قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 5 ف 23

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 12729

قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> انتصار الفلاسفة -> رجال الدين يصدون الهجوم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث والعشرون: انتصار الفلاسفة 1715 - 1789

1- رجال الدين يصدون الهجوم

كان هناك الكثير مما يقال من أجل المسيحية. مما قاله المدافعون عنها في قوة وحيوية، أحياناً مع سوء تقدير أعمى للعصر، وأحياناً في رقة ووضوح توقعتهما فرنسا من اللاهوت. وهناك من رجال الكنيسة من ظل يصر على أن أي انحراف عن المذهب الكاثوليكي المحدد جيب أن تعاقب عليه الدولة، وأن مذبحة سانت برثلميو عملية مشروعة مثلها في ذلك مثل أية عملية جراحية(1). ولكن هناك من قبلوا التحدي ولأخذوه مأخذ الرجال الكرام الشرفاء للأعداء أن يختاروا السلاح، وهو العقل. وكانت لفتة كريمة، فأن الدين إذا ارتضى العقل كان في هذا بداية موته وفنائه.

ونشرت فرنسا فيما بين عامي 1705 و1789 نحو تسعمائة كتاب دفاعاً عن المسيحية، منها تسعون في سنة 1770 وحدها(2). أن كتاب ديدور "أفكار فلسفة" وكتاب هلفشيوس "الذكاء"، وكتاب روسو "أميل القرن الثامن عشر"، استلزم كل منها نشر عشرة كتب لتنفيذه والرد عليه. أن الراهب هوتفيل في كتابه "الديانة المسيحية كما تثبتها الأعمال"(1722) أكد (مثل رئيس الأساقفة ويتلي Whately بعد ذلك بقرن من الزمان) أن المعجزات التي تثبت قدسية المسيحية ثابتة بشكل موثوق قدر ثبوت الأحداث المقبولة في التاريخ العلماني. وفي مجلدين أثنين نشر الكاهن جويون Guyonh كتابه "مهبط الوحي عند الفلاسفة الجدد" (1759-1760) وهو كتاب هجاء ونقد. ونشر الكاهن بلوش Pluche كتابه "مشهد الطبيعة" في ثمانية مجلدات (1739-1746). وظهرت منه ثماني عشرة طبعة غالية الثمن، عرض فيه عجائب العلم وأدلة التدبير المقصود في الطبيعة ليثبت وجود إله أسمى في العقل والقوة. وإذا وجد العقل البشري بعض الألغاز في المشهد الضخم، فيكن متواضعاً. ولا ينبغي لنا أن ننبذ الإله لأننا لا نستطيع فهمه وإدراكه، ولنقدم له في نفس الوقت الشكر على بديع صنعه. أما الأب جوشا Gauchat فأنه في 15 مجلداً بعنوان "رسائل نقدية" (1755-1763) هاجم فرضية التطور عند بيفون وديدرو وغيرهما ببرهان طائش "إذا كان الناس يوماً أسماكاً...فأن هذا استتبع واحداً من أثنين، فإما أنه ليس للإنسان نفس روحية خالدة، أو أن للأسماك مثل هذه النفس، وكلتاهما فرضية تنافي التقوى والدين"(3). ووافق الفلاسفة فرحين مهللين. وأكد الأب سيجورن Sigorgne في كتابه "الفلسفة المسيحية" على لزوم الدين دعامة للأخلاق، فأن القيود العلمانية الخالصة تؤدي إلى شحذ أذهان المجرمين الذين لا يعودون يؤمنون بالله البصير بكل شيء. وفي 1767 نشر الأب شاندن Mayeul Chandon القاموس المضاد للفلسفة، وقد ظهر منه سبع طبعات. أما الأب نونوت Nonotte وهو يسوعي سابق تحلى بسعة الإطلاع والثقافة مثل أعضاء طائفته(4)، فإنه أخرج في 1770 كتابه الضخم "أخطاء فولتير" وقد بيع من هذا الكتاب أربع طبعات في عامه الأول، وست طبعات في ثمانية أعوام. وفي 1857 عد فولتير هذا الكتاب من بين ما تقرأ إما بوفاري. ودافع الأب جويني Guenee عن الكتاب المقدس بروح وذوق وكياسة وتفقه في كتابه "رسائل بعض اليهود" (1776). وهي رسائل توهم بأنهم صادرة من بعض علماء اليهود. وسلم فولتير بأن نقد جويني "لاذع إلى حد بالغ(5)". ووجه المدافعون الكاثوليك وابلاً من النيران في كل شهر ضد الفلاسفة في نشرة "الدين المنتقم". وفي 1771 بدءوا يصدرون "موسوعة منهجية"، أوسع حتى من موسوعة ديدرو، تهاجم كل نقاط الضعف في قلعة الشك هذه.

وواجه الماديون (أنصار المذهب المادي) خصماً عنيداً في شخص نقلا سلفستر بيزانسون. أن كتابه "الربوبية تفند نفسها" (1765) كان "رد كاهن حقيقي على قسيس سافوي الذي ابتدعه خيال روسو(6)" ومن أجل كتابه "صدق براهين المسيحية" (1767) تلقى رسالة ومديح من البابا. وفي سن الواحدة والخمسين (1769) رفع إلى مرتبة كاهن في كاتدرائية نوتردام في باريس، وأصبح كاهن الاعتراف لبنات الملك لويس الخامس عشر. وفي نفس العام نشر كتاب "دفاع عن المسيحية ضد مؤلف فضح المسيحية"-وهو ضربة موجعة إلى دي هولباخ. وسرت جمعية رجال الدين بهذا الكتاب فقررت له في 1770 معاشاً سنوياً قدره ألفاً من الجنيهات ليتفرغ للدفاع عن العقيدة. وفي بحر سنة أخرج كتاباً في مجلدين تحت عنوان "اختبار المادية" وهو رد على كتاب دي هولباخ "منهج الطبيعة" وأوضح مرة أخرى أن الذهن هو الحقيقة الوحيدة المعروفة لنا بطريق مباشر، فلم نهبط به إلى شيء آخر معروف لدينا عن طريق الذهن فقط(7). واتهم دي هولباخ بعدة تناقضات: 1- أعلن البارون أنه لا سبيل إلى معرفة الله، ولكنه طبق بعد ذلك على المادة كل صفات الاتناهي والأبدية 2- أنه قبل مذهب الحتمية ومع ذلك حض الناس على إصلاح سلوكهم. 3- نسب الديانة إلى:

(أ) إلى جهل الإنسان البدائي. (ب) وحيل الكهنة ومغالطتهم. (جـ) إلى مكر صانعي القانون وبراعتهم. -فلنتركه يقرر. وطرح الكاهن نقد العهد القديم جانباً بإيضاحه أن ناسخي كلام الله من البشر كانوا قد استخدموا المجازات والاستعارات الشرقية. ولذلك ينبغي ألا يؤخذ الكتاب المقدس دائماً بحروفه. والعهد الجديد هو جوهر المسيحية، وحياة المسيح من المعجزات تثبت قداسة الدين. ومهما يكن من أمر فإن سلطة الكنيسة لا ترتكز على الكتاب المقدس وحده، بل على التسلسل أو التعاقب الرسولي لأساقفتها، وتقاليدهم التي وضعوها للدين. وفي كتاب اختبار الدين المسيحي (1771) أكد برجييه الحجة القائلة بأن الإلحاد، على الرغم من الشخصيات الفردية الاستثنائية التي أبرزها بيل، قد يدمر الفضيلة والأخلاق.

وأرق شخصية في المدافعين عن الكاثوليكية من رجال الدين في القرن الثامن عشر في فرنسا هو غليوم فرنسوا برتييه(8). في سنة 1714 وهو في سن الثانية عشر والتحق بالكلية اليسوعية في بورج، وهناك اشتهر بحدة ذهن لم تسيء إلى تقواه إساءة ظاهرة. وفي سن السابعة عشرة أبدى لوالديه رغبته في الانضمام إلى "جمعية يسوع" فطلبا إليه أن يفكر في الأمر لمدة عام. ففعل وأصر على رغبته. وفي الفترة التي سبقت تثبيته راهباً في باريس أكب على القراءة والدرس والصلاة حتى إنه نادراً ما خصص للنوم أكثر من خمس ساعات في اليوم. وتقدم ونما بسرعة حتى أنه عين في سن التاسعة عشرة لتدريس العلوم الإنسانية في كلية دي بولوا، وبعد سبع سنين قضاها هناك، وسنة أخرى في الرهبنة، أرسل إلى رن ثم إلى روان أستاذاً للفلسفة. وفي 1745 عينه اليسوعيون محرراً لصحيفتهم "جورنال دي تريفو" التي كانت تصدر في باريس آنذاك. وأصبحت هذه النشرة الدورية على عهده من أكثر الأصوات احتراماً في فرنسا المتعلمة. وكتب برتييه معظم الصحفية بنفسه. وعاش في صومعة صغيرة لم تجر تدفئتها قط، واشتغل كل ساعات النهار، وكان بابه مفتوحاً أمام كل من قصده، وكان ذهنه مفتوحاً لكل موضوع، اللهم إلا العقيدة التي كانت تعمر بها حياته وتغمرها بالدفء. إن لإرهاب La Harpe أحد تلاميذ فولتير، وصف برتييه بأنه الرجل نال إعجاب والباحثين جميعاً، لغزارة علمه وسعة إطلاعه، كما نال إعجاب أوربا لفضائله الموسومة بالتواضع.(9) وامتاز بسحر الكياسة الفرنسية حتى عند الاختلاف في الرأي. فهاجم الأفكار لا الشخصيات وامتدح مواهب خصومه أو معارضيه(10). ومع ذلك فإنه دافع عن عدم التسامح الديني. واعتقاداً منه بأن المسيح ابن الله هو الذي أسس الكنيسة الكاثوليكية، رأى أنه من واجب المسيحي أن يحول بكل الوسائل السلمية دون انتشار الخطأ الديني..ويجب حظر الدعاية المعادية للمسيحية في أية أمة مسيحية، لأنها تغرى بالسلوك غير الأخلاقي، وتسيء إلى استقرارية الدولة. ورأى أنه من الخطأ أن نخلط بين التعصب للكاثوليكية وبين التحمس للاضطهاد(11)، ولكنه لم يعد بعدم مواصلة الاضطهاد. وفي سنة 1759 رد الاتهام بالتعصب وعدم التسامح إلى الفلاسفة فقال: أيها الكفار، وأنتم تتهمونها بالتعصب الذي لا أثر له لدينا، على حين أن ما تضمرون من كراهية لديننا يبعث فيكم تعصباً لا يمكن تخيل إفراطكم الواضح فيه(12).

ولم يسلم برتييه بالحقيقة المطلقة للعقل وحتى على الأسس الحسية عند لوك، لا يستطيع العقل أن يصل إلا إلى الحواس، أما فيما وراء هذه الحدود، فهناك حقائق واقعة ينبغي أن تظل إلى الأبد أسراراً خفية في الأذهان المحدودة، من ثم فإن الفيلسوف الحق يحد من بحثه حين لا يمكنه تخطي هذه الحدود بشكل معقول(13). أن السعي لإخضاع الكون أو معتقدات الناس التقليدية والعامة لاختبار عقل فردي، ضرب من الغرور العقلي. والرجل المتواضع يقبل عقيدة بني جلدته إذا لم يستطع فهمها. وذهب برييه في بعض الأحيان إلى أن الكفار ينبذون الدين يتدخل في ملذاتهم، وتنبأ بأنه إذا سادت مثل هذه الإباحية، فلابد أن ينهار القانون الأخلاقي، ويطلق العنان للأهواء، وتختفي المدينة في حمأة الأنانية والشهوة والخداع الجريمة. إذا لم توجد الإدارة الحرة، فلابد وجود للمسئولية الأخلاقية. وحيث أن الحتمية لا تسلم بأي قانون يلزم الضمير، فإن الشخص المذنب الوحيد هو الشخص الذي لا ينجح(14). ومن ثم الفضيلة أو الأخلاق القويمة حينئذ مجرد حساب المنفعة، ولن يكون إحساس بالعدالة ليكبح جماح الأقلية الذكية الماهرة في سوء استغلال سذاجة الأغلبية، ولن يشعر أي حاكم بأي التزام نحو شعبه، اللهم إلا المباعدة بينهم وبين الثورة بسبب استغلاله لهم.(15)

أن برتييه كان كما رأينا قد رحب بالمجلد قد رحب بالمجلد الأول من الموسوعة وقرظة، وعرض ما فيه من أخطاء وانتحالات في دقة بالغة تنم على ثقافة واسعة، ومن ثم أظهر أن مقالة للأب ييفون Yvon التي شغلت ثلاثة أعمدة كاملة، أخذت بنصها كلمة من كتاب الأب بوفييه "بحث في الحقائق الأولية"(16). وامتدح مثال "الفلسفة العربية" ولكنه أبدى فزعاً حين وجد أن مقالة الإلحاد قد أوردت الحجيج التي تساند الإلحاد على نفس مستوى الإسهاب والقوة الذي أوردت به الحجج ضد الإلحاد، تاركة فكرة وجود الله في شك رهيب. وعندما أصبحت النزعة المعادية للمسيحية أكثر وضوحاً في المجلد الثاني هاجمها في قوة وبراعة. وأوضح إن الموسوعة استمدت سيادة الحكومة من رضا المحكومين، وفي هذا، وفي نظر برتييه، خطر على الملكية الوراثية. وربما كان له أثر في وقف الموسعة عن الظهور(17). وفي عدد إبريل من تريفو عرض لكتاب فولتير "بحث في العادات" فقال: إنه ليحزننا أن نرى مؤلفاً حياً نقدر مواهبه ونعجب بها ولكنه يسيء استغلالها في أكبر الأمور الأساسية. لقد رأى في كتاب فولتير محاولة لهدم الكنسية والدين ليشيد على إطلالهما كياناً فلسفياً، أو معبداً لإباحة الفكر، نذره للاستقلال عن كل سلطة، والهبوط بالعبادة والأخلاق والفضيلة إلى مجرد فلسفة علمانية بحتة بشرية. واتهم فولتير بتحيز أخزى المؤرخ، حيث عمي عمى يكاد يكود تاماً عن فضائل المسيحية وخدماتها، وصمم طائشاً على أن يلتمس لها الأخطاء في منجزاتها وأعمالها, وقال: إن فولتير أدعى أنه يؤمن بالله، ولكن من آثار كتاباته دعم الإلحاد. وفي نفس العدد من الصحيفة تحول برتييه إلى كتاب فولتير "العذراء-جان دارك" فنفذ صبره. وصاح: إن الجحيم لم يلفظ قط مثل هذا الطاعون الفتاك:...إن الشهوانية تعرض هنا بكل وقاحة أبشع الصور بذاءة ودعارة. إن الفحش والبذاءة تستعيران لغة السوقة...إنه أحط الهزل الماجن يلطف الكفر والبعد عن التقوى...إن الرائحة المنبعثة من هذه الأشعار كفيلة بإفساد ونقل العدوى إلى كل عصر وكل حالة في المجتمع(18). ولم يسارع فولتير إلى الرد، إنه ما زال يحتفظ بذكريات طيبة لمعلميه اليسوعيين، ولا يزال على جدران مكتبه في فرني صورة الرجل الطيب العطوف المتدين آلاب بوري Poree(19). ولكن عندما أوقفت الحكومة الفرنسية صدور الموسوعة استجاب لتحريض دالمبير وأنبرى لقتال برتييه. فأتهمه بمناهضة الموسوعة لأنها نافست قاموس تريفو الذي زعم أنه إنتاج يسوعي (كان كذلك بشكل جزئي وبصفة غير رسمية). ودعا مجتمع يسوع إلى فصل محرر تريفو. أي عمل هذا الذي يشتغل به كاهن...أنه يبيع في كل شهر من مخزن للكتب مقتطفات من آراء طائشة مفتراة.(20) فرد برتييه (يوليو 1759) بأن محرري صحيفة تريفو لا علاقة لهم بمحرري قاموس تريفو وأعترف بأن كونه محرراً ليس عملاً جميلاً ولا مناسباً. ولكنه تمسك بحق الكاهن في استخدام صحيفة دورية للإشادة بالكتب القيمة واستهجان المؤلفات الغثة. وأسف لأن فولتير أنزلق إلى المسائل الشخصية والاتهام بالفساد والرشوة وختم كلامه بالأمل في أن يعود هذا الرجل ذو المواهب العظيمة فيما تبقى له من عمر تفضلت به عليه العناية الإلهية، يعود إلى الديانة المقدسة لا الدين الطبيعي، بل إلى المسيحية الكاثوليكية التي ولد فيها(21). وفي نوفمبر أصدر فولتير (وكان لا شك يتذكر الدفن الوهمي لجون بارتريدج تأليف سويفت)، رسالة مهيبة تحت عنوان "العلاقة بين المرض والاعتراف والموت وشبح برتييه اليسوعي" ذاكراً كيف أن المحرر مات في نوبة من التثاؤب فوق صحيفة تريفو. واعتذر عن أسلوبه في الجدل في خطاب إلى مدام بيناي: لابد من تسفيه الرجس والمدافعين عنه(22).

وفي 1762 أمرت برلمانات فرنسا بقمع حركة اليسوعيين، وسر برتييه حين انتهى عمله في تحرير الصحيفة، وآوى إلى دير للترابستيين ليحيا حياة الصمت والتأمل، وطلب السماح له بالانضمام إلى هذه الطائفة (التي يقوم مذهبها على دوام الصمت والتقشف والزهد) ولكن رئيس اليسوعيين أبى عليه ذلك، وعينه لويس الخامس عشر معلماً لأبناء الأسرة المالكة. ولما وقع الملك مرسوم طرد اليسوعيين من كل أنحاء فرنسا (1764) هاجر برتييه إلى ألمانيا. وفي 1776 سمح له بالعودة، فاعتزل كل نشاط، وأقام مع أخيه في بورج. ومات هناك في سن الثامنة والسبعين (1782)وكان رجلاً طيباً.


2- خصوم الفلاسفة

حمى وطيس الحرب نبذت أردية الكهنة ونبذت المجاملات، وركز الصحفيون أنظارهم على الفلاسفة، وسخر كل ذكاء باريس وكل مفردات لغتها للشد والجذب والطعان. ولقد رأينا كيف أن فولتير تعرض 1725 لبعض المتاعب لإنقاذ بيير ديفونتين من العقوبة القانونية للواط وهي الإعدام. ولم يغفر له ديفونتين هذا قط. وفي 1735 شرع في إصدار نشرة دورية تحت عنوان "ملاحظات على الكتابة الحديثة" استمرت حتى عام 1743 وعلى صفحاتها نصب نفسه مدافعاً عن البضائع وعن العفة بصفة خاصة. وهاجم، في زراية واحتقار، كل مظاهر انحلال الخلق أو الخروج على التقاليد السليمة، بلغة الأدب في ذاك العصر. ومات ألد أعداء فولتير. ولما مات في 1745 أوصى براية الجهاد لصديقه فريرون.

كان أيلي كاترين فريرون أقدر خصوم الفلاسفة وأشجعهم وأغزرهم علماً وثقافة. وكان عالماً بحاثة إلى حد أنه كتب "تاريخ ماري ستيوارت" (1742) وسبعة مجلدات في "تاريخ الإمبراطورية الألمانية" (1771). كما كان شاعراً إلى حد أنه نظم قصيدة "عن معركة فونتنوي" (1745) ولابد أن فولتير رأى فيها منافسه وقحة لقصيدته باعتباره المؤرخ الملكي. وفي 1745 أصدر نشرة دورية تحت عنوان: "رسائل عن بعض كتاب هذا العصر" وتناول فيها فولتير بالنقد والتجريح أكثر من مرة. وقضى فريرون سني فقره سائقاً لعربة تجرها أربعة جياد...وزج به في سجن الباستيل ذات مرة لمدة ستة أسابيع لنقده راهباً من ذوي النفوذ. ولكنه حارب لمدة ثلاثين عاماً معركته الجبارة من الماضي. واستاء استياءً واضحاً من فولتير لأنه نصح فردريك بالعدول عن استخدامه مراسلاً له في باريس(23). وفي 1754 أصدر مجلة جديدة تحت اسم "السنة الدبية" التي حررها وكتب معظمها، ونشرها مرة كل عشرة أيام حتى 1774. وأعجب فريرون بتمسك بوسيه بالدين وبالطرق الفخمة والأسلوب الفخم في القرن التاسع عشر، وأحس بأن فهم الفلاسفة للتنظيم الاجتماعي ودعائم الفضيلة والأخلاق وركائز الإيمان فهم سطحي إلى حد معيب. "لم ينجب عصر مثل عصرنا هذا قط مثل هذا العدد الكبير من الكتاب المغوين مثيري الفتن الذي يركزون قواهم في التهجم على مقام إلا له، أنهم يسمون أنفسهم رسل الإنسانية، دون أن يدركوا أنه لا يلائم أي مواطن وأنه يسيء إلى الجنس البشري أبلغ إساءة أن يسلبوهم الآمال الوحيدة التي تهيئ لهم بعض التخفيف من متاعب الحياة. أنهم لا يدركون أنهم يقبلون النظام الاجتماعي، ويحرضون الفقراء على الأغنياء والضعفاء على الأقوياء، ويضعون الأسلحة في يد ملايين الناس الذين منعهم حتى الآن الوازع الأخلاقي والديني من اللجوء إلى العنف، وقدر ما يمنعهم القانون"(24).

وتنبأ فريرون بأن هذا الهجوم على الدين سوف يقوض أركان الدولة، واستبق بجيل واحد تحذيرات ادموندبيرك: "أليس للكفر وهدم الدين أشد سخفاً وخطراً من التعصب للخرافة؟ أبدأ بالتسامح مع عقيدة آبائك. أنكم لا تتحدثون إلا عن التسامح..أنا لا أنتمي إلى عصبة الروح الجميلة، ولا أنتمي إلى حزب الدين والفضيلة والشرف(25).

وكان فريرون ناقداً لاذعاً، ولم يدخر وسعاً في تحطيم غرور الفلاسفة الحساس وجرح كبريائهم. وسخر من شدة تعنتهم وتعصبهم لآرائهم، ومن مزارع سيادة فولتير الإقطاعية باعتباره "كونت دي تورناي". ولما ردوا عليه فأسموه "وغداً متعصباً"، أنتقم هو منهم فقال إن ديدور منافق وإن جريم متملق الوجهاء الجانب، وأطلق على جماعة الكفار بأسرهم أسم عصبة "الأوغاد المحتالين والوضعاء الحمقى"(26). وأنهم الموسوعيين بسرقة الرسوم الإيضاحية من كتاب Reaumur عن "النمل". وأنكروا هم هذه التهمة وأيدت أكاديمية العلوم هذا الإنكار، ولكن الحقائق أيدت الاتهام قيما بعد(27). ولم يتصرف فريرون تصرفاً حسناً في "عودة إلى كالاس" إنه ذهب إلى أن الدولة أثبتت أن كالاس مذنب. وكتب أن فولتير لم يكن مدفوعاً في دغاعه عن كالاس بأي شعور إنساني قدر رغبته في لفت أنظار الرأي العام إلى وجوده هو-أي فولتير، وفي أن يجعل الناس يتحدثون عنه(28). وأحبت الآنسة كليرون، وهي كاتبة مسرحية كبيرة، فولتير وزارته، ودأب فريرون على امتداح منافستها، وأبدى بعض ملاحظات على الحياة الخاصة غير الأخلاقية لممثلة بعينها. واستاء الممثلون من مزاعمه باعتباره تدخلاً غير كريم في أمورهم الشخصية. وحوض دوق ريشليو، وهو الذي يغتفر الزنى، لويس الخامس عشر على إعادة فريرون إلى الباستيل ثانية ولكن الملكة حصلت على عفو عنه "من أجل تقواه وبلائه الحسن في مناهضة الفلاسفة(29)". ولما قبض ترجو صديق الفلاسفة على زمام الأمور سحب رخصة مجلة السنة الأدبية (1774) وتعزى فريرون بتناول الطعام الجيد، ومات بسبب أكلة شهية، وطلبت أرملته إلى فولتير أن يتبنى أبنته، ولكن فولتير رأى أن هذا إسراف في الشهامة.

ويقدر ما أساءت مجلدات فريرون الثلاثون إلى الفلاسفة، أساءت لفظة واحدة هي اللفظة الأخيرة في عنوان كتاب هجاء جاكوب نقولا مور "مذكرات جديدة لإيضاح تاريخ الكاكوواك Cacouacs". ويقول مورو إن هؤلاء "الكاكوواك" جنس يكاد يكون من الحيوانات البشرية تحمل تحت ألسنتها أكياساً من السم، فإذا تكلمت أمتزج السم بالكلمات ولوث كل الهواء المحيط بها. واقتبس المؤلف الحاذق مقتطفات من ديدرو، ودالمبير وفولتير وروسو، وحاول أن يبرهن على أن هؤلاء الرجال كانوا حقاً يسمون أنفس الحياة، وأتهمهم بأنهم يرتكبون السيئات والشرور "لمجرد حبه للشرر وفرحهم بارتكابه"(30) وسماهم ملحدين، فوضويي، لا خلاق لهم، أنانيين. ولكن لفظة الكاكوواك هي التي آلمتهم أشد الإيلام. إن هذا اللفظ أوحى بتنافر النغمات في صوت البط. وتهريج الثرثارين المجانين، وأحياناً ( كما قصد بالكلمة) رائحة المراحيض. وكافح فولتير ليرد، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يفند الرائحة؟

وتشجع المحافظون وشددوا من ضرباتهم. وفي 1757 كسبوا جندياً جديداً طموحاً نشيطاً. فإن شارل باليسودي مونتيني كان قد زار فولتير في لي دليس (1754) مع تقديم من تييرو على أنه "تلميذ صنعته مؤلفاتك"(31) وبعد ذلك بعام واحد مثل في نانسي ملهاة (كوميديا) تنتقد روسو بشكل لطيف، وفي باريس رعى وشجع الأميرة الشابة الورعة Robecq التي على الأقل صديقة دي شوازيل. وكان ديدرو الخبير في سوء السلوك قد عاب عليها خلقها في مقدمة كتابه "الابن الطبيعي" وربما نشر باليسو (1757)، استرضاء لها، كتاب "رسائل صغيرة عن كبار الفلاسفة" انتقد فيه ديدرو بشدة، ولكنه امتدح فولتير. وفي 2 مايو 1760 قدم تحت رعاية الآنسة دي روبيك على المسرح الفرنسي الملهاة الرائعة في الموسم وأسمها "الفلاسفة". وكانت هذه بالنسبة لهلفشيوس وديدرو وروسو ما كانت مسرحية أرستوفان "السحب" بالنسبة لسقراط قبل ذلك بنحو 2183 عاماً. صور فيها الفيلسوف المتحذلق فالير Valere الذي يشرح حب الغير في الأنانية للسيدة المثقفة ذات الاهتمامات الأدبية والفكرية سيد اليز Cidalise. وعرف جمهور المتفرجين لأول مرة أن هذه السيدة تمثيل مدام جيوفرين التي كان صالونها يتردد عليه الفلاسفة. وصور ديدرو وكأنه دورتيديوس. وفي الخادم كرسبين Crispin الذي كان يحبو على أربع عبر المسرح وهو يمضغ الخس، رأى الباريسيون صورة ساخرة (كاريكاتورية) لجان جاك روسو الذي كان في 1750 قد استنكر المدينة وأضفى مثالية على "حالة الطبيعة" ومجدها. وكان هجاء جافا غير مصقول، ولكنه مشروع. وأستمع به كل من مشاهده، اللهم إلا الضحايا الذين قصدت المسرحية السخرية منهم. وملأت الآنسة دي روبك المسرح بأصدقائهم وغيرهم من أتباعها، وعدة أفراد من مختلف الرتب الكنسية. وأصرت الأميرة على الرغم من السل الذي كان يهدد كيانها، على تشريف العرض الأول بجمالها المحموم. وفي نهاية المشهد الثاني دعي باليسو إلى مقصورتها، وعانقته على مرأى من الناس، ثم حملوها إلى دارها(32) لأنها كانت تسعل دماً. ومثلت مسرحية الفلاسفة أربع عشرة مرة في تسعة وعشرين يوماً. وفي الوقت نفسه انضم إلى الحملة على الكفار شخصية كبرى. فإن جان جاك لي فرانك مركيز دي بومبينان، أحد حكام الأقاليم، كتب قصائد وروايات ممتازة إلى حد فاز معه في الانتخابات للأكاديمية الفرنسية. وفي الخطاب الذي ألقاه بمناسبة قبوله عضواً فيها، قال جان مستنكراً: "هذه الفلسفة المضللة الخداعة التي تقول عن نفسها إنها لسان حال الحق، وما هي إلا أداة للافتراء وتشويه السمعة، إنها تتبجح بالاعتدال والتواضع، ولكن تنتفخ أوداجها زهواً وكبرياء. أن أتباعها الذين يتجرءون ويتعالون ويتيهون عجباً بأقلامهم يرتعدون فرقاً في حطة حياتهم، وليس ثمة شيء يقيني في مبادئهم، وليس ثمة غناء في أخلاقهم، ولا قاعدة للحاضر ولا هدف للمستقبل"(33).

وامتدح لويس الخامس عشر هذا الخطاب. وسخر منه فولتير في نشرة من سبع صفحات لا تحمل اسم الكاتب، عنوانها "عندما" لأن كل فقرة فيها بدأت بكلمة "عندما" وعلى سبيل المثال. "عندما يحظى إنسان بشرف الاستقبال في جمعية كريمة من رجال الأدب. فليس من الضروري أم يكون خطاب الاستقبال هجاء لرجال الأدب، لأن في هذا إساءة للجمعية وللجمهور. وعندما لا يكاد الإنسان يكون أدبياً إلا بشق النفس، ولا يكون على الأقل فيلسوفاً، فلا يجمل به أن يقول إن أدب أمتنا زائف وفلسفتها عقيمة..."

وهكذا في أسلوب غير رائع. ولكن موريليه أتبع هذه النشرة بنشرة أخرى كبيرة تكرر فيها لفظ "إذا" وسرعان ما صدرت بعد ذلك نشرة امتلأت بلفظة "لماذا" ثم أصدر فولتير نشرات متوالية زاخرة بالألفاظ: "من،الذي، نعم، لا لماذا"، وهرب بومبينان من هذه العاصفة إلى بلدته مونتويان، ولم يظهر قط في الأكاديمية ثانية. ولكنه عاد إلى الصراع في 1772 بكتاب اسمه "الدين يثأر من الشكوكية بالشكوكية نفسها" وبسط وجهة نظره في أن المذهب المادي (المادية) لم يترك أي وازع للأخلاق والفضيلة، وإذا لم يكن هناك شيء جائز أو مرخص به، وكل ما نحتاجه هو أن نتملص من الشرطة. وتساءل المركيز: إذا لم يكن هناك إله فكيف تقنع الناس بأن يرضوا بوضع التبعية والخضوع الذي وضعتهم الجمهورية فيه(34)؟ وقال الكاهن جالياني، الذي جاء من نابلي إلى باريس 1761، وتألق في الصالونات لمدة ثماني سنوات-الذين أحبوه-إن دعوة بعضهم إلى "إتباع الطبيعة" نصيحة مجنونة تهبط بالإنسان المتحضر إلى الوحشية والهمجية(35) وإن شواهد التدبير الإلهي المقصود في الكون بارزة جلية(36) وإن التشكك أدى إلى الفراغ العقلي واليأس الروحي:

"بسبب تنوير أنفسنا وجدنا فراغاً أكثر مما وجدنا امتلاء...وهذا الفراغ الذي ألح على أنفسنا وعلى خيالنا هو السبب الحقيقي في كآبتنا(37)..وبعد كل مل قيل وما عمل فالتشكك هو أعظم محاولة تبذلها روح الإنسان ضد غرائزه وفطرته وأذواقه...إن الناس في حاجة إلى التيقن...أن الغالبية من الناس وبخاصة النساء (وخيالهن ضعف خيالنا) لا يمكن أن يكونوا "لا إداريين"، وإن هؤلاء القادرين على اعتناق مذهب اللاإدارية (الذين يعتقدون أن وجود الله وطبيعته وأصل الكون أمور لا سبيل إلى معرفتها)، لا يستطيعون أن يبقوا على مذهبهم إلا بسمو شباب نفوسهم وقوتها، فإذا هرمت النفس وولى شبابها يعود بعض الإيمان إلى الظهور ثانية(38)....إن اللاإدارية يأس له ما يبرره"(39).

وضد جالياني اللامع، وبرجييه العالم الفقيه وبرتييه الدمث، وفريرون المجد المكافح وبومبينان النبيل ذي اللقب، وياليسو المرهق، ومورو الثرثار، استخدم الفلاسفة ضد هؤلاء جميعاً كل أسلحة الحرب الفكرية، من العقل والسخرية إلى الرقابة والقدح والذم. وتخلى فولتير عن هدوئه وغامر بأمنه وطمأنينته ليرد في شيء من الدعاية أكثر منه بالمحاجة والجدل غالباً، على كل من يهاجم الفلاسفة والعقل، فكتب إلى ديدرو "أرسل إليّ أسماء هؤلاء الرفاق التعساء، وسأعاملهم بما يستحقون"(40).

وكان من الصعب التعرض لمورو لأنه كان أمين المكتبة، وكان مؤرخ الملكة. وكان من الممكن التشهير ببومينان بالتفاصيل الصغير، والنبل من بالبسو بالتورية والتلاعب بالألفاظ، وهكذا كتب مارمونتيل قطعة من المتعذر ترجمتها "هذا الرجل كان اسمه ذات يوم بالي، وفي البداية أسموه بالي الغبي، ثم بالي المنحط وبالي الأحمق، وبالي العقيم وبالي البارد. وتتويجاً لهذا التقريع المطول العنيف وختماً لهذه المقطوعة الهجائية، وجاءت الكلمة المناسبة على لفور. فأسموه بالي المغفل، وهبوطاً إلى مستواك يجب علينا، أنا واللفظة أن نمزح مرحاً صاخباً، تأمل وفكر إذا استطعت أن تستخدم تلك الآلة ولكن لا تكتب، بل اقرأ "أيها الأحمق".

وأجل ديدرو الانتقام حتى يسرد فجور باليسو وفسقه في كتابه "أين أخي رامر"(41) وكاد ألا يكون جديراً بفيلسوف، ولكنه تورع عن نشرة، ولم يدفع به إلى المطبعة الفرنسية إلا بعد وفاة فريسته أو غريمه. على أن موريليه أخرج على الفور كتاباً لا يهزأ فيه من باليسو وحده بل كذلك من "حاميته" الآنسة دي روبيك-واستصدر أحد أصدقائها في البلاط الملكي أمر بإيداع موريليه سجن الباستيل (11 يونيه 1760) وحصل روسو على أمر بإطلاق سراحه، ولكنه قطع علاقته بالفلاسفة منذ ذلك الوقت. ولطخ باليسو انتصاره بالانغماس في اللهو والشراب. وفي 1778 انحاز إلى جانب أنصار فولتير، وانضم ثانية إلى الفلاسفة.

ووقعت أشد ضرباتهم على رأس فريرون. ووصفه ديدرو في ابن أخي رامو(42) بأنه "واحد من جماعة الأدباء المأجورين المبتذلين الذين عاشوا على مائدة الثرى (المليونير) برتان". وخصص فولتير إحدى مقطوعاته الساخرة لفريرون، حيث يقول "بالأمس القريب، في أحد الأدوية لدغ ثعبان جون فريرون، فماذا نظن قد حدث آنذاك؟ لقد مات الثعبان. ومن أمثلة البذاءة التي أساءت إلى سمعة فولتير والقرن الثامن عشر وصفه لفريرون بأنه "الدودة التي خرجت من إست ديفونتين"(43). ولكن الهجوم الأكبر ورد في رواية فولتير "المرأة الإسكندرية" التي بدأ تمثيلها على المسرح الفرنسي في 26 يوليو 1760 حيث كانت محاكاة ساخرة لرواية باليسو "الفلاسفة" مع مبالغات واضحة في أنها نسبت إلى ضحاياه مسئولية هزائم الجيوش الفرنسية في الرحوب وانهيار مالية الدولة. وصور فريرون على أنه كاتب مأجور مبتذل تافه في شارع جرب Grup street (شارع اشتهر بها الاسم سابقاً)، جاء بالرجس والعار في كل فقرة كتبها نظير بستول واحد (عملة أسبانية أوربية). ومن بين النعوت التي أطلقت عليه في رواية فولتير: وغد، ضفدع الطين (شخص تافه)، كلب، جاسوس، سحلية، ثعبان، موطن النجس والقذارة(44). واتبع فولتير نفس العادة المألوفة فملأ المسرح بأصدقائه أو "بالأخوة" ونافست هذه الرواية رواية باليسو في شعبيتها وإقبال الجمهور على مشاهدتها، ومثلت ست عشرة مرة في خمسة أسابيع. وخرج فريرون من العاصفة سالماً بحضوره العرض الأول مع زوجته الجميلة، وواضح أنه كان أول المصفقين. وتبين فولتير مزاج غريمه. فإذا سأل زائر عمن يؤخذ رأيه في قيمة الكتب الجديدة أو مزاياها، أجاب فولتير بقوله "ارجعوا إلى هذا الوغد فريرون...إنه الرجل الوحيد الذي له ذوق. إني مضطر إلى الاعتراف بهذا على الرغم من أنني لا أحبه"(45).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- سقوط اليسوعيين

كشف الانهيار السريع "لجمعية يسوع" عن روح العصر ومزاجه، ولو أن هذا السقوط نتيجة لتصرف برلمان باريس أكثر منه نتيجة لعمل الفلاسفة. أن مؤسسها أطلق عليها اسم "عصبة (شركة) يسوع" وأقرها البابا بول الثالث 1540 تحت اسم مجتمع يسوع-أي هيئة دينية تتبع قاعدة محددة، تعيش على الصدقات. وقد أصبح هؤلاء "اليسوعيين" كما سماهم النقاد-على مدى قرن من الزمان أقوى جماعة من رجال الدين في كنيسة الكاثوليكية، وما وافى عام 1575 حتى كانوا قد أسسوا في فرنسا وحدها اثنتي عشر كلية، وسرعان ما سيطروا على تعليم الشباب في فرنسا. ولمدة مائتي عام اختار ملوك فرنسا كهنة اعترافهم من بينهم، وحذا سائر الحكام الكاثوليك حذوهم. وبهذه الوسيلة وغيرها من الوسائل بات لهؤلاء اليسوعيين أو "جماعة يسوع" أبلغ الأثر في تاريخ أوربا بأسرها.

ومنذ بداية عهد اليسوعيين في باريس تقريباً كان البرلمان والسوربون يقاومانهم. وفي 1594 اتهمهم برلمان باريس بأنهم كانوا وراء محاولة جان شاتيل الاعتداء على حياة هنري الرابع. وفي 1610 اتهمهم البرلمان بتحريض رافياك على قتل الملك، وأيد البرلمان هذه الاتهامات بالإشارة إلى بحث اليسوعي الأسباني ماريانا الذي دافع فيه عن مشروعية قتل الملوك في ظروف معينة. ولكن جماعة يسوع ازدادت عدداً وقوة وسلطاناً وسيطرت على سياسات لويس الرابع عشر الدينية، وأدت به إلى مهاجمة الجانسنيين في بورت رويال، على أنهم كلفنيون تحت شعار أنهم كاثوليك. ولا تزال الأقلية المتعلمة تذكر "الرسائل الإقليمية" التي كتبها بسكال 1656، ومع ذلك فأنه في 1749 كانت جماعة يسوع تضم 3350 عضواً في فرنسا من بينهم 1763 كاهناً. وبرزوا بين رجال الدين في فرنسا بوصفهم أحسن العلماء والباحثين وأبرع اللاهوتيين وأفصح الوعاظ، واتقى المدافعين عن الكنيسة، وأنشطهم وأنجحهم، وأسهموا في كثير من العلوم، وأثروا في تطوير الفنون، وكانوا بإجماع الآراء أفضل المعلمين في أوربا. وكانوا يتميزون بصرامة أخلاقهم، ومع ذلك لجئوا إلى كل ألوان التحايل للتخفيف من متطلبات الأخلاق المسيحية عند الرجل العادي، وحتى مع هذا لم يتغاضوا قط عن فسق النبلاء والملوك وفجورهم، وبفضل إعدادهم أو تربيتهم الشاقة ومثابرتهم الصابرة، جعلوا من أنفسهم قوة تسيطر على سياسات الملوك وعقول الناس. وبدا في بعض الأحيان أن أوربا بأسرها قد تدعن لصلابة إرادتهم المتحدة المتميزة بالنظام والانضباط.

أن قوة اليسوعيين هي تقريباً التي قضت عليهم. وبدا واضحاً كل الوضوح لدى الملوك أن تأييد اليسوعيين لسلطة البابا المطلقة في مسائل الإيمان والأخلاق وغيرها، إذا لم يوضع له حد سيجعل من كل الحكام المدنيين أتباعاً للباباوات، ويعيد سلطان روما الإمبراطورية. أنهم ولو أنهم كانوا أقرب الجماعات إلى آذان الملوك، دافعوا عن حق الشعب في خلع الملك. أنهم ولو أنهم كانوا متحريين نسبياً في اللاهوت والأخلاق، وسعوا إلى التوفيق بين العلم و الكنيسة، فأنهم شجعوا روع الناس بتأييدهم دعوى مرجريت ماري الاكوك بأن المسيح كشف لها عن "قلبه المقدس" الذي يتحرق حباً للبشر. إنهم أنشئوا وبنوا عقول ديكارت وموليير وفولتير وديدرو، لمجرد أن يروا هؤلاء الرجال اللامعين ينقلبون عليهم وعلى نظام التعليم اليسوعي.

وأتهم منهج المدارس اليسوعية بتعلقه الشديد وحرصه البالغ على اللغة اللاتينية، إلى حد أنه عوق نمو المعرفة باستبعاد كل شيء اللهم إلا الأفكار التقليدية. إنهم اعتمدوا أكثر مما ينبغي على الذاكرة، وعلى الطاعة العمياء السلبية. ومن ثم فإن قيمة الدراسة فقدت كثيراً بسبب حاجة العصر إلى قدر أكبر من الاستفادة بالعلوم، وإلى نظرة أكثر واقعية إلى الحياة البشرية. وعلى ذلك فأن دالمبير في مقاله عن "الكلية" في الموسوعة رثى للسنوات الست التي قضاها الطلبة في المدارس اليسوعية في دراسة لغة ميتة، وأوصى بمزيد من الاهتمام باللغتين الإنجليزية والإيطالية والتاريخ والعلوم والفلسفة الحديثة. وأهاب بالحكومة أن تسيطر على التعليم، وتدخل منهجاً جديداً للدراسة في مدارس جديدة. وفي 1762 نشر روسو كتابة "إميل" أعلن فيه ثورة على التعليم.

ومهما يكن من أمر فأن الفلاسفة كانوا عاملاً أقل شأناً في سقوط اليسوعيين في فرنسا. إن نوعاً من الهدنة المتبادلة خيم على العداء المتبادل، ذلك أن الكفار احترموا علم اليسوعيين وخلقهم، وهؤلاء من جانبهم كانوا يأملون بالأناة والصبر في معالجة الأمور في أن يعيدوا هؤلاء المتشككين الخطائين إلى حظيرة الدين القويم. ووجد فولتير أنه من العسير عليه أن يشن الحرب على معلميه السابقين. وكان قد أرسل روايته "هنرياد" إلى الأب بوري راجياً أن يصحح ما قد يكون فيها من فقرات تسيء إلى الدين(46). وفي كتابه "معبد الذوق" كان قد امتدح في اليسوعيين تقديرهم لقيمة الأدب وكثرة استخدامهم للرياضيات في تعليم الشباب. وتجاوبت معه صحيفة تريفو بنشر تقريظ لرواية هنرياد، وكتابي "شارل الثاني" و "فلسفة نيوتن". وانتهى هذا الاتفاق شبه الودي حين لحق فولتير بفردريك في بوتسدام، فتخلى عنه زعماء اليسوعيين عند ذاك باعتباره نفساً ضائعة. ولكن في أواخر 1757 حاول بعضهم التوفيق بين فولتير وجماعة يسوع(47). وفي فرني (في 1758 وما بعدها) احتفظ فولتير بعلاقات ودية مع اليسوعيين المحليين واستمتع نفر منهم بكرم وفادته. وكان في نفس الوقت قد هاجم الكنيسة في مائة صحيفة في كتابه "رسالة في العادات والأعراف". كما كان يكتب مقالاً ضد المسيحية للقاموس الفلسفي. وعندما سمع بنبأ مهاجمة رئيس الوزراء كارفالو لليسوعيين في البرتغال (1757) وإحراق مالاجريدا اليسوعي (1764) شجب اتهامات كارفالو بأنها غير عادلة وإعدامه بأنه قسوة غاشمة(48). ولكنه طوال تلك السنوات كان هو نفسه في حرب مع كنيسة، وكانت كتابات "إخوته" ديدرو ودالميير وموريليه تسهم في إضعاف اليسوعيين في فرنسا.

وربما أسهمت المحافل الماسونية، المخصصة بصفة عامة لمذهب اليبوبية في عملية تقويض أركان اليسوعيين وإضعافهم. ولكن أقوى التأثيرات في المأساة كانت شخصية متعلقة بصراعات طبقية. ولم تستطع مدام دي بمبادور أن تنسى أن اليسوعيين قاموا كل خطوة في سبيل تسنمها مراقي العظمة السلطان، وأنكروا الغفران للملك مادام يحتفظ بها، ورفضوا أن ينظروا بعين الجد إلى عودتهما المفاجئة إلى التقوى والتمسك بأهداب الدين. وأعلن الكاردينال برنيس وكان لأمد طويل ذا حظوة لدى المركيزة، أن قمع حركة اليسوعيين في فرنسا يرجع أساساً إلى امتناع كهنة الاعتراف اليسوعيين عن منح الغفران لمدام دي بمبادور على الرغم من توكيداتها بأن علاقاتها بلويس الخامس عشر لم تعد جسدية(49). وردد الملك صدى استيائها: لماذا كان هؤلاء الكهنة متساهلين مع الآخرين، قساة متشددين مع المرأة التي أضاءت جوانب حياته المرهقة الموحشة؟ لماذا كانت تزداد ثروتهم المشتركة على حين كان هو يكافح من أجل الحصول على الاعتمادات اللازمة لجيشه وبحريته في حرب مشئومة تنذر بكارثة، ومن أجل ملابس عشيقته وأجور تدريبها وإعدادها في "منتدى الظباء". وكان داميين قد حاولوا قتل الملك، ولم يكن لليسوعيين علاقة ظاهرة بهذه المحلولة ولكن كان لداميين كاهن اعتراف يسوعي. ألم يدافع أحد اليسوعيين المتوفين عن فكرة قتل الملك؟ وبدأ الملك يصغي إلى شوازيل وإلى بعض شبه أنصار فولتير في وزارته، ممن قالوا بأن الوقت قد حان لتخليص الدولة من ربقة وصاية الكنيسة، وإقامة نظام اجتماعي أخلاقي مستقل عن رجل الدين النزاعيين إلى تعويق انتشار المعرفة، وعن لا هوت العصور الوسطى. وإذا كانت دولة البرتغال الصغيرة الغارقة في الخرافة قد تجاسرت على طرد اليسوعيين فلم لا تقدم فرنسا المستنيرة على مثل هذا؟

وتأثر اليسوعيين بهذه العداوات المختلفة وأشتد الارتياب في أنهم ربطوا بلين فرنسا والنمسا في حرب السنين السبع، ومن ثم فأنهم تعرضوا لكراهية مفاجئة بشكل غريب. وبعد هزيمة الفرنسيين على يد فردريك في روسباخ، وبعد أن وصلت أقدار فرنسا إلى الحضيض وأصبح منظر الجنود المقعدين المشلولين مألوفاً في باريس، بات اليسوعيين هدفاً للنكات والشائعات والافتراءات المشوهة للسمعة حتى إلى حد الاتهام باللواط(50). واتهموا بالانهماك في متاع الدنيا وبالهرطقة وبجمع الثروة وبأنهم عملاء لدولة أجنبية. وأنتقد كثير من رجال الدين غير المنتسبين إلى طوائف لاهوتهم بأنه متحرر مما ينبغي، وإفتاءهم في قضايا الضمير والسلوك والأخلاق بأنه مفسدة للأخلاق، وسياستهم بأنها تقوم على ارتماء فرنسا في أحضان روما. وفي 1759 كتب دالمبير إلى فولتير "إن الأخ برتييه والمتواطئين معه لا يجرؤن على الظهور في الشوارع في هذه الأيام خشية أن يلقى الشعب بالبرتقال البرتغالي على رؤوسهم"(51).

وكان برلمان باريس أعظم القوى التي انقلبت على اليسوعيين عداء، وكانت هذه الجماعة تتألف من محامين وقضاة يتدثرون في أردية كثيبة رهيبة مثل الملابس الكهنوتية، وينتمون إلى طبقة "نبلاء الرداء".

إن هذه الأرستقراطية الثانية المنظمة تنظيماً جيداً، الذرية اللسان كانت ترقى مدارج السلطة والسطوة بسرعة، وكانت متلهفة على تحدي سلطان رجال الدين. وفوق هذا كانت غالبية برلمان باريس من الجانسنيين. وعلى الرغم من كل القمع عاناه الجانسنيون فإن هذا المذهب المتشدد، وهو نتاج تشدد القديس بولص في مسيحية المسيح وهي أيسر وأخف، اجتذب قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى في فرنسا، وعلى الأخص تلك العقول القانونية التي أحست منطقه، ورأت فيه وقفة قوية ضد اليسوعيين. واتضح الآن بما لا يدع مجالاً للشك أن اليسوعيين هم الذين ألحوا على لويس الرابع عشر لتعقب الجانسنيين إلى حد تدمير بورت رويال تدميراً تاماً، وإكراههم الشديد على قبول المرسوم البابوي البغيض الذي جعل من الجانسنية هرطقة أنكى من الإلحاد. فهل تحين الفرصة للرد على هذا الإيذاء بمثله والانتقام لمثل هذا الاضطهاد! مهيأ اليسوعيين لبرلمان باريس هذه الفرصة. إنهم لعدة أجيال مضت قد اشتغلوا بالتجارة والصناعة، وسيلة لتمويل معاهدهم اللاهوتية وكلياتهم وبعثاتهم التبشيرية وسياستهم. إنهم في روما احتكروا كثيراً من نواحي الإنتاج والحرف والصناعات. وفي آنجرز بفرنسا أسسوا مصنعاً لتكرير السكر(52)، واحتفظوا بمراكز تجارية في كثير من الأراضي الأجنبية مثل جوا. وكانوا من أغنى المقاولين في مستعمرات أسبانيا والبرتغال في أمريكا(53). وجأرت المشروعات الخاصة بالشكوى من هذه المنافسة. حتى أن الكاثوليك الأفاضل تعجبوا كيف أن طائفة نذرت نفسها للتقشف مثل اليسوعيين تجمع مثل هذه الثروة. وكان من أنشط رجال الأعمال عندهم الأب انطوان دي لا فالت Valette الرئيس الأعلى لليسوعيين في جزر الأنتيل الذي أدار باسم الجماعة مزارع واسعة في جزر الهند الغربية واستخدم آلافاً من مبالغ ضخمة من مصارف مرسليا، ولسداد هذا القرض أرسل فرنسا سفناً محملة بالبضائع التي تقدر قيمتها بمليوني فرنك (5 ملايين من الدولارات)، ولكن البوارج الإنجليزية استولت عليها سنة 1755 في مقدمات حرب السنين السبع. وأملاً في تعويض هذه الخسائر اقترض فالت مبالغ أكبر، ولكنه أخفق وأعلن إفلاسه، وهو مدين بمبلغ 2.400.000 فرنك. وطالب الدائنون بالدفع، وطلبوا إلى جماعة اليسوعيين الاعتراف بمسئوليتها عن ديون لا فالت. ورفض زعماء اليسوعيين زاعمين أنه تصرف بصفة فردية، لا باسم الطائفة، وأقام أصحاب المصارف دعوى على الجماعة فنصحهم الأب فري Fery الخبير السياسي لها في فرنسا بعرض الأمر على البرلمان. وتم هذا في مارس 1761، وتعلق مصير الطائفة بأيدي أقوى أعدائها. وفي الوقت نفسه أرسل أحد اليسوعيين رسالة سرية إلى الملك يوصي فيها بطرد شوازيل من الوزارة بوصفه عدواً للجماعة والدين، ودافع شوازيل عن نفسه بنجاح.

وانتهز البرلمان الفرصة ليقوم بفحص دستور الجماعة وقوانينها ومستنداتها التي تكشف عن تنظيم الجماعة وأنشطتها. وفي 8 مايو أصدر حكماً في مصلحة الشاكين، وأمر الجاعة بتسوية كل ديون لا فالت. فشرع اليسوعيين في عمل بعض التسويات مع الدائنين الأصليين(55). ولكن في 8 يوليو قدم الراهب Terray إلى البرلمان تقريراً عن "المذهب الخلقي والعملي لجماعة اليسوعيين". وعلى أساس هذا التقرير أصدر البرلمان في 6 أغسطس قرارين قضى أحدهما بإحراق عدد كبير من مطبوعات اليسوعيين في القرنين السابقين لأنها تعلم مبادئ "بغيضة تدعو إلى سفك الدماء" وتهدد أمن المواطنين والملوك، كما حرم الانضمام إلى عضوية الجماعة بعد الآن في فرنسا. كما قضى بأنه حتى أول إبريل 1762، يجب إغلاق كل مدارس اليسوعيين، اللهم إلا تلك التي تحصل على ترخيص من البرلمان باستمرار الدارسة فيها. أما القرار الثاني فأباح تقديم الشكاوى ضد سوء استخدام السلطة في الجماعة أو بواسطتها. وفي 29 أغسطس أوقف الملك تنفيذ هذين القرارين، ووافق البرلمان على تعطيلها مؤقتاً حتى أول إبريل. وحاول الملك المنزعج الوصول إلى تسوية وسط. وفي يناير 1762 أرسل إلى كليمنت الثالث عشر وإلى لورنزو رتشي رئيس اليسوعيين اقتراحاً بأن تفوض منذ الآن فصاعد كل سلطاته في فرنسا إلى خمسة من القساوسة الإقليميين يقسمون اليمين على طاعة القانون الفرنسي، ومواد قانون 1682 التي أحلت الكنيسة الفرنسية في الواقع من الخضوع للبابا. وفوق ذلك يجب أن تكون المدارس اليسوعية خاضعة لتفتيش البرلمانات. ولكن البابا وريتشي رفضا الاقتراح في شيء من التحدي "فليبق اليسوعيون كما هم أو لا يبقون مطلقاً"(56). ولمصلحة جماعة اليسوعيين أهاب كليمنت برجال الدين الفرنسيين مباشرة. وفي هذا خرق للقانون الفرنسي. ورفض رجال الدين الفرنسيون رسالة البابا وأحيلت إلى الملك الذي أعادها إلى البابا.

ودخلت البرلمانات الإقليمية الآن حلبة النزاع وأضافت بعض التقارير التي تلقتها مزيداً من الاتهامات الموجهة إلى اليسوعيين. وتأثر برلمان رن Rennes في بريتاتني بالتقرير الذي قدمه النائب العام لويس رينيه دي لاشالوتيه في 1761-1762 عن "نظام اليسوعيين" الذي اتهم فيه الجماعة بالهرطقة والوثنية والأعمال غير المشروعة والدعوة إلى قتل الملوك، وأكد أنه لزام على كل يسوعي أن يقسم يمين الطاعة المطلقة للبابا ورئيس الطائفة الذي كان يقيم في روما. وأنه بناء على ذلك تكون الجماعة بمقتضى دستورها خطراً يهدد فرنسا ومليكها، ومن ثم ألح التقرير على أن يكون تعليم الأطفال حقاً مطلقاً للدولة لا مراء فيه. وفي 15 فبراير 1762 أمر برلمان روان كل اليسوعيين في نورمندي بإخلاء دورهم وكلياتهم وعزل كل المديريين الأجانب، وقبول القانون الفرنسي. وصدرت قرارات مماثلة من البرلمانات في رن، اكس أن بروفانس، بو، بريبنان، تولوز، وبوردو. وفي أول إبريل أمر برلمان باريس بتنفيذ قراراته ونقل إدارة المدارس اليسوعية في دائرة اختصاصه إلى مديرين آخرين.


وحاول رجال الدين الذين لا ينتمون إلى طوائف على الرغم من أنهم من الناحية التقليدية يحقدون على اليسوعيين، نقول حاولوا إنقاذهم، ووجهت جمعية من الأساقفة الفرنسيين في أول مايو نداء إلى الملك من أجل هذه الطائفة: التي هي نظام مفيد للدولة...وهم جماعة من المتمسكين بالدين الجديرين بالثناء، لنزاهة أخلاقهم وشدة انضباطهم، واتساع نطاق نشاطهم وعملهم وسعة إطلاعهم وعملهم، والخدمات التي لا تحصى التي قدموها للكنيسة...إن كل شيء يا صاحب الجلالة يناشدك العطف على اليسوعيين.

إن الدين يرى فيهم المدافعين عنه، وترى فيهم الكنيسة خدامها، كما يرى فيهم المسيحيون حراساً على ضمائرهم، إن عدداً كبيراً ممن كانوا تلاميذهم يتشفعون لديك من أحل معلميهم القدامى. وإن كل شباب مملكتك يدعون ويصلون من أجل أولئك اليسوعيين الذين يشكلون عقولهم وقلوبهم. نرجو يا مولاي أن تعير أذناً صاغية إلى توسلاتنا التي أجمعنا على تقديمها إلى جلالتكم(57).

وأضافت الملكة وبناتها والدوفين وغيرهم من حزب المتدينين في الحاشية تضرعاتهم من أجل اليسوعيين. ولكن شوازيل وبمبادور نصحا الملك آنذاك قطعاً بالإذعان للبرلمان وإغلاق المدارس اليسوعية. وذكرا لويس بأن عليه أن يفرض ضرائب جديدة، وأن هذا يتطلب موافقة البرلمان. وعلى حين كان الملك متردداً بين هذه النصائح المتضاربة، اتخذ البرلمان خطوات حاسمة. وفي 6 أغسطس 1762 أعلن أن جماعة يسوع لا تلتئم مع قوانين فرنسا، وأن الأيمان التي أقسمها الأعضاء، طغت على ولائهم للملك، وأن خضوع الجماعة لسلطة أجنبية جعل منها هيئة أجنبية داخل دولة مفروض أنها ذات سيادة. وبناء على ذلك أصدر البرلمان أمراً بحل الجماعة في فرنسا، وبتخلي كل الجزويت في بحر ثمانية أيام عن كل ممتلكاتهم في فرنسا، فأعلن أنها صودرت لجانب الملك.

وأخر الملك تنفيذ هذا القرار تنفيذاً كاملاً لمدة ثمانية شهور. ورفض برلماناً بيزانسون ودواي الامتثال لهذه القرارات، على حين أطال ثلاثة برلمانات ديجون وجرينوبل ومتز الجدل والمناقشة كسباً للوقت. ولكن برلمان باريس أصر. وأخيراً في نوفمبر 1764 أمر لويس بوقف نشاط جماعة اليسوعيين وقفاً تاماً في فرنسا. وبلغت قيمة الممتلكات المصادرة نحو 58 مليوناً من الفرنكات(58)، وربما ساعد هذا على موافقة الملك على حل هذه الطائفة. وخصص معاش ضئيل لليسوعيين السابقين، وسمح لهم بالبقاء في فرنسا لبعض الوقت. ولكن في 1767 قرر البرلمان وجوب مغادرة كل اليسوعيين السابقين أرض فرنسا. وتبرأ قليل منهم من الطائفة وبقوا في فرنسا.

وكان رحيلهم موافقاً للنبلاء والطبقة الوسطى والمثقفين ورجال الأدب والجانسنيين، ولكن لم يرقَ في أعين بقية الأهالي. واستنكر كريستوف دي بومونت رئيس أساقفة تصرفات البرلمان بشدة، وعبرت مجموعة رجال الدين الفرنسيين (1765) بالإجماع عن حزنها وأسفها لحل الجماعة ودعت إلى إعادتها. وأعلن البابا كليمنت الثالث عشر في مرسومه الرسولي براءة اليسوعيين، فأحرق المدعي العام المرسوم في شوارع عدة مدن، على أساس إن البابوات ليس لهم حق مشروع في التدخل في شؤون فرنسا(59). ورحب الفلاسفة في أول الأمر بطرد اليسوعيين باعتباره انتصاراً مشجعاً للفكر الحر. وأورد دالمبير في سرور تعليق جان أستروس العالم الباحث في الأسفار المقدسة، والذي قال فيه "إن الموسوعة، لا الجانسنيين، هي التي قضت على اليسوعيين(60). وزادت الآن بسرعة مطبوعات الفكر الحر. وفي عقد السنين التي تلت عملية الطرد، قارب دي هولباخ ومعاونيه حد الإلحاد.

وهما يكن من أمر فثمة تفكير ثانٍ، وهو أن الفلاسفة أدركوا أن الانتصار يرجع إليهم أقل مما يرجع إلى الجانسنيين والبرلمانات، وأن الفكر الحر ترك ليواجه عدواً أشد تعصباً من اليسوعيين بكثير(61). وعبر دالمبير في كتابه "تاريخ القضاء على اليسوعيين" عن ابتهاج يسير بمصيرهم:

يقيناً أن العدد الأكبر منهم، الذين لم يكن لهم صوت في إدارة الأمور كان يجدر ألا يتحملوا وزر أخطاء رؤسائهم، إذا كان هذا التفريق بين هؤلاء جائزاً من الوجهة العملية. وهناك آلاف من الأبرياء خلطنا مع الأسف بينهم وبين عشرين شخصاً مذنبين...إن القضاء على جماعة يسوع سيعود بأكبر النفع على العقل، شريطة ألا يرقى تعصب الجانسنيين إلى مستوى تعصب اليسوعيين.

وإذا كان لنا أن نختار بين هاتين الطائفتين، فإننا نؤثر جماعة يسوع التي هي اقل طغياناً وجوراً. فإن الجزويت الذين يخدمون الناس ويتكيفون معهم، شريطة ألا يعلن المرء عداءه لهم أجازوا للمرء أن يفكر كيفما يشاء. أما الجانسنيون فإنهم يفرضون على كل الناس أن يفكروا كما يفكرون هم. وإذا قدر لهم أن يسودوا لفرضوا على الناس تحكماً شديداً في الأذهان والكلام والأخلاق(62).

وكأنما أراد برلمان باريس الذي سيطر عليه الجانسنيون أن يضرب أمثلة توضح وجهة النظر هذه فأصدر في نفس عام 1762 الذي أمر فيه بحل جماعة يسوع أمراً بإحراق كتاب روسو "إميل القرن الثامن عشر"، وهو كتاب لا يتعارض مع الدين نسبياً. وفي تلك السنة أعدم برلمان تولوز الذي تحكم فيه كذلك، جان كالاس، وأحرق برلمان باريس في 1765 قاموس فولتير الفلسفي. وبعد ذلك بعام واحد ثبت حكم التعذيب والإعدام الصادر على الشاب شيفالييه دي لابار من محكمة آبفيل.

وفي 25 سبتمبر 1762 كان دالمبير قد كتب إلى فولتير: "هل تعلم ماذا سمعت عنك بالأمس؟ سمعت أنك بدأت ترثي لحال اليسوعيين، وأنك واقع تحت إغراء الكتابة في مصلحتهم"(63) لقد كان في قلب فولتير دائماً رصيد من شفقة والعطف، والآن وقد بدا أن المعركة ضد جماعة يسوع قد كسبت تماماً فإنه كان يسمع أصواتاً من اللوم والعتاب من معلميه الذين قضوا نحبهم. وأخذ إلى داره في فرني أحد اليسوعيين السابقين، هو الأب آدم الذي تسلم صدقاته، وغلبه دائماً في الشطرنج. وأحذر فولتير شالوتيه بقوله "احترس حتى لا يوقع الجانسنيون يوماً من الضرر والأذى قدر ما أحدث اليسوعيون....وماذا يفيدني أن أتخلص من الثعالب إذا أسلم ني للذئاب"(64). أنه خشي أن يعمد الجانسنيون مثل البيوريتانيين في القرن السابع عشر في إنجلترا إلى إغلاق المسارح، والمسرح كل هوى نفسه الأثير لديه تقريباً، ومن ثم كتب إلى دالمبير "كلن اليسوعيون ضروريين، وكانوا ضرباً من التسلية، وكنا نسخر منهم، أما الآن فسوف يسحقنا المتحذلقون"(65). وكان على استعداد للصفح عن اليسوعيين لمجرد أنهم أحبوا الآداب القديمة والمسرحية(66). وشاركه صديقه وعدوه فردريك الأكبر في هذه المشاعر. وسأل الأمير دي لين 1764: "لماذا قضوا على مستودع نفائس أثينا وروما، معلمي الإنسانيات وربما الإنسانية الممتازين، وهم اليسوعيون؟ أن التعليم سيعاني من القضاء عليهم....ولكن حيث أن الأخوة الملوك الأكثر كثلكة ومسيحية وإخلاصاً وإيماناً ورسولية قد طردوهم، فإني وأنا الأكثر هرطقة سأجمع أكبر عدد منهم وأحافظ عليهم"(67).

وعندما أنذر دالمبير بأنه سوف يأسف لهذا الود واللطف وذكره بأن اليسوعيين كانوا يعارضون غزوه لسيليزيا أنب الملك الفيلسوف بقوله:

"لا تنزعج من أجل سلامتي. أني ليس لدي ما أخشاه من اليسوعيين، إنهم يستطيعون تعليم شباب البلاد وهم أقدر على ذلك من غيرهم-حقاً إنهم كانوا يعارضونني أثناء الحرب، ولكنك بصفتك فيلسوفاً يجدر بك ألا تلوم أحداً لكونه عطوفاً رحيماً مشرباً بالروح الإنسانية تجاه أي فرد من الجنس البشري مهما كان من أمر دينه أو الجماعة التي ينتمي إليها. حاول أن تكون فيلسوفاً أكثر منك ميتافيزيقياً"(68).

وعندما حل البابا كليمنت الرابع عشر جماعة يسوع بأسرها 1773 أبى فردريك السماح بنشر المرسوم البابوي في مملكته. وظل اليسوعيون يحتفظون بممتلكاتهم وأعمالهم في بروسيا وسيليزيا.

ولم تعكر كاترين الثانية صفو اليسوعيين الذين وجدتهم في الجزء الذي استولت عليه من بولندا 1772، وبسطت حمايتها على اليسوعيين الذين دخلوا إلى روسيا فيما بعد. وثابروا وصبروا في جد متواصل حتى عودتهم (1814).


4- التعليم والتقدم

ولكن من ذا الذي يتولى الآن تعليم شباب فرنسا بعد أن ذهب اليسوعيون؟ هنا حدثت فوضى، ولكن حدثت كذلك ثورة وانقلاب في عالم التربية والتعليم.

إن شالوتيه وهو بعد متحمس لاتهامه لليسوعيين، وانتهز الفرصة وقدم لفرنسا رسالة عن التعليم القومي (1763) هلل لها الفلاسفة مرحبين بها. والآن كانت دعواه تقوم على أساس أنه لا يجدر بالمدارس الفرنسية أن تنتقل من أخوة دينية (طائفة) إلى أخرى-على سبيل المثال من طائفة "الأخوة المسيحيين" إلى "طائفة الأوراتوريين". أنه لم يكن ملحداً، إنه على الأقل رحب بتدعيم الدين للفضيلة والأخلاق القويمة، إنه يود تلقينها وإحلالها المحل اللائق بها، ولكنه لا يرضى بسيطرة رجال الدين على التعليم. وسلم بأن كثيرين منهم كانوا معلمين ممتازين لا ينافسهم أحد في صبرهم وجلدهم وإخلاصهم، ولكنه احتج بأن تحكمهم في فصول الدراسة بغلق الأذهان أن عاجلاً أو آجلاً دون الفكر الأصيل، يغرس في نفوس التلاميذ والولاء لدولة أجنبية، ويجب أن تلقن مبادئ الأخلاق مستقلة عن أي مذهب ديني "يجب أن يكون لقوانين الأخلاق الأسبقية على كل القوانين سماوية كانت أو بشرية، وينبغي أن تستمر ولو لم تعلن هذه القوانين الأخيرة مطلقاً"(69). إن شالوتيه كذلك رغب في غرس المبادئ ولكن كذلك أراد تلقين المثل العليا الوطنية(70) "إني أطالب للأمة بتعليم يعتمد على الدولة وحدها(71)". ويجب أن يكون المعلمون علمانيين، وإذا كانوا كهنة فيجدر ألا يكونوا من المنتمين لطائفة دينية. ويجب أن يكون الغرض من التعليم هو إعداد الفرد لا السماء بل الحياة، ولا للطاعة العمياء بل للخدمة الممتازة في مجالات المهن والإدارة وفنون الصناعة، ويجب أن تكون الفرنسية لا اللاتينية لغة التعليم، ويجب أن يخصص للغة اللاتينية وقت أقل وللإنجليزية والألمانية زمن أكبر. ويجب أن يشتمل المنهج على قدر كبير من العلوم. ومن أدنى المراحل حتى الأطفال بين سن الخامسة والعاشرة يمكن استيعاب مبادئ الجغرافيا والفيزياء والتاريخ الطبيعي. كذلك التاريخ ينبغي أن يكون له مكان أكبر في التعليم المدرسي. "ولكن الذي يعوز في العادة من يكتبون التاريخ ومن يقرئون التاريخ على حد سواء هو الذهن الفلسفي"(72). وهنا قلد شالوتيه فولتير إكليل الغار وشهد له بالسبق في هذا المضمار. وفي المراحل المتأخرة يجب أن يكون ثمة تعليم الفن وتربية الذوق. ويجب توفير الوسائل لتعليم الإناث، ولكن ليس من الضروري تعليم الفقراء، فإن لبن الزراع لن يتعلم في المدرسة خيراً مما قد يتعلم في الحقل، وإن تعليمه شيئاً غير هذا سيجعله غير راضٍ عن طبقته.

وصعق هلفشيوس وترجو وكوندورسيه لهذا الرأي الأخير، ولكن فولتير استحسنه وكتب إلى شالوتيه "أشكرك على تحريم التعليم على العمال. وأنا الذي أزرع الأرض احتاج إلى عمال يدويين لا إلى رجال دين حليقي الرؤوس، أرسل إليّ أخوة جهلة حقاً ليقودوا مركباتي أو يهيئوها للاستخدام"(73). وكتب إلى داميلا فيل الذي كان قد اقترح التعليم للجميع "أشك في أن أولئك الذين يكسبون قوتهم باستخدام عضلاتهم يكون لديهم فسحة من الوقت ليتعلموا، وسيموتون جوعاً قبل أن يصبحوا فلاسفة...وليس العامل اليدوي هو الذي يجب أن نعلمه بل البرجوازي ساكن المدينة"(74).وفي مواضع أخرى تنازل فأيد تعليم الجميع التعليم الابتدائي، ولكنه كان يأمل في تقييد التعليم الثانوي إلى حد يسمح بترك فئة كبيرة من العمال اليدويين ليقوموا بالأعمال البدنية في المجتمع(75). إن أول مهمة للتعليم في رأي فولتير هي وضع حد للتعليم الكنسي الذي رأى أنه مسئول عن الخرافات التي امتلأت بها عقول الجماهير وعن تعصب الناس.

وبناء على طلب كاترين الثانية 1773 رسم ديدرو "خطة جامعة لحكومة روسيا". واستنكر مثل شالوتيه المنهج التقليدي في عبارات نسمعها نحن اليوم:

"لا يزال يدرس في كلية الآداب لغتان ميتتان لا يستخدمهما إلا نفر قليل من المواطنين، وهاتان اللغتان تدرسان لمدة ست أو سبع سنوات دون أن يحفظا. وتحت اسم البلاغة يدرس فن الكلام قبل فن التفكير، وتحت اسم المنطق يملأ الرأس بتفاصيل دقيقة من أرسطو...وتحت اسم الميتافيزيقيا تبحث نقاط تافهة معقدة تضع أساس التشكك والتعصب كليهما. وهناك تحت اسم الفيزياء نزاع لا حد له حول المادة ونظام العالم دون كلمة واحد عن التاريخ الطبيعي (الجيولوجيا والميبولوجيا). أو عن الكيمياء وعن حركات الأجسام وجاذبيتها. وهناك تجارب قليلة جداً. ولا تزال الدراسة التشريحية قليلة وليس هناك جغرافيا(76).

ونادى ديدرو بسيطرة الدولة على التعليم وبمعلمين مدنيين، ومزيد من العلوم. فينبغي لان يكون التعليم عملياً يخرج الزراعيين والفنيين المتخصصين والأفراد العلميين والمديرين. ويجب ألا تدرس اللغة اللاتينية إلا بعد سن السابعة عشرة، ويمكن حذفها كلية إذا لم يتطلع الطالب إلى استخدامها. ولكن لا يمكن أن يكون الإنسان أدبياً دون معرفة باليونانية واللاتينية(77). وحيث أن العبقرية قد تظهر في أية طبقة فينبغي أن تكون المدارس مفتوحة أمام الجميع دون أجر، ويجب أن يقدم الطعام للفقراء ويزودوا بالكتب بالمجان(78).

وإذ هوجمت الحكومة الفرنسية على هذا النحو فأنها جاهدت لتفادي توقف التعليم نتيجة كطرد اليسوعيين، وخصصت الممتلكات المصادرة من الطائفة إلى حد كبير لإعادة تنظيم المدارس الخمسمائة في فرنسا. وجعلت هذه المدارس جزء من جامعة باريس. وحولت كلية لويس الأكبر إلى مدرسة للمعلمين لتدريب المدرسين، وحددت الرواتب على أساس بدا معقولاً.

وأعفي المدرسون من الضرائب البلدية ووعدوهم بمعاش تقاعد عند انتهاء الخدمة. وقبل البنكتيون والأوراتوريون والأخوة المسيحيون الانخراط في سلك المعلمين، ولكن الفلاسفة شنوا حملة أحدثت أثراً يذكر. وظل المذهب الكاثوليكي جزءاً هاماً في المنهج ولكن العلوم والفلسفة الحديثة بدأت تحتل مكان أرسطو والاسكولاسيين (الفلاسفة المسيحيين في العصور الوسطى)، وحاول بعض المدرسين المدنيين أن ينقلوا أفكار الفلاسفة(79). وأنشئت المعامل في الكليات مع أساتذة للفيزياء التجريبية، وفتحت المدارس الفنية والحربية في باريس والأقاليم. وكانت ثمة تحذيرات كثيرة بأن خطة الدراسة الجديدة ستعمل على تحسين العقول لا الأخلاق. وقد تضعف الفضيلة والانضباط وتؤدى إلى الثورة(80). ومهما يكن من أمر فإن الفلاسفة بنوا آمالهم للمستقبل على إصلاح التعليم. إنهم بصفة عامة اعتقدوا بأن الإنسان خير طيب بالطبيعة، وأن بعض انحرافات زائفة أو شريرة كهنوتية أو سياسية هي التي أفسدته، وكل ما ينبغي عليه أن يفعله هو أن يطهر نفسه من الخداع والبدع ويعود إلى "الطبيعة" التي لم يحددها أحد بعد تحديداً مرضياً. وهذا كما سنرى كان لب الموضوع عند روسو. وقد لحظنا إيمان هلفشيوس "بأن التعليم يمكن أن يغير كل شيء"(81). وحتى فولتير المتشكك نفسه ذهب في بعض الحالات إلى أننا جنس من القردة يمكن أن يتعلم ان يتصرف تصرفاً عقلانياً أو غير عقلاني(82). وأصبح الإيمان بإمكانات التقدم لا حدود لها عن طريق تحسين التعليم والتوسع فيه أحد التعاليم الهامة في الديانة الجديدة. إن السماء واليوتوبيا هما الدلوان المتنافسان اللذان يحومان حول بئر المصير والقدر فإذا هبط أحدهما صعد الآخر، والأمل يرفع الواحد منهما أو الآخر إلى أعلى كل بدوره. وربما إذا صعد كلا الدلوين خالياً وهنت المدنية وبدأت تفنى.

وفي 11 ديسمبر 1750 صاغ ترجو العقيدة الجديدة في محاضرة في السوربون بعنوان "الخطوات المتعاقبة إلى الأمام في الذهن البشري":

"إن الجنس البشري إذا تأملناه من القدم يبدو لعين الفيلسوف كلاً مترامي الأطراف، له مثل الكائن الفرد مرحلة طفولته وتقدمه...فتصبح آداب السلوك أكثر رقة وتهذيباً والذهن أكثر تنوراً، وتتقارب بعضها من بعض الأمم التي كانت آنذاك منعزلة، وتربط التجارة والعلاقات السياسية أركان الكرة الأرضية بعضها ببعض، ويستمر الجنس البشري بأسره فيما بين تقلبات الهدوء والعاصفة وتقلبات الأيام حلوها ومرها في مسيرته قدماً، ولو بخطى وئيدة نحو كمال يقرب منه دوماً(83). ووافق فولتير على هذا متردداً، فهو يقول: "قد نؤمن بأن العقل والصناعة سوف تتقدمان أكثر فأكثر، وتتحسن الفنون الناقصة. وأنه من بين الشرور والمساوئ التي تنتاب بني الإنسان ستختفي شيئاً فشيئاً الحزازات بين من يحكمون الأمم، ولو أن تلك الحزازات ليست أقل الكوارث، وأن الفلسفة بانتشارها على أوسع نطاق سيكون فيها عزاء لأرواح البشر عن المصائب التي يتعرضون لها في كل العصور(84)".

ورحب الفيلسوف المحتضر بتولي ترجو زمام السلطة في 1774 لأنه ليس لديه ثقة بالجماهير. وتعلقت لآماله باستنارة الملوك. إننا لا نستطيع تعليم الرعاع والغوغاء-كما كان يسمى عامة الناس-لأنهم منهوكون بالكد والكدح قبل أن يتعلموا التفكير. ولكن في مقدورنا أن نعلم قلة تقترب من الذروة فيعلمون الحاكم أو الملك. أن حلم "المستبدين المستنيرين" هذا باعتبارهم قادة مسيرة الجنس البشري، كان رسالة الملكية "المحفوفة بالمخاطر التي بنى عليها معظم الفلاسفة رؤيتهم للتقدم، وكان لديهم هواجس كثيرة تنذر بالثورة، ولكنهم أوجسوا منها خيفة أكثر مما رغبوا فيها. ووثقوا أن العقل قد يكسب الطبقة الحاكمة إلى جانبه، وأن الوزراء والحكام قد يستمعون إلى صوت الفلاسفة وينفذون الإصلاحات التي تحول دون الثورة، وتسير بالجنس البشري على طريق السعادة ومن ثم رحبوا بإصلاحات فردريك الثاني، واغتفروا آثام كاترين الثانية. ولو أنهم عاشوا لابتهجوا بجوزيف الثاني في النمسا. وما ثقتنا في الحكومة إلا أنها ذاك الأمل ينبعث من جديد؟


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

5- الأخلاقيات الجديدة

بقيت مشكلة معلقة مرهقة. يكتب البقاء لدولة دون ديانة تدعم النظام الاجتماعي بالآمال والمخاوف الخارقة للطبيعة (الجنة والنار)؟ هل يمكن الاحتفاظ بأخلاق شعبية عامة دون إيمان شعبي عام في أصل للقانون الأخلاقي، وإيمان باله بصير بكل شيء، إله يثيب ويعاقب؟ إن الفلاسفة (فيما خلا فولتير) زعموا أن هذه الدوافع ليست مطلوبة للأخلاق. ومع التسليم بأن هذا قد يصدق بالنسبة للقلة المثقفة، فهل يصدق بالنسبة للباقين؟ وهل كانت أخلاق القلة المثقفة صدى أخلاقياً للإيمان الذي فقدوه، وللتربية الدينية التي تلقوها؟

وقامر الفلاسفة بفعالية الأخلاق الطبيعية. وكانت الشكوك تخامر فولتير فيها، ولكن ديدرو ود المبير وهلفشيوش ودي هولباخ ومايلي، وترجو، وغيرهم دافعوا عن أخلاق يمكن أن تكوون مستقلة عن اللاهوت، أخلاق قوية إلى حد الصمود أمام تقلبات العقيدة أو الإيمان. وكان بيل قد مهد الطريق بمحاولة التدليل على أن الملحدين قد يكونون على خلق مثل المؤمنين تماماً، ولكنه كان قد عرف الأخلاق بأنها عادة الانسجام مع العقل، وافترض أن الإنسان حيوان عقلاني، كما أنه قد ترك العقل دون تعريف. وهل يكون المجتمع أو الفرد حكماً على ما هو معقول؟ وإذا اختلف المجتمع والفرد، فماذا غير القوة يكون لها القول الفصل بينهما؟ وهل يكون النظام الاجتماعي مجرد صراع بين تنفيذ القانون والتملص منه؟ وهل تحصى الفضيلة أو الأخلاق القويمة فرص الكشف فحسب؟ أن ف. ف توسان F. V. Toussin كان قد شرح الأخلاق الطبيعية في كتابه "العادات والأعراف" (1748)، وكان أيضاً قد عرف الفضيلة بأنها "الدقة والأمانة في الوفاء بالالتزامات التي يفرضها العقل"(85)، ولكن كم من الناس يستطيعون التفكير ، أو كم من الناس فكر بالفعل إذا كان هذا في مقدرته؟ ألم يتشكل الخلق (الذي يحدد الفعل) قبل أن بنمو العقل؟ ألم يكن العقل مطية أقوى الرغبات؟ تلك كانت بعض المشاكل التي واجهت الأخلاق الطبيعية.

وقبل معظم الفلاسفة شمولية حب الذات مصدراً أساسياً لكل الأفعال الإرادية أو الواعية، ولكنهم آمنوا بأن التعليم والتشريع والعقل قد تعمل كلها على تحويل حب الذات إلى تعاون متبادل ونظام اجتماعي. إن دالمبير بنى في ثقة الأخلاق الطبيعية على:

"حقيقة واحدة لا تقبل الجدل هي حاجة الناس بعضهم إلى بعض، والالتزامات المتبادلة التي تفرضها تلك الحاجة وإذ نسلم بهذا إلى حد كبير، فإن كل القوانين الأخلاقية تستتبعه في تسلل منتظم لا مناص منه ولا يمكن تفسيره. ولكل المشاكل المتعلقة بالأخلاق حل فوري في قلب كل منا، وهو حل قد تروغ منه أو تتحايل عليه أحياناً أهواؤنا وعواطفنا، ولكنها لا تقضي عليه مطلقاً. وحل كل مسألة بعينها يؤدي....إلى جذر الأساسي وهذا بطبيعة الحال هو مصلحتنا الذاتية وهي المبدأ الأساسي في كل الالتزامات الأخلاقية(86).

وتبين لبعض الفلاسفة أن هذا يتطلب هيمنة العقل بصفة عامة في الناس عموماً-أي مصلحة ذاتية "مستنيرة" إلى حد كاف لترى اختيار النفس (الاختيار الذاتي) في صورة كبيرة إلى حد يسمح بالتوفيق بين أنانية الفرد وخير الجماعة. ولم يشارك فولتير في هذه الثقة في ذكاء الأنانية وبدا له التعقل عملية استثنائية، ولآثر أن يؤسس الأخلاق على وجود غيرية (حب الغير) مستقلة عن حب الذات، واستمد هذه الغيرية من شعور بالعدالة بثه الله في الناس. واتهمه الأخوة بأنه يسلم القضية للدين.

ومذ افترض الفلاسفة شمولية حب الذات فأنهم بصفة عامة خلصوا إلى أن السعادة هي الخير الأسمى، وأن كل اللذات مجازة مسموح بها إذا كانت لا تؤذي الجماعة أو الفرد نفسه.

وجرياً على أساليب الكنيسة دبج جريم ودي هولباخ ومابلي وسانت لامبير كتيبات تفسر الأخلاقيات الجديدة. ووجه سانت لامبير كتيبه "التعاليم الشاملة" إلى الأطفال في سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة:

س- ما هو الإنسان؟

ج- كائن له شعور وعقل.

س- إذا كان هذا الكائن على ما تصف، فماذا يجب عليه أن يفعل؟

ج- يسعى وراء اللذة ويتجنب الألم.

س- أليس هذا هو حب الذات؟

ج- أنه النتيجة اللازمة له.

س- هل يوجد حب الذات في كل الناس بقدر سواء؟

ج- نعم، لأن كل الناس يهدفون إلى حفظ الذات وإلى تحقيق السعادة.

س- ماذا تفهم من السعادة؟

ج- حالة مستمرة نجد فيها لذة أكثر مما نعاني ألماً.

س- ماذا يجب علينا أن نفعل لنبلغ هذه الغاية (الحالة)؟

ج- يجب أن نهذب عقولنا ونفعل ما يمليه علينا العقل.

س- ما هو العقل؟

ج- معرفة الحقائق التي تفضي إلى سعادتنا ورفاهيتنا.

س- إلا يقودنا حب الذات دائماً إلى كشف تلك الحقائق والعمل بمقتضاها؟

ج- كلا، فليس كل الناس يعرفون كيف يمارسون حب الذات.

س- ماذا تعني بهذا؟

ج- أعني أن بعض الناس يمارسون ممارسة حقة وبعضهم يمارسونه ممارسة خاطئة.

س- من هم هؤلاء الذين سيمارسون حب الذات ممارسة صائبة؟

ج- هم الذين يحاولون أن يعرف بعضهم بعضاً ولا يفصلون سعادتهم عن سعادة الآخرين(87).


وركز الفلاسفة في أخلاقهم العملية على ذكرياتهم عن الأخلاقيات المسيحية. فأحلوا محل عبادة الله مريم والقديسين-هي العباد التي عاونت بطريق غير مباشرة للجنس البشري. أن الراهب سان بيير اقترح لفظة جديدة لفضيلة قديمة-البر والإحسان التي نترجمها ترجمة ضعيفة-وقصد بها العون الجاد المتبادل والتعاون مع الآخرين في أعمال الخير والبر المشتركة. ومع هذا أكد الفلاسفة كذلك على الإنسانية، أي التحلي بالروح الإنسانية وحب الخير العام، ولهذه جذورها وأصولها في ثانية الوصايا التي أعلنها السيد المسيح. ولابد أن رينال حين دمغ قسوة الأوربيين مع السود والهنود (في الشرق والغرب) بأنها عمل غير إنساني، وعرف أن أسقفاً أسبانياً هو لاس كاساس قد سبقه إلى هذا الاتهام في عام 1539. وكلن التحمس الجديد لمساعدة الفقراء والمساكين والمرضى والمظلومين كان يرجع أساساً إلى الفلاسفة. وفوق كل شيء إلى فولتير. أن إصلاح القانون في فرنسا يرجع إلى حملاته المتواصلة. وأشتهر رجال الدين الفرنسيون بالصدقات ولكنهم آنذاك مارسوا رؤية الأخلاق العملية في المسيحية يبشر بها الفلاسفة ويدعون إليها بنجاح يذكر. ونمت الأخلاقيات أكثر استقلالاً وانفصالاً عن الدين، وفي مجالات الروح الإنسانية والعطف والتسامح وحب البشر والعمل على تعزيز السعادة الإنسانية والسلام انتقل الأمر من أساس لاهوتي إلى علماني أو دنيوي، وأثرت على المجتمع بشكل لم يعهد له مثيل من قبل.

وحين واجه الفلاسفة المشكلات الأخلاقية التي ولدتها الحرب، تحاشوا التهدئة على حين كانوا ينصحون بالسلام، وأقر فولتير الحروب الدفاعية ولكنه دلل على أن الحروب عملية سلب ونهب، وأنها تؤدي إلى ضعف وفقر المنتصر والمنهزم على حد سواء، وأنها تجلب الغنى والثراء إلى نفر قليل من الأمراء ومقاولي الحرب والعشيقات الملكات، واحتج على غزو فردريك لسيليزيا، وربما كان يعيه في ذاكرته حين شرح في مقال غاضب عن "الحرب" في القاموس الفلسفي يرتضي كيف الضمير الملكي العدوان: "إن أحد علماء الأنساب يثبت لأحد الأمراء أنه ينحدر مباشرة من سلالة كونت عقد أبواه ميثاقاً عائلياً منذ ثلاثة أو أربعة قرون مع بيت لم تبق منه حتى الذكرى، وكان لهذا البيت بعض الحقوق المزعومة في الإقليم...إن الأمير ومجلسه يلمسون حقه على الفور . وهذا الإقليم الذي يبعد عنه لا بعدة مئات من الفراسخ، يحتج عبثاً بأنه لا يعرفه (أي الأمير) وأنه لا يرغب في أن يكون تحت حكمه وأنه لكي يسن القوانين لشعب هذا الإقليم يجب على الأقل الحصول علة موافقتهم ورضاهم. إن الأمير يحشد على الفور عدداً كبيراً من الرجال الذين لن يخسروا شيئاً، ويزودهم بالملابس الزرقاء الخشنة...ويأمرهم بالالتفاف يمنة ويسرة ويتقدم إلى ساحة المجد".

وعلى الرغم من ذلك نصح فولتاير كاترين الثانية بامتشاق الحسام لطرد الأتراك من أوربا، وكتب مرثية وطنية للضباط الذين ماتوا من أجل فرنسا في 1741، وبارك انتصار الجيش الفرنسي في فونتنوي.

ونبذ الفلاسفة القومية والوطنية على أساس أن هذه الأحاسيس والعواطف تعمل على تضييق مفهوم الإنسانية والالتزامات الخلقية، وأنها جعلت من السهل على الملوك أن يقودوا شعوبهم إلى الحرب. وشجبت مقالة "الوطنية" في القاموس الفلسفي "الوطنية" باعتبارها أنانية ضيقة الأفق. إن فولتير توسل إلى الفرنسيين أن يخففوا من بتفاخرهم بسمو اللغة والأدب والفن والحرب، وذكرهم بأخطائهم وجرائمهم ونقائصهم(88). وكان مونتسيكو وفولتير وديدرو وكالمبير في فرنسا كما كان لسنج وكانت وهردر وجيته وشيلر في ألمانيا، أوربيين طيبين ثم بعد ذلك فرنسيين أو ألمان. وكما أن ديانة واحدة ولغة واحدة كانتا قد أنشأتا "العالمية" في غرب أوربا في العصور الوسطى، فكذلك نمت العالمية في القارة نتيجة لانتشار اللغة والثقافة الفرنسيتين.

وتحدث روسو في 1755 عن تلك "الأذهان العالمية التي تهمل الحواجز التي أقيمت لتفصل بين الأمم بعضها عن بعض، والذين مثل الذات العلية التي خلقتهم يحتضنون الجنس البشري بأسره في نطاق النزعة إلى عمل البر والخير(89). وفي مكان آخر كتب في مبالغة ملحوظة "لم يعد هناك فرنسي ولا ألماني... هناك فقط أوربيون"(90) ولم يصدق هذا على النبلاء ورجال الفكر، ولكن في هذه الطبقات امتدت الروح العالمية من باريس إلى نابلي وبطرسبرج. وحتى في زمن الحرب اختلط الأدب بإضرابهم ممن هم في طبقتهم عبر الحدود، فقد رحب المجتمع الباريسي بهيوم وهوراس وولبول وجيبون وآدم سميث، بينما كانت فرنسا مشتبكة في جرب مع إنجلترا. وأحس الأمير دي ليلن أنه في وطنه وعشيرته في كل عاصمة أوربية تقريباً. والجنود أنفسهم كان لديهم شيء من هذه النزعة العالمية. قال فرديناند دوق بنزويك "أنه لمل يشرف كل ضابط ألماني أن يخدم تحت لواء فرنسا"(91) وكانت في الجيش الفرنسي كتيبة بأكملها "الكتيبة الملكية الألمانية" مكونة من الألمان. ووضعت الثورة الفرنسية حداً لهذه النزعة العالمية في التوافق الشديد في العادات والعقول، وتضاءلت هيمنة فرنسا، وازدادت الروح القومية.

وهكذا نجد الثورة الفكرية التي كانت إلى حد ما نتيجة رد فعل أخلاقي ضد قساوات الآلهة والكهنة قد انتقلت من نبذ اللاهوت القديم إلى أخلاق قائمة على أخوة عالمية اشتقت من أجمل جوانب العقيدة التي طرحت جانباً. ولكن المشكلة هي هل يمكن لقانون أخلاقي لا يسانده ويدعمه الدين أن يحتفظ بنظام اجتماعي؟ وهي مشكلة باقية دون حل، وهي لا تزال تواجهنا. أننا نعيش هذه التجربة الحرجة الدقيقة.


6- تراجع الديانة

وفي الوقت نفسه، حتى الآن، بدا الفلاسفة وكأنهم كسبوا المعركة ضد المسيحية. أن المؤرخ النزيه إلى حد الإعجاب هنري مارتن وصف شعب فرنسا في 1762 بأنه جيل ليس لديه أي إيمان بالمسيحية"(92). وفي 1770 قال المحامي العام سيجويه Siguier في تقرير له:

"سعى الفلاسفة بإحدى اليدين أن يشلوا العرش، وباليد الأخرى أن يقلبوا المذابح (أن يهدموا الكنائس). وكان غرضهم أن يثيروا الرأي العام ضج النظم المدنية والدينية. وهذا الانقلاب على حد قولهم قد بدأ بالفعل. فإن التاريخ والشعر والقصص بل حتى القواميس قد تسربت إليها عدوى التسمم بالتشكك وعدم التصديق. ولا تكاد كتاباتهم تنشر قبل أن تطغى على الأقاليم مثل السيل الجارف، وامتدت العدوى إلى المصانع والأكواخ"(93).

وكأنما كان إيضاحا لهذا التقرير أن يجمع سليفان ماريشال في 1771 "قاموس الملحدين" الذي توسع فيه بتضمينه ابيلا وبوكاشيو والأسقف بركلي(94). وفي 1775 أعلن رئيس أساقفة تولوز أن "الإلحاد الرهيب البشع أصبح الرأي السائد"(95). وذهبت مدام دي ديفان إلى أن الإيمان بالمعجزات المسيحية أصبح خامداً مثله في ذلك مثل التصديق بالأساطير اليونانية(96)، وبقي الشيطان ضرباً من لغو الكلام، والجحيم أضحوكة(97).وأزعج علم الفلك الجديد رب اللاهوت في الفضاء وكأنما يتراجع عن الفضاء مع ارتياد الكواكب في زماننا هذا. وفي 1756 تحدث توكفيل عن ضعف الثقة في الإيمان الديني الذي انتاب الناس في أواخر القرن الثامن عشر(98).

لقد بولغ في كل هذه التصريحات والبيانات، وربما قيلت وباريس والطبقات العليا والمثقفة مائلة في أذهان ناشريها. إن حكم لكي Leeky أكثر تميزاً وتحديداً حيث يقول: إن الكتب والنشرات المعادية للمسيحية عبرت عن الآراء وأثبتت المطالب عند جمهور الطبقات المتعلمة. وتغاضى كل موظفي الإدارة في مصالح الحكومة جميعاً عن انتشارها وتداولها، أو أقل أنهم رحبوا بهذا وذاك(99). وظل عامة الفرنسيين متعلقين بعقيدة العصور الوسطى سلوى وعزاء لحياتهم الكادحة المرهقة، فلم يقبلوا المعجزات القديمة فحسب بل الجديدة كذلك ووجد الباعة المتجولون سوقاً رائجة للتماثيل الصغيرة التي تمثل معجزات العذراء(100). وكانت التماثيل والمخلفات تحمل في المواكب بغية تفادي الكوارث العامة أو وضع حد لها وزوالها. وازدحمت الكنائس حتى في باريس أيام الأعياد الكبرى في السنة الدينية، ودوت أجراس الكنائس بالترانيم في المدينة تدعو الناس إليها. وكانت "الأخوات" الدينية تضم أعضاء كثيرين وبخاصة في مدن الأقاليم. وأكد سيرفان لدى لمبير حين كتب إليه من جرينوبل (1767): "قد تدهش أيها الأخ لتقدم الفلسفة في هذه المناطق الهمجية غير المتمدينة". وفي ديجون كان هناك ستون مجموعة من الموسوعة، ولكن تلك كانت حالات استثنائية، وبقيت البرجوازية الإقليمية في جملتها مخلصة للكنيسة. وفي باريس وصلت الحركة الجديدة إلى كل طبقة. وكان العمال يزداد عداؤهم للكنيسة، وكانت المقاهي قد طردت الرب منذ زمن بعيد.

وروى أحد النبلاء كيف أن حلاقه قال له وهو يصفف شعره "أنت ترى يا سيدي أنني شخص مسكين تافه، ولكني مع ذلك لم يعد لي دين مثل أي إنسان آخر"(101). وواصل نساء الطبقة الكادحة عبادتهن القديمة واستخدمن مسابحهن في شغف زائد. أما السيدات العصريات الأنيقات فقد اتبعن أسلوب الفلاسفة على أية حال، واستغنين عن الدين إلى حد كبير، وأرسلت كل منهن تقريباً في طلب القسيس حتى تأكدن من دنو الأجل. وكانت معظم الصالونات الكبرى تتبع الفلاسفة. واحتقرت مدام دي ديفان هؤلاء الرجال، ولكن مدام جيوفرين رحبت بهم في أمسياتها، حتى اكتظت بهم مائدتها. وتكاثروا حول الآنسة لسبيناس وتصدر جريم صالون مدام ابيناي، ووصف هوراس وولبول الجو الفكري للصالونات في 1765 فقال: "هناك إله وهناك ملك يحب القضاء عليهما. والرجال والنساء جادون في تدميرهما. أنهم يظنونني دنساً لأن لدي بقية من إيمان(102)... والفلاسفة لا يطاقون، وهم سطحيون متغطرسون متعصبون، إنهم لا ينقطعون عن التبشير والدعوة، وهم يجهرون بالإلحاد، وقد لا تصدق مبلغ صراحتهم، فلا تعجب إذن إذا عدت أنا يسوعياً(103).

وعلى الرغم من ذلك اختارت الأكاديمية لعضويتها تسعة من الفلاسفة في الانتخابات الأربعة عشر التي جرت فيما بين عامي 1760 وفي 1772، وجعلت دالمبير سكرتيرها الدائم. والتهم النبلاء في ابتهاج مشوب بالعداء للدين كل ما قدمته لهم العقول القوية. وقال لاموث لانجون "كان الإلحاد سائداً إلى حد بالغ في المجتمع الراقي، وكان الإيمان بالله دعوة إلى الحماقة والسخف وانتشر الكفر والبعد عن الدين بين الأرستقراطية بعد 1771(105). وكانت دوقة دانفيل ودوقات دي شوازيل وجرامونت ومونتسيون وتسي ربوبيات. وارتبط رجال من ذوي المناصب الرفيعة في الحكومة-مثل شوازيل وروهان وموريباس وبوفو وشوفيلين بأواصر الود والصداقة مع دالمبير وترجو وكوندورسيه. وفي الوقت نفسه أوضح الفلاسفة لفرنسا أن النظام الإقطاعي جاوز عمر الفائدة المرجوة منه، وأن الامتيازات الوراثية جور متحجر طال عليه الزمن، وأن صانع الأحذية الطيب خير من لورد مبذر لا يصلح لأي عمل، وأن كل السلطة مستمدة من الشعب.

وسرت العدوى حتى إلى رجال الدين. وفي 1769 قاس تشامفورت درجة تزعزع الإيمان لدى رجال الدين تبعاً لتسلسل مراتبهم الكنيسة: "يجب أن يؤمن القسيس قليلاً، أما وكيل الكنيسة فيبتسم لأية قضية ثتار ضد الدين، ويسخر الأسقف دون تحفظ، ويضيف الكاردينال ملاحظة بارعة أو نكتة ساخرة من عنده(106). وعدد ديدرو ودي هولباخ مجموعة كهنة متشككين من بين أصدقائهم. وكان القسوسة تورني وفوشيه، وموري، ودي بولوني "من بين أكثر من يرددون آراء الفلاسفة"(107). وأنا لنسمع عن "جماعة القساوسة ذوي العقول الناضجة" وبعض هؤلاء الكهنة الأذكياء كانوا ربربيون، كما كان بعضهم ملحدين-وعاد مسلييه إلى الحياة. إن المركيز دي شاستللولكس أبلغ بريستلي حين كان يتناول العشاء مع ترجو 1774 "إن السيدين الجالسين أمامه هما أسقف أكس ورئيس أساقفة تولوز، ولكنهما ليسا أكثر إيماناً منك ومني، وأكدت له أني مؤمن. وأبلغني مسيولي روى الفيلسوف أني أنا الوحيد المدرك الواعي الذي عرف أنه مسيحي"(108). وكان الإلحاد بعض الأصدقاء حتى في الأديار. وتجنباً للفضيحة والعامة كان دوم كولينيون يسمح لعشيقتيه بأن تكونا معه على المائدة حين يكون الضيوف الآخرون من الأصدقاء الموثوق بهم. ولك يكن يسمح لطائفة الرسوليين أن تتدخل في ملذاته، ولكنه أعتبر الديانة نظاماً جديراً بالإعجاب للحفاظ على الأخلاق عند العامة(110). وتحدث ديدرو (1769) عن يوم قضاه مع راهبين: "قرأ أحدهما المسودة الأولى لرسالة حديثة قوية جداً عن الإلحاد، زاخر بالأفكار الجديدة الجريئة. وعلمت في شيء من الدهشة أن هذه هي النظرية السائدة في أديارهم. وبالنسبة للبقية كان هذان الراهبان نموذجاً فذاً للأديار. وكانا يتحليان بالتفكير والمرح والانبهاج وحسن النية والمعرفة(110).

ويروي لنا مؤرخ كاثوليكي غيور أنه في أواخر القرن الثامن عشر كان قد حل شعور بالاحتقار، مبالغ فيه، ولكنه عام شامل، في كل مكان، محل التبجيل الذي كانت الأديار الكبرى قد بثته في العالم الكاثوليكي(111).

إن ازدياد التسامح نتج أساساً من تدهور الإيمان الديني. فمن السهل أن نكون متسامحين إذا كنا غير مكترثين. إن نجاح فولتير في قضيتي كالاس وسيرفنس حرك عدداً من حكام الأقاليم إلى مطالبة الحكومة المركزية بتخفيف القوانين ضد البروتستانت، وتم هذا بالفعل ولم تلغ قوانين الهرطقة ولكنها كانت تطبق بشيء من الاعتدال. وترك الهيجونوت في سلام كما كان فولتير قد اقترح، وأبدى برلمان تولوز ندمه، بتطبيق مبدأ التسامح إلى حد أزعج الملك(112). وأصدر بعض الأساقفة-مثل فيتز جيمس أسقف سواسون 1757-رسالة كهنوتية يدعو فيها كل المسيحيين إلى اعتبار الناس أخوة(113).

وأضفى فولتير على الفلاسفة شرف هذا الانتصار، فكتب إلى دالمبير 1764 "أن الفلاسفة وحدهم هم الذين إلى حد ما هذبوا سلوك الناس، وإنه لولاهم لشهدنا مذبحتين أو ثلاثاً من مثل مذبحة سانت برثلميو في كل قرن(114).وينبغي أن نلاحظ مرة أخرى أن الفلاسفة أنفسهم كانوا أحياناً متعصبين، أن دالمبير ومارمونتيل حرضا مالشرب على كبح جماح فريرون (1757)(115)، وطلب إليه دالمبير أن تقييم الدعوة القضائية على بعض نقاد الموسوعة (1757)، وحثته مدام هلفشيوس على إسكات صحيفة كانت قد عرضت بكتاب زوجها "الذكاء" 1768. وفي بعض المناسبات توسل فولتير إلى السلطات لإيقاف حملات التشهير بجماعة الفلاسفة والطعن فيهم والسخرية منهم(116). وبقدر ما كان التشهير حقيقياً-أي افتراء مؤذياً-فقد كان لتوسلاته ما يبررها.

وكان ثمة عوامل أخرى غير الفلسفة لنشر التسامح، فإن الإصلاح الديني على الرغم من أنه أقر التعصب، خلق فرقاً وشيعاً كثيرة. كان بعضها قوياً إلى حد الدفاع عن نفسه، إلى درجة أن التعصب نادراً ما تجاوز حد الكلام. وكان على هذه الشيع والفرق أن تتجادل وتقرع الحجة بالحجة، وقبلت اختبار العقل كارهة، ورفعت من شأنه. إن ذكرى الحروب "الدينية" في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وما تنج عنها من خسائر اقتصادية، حولت كثيراُ من الزعماء الاقتصاديين والقادة السياسيين إلى التسامح. ووجدت بعض مراكز التجارة مثل همبرج وأمستردام ولندن، أنه من الضروري أن تصبر على مختلف المذاهب والعقائد التي يعتنقها زبائنهم الذين يتعاملون معهم. إن ازدادا قوة الدولة القومية جعلها أكثر استقلالاً عن الوحدة الدينية باعتبارها وسيلة للاحتفاظ بالنظام الاجتماعي، وانتشار التعرف على مختلف المدنيات والثقافات أضعف ثقة كل عقيدة في احتكارها للإله، وفوق كل ذلك جعل تقدم العلوم من العسير على العقيدة الدينية أن تصل إلى القساة والهمجية مثل محاكمات محكمة التفتيش أو إعدام السحرة. وتقبل الفلاسفة بسرور معظم هذه التأثيرات في دعايتهم من أجل التسامح واستدعوا بحق أن بعض الفضل في الانتصار، وكان مقياس نجاحهم أنه بينما في النصف الأول من القرن الثامن عشر كان دعاة الهيجونوت لا يزالون يعلقون على أعواد المشانق في فرنسا، حدث في 1776 أو 1778 أن دعا ملك كاثوليكي سويسرياً بروتستانتياً لإنقاذ الدولة.


7- الخلاصة

هكذا انتهى كما بدأنا، إذ نرى أن الفلاسفة واللاهوتيين-لا المحاربين والدبلوماسيين-هم الذين كانوا يحاربون معركة القرن الثامن عشر الحاسمة. وأننا كنا على حق في تسمية هذه الحقبة "عصر فولتير". قال كوندورسيه "إن الفلاسفة من مختلف الأمم، إذ اعتنقوا في تأملاتهم المصلحة العامة لبني البشر كونوا كتيبة قوية متحدة ضد أي وصف للخطأ أو أي لون من الظلم والطغيان(117)، وكانت على أية حال كتيبة متحدة. وسنرى روسو يتخلى عن الحياة والسلطان، وكان يحاول التوفيق بين الفلسفة والدين. ولكنه كان حقاً صراعاً من أجل النفس الإنسانية. ونتائجه بارزة بيننا اليوم. وفي هذا الوقت ترك فولتير فرني لانتصاره في باريس (1778). إن الحركة التي كان قد قادها أصبح لها الغلبة في السيطرة في مجال الفكر في أوربا ووصفها فريرون عدوها اللدود بأنها "مرض العصر وحماقته(118)". وهرب اليسوعيون وولي الجانسينيون الأدبار، وتغيرت كل نغمة المجتمع الفرنسي. ونهج كل كاتب في فرنسا تقريباً نهج الفلاسفة، وسعى إلى كسب رضاهم. وباتت الفلسفة تحت مئات العنوانات وآلاف الشفاه، "إن عبارة مديح من فولتير أو ديدرو أو دالمبير كانت أثمن وأعظم قيمة من نيل الحظوة عند أي أمير ومن عطفه(119). ووقعت الصالونات والأكاديمية الفرنسية، بل حتى وزراء الملك نفسه، أحياناً، تحت تأثير الفلاسفة.

واحتال الزوار الأجانب على الدخول إلى الصالونات طمعاً في لقاء مشاهير الفلاسفة والاستماع إلى حديثهم، حتى إذا عادوا إلى بلادهم نشروا الأفكار الجديدة. وهاهو ذا هيوم، على الرغم من أنه استبق فولتير في كثير من آرائه، نراه ينظر إليه على أنه استاذ معلم. وبعث روبرتسون إلى فرني بكتابه القيم "شارل الخامس" وكان تشسترفيلد وهوراس وولبول وجاريك من بين المراسلين الكثيرين لفولتير في إنجلترا. وأسهم سمولت وفرانكلين وغيرهما في إعداد ترجمة إنجليزية لمؤلفات فولتير في سبعة وثلاثين مجلداً لنشرها في إنجلترا (1762). وفي أمريكا تأثر مؤسسو الجمهورية الجديدة تأثراً عميقاً بكتابات الفلاسفة. أما في ألمانيا فيمكنك أن تستمع إلى ملاحظات جوته إلى اكرمان في 1820 و1831:

"ليس لديك فكرة عن مبلغ تأثير فولتير ومعاصريه عليّ في شبابي، وكيف تسلطوا على ذهن العالم المتحضر بأسره...إنه يبدو لي أنه شيء رائع عجيب حقاً أن ترى أي رجال هؤلاء الذين ظهروا في ميدان الأدب في فرنسا في القرن الأخير. وكم تتولاني الدهشة لمجرد النظر في هذا. إنها حركة التحول في أدب عمره قرن من الزمان، والذي كان آخذاً في النمو منذ عهد لويس الرابع عشر حتى أينع الآن وأثمر وآتى أكله.(120)

وشارك الملوك والملكات في التهليل والتصفيق لفولتير، وتاهوا عجباً بأنهم في عداد أتباعه. وكان فردريك الأكبر من أوائل من أدركوا أهميته. والآن في عام 1767 عبد ثلاثين عاما من التعرف عليه في كل معايب شخصيته وكل توقد ذهنه، هلل فردريك للانتصار في الحملة ضد الرجس والعار. وقوضت أركان صرح الخرافة من أساسها. "وستدون كل الأمم في حولياتها أن فولتير كان هو الذي أحدث هذا الانقلاب الجاري الآن في الروح الإنسانية في القرن الثامن عشر"(121). وشاركت كاترين الثانية قيصرة روسيا وجوستاف الثالث ملك السويد في هذا التملق. ومما لا نزاع فيه أن الإمبراطور جوزيف الثاني كان مديناً بفضل روح إصلاحاته للفلاسفة، ولو أنه يلعن عن نفسه بمثل هذه الصراحة. وتسلم المعجبون مقاليد السلطة في ميلان وبارما ونابلي ومدريد، وكلها بلدان كاثوليكية. وفي 1767 لخص جريم الموقف بقوله: (إني ليسرني أن أشهد جمهورية مترامية الأطراف من ذوي العقول المثقفة تتكون في أوربا. إن الاستنارة تنتشر في كل مكان)(122).

إن فولتير نفسه وقد قهر في نفسه التشاؤم الذي يصاحب كبر السن، نراه يردد نغمة الانتصار: (إن العقول الراجحة المشكلة تشكيلاً حسناً كثيرة الآن، وهي تتصدر الأمم وتؤثر في سلوك الجماهير. وأن التعصب الذي طغى في الأرض لينحسر سنة بعد سنة جوره الكرية. وإذا لم تعد الديانة الآن تثير الحروب الأهلية فأننا مدينون بهذا للفلسفة وحدها. وبدأ الناس ينظرون إلى الصراعات الدينية وكأنها عرض في مسرح العرائس في السوق. إن العقل الذي يبسط سلطانه وحكمه، ينسف في كل لحظة أي جور بغيض مؤذ قائم على الخداع والاحتيال من جهة، وعلى الغباء من جهة أخرى(123).

ولنوف الرجل حقه. أننا قد بعد معرفتنا بتطرفات الثورة وإسرافها وبرد الفعل الذي تلاها، بأن الفلاسفة (باستثناء فولتير) كانت لديهم ثقة متفائلة في الطبيعة البشرية، وأنهم انتقضوا الآن من قوة الغرائز التي تولدت في آلاف السنين من عدم الشعور بالأمن ومن الوحشية والهمجية، وأنهم بالغوا في قوة التعليم لتنمية العقل ضابطاً متحكماً إلى حد كاف في هذا الغرائز، وأنهم عموا عن مطالب الخيال والعاطفة، وصمت آذانهم عن صيحات المقهورين التماساً لعزاء الإيمان، ولم يقيموا كبير وزن للتقاليد والنظم التي أنتجتها قرون من التجربة والخطأ، وأقاموا وزناً كبيراً للعقل الفردي الذي هو في أحسن الظروف نتاج لحياة قصيرة ضيقة محدودة. وإذا كانت هذه تقديرات خاطئة خطيرة فأنها لم تتأصل في مجرد زهو أو غرور فكري، ولكن تأصلت كذلك في طموح واسع الآفاق في إصلاح البشر وتحسن أحوالهم. إننا مدينون لفلاسفة القرن الثامن عشر-وربما للفلاسفة الأكثر عمقاً في القرن السابع عشر-بالحرية النسبية التي ننعم بها في الفكر والكلام والعقائد، كما أننا مدينون لهم بالفضل في تضاعف عدد المدارس والمكتبات والجامعات، وفي مئات من الإصلاحات الإنسانية في القانون والحكومة، وفي معالجة الجريمة والعلل والأدواء والأمراض العقلية. ونحن مدينون لهم ولإتباع روسو بفضل الاستثارة العظيمة للذهن التي أنتجت أدب القرن التاسع عشر وعلومه وفلسفته، وفن الحكم وإدارة شؤون الدولة فيه. وبسببهم استطاعت دياناتنا أن تتحرر أكثر فأكثر من الخرافة البليدة الكئيبة واللاهوت الذي يبتهج بالتعذيب، كما يمكنها أن تولي ظهروها لمعوقات التقدم والاضطهاد، وتتبين الحاجة إلى عطف متبادل من مختلف نواحي جهلنا وآمالنا. وبسبب هؤلاء فإننا هنا الآن نستطيع أن نكتب دون خوف ولا وجل، ولو مع شيء من اللوم. إننا إذا توقفنا عن تمجيد فولتير وتكريمه سنكون غير جديرين بالحرية.