قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 - خاتمة في الفردوس

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 12782

قصة الحضارة -> عصر فولتير -> خاتمة في الفردوس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خاتمة في الفردوس

(شخصا الحوار البابا بندكت الرابع عشر وفولتير)

(المشهد: مكان في ذاكرة البشر الشاكرة)


بندكت: إني سعيد برؤيتك هنا يا سيدي، فعلى الرغم من أنك آذيت كثيراً الكنيسة التي قدر لي أن أكون على رأسها طيلة ثمانية عشر عاما، فقد أحسنت صنعاً بشن الحملة على آثام الكنيسة وأخطائها والمظالم التي أخزتنا جميعاً في عصرك. فولتير: أنت الآن كما كنت في حياتك أرق الباباوات حاشية وأكثرهم صفحاً. وإذا كان كل خادم من خدم الله مثلك لتحققت من أن آثام الكنيسة هي خاصية طبيعية في الإنسان، ولبقيت أجل وأحترم هذا النظام العظيم. وإنك لتذكر أنني لمدة خمسين عاماً احترمت اليسوعيين. بندكت: أذكر ذلك، ولكنك اشتركت في الهجوم عليهم في نفس الوقت الذي كانوا قد خفضوا فيه من دسائسهم السياسية، وكانوا يقفون فيه بشجاعة ضد فسق الملك ومجونه وإباحيته. فولتير: كان جديراً بي أن أعرف أكثر من أن أقف إلى جانب الجانسنيين في تلك القضية. بندكت: حسناً أنت ترى الآن أنك أيضاً قد تخطئ مثل البابا. والآن وقد وجدتك معتدل المزاج، دعني أحدثك لماذا بقيت أنا مخلصاً للكنيسة التي تخليت أنت عنها. فولتير: أن هذا يشوقني كثيراً. بندكت: أخشى أن أرهقك لأني سأطيل الحديث، ولكن تذكر كم ألفت أنت من مجلدات.

فولتير: كثيراً ما تاقت نفس لزيارة روما، وكم كان يسعدني أن تتحدث إليّ. بندكت: وكثيراً ما رغبت في التحدث إليك. ويجدر بي أن اعترف بأني تمتعت بذكائك وبراعتك، ولكن تألق ذكائك هو الذي ضللك. من العسير أن تكون متألقاً بارعاً ومحافظاً، إنه لا يروق العقول النشيطة كثيراً أن تقف إلى جانب التقاليد والسلطة، وهناك ما يغريها بالنقد. حيث يمكن أن تشعر بلذة النزعة الفردية والإبداع والجدة، ولكن في الفلسفة يكاد يتعذر أن يكون الإنسان أصيلاً إلا إذا كان مخطئاً. وإني لأتحدث إليك، لا بصفتي كاهناً أو رجل لاهوت، ولكن بصفتي فيلسوفاً يتحدث إلى فيلسوف. فولتير: أشكرك، لقد كان هناك كثير من الشك في كوني فيلسوفاً. بندكت: لقد كنت حصيفاً، فلم تصطنع منهجاً جديداً. ولكنك ارتكبت خطأ فاحشاً أساسياً. فولتير: ما هو؟ بندكت: ظننت أنه من الميسور لذهن واحد على مدى حياة واحدة أن يكتسب هذا القدر من المعرفة وعمق التفكير، مما يجعله صالحاً لينصب نفسه حكماً على حكمة الجنس البشري كله-على تقاليد ونظم شكلتها خبرة الناس وتجربتهم عبر القرون. فالتقاليد بالنسبة للجماعة هي بمثابة الذاكرة للفرد. وكما أن أي خلل في الذاكرة قد يؤدي إلى الجنون، فأن أية مخالفة مفاجئة للتقاليد قد تنزلق بالأمة بأسرها إلى هاوية الجنون، مثل فرنسا في الثورة. فولتير: أن فرنسا لم تصب بالجنون، ولكنها ركزت في عقد من السنين على تراكم من استياء وغيظ أثناء قرون من الظلم الجور، فضلاً عن ذلك فأن "الجنس" الذي تتحدث عنه ليس "ذهناً"، بل هو مجموعة وتسلسل لأفراد غير معصومين من الخطأ، وليست حكمة الجنس إلا مجموعة مركبة من أخطاء الأفراد وحسن تبصرهم، وماذا حدد أي العناصر من هذا الحطام من الأفكار سينتقل إلى الأعقاب والذراري ويسترعي انتباه الزمن؟ بندكت: إن نجاح الأفكار في تجارب الجماعات والأمم هو الذي حدد البقاء لبعض الأفكار وفناء الباقي. فولتير: لست متأكداً، فربما كان التحيز متسربلاً ثياب السلطة هو الذي حدد في كثير من الحالات أي أفكار يجب الاحتفاظ به، وربما منعت الرقابة ألفاً من الأفكار الطيبة من الدخول إلى تقاليد الجنس البشري. بندكت: أظن أن خلفائي فكروا في الرقابة وسيلة لمنع انتشار الأفكار التي قد تقوض الأساس الأخلاقي للنظام الاجتماعي، والمعتقدات المؤثرة التي تساعد الناس على احتمال أعباء الحياة وأني لأسلم بأن مراقبينا قد ارتكبوا أخطاء جسيمة مثل ما حدث مع جاليليو-ولو أني أرى أنا كنا أكثر اعتدالاً معه مما سول أتباعك لكثير من الناس أن يعتقدوا. فولتير: قد تكون تقاليد إذن خاطئة ظالمة وتكون حجر عثرة في سبيل تقدم التفاهم. وكيف يتقدم الإنسان إذا حرم مناقشة التقاليد؟ بندكت: ربما كان علينا أن نناقش التقدم أيضاً. ولكن فلنطرح هذه المسألة جانباً الآن مؤقتاً. أعتقد أنه يجدر بنا أن نناقش التقاليد والنظم مع حرصنا على ألا نهدم أكثر مما نبني، ومع الحذر من أن الحجر الذي نزعزعه من مكانه لا يكون ضرورياً لتدعيم ما نريد الإبقاء عليه. على أن نعي دائماً حقيقة متواضعة، تلك هي أن خبرة الأجيال قد تكون أفضل وأحكم من العقل فرد عابر. فولتير: ومع ذلك فالعقل أجل نعمة أنعم الله بها علينا.

بندكت: لا، الحب هو أكبر نعمة. أنا لا أريد الانتقاص من قيمة العقل ولكن يجب أن يكون خادم الحب لا خادم الغرور والزهو. فولتير: أنا غالباً ما سلمت بهشاشة العقل وسهولة انقياده. أنا أعلم نزوعه إلى إثبات كل ما توحي به رغباتنا. أن صديقي البعيد ديدرو كتب في مكان ما أن حقائق الشعور أكثر ثباتاً من حقائق العرض المنطقي(1). إن المتشكك الحقيقي لابد أن يرتاب في العقل أيضاً. وربما بالغت أنا في العقل لأن ذلك الرجل المجنون روسو بالغ في الوجدان. وفي رأيي أن إخضاع العقل للوجدان أشد خطراً من إخضاع الوجدان للعقل. بندكت: إن الإنسان، مل إنسان، محتاج إليهما كليهما في تفاعلهما. ولكني الآن أتساءل هل لك أن تصاحبني إلى خطوة أبعد؟ ألا تتفق معي في أن أنصع معرفة مباشرة هي معرفتنا أننا موجودون وأننا نفكر؟ فولتير: حسناً؟ بندكت: إذن نحن نعرف الفكر بطريق مباشر أكثر مما نعرف أي شيء آخر. فولتير: عجيب! أعتقد أننا نعرف الأشياء قبل أن تتحول إلى أنفسنا ونتبين أنا نفكر. بندكت: ولكن اعترف أ،ك حين تنظر إلى نفسك تدرك حقيقة مختلفة تمام الاختلاف عن المادة التي تميل أحياناً إلى أن تختزل إليها كل شيء. فولتير: أنا أشك في هذا، ولكن استمر. بندكت: واعترف أيضاً بأن ما تراه حين تنظره في داخل نفسك هو بعض من واقع الاختيار ومن حرية الإرادة. فولتير: أنت تنطلق بسرعة. أيها الأب، لقد اعتقدت يوماً بأني نعمت بدرجة معتدلة من الحرية، ولكن المنطق أرغمني على قبول القضاء والقدر. بندكت: أي أنك أخضعت ما أدركت مباشرة لما انتهيت إليه مت عملية تفكير طويلة مزعزعة. فولتير: أنا لم استطع أن أدحض آراء صانع العدسات الصغير العنيد سبينوا. هل قرأت له؟ بندكت: بالطبع قرأت. إن البابا ليس مقيداً بقائمة معينة من الكتب المهذبة. فولتير: أنت تعرف أننا اعتبرناه ملحداً. بندكت: يجدر بنا ألا نخلع النعوت والألقاب بعضنا على بعض. أنه كان محبباً إلى نفسي، ولكنه كان مكتئباً إلى حد لا يطاق. أنه رأى الله بطريقة شاملة إلى حد لم يترك مجالاً للشخصية الإنسانية. أنه كان متديناً مثل أوغسطين، وقديساً عظيماً مثله. فولتير: إني أحبك يا بندكت. أنك أرحم به مني. بندكت: فلنتابع حديثنا، أسألك أن توافق على أن الفكر والوعي والإحساس بالشخصية عي أعظم الحقائق المعروفة لنا بطريق مباشر. فولتير: حسناً..هذا مسلم به. بندكت: وعلى هذا أشعر بأنني نحق في رفض المادية الإلحاد والجبرية. فكل منا روح والديانة تبنى على هذه الحقيقة. فولتير: فلنسلم بكل هذا، فكيف نجيز تلك المجموعة الضخمة من السخافات التي أضيفت إلى مذهب الكنيسة قرناً بعد قرن؟ بندكت: أنا أعلم أن هناك سخافات كثيرة وأشياء كثيرة لا تصدق، ولكن الناس كانوا يتصايحون من أجلها، وفي كثير من الأحيان نجد الكنيسة في تقبلها لهذه الأعاجيب، كانت تخضع للمطلب العام الواسع الانتشار، وإذا أنت انتزعت من الناس المعتقدات التي نجيز لهم اعتناقها، فأنهم سيعتنقون أساطير وخرافات لا ضابط ولا حصر لها. أن الديانة المنظمة لن تخترع خرافة، بل تحول دونها. اقضِ على أية ديانة منظمة فسيحل محلها هذه المتاهة من الخرافات المخلة التي تنشأ ضغثاً على أبالة في المسيحية وتزيد في جراحها. ومع ذلك ففي العلم أشياء لا تصدق أكثر منها في الديانة. أهناك شيء أبعد على التصديق من الاعتقاد بأن حالة بعض سديم بدائي هي التي حددت وفرضت كل سطر في رواياتك؟ فولتير: وما بالك بحكايات القديسين عير القابلين للاحتراق حين يلقى بهم في النار، وحكاية القديس الذي ضرب عنقه ومشى ورقبته في يده، وحكاية مريم التي رفعت إلى السماء-أنا لم أهضم هذه الحكايات كلها. بندكت: أن معدتك كانت ضعيفة دائماً. إن الناس لا يجدون فيها شيئاً عسيراً لأن هذه الحكايات جزء من عقيدة تساند حياتهم ويجدون فيها بعض العزاء. وهذا هو السبب في أنهم لن يعيروك أذناً صاغية طويلاً، حيث أن أنفاس حياتهم لا تتوقف على الإصغاء إليك-وهكذا ففي الصراع بين الإيمان والكفر، فأن الإيمان يكسب المعركة دائماً. أنظر كيف تكسب الكثلكة غرب ألمانيا، وتستعيد فرنسا الكافرة، وتسود أمريكا اللاتينية، ويشتد عودها في أمريكا الشمالية، حتى في أرض الحجيج والبيوريتانيين. فولتير: أنا أرى أحياناً، أيها الأب أن ديانتكم تستعيد مكانتها، لا عن طريق صدق عقيدتكم، ولا عن طريق الجاذبية في أساطيركم، ولا بفضل استخدامكم البارع للمسرحية والفن، ولكن بفضل تشجيعكم الدقيق بشكل شيطاني للإخصاب بين الناس عندكم. وأعتقد أن معدل التكاثر هو العدو رقم 1 للفلسفة، نحن نتناسل في القاعدة ونموت في القمة. وخصوبة السذاجة تهزم حدة الذكاء. بندكت: أنت تخطئ إذا اعتقدت أن معدل التكاثر هو سر نجاحنا. فإن شيئاً أعمق من هذا بكثير موجود ضمناً. هل أخبرك لماذا يعود كل الأذكياء في كل أنحاء العالم إلى حظيرة الدين؟ فولتير: لأنهم تعبوا من التفكير. بندكت: لا، ليس هذا تماماً، إنهم اكتشفوا أن فلسفتكم ليس لها جواب إلا الجهل واليأس. ويدرك العقلاء أن كل المحاولات فيما أسماه أخوتكم "الأخلاق الطبيعية" أخفقت. وقد نتفق أنت وأنا على أن الإنسان ولد وفيه غرائز تميل إلى النزعة الفردية تكونت في آلاف السنين من الظروف والأحوال البدائية، وأن غرائزه الاجتماعية ضعيفة نسبياً، وأن شريعة قوية من الأخلاق والقوانين مطلوبة لترويض هذا الفوضوي بالطبيعة، وتحويله إلى مواطن عادي مسالم. إن علماء اللاهوت عندنا أسموا هذه الغرائز التي تتسم بالنزعة الفردية "الخطيئة الأصلية الأولى" الموروثة عن "آبائنا الأولين"، أي أولئك الناس المرهقين الذين لا يخضعون لقانون، المعرضين دائماً للخطر، الصيادين الذين كان لزاماً عليهم أنت يكونوا دائماً على أهبة الاستعداد للقتال والقتل من أجل الطعام أو الرفاق، وأن يكونوا مولعين بالاكتساب والمشاركة، وأن يكونوا قساة إلى حد العنف، لأن أي نظام اجتماعي ساد بينهم، كان لابد أن يظل ضعيفاً، ولكن عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم في الأمن على حياتهم وممتلكاتهم.

فولتير: أنت لا تتحدث كما يتحدث البابا.؟ بندكت: قلت لك أنه ينبغي علينا أن نتحدث كما يتحدث الفلاسفة. فالبابا أيضاً يمكن أن يكون فيلسوفاً، ولكن عليه أن يعبر عن نتائج الفلسفة لا بلغة مفهومة للناس فحسب، بل بلغة خلقة بالتأثير على عواطفهم وسلوكهم. نحن مقتنعون-والعالم كله يعود إلينا لأنه يعلم-بأنه ليس ثمة قانون أخلاقي من وضع الإنسان بشكل صريح معترف به، يمكن أن يؤثر بدرجة كافية حتى يضبط ويتحكم في الدوافع غير الاجتماعية في الرجل الطبيعي. إن الناس عندنا محكومون في حياتهم الأخلاقية-ولو أن هذا لا يلتئم مع الجسد-بقانون أخلاق تعلموه وهم أطفال في طور التشكيل، باعتباره جزءاً من دينهم، واعتباره من عند الله لا من عنديات الإنسان. أنت تريد أن تحتفظ بالأخلاق وتنبذ اللاهوت، ولكن اللاهوت هو الذي جعل الأخلاقيات تستقر في أعناق النفس. ويجب أن نأخذ القانون الأخلاقي على أنه جزء لا يتجزأ من الإيمان الديني الذي هو أثمن ما يمتلك الإنسان، لأنه عن طريق هذا الإيمان وحده تكتسب الحياة معنى ومنزلة سامية تعزز وجودنا وتضفي علليه شرفاً ونبلاً. فولتير: وعلى هذا ابتدع موسى أحاديثه مه الله. بندكت: إن الذهن الناضج لا يوجه مثل هذا السؤال. فولتير: أنت على حق تماماً. بندكت: إني أغفر لك تهكمك الفطير غير الناضج. إن حمورابي وليكورغوس (مشرع إسبرطة في القرن التاسع ق.م) ونوما وبومبليوس كانوا بالتأكيد على حق في أن يضعوا للأخلاق أساساً دينياً حتى لا تنهار تحت الضربات المتواصلة من أقوى غرائزنا، وأنت نفسك قبلت هذا حين تحدثت عن إله يثيب ويعاقب؛ إنك أردت أن يتمسك خدمك بالدين، ولكنك ظننت أن أصدقاءك يمكن أن يعيشوا بلا دين. فولتير: ما زلت أرى أن الفلاسفة يمكن أن يستغنوا عن الدين. بندكت: كم أنت ساذج! هل الأطفال أهل للفلسفة؟ هل يستطيع الأطفال أن يفكروا ويتأملوا؟ إن المجتمع مؤسس على الأخلاقيات، وهذه مؤسسة على الشخصية، والشخصية تتكون زمن الطفولة والشباب. قبل أن يكون العقل موجهاً ومرشداً بزمن طويل. وينبغي أن نغرس الفضيلة في الفرد حين يكون صغيراً مطواعاً غض الأهاب، حيث تكون الفضيلة والأخلاقيات قوية إلى حد يسمح بمقاومة نزازعه المشربة بروح الفردية. بل حتى تفكيره الفردي. أخشى أن تكون قد بدأت تفكر بسرعة. والعقل عمل فردي أساسي، وإذا لم تحكمه وتضبطه الأخلاق فإنه يمكن أن يمزق مجتمعاً إرباً. فولتير: إن بعض أحسن الرجال في عصري وجدوا أن العقل فضيلة وأخلاقيات كافية. بندكت: كان هذا قبل أن يتغلب العقل القائم على النزعة الفردية والزمن على آثار الديانة. إن نفراً قليلاً من الناس مثل سبينوزا وبيل ودي هولباخ وهلفشيوس قد يكونون قد عاشوا حياة طيبة بعد تخليهم عن دين آبائهم، ولكن من يدرينا أن فضائلهم لم تكن نتيجة تعليمهم الديني؟ فولتير: كان هناك المئات من الناس المعاصرين لي، ممن كانوا خليعين محتقرين على الرغم من تعليمهم الديني وعقيدتهم الكاثوليكية، مثل الكاردينال ديبوا ولويس الخامس عشر. بندكت: الذين كتبت عنهم مديحاً يثير الاشمئزاز.

فولتير: وا حسرتاه! نعم، كنت مثل بعض رهبانكم، استخدمت بعض حيل وخدع تقية لأصل إلى ما شعرت بأنه غايات طيبة. بندكت: مهما يكن من أمر، فليس ثمة شك في أن هناك آلافاً من الناس ممن يستمسكون بالعقيد القويمة، حتى وممن يواظبون على كل الطقوس، يمكن أن يكونوا آثمين خطائين ومجرمين عريقين في الإجرام. إن الدين ليس علاجاً معصوماً من الخطأ للجريمة، إنه ليس إلا مجرد عون في المهمة الشاقة، مهمة تمدين الإنسان. وأننا لنعتقد أن الناس بدون الدين يمكن أن يكونوا أسوأ بكثير مما هم. فولتير: ولكن تلك الفكرة رهيبة، فكرة الجحيم، حولت الإله إلى غول بشع أشد قسوة من أي مستبد غاشم في التاريخ. بندكت: أنت تمقت هذه الفكرة، ولكنك إذا عرفت الناس معرفة أكثر وأفضل، لأدركت أنه يجب إرهابهم بالمخاوف العقاب. إن رأس الحكمة مخافة الله. وعندما فقد أتباعك هذا الخوف بدءوا يتدهورون ويفسدون. إنك كنت محتشماً معتدلاً نسبياً في فسقك وفجورك، وكان ثمة شيء جميل في علاقاتك الطويلة بمدام دي شاتيليه، ولكن علاقاتك مع ابنة أختك كانت شائنة مخزية. ولم تجد شيئاً يستحق اللوم في سلوك صديقك الفاجر الداعر الدوق دي ريشيليو. فولتير: وكيف كان يمكن أن ألومه؟ إذن لتعرضت قروضي للخطر. بندكت: أنت لم يمتد بك زمنك لترى كيف أن الإلحاد قارب أن يجعل من الإنسان أحقر حيوان. هل قرأت المركيز دي ساد؟ أنه في نشو الثورة الفرنسية نشر ثلاث قصص (2) أوضح فيها أنه لو لم يكن هناك إله لكان كل شيء مباحاً اللهم إذا كشف وكلاء القانون أمره. وأشار إلى أن الكثير من الأشرار الخبثاء تزدهر أحوالهم في الدنيا، وكثيراً من الطيبين الفضلاء يعانون ويشقون، وعلى ذلك فإنه إذا لم يكن هناك جنة أو نار، فليس ثمة معنى في أن نكون طيبين لنسئ إلى ملذاتنا. وانتهى إلى أنه إذا لم تكن تلك الإرادة حرة فليس هناك مسئولية أخلاقية، وليس هناك خير أو شر، بل هناك فقط ضعفاء وأقوياء والخير هو الضعف، والضعف هو الشر، حتى ولو كان لما يجد القوي-لذة في استغلال الضعيف ما يبررها. وحاول أن يثبت أن القسوة أمر طبيعي وأنها غالباً ما تكون سارة مرضية. وهكذا أقر كل ضروب اللذة، بما في ذلك أحط ألوان الانحراف وأبغضه، حتى بدا في آخر الأمر أن الخير الأعظم يكمن في إيقاع الألم وتلقيه، أسلوباً من أساليب اللذة الجنسية. فولتير: كان لزاماً أن يضرب هذا الرجل بالسوط حتى يموت. بندكت: نعم إذا استعطت الإمساك به. أما إذا لم تستطع؟ فكر في الجرائم التي لا تحصى والتي ترتكب في كل يوم، والتي لا تكتشف والتي تفلت دون عقاب مطلقاً، إنه من الضروري أن يكون هناك قانون أخلاقي يمنع الناس من الإجرام حتى لو أحسوا أنهم في مأمن من كشف أمرهم. فهل يكون عجباً أن "عصر فولتير" أبعد العصور عن الأخلاق وأكثرها فساداً في التاريخ..؟ أنا لن أذكر شيئاً عن "غادتك" ولكن فكر في الملك "ومنتدى غزلانه" وفي الأدب الداعر الفاجر الذي كان يطبع بكميات كبيرة ويتداول على أوسع نطاق، ويتلهف الناس حتى النساء على شرائه. إن هذا الزاد الطائش، والإثارة الجنسية تصبحان طوفاناً فاجراً في أزمان الكفر وأرضه.


فولتير: يجب أن تعلم يا صاحب القداسة أن الغريزة الجنسي قوية جداً حتى عند بعض الباباوات، وأنها لابد أن تجد متنفساً على الرغم من أي قانون. بندكت: وبسبب قوة تلك الغريزة فإنها تحتاج إلى ضوابط وقيود خاصة، لا إلى تشجيع قطعاً. وهذا هو ما دعانا إلى محاولة حصرها في حدود الزواج المنظم، وعملنا كل ما في وسعنا لجعل الزواج المبكر حيز الإمكان. إنكم في مجتمعاتكم الحديثة تجعلون الزواج متعذراً للجميع اللهم إلا الطائشين المسرفين، أي ما بعد الوصول إلى مرحلة النضج الجنسي بزمن طويل. ومع ذلك تجعلون كبح جماح الغريزة الجنسية أمراً شاقاً عسيراً بالنسبة لهم بإثارة خيالهم الجنسي وشهوتهم الجنسية في كل لحظة بالأدب والمسرح، بدعوى حرية الصحافة والمسرح. فولتير إن شبابنا لا يضارون كثيراُ بحريتهم. بندكت: أظنك مخطئاً. إن الرجل الذي تعود على الاختلاط الجنسي غير المشروع قبل الزواج نادراً يكون زوجاً أميناً مخلصاً، والمرأة التي تفرط في عرضها قبل الزواج لن تكون زوجة أمينة إلا من قبيل الاستثناء، وهكذا نساق إلى إباحة الطلاق بشروط يسيرة. إننا نجعل من الزواج سراُ مقدساً رهيباً وعهداً بطول الصبر والأمانة-مدى الحياة، ولكنكم تجعلون منه عقد عمل يحق لأي من الطرفين أن يفسخه، أثر شجار عابر تطلعاً إلى رفيق أصغر سناً أو أكثر ثراء. إن كل بيت مفتحة الآن أبوابه كلها، الأمر الذي يدعو إلى الانفصال ويشجع عليه. ووقع نظام الزواج في حالة من فوضى التقارب المؤقت التجريبي، مما يشكل كارثة للنساء ويقوض أركان النظام الأخلاقي.


فولتير: ولكن الزواج بواحدة فقط أمر غير طبيعي وغير محتمل، أيها الأب العزيز. بندكت: وإن أي كبت للغريزة أمر غير طبيعي، ومع ذلك يستحيل قيام المجتمع دون الكثير من هذه القيود، وأعتقد أن الرجل أو المرأة مع رفيق (زوج) واحد وعدة أطفال أسعد من رجل أو امرأة مع عدة رفاق وطفل واحد. وكيف ينعم رجل بالسعادة وقد طلق زوجته التي فقدت جمالها في الحمل وفي تربية أبنائه، حين أثاره وجه جديد وقوام رشيق؟ فولتير: ولكن بتحريمك الطلاق يجب أن تتسامح مع الزنى المنتشر انتشاراً واسعاً في الأقطار الكاثوليكية. بندكت: نعم نحن ضعفاء مجرمون. نحن ضعفاء بسبب الفكر والتخلي عن الإيماني، وربما كان الزنى أفضل من الطلاق، لأنه يهيئ في الظاهر بيتاً متحداً آمناً للأبناء، وينطوي على ارتباك وتشويش أقل للأسرة. ولكني أشعر بالخجل لأننا لم نجد حلاً أفضل. فولتير: أنت رجل مؤمن مخلص أيها الأب، إني لأتنازل عن كل ما أملك إذا قدر لي أن أشاركك إيمانك وطيبة نفسك. بندكت: ومع ذلك فمن الصعب إقناعك. وإني ليتولاني اليأس أحياناً من كسب الرجال الأذكياء اللامعين أمثالك، من تحرك أقلامهم مليوناً من الأنفس وتوجهها نحو الشر أو الخير. ولكن بعض أتباعك يفتحون أعينهم على الحقيقة المرة الرهيبة. فإن فقاقيع التقدم انفجرت في قرن شهد مزيداً من قتل الرجال والنساء بالجملة. ومزيداً من اجتياح المدن وتخريبها، ومن تحجر القلوب وفسادها، أكثر من أي قرن آخر في التاريخ. إن التقدم في المعرفة والعلم ووسائل الراحة والقوة ليس تقدما في الوسائل،


وإذا لم يكن ثمة تحسين في الغايات والأغراض أو الرغبات فلن يكون التقدم إلا وهماً وخداعاً. إن العقل يعمل على تحسين الوسائل ولكن الغايات تحددها الغرائز التي تتشكل قبل المولد وتتكون قبل نمو العقل. فولتير: أنا ما زلت اثق في ذكاء الإنسان، أننا سنحسن الغايات والوسائل معاً إذا صرنا أكثر اطمئناناً وأمناً على حياتنا. بندكت: هل ستصبح أكثر أمناً اطمئناناً؟ هل ينخفض معدل الجريمة العنيفة؟ هل الحرب أقل فظاعة وبشاعة من ذي قبل؟ أنك تتعلق بأمل كاذب في أن قوة التدمير في أسلحتكم سوف تعوقكم وتعوق أعداءكم عن الحرب. ولكن هله التقدم المتكافئ من السهم إلى القنبلة سيعوق الأمو عن تحدي بعضها بعضاً حتى الموت؟ فولتير: إن تعليم الجنس البشري سيستغرق عدة قرون. بندكت: في نفس الوقت أنظر إلى الخراب الروحي الذي نشرته دعايتكم. وربما كان هذا كارثة أفظع من أي خراب في المدن. أليس الإلحاد مقدمة لتشاؤم أعمق من أي تشاؤم عرفه المؤمنون؟ وأنت أيها الفتى الذائع الصيت، ألم تفكر كثيراً في الانتحار؟ فولتير: نعم، وحاولت أن أومن بالله، ولكني أعترف لك أن الله لم يعد شيئاً قي حياتي، وفي دخيلة نفسي شعرت أيضاً بفراغ في موضع إيمان طفولتي، ولكن يحتمل أن يكون هذا هو إحساس أفراد وأجيال في فترة انتقال فقط. ولكن حفدة هؤلاء المتشائمين سيمرحون ويسرحون في حرية حياتهم، وتتهيأ لهم سعادة أكثر من المسيحيين المساكين الذين أظلمت حياتهم بالخوف من الجحيم. بندكت:إن هذا الخوف لم يلعب إلا دوراً صغيراً في الحياة الغالبية العظمى من المؤمنين. إن ما أثلج صدورهم هو إحساسهم بأن سكرات الموت لم تكن عبثاً غير ذي معنى. بل مقدمة لحياة أكبر تصحح وتشقى فغيها كل المظالم والقساوات الدنيوية، وسيكونون متمتعين بالسعادة والسلام مع من كانوا يحبونهم ثم فقدوهم. فولتير: نعم كان في هذا راحة تامة، مهما تكن خداعة. أنا لم أحس بها لأني أكاد لا أعرف والدتي، ولم أرَ والدي إلا نادراً، وليس لي أولاد معروفون. بندكت: أنت لم تكن رجلاً كاملاً، ولم تكن فلسفتك كاملة. هل عرفت يوماً حياة الفقراء؟ فولتير: عرفتها من الخارج فقط، ولكني حاولت أن أكون منصفاً وعوناً للفقراء الذين عاشوا في ضياعي. بندكت: لقد كنت سيداً فاضلاً، وفطنت إلى أن الإيمان والعقيدة التي اعتنقها هؤلاء الذين استخدمتهم في شبابك والتي لهم فيها عزاء وسلوى، يجب أن تتجدد عن طريق التعليم الديني والقيادة ولكن في نفس الوقت كان إنجيلك المدمر الذي لا أمل فيه فينما وراء القبر يسود فرنسا بأسرها. هل أجبت يوماً على سؤال دي موسيه(3)؟ بعد أن علمت أنت أ, أتباعك الفقراء أن الجنة الوحيد التي يمكنهم الوصول إليها يجب أن يخلقوها هم أنفسهم على الأرض أو في الدنيا. وبعد أن ذبحوا حكامهم، ويظهر حكام جدد، ويبقى الفقر بالإضافة إلى خلل وفساد وعدم استقرار أكبر من ذي قبل، فماذا إذن تستطيع أن تقدم من عزاء للفقراء المغلوبين على أمرهم؟ فولتير: أنا لم أحبذ قتل حكامهم، وارتبت في أن يكون الجدد أقرب شبهاً بالقدامى، ولكن أسوأ سلوكاً. بندكت: لن أقول إن الثورة ليس لها ما يبررها مطلقاً، ولكنا تعلمنا من التجارب والخبرات التي تراكمت ونقلتها إلينا الأجيال، أنه بعد كل انقلاب، سيكون هناك ثانية سادة وأناس، وأغنياء وفقراء نسبياً. نحن ولدنا جميعاً غير متساوين، وكل اختراع جديد وكل تعقيد جديد يضاف إلى الحياة أو الفكر يزيد في الهوة بين البسطاء والدهاة البارعين، وبين الضعفاء والأقوياء. إن أولئك الثوريين المؤمنين تحدثوا عن الحرية والمساواة والإخاء ولكن هذه الأقانيم لا تتمشى مع بعضها البعض. لأنك إذا أقررت الحرية سمحت للتفاوتات وعدم المساواة الطبيعية أن تتضاعف إلى تفاوتات وفوارق مصطنعة. فإذا حلت دون هذه التفتاوتات كان عليك أن تقيد الحرية، وهكذا تصبح مثلك العليا في الحرية ستاراً للاستبداد وفي غمرة هذا يصبح الإخاء مجرد كلمة. فولتير: نعم هو كذلك. بندكت: حسناً إذن، ومن منا يقدم عزاء أكبر للغالبية التي لا مفر من أن تكون مغلوبة على أمرها؟ هل تظن أنك تحسن صنعاً أو تؤدي خدمة للكادحين في فرنسا وإيطاليا إذا أقنعتهم بأن أضرحتهم القائمة على جانب الطريق وصلبانهم وصورهم الدينية وتقدماتهم التقية مجرد شعائر سخيفة لا معنى لها، وأن صلواتهم موجهة إلى سماء خالية، وهل يمكن أن تكون ثمة مأساة أشد من أنه يجب على الناس أن يؤمنوا بأنه ليس في الحياة شيء إلا تنازع البقاء وليس فيها شيء أكيد على وجه اليقين إلا الموت.؟ فولتير: أنا أشاركك شعورك أيها الأب. لقد أثر في نفسي وأزعجتني رسالة تلقيتها من مدام دي تلموند. أنا أذكرها جيداً، وجاء فيها "أرى يا سيدي ألا يكتب فيلسوف مطلقاً إلا ليحاول أن يجعل الجنس البشري اقل شراً وأقل شقاء مما هو عليه. وأنت الآن تعمل على النقيض من ذلك تماماً. أنت دائماً تكتب ضد الدين،وهو وحده القادر على كبح جماح البشر وتقديم السلوى والعزاء إذا ألم الخطب(4)، ولكن لي إيماني كذلك بأن الحق سيكون على مدى الأيام نعمة حتى للفقراء. بندكت: لن يكون الحق حقاً إلا إذا بقي صادقاً عبر الأجيال. إن الأجيال السابقة تكذبك والأجيال القادمة ستلومك، بل أن المنتصرين في صراع الحياة سيلومونك على انتزاعك الآمال من صدور المساكين وهي الآمال التي حملتهم على قبول المكانة المتواضعة في مجتمع منقسم إلى طبقات، وهو تقسيم لا مناص منه. فولتير: أنا لا أستسلم لخداع الفقراء والمساكين خداعاً مزدوجاً على هذا النحو. بندكت: نحن لا نخدعهم. أننا نعلمهم الإيمان والأمل والبر والإحسان، وتلك كلها نعم حقيقية في حياة البشر. أنكم سخرتم كثيراً من التثليث، ولكن هل كان لديكم يوماً أي فكرة عن الراحة النفسية التي أحس بها ملايين الملايين من الأنفس لمجرد التفكير في أن الله نفسه قد نزل إلى هذه الأرض ليشاركهم آلامهم ومعاناتهم، ويكفر عن خطاياهم؟ وسخرتم من ولادة العذراء، ولكن هل في كل الأدب شيء محبب أو مؤثر أكثر رمزاً لبساطة النساء واعتدالهن ورمزاً لحب الأم؟ فولتير: أنها قصة جميلة، ولو أنك كنت قرأت كل مجلداتي التسعة والتسعين لوجدت أنني أعترف بقيمة هذه الأساطير التي تبعث في النفوس السلوى والعزاء. بندكت: نحن لا نسلم بأنها أساطير، أنها من بين أعمق الحقائق. إن آثارها من بين أكثر الحقائق يقيناً في التاريخ. أنا لن أتحدث عن الفن والموسيقى اللتين خلقتهما، وهما من أغنى تراث الإنسان... فولتير: كان الفن ممتازاً. ولكن أغنيتكم الجريجورية كانت عبئاً كريهاً كئيباً.


بندكت: لو أنك كنت أكثر عمقاً لقدرت قيمة طقوسنا وأسرارنا المقدسة. إن احتفالات تجمع بين المصلين في مسرحية حية وأخوة تشجع على الوحدة، وأسرارنا المقدسة هي حقاً اسم على مسمى من أمارات أو علامات ظاهرية على نعمة وبركة باطنة داخلية، وأنها لراحة نفسية للآباء أن يروا طفلهم في التعميد والتثبيت مقبولاً في جماعة العقيد العريقة وفي ميراثها. وهكذا توحد الأجيال في أسرة لا يحددها الزمان، ولا يعود الفرد فيها يحس أنه وحيد. وأنه لمن أجل النعم للمخطئ أن يعترف بخطاياه ويتلقى الغفران. وأنتم تقولون إن هذا لا يعدو أن يكون مجرد سماح له بارتكاب الذنب ثانية، ونحن نقول بأن هذا يشجعه على أن يبدأ حياة أفضل غير مثقلة بوزر الإثم. ألا يكافح أطباؤكم النفسيون من أحل إيجاد بديل عن الاعتراف للكاهن؟ ألا يخلقون مصابين بالأمراض العصبية قدر ما يعالجون ويشفون؟ أليس جميلاً إنه في سر القربان المقدس يقوى الإنسان الضعيف ويتأثر باتحاده مع الله؟ هل رأيت شيئاً أجمل من ذهاب الأطفال لأول عشاء رباني لهم؟ فولتير: لا يزال يزعجني ويضايقني فكرة أكل الله، أنها بقايا عادات وحشية. بندكت: أنك تخلط مرة ثانية بين الإشارة الظاهرية الخارجية والبركة الباطنية. ليس ثمة شيء ضحل مثل التحريف، إنك تحكم على كل شيء من سطحه، وتظن أنه عميق. وقد ضلل هذا التحريف كل الحياة الحديثة. وفي الدين مر العقل الناضج بثلاث مراحل: الإيمان والكفر والفهم. فولتير: قد تكون على حق. ولكن هذا لا يبرر نفاق أساقفتك الآثمين الخطائين، أو اضطهاد الفكر الصادق المستقيم.


بندكت: نعم. كنا مذنبين. إن العقيدة طيبة لا غبار عليها، ولكن القائمين عليها رجال ونساء عرضة للخطأ والإثم. فولتير: ولكن إذا كان القائمون عليها عرضة للخطأ، فلماذا يزعمون أنهم معصومون منه؟ بندكت: إن الكنيسة تدعي العصمة فقط لأحكامها الرسمية الأساسية الموقرة جداً، ويجب الكف عن الجدل في موضع ما، إذا أريد للذهن أو المجتمع أن يعيش في هدوء وسلام. فولتير: وهكذا نعود ثانية إلى الرقابة الخانقة والتعصب الوحشي الذميم اللذين كانا مصدر الأذى والهلاك في حياتي، ومبعث الخزي والعار في تاريخ الكنيسة. ويمكنني أن أرى أبواب محاكم التفتيش مفتوحة من جديد. بندكت: أرجو ألا يكون الأمر كما تقول. إن هذا كان يسبب ضعف البابوية، إن محاكم التفتيش كانت قاسية. إن خلفائي كافحوا لوقفها. فولتير: البابوات أيضاً مذنبين. أنهم نظروا برباطة جأش إلى قتل مئات اليهود أثناء الحروب الصليبية، وتآمروا مع دولة فرنسا على قتل الالبيجنسيين (طائفة دينية ازدهرت في جنوب فرنسا فيما بين 1020-1250م وأخيراً قضي عليها بتهمة الزندقة). لماذا نعود إلى عقيدة استطاعت على الرغم من كل سحرها وفتنتها أن تولد مثل هذه الوحشية ومازالت تتغاضى عنها؟ بندكت: أننا شاركنا في عادات عصرنا وسلوكه. ونحن نشارك الآن في تحسين الأخلاق. انظر إلى قساوستنا، أليسوا، مجموعة ممتازة من الناس في تعليمهم وتبتلهم وسلوكهم؟ فولتير: هكذا يقولون لي. ولكن ربما كان هذا بسبب المنافسة. ومن يدري ماذا سيكونون عليه، حين يهيئ لهم أنصارهم ذوو الأصل العريق والتفوق السياسي؟ إن المسيحيين في القرون الثلاثة الأولى من حقبتنا اشتهروا بسمو الخلق لكنك تعلم كيف أصبحوا حين تسلموا مقاليد الأمور. إنهم قتلوا من أجل الخلاف الديني أناساً أكثر مائة مرة مما قتل أباطرة الرومان. بندكت: إن قومنا كانوا آنذاك بادئين في التعليم، فلنأمل أن نفعل أفضل مما فعلوه في المستقبل. فولتير: لقد أحسنت الكنيسة صنعاً في بعض الأحيان. ففي النهضة الإيطالية أظهر بعض خلفائك تسامحاً لطيفاً نحو الكفر. ولم يحاول غير المؤمنين أن يحرموا المساكين من عقيدتهم التي توفر لهم العزاء والسلوى. أنا من جانبي لا أريد أن أدمر عقيدة الفقراء المساكين،وأؤكد لك أن هؤلاء المساكين لا يطالعون كتبي. بندكت: بارك الله في المساكين الفقراء. فولتير: في نفس الوقت، ينبغي أن تغفر لي ولأمثالي إذا واصلنا مساعينا لتنوير أقلية كبيرة العدد إلى حدٍ كافٍ، مصممة على تحول دون تسلط الكنيسة مرة ثانية على أفكار المتعلمين. وسيكون التاريخ غير ذي قيمة لنا إذا لم يعلمنا أن نكون يقظين حذرين ضد التعصب الطبيعي في ديانة تقليدية تستغل القوة. إني أجلك وأقدرك أعظم تقدير، أيها الأب بندكت، ولكن يجب أن أبقى كما أنا فولتير. بندكت: ليغفر الله لك. فولتير: المغفرة دعاء الجميع.