتيها .



19

أفلتت أستاذة الألسنية أخيراً معصم النجمة الأميركية . هتف المغنّي الألماني ذو اللحية السوداء و الذي كان يحمل العلم الأبيض باسم الممثلة . لم تكن الممثلة قد سمعت به من قبل و لكنها كانت في لحظة الذُّل هذه حسّاسة أكثر من العادة لكل مبادرات التعاطف . فما كان منها إلاَّ أن انطلقت في اتجاهه. نقل الشاعر – المغنّي سارية علمه إلى يده اليسرى لكي يتمكن من إحاطة كنفيْ الممثلة بذراعه اليمنى . أخذ المصورون و الكميرامان ينطنطون حول الممثلة و المغنّي . ثمة مصور أميركي شهير أراد أن يُظهرَ وجهيهما و العلم ضمن إطار عدسته . لم تكن هذه اللقطة سهلة نظراً لارتفاع السارية . أخذ يركض متراجعاً في حقل للرز ، فوضع قدمه على لغم و حصل انفجار . تناثر جسده المهشم أشلاءً و أمطر بِوَابل من الدم جموع المثقفين العالميين . ارتعب المغني و الممثلة و بقيا مسمّرين في مكانهما . رفع كلاهما نظره صوب العلم . كان ملطخا ًبالدم . في البداية كان هذا المنظر يزيد من هلعهما . و لكن فيما بعد رَفعا بخجل عدة مرات أعينهما و أخذا في الابتسام . كان يعتريهما شعور غريب بالاعتزاز ، شعور لا عهد لهما به من قبل و هما يفكران أن العلم الذي كانا يحملان قد طهّره الدم ، و استأنفا المسير .

20

كانت الحدود مؤلفة من جدول صغير لا تمكن رؤيته لأنه على طول الحدود كان يمتد حائط ارتفاعه متر و خمسون سنتمتراً تعلوه أكياس رمل مُعدّة للقناصين التايلنديين . لم يكن الحائط ينقطع سوى في مكان واحد عند جسر مقبب يتجاوز النهر . لم يكن مسموحاً لأحد أن يتقدم . كانت هناك فصائل احتلال فيتنامية تتمركز على الجانب الآخر من النهر و لكن من غير أن يكون في الإمكان رؤيتها . كانت مراكزها مموّهة تماماً . و لكن لا شك أن فيتناميين


محتجبين سوف يطلقون النار إن حاول أحدهم اجتياز الجسر . اقترب بعض عناصر التظاهرة من الحائط و وقفوا على رؤوس أصابعهم . اتكأ فرانز إلى متراس بين كيسيْ رمل و أخذ يراقب . لم يتمكن من رؤية شيء لأن مصوّراً دفعه إلى الخلف معتبراً أن له الحق في أن يأخذ مكانه . التفت إلى الوراء . على أغصان شجرة منفردة شبيهة بسرب من طيور الزاغ الضخمة ، كان يجلس سبعة مصورين و أعينهم محدقة بالجهة الأخرى من النهر . في هذا الوقت أدنى المترجم ، الذي كان يمشي في طليعة التظاهرة ، شفتيه من قمعٍ ضخم و أخذ يزعق في لغة الخمير باتجاه النهر : ثمة أطباء هنا يطلبون بأن يُسمح لهم بالدخول إلى الأرض الكمبودية من أجل توزيع مساعداتهم الطبية . و نشاطهم هذا لا دخل له بالسياسة ، دافعهم الوحيد الاهتمام بالحياة الإنسانية . كان الجواب الذي وافاهم من الجهة المقابلة صمتاً لا يُصدّق ، صمتاً كلياً إلى حدّ أن الجميع بدأ ينهشهم القلق . وحدها قعقعة الكاميرات كانت تتردد وسط هذا الصمت العظيم مثل طنين حشرة غريبة . أحسَ فرانز فجأة أن المسيرة الكبرى قد شارفت على نهايتها . كانت الحدود تضيق على أوروبا لتصير المساحة التي تجري فيها المسيرة الكبرى مجرد منصة صغيرة وسط الكوكب . كانت الجموع التي تحتشد في الماضي عند أسفل المنصة قد أشاحت بوجهها منذ زمن طويل . و كانت المسيرة الكبرى تتابع تقدمها وحيدة دون مشاهدين . نعم ، كان فرانز يفكر أن المسيرة الكبرى تتابع طريقها بالرغم من لا مبالاة العالم و لكنها تصير متوترة و مضطربة . فأوروبا قد سارت بالأمس ضد الاحتلال الأميركي لفيتنام ، و اليوم تسير ضد الاحتلال الفيتنامي لكمبوديا . بالأمس تأييداً لإسرائيل و اليوم من أجل الفلسطينيين ، بالأمس من أجل كوبا و غداً ضد كوبا ، و دائماً ضد أميركا ، و كلّ مرة ضد المجازر ، و كل مرة دعما ًلمجازر أخرى . و لكي تتمكن أوروبا من اللحاق بإيقاع الأحداث من غير أن يفوتها أي منها ، تزداد خطاها تسارعاً



بحيث أن المسيرة الكبرى صارت موكباً لأناس معجّلين يسيرون قفزاً ، و بحيث أن الحلبة تتقلص يومًا بعد يوم إلى أن تصبح مجرد نقطة صغيرة .

21

هتف المترجم ثانية بندائه عبر مكبّر الصوت . و لكن ، كما في المرة الأولى ، كان الجواب الوحيد صمتاً هائلاً فظيعاً لا مبالياً . كان فرانز يراقب . كان هذا الصمت الآتي من الجهة الأخرى يلطم وجوههم جميعاً و كأنه صفعة . حتى أنَّ المغني الذي يحمل العلم و الممثلة الأميركية بَدّوا منزعجين و مترددين . فهم فرانز فجأة كم أنهم كانوا مضحكين ، هو و الآخرين . و مع ذلك فإن إدراكه لهذه الحقيقة لم يكن يبعده عنهم و لا يثير فيه أي شعور بالسخرية منهم . على العكس ، كان يشعر نحوهم بمحبة لا متناهية ، كتلك المحبة التي نشعر بها تجاه المحكومين بالإعدام . المسيرة الكبرى تشارف على نهايتها ، هذا صحيح . و لكن هل هذا سبب كافٍ لكي يخونها فرانز ؟ ألم تكن حياته هو أيضاً تقترب من نهايتها ؟ هل عليه إذاً أن يستهتر بتظاهرة هؤلاء الذين واكبوا حتى الحدود أطباءً شجعاناً ؟ هل في مستطاع هؤلاء الناس أن يقدموا بشيء آخر غير العرض ؟ و هل في حيلتهم شيء أفضل من هذا ؟ كان فرانز على حق . أُفكّر في الصحافي الذي كان ينظم في براغ حملة تواقيع لالتماس العفو للمساجين السياسيين . كان يعرف جيداً أن هذه الحملة لن تساعد المساجين . فالهدف الحقيقي منها لم يكن تحرير المساجين و إنما التأكيد على أنه لا يزال هناك أناس لا يهابون شيئاً . كان العمل الذي يقوم به من باب العرض ، و لكن لم تكن في يده خيار واحد : إما القيام بعرض أو عدم القيام بشيء . ثمة ظروف يكون الإنسان فيها (( محكوماً عليه )) بأن يقوم بعرض . نضاله ضد السلطة الصامتة ( سواء كانت السلطة الصامتة للضفة الأخرى من النهر أم الشرطة التي تحوّلت إلى آلات تسجيل صامتة



مخفية داخل الجدران ) يشبه نضال فرقة مسرحية تستعد لمهاجمة جيش . رأى فرانز صديقه في جامعة السوربون يرفع قبضته مهدداً صمت الضفة الأخرى .

22

للمرة الثالثة هتف المترجم بندائه عبر مكّبر الصوت . و من جديد أجابه الصمت مُحيلا ًبغتة قلق فرانز إلى غضب مسعور . كان على بُعد بضع خطوات من الجسد الذي يفصل تايلندا عن كمبوديا ، و اجتاحته رغبة جامحة في الجري عليه و قذف شتائم فظيعة نحو السماء ، و في الموت وسط الضجة الهائلة لطلقات البنادق . هذه الرغبة المباغتة لفرانز تذكرنا بشيء ما ، نعم ، تذكرنا بابن ستالين عندما انطلق راكضاً للتعلق بالأسلاك الشائكة لأنه لم يعد في استطاعته أن يتحمل رؤية قطبيَّ الوجود البشري يقتربان إلى درجة التلامس ، إلى درجة أنه لم يعد هناك من فرق بين النبيل و الحقير ، بين الملاك و الذبابة . لم يكن فرانز يستطيع التسليم بأن مجد المسيرة الكبرى صار مقتصراً على غرور مضحك لأناس يسيرون بانتظام ، و بأن تختفي ضجة التاريخ العظيمة وسط صمت لا ينتهي بحيث أنه لا يعود هنالك فرق بين التاريخ و الصمت . كان راغباً في أن يضع حياته في الميزان ليثبت أن كفة المسيرة الكبرى ستكون أكثر رجحاناً من كفّة البراز . و لكن ليس في الإمكان إثبات شيء من هذا القبيل . كان البراز في كفة الميزان ، و جسد ابن ستالين في كفة الميزان الأخرى ، و لكن الميزان لم يتحرك قيد أنملة . بدل أن يقتل فرانز نفسه ، حنى رأسه و لحق بالآخرين السائرين واحدهم خلف الآخر ، ليستقلَّ الباص من جديد .



23

نحتاج جميعاً إلى أحد ما يراقبنا . و يمكن تصنيفنا إلى أربع فئات تبعاً لنوع النظرة التي نرغب العيش في ظلّها . الفئة الأولى تفتش عن نظرات لا تحصى من العيون المجهولة ، و بكلمة أخرى تفتش عن عيون الجماهير . هذه هي حال المغنّي الألماني و النجمة الأميركية . و هذه هي أيضاً حال الصحافي ذي الذقن الطويل المعقوف . لقد كان معتاداً على قرّائه ، و حين حظّر الروس صدور مجلته الأسبوعية ، أحسّ أنه يعيش في جو هواؤه أقل كثافة بمئة مرة . إذاً لا أحد يمكن أن يقوم عنده مقام العيون المجهولة . كان لديه شعور حينذاك بأنه يختنق . ثم أدرك ذات يوم أن الشرطة تلاحق كل خطوة من خطواته و أنها كانت تتنصت على كل مخابراته الهاتفية ، و أنه كان يُصوَّر بطريقة سرية حتى عندما يكون في الشارع . عند ذلك أخذت عيون مجهولة تصحبه إلى كل مكان فتمكَّن أخيراً من استعادة أنفاسه ! و شعر بالغبطة ! كان يخاطب آلات التسجيل المخفية داخل الجدران بلهجة مفخّمة . و كان يجد في البوليس جمهوره المفقود . الفئة الثانية تتضمن هؤلاء الذين ليس في إمكانهم أن يعيشوا دون نظرات كثيرة مألوفة ، هؤلاء الذين لا يتعبون من إقامة الحفلات و مآدب العشاء . إنهم أكثر سعادة من الناس المنتمين إلى الفئة الأولى الذين يحسبون أن الأضواء ، حين يفقدون جمهورهم ، قد أُطفئت في قاعة حياتهم . و هذا ما يحدث لهم جميعاً بين يوم و آخر . . أما ناس الفئة الثانية فيظلل في إمكانهم التوصل إلى العثور على نظرات ما . و ماري كلود و ابنتها تنتميان إلى هذه الفئة . و من ثم يأتي الفئة الثالثة ، فئة هؤلاء الذين هم بحاجة للعيش في ظلّ عيون أحبائهم . ظروفهم الحياتية خطرة قدر ما هي خطرة الظروف الحياتية لناس الفئة الأولى . ما إن تغمض عينا الحبيب حتى تغرق القاعة في ظلام دامس . بالإمكان تصنيف تيريزا و توماس ضمن هذه الفئة .



و أخيراً هناك الفئة الرابعة و هي الأقل ندرة ، و تتضمن أولئك الذين يعيشون في كنف أنظار موهومة لكائنات غائبة . هم الحالمون ، فرانز مثلاً . إذ كان قد ذهب إلى الحدود الكمبودية و هذا فقط بسبب سابينا . كان يشعر و هو يترجرج في الباص إلى كمبوديا ، بأنها تحدّق إليه بنظراتها الثابتة . ابن توماس ينتمي إلى هذه الفئة أيضاً . سوف أدعوه سيمون ( و هو سيُسرّ لإعطائه اسماً توراتياً مثل اسم أبيه ) . كانت النظرة التي يتوق إليها هي نظرة توماس . كان قد طرد من الجامعة لاشتباهه بأنه كان من ضمن أصحاب حملة التواقيع . كانت الفتاة التي يعاشرها ابنة شقيق كاهن ريفي . تزوجها و أصبح سائق شاحنة زراعية في تعاونية . أصبح كاثوليكياً ممارساً و أباً لعائلة . علم أن توماس كان يسكن هو أيضاً في الريف. و هذا أدخل السعادة إلى قلبه . لقد جعل القدر حياتهما متعادلتين . هذا ما دفعه لأن يكتب رسالة . لم يكن يطلب رداً بل كان يريد شيئاً واحداً : أن يُلقي توماس نظرته على حياته .

24

فرانز و سيمون هما الحالمان في هذه الرواية . بخلاف فرانز ، سيمون لم يكن يحب والدته . بل كان يفتش منذ الطفولة عن أبيه . كان مستعداً للإيمان بأن إهانة أُلحقت بأبيه ففسّرّت إجحافه بحقه . . لم يحقد عليه قط و رفض أن يكون حليف أمه التي كانت تمضي وقتها في الذم بتوماس . عاش معها حتى الثامنة عشر ثم ذهب بعد حصوله على شهادة البكالوريا لتحصيل علومه في براغ . في ذلك الحين كان توماس منظف زجاج . انتظر سيمون مرات عدة لكي يحضّه للقاء مفاجئ في الشارع ، و لكن أباه لم يكن يتوقف مطلقاً . إنْ كان قد تعلَّق بالصحافي القديم ذي الذقن الطويل و المعقوف فهذا لأنه كان يذكّره بمصير والده . لم يكن الصحافي يعرف اسم توماس فالمقال عن أُوديب كان منسياً ، فنبّهه سيمون إلى وجوده و طلب منه أن يرافقه لرؤية توماس و يعرضا عليه التوقيع على عريضة . و لم يكن امتثال الصحافي إلا من


باب إدخال السرور إلى قلب الشاب الذي كان يحبه حباً جماً . عندما كان سيمون يفكر في ذلك اللقاء كان يشعر بالخجل من وَهَله . من المؤكد أنه لم يُعجب أباه . أما هو فأُعجب بأبيه . كان يتذكر كل كلمة تفوّه بها مستصوباً مواقفه أكثر فأكثر . هناك جملة على الأخص علقت بذاكرته : (( إدانة هؤلاء الذين لا يعرفون ماذا يفعلون ، عمل بربري )) . و عندما وضع عمَ صديقته كتاب التوراة بين يديه ، تأثر بكلمات يسوع التي تقول : (( إغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون )) . كان يعرف أن أباه ملحد و لكن التشابه بين الجملتين كان بالنسبة له و كأنه رمز خفي يعني أن أباه يستحق الطريق التي اختارها . كان يعيش في القرية منذ ما يزيد على سنتين عندما تسلّم رسالة دعاه فيها توماس لزيارته . كان اللقاء ودياً و أحسَّ سيمون بأنه على سجيته فما عاد يتأتئ إطلاقاً . لا شك في أنه لم يلاحظ أنهما ليسا متفاهمين إلى الحد الذي تصوّر . بعد نحو أربعة أشهر تلقّى برقية جاء فيها أن توماس و زوجته ماتا مهشميْن في حادث شاحنة . في ذلك الوقت سمعهم يتحدثون عن امرأة كانت في السابق عشيقة أبيه و تعيش حالياُ في فرنسا . فحصل على عنوانها . و بما أنه كان في حاجة ماسة إلى عين وهمية تتابع مراقبة حياته ، أخذ يكتب لها إذا ًمن وقت لآخر رسائل مطوّلة .


25

حتى آخر حياتها ظلّت سابينا تتلقى الرسائل من ذلك المراسل الريفي التعيس . كثير من هذه الرسائل لم يُفتح ، لأن اهتمامها بالبلد الذي هو مسقط رأسها ، أخذ يتناقص مع الأيام . مات الرجل العجوز و ذهبت سابينا للإقامة في كاليفورنيا . أكثر فأكثر باتجاه الغرب ، و أبعد فأبعد من بوهيميا . كانت لوحاتها تباع بشكل جيد و كانت تحب أميركا و لكن فقط حباً


سطحياً . فتحت السطح ثمة عالم غريب . إذ لم يكن لديها تحت الأرض جدّ أو عمّ . كانت تخاف من أن يُغلق عليها داخل نعش و أن تُدلَّى في أرض أميركا . لذلك كتبت وصية اشترطت فيها أن تُحرق جثتها بعد موتها ، و أن يُنثر رمادها في الهواء . تيريزا و توماس ماتا تحت شعار الثقل . أما هي فأرادت أن تموت تحت شعار الخفة . سوف تصير أخف من الهواء . و حسب رأي بارمينيد ، فإن موتها هو تحوّل من السلبي إلى الإيجابي .

26

توقف الباص أمام فندق في بانكوك . لم يعد أحد راغباً في تنظيم اجتماع . فتفرق الجمع إلى جماعات صغيرة و انطلقوا عبر المدينة ، بعضهم ذهب لزيارة المعابد و بعضهم الآخر لزيارة المبغى . اقترح الصديق في جامعة السوربون على فرانز أن يمضيا السهرة معاً ، و لكنه آثر البقاء وحيداً . كان المساء قد حلّ عندما خرج . كان يفكر في سابينا باستمرار و يشعر أنها تحدق إليه بنظراتها الثابتة ، التي كان يشعر أن الشك يأخذ في الاعتمال في نفسه تحت تأثيرها لأنه لا يعرف ماذا يجول حقاً في فكر سابينا . . هذه المرة أيضاً رمته تلك النظرة في الحيرة . تُرى ، ألم تكن تهزأ منه ؟ ألم تكن تجد العبادة التي يخصها بها أمراً سخيفاً ؟ ألم تكن تريد إفهامه أنه آن الأوان ليتصرف تصرف إنسان ناضج و أن يكرس نفسه كلياً لصديقته التي أرسلته بنفسها إلى هناك ! حاول أن يتخيل الوجه الذي يرتدي نظارة كبيرة . و بدأ يتفهم بوضوح مدى السعادة التي كان يشعر بها بصحبة طالبته فبدا له سفره إلى كمبوديا أمراً مضحكاً و دون معنى . في الواقع ، ما الذي أتى به إلى هنا ؟ الآن ، بدأ يعرف السبب . قام بهذه الرحلة ليعرف أخيراً أن حياته الحقيقية ، أن حياته الواقعية الوحيدة لا تتمثل في التظاهرات و لا في سابينا و إنما في طالبته صاحبة النظارة ! قام بهذه الرحلة ليقنع نفسه أن الحقيقة شيء أكثر من الحلم ، شيء أفضل بكثير من الحلم !


ثم فجأة ، انبثقت من الظلام هيئة و خاطبته ببضع كلمات في لغة لم يفهمها . نظر إلى الهيئة بدهشة ممزوجة بالتعاطف . كان المجهول ينحني و يبتسم و لا يكف عن الرطن بلهجة ملحة . ماذا كان يقول له ؟ اعتقد لأول وهلة أنه كان يتوسل إليه للّحاق به . أمسكه الرجل من يديه و جذبه . فقال فرانز في نفسه إنه يحتاج لمساعدة ربما . أيكون فرانز لم يأتِ إلى هنا عبثاً ؟ أيكون مجيئه إلى هنا من أجل إسعاف أحدٍ ما ؟ و فجأة انبثق شخصان آخران إلى جانب الرجل الذي كان يرطن بلغة غير مفهومة . ثم أمر أحدهما فرانز بأن يعطيهم مالاً . عندها اختفت الفتاة الشابة صاحبة النظارة من مجال تفكيره . أخذت سابينا من جديد تراقبه ، سابينا اللاحقيقية بقدرها العظيم ، سابينا التي كان يشعر في حضرتها أنه صبي صغير . ها هي عيناها تراقبانه بنظرات تعبر عن الغضب و عدم الرضى . لماذا ، هل ترك نفسه تنخدع مرة أُخرى ؟ هل كان يدع طيبته الحمقاء تُستَغل مرة أُخرى ؟ و بضربة واحدة أفلت من قبضة الرجل الذي كان يتشبث بكُمّه . كان يعرف أن سابينا قد أُعجبت دائماً بقوّته . فأمسك الذراع التي شهرها الرجل الآخر نحوه ، أمسكها بقوة و قام بلقطة جودو موفقة تماماً فجعله يدور من فوق رأسه . الآن ، كان فخوراً بنفسه ، عينا سابينا لم تكونا تفارقانه . لن تراه بعد اليوم مهاناً ! لن تراه متراجعاً بعد الآن ! و لن يعود فرانز الضعيف و العاطفي بعد اليوم ! كان يحس بحقد ممزوج بالسعادة حيال هؤلاء الرجال الذين يودون استغلال سذاجته . كان يقف منحنياً قليلاً دون أن يشيح بنظره عنهم . و لكن فجأة انهال شيء ثقيل على رأسه فتهاوى على الأرض . كان يشعر و هو نصف واعٍ أنه يتم نقله إلى مكان ما ، ثم بدا يسقط في الفراغ . أحس بضربة عنيفة أخرى ، و فقد وعيه كلياً . استيقظ بعد وقت طويل في إحدى مستشفيات جنيف . كانت ماري –




كلود تنحني فوق سريره . فأراد أن يقول لها إنه لا يرغب في رؤيتها هنا . كان يريدهم أن يُعلموا الطالبة ذات النظارة الكبيرة بوجوده في المستشفى . فهو كان يفكر فيها هي دون سواها . كان يريد أن يزعق في وجهها قائلاً إنه لا يحتمل وجود أحدٍ قرب سريره . لكنه اكتشف مذعوراً بأنه غير قادر على الكلام . كان ينظر إلى ماري – كلود بحقد لا متناهٍ ، و أراد أن يستدير ناحية الحائط كي لا يراها . و لكنه لم يكن في استطاعته تحريك جسده . فحاول أن يشيح على الأقل بوجهه . و لكنه حتى لم يستطع القيام بأدنى حركة ، أغمض عندئذ عينيه كي لا يراها .

27

ها قد انتسب فرانز الميت أخيراً إلى زوجته الشرعية كما لم ينتسب إليها من قبل . ها إن ماري – كلود تقرر كل شيء و تقوم بتنظيم مراسم الجنازة و ترسل أوراق النعي و تبعث في طلب الأكاليل ، و تخيط لنفسها ثوباً أسود الذي هو في الحقيقة ثوب زفاف . نعم ، إن دفْنَ الزوج أخيراً هو عرس الزوجة الحقيقية ، و هو تتويج لحياتها و مكافأة تكفّر عن كل عذاباتها . على أية حال ، الكاهن يفهم ذلك جيداً و يعظ فوق القبر عن الحب الزوجي السرمدي الذي توجب عليه أن يتجاوز محناً كثيرة و لكنه بقي للفقيد ، و حتى آخر أيامه ، ملجأ أميناً يستطيع الرجوع إليه في اللحظة الحرجة ، حتى أن زميل فرانز الذي طلبت منه ماري – كلود أن يقول كلمة صغيرة فوق النعش حياَّ فيها خصوصاً زوجة الفقيد الشجاعة . في مكان ما في الخلف ، كانت هناك الفتاة الشابة صاحبة النظارة الكبيرة ، متقوقعة تستند إلى صديقة . كانت مختنقة من فرط البكاء و كانت قد ابتلعت أقراصاً كبيرة فأصيبت بتشنجات قبل نهاية الجنازة . كانت تتلوى من الألم و تمسك بطنها ، فما كان من صديقتها إلا أن ساعدتها فخرجت من الجنازة .



28

ما أن تلفَّى برقية رئيس التعاونية ، ركب على دراجته و انطلق . تكفّل القيام بمراسم الدفن . و حفر على شاهدة القبر تحت اسم أبيه الكتابة التالية : (( أراد مملكة الله على الأرض )) . كان يعرف جيداً أن والده لم يكن ليستعمل هذه الكلمات مطلقاً . و لكنه كان متأكداً من أن الكتابة تعبر بدقة كما كان يريد أبوه . فمملكة الله تعني العدالة و توماس كان متعطشاً إلى عالم تسوده العدالة . ألا يحق لسيمون إذاً أن يعبر عن حياة أبيه بلغته هو ؟ ألا يتوارث جميع الأبناء هذا الحق منذ عصور سحيقة ؟ بعد ظلال طويل ، العودة ، يمكننا أن نقرأ على شاهدة قبر فرانز . يمكن أن تؤول هذه الكتابة على أنها إشارة لرمز ديني : الضلال في الحياة الأرضية و العودة بين ذراعي الله . و لكن المطلعين على الأسرار يعرفون أن لهذه الجملة أيضاً معنى تجديفياً تماماً . من جهة أخرى ، ماري – كلود تتحدث بهذا الخصوص كل يوم : فرانز ، ذاك العزيز ، فرانز ذاك الشجاع ، لم يستطع أن يتحمل وطأة سن الخمسين فوقع بين براثن فتاة مسكينة ! لم تكن جميلة . ( أما لاحظتم نظارتها الكبيرة التي بالكاد تُرى خلفها ؟ ) و لكن رجلاً في الخمسين ( و نعرف ذلك جميعاً ) يبيع روحه لقاء قطعة لحم فتية . و وحدها زوجته تستطيع أن تدرك عمق ألمه . كان فرانز يعيش عذاباً روحياً حقيقياً ! ففرانز في أعماقه رجل شريف و طيب . و إلا فكيف نفسّر هذا السفر السخيف اليائس إلى بلد بعيد في آسيا ؟ لقد ذهب يبحث عن موته . نعم ، ماري – كلود متأكدة من هذا الأمر : من أن فرانز اختار موته بعد طول تبصر . و خلال أيامه الأخيرة و فيما كان يشارف على الاحتضار و لم يعد حينئذ بحاجة للكذب ، لم يعد يومها راغباً إلا في رؤيتها هي . لم يكن قادراً على الكلام و لكنه كان يوجه شكره لها على الأقل عبر نظراته . كانت عيناه تطلبان المغفرة منها ، و ها قد غفرت له .




29

ماذا بقي من محتضري كمبوديا ؟ صورة كبيرة للنجمة الأميركية تحمل بين ذراعها طفلاً أصفر . ماذا بقي من توماس ؟ كتابةُ : أراد مملكة الله على الأرض . ماذا بقي من بيتهوفن ؟ رجل مقطب الوجه ، مشعث الشعر كمجنون و ينطق بصوت مكتئب (( Esmuss sein )) (( ليس من ذلك بدّ )) . ماذا بقي من فرانز ؟ كتابةُ : بعد طول ضلال ، العودة . و هكذا دواليك ، و هكذا دواليك . قبل أن نُنسَى نتحول إلى (( كيتش )) . (( الكيتش )) هو محطة اتصال بين الكائن و النسيان .
















القسم السابع ابتسامة كارينين

1

كانت النافذة تطل على تلّة توشيها قامات ملتوية من أشجار التفاح . في أعلى التلة ، كانت الغابات تغطي الأفق و كانت استدارة التلال تمتد إلى البعيد . . عند المساء ، كان قمر أبيض يبزغ في السماء الشاحبة و كان هذا هو الوقت الذي تظهر فيه تيريزا على العتبة . كان القمر المعلَّق في السماء التي لم تُقتم بعد مثل لمبةٍ نسيت أن تُطفأ في الصباح ، و بقيت مضاءة طيلة النهار في غرفة الموتى . كانت أشجار التفاح الملتوية تنبت على التلة و لا أحد يستطيع أن يترك المكان الذي نمت فيه جذوره . كذلك فإن تيريزا و توماس لم يعودا قادرَيْن إطلاقاً على مغادرة هذه القرية . كانا قد باعا سيارتهما و جهازَيْ التلفزيون و الراديو ليتمكنا من شراء بيت صغير مع حديقة ، مِنْ فلاحٍ للإقامة في المدينة . الذهاب للعيش في الريف كان إمكانية الفرار الوحيدة التي تبقت لهما . لأن الريف الذي كان يفتقد إلى السواعد باستمرار ما كانت تنقصه المساكن . ثم أن لا أحد يهتم بالماضي السياسي لهؤلاء الذين يقبلون بالذهاب للعمل في الحقول أو في الغابات . و لا أحد كان يحسدهم . كانت تيريزا سعيدة لأنها تركت المدينة و صارت بعيدة عن الحانة و زبائنها السكارى ، و صارت بعيدة عن النساء المجهولات اللواتي يتركن روائح فروجهن في شعر توماس . ها إن الشرطة قد أقلعت عن الاهتمام



بهما . و بما أن قصة كانت تتماثل في ذاكرتها مع مشهد (( مون دو بيير )) فإنها بالكاد كانت تلاحظ الفرق بين الحلم و الحقيقة . ( على أية حال ، هل المهندس هو حقاً في خدمة الشرطة السرية ؟ ربما نعم و ربما لا . ثم إن هناك الكثير من الرجال الذين يعيرون شققهم لبعضهم من أجل مواعيدهم الغرامية ، أو هؤلاء الذين لا يحبون مضاجعة المرأة نفسها أكثر من مرة واحدة ) . كانت تيريزا سعيدة إذاً معتقدةً أنها وصلت إلى هدفها : كانا معاً هي و توماس وحدهما ، وحدهما ؟ عليَّ أن أكون أكثر دقة : إن ما أدعوه الوحدة يعني أن يقطعا كل علاقة بأصدقائهما القدامى و بمعارفهما ، أن يقتطعا حياتهما السابقة كما يُقطَع شريط بالمقص . و لكنهما كانا يشعران بالسعادة في صحبة المزارعين حيث يعملان معهم ، و حيث كانا يقومان بزيارتهم من وقت لآخر أو يدعوانهم لزيارتهما . يوم تعرّفت تيريزا إلى رئيس التعاونية في مدينة المياه المعدنية التي تغيرت أسماء شوارعها لتصبح روسية ، اكتشفت فجأة في داخلها صورة الريف التي خلّفتها ذكريات قراءاتها أو أجدادها : عالم متناغم حيث تتحد فيه جميع العناصر لتؤلف عائلة كبيرة تتقاسم الاهتمامات ذاتها و العادات ذاتها : في أيام الآحاد الذهاب لسماع القداس في الكنيسة ، و النزل حيث يتلاقى الرجال دون النساء ، و صالة هذا النزل عينه التي تقام فيها حفلة موسيقية كل سبت و حيث يأتي أهالي القرية جميعاً للرقص . و لكن القرية في ظل الشيوعية لم تعد تشبه هذه الصورة القديمة . كانت الكنيسة موجودة في مجمع مجاور ، و لا أحد يذهب إليها أما النزل فقد تحوّل إلى مكاتب و لم يعد الرجال يعرفون أين يستطيعون التلاقي و لم يعد في الإمكان الاحتفال بأعياد دينية ، و الأعياد الرسمية لم تعد تثير اهتمام أحد . كانت أقرب سينما إلى المدينة تقع على مسافة عشرين كيلومتراً . و كان الناس بعد انتهائهم من العمل حيث كانوا يتنادون بسعادة مغتنمين فترة الاستراحة للثرثرة فيما بينهم ، يعودون للانزواء داخل جدران بيوتهم الصغيرة بأثاثها العصري و لكن المختار بذوق رديء يعصف فيها مثل تيار هوائي . كانوا



يقبعون هناك ، أعينهم مسمّرة إلى جهاز التلفزيون . لم يكونوا يذهبون للزيارة بعضهم لبعض . و بالكاد كانوا يذهبون أحياناً للدردشة مع الجار قبل تناول العشاء . كان الجميع يحلم بالذهاب إلى المدينة . إذ إن القرية لم تكن تمنح أي شيء من شأنه أن يثير قليلاً من الاهتمام بالحياة . و بسبب أن لا أحد عاد يريد الإقامة في القرية فإن الدولة فقدت سلطتها عليها . المزارع الذي لم يعد مالكاً لأرضه صار يعمل في الحقول أجيراً و لم يعد متعلقاً لا بالطبيعة و لا بعمله . لم يعد لديه هناك ما يخشى فقدانه . و بفضل هذه اللاّمبالاة حافظت القرية على فسحة لا يستهان بها من الاستقلال و الحرية . لم يكن رئيس التعاونية يُعيَّن من الخارج ( كما هو حال جميع المسؤولين في المدن ) بل كان منتخباً من قبل المزارعين ، و واحداً منهم . و بما أن الجميع كان راغباً في الرحيل فإن وضع تيريزا و توماس يصير إذ ذاك استثنائياً : لقد أتيا بكامل إرادتهما . كان الآخرون يغتنمون الفرصة من أجل قضاء النهار في البلدان المجاورة . أما تيريزا و توماس فلا يطلبان سوى البقاء حيث كانا : و لم يلبثا أن تعرّفا إلى القرويين أفضل مما يعرف القرويون أنفسهم . أصبح رئيس التعاونية المخلص . كانت لديه زوجة و أربعة أولاد و خنزير رُبيَ كأنه كلب. كان الخنزير يدعى مفيستو و كان مفخرة القرية و محط إعجابها . كان يلبي النداء ما أنه يسمعه ، و كان نظيفاً للغاية ، زهريّ اللون يجري بسرعة و بخطى صغير على كعابه الصغيرة ، كما تجري امرأة ذات ربلات ضخمة على كعبيها العاليين . كانت كارينين متحيرة حين رأت مفيستو للمرة الأولى و أمضت وقتاً طويلاً تدور حوله ثم أخذت تستنشقه . و لكنها ما لبثت أن ارتبطت بصداقة وثيقة معه مفضّلة إياه على كلاب القرية التي كانت تكرهها و كانت مربوطة إلى بيوتها تنبح ببلاهة طيلة الوقت دون سبب . كانت كارينين تقدر الندرة حق قدرها . و كانت متعلقة بهذه الصداقة مع الخنزير . كان رئيس التعاونية سعيداً لتمكنه من مساعدة جرّاحه القديم و تعيساً في




الوقت نفسه لأنه لا يستطيع أن يفعل له أكثر من ذلك . كان توماس سائق شاحنة يقود المزارعين إلى حقولهم . يقوم بنقل المعدات الزراعية . كانت التعاونية مؤلفة من أربعة مبانٍ كبيرة لتربية الماشية ، و إلى ذلك زريبة صغيرة تحوي أربعين بقرة عُهِد بها إلى تيريزا لتصطحبها إلى الحقل مرتين في النهار . كانت الحقول المجاورة و التي يمكن الوصول إليها بسهولة مخصصة لحصاد الكلأ . كان على تيريزا اصطحاب قطيعها إذاً إلى التلال المجاورة . كانت البقرات ترعى العشب من المراعي البعيدة ، و كانت تيريزا تلحق بها خلال السنة ، في طول المنطقة الفسيحة التي تحيط بالقرية . و كما في المدينة الصغيرة ، كانت تمسك دائماً كتاباً في يدها تفتحه حين تصل إلى الحقول و تبدأ بالقراءة . كانت كارينين تصحبها دائماً إلى هناك . كانت قد تعلَّمت النباح خلف البقرات الصغيرات حين يكنَّ بطرات و ينوين الابتعاد عن الأخريات . كانت كارينين تشعر بمتعة بديهية ، من بين الثلاث كانت هي الأكثر سعادة إطلاقاً ، إذ لم تكن وظيفتها (( كمستشارة الساعة )) محترمة إلى هذا الحد حتى اليوم ، دون أن يكون فيها مكان للارتجال . فالزمن الذي كانت تعيش فيه تيريزا و توماس ، كان يتقرب من انتظام زمن كارينين . ذات يوم بعدما تناولا الإفطار ، ( كانا يملكان ساعة فراغ في هذا الوقت كل يوم ) قاما بنزهة برفقة كارينين إلى منحدر التلة خلف البيت . قالت تيريزا : (( لا تعجبني الطريقة التي تمشي فيها )) . كانت كارينين تعرج من رجلها اليسرى . انحنى توماس متلمساً رجلها ، فاكتشف تورماً صغيراً في فخذها . في صباح اليوم التالي أجلسها قربه على مقعد الشاحنة و توقّف في القرية المجاورة حيث يقطن بيطريّ . ذهب لزيارته خلال أسبوع و عاد معلناً أن كارينين مصابة بالسرطان . بعد ثلاثة أيام ، أجرى لها الطبيب البيطري عملية جراحية عندما اصطحب كارينين إلى البيت ، لم تكن قد أفاقت من المخدر بعد . كانت



نائمة على السجادة ، عيناها مفتوحتان و تنوح . كان شعرها محلوقاً عند فخذها و جرحها مخاطاً بست قطب إلحام . بعد قليل ، حاولت أن تنهض ، لكن دون جدوى . خافت تيريزا : و ماذا لو لم يعد في استطاعتها السير من جديد ؟ ــ (( لا تخافي ، قال توماس ، لا تزال تحت تأثير المخدر )) . حاولت أن ترفعها و لكنها بدأت تصفّق بفكّيها ، كانت هذه المرة الأولى التي تريد فيها العضّ ! لا تعرف من أنتِ ، قال توماس . لم تتعرف إليكِ بعد )) ، مدّداها قرب سريرهما فغفت بسرعة . و غَفَوا بدورهما ، ثم أيقظتهما فجأة عند الساعة الثالثة صباحاً . كانت تهز ذنبها و تدوس تيريزا و توماس متمرغة بهما بشراسة و دون توقف. هذه المرة لم تستطع أن تسيطر على نفسها وقْتَ بدأت تستعيد وعيها كاملاً خلال الليل . . مَنْ يعرف من أية مسافات بعيدة كانت راجعة ! مَن يعرف أي أشباح واجهت ! الآن و قد اكتشفت أنها في بيتها و تعرفت إلى الكائنَيْن الأحب إلى قلبها ، لم تستطع الامتناع عن إشاعة فرحتها التي لا توصف ، تلك الفرصة التي شعرت بها عند رجوعها و ولادتها الجديدة .

2

جاء في بداية سفر التكوين أن الله خلق الإنسان و جعله يتسلط على الطيور و الأسماك و الماشية . بطبيعة الحال ، الحق في سفك دم أيّلٍ أو بقرة هو الشيء الوحيد الذي اتفقت عليه الإنسانية جمعاء بتآخٍ حتى خلال الحروب الأكثر دموية . قد يبدو لنا هذا الحق بديهياً لأننا نعتبر أنفسنا في قمة السلم .. و لكن يكفي أن يتدخل شخص ثالث في اللعبة ، زائر آتٍ مثلاُ من كوكب آخر و قد أمره الله : (( سوف تكون لك سلطة على كائنات الكواكب الأخرى كافة )) ، فتصبح عندئذ بداهة التكوين موضع شك في الحال . فلنتصور الإنسان و قد


وثقه أحد سكان المريخ بعربة ثم قلّبه أحد سكان المجرة على سيخ ليشويه ، ربما سيتذكر حتماً حينئذ ضلع العجل الذي اعتاد على تقطيعه في صحنه ، و سيقدم اعتذاره ( و لو متأخراً جداً ) للبقرة . تيريزا تقدم قطيع بقراتها و تدفعهن أمامها . ينبغي عليها دائماُ أن تزجر إحداهن لأن البقرات الصغيرات لعوبات ، و يبتعدن عن الطريق المرسوم ليذهبن للعب في الحقول . ها قد مرّت سنتان و كارينين ترافق البقرات و تتبعهن كلّ يوم إلى المرعى . كان يسلّيها جداً أن تكون صارمة معهن ، كأن تنبح في إثرهن أو أن تزجرهن . ( فالله قد أعطاها حق السيادة على البقرات و هي فخورة بذلك ). و لكنها اليوم تمشي بصعوبة كبيرة و تقفز على ثلاثة أرجل لأن في رجلها الرابعة جرحاً ينزف . تيريزا تنحني كل دقيقتين لتداعب ظهرها . خمسة عشر يوماً مرت على إجراء العملية ، و من الجلي أن السرطان لا يتوقف عن الانتشار ، و أن كارينين تسير من سيء إلى أسوء . أثناء المسير ، التقين بجارة تزور الإسطبل منتعلة جزمتها المطاطية . توقفت الجارة و سألت : (( ما بها كلبتك ؟ كأنها تعرج ! )) . أجابت تيريزا : (( إنها مصابة بالسرطان و محكوم عليها بالموت )) . فأحسّت عندها بأن حلقها منقبض و بأنها تجد صعوبة في الكلام . شاهدت الجارة دموع تيريزا فغضبت : (( ماذا دهاكِ ، مهما يكن ، لا يجدر بك أن تبكي من أجل كلبة ! )) . لم تقل ذلك عن سوء نية ، فهي طيبة القلب و لكنها قالت ذلك لتؤاسي تيريزا و تيريزا تعرف . فهي تسكن في القرية منذ وقت طويل و تعرف جيداً أن المزارعين إذا كانوا يحبون أرانبهم كما تحب هي كارينين فإنهم لا يعودون قادرين على قتل أي منها ، و لن يلبثوا حتى أن يقضوا و حيواناتهم في الوقت نفسه . و بالرغم من هذا الأمر فقد بدت لها ملاحظة الجارة عدائية . (( أعرف )) أجابت دون اعتراض ، و لكنها استدارت على عجلة متابعة طريقها . أحست أنها وحيدة بحبها لكلبتها . كانت تفكر و هي تبتسم بأسىً أنَّ عليها أن تخفي هذا الحب بعناية قصوى كمن يُخفي خيانة ما فالحب الذي نحمله لكلبة مثير للإستنكار . لو علمتٍ الجارة بأنها تخون توماس لربّتت ربما على ظهرها مشجعة و لابتسمت لها بشكل متواطئ ! .




ها هي تتابع طريقها برفقة بقراتها اللواتي يتصادمن ، قائلة في نفسها إن هذه البهائم عذبة جداً ، هادئة ، دون مكر و أحياناً فرحة فرحاً طفولياً : تخالها سيدات سمينات في الخمسين من عمرهن يتظاهرن بأنهن في سن الرابعة عشرة . لا يوجد شيء أكثر إثارة للعطف من منظر بقرات يلعبن . تيريزا تنظر إليهن بمحبة و تفكر ( و هذه الفكرة تعاودها دون توقف من سنتين ) إن البشرية تعيش متطفلة على البقرة كما تعش الدودة الوحيدة متطفّلة على الإنسان : البشرية تتشبث بضروعها تشبثَ العلق . الإنسان هو طفيلي البقرة . و مما لا شك فيه أن هذا هو التعريف الذي يمكن أن يعطيه لا إنسان للإنسان في علم الحيوان . يمكن أن نرى في هذا التعريف مجرد مزحة و نبتسم لها بتسامح . و لكن إذا كانت تيريزا تأخذها على محمل الجد فإنها تدب و الحالة هذه بنفسها في منزلق خطر : هذه الأفكار خطيرة و تبعدها عن الإنسانية . ففي سفر التكوين ، عهد الله إلى الإنسان بالسيادة على الحيوانات . و بإمكاننا أن نفسر ذلك قائلين إن الله قد أعار هذه السلطة له . الإنسان ليس مالك الكوكب بل وكيله و عليه ذات يوم أن يقدم كشفاً لحسابه . ديكارت ذهب أبعد من ذلك في هذا المنحنى : جعل الإنسان (( سيد الكون و مالكها )) . و هو منطقي جداً بالتأكيد فيما يتعلق بنفيه لوجود الروح عند الحيوانات . فحسب ما يقول ديكارت ، الإنسان هو المالك و السيد فيما الحيوان ليس إلا مسيّراً و آلة حية ، أو ما يسميه بال (( ماشينا – أنيماتا )) . عندما يئن الحيوان فالأمر لا يتعلق بشكوى بل بصرير تطلقه آلة تسير بشكل سيء . فحين تئز عجلة عربة فهذا لا يعني أن العربة تتألم بل لأنها تحتاج إلى تشحيم . و بالطريقة ذاتها يجب أن يُفسّر نحيب الحيوان . و يجب ألا نشفق على كلب يُشرَّح و هو حيّ في مختبر . البقرات ترعى في أحد الحقول و تيريزا جالسة على أرومة شجرة و عند قدميها كارينين تضطجع مسندة رأسها إلى ركبتيها . تتذكر تيريزا خبراً صغيراً من سطرين قرأته في جريدة جاء فيه أن جميع الكلاب قُتلت في إحدى المدن الروسية . هذا الخبر الصغير المتكتم و غير المهم ظاهرياً جعلها تشعر للمرة الأولى بفظاعة هذا البلد الكبير المجاور .




كان هذا استباقاً لكل ما حصل فيما بعد ، ففي أول سنتين أعقبتا الاجتياح الروسي ، لم يكن في الإمكان بعد التحدث فعلياً عن الرعب . بما أن الأمة بأجمعها تقريباً كانت تشجب نظام الاحتلال ، اقتضى بالروس أن ينتقوا من بين التشيكيين رجالاً يضعونهم في سدة السلطة . و لكن كيف نجدهم خصوصاً و أن الإيمان بالشيوعية و حب روسيا باتا أمرين مفروغ منهما ؟ ذهبوا للبحث عنهم بين هؤلاء الذين يغذون في داخلهم الرغبة الحقودة في تسديد حساباتهم مع الحياة . . كان الأمر يتطلب بأن يُشد أزر هذه العدائية و تغذيتها و جعلها في حالة تأهب ، و تدريبها في أول الأمر ضدّ أي خطر محتمل . و هذا الخطر يكمن في الحيوانات . أخذت الصحف تنشر آنذاك سلسلة مقالات و تنظّم حملات في شكل رسائل للقراء . على سبيل المثال ، المطالبة بإبادة الحمام في المدن ، فتمت إبادة الحمام كلياً . و لكن الحملة كانت متوجهة على الأخصّ ضد الكلاب . كان الناس لا يزالون يعيشون الصدمة الناتجة عن كارثة الاحتلال ، أما الصحف و الراديو و التلفزيون فكانت تتحدث فقط عن الكلاب ملوثة الأرصفة و الحدائق العامة ، و المهددة لصحة الأطفال ، و التي لا تنفع لشيء و التي يجب إطعامها ، إلى ذلك كان يجري خلق جو من الهوس الفعلي و كانت تيريزا تخاف من أن يُسيء السفلة إلى كارينين . بعد مرور سنة على ذلك انصب الحقد المتراكم ( المجرب في البدء على الحيوانات ) على هدفه الفعلي أي الإنسان . و بدأت التساريح و حملات التوقيف و المحاكمات . و هكذا استطاعت الحيوانات أخيراً أن تستعيد أنفاسها . داعبت تيريزا رأس كارينين المستند بهدوء إلى ركبتيها . كانت متمسكة تقريباً بهذه الفكرة : لا فَضْلَ لمن يتصرف جيداً مع أمثاله . تيريزا مضطرة لأن تكون مستقيمة مع القرويين و إلا لما كان بإمكانها أن تعيش في جوارهم . و حتى مع توماس هي مجبرة على أن تتصرف كامرأة محبة لأنها بحاجة إليه . ليس في الإمكان قط أن نحدد بدقة إلى أي مدى تكون علاقاتنا بالآخرين هي حصيلة مشاعرنا ، حبّنا أو لا حبّنا ، رقتنا أو كراهيتنا ؛ و إلى أي مدى تكون علاقاتنا مشروطة مسبقاً بامتحان القوى فيما بين الأفراد .




الطيبة الحقيقية للإنسان لا يمكن أن تظهر في كلّ نقائها و حريتها إلاَ حيال هؤلاء الذين لا يمثلون أية قوة . فالامتحان الأخلاقي للإنسانية ( الامتحان الأكثر جذرية و الذي يقع في مستوى أكثر عمقاً بحيث أنه يخفى عن أبصارنا ) هو في تلك العلاقات التي تقيمها مع من هم تحت رحمتها ، أي الحيوانات . و هنا بالذات يكمن الإخفاق الجوهري للإنسان ، الإخفاق الذي تنتج عنه كل الإخفاقات الأخرى . اقتربت بقرة من تيريزا ، ثم توقفت و أمعنت النظر فيها طويلاً بعينيها الكبيرتين البنيتين . تيريزا تعرفها و تدعوها مارغريت . كان في ودّها أن تعطي اسماً لكل بقراتها و لكنها لا تستطيع لأنهن كثيرات . من زمان ، منذ ثلاثين سنة ، كان أكيداً أن بقرات القرية كلها كانت تملك أسماء . ( و إذا كان الاسم هو دلالة على الروح ، فأستطيع القول إذاً إنهن كن يملكن روحاً ، حتى و لو كان هذا الأمر لا يعجب ديكارت ) . و لكن القرية أصبحت فيما بعد مصنعاً تعاونياً كبيراً ، و صارت البقرات تمضين حياتهن في العيش بين مترين مربعين في الزريبة . لم يعد لديها أسماء و لم تعد سوى (( آلات حية )) . و هكذا جعل العالم ديكارت على حق . أمام عينيًّ ماثلة أبداً تيريزا الجالسة على أرومة شجرة و هي تداعب رأس كارينين و تفكر في إخفاق الإنسانية . و في الوقت ذاته تنبثق صورة أخرى أمام عينيّ : صورة نيتشة و هو يرى أمامه و هو خارج من فندق في توران ، حوذيّاَ ينهال على حصانه بالسوط . فيقترب نيتشه من الحصان و يحيط برقبته أمام ناظري الحوذي ، و يشهق في البكاء . حدث هذا في عام 1889 عندما كان نيتشه قد تنحى كلياً عن الناس و بكلمة أخرى في تلك الفترة بالذات انتشر خبر مرضه العقلي . و لكن هذا الأمر بالتحديد هو ما يعطي ، حسب رأيي ، هذا التصرف دلالته العميقة . جاء نيتشه يطلب لديكارت المغفرة من الحصان . و جنونه ( أي انفصاله عن البشرية ) يبدأ في اللحظة التي بكى فيها من أجل الحصان . و هذا (( النيتشه )) بالذات هو الذي أحبه ، كما أحب تماماً تيريزا التي




تداعب كلبتها المريضة حتى الموت فوق ركبتيها . أراهما جنباً إلى جنب يبتعدان عن الطريق حيث تتابع الإنسانية (( سيدة الطبيعية و مالكتها )) تقدمها إلى الأمام .

3

أنجبت كارينين فطيرتين هلاليّتين و نحلةَ ناظرةَ بدهشة إلى ذريتها الغريبة . كانت الفطيرتان تركنان ساكنتين أما النحلة المذهولة فكانت تترنَّح . و بعد قليل طارت و اختفت . عندما استفاقت تيريزا ، أخبرت توماس هذا الحلم الذي رأته . و وجد كلاهما تعزية فيه : كان هذا الحلم يُحيل مرض كارينين إلى حَبَل ، و مشهد الولادة كان منفذاً مضحكاً و مؤثراً معاً : فطيرتان و نحلة . شعَّ في داخلها من جديد أمل غامض ، فقامت و ارتدت ملابسها . كان نهارها يبتدئ في القرية أيضاً بالجولات الشرائية . كانت تذهب إلى السمّان لتشتري حليباً و خبزاً و فطائر . و لكن حين نادت كارينين في ذلك اليوم لتصحبها ، بالكاد رفعت الكلبة رأسها . و كانت هذه هي المرّة الأولى التي ترفض فيها المشاركة بالاحتفال الذي تصر عليه دائماً بعناد . ذهبت إذاً من دونها . (( أين كارينين ؟ )) سألت البائعة و قد جهزت فطيرة لها . هذه المرّة ، تيريزا حملت بنفسها الفطيرة في قفّتها . ما أن صارت على العتبة حتى أخرجتها لتريها لكارينين . كانت تريد أن تأتي بنفسها لتأخذها و لكن الكلبة بقيت نائمة دون حراك . كان توماس يدرك مدى حزن تيريزا ، فأخذ الفطيرة بنفسه من فمه و زحف قبالة كارينين ، ثم اقترب منها ببطء . كانت كارينين تنظر إليه و شعاع من الاهتمام بدأ يلتمع في عينيها ، و لكنها لم تنهض . قرَّب توماس وجهه على مسافة قريبة جداً من خطمها . و دون أن تحرّك جسدها ، أخذت الكلبة في خطمها القطعة التي تبرز من فم توماس . ثم أفلت توماس الفطيرة ليتركها كاملة لكارينين .



تراجع توماس و هو لا يزال زاحفاً ، ثم تكوّم و أخذ ينبح . كان يريد أن يتظاهر بأنه يقاتل من أجل الحصول على الفطيرة . أجابت الكلبة صاحبها و هي تدمدم . و حصل أخيراً ما كانا ينتظرانه ! عادت لكارينين الرغبة في اللعب ! لا يزال لدى كارينين حب الحياة  ! هذه الدمدمة كانت ابتسامة كارينين . كان في نيتها أن يجعلا هذه الابتسامة تدوم أطول وقت ممكن . من جديد اقترب توماس زاحفاً نحو الكلبة و أمسك طرف الفطيرة التي تبرز من خطمها . كان وجهها قريبين جداً الواحدة من الآخر و أحس توماس بلهاث الكلبة . و بالوبرات الطويلة النابتة حول خطمها تدغدغ وجهه . أرسلت الكلبة دمدمة و هزّت خطمها فجأة . كان لكلُّ منها نصف فطيرة يلتقطها بين أسنانه . ارتكبت كارينين خطأها القديم فأفلتت ما تحتفظ به من فطيرتها للاستحواذ على القطعة التي في فمّ سيّدها . كانت قد نسِيتْ كالعادة أن توماس ليس كلباً و أن لديه يدين . لم يفلت توماس الفطيرة التي كانت في فمه و تناول النصف الذي سقط على الأرض بيده . هتفت تيريزا : (( توماس لا تأخذ لها فطيرتها )) . أفلت توماس نصفيْ الفطيرة أمام كارينين . فالتهمت النصف الأول بسرعة ، و لكنها احتفظت بالنصف الآخر طويلاً في فمها و بإصرار ، لكي تثبت لسيديْها أنها ربحَتِ المعركة . كانا ينظران إليها مرددين أن كارينين كان تبتسم ، و أنها ما دامت تبتسم ، فإن هناك أملاً في الحياة ، حتى ولو كان محكوماً عليها بالموت . في صباح اليوم التالي بدا وكأن حالتها تحسنت . تناولا إفطارهما . في مثل هذا الوقت كان يتسنى لهما أن يصطحبا الكلبة في نزهة . كانت تعرف هذا و تبدأ بالقفز عادة من حولهما بلجاجة قبل لحظات الشروع في النزهة . و لكن هذه المرة ، حين وضعت تيريزا لها الرسن و الطوق ، نظرت إليهما طويلاً و دون حراك . كانا منتصبين أمامها و يجهدان لأن يتظاهرا بأنهما سعيدان ( بفضلها و من أجلها ) لكي يبثَّا فيها بعضاً من المزاج الطيّب . بعد قليل ، اقتربت الكلبة منها و كأنها أشفقت عليها . اقتربت تعرج على أرجلها الثلاث لكي يضعا لها الطوق .



قال توماس : (( تيريزا ، أعرف أنك على خصام مع آلتك الفوتوغرافية . و لكن خذيها معك اليوم ! )) . أذعنت تيريزا و فتحت الخزانة لتفتش عن آلة التصوير المخفية و المنسية في إحدى الزوايا . أضاف توماس : (( سوف نكون سعيدين جداً ذات يوم لالتقاطنا هذه الصور . كارينين كانت جزءاً من حياتنا )) . ــ (( هل قلْتَ كانَتْ ؟ )) ، قالت تيريزا و كأن أفعى لسعتها . كانت الآلة أمامها في عمق الخزانة و لكنها لم تقم بحركة . (( لن آخذ الآلة معي . لا أريد أن أفكر لن تعود بيننا . تتكلم عنها من الآن و كأنها جزء من الماضي ! )) . ــ لا تغضبي منّي ! قال توماس . ــ لست غاضبة منك ، قالت تيريزا بهدوء ، أنا أيضاً مرّاتٍ كثيرة فاجأت نفسي و أنا أفكر فيها و كأنها صارت جزءاً من الماضي . و مراتٍ كثيرة لُمت نفسي على ذلك! من أجل هذا ، لن آخذ الكاميرا معي )) . كانا يمشيان على الطريق دون أن ينبسا بكلمة ، كان الصمت الطريقة الوحيدة كي يتجنبا التفكير بكارينين و كأنها جزء من الماضي . لم يكونا يشيحان ببصرهما عنها و كانا معها باستمرار ، متحيّنين الفرصة التي قد تبتسم فيها . و لكنها لم تكن تبتسم بل تمشي فقط و دائماً على أرجلها الثلاث . ــ (( إنها تقوم بذلك فقط من أجلنا ، قالت تيريزا . لم تكن راغبة في الخروج من البيت . جاءت فقط لكي تدخل السرور إلى قلبينا )) . ما قالَتْه كان محزناً . و لكن ، على الرغم من ذلك كانا سعيدين دون أن يدريا . و سعادتهما لم تكن على الرغم من الحزن بل بفضله . كانا يمسكان بأيديهما و يريان أمام أعينهما الصورة ذاتها : كلبة عرجاء تجيَّد عر سنوات من عمرهما . رغبا القيام أيضاً بجولة صغيرة . و لكن كارينين خيّبت آمالهما عندما توقفت فجأة لتعود على أعقابها . وَجُبَتِ العودةُ إذاَ .



ربما في اليوم ذاته أو بعده ، رأت تيريزا عندما دخلت إلى غرفة توماس على حين بغتة أنه كان يقرأ رسالة . حين سمع الباب يصفق ، أخفى الرسالة بين الأوراق الأخرى فلاحظَتْ ذلك . و حين خرج من الغرفة رأته يدس رسالة في جيبه . و لكنه كان قد نسي الغلاف . عندما صارت لوحدها في البيت ، تفحصته . كان العنوان مكتوباً بخط مجهول ولكنّهُ واضح جداً ، و بدا لها و كأنه خط امرأة . فيما بعد ، حين تلاقيا ثانية ،سألته متظاهرة بأن شيئاً لم يكن ، هل يتلقى رسائل في البريد . (( لا )) ، قال توماس ، فتولى اليأس قلب تيريزا ؛ يأس قاتل لأنها فقدت الاعتياد عليه . لا ، لم تكن تعتقد أن بإمكان توماس أن يعاشر امرأة هنا في الخفاء ، فهذا مستحيل عملياً . كانت على بينَّة من جميع أوقات فراغه . و لكن ربما هناك امرأة في براغ لا يزال متعلقاً بها حتى و لو لم يكن في مستطاعها أن تترك رائحة فرجها في شعره . لم تكن تعتقد أن توماس يمكن أن يتركها بسبب هذه المرأة ، و مع ذلك فقد أحسَّت بأن سعادة السنتين الأخيرتين اللتين عاشتهما في القرية ، قد شوّههما الكذب ، كما حدث في السابق . عاودتها فكرة قديمة : سُكناها لم يكن توماس ، بل كارينين . من سوف يعبّئ ساعة أيامهما من جديد عندما لن تعود هنا ؟ كانت تيريزا تفكر في المستقبل ، في مستقبل دون كارينين و كانت تشعر أنها متروكة فيه . كانت كارينين مضطجعة في إحدى الزوايا وتنوح . ذهبت تيريزا إلى الحديقة . تفحصت الأرض المعشبة بين شجرتي تفاح و قالت في نفسها إنهما سيدفنان كارينين هنا ، غرزت كعبها في التراب لترسم في العشب شكلاً مستطيلاً . ستكون هذه مساحة قبرها . (( ماذا تفعلين ؟ )) سألها توماس الذي باغتها بالشكل الذي باغتته فيه منذ ساعات معدودات عندما كان يقرأ الرسالة .




لم تجب . كان يرى يديها ترتجفان : كانت هذه هي المرة الأولى منذ وقت طويل . أمسك يديها ، فتملصت منه . (( هل هذا قبر كارينين ؟ )). لم تُجب . كان صمتها يغضب توماس فانفجر غاضباً : (( لقد لُمتِني لأني فكرت فيها في زمن الماضي .و أنتِ ماذا تفعلين ؟ تريدين دفنها من الآن ! )) . أدارت ظهرها و رجعت إلى البيت . ذهب توماس إلى غرفته و صفق الباب وراءه . فتحت تيريزا الباب من جديد و هي تقول : (( لا تفكر إلاّ في نفسك . يمكنك على الأقل أن تفكر فيها في هذه المحنة . كانت تنام و أيقظتها . ستبدأ بالنحيب من جديد )) . كانت تعلم أنها غير عادلة ( فالكلبة لم تكن نائمة ) و أنها تتصرف مثلما تتصرف المرأة الساذجة الأكثر ابتذالاً حين ترغب في الإيذاء و تتقنه . دخل توماس على رؤوس أصابعه إلى الغرفة التي كانت كارينين تنام فيها . لكنها لم تشأ أن تتركه وحيداً معها . انحنى كلاهما فوق الكلبة ، كلُّ من جهته . هذه الحركة المشتركة لم تكن لفتة تسامح بل على العكس ، كان كلٌّ منهما وحيداً . تيريزا مع كلبتها و توماس مع كلبته . يخالجني خوف عظيم من أن يبقيا هكذا معها حتى آخر لحظة منفصلَيْن و كلٌّ لوحده

4

لما عبارة (( الحب البريء )) هي على هذه الأهمية بالنسبة لتيريزا ؟ نحن الذين تربينا في أجواء أساطير العهد القديم ، يمكننا أن نقول إن (( الحب البريء )) هو الصورة التي بقيت فينا بمثابة ذكرى من الجنّة : لم تكن الحياة في الجنة تشبه الرحلة ذات الخط المستقيم التي تقودنا في المجهول ، و لم


تكن مغامرة ، بل كانت تتحرك في سير دائري وسط أشياء معروفة ، و لم تكن رتابتها ضجراً بل سعادة . ما دام الإنسان يعيش في الريف في قلب الطبيعة محاطاً بالحيوانات الأليفة يعانق الفصول و تكرارها ، فإنه سيظل يُحتفظ ، و إن كان الأمر مجرد صدىَّ ، بشيء من ذلك الحب البريء الفردوسي . حين التقت تيريزا رئيس التعاونية في مدينة المياه المعدنية ، انبجست أمام عينيها صورة الريف ( الريف الذي لم تعش فيه من قبل و الذي لم تكن تعرفه ) و شعرت بالغبطة . كان الأمر و كأنها نظرت إلى الوراء ، في اتجاه الجنة . في الجنة ، حين كان آدم ينحني فوق النبع ، لم يكن بعد أن الصورة التي يراها كانت تمثله . و لم يكن قادراً على أن يفهم معنى وقفات تيريزا المطوّلة أمام المرآة عندما كانت صغيرة أو جهدها لأن ترى روحها عبر جسدها . كان آدم مثل كارينين . فعندما كانت تيريزا تقود كارينين أمام المرآة لتتسلىّ ، كانت كارينين لا تتعرف إلى صورتها بل تنظر إلى نفسها ساهمة و بلا مبالاة كلية . المقارنة بين كارينين و آدم تجعلني أفكر بأن الإنسان في الجنة لم يكن قد صار إنسانياً بعد . و بطريقة أصح ، لم يكن الإنسان قد قُذف بعد إلى مدار الإنسان . أما نحن الذي قذفنا منذ زمن بعيد محلّقين في نزاع الوقت الذي يسير في خط مستقيم ، فلا تزال في داخلنا بقية من خيط رفيع يشدنا إلى الجنة البعيدة المغبشة ، حيث كان آدم ينحني فوق النبع من غير أن يفكر ، على العكس تماماً من نرسيس ، بأن هذه البقعة الصفراء الشاحبة التي تتراءى له ، هي صورته . الحنين إلى الجنة إذاً هو رغبة الإنسان في ألاّ يكون إنساناً . عندما كانت صغيرة و تعثر على فوط أمها الصحية الملطخة بدم العادة ، كانت تشعر بالقرف و الكراهية نحو أمها التي لم تكلف نفسها حشمة أن تخفيها عن الأنظار . و لكن كارينين كانت كلبة و يأتيها الطمث أيضاً مرة كل ستة أشهر و يدوم خمسة عشر يوماً . و لكي لا توسّخ الشقة ، كانت تيريزا تضع بين رجليها قطعة ضخمة من القطن و تلبسها أحد سراويلها العتيقة و تثبته




حول جسدها بواسطة شريطٍ طويل . كان يسرها أن ترى هذا الزي المضحك خلال خمسة عشر يوماً . كيف يمكن أن نفسر بأن طمث كلبة يثير فيها حناناً فرحاً فيما عادتها الشهرية كانت تنفرها ؟ يبدو لي الجواب سهلاً : الكلبة لم تطرد من الجنة . كارينين تجهل كل شيء عن ثنائية الروح و الجسد و تجهل ما هو القرف . لذلك كانت تيريزا تشعر أنها جيدة و هادئة جداً قربها ( و من أجل هذا ، من الخطورة بمكان أن نحوّل الحيوان إلى آلة حية و أن نجعل من البقرة آلة لإنتاج الحليب : فبهذه الطريقة يقطع الإنسان الخيط الذي كان يصله بالجنّة ، و لا شيء يستطيع عندها إيقافه أو تعزيته خلال طيرانه عبر فراغ الزمن ) . من خلال الفوضى المشوشة لهذا الأفكار ، تبرعمّتْ فكرة دنسة في روح تيريزا دون أن تستطيع التخلص منها : الحب الذي يربطها بكارينين أفضل من الحب الموجود بينها و بين توماس ،أفضل منه لكن ليس أكبر . تيريزا لا تنوي اتهام أحد ، لا هي و لا توماس ، و لا تريد أن تؤكد أن بإمكانهما أن يتحابّا أكثر .و إنما يبدو لها أن الحب ( في أفضل حالاته على الأقل ) مخلوق أصلاً ليكون من طبيعة أدنى لما يمكن أن يكونه الحب بين الإنسان و الكلب . و هنا بالذات تكمن غرابة التاريخ الإنساني الذي لم يخطط له الخالق على الأرجح . إن هذا الحب لمترفع : تيريزا لا تريد شيئاً من كارينين و لا تطلب منها أن تبادلها الحب . هي لم يخطر ببالها قط أن تطرح على نفسها الأسئلة التي تعذّب عادة العشاق البشر : هل يحبني ؟ هل أحب أحداً من قبل أكثر مني ؟ هل حبه لي أكبر من حبي له ؟ كل تلك الأسئلة التي تساور الحب و التي تعيشه و تتفحصه و تمتحنه و تدمّره ربّما و هو لما يزل جنيناً . إذا كنا غير قادرين على الحب فهذا ربما لأننا نرغب في أن نكون محبوبين ، أي لأننا نريد شيئاً من الآخر ( الحب ) بدل أن نجيئه دون شرط و ألا ترغب في شيء آخر سوى حضوره . و هناك شيء آخر : تيريزا قبلت كارينين كما هي . لم تسعَ في تغيرها لتصير نسخة عنها . بل أذعنت مسبقاً لعالمها ككلبة و لم نشأ مصادرته . فهي




لا تشعر بالحسد من ميولها السرية . و إذا كانت قد سهرت على تربيتها فهذا ليس من أجل أن نغيرها ، ( كما يريد رجل أن يغير زوجته أو كما تغير امرأة زوجها ) و لكن فقط لكي تعلّمها اللغة البدائية التي تسمح لها بأن يتفاهما و بأن يعيشا سوية . و هناك أيضاً شيء آخر : حبها لكلبتها إرادي و لم يجبرها أحد عليه . ( مرة أخرى ، تفكر تيريزا بأمها و تشعر بأسى كبير نحوها . لو كانت أمها إحدى نساء القرية غير المعروفات لكان بإمكانها أن تجد فظاظتها المرحة أمراً محبباً آه ! لكن فقط لو كانت أمها غريبة عن المدينة ! منذ الطفولة و تيريزا تخجل دائماً من أن تحتل أمها تقاسيم وجهها و أن تصادر لها ذاتها . و الأسوأ من ذلك أن الوصية الموغلة في القدم و التي تقول : (( أحببْ أباك و أمك )) كانت تجبرها على القبول بهذا الاحتلال و على أن تصف بالحب هذا الاعتداء ! هذه ليس غلطة أُمها إن كانت تيريزا قد قطعت علاقتها بها . لم تقطع علاقتها بأمها لأن أُمها كانت كما كانت ، بل لأنها كانت أمها ). و لكن تجدر الإشارة خصوصاً إلى هذا الأمر : لا يمكن لأي إنسان أن يقدم للآخر قربان الحب البريء . وحده الحيوان يستطيع ذلك لأنه لم يطرد من الجنة . . الحب بين الإنسان و الكلب حب بريء ، حب دون صراع و دون مشاهد ممزّقة و دون تطور . حول تيريزا و توماس كانت كارينين تخط دائرة حياتها المبنية على التكرار و كانت تنتظر منهما الشيء نفسه . لو كانت كارينين إنساناً بدل أن تكون كلبة لكان أكيداً أن تقول لتيريزا منذ زمن بعيد : (( اسمعي ، لم يعد يعجبني أن أحمل كل يوم فطيرة في فمي . ألا يمكنكِ أن تقدمي لي شيئاً آخر جديداً ؟ )) . و لكانت إدانة الإنسان كلها متمثلة في هذه الجملة . الوقت الإنساني لا يسير في شكل دائري بل يتقدم في خط مستقيم . من هنا ، لا يمكن للإنسان أن يكون سعيداً لأن السعادة رغبة في التكرار . نعم ، السعادة رغبة في التكرار ، تفكر تيريزا . عندما كان رئيس التعاونية يذهب لتنزيه مفيستو ، بعد انتهائه من




العمل ، و يلتقي بتيريزا ، لم يكن قط أن يقول : (( سيدتي لو أنني فقط التقيته من قبل ! كنا ذهبنا لمغازلة البنات معاً . فليست هناك أية امرأة تستطيع أن تقاوم خنزيرين ! )) عند هذه الكلمات ، كان الخنزير يطلق نخيراً ، فهو رُبّي من أجل هذا . و كانت تيريزا تضحك مع أنها كانت تعرف مسبقاً ما سيقوله له الرئيس . فالتكرار لم يكن يغيّر شيئاً من سحر هذه المزحة . بل على العكس ، حتى الفكاهة في سياق الحب البريء تخضع لشريعة التكرار العذبة .

5

بالمقارنة مع الإنسان ، لا يتمتع بأية امتيازات ، إلا أنه يملك امتيازاً يمكن تثمينه : القتل رحمةً به لا يحرّمه القانون ، و الحيوان يملك الحق في ميتة رؤوفة . كانت كارينين تمشي على ثلاث أرجل و تمضي أوقاتاً متزايدة و هي تنوح مضطجعة في الزاوية . كان توماس و تيريزا متفاهمين تماماً ، إذ ليس لهما الحق في أن يتركاها تشقى دون جدوى . و لكن اتفاقهما على هذا المبدأ لم يكن يجنَّبهما قلق الشك : كيف تمكن معرفة متى يصير العذاب غير مجدٍ ؟ و كيف نحدد اللحظة التي لا تعود الحياة فيها جديرة بأن تعاش ؟ لو أن توماس لم يكن طبيباً ! كان بإمكانه عندها أن يختبئ وراء شخص ثالث . و كان بإمكانه عندها أن يذهب لزيارة الطبيب البيطري و أن يطلب منه حقن الكلبة بالإبرة . إنه لأمر شاق أن يقوم المرء بنفسه بمهام الموت . كان توماس قد أعلن مراراً و بحزم أنه لن يغرز الحقنة بنفسه و أنه سوف يستدعي الطبيب البيطري . و لكنه فهم في النهاية أن بإمكانه أن يمنحها امتيازاً ليس في متناول أي كائن بشري : سيوافيها الموت في هيئة من يحبونها . كانت كارينين قد أمضت الليلة تتأوه . عند الصباح ، فحصها توماس ثم قال لتيريزا : (( لم يعد بالإمكان الانتظار )) . كان عليهما أن يذهبا إلى عملهما بعد قليل . ذهبت تيريزا لإحضار كارينين من الغرفة . حتى هذا الوقت ، بقيت ممددة بلا مبالاة ، ( و حتى قبل



قليل ، حين كانت تيريزا تتفحصها ، لم تُبدِ أي اهتمام ) و لكن عندما سمعت الباب يُفتح ، رفعت رأسها و نظرت إلى تيريزا . لم تقوَ تيريزا على تحمّل هذه النظرة ، و كادت أن تخفيها . لم تكن قط تنظر إلى توماس بهذه الطريقة بل إليها وحدها ، و لكن ليس بالحدّة نفسها كما الآن . لم تكن نظرتها يشوبها اليأس أو الحزن ، لا . كانت نظرة ثقة مرعبة و غير محتملة . كانت هذه النظرة سؤالاً لجوجاً و كأن كارينين قد انتظرت طيلة حياتها جواب تيريزا . كانت تحاول أن تفهمها الآن ( و بإلحاح أكثر من ذي قبل ) أنها لا تزال مستعدة لتلقّي الحقيقة منها (لأن كل ما كان يصدر عن تيريزا يمثل الحقيقة بالنسبة لها : كأن تقول لها مثلاً (( أجلسي )) ! أو (( نامي )) . كل هذه الأوامر هي بمثابة حقائق تتماثل معها و تعطي لحياتها معنى ). كانت هذه النظرة ذات الثقة المرعبة خاطفة . عادت بعد قليل و أسندت رأسها فوق أرجلها . كانت تيريزا تعرف أن لا أحد أبداً سينظر إليها بالطريقة هذه . لم يقدّما لها قط السكاكر من قبل ، و لكن منذ بضعة أيام ، اشترت لها ألواحاً من الشوكولا . نزعت عنها الورقة الفضية و قطعتها قطعاً صغيرة ثم وضعتها أمام الكلبة . و وضعت أيضاً قطعة مليئة بالماء كي لا تحتاج كارينين إلى شيء طول الساعات القليلة التي تبقى فيها وحدها في البيت . و لكن يبدو أن النظرة التي ألقتها عليها قد أتعبتها . فلم ترفع رأسها ثانية بالرغم من أنها كانت محاطة بقطع من الشوكولا . اضطجعَتْ على الأرض قربها و حملتها بين ذراعيها فشمَّمَتها ببطء كبير ، و لعقتها بلسانها مرة أو مرتين بتعب كبير . استسلمت لهذه المداعبة بعينين مغمضتين و كأنها تريد أن تحفرها في ذاكرتها إلى الأبد . أدارت رأسها لكي تلحس لها خدها الآخر أيضاً . ثم وجب عليها أن تنهض للاهتمام بالبقرات . لن ترجع إلا بعد الغذاء . و توماس لم يعد بعد . كانت كارينين لا تزال نائمة و هي محاطة بقطع الشوكولا ، و لم ترفع رأسها عندما سمعت تيريزا تقترب . كانت ساقها المريضة



متورمة ، و انتشر الورم في أماكن أخرى . ظهرت نقطة حمراء شاحبة ( لا تشبه الدم إطلاقاً ) بين الشعرات . و كما في الصباح ، تمددت على الأرض قربها و أحاطتها بذراعيها مغمضة عينيها . ثم سمعت قرعاً على الباب . (( دكتور! دكتور! ، ها قد أتاك الخنزير و رئيسه ! )) . كانت غير قادرة على الكلام مع أحد . لم تقم بحركة و أبقَتْ عينيها مغمضتين . ثم سمعت مرة أخرى : (( دكتور ، الخنازير أتت لتراك )) . ثم ساد الصمت من جديد . رجع توماس بعد نصف ساعة . ذهب إلى المطبخ من غير أن ينبس بكلمة لتحضير الحقنة . عندما رجع إلى الغرفة ، كانت تيريزا واقفة و كارينين تبذل جهداً للنهوض . عندما رأت توماس ، حرّكَتْ ذنبها بخفة . (( انظر ! قالت تيريزا ، لا تزال تبتسم )) . قالت ذلك بلهجة يشوبها التوسل و كأنها أرادت من خلال هذه الكلمات أن تلمّح بإرجاء بسيط للإعدام ، و لكنها لم تلح . مدّت ببطء شرشفاً على السرير . كان الشرشف أبيض مزيناً برسوم تمثل أزهاراً صغيرة بنفسجية اللون . على أية حال ، كانت قد جهزت مسبقاً كل شيء و فكرت بكل الأمور و كأنها تصوّرت موت كارينين منذ أيام عديدة . ( آه ! أي هول ! نحلم مسبقاً بموتِ مَنْ نحبهم ) . لم تكن لديها القوة لتقفز على السرير فحملاها بين أذرعتهما و رفعاها معاً . وضعها توماس على جنبها و فحص لها رجلها . كان يبحث عن مكان حيث يكون العِرق بارزاً و مرئياً بوضوح . قصّ لها الشعرات بمقص في هذا المكان . كانت كارينين راكعة أمام السرير و تحمل في يديها رأس كارينين ملاصقاً لوجهها . طلب منها توماس أن تمسك الرِجل الخلفية بحزم ، و تماماً فوق العرق الذي كان رفيعاً و يصعب أن تُغرز الإبرة فيه . أمسكت برجل كارينين من دون



أن تبعد وجهها عن رأسها . ثم أخذت تتحدث إليها دون توقف بصوت ناعم ، و كانت الكلبة لا تفكر إلا فيها . لم تكن خائفة ، لحست لها وجهها مرتين ، فيما تيريزا همست لها : (( لا تخافي ، لا تخافي ، هناك لن تشعري بالألم ، هناك ستحلمين بسناجب و بأرانب برية . و ستكون هناك بقرات و مفيستو أيضاً ، لا تخافي . . . )) . غرز توماس الإبرة في العرق و أنزل المكبس . فاهتزت رجل كارينين اهتزازاً خفيفاً ، و تسارع تنفسها ثم توقف نهائياً . كانت تيريزا ما تزال راكعة على الأرض أمام سريرها و تلصق وجهها برأسها . وجب عليهما أن يعودا إلى العمل .و بقيت الكلبة ممددة على السرير فوق الشرشف الأبيض المزين بأزهار بنفسجية . رجعا عند المساء . ذهب توماس إلى الحديقة و اهتدى إلى خطوط المستطيل الأربعة التي رسمتها تيريزا بين شجرتي التفاح منذ أيام قليلة . و أخذ يحفر مراعياً بدقة المقاييس المرسومة ، كان يريد أن يتم كل شيء حسب رغبة تيريزا . بقيت في البيت إلى جانب كارينين . كانت خائفة من أن يدفنا الكلبة و هي حية ، ألصقت أذنها بخطمها فخُيّل إليها أنها تسمع نَفَساً ضعيفاً . ابتعدت فرأت أن صدرها يتحرك قليلاً . ( لا ، لم تسمع غير تنفسها هي ، تنَفسها الذي ينقل الحركة إلى جسدها بالذات بطريقة غير مرئية ، و في ظنَّها أن صدر الكلبة هو الذي كان يتحرك ! ) . عثرت على مرآةٍ في حقيبتها فألصقتها بخطم الكلبة . . كانت المرآة متسخة جداً فحسبَت أنها ترى راجعاً أنها ترى البخار المتصاعد من نَفَسِ الكلبة . فصرخت بتوماس الذي كان راجعاً من الحديقة و حذاؤه مكسو بالوحل : (( توماس لا تزال على قيد الحياة ! )) . انحنى فوق الكلبة و أشار برأسه أن لا . أمسك كلُّ من ناحيته بطرف الشرشف حيث كانت كارينين ممدّدة ،



تيريزا من جهة الأرجل و توماس من جهة الرأس . ثم رفعاها و حملاها إلى الحديقة . شعرت تيريزا بأن الشرشف كان مبتلاً تحت يديها . ففكرت أنَّ الكلبة بمجيئها إلى العالم جلبت معها بركة ماء صغيرة و برحيلها منه تركت لنا بركة صغيرة . كانت سعيدة بهذه الرطوبة تحت أصابعها و كأنها وداع أخير من الكلبة . حملاها إلى ما بين شجرتي التفاح و أنزلاها في قعر الحفرة . انحنت لتسوّي الشرشف بشكل يلفّ جسد الكلبة كله . لم تكن تقوى على تحمل فكرة أن التراب الذي سيُلقيانه فوقها سيلامس جسدها العاري . توجهت بعد ذلك إلى البيت لتعود بالطوق و الرسن و حفنة من قطع الشوكولا التي بقيت على الأرض لم تمس منذ الصباح . ثم ألقت بكل هذا في القبر . إلى جانب الحفرة كومة من التراب المقلوب حديثاً . أمسك توماس بالرفش . كانت تيريزا تتذكر حلمها الذي أنجبت فيه كارينين فطيرتين و نحلة . . بدا لها فجأة أن هذه الجملة تشبه كتابة على ضريح . أخذت تتخيل نصباً تذكاريّاً قد أقيم بين شجرتي التفاح مرفوقاً بهذه الكتابة : (( هنا ترقد كارينين ، أنجبت فطيرتين هلاليّتين و نحلة )). بدأ الظلام يشتد في الحديقة . كان الوقت لا نهاراً و لا ليلاً ، و ظهر قمر شاحب في السماء مثل لمبة قد نُسِيت مضاءة في غرفة الموتى . . كان حذاؤهما مغطّى بالتراب . أرجعا المرّ (*) و الرفش إلى اللحيقة التي توضع فيها الأدوات من أمشاط و معاول و مناكيش .




(*) آلة للحفر .

6

عندما كان توماس يجلس أمام الطاولة في غرفته حيث كان يطالع كتباً ، كانت تيريزا تأتي لموافاته و تنحني فوقه ضاغطة وجهها على رأسه . عندما قامت بهذه الحركة في ذاك اليوم ، لاحظت أن توماس لم يكن يقرأ كتاباً . بل كانت هناك رسالة موضوعة أمامه و كان توماس شاخصاُ إليها بنظرة طويلة جامدة مع أنها لا تحوي خمسة أسطر مطبوعة . قالت تيريزا بقلق : (( ما هذا ؟ )) . و دون أن يستدير ، أخذ توماس الرسالة و أعطاها إياها . جاء فيها أن عليه أن يذهب في هذا النهار إلى مطار المدينة المجاورة . عندما أدار أخيراً رأسه ناحية تيريزا ، قرأت في عينيه الذعر نفسه الذي أحسّت به لتوه . قالت : (( سأرافقك )) . هزّ رأسه نفياً : (( هذه الدعوة لا تخصني إلا أنا )) . رددت : (( لا ، أريد أن أصطحبك )) ثم صعدا في شاحنة توماس . بعد وقت قليل وصلا إلى مدرج المطار . كان الضباب يلف المكان . كانت تتوالى أمامهما و بطريقة مبهمة أشباح طائرات . كانا ينتقلان من طائرة إلى أخرى و لكن أبواب هذه الطائرات كلها مقفلة و لم يكن هناك من وسيلة للدخول . و أخيراً وجدا طائرة بابها الأمامي مفتوح و السلم منزل . صعدا الدرجات و ظهر مضيف في إطار الباب مشيراً لهما بالمتابعة . كانت الطائرة صغيرة بالكاد تتسع لثلاثين مقعداً و فارغة تماماً . تقدما عبر الممر بين المقاعد و هما لا يزالان ممسكين بعضهما ببعض و دون أن يهتما إطلاقاً لما يجري حولهما . جلسا جنباً إلى جنب على مقعدين و ألقت تيريزا رأسها على كتف توماس . تبدد الهلع الأولي ليحل مكانه الحزن . الهلع صدمة ، لحظة عمى كلي . الهلع مجرد من أي مسحة جمال . لا نرى خلاله إلا النور المبهر للحدث المجهول الذي ننتظره . و خلافاً لذلك ،


الحزن يفترض مسبقاً أننا نعرفه . كان توماس و تيريزا يعرفان ماذا كان ينتظرهما . أخذ بريق الهلع يحتجب لينكشف العالم في إضاءة مغبشة و عذبة تجعل الأشياء أكثر جمالاً من ذي قبل . لحظة قرأت تيريزا الرسالة ، لم تكن تشعر بحب لتوماس . كانت تفكر فقط بأنه يجب ألا تتركه ثانية واحدة . كان الهلع يخنق كل المشاعر الأخرى و كل الانطباعات الأخرى . الآن و قد التصقت به ( كانت الطائرة تحلّق وسط الغيوم ) زال الخوف و أحست بالحب . كانت تعرف أن هذا الحب لا قياس له و لا حدّ . حطّت الطائرة أخيراً . نهضا و توجها نحو الباب الذي فتحه المضيف . كانا يقفان متعانقين على الدرجات في أعلى السلم . شاهدا في الأسفل ثلاثة رجال يضعون كاغوليات (1) فوق وجوههم و يحملون بنادق في أيديهم . . كان التردد غير مجدٍ لأن لا وسيلة للفرار . نزلا الدرج ببطء . و عندما وضعا أقدامهما على المدرج ، رفع أحد الرجال بندقيته و صوبها . لم تُحدثْ صوتاً و لكن تيريزا أحست بأن توماس الذي كان يلتصق بها منذ دقيقة و يحيطها بذراعيها قد تهاوى ساقطاً على الأرض . أرادت أن تضمه إليها و لكنها لم تستطع إمساكه . سقط على باطون المدرج . انحنت راغبة في أن ترتمي فوقه لتغمره بجسدها ، و لكن حدث في هذه اللحظة شيء غريب : أخذ جسده يتضاءل أمام عينيها بسرعة ، بسرعة عجيبة لدرجة أنها بقيت جامدة و مسمّرة في مكانها . كان جسد توماس يتقلص أكثر فأكثر حتى لم يعد يشبه توماس بشيء . لم يبق من توماس سوى شيء صغيرة للغاية . و هذا الشيء الطفيف أخذ يتحرك ثم بدأ يركض فارّاً على مدرج الطائرات . نزع الرجل الذي أطلق الرصاص قناعه و ابتسم بطريقة لطيفة لتيريزا . ثم التفتت و أخذ يلاحق هذا الشيء الصغير الذي كان يركض متعرجاً من هنا و هناك و كأنه يتحاشى أحداً ما و يبحث عبثاً عن ملجأ . دارت المطاردة بضع



(1) الكاغولية : جُبّة للرأس لا يبرز منها إلاّ العينان يلبسها أعضاء الكاغول الإرهابيون .

لحظات ، ثم ألقى الرجل بنفسه فجأة على الأرض فانتهت المطاردة . ثم نهض و جاء إلى تيريزا . كان يحمل لها الشيء في يديه . و كان هذا الشيء يرتجف خوفاً . كان الشيء أرنباً برياً فقَدَّمه إلى تيريزا . عندها اختفى الرعب و الحزن . سرّت لأنها أمسكت بهذا الحيوان الصغير بين يديها ، حيوان صغير لتمتلكه و تضمه إلى صدرها . . ذرفت الدموع من السعادة . كانت تبكي دون أن تتوقف من البكاء و لا ترى شيئاً من خلال دموعها . ثم حملت الأرنب البري إلى بيتها و هي تقول في نفسها إنها اقتربت أخيراً من مبتغاها ، و إنها كانت حيث ترغب في أن تكون وحيث لم يعد هناك داعٍ للهرب . اتجهت عبر شوارع براغ و بلغت بيتها بسهولة . بيتها الذي عاشت فيه مذ كانت صغيرة . لم يعد أبوها و أُمّها يسكنان فيه . استقبلها عجوزان لم ترهما من قبل و لكنها كانت تعرف أنهما والد جدتها و أم جدها . كان وجه كليهما مجعداً كقشرة شجرة ، و كانت تيريزا سعيدة لأنها تسكن معهما .و لكنها الآن ، رغبت في أن تكون لوحدها مع حيوانها الصغير . اهتدت دون صعوبة إلى الغرفة التي كانت تسكن فيها منذ سن الخامسة ، حين قرّر والدها أنها باتت تستحق أن تكون لها غرفة خاصة بها . كانت الغرفة مؤثثة بسرير و طاولة صغيرة و كرسي . على الطاولة كان هناك مصباح مضاء ينتظرها منذ ذلك الوقت . و فوق هذا المصباح كانت تستلقي فراشة جناحاها مفتوحان مزيّنان بعينين كبيرتين و ملوّنتين . كانت تيريزا تدرك أنها توشك أن تلامس الهدف . فتمددت على السرير و ألصقت الأرنب البري إلى وجهها .

7

كان جالساً أمام الطاولة التي كان يركن إليها دائماً لقراءة الكتب . . كان أمامه ظرف مفتوح و رسالة . . قال لتيريزا : أتلقى من وقت لآخر رسالة . . لم أكن أنوي أن أتحدث بشأنها إليك . و هي من ابني . فعلت كل ما في وسعي لأتحاشى أي اتصال لحياتي بحياته . و انظري بأي طريقة انتقم القدر منّي .


فهو قد طُرد من الجامعة منذ بضع سنوات و يعمل الآن سائقاً لشاحنة زراعية في إحدى القرى . صحيح أن لا اتصال بين حياتي و حياته . و لكنهما رُسمتا جنباً إلى جنب في الاتجاه نفسه مثل خطين متوازيين . قالت تيريزا و كأنَّ حملاً قد أزيح عنها : و لماذا لم تشأ أن تخبرني عن هذه الرسائل ؟ ــ لا أعرف . كان الأمرُ ينفرني . ــ و هل يراسلك مراراً ؟ ــ من وقت لآخر . ــ و عمَّ يحدثك ؟ ــ عن نفسه . ــ و هل مهم ما يقوله ؟ ــ نعم . أمه كما تعرفين كانت شيوعية مسعورة . قطع علاقته بها منذ وقت طويل . و ارتبط بأشخاص كانوا في مثل وضعنا . حاولوا أن يقوموا بنشاط سياسي . بعضهم موجود الآن في السجن . و لكنه خاصمهم أيضاً و ابتعد عنهم . يصفهم (( بالثوار الأبديين )) ؟ . ــ هل تصالح و هذا النظام ؟ ــ لا إطلاقا ً، إنه مؤمنذ و يعتقد أن الإيمان هو أساس كل شيء و حسب رأيه ، كل واحد فينا يجب أن يعيش الحياة اليومية وفقاً للقواعد التي نصَّ عليها الدين ، دون أن يقيم أي اعتبار للنظام . يجب أن نتجاهل النظام . و حسب رأيه ، إذا كنّا مؤمنين بالله فنحن قادرون بالتالي على أن نُرسي في أي ظرف كان من خلاله مسلكنا ما يسمّيه (( مملكة الله على الأرض )) , و يشرح لي أيضاً أن الكنيسة هي المؤسسة الاختيارية الوحيدة في بلادنا المتفلتة من رقابة الدولة . مما يجعلني أتساءل هل ممارسته للدّين هي لمقاومة النظام بشكل أفضل أم هل هو مؤمن حقاً . ــ حسناً ! إطرح عليه هذا السؤال ! .



ــ تابع توماس : كنت دائماً من المعجبين بالمؤمنين . كنت أعتقد أنهم يملكون الموهبة الخاصة للإدراك الخارج عن النطاق الحسي ، و الذي امتنع عليّ . و لكني أدرك الآن ، متمثلاً بابني ، أنَّ كون المرء مؤمناً أمر سهل للغاية . فعندما وجد ابني نفسه في موقع حرج اهتمَّ به أُناس كاثوليكيون فاكتشف فجأة الإيمان . ربما قرر ذلك كعرفان للجميل . فالقرارات الإنسانية سهلة بشكل لا يصدق . ــ ألم تُجب قط على رسائله ؟ ــ لم يكتب عنوانه . ثم أضاف : (( يوجد بالطبع عنوان القرية على ختم البريد . يكفي أن أبعث برسالة إلى التعاونية المحلية )) . كانت تيريزا تشعر بالذنب لشكوكها بتوماس . و أرادت أن تصلح خطأها باندفاعة كريمة مباغتة نحو ابنه : (( لماذا لا تكتب له إذاً ؟ لماذا لا تدعوه ؟ )) . قال توماس : إنه يشبهني . عندما يتكلم يقوم تماماً بالتكشيرة ذاتها رافعاً شفته العليا . أنْ أرى فمي بالذات يتكلم من مملكة الله ، يبدو لي أمراً غريباً للغاية . انفجرت تيريزا ضاحكة . و ضحك توماس معها . قالت تيريزا : (( توماس لا تكن صبيانيّ التفكير . . إنها حكاية قديمة أنت و زوجتك الأولى . بماذا تعنيه هو هذه الحكاية ؟ ما هو الشيء المشترك بينه و بينها ! إذا كان ذوقك سيئاً في شبابك ، فهل هذا سبب كافٍ لكي تؤذي أحداً ما ؟ )) . ــ لكي أكون صادقاً معك ، ها اللقاء يجعلني متهيباً . و لأجل هذا خاصة لا رغبة لي في رؤيته . لا أعرف لماذا كنت عنيداً إلى هذا الحد . ذات يوم نأخذ قراراً لا نعرف كيف . فيضع هذا القرار قوة استمراره . و مع كل سنة تمر يصعب علينا تغييره أكثر .



قالت له : (( ادعه لزيارتك ! )) . حين كان راجعاً بعد الظهر من الإسطبل ، سمعَتْ أصواتاً صادرة عن الطريق . عندما اقتربت رأت شاحنة توماس . كان توماس منكباً على معالجة أحد الدواليب ، و حوله جماعة تراقبه منتظرة أن ينتهي من التصليح . كانت جامدة ، شاخصة : كان توماس يبدو عجوزاً . كان شعره رمادياً و الرعونة التي يتصرف بها لم تكن رعونة طبيب أصبح سائق شاحنة و إنما رعونة رجل لم يعد شاباً . فتذكرت مقابلة حديثة العهد مع رئيس التعاونية ، قال خلالها إن شاحنة توماس في حالة سيئة جداً . قال ذلك على سبيل المزاح و ليس على سبيل الشكوى ، و لكنه مع ذلك بدا قلقاً . . ثم قال و هو يضحك : ((( توماس يعرف مما يتألف المحرّك )) . ثم أسرّ لها بأنه قام بعدة إجراءات مع الإدارة لكي يتمكن توماس من ممارسة الطب في المقاطعة . فعلم أن الشرطة لن تسمح له بذلك أبداً . اختفت خلف جذع شجرة كي لا يراها الرجال المحيطون بالشاحنة و لكنها لم تُشِحْ ببصرها عنهم . كان قلبها مثقلاً بالندم : لقد ترك زوريخ بسببها ليرجعها إلى براغ . و حتّى في براغ لم تكفّ هي عن مناكدته ، و حتى أمام كارينين المحتضرة ، كانت قد عذبته بشكوكها . في صميم أعماقها كانت لامته دائماً على عدم محبته لها بما فيه الكفاية . كانت تعتبر حبها له فوق كل ملامة و لكن حبه لها كان تنازلاً بسيطاً . ها هي ترى الآن كم كانت ظالمة بحقه : لو أنها كانت تحب فعلاً توماس هذا الحب الكبير ، لبقيت معه في الخارج ! هناك كان توماس سعيداً و كانت حياة جديدة تُفتح أمامه ! و هي تركته و ذهبت ! بالطبع كانت مقتنعة آنذاك بأنها تتصرف بمروءة لكي لا تكون عبثاً عليه . و لكن هذه المروءة ، هل كانت شيئاً آخر سوى خدعة ؟ فهي كانت تعرف أنه سيعود لموافاتها ! استدعته لتجذبه أكثر فأكثر نحو الأسفل كما تجذب الساحرات المزارعين إلى




المخثَّات (1) و تتركهم يغرقون هناك . . ثم استغلّت لحظة مغصٍ أصيب به في معدته لكي تبتز منه وعداً بالذهاب سوية للعيش في الريف ! كم كانت محتالة ! كانت قد نادته ليلحق بها و ها إنها في كل مرة تضعه قيد التجربة لكي تتأكد من أنه يحبها . نادته إلى أن وجد نفسها هنا : غزاه الشيب ، متعب ، أصابعه المتصلبة لم تعد باسطاعتها قط أن تمسك بمبضع الجراح . ها قد وصلا إلى نهاية المطاف ، إلى أين بإمكانهما الذهاب بعد ؟ لن يُسمح لهما أبداً بالذهاب إلى الخارج . و ليس في إمكانهما أيضاً الرجوع إلى براغ لأن لا أحد سيمنحها عملاً . و ماذا يفيد الذهاب إلى قرية أُخرى ! يا إلهي ، هل كان الأمر يقتضي فعلاً المجيء حتى هنا لكي يتيقَّن من أنه يحبّها ! نجح توماس أخيراً في معالجة دولاب الشاحنة . فقفز الصبية على جوانب الشاحنة و دوّى المحرّك . رجعت إلى البيت و استحمّت . كانت تتمدد في المياه الساخنة و تفكر بأنها استغلّت طوال حياتها ضعفها لتواجه توماس . كلنا نميل لأن نرى في القوة مذنباً و في الضعف ضحية بريئة . و لكن تيريزا فهمت الآن : كان العكس هو الصحيح في مثل وضعها . حتى أحلامها كانت ، و كأنه عارفة بنقطة الضعف الوحيدة عند هذا الرجل القوي ، تعرض له مشاهد عن عذاب تيريزا لتُجبره على التراجع ! كان ضعف تيريزا ضعفاً عدائياً يجبره في كل مرة على الرضوخ . إلى أن جاء الوقت الذي كفّ فيه عن أن يكون قوياَ و تحوّل إلى أرنب بين يديها . كانت تفكر طيلة الوقت بهذا الحلم . خرجت من المغطس و ذهبت لترتدي فستان سهرة . كانت تريد أن تكون في أبهى حلة لتعجبه و تُدخل المسرة إلى قلبه . كانت تبكّل زرّها الأخير عندما ظهر توماس فجأة في البيت يتبعه رئيس



(1) الخث : تراب عضوي قابل للاشتعال يتكوّن من الانحلال البطيء لبعض النباتات الطحلبية .

التعاونية و مزارعٌ شاب شحوب الوجه بشكل واضح . قال توماس : (( قليلاُ من العرق ، بسرعة ! قليلاً من مشروب قوي ! )) . ركضت تيريزا لكي تفتش عن قنينة من مشروب الخوخ . سكبت من هذا المشروب في قدح ، فأفرغه الرجل الشاب دفعة واحدة . في أثناء ذلك ، كان يشرح له ما حدث : خلع الرجل الشاب كتفه أثناء العمل فصرخ زاعقاً من الألم . لم يكن أحد يعمل ماذا يفعل . ثم نودي على توماس الذي أرجع بضربة واحدة ذراعه إلى مكانها . ابتلع الرجل الشاب قدحاً آخر ، ثم قال لتوماس : ــ (( زوجتك رائعة جداً ، اليوم ! )) . قال الرئيس : (( أيها الغبي ، سيدة تيريزا هي دائماً جميلة )) . قال الشاب : (( أعرف أنها جميلة دائماً . و لكنها اليوم وضعت ثوباً جميلاً فصارت أجمل من كل الأيام . لم نركِ من قبل في هذا الثوب . هل أنت ذاهبة في زيارة ؟ )) . ــ لا ، ارتديته من أجل توماس . قال الرئيس : (( أنت محظوظ يا دكتور . زوجتي ليست تلك السيدة البورجوازية التي تلبس أزهى الثياب لكي تسرَّني )) . قال الشاب : (( إذاً ، من أجل هذا تخرج مع خنزير بدل أن تخرج مع زوجتك )) . و ضحك طويلاً . قال توماس : كيف حال مفيستو . لم أره منذ ، على الأقل . . . ( بدا و كأنه يفكر ) ساعة . قال الرئيس : أخذ يضجر مني . قال الرجل الشاب لتيريزا : عندما أراك في هذا الثوب الجميل أشعر برغبة في الرقص معك . هل ستتركني أرقص معها يا دكتور ؟


فقالت تيريزا : جميعنا سنذهب إلى الرقص . قال الفتى لتوماس : هل تأتي معنا ؟ سأل توماس : لكن أين ؟ أشار الفتى إلى بلدة في الجوار يوجد فيها فندق و حانة و حلبة للرقص . ثم قال الرجل الشاب للرئيس بلهجة قاطعة : (( تأتي معنا )) . و بما أنه كان يشرب كأسه الثالثة من مشروع الخوخ ، أضاف : (( إذا كان مفيستو كئيباً ، فلنصطحبه معنا ! و هكذا سنذهب برفقة خنزيريْن ! و كل الجميلات سيقعن أرضاً لدى رؤيتهن خنزيرين قادمين باتجاههن ! )) . ثم انطلق بضحكة طويلة . قال الرئيس : (( إذا كان مفيستو لا يزعجكم ، سآتي برفقته )) . ثم صعد الجميع إلى الشاحنة . جلس توماس أمام المقود ، و جلست قربه تيريزا ، أما الرجلان الآخران فأخذا مكانيهما في الخلف ، مع قنينة عرق نصف فارغة . كانا قد غادرا القرية عندما تذكر الرئيس فجأة أنه نسي مفيستو في البيت . فصاح بتوماس ليقفل راجعاً . فقال الرجل الشاب : (( لا داعي لهذا العناء ، خنزير واحد يكفي )) . فهدأ الرئيس . كان النهار يشرف على الانتهاء . و كانت الطريق تبدو متعرجة . وصلوا إلى المدينة و توقفوا أمام الفندق . لم يكن توماس و تيريزا قد قصداه من قبل . كان هناك درج يؤدي إلى تحت الأرض حيث توجد حانة و حلبة رقص و بضع طاولات . كأن هناك رجل ستّيني يعزف على بيانو ترافقه سيدة في مثل عمره في العزف على الكمان . كانا يعزفان أنغاماً تعود إلى أربعين سنة . . و كان هناك أربعة أو خمسة أزواج يرقصون على الحلبة . جال الرجل الشاب الصالة كلها بعينيه ثم قال : (( ليست هناك أية واحدة من أجلي هنا ! )) . و دعا حالاً تيريزا إلى الرقص . جلس الرئيس و توماس أمام طاولة فارغة ، و أمر بزجاجة نبيذ .


اعترض توماس : لا يمكنني أن أشرب . فـأنا أقود! قال الرئيس : و ماذا بعد ؟ سنمضي الليلة هنا . سأحجز غرفتين . عندما رجعت تيريزا مع الشاب من الحلبة ، دعاها الرئيس للرقص . ثم رقصت أخيراً مع توماس . قالت له و هما يرقصان : (( توماس أنا السبب في كل سوء لحق بك . بسببي أنا جئت إلى هنا . أنا التي أنزلتك إلى هذا المستوى المنحطّ ، بحيث لا يوجد هناك ما هو أحطّ منه )) . فاعترض توماس قائلاً : لا بدّ أنك تهذين . ثم ماذا تعنين بقولك (( ما هو أحطّ منه ؟ )) . ــ لو أننا بقينا في زوريخ لكنتَ الآن تجري العمليات لمرضاك . ــ و لكنتِ أنتِ تلتقطين الصور . فقالت تيريزا : لا يمكننا المقارنة . بالنسبة لك عملك يهمك أكثر من أي شيء في العالم . أما أنا فيمكنني أن أقوم بأي شيء و لا أبالي . أنا لم أخسر شيئاً . أنت من خسر كل شيء . قال توماس : تيريزا ، ألم تلاحظي أنني سعيد هنا ؟ ــ كانت رسالتك أن تقوم بإجراء العمليات . ــ رسالة ؟ تيريزا ، إن ما تقولينه شيء تافه . لا رسالة لي . و لا أحد يملك رسالة . إنها لتعزية لا تقدّر بأن تشعر بأننا أحرار و أن لا رسالة لدينا . استناداً إلى لهجته ، بدا مستحيلاً أن نشك في صدقه . استعادَتْ مشهد بعد الظهر : كان يعالج الشاحنة فاكتشفت أنه صار عجوزاً . ها قد وصلت إذاً إلى مبتغاها : كانت قد رغبت دائماً في أن يصير عجوزاً . و فكرت مرة أخرى بالأرنب الذي ألصقته إلى وجهها في غرفتها التي كانت تعيش فيها عندما كانت صغيرة . لكن ماذا يعني هذا ؟ ماذا يعني أن نتحول إلى أرنب ؟ هذا يعني أن



ننسى قوتنا . هذا يعني أنه لم تعد لدينا القوة ، لا نحن و لا الآخر . كانا يروحان و يجيئان قائمين بحركات راقصة على أنغام البيانو و الكمان . كانت تيريزا تلقي رأسها فوق كتفه . و كما في الطائرة التي حملتهما عبر الضباب ، كانت تشعر الآن بالسعادة الغريبة نفسها ، و بالحزن الغريب نفسه . و هذا الحزن ، كان يعني : لقد أصبحنا عند المحطة الأخيرة ، و هذه السعادة تعني : إلا أننا ما زلنا سوية . كان الحزن هو القالب و السعادة هي المحتوى ، و السعادة تملأ مساحة الحزن . رجعا إلى طاولتهم . ثم رقصت أيضاً مرتين مع الرئيس و مرة مع الشاب الذي كان ثملاً إلى درجة أنه تهاوى على الحلبة . ثم صعد الأربعة و دخلوا إلى غرفهم . أدار توماس المفتاح و أضاء الثريا . رأت سريرين ملتصقين بعضهما ببعض و قربهما طاولة سرير و فوقها مصباح . طارت فراشة ليليّة كبيرة مذعورة من الضوء عن الأباجور ، و أخذت تحوم في الغرفة . من الأسفل كان يتناهى إلى سمعهما الصدى الخافت لعزف البيانو و الكمان .



الفهرس القسم الأول : الخفة و الثقل . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 5 القسم الثاني  : الروح و الجسد . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 35 القسم الثالث : الكلمات غير المفهومة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 69 القسم الرابع : الروح و الجسد . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 113 القسم الخامس : الخفة و العقل . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 151 القسم السادس : المسيرة الكبرى . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 215 القسم السابع : ابتسامة كارينين . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .247


ميلان كونديرا كائن لا تُحتمل خفْته