قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 5 ف 20
صفحة رقم : 12561 قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> ديدرو بروتيه -> القائل بوحدة الوجود
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل العشرون: ديدرو وبروتيه 1758-1773
القائل بوحدة الوجود
إننا نسميه بروتية Proteus لأنه مثل إله البحر عند هوميروس، حاول أن يفلت من أيدي صائديه بالتشكل في مختلف الأشكال(1). أما فولتير فقد أطلق على ديدرو أسم بانتوفيلس، لأنه أولع بكل فروع العلوم والأدب والفلسفة والفن. وكان له بكل هذه المجالات معرفة واسعة، وأسهم في كل واحد منها إسهاماً مثيراً موحياً. وكانت الأفكار هي كل زاده وعتاده. فجمعها وتذوقها وفحصها. ثم سكبها مشوشة تشويشاً مسرفاً حيثما وجد قرطاسياً خالياً أو آذاناً صاغية "إني أضع أفكاري على الورق ولتكن ما تكون"(2) وربما أصبحت أعداء. ولم ينسق قط بينها ولم يهتم قط بترابطها. ويمكن أن نقتبس عنه في أي أتجاه تقريباً، ولكن نزعته المركبة كانت جلية واضحة. وكان أكثر أصالة من فولتير، وربما كان السبب في هذا أنه لم يرتض قط المعايير التقليدية. وقد يطلق لنفسه العنان دون قيود مقبولة. وتتبع كل نظرية أنى قادته، أحياناً إلى أعماقها وأحياناً أخرى إلى حثالتها. وتعرف على كل وجهات النظر إلا وجهات نظر القسيس والقديس لأنه لم يكن لديه حقائق أو أشياء يقينية "أني لا أهتم بتشكيل السحب أكثر مني بتبديدها، وتعطيل القرار أو الحكم، لا بأتخاذه.. أنا لا أقرر، بلى أتساءل(3) أنا أترك ذهني يهيم إلى حد السرف، وأطلق العنان لمتابعة أية فكرة سليمة كانت أو طائشة، تأتي أو تقفز إلى ذهني أولاً، وأتعقبها كما يتعقب الشباب الداعر محظية بائسة وهي تبتسم، وتتلألأ عيناها وتنظر بأزدراء... إن أفكاري هي محظياتي(4).
وكان لديدرو خيال عقلاني، فتخيل الأفكار والفلسفات والشخصيات كما يتخيل الآخرون الأشكال والمشاهد. ومن غيره كان يستطيع في زمانه أن يتصور "أين أخي رامو" المخزي اللا أخلاقي الفاتن. إنه بعد أن يخلق أحد شخوصه يدعه ينمو ويتطور وكأنما يفعل ذلك طواعية وأختياراً. ثم يدع هذه الشخصية تقوده، وكأنما المؤلف هو الدمية المتحركة أو الألعوبة. إنه تخيل نفسه في مكان راهبة شابة كارهة ثم جعلها حقيقة إلى حد أن المتشككين الفرنسيين تولاهم الجزع لمحنتها. أنه جرب الأفكار تجريباً عقلياً، وتمسك بها بعض الوقت، وتخيل نتائجها منطقياً أو عملياً، ثم طرحها جانباً. وما كادت توجد فكرة في هذا العصر إلا دارت بخلده. أنه واقعياً لم يكن مجرد موسوعة متحركة، بل كان معملاً متنقلاً. سارت أفكاره معه أينما سار.
وهكذا فإن ديدرو في كتابه "بعض الأفكار في تفسير الطبيعة" الذي نشره في 1754 غفلاً من أسم المؤلف، بترخيص ضمني من الرقيب الكريم المحسن مالشرب -تلاعب عن الأحدية (القول بأن ثمة مبدأ غائباً واحداً، كالعقل أو المادة. القول بأن الحقيقة كل عضوي واحد). والمادية والآلية والحيوية (المذهب الحيوي الذي يقول بأن الحياة مستمدة من مبدأ حيوي وأنها لا تعتمد أعتماداً كلياً على العمليات الفيزيائية والكيميائية) والتطور. وكان لا يزال متأثراً ببيكون وأخذ عنه العنوان والصيغة الحكيمة ودعوة رجال العلم ليتكاتفوا في العمل على قهر الطبيعة عن طريق التجريب والعقل. وتأثر كذلك بكتاب موبرتيوس "منهج عام للطبيعة" (1751) وكتاب بيفون (التاريخ الطبيعي (1749). وأتفق مع موبرتيوس على أن كل مادة قد تكون حية، ومع بيفون في أن علم الحياة (البيولوجيا) مستعد الآن للتحدث إلى الفلسفة. ورحب عند المؤلفين كليهما بفرضية التطور الناشئة.
وبدأ ديدرو بمخطط ضخم: (إنها الطبيعة هي التي أريد أن أصفها، إن الطبيعة هي الكتاب الوحيد أمام الفيلسوف(5) وتصور أن الطبيعة قوة نصف عمياء ونصف ذكية، تؤثر في المادة وتبعث فيها الحياة، وتهيئ للحياة مليون شكل تجريبي، وتدخل التحسين على هذا العضو. وتنبذ ذاك العضو، تحي وتميت بشكل مبدع. وفي هذا المعمل الكوني ظهرت وأختفت آلاف الأنواع.
(أنه مثل ما هو حادث في مملكتي الحيوان والنبات، ينشأ فرد وينمو ويبقى ثم يهلك ويزول، فهلا يمكن أن تكون كل الأنواع على هذا المنوال؟ إذا لم تعلمنا العقيدة أن الحيوانات تأتي عن يدي الخالق كما نراها، وإذا كان هناك أدنى شك في بدايتها ونهايتها، فهلا يفترض الفيلسوف المستسلم لخواطره أن الحيوانية أخذت عن كل الأبدية كل العناصر الخاصة بها، ثم تبعثرت وأختلط بكتلة المادة، وحدث أن هذه العناصر أتحدت كلما أمكن حدوث هذا الأتحاد، وأن الجنين الذي تكون من هذه العناصر مر بتنظيمات وتطورات لا حد لها، أنه أكتسب على التوالي حركة وأفكاراً وتفكيراً وتأملاً ووعياً مشاعر وأنفعالات ورموزاً وإيماءات وأصواتاً واضحة ولغة وقانوناً وعلوماً وفنوناً، وأن ملايين من السنين أنقضت بين هذه التطورات، وأنه قد لا يزال أمام هذا الكانن تطورات أخرى يمر بها وأضافات أخرى يتلقاها، غير معروفة لنا الآن... وأنه قد يفقد هذه لمواهب والقدرات كما أكتسبها، وأنه قد يختفي إلى الأبد من الطبيعة، لا بل أنه قد يبقى على قيد الحياة في شكل آخر بمواهب وقدرات مختلفة كل الأختلاف عما نراه فيه في هذه اللحظة من الزمان؟(6) إن الطبيعة عند ديدرو هي كل شيء وهي إلهه. ولكننا لا نعرف عن جوهرها إلا وفرتها المضطربة والتغير الدائب الذي لا يهدأ فيها. والطبيعة هي المادة الحية. ولكن المادة تحتوي في نفسها على أندفاع الحياة وعلى إمكانية التفكير. وليس الإنسان آلة كما أنه ليس روحاً غير مادية، والجسم والنفس كائن واحد ويفنيان معاً (إن كل شيء يدمر نفسه ثم يهلك ولا يبقى إلا العالم، ولا يثبت إلا الزمان(7) والطبيعة محايدة ولا تعمد إلى التفريق بين الخير والشر والكبير والصغير والآثم والقديس. وأنها تعني بالأنواع الفرد. فلينضج الفرد ويتكاثر ثم ليمت ولسوف يفنى كل نوع كذلك. أن الطبيعة حكيمة في عدد لا يحصى من التفاصيل البارعة التي يبدو أنها تكشف عن التخطيط إنها تمنح الكائنات غرائز تمكنها من الحياة ومن تهيئة الحياة لغيرها، ولكن الطبيعة أيضاً عمياء تدمر الفلاسفة والحمقى على حد سواء، بقذيفة واحدة من النار أو بضربة واحدة من يدها على أديم الأرض، ولن يكون في مقدورنا أن نفهم الطبيعة ولا أن نكشف النقاب عن أغراضها أو معناها إذا كان لها ثمة أغراض أو معنى، لأننا نحن أنفسنا طوال تاريخنا الدموي الجليل من بين ألعابها أو رياضاتها العابرة المتناهية في الصغر.
حلم دالمبير
تابع ديدرو تأملاته في الطبيعة في واحد من أغرب المؤلفات في الأدب الفرنسي -حلم دالمبير (وأمتاز ديدرو بعرض أفكاره في صورة حلم، ودس "الحلم على صديقه بأن جعل أثنين من مشاهير المعاصرين -جولي دي لسبيناس ودكتور تيوفيل دي بوردو -متحدثين في الحوار. وقال ديدرو لخليلته "إني أضع أفكاري على لسان رجل يحلم. وغالباً ما يكون ضرورياً أن نضفي على الحكمة جواً من السخف والحمق حتى نهئ لها مدخلاً"(8) وتحت هذه الأقنعة أطلق العنان لخياله الفلسفي غير مبال بأي خطر شخصي أو أية نتائج أجتماعية، وكان مسروراً غاية السرور بالنتيجة. ووصفه صوفي فوللاند بأنه (أكثر ما كتب حمقاً وعمقاً، فيه خمس أو ست صفحات تجعل من شعر رأسك ينتصب"(9) على أنه أكد لها أنه لم يتضمن كلمة واحدة خاطئة(10). أنه كتبه في عام 1769 وقرأ أجزاء منه على أصدقائه، وفكر في طبعه، والمفروض في الخارج. فأحتجت الآنسة دي لسبيناس لأسباب سوف تتضح فيما بعد. وفي حركة بطولية ألقى بالمخطوطة في النار، وربما كان يعلم أن هناك نسخة أخرى. وعلى أية حال طبع الكتاب في 1830.
أنه عمل ثلاثي. وفي "المحادثة" الأولية بين ديدرو ودالمبير يعترض العالم الرياضي على مذهب صديقه المادي الحيوي بأنه ليس مقبولاً أكثر من قبول مفهوم الله عند رجال اللاهوت في القرون الوسطى. يقول ديدرو: "ليس بينك وبين الحيوان إلا فارق واحد في الكائن الحي (درجة التطور العضوي) وكذلك الحال بين الحيوان والنبات". ومن ثم فإن كل شيء في الإنسان يجب أن تكون له بذرته أو نظيره في النباتات". ويسأل دالمبير: وفي المادة أيضاً؟ فيرد ديدرو بالإيجاب، لأنك "كيف تعرف أن الوجدان لا يلتئم مع المادة -أنت الذي لا تعرف جوهر أي شيء لا المادة ولا الوجدان؟ وليس ثمة إلا جوهر واحد في الكون في الإنسان وفي الحيوان"(11).
وبيرز الجزء الثاني من هذه الثلاثية دكتور بوردو والآنسة دي لسبيناس إلى جوار سرير دالمبير وهو نائم بعد أمسية قضاها في الجدل والحوار مع ديدرو (وكانت الآنسة وقد أشتهرت فعلاً بصالونهاتقيم مع دالمبير في لون من الحياة الأفلاطونية). وتروى للطبيب أن صديقها رأى فيما يرى النائم حلماً مزعجاً وأنه تحدث في نومه حديثاً غريباً وأنها دونت بعض ملاحظات عن هذا الحديث، مثال ذلك إن دالمبير قال لديدرو "أنتظر قليلاً أيها الفيلسوف. أنا أستطيع أن أدرك بسهولة مجموعة... من الكائنات الصغيرة التي تحس، ولكن الحيوان؟ هل هو كل.. بوعي من وحدته الخاصة به؟ أنا لا أرى هذا(12) ويرى الحالم في منامه أن ديدرو يروغ إذ من السؤال يتخذ موقفاً عفوياً "عندما رأيت المادة الهامدة تصبح في حالة شعور فلا شيء يدهشني بعد ذلك"(13). ويتابع ديدرو: "إذا كانت كل الأنواع الموجودة ستزول فإنها أو أية أشكال أخرى من الحيوان ستنتج على إمتداد الزمن تخمر الأرض والهواء. ويشترك بوردو والآنسة في المناقشة، ولكن تقاطعهما صرخة مفاجئة من الرجل الذي يحلم والذي يتحدث الآن مثل ديدرو. "لماذا أكون أنا الآن كما أنا؟ لأنه لم يكن ثمة مفر من أن أكون كذلك. إذا كان كل شيء في تغير عام متواصل فما الذي لا يمكن إنتاجه هنا أو في أي مكان آخر بمرور ملايين القرون وتقلباتها؟... ومن يدرينا أن الكائن المفكر الذي يحس ويشعر موجود على كوكب زحل؟... هل يمكن أن يكون للكائن المفكر الذي يحس ويشعر في زحل حواس أكثر منا؟ آه إذا كان الأمر كذلك لكان ساكن زحل سيء الحظ لأنه كلما أزدادت الحواس أزدادت الحاجات (14)". ويعلق بوردو على ذلك "أنه علىحق طبقاً لنظرية لا مارك في التطور العضوي، فإن الأعضاء تولد الحاجات وبالتبادل تولد الحاجات الأعضاء".
ويصحو دالمبير لحظة ويجد بوردو يقبل لسبيناس فيحتج. ويأمرانه بالعودة إلى النوم فيمتثل. وينسى الطبيب وصاحبته الصالون ويتتبعان الأفكار التي بدأت في الحلم ويشير بودرو إلى ولادة المخلوقات الإنسانية الغريبة ويتحدى المؤمنين بالتخطيط الألهي أن يفسروها. وتسنح للأنسة لمحة خاطفة بارعة "ربما كان الرجل مجرد صورة مشوهة من المرأة أو المرأة صورة مشوهة من الرجل(15). ويضيف الطبيب إلى هذا على طريقة ديدرو "الفرق الوحيد بينهما أن لأحداهما كيس يتدلى في الخارج وللأخر كيس مثبت في الداخل". ويستيقظ دالمبير ويحتج "أنت تتحدث بكلام بذئ إلى الأنسة لسبيناس" وينهض بودرو لأنه كان على موعد مع مريض آخر، ويتوسل إليه دالمبير أن يبقي ليفسر له: "كيف حدث أنه ظل كما هو بالنسبة لنفسه وللآخرين طوال التقلبات التي عاناها طوال سني حياته على حين أنه ربما لم يعد لديه شيء قط من الجزيئات التي كانت عند مولده"؟ قيجيب الطبيب "أنها الذاكرة و...بطء التغيرات". وتقدم الآنسة قياساً مثيراً "أن الدير يحتفظ بروحه لأنه يمتلئ بالرواد شيئاً فشيئاً وإذا قدم راهب جديد فأنه يجد مائة راهب قديم يقودونه إلى أن يفكر ويحس مثل ما يفعلون هم أنفسهم(16)".
ويسيطر بوردو منذ الآن على المناقشة وهو يفرق بين النزعة الرومانتيكية والنزعة التقليدية القديمة حسبما تسيطر الحواس على الذهن الواعي أو يسيطر الذهن الواعي عليها. ويرى أن لسبيناس مثال واضح على الحالة الأولى ويقول لها في رقة "إنك ستوزعين وقتك بين الضحك والدموع ولن تكوني أكثر من طفل" ويذكر تفسيراً فسيولوجياً للأحلام: "النوم حالة لا يعود يوجد فيها تنسيق بين الحواس عن طريق الوعي أو الهدف، ولا يعود يوجد أي عمل مدبر أو نظام وضبط والسيد (النفس الواعية) ستسلم لهوى أتباعه (الحواس)... هل الخيط (الأعصاب) مشدود؟ إذن يرى أصل الشبكة (المخ). وإذا أراد خيط السمع فإنه يسمع. والفعل ورد الفعل (الأحساس والأستجابة) هما الشيئان الوحيدان اللذان يبقيان بينهما. وهذا نتيجة طبيعية لقانون الأستمرار والعادة. إذا بدأ الفعل بالغاية الشهوانية التي قدرتها الطبيعة للذة الحب، وتكاثر النوع فإن أثره على أصل الحزمة (المجموعة) هو الكشف عن صورة المحبوب. ومن جهة أخرى إذا ظهرت هذه الصورة بادئ ذي بدء لأصل الحزمة فستكون شدة الرغبة الشهوانية وهياج السائل المنوي وتدفقه، هذه كلها ستكون نتيجة رد الفعل... وفي حالة اليقظة تذعن الشبكة للصور التي يطبعها في الذهن شيء خارجي. وفي حالة النائم، فإنه من ممارسته شعوره الخاص، ينبثق كل شيء في نفسه. وليس في الحلم شيء يصرف الأنتباه ومن ثم كانت حيويته ونشاطه"(17).
وربما أحس بودرو بأن المريض الذي كان قد قرر زيارته قد يشفى بالطبيعة أسرع منه بالدواء، ولذلك نسيه، وأنطلق يشرح الجبرية (الإيمان بالقضاء والقدر) ويصف "إحترام الذات، والخجل والندم" بأنها صبيانيات مبنية على جهل وغرور شخصي ينسب لنفسه مزايا ونقائض في لحظة لا مفر منها(18).
وأفتتن ديدرو بالطبيب بوردو ناطقاً بلسانه، حتى أنه في الجزء الثالث "مواصلة المحادثة" أغفل دالمبير. وإذ تحرر الطبيب فإنه أنكر العفة بأعتبارها أمراً غير طبيعي، ويقر الأستمناء متنفساً ضرورياً عن الحويصلات المكتظة أو المحتققة "أن الطبيعة لا تجيز شيئاً غير ذي فائدة. فهل أكون ملوماً في مساعدتها إذا أهابت بي لمعونتها في أقل الأعراض شبهة وريبة؟ ويجدر بنا إلا نستفزها أبداً، بل نمد لها يد المعونة بين الحين والحين"(19). ويختتم الطبيب كلامه بتحبيذ التجارب في مجال الخلط المنتج بين مختلف الأنواع، حيث يمكن أن ينتج هذا الخلط نمطاً من الإنسان الحيوان الذي قد يقنع بخدمة الإنسان. وتستبق الآنسة لسبيناس أناتول فرانس والبطارقة، فتتساءل: وهل ينبغي تعميد أنصاف الرجال هؤلاء؟
بوردو (وهو يهم بالخروج): هل رأيت في حديقة الحيوان، في قفص من زجاج إنسان الغاب (ضرب من القردة العليا الشبيهة بالإنسان يقطن في بورنيو وسومطره) يبدو وكأنه سان جون يلقي المواعظ في الصحراء؟ الآنسة: نعم رأيته.
بوردو (وهو يغادر المكان): قال له الكاردينال دي بوليناك، "تكلم وأنا أعمدك(20).
وفي "مبادئ الفسيولوجيا" (1774) صاغ ديدرو نظريته في التطور، متأملاً في الحلقة المفقودة، فهو يقول "من الضروري أن نبدأ بتصنيف الكائنات، إبتداء من الجزئ الخامل غير الفعال (إذا وجد) إلى الجزيء النشيط الفعال، إلى الحيوانات الدقيقة التي لا ترى إلا بالمجهر... إلى النبات، وإلى الحيوان، وإلى الإنسان... يجدر ألا يصدق المرء أن سلسلة الكائنات قد عوقتها وأعتراض سبيلها تباين الأشكال وتنوعها، فالشكل مجرد قناع خداع. وربما وجدت الحلقة المفقودة في كائن غير معروف، لم يستطع علم التشريح المقارن بعد أن يحدد مكانه الحقيقي(21).
ديدرو والمسيحية
كان ديدرو قد وعد صوفي فوللاند بأنه لن يتعرض للديانة في "حلم دالمبير" والواقع بطبيعة الحال أن "الثلاثي" أورد فلسفة أستغنت عن الألهة تماماً. وظل ديدرو في العلن ربوبياً متمسكاً بأن الله هو "المحرك الرئيسي" فقط، منكراً العناية الألهيه والتخطيط والتدبير الألهي. وكان من الناحية النظرية "لا أدرياً" ينكر أي علم أو أهتمام بأي شيء فيما وراء دنيا الحواس ودنيا العلوم، وتحدث أحياناً بشكل غامض عن وعي كوني تعثر وتخبط عبر زمان لا حدود له، وقام بتجارب تنتج الآن أشخاصاً غريبة عقيمة أو يسبب أحداثاً سعيدة -لا يكاد يكون إلهاً يتقبل الصلوات والدعوات. ويمكن أن يصبح في أحدى نوبات الغضب خصيماً عنيفاً، وأنبأ عن مبغض البشر الذي بث فكرة الإله، إنتقاماً من الحياة، وأنتشرت الفكرة، وسرعان ما تشاجر الناس وكره بعضهم بعضاً، وقطع الواحد منهم رقبة الآخر. وكانوا يفعلون نفس الشيء منذ جرى هذا الإسم الكريه على الألسنة. وأضاف ديدرو في إبتهاج مقرون بالحذر "ربما ضحيت بحياتي في سبيل القضاء على فكرة الإله قضاء مبرماً"(22). ومع ذلك فإن نفس العبقرية المهوشة أحست بنظام الكون وعظمته المذهلتين، وكتب إلى الآنسة فوللاند: "أن الإلحاد أقرب ما يكون إلى الخرافة، وكلاهما صبياني طائش"، ثم أضاف "لقد جن جنوني لأني حائر متورط في فلسفة شيطانية لا أملك إلا أن يقرها ذهني وينبذها قلبي"(23) وأقر في سنيه الأخيرة بعد ذلك صعوبة أشتقاق العضوي من غير العضوي أو الفكر من الأحساس"(24).
ولكن ديدرو لم يهدأ قط في حملاته على المسيحية، وثمة فقرة مثيرة من رسالة خاصة تلخص موقفه منها، "من رأيي أن العقيدة المسيحية أسخف وأشنع ما تكون في تعاليمها ومبادئها، كما أنها مستعصية على الفهم، ميتافيزيقية مربكة غامضة إلى أبعد الحدود. ومن ثم كانت أكثر تعرضاً للأنقسامات والشيع والإنشقاقات والهرطقات، وأكثرها أيذاءً وأزعاجاً للهدوء العام، وخطراً على الملوك والحكام في تسلسل مراتبها الكهنوتية وأضطهاداتها ونظامها العام، وهي أشد العقائد فتوراً وكآبة وبعداً عن المدنية، وعبوساً في طقوسها، وأشد صبيانية وأنطوائية وبعداً عن الروح الأجتماعية في أخلاقياتها... وهي متعصبة لا تحتمل إلا أقصى(25)".
وفي "نزهة المتشكك" (1747) كان ديدرو قد أعترف بخدمات الكنيسة في تقويم السلوك وتهذيب الأخلاق ولكنه بعد ذلك رأى أن المسيحية، على حين تنهي عن الجرائم البسيطة، تبعث على إقتراف الجرائم الكبيرة، "سياتي، آن عاجلاً أو آجلاً، الوقت الذي نرى فيه أن نفس العقيدة التي حالت بين الإنسان وبين سرقة شلن واحد، تكون سبباً في قتل 100 ألف شخص. تعويض رائع(26)! ومهما يكن من أمر، فإن لأفكارنا الدينية أقل الأثر في أخلاقنا(27)، والناس يرهبون القوانين الحالية أكثر مما يخشون نار جهنم الآجلة والإله الذي لا يرونه. أن القسيس نفسه قلما يعتمد على الدعاء والصلاة للآلهة، اللهم إلا إذا كان المرء لا يعنيه إلا قليلاً(28). وفي 1773 تنبأ ديدرو بأن الإيمان بالله والخضوع للملوك لن يعود لهما وجود في بحر سنوات قلائل في كل مكان(29) ويبدو أن النبوءة تحققت في فرنسا في 1792. ولكن ديدرو تنبأ أيضاً "بأن الإيمان بوجود الله سيبقى"(30).
ومثل معظم الذين فقدوا إيمانهم بالمذهب الكاثوليكي، فإن نفس ديدرو الذي ذهب إلى أن المراسم والطقوس الكاثوليكية كئيبة حزينة، ظل حساساً لجمال ووقار الشعائر الكاثوليكية، ودافع عنها ضد النقاد البروتستانت في صالونه 1765، فهو يقول: "أن هؤلاء المتشددين الحمقى لا يدركون مدى تأثير الطقوس المظهرية على الناس. أنهم لم يشهدوا قط توقير الصليب في يوم الجمعة الحزينة، وحماسة الجماهير في موكب عيد القربان، وهي حماسة كانت في بعض الأحيان تجرفني أنا نفسي. أني لم أر قط هذا الصف الطويل من القساوسة في ملابسهم الكهنوتية، ومساعديهم الصغار في ثيابهم البيضاء ينثرون الزهور أمام القربان المقدس، ولم أر هذه الجماهير الحاشدة التي تسبقهم وتعقبهم في صمت ديني رهيب، كما أن كثيراً من الناس ينبطحون على الأرض. ولم أسمع قط هذه التراتيل الوقورة التي ينشدها الكهنة وترددها في حب وإخلاص الجموع الخفيرة من الرجال والنساء والأطفال، إلا أهتز قلبي من الأعماق، وذرفت عيناي الدموع"(31).
ولكنه استأنف الهجوم بعد أن مسح عينيه. ففي "مناقشة فيلسوف مع المارشال دي... (1776) تخيل رجلاً متشككاً أسماه كروديلي (معناها بالأيطالية قاس) يتحدث مع أحدى سيدات المجتمع النبيلات، تعتقد أن من ينكر "التثليث المبارك" إنما هو متوحش مصيره إلى المشنقة. وتدهش السيدة إذ تجد أن كروديلي الذي هو ملحد، ليس أيضاً لصاً ومنغمساً في الشهوات يقول"أظن أنه إذا لم يكن لدي شيء أخشاه أو آمل فيه بعد الموت فأني سأستبيح لنفسي كثيراً من الملذات اليسيرة هنا". ويسأل كروديلي "وما هي هذه الأشياء"؟ "أني أعترف بها للكاهن فحسب... ولكن ما لذي يدفع غير المؤمن ليكون طيباً إلا إذا كان مجنوناً؟" أنها تتراجع قليلاً أمام حججه ثم تتخذ خط دفاع آخر: "ينبغي أن يكن لدينا ما نرهب به الأعمال التي تفلت من قبضة القانون القاسية وفضلاً عن ذلك إذا قضيت على الديانة فماذا تضع محلها؟". فيجيب كروديلي "هبي أنه ليس هناك شيء يحل محل الدين، فلسوف يكون دائماً على أية حال ضرر وظلم أقل". إنه يصور المسلمين في ثورة يذبحون فيها المسيحيين، والنصارى يحرقون المسلمين واليهود.
الماريشال: هب أن كل ما أعتقدته باطلاً كان حقاً، وأنك هالك. إنه لشيء رهيب مزعج أن تكون هالكاً ملعوناً وأن تصلى النار إلى الأبد. كروديلي: يقول لافونتين بأننا سننعم بالراحة، مثل السمك في الماء. الماريشال: نعم، نعم، ولكن لافونتين أصبح وقوراً تقياً جداً آخر الأمر، وأتوقع أن تكون كذلك. كروديلي: أنا لا أستطيع أن أجيب بشيء إذا ضعف مخي. أن أشد الفلاسفة عداوة لرجال الدين كان يحس بمرارة بالغة نحو ما بدا له أنه ضياع لحيوية البشر وطاقاتهم في أديار الرهبان والراهبات. وفي إحدى صفحاته الغامضة أنحى بأعنف اللوم على الآباء الذين حكموا على بناتهم بالعيش بين جدران الدير وهن كارهات. إن من أروع كتاباته من الناحية الفنية، بعثاً خالياً من جديد لحياة راهبة من هؤلاء. أنه كتب رسالة الراهبة في 1760 نتيجة مزحة كان يأمل جريم وديدرو من ورائها أن يعيدا إلى رفقتهما المركيز دي كرو اكسمير من كاين إلى باريس. وحوالي هذه الفترة أثار ديدرو نداء وجهته إلى برلمان باريس لأحلالها من القسم الذي أكرهها والداها عليه (كما تدعي). وتعطف المركز فكتب إلى البرلمان يناصر قضية الراهبة، ولكن دون جدوى.
إننا لا نعرف عن هذه الراهبة شيئاً أكثر من هذا، ولكن ديدرو أعاد كتابة تاريخها في تصوير واقعي يخلد ذكراها على مدى القرون. وأفترض أنها هربت من الدير، وأرسل إلى كرواكسمير عدة رسائل -وكأنها بقلمها- تصف فيها معاناتها في الدير، وتطلب أن يمد لها يد المساعدة لتبدأ حياة جديدة. وأجاب المركيز، ورد ديدرو، بأسمها، وأستمرت هذه المراسلات أربعة شهور في مائة وخمسين صحيفة. وصور ديدرو سوزان تعاني من رئيسة الدير الغليظة القلب، فهي تضطهدها وتحبسها وتجردها من ملابسها وتعذبها وتحرمها من الطعام، فتشكو إلى أحد الكهنة الذي يهيئ لها سبيل الأنتقال إلى دير آخر. وهناك كانت رئيسة الدير الجديد مساحقة وشغفتها الراهبة حباً، وتوسلت إليها لمعاونتها. وربما بالغ ديدرو في وصف قساوة الأمهات رئيسات الأديار وشقاء الراهبات وحزنهن. ولكنه جعل كل الكهنة في قصته ودودين محبوبين مطبوعين على حب الخير، وعالج فكرة السحاق في رقة نادراً ما ظهرت في مؤلفاته. وتأثر المركيز وقدم إلى باريس. وتكشفت له الخدعة ولكنه تجاوز عنها وكانت هذه القصة الغريبة قد أدت إلى دراسة رائعة في علم النفس، كانت متأثرة بقصة ريتشاردسن "كلاريسا" ولم يتعمق أي متشكك قط بمثل هذه القوة في مشاعر القديس، وفاجأ أحد الزوار الكاتب وهو يدون هذه الرسائل، فوجده كما يروى جريم "حزيناً غاية الحزن... ويذرف الدمع(32) وأعترف ديدرو بأنه كان يبكي لقصته هذه، فما أسرع ما كانت الدموع تجري في عينيه، مثل روسو. وكان فخوراً، بشكل يمكن الصفح عنه، بقصته الموضوعة على هيئة رسائل، وبأحتمال أن تكون صحيحة، وبالعاطفة الدافقة فيها، وبأسلوبها، وقد عنى بمراجعتها وتنقيحها، وأوصى بنشرها بعد موته، ورأت هذه القصة الثورة في 1796 في عهد الثورة وفي 1865 أحرقت قصة "الراهبة" علناً بناء على أمر من محكمة السين(33):
ومع قصة الراهبة، نشر في 1796، كما أحرق معها في 1865 "جاك المؤمن بالقضاء والقدر وسيده" الذي أعتبره ديدرو أعظم إنتاجه(34)، بداعي التقارب في الزمن. وربما كان الأمر كذلك، ولكنه أيضاً أسخف ما كتب. وأفتتن ديدرو بقصة "ترسترام شاندي" فإتخذ أسلوب ستيرن (قصصي إنجليزي في القرن الثامن عشر 1760-1768) في تأليف قصة قائمة إلى حد كبير على أعتراض السياق، فيقطعه من حين إلى آخر، في نزوة من نزواته، ليتحدث إلى القاريء عن شخوص القصة. وبدأ الكتاب وأختتمه بقطع وأحداث منقولة مباشرة من ستيرن(35). وفاق ستيرن في إزعاج القارئ بين الحين والحين بفحش القول. إن شخصي القصة يعكسان أسلوب سرفنتيز في التباين بين السيد وتابعه في المزاج والفلسفة. فالسيد يرفض فكرة القضاء والقدر على حين يؤمن جاك بها. إن كل شيء يحدث هنا على الأرض مسطور في كتاب هناك(36). إن جاك "يعتقد إن الأنسان يشق طريقه بالضرورة إلى المجد أو إلى الخزي والعار، كما تنطلق الكرة متتبعة إنحدار الجبل الذي تدحرجت عليه. إن رئيس جاك السابق كان قد ملأ رأسه بكل هذه الأفكار التي أستقاها من سبينوزا الذي حفظه عن ظهر قلب(37) وهو رئيس نادر المثال.
وفي أواسط القصة يتلكأ ديدرو ليروي في حماسة وبراعة قصة المركيزة دي لابومراي عشيقة المركيز دي أرسيز. أنها أرتابت في أنه سئمها، فعزمت على أن تكتشف الأمر بالأشارة إلى علاقتها أصبحت عبئاً ثقيلاً، أنه أساء إليها أبلغ أساءة بتصريحه بأنه يود أن يفلت من عشيقة إلى صديقة، فتدبر المركيزة إنتقاماً فريداً في بابه. وتعثر على بغي جميلة، وتتحمل نفقات أبدال ملابسها وتعلمها الأجرومية وآداب السلوك وتلقنها مبادئ التقوى المثيرة للأعجاب، وتقدمها إلى المركيز على أنها سيدة من ذوات الحسب والنسب، ودربتها على أن تثير نزواته وترفض عرضه لأن تكون صديقته، وأرشدتها إلى الطريقة التي تنتزع بها منه إقتراحاً بالزواج. وبعد بضعة أشهر من الزواج تكشف مدام لابومراي للمركيز عن ماضي زوجته. ولكن يفسد على المركيزة أنتقامها تطور غريب. ذلك أن المرأة الآثمة التي أعيد تشكيلها وصلح حالها عرفت كيف تحب زوجها المركيز، وأعترفت له خجلة باكية بخدعتها وعرضت أن تختفي من حياته، وفي الوقت نفسه كانت هي زوجة مخلصة ووفية إلى حد أن المركيز أكتشف أن في الزواج سعادة أكبر مما هي في الفجور والزنى. فيغتفر لها تضليلها ويأبى أن تفارقه، ويعيش معها عيشة راضية ممتازة، ويتحطم قلب بومراي من مرارة الهزيمة.
أن هذا الفاصل على أية حال هو أكثر ما يأخذ بالألباب في "جاك المؤمن بالقضاء والقدر" فأنه يتميز بمتانة التركيب، واللمسات الرقيقة للواقعية النفسية (السيكولوجية)، والشعور العميق في تعبير هاديء. وهذه كلها تعوزها القصة على وجه الإجمال. وأعترف شيللر بأنها درة في فن الأدب. وترجمها إلى الألمانية في 1785.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ابن أخي رامو
أن "ابن أخي رامو" لا "جاك المؤمن بالقضاء والقدر" هو أعظم كتب ديدرو وأسماه جوته "الكتاب الممتاز الذي ألفه رجل لامع(38)، كتبه في 1761 ومات قبل أن ينشر، لأنه كان أقبح كتبه وأكثرها خزياً، وفي نفس الوقت أكثرها أصالة. وظاهر أنه رأى أنه غير مستساغ ليقدمه حتى لأصدقائه. وبعد موته تسربت نسخة منه إلى ألمانيا أحدثت هناك دوياً شديداً. وأرتاع له شيللر وثارت نفسه، وحمله إلى جوته، وكان آنذاك في قمة الشهرة (1805) فترجمه إلى الإلمانية. ودخلت هذه الترجمة إلى فرنسا وأعيدت ترجمة الكتاب إلى الفرنسية (1821) ونشرت طبعة أخرى 1823 ولكن هذه لم تصل إلى المطبعة إلا بعد أن كانت أبنة ديدرو قد هذبتها وحذفت منها ما لا يليق نشره. ولم تكتشف المخطوطة الأصلية إلا في عام 1891 في كشك للكتب على ضفة نهر السين وهي موجودة الآن في مكتبة بييربونت موجان في نيويورك.
وأختار ديدرو لساناً ناطقاً بأفكار غريبة شاذة إلى حد كان من العسير معه أن يعبر عنها ديدرو بضمير المتكلم. جان فرنسوا رامو هو أبن أخي الملحن المشهور جان فيليب رامو (الذي توفي 1764) والذي كان لا يزال على قيد الحياة حين كتب الحوار غير القابل للنشر. وعرف ديدرو الموسيقى معرفة جيدة، وتحدث بطلاقة ودون تكلف عن لوكاتللي، برجوليسي وجوميللي، وجالوبي، وليووفنسي، وتارتيني، وهاس، وتنبأ بحق أنه في العزف على الكمان سرعان ما سيحل العزف الشاق محل العزف الجميل ويزحزحه من مكانه(39).
وألف أبن الأخ موسيقى، وأصاب بعض النجاح معلماً للموسيقى. ولكن كان أسمه يقض مضجعه ويقلق باله. وكان يغار أشد الغيرة من عمه ويحقد عليه تفوقه. فتخلى عن المعركة، وأنغمس في اللهو وأطلق العنان لشهواته ورغباته بشكل ينافي الأخلاق، مما وصفه ديدرو في قصته. وأكدت التقارير المعاصرة(40) كثيراً من الصفات الأخرى التي نسبت إليه في الحوار، ولكن التاريخ لم يؤيد ما ذهب إليه ديدرو من أنه كان قواد يتجر بجمال زوجته في سوق الدعارة. وعندما فارقت هذه الزوجة الحياة فقد جان فرانسو كل أحترام للنفس وجعل منه لسانه البذئ غير العف، الشديد التهكم والسخرية منبوذاً في المجتمع، وطرد من دار مسيو برتان الثري الذي كان لعدة سنوات قد إعتمد عليه في تناول العشاء عنده، وصار عليه أن يلتمس الزملأ في مقهى "لا ريجانس" وفي أماكن أخرى تزخر بالأفكار التقدمية التي لا تغنى ولا تسمن من جوع. يقول ديدرو (لاحظ كيف يعكس حياته في كتبه): "فليكن الطقس معتدلاً أو غائماً معتماً، إن من عادتي أن أقصد سيراً على الأقدام في الساعة الخامسة بعد الظهر إلى البالية رويال. وأنا الشخص الذي يمكن أن يقع بصرك عليه وحيداً دائماً، حالماً على مقعد دارجنسون، أبحث بيني وبين نفسي مشاكل السياسة والحب والذوق والفلسفة. وأطلق لذهني العنان.... وإذا أشتد البرد أو هطل المطر، آوى إلى مقهى لا ريجانس، أراقب لعب الشطرنج... وكنت ذات مساء هناك، أتلفت إلى ما حولي، أتكلم قليلاً، وأسمع قليلاً بقدر الإمكان. حين دنا مني شخص من أغرب الأشخاص على الأرض"(41).
وتجيء بعد ذلك شخصية رائعة: رجل أخنى عليه الدهر، وهو يتذكر الخمرة في مرارة وكان فيما مضى كثير المال ناعم البال مع أجمل زوجة في باريس، وأستقبل مرة في دار أنيقة(42)، كما كان متمشياً مع كل الوان الثقافة في فرنسا. ولكنه الآن يعاني الفقر والخزي والعار، يعيش على ما يقتات به من موائد الذين يستشعرون الأشفاق عليه، وعلى القروض المنسية، لا يرى في الحياة إلا الصراع والهزيمة، ينبذ كل الديانة بأعتبارها قرية جميلة ولكنها مرعبة، وينظر إلى الأخلاقيات على أنها جبن وخداع، ومع كل هذا يحتفظ بقدر كاف من ماضيه ليغلف تحرراً من الوهم فصاحة بارعة مهذبة، ويكسو هذا التحرير رداء عقلانياً. ودعابته حادة مريرة: من ذلك قوله "أت السيدة (كذا) وضعت توأماً، سيكون لكل والد واحد منهما" أو قوله عن أوبرا جديدة "أن فيها بعض قطع جميلة والمؤلم حقاً أن هذه القطع لم توضع لأول مرة"(43). أن مأساته الكبرى هي أنه لا يؤمن بشيء "وسمع بعض كلام روسو عن الطبيعة -كم هي أفضل من المدنية وخير منها، ولكنه يلاحظ أن في الطبيعة يفتك كل نوع بالآخر؟ والخاتمة الرهيبة هي ألتهام كل كائن وهو يرى نفس الألتهام والفتك (أكل الكائنات بعضها البعض) في دنيا الأقتصاد، اللهم إلا أن فيها أناساً يستنزف بعضهم دم بعض عن طريق أجراء قانوني مقبول. وهو يرى أن الأخلاق مجرد خدعة يضلل بها ذوو الدهاء من الناس بسطاء العقول منهم، أو يخدع بها السذج من الناس أنفسهم. أنظر إلى نلك المرأة التقية الورعة التي تغادر الكنيسة (بعد الصلاة) "أنها أثناء الليل تتدرب في خيالها على مشاهد الفسق والخلاعة وعلى الأوضاع الشهوانية الداعرة عند أريتينو"(44) ويرى أبن الأخ (جان فرانسوا) أن الرجل العاقل لا بد أن يسخر من الوصايا العشر "ويتمتع بكل الخطايا والآثام في حكمة وتبصر". مرحى ! بالحكمة والفلسفة! -حكمة سليمان: شرب أجور الخمور، ألتهام أطيب الأطعمة، مضاجعة أجمل النساء، النوم على الفراش الوثير، وكل ما عدا هذا تافه لا قيمة له(45)، ماذا بعد هذا يمكن أن يقول الفيلسوف الإلماني نيتشه أو الشاعر والكاتب الفرنسي بودليير وأمثالهما؟
ويختتم ديدرو هذا العرض المفزع "للأفكار بأن ينعت أبن الأخ بأنه "بليد شره جبان، روح من الطين" ويجيب رامو على هذا بقوله "أعتقد أنك على حق(46) وتجول بخاطرنا فكرة خبيثة: كيف كان يتسنى لديدرو أن يصور هذه الشخصية بمثل هذه القوة والحيوية، إذا لم تكن تكمن بين جنبيه هو نفسه؟ أنه يحتج على هذه الفكرة، ولكنه يسلم بأنه ليس قديساً: "أنا لا أستنكر لذة الحواس، فإن لي أنا أيضاً ذوقاً يستسيغ أطباق الطعام الشهي والأنبذة الجيدة.كما أن لي قلباً وعينين أحب أن يقعا على سيدة جميلة، وأحب أن ألمس بيدي أن رقبتها مستديرة ثابتة، وأن تعتصر شفتاها شفتي، وأن أرشف اللذة والمتعة من عينيها، وأن ألفظ النفس الأخير بين ذراعيها. ولا يزعجني الأنغماس البسيط في الملذات في بعض الأحيان مع أصدقائي، حتى ولو كان صاخباً بعض الشيء. ولكن لا أخفي عليكم أنه يبدو لي أنه يحلو لي أكثر إلى أبعد الحدود، أن أمد يد المساعدة إلى المنكوبين، أو أسدي نصيحة مفيدة، أو أقرأ كتاباً جيداً، أو أتنزه مشياً على الأقدام مع رجل أو أمرأة عزيزة لدي أو أقضي مع أولادي بضع ساعات أتولى فيها توجيههم وتثقيفهم، أو أكتب صفحة أو أؤدي واجبات عملي، أو أصب في أذن حبيبتي بضع كلمات حلوة حتى تحيط عنقي بذراعيها وتعانقني.. إن أحد معارفي رجل من ذوي الثراء في قرطاجنة، وكان الأبن الأصغر في بلد جرت العادة فيه أن تؤول كل الممتلكات إلى الأبن الأكبر، وترامت إليه الأنباء في كولمبيا أن أخاه الأكبر، وهو شخص متلاف، قد سلب أبويه اللذين دللاه وتساهلا معه كل ما كانا يملكان، وطردهما من قصرهما. وأن هذين الولدين الطيبين يعيشان الآن في مدينة صغيرة في الأقاليم يعانيان مرارة الفقر، فماذا فعل هذا الأبن الأصغر الذي أساء والده معاملته إلى حد إنه رحل إلى أقصى الأرض يلتمس الرزق؟ إنه أرسل إليهما معونة بتدبير أموره، ليعود ثرياً ميسوراً إلى أبيه وأمه، وأسترد لهما دارهما، وهيأ الصداق لأخواته ليتزوجن. آه يا عزيزي رامو، إن هذا الرجل يعتبر تلك الشهور أسعد أيام حياته. إنه حدثني عنها والدموع تغمر عينيه. أما أنا، وأنا أقص عليك هذه القصة، فإني أحس بأن قلبي قد أرهقه الفرح والغبطة والسرور الذي لا أجد كلمات للتعبير عنه(47).
علم الأخلاق والسياسة
كان لديدرو مثلما لنا جميعاً، شخصيتان على الأقل: نفس باطنة تختزن فيها خفية كل دوافع الطبيعة البشرية، كما هو موجود في الحياة البدائية بل حتى حياة الحيوان، ثم نفس ظاهرة للعيان تتقبل على كره منها التعليم والأنضباط والأخلاق، ثمناً يجب أن يدفع مقابل الحماية التي يبسطها النظام الأجتماعي. ولا تزال له أنفس أو شخصيات أخرى: ديدرو الذي لم يكن قد نسي شبابه، وحرياته البوهيمية وحبيباته وخلوه من المسئوليات اللهم إلا أمام الشرطة، ثم ديدرو رب أسرة، الذي لو تهيأت له سيدة قادرة على فهم كلامه وأفكاره، لأمكن أن يكون هو أيضاً. أحياناً، زوجأصالحأ وأباً شغوفاً بأبنائه، وحيواناً شبه مستأنس، ورجلاً يقدر بعض التقدير المالى والأخلاق والقانون.
إن هذه الشخصية المزدوجة، "دكتور جيكل ومستر هايد"، أنتجت فيما بين عامي 1770-1772. محاورتين توضحان تذبذب آرائه. ففي "حوار بين أب وأبنائه" يقدم صورة جميلة لأبيه وهو يشرح في رفق "خطر أولئك الذين يتعالون على القانون أو يضعون أنفسهم فوقه" ولكنه بعد ذلك بعامين كتب أكثر أعماله تطرفاً. وكان لويس أنطوان بوجينفيل قد نشر لتوه (1772) كتابه "رحلة حول العالم" عدد فيه خبراته وتجاربه في هايتي وغيرها من جزر المحيط الهادي الجنوبي ووقع بصر ديدرو على بعض أجزاء من هذا الكتاب تبين تفوق الحياة البدائية في بعض النواحي على المدنية. ورغبة من ديدرو في إبراز نواحي التفوق والسمو هذه، كتب في 1772 بما هو معهود فيه من حيوية وخيال وتميز وشغف، "ملحق لرحلة بوجينفيل"، وهو كتاب لم ير النور إلا في 1796. وأختار ديدرو رجلاً عجوزاً من أهالي تاهيتي أورد بوجنيفيل ذكره، وتخيل أنه يلقي خطاباً يودع فيه أمير البحر لدى الفرنسيين الراحلين عن الجزيرة: "وأنت يا زعيم عصابة اللصوص المطاع الذين يمتثلون لأوامرك، إغرب بسفينتك عن شواطئنا. فنحن أبرياء سعداء، وكل ما تستطيع أن تفعل لنا هو أن تفسد علينا سعادتنا. إننا ننهج نهج الفكرة النقية، ولكنك تسعى لمحو أساس هذه الفطرة من نفوسنا. وهنا كل الأشياء ملك لكل الناس، أما أنت فتبشر بتفريق غريب بين ما هو "ملك لك" وما هو "ملك لي" وكل بناتنا وزوجاتنا كانت لنا جميعاً على الشيوع، ولكنكم شاركتمونا هذه الميزة ودفعتم بهن إلى لوثات من الجنون، ولم يكن لهن بها عهد من قبل.. وتناحرتم وقتل بعضكم بعضاً من أجلهن، وعدن مضرجات بدمائكم... نحن أحرار، ولكن تأمل كيف أنكم نقشتم على أرضنا عنوان عبوديتنا في المستقبل.. إنكم كتبتم على هذا النصل المعدني "هذا البلد بلدنا" ...ولكن لماذا فعلتم هذا؟ هل لأنكم حططتم رحالكم هنا؟ وهل إذا رسا احد أبناء تاهيتي ذات يوم على شواطئكم، ونقش على حجر عندكم" هذا البلد تابع لأهل تاهيتي" فماذا عساكم ترون في مثل هذا العمل؟ ..إن هذا التاهيتي الذي تريدون أن تمسكو به وكأنه حيوان ليس أخاً لكم.. وأي حق لكم عليه ليس له حق مثله عليكم؟ إنكم جئتم إلينا، فهل سطونا عليكم؟ وهل أعملنا السلب والنهب في مراكبكم؟.. كلا. لقد أحترمنا ذاتنا في شخصكم... اتركونا لنا عاداتنا واعرافنا، أنها أحكم وأشرف من عاداتكم وأعرافكم. وليست بنا من حاجة أو رغبة في مقايضة ما تسمونه جهلنا بالمعرفة القيمة لديكم"(48).
ويمضي حكيم تاهيتي فيذكر الأوربين بما قوبلوا به من ترحيب حار، وكيف أسكنوهم وأطعموهم وأحبوهم. ولم يكن في الجزيرة "وصية سادسة" (كما افترض ديدرو) كما لم يكن ثمة حقد ولا حسد. فلم يفهم نساء الجزيرة ما تحدث به قسيس السفينة عن الخطيئة والعار، وأحطن البحارة بكل الكرم والرعاية. وماذا كانت النتيجة؟ إن مرض الزهري الذي لم يعرفه سكان الجزيرة من قبل، ظهر الآن بين نسائها، ثم انتقل إلى رجالها. ويتوسل الرجل العجوز إلى الزائرين أن يرحلو إلى غير رجعة.
وأضاف ديدرو "وناقشة بين القسيس وأورو" وهو مواطن من تاهيتي كان قد تعلم الأسبانية، صدرت إليه الأوامر بأيواء القسيس في كوخه. ويعرض أورو على القسيس أن يختار لمشاركته فراشه بين زوجته وإحدى بناته، ويوضح القسيس أن قانونه الأخلاقي يحرم عليه قبول مثل هذا العرض الكريم. ولكن إحدى البنات تمسه بيدها فيصبح رجلاً. ويقضي القسيس الأيام الثلاثة التالية يشرح لأورو الأخلاق المسيحية والليالي الثلاث التالية مضاجعاً البنات واحدة تلو الاخرى، اما الليلة الرابعة، وكأنما أرتبط بكلمة الشرف، فأنه يخصمها لزوجة مضيفة(49) وأمدت محاولات القسيس لتحويل أورو إلى المسيحية ديدرو بصحيفة سارة بهيجة.
القسيس- ما هو الزواج عندكم؟ أورو- أتفاق على المشاركة في كوخ واحد، والمشاركة في سرير واحد كلما طاب لنا نفعل ذلك. القسيس- وإذا رغبتم عن ذلك. أورو- نفترق . القسيس- وماذا يحدث للأبناء؟ فيقول أورو إن هذه ليست مشكلة : تعود السيدة بأبنائها إلى بيت أبيها، وسرعان ما يتزوجها رجل آخر يسعد بقبول أبنائها، لأن الأولاد في المجتمع الزراعي كسب أقتصادي عظيم. القسيس- هل يستطيع الوالد أن يضاجع أبنته، والوالدة أبنها، والأخ اخته والزوج زوجة رجل آخر؟ أورو- ولم لا؟ القسيس- أظن أنه حتى هنا- مهما يكن من أمر، لايضاجع الأبن أمه غالباً . أورو- لا.اللهم إلا إذا كان احترام هذا الأبن لأمه شديداً(50). ويخرج القسيس من هذا وهو يكاد يحبذ كل التحبيذ طرق معيشة أهل تاهيتي، ويقر بأنه" اغرى بخلع ملابسه الكهنوتية في السفينة ليقضي بقية أيام حياته بين أبناء الطبيعة هؤلاء.
وينتهي ديدرو إلى مثل ما أنتهى إليه صديقه القديم روسو، الذي كان يناقش في كتابه "بحث في الفنون والعلوم" (1750) و"بحث في منشأ عدم المساواة" (1755) "هل تريدون لمحة موجزة عن كل تعاستنا وشقائنا تقريباً؟ هاكم هذه اللمحة. لقد وجد إنسان صناعي، ونشبت حرب أهلية أستمرة طيلة الحياة.. وكان الإنسان الطبيعي في بعض الأحيان هو الأقوى، كما حطمه في أحيان أخرى الإنسان الصناعي الأخلاق. وفي كلتا الحالتين يعامل العملاق بقسوة ويضيق عليه الخناق ويعذب، ويسام الخسف.. إنه دائماً تعس منكوب"(51).
وكان ديدرو بطبيعة الحال لا يعرف إلا القليل عن أهل تاهيتي، وكان بوجينفيل قد وصفهم بأنهم متمسكون بالخرافات والمحرمات، يرهبون أرواحاً شريرة خيالية، يستسلمون للكهنة، ناهيك بالعديد من أنواع الحشرات والأمراض. إن ديدرو الذي كان يضيق ذرعاً بالزواج بواحدة، لم يكن في حاجة إلى أن يدرك لماذا وضعت ضرورات النظام الاجتماعي مثل هذه القيود الكثيرة على الغرائز الجنسية غير المشروعة لدى الجنس البشري، وكان نموذجاً آخر للفكر الفردي الذي يتصور نفسه أحكم وأعقل من عادات البشر وأعرافهم .
وثمة تناقض طريف بين الفلسفة الأخلاقية عند ديدرو الكاتب وديدرو الإنسان من الناحية النظرية، وفي بعض الأحيان أشرفت آرائه الأخلاقية على الفوضوية، ففي تلك الأوقات وصف الطبيعة البشرية بأنها خيرة في أساسها، وبناء على هذا الفرض أقترح "إن نتبع الطبيعة أي الغريزة، وأحس ديدرو أنه عن طريق الغرائز وحدها يمكن للإنسان أن يحرر نفسه من القيود التي يفرضها الدين والمجتمع بآلاف التقاليد والمحظورات والقوانين. وفي هذا المزاج وصف الأتصال الجنسي بأنه "أعلى مراتب السعادة"(52)، وعرف الجب بأنه "أحتكاك شهواني بين غشائين" و"فقدان شهواني لبضع قطرات من السائل"(53) وأكد لخليلته أن الزنى "خطأ يستحق لوماً أو توبيخاً أقل مما تستحق أتفه كذبة(54). وكان ديدرو فيلسوفاً يتوق إلى أن يحيا حياة الديك الذي يختال عجباً بين الدجاجات.
ولما عركه الدهر وزادت خبرته بالحياة نقض كل آرائه الأخلاقية. ونذ أنحرف عن روسو إلى فولتير، فإنه نظر إلى الإنسان نظرة تزداد كآبة وقتاً ما، على أنه شرير سئ بالطبيعة. أو بسبب تدهور النظام الأجتماعي على حد سواء. "وليس ثمة شيء يوضح أن الطبيعة البشرية كريهة بغيضة؛ مثل السهولة التي يتقبل بها الناس أسوأ الأعمال حين لا يكون (كما هو الحال في حشد منهم).. هناك من هو مسئول شخصياً عن الشر الذي وقع(55) ويقول جاك المؤمن بالقضاء والقدر: "صدقني نحن لا نشفق على أحد إلا على أنفسنا"(56) ويلغى ديدرو الآن مبالغاته القديمة بمبالغات جديدة. فربما "لوى الإنسان الطبيعي عنق أبيه ليضاجع أمه، لولا تنمية عقله بفضل التعليم(57) ولما تضاءلت حاجيات ديدرو الجنسية، أتفق مع أبيقور على أن "ملذات أو مباهج النفس" مرضية بشكل أكثر أطراداً من الملذات الجنسية، أو المادية(58) وهو يتساءل "هل هناك متعة أو لذة مادية فحسب في إقتناء امرأة جميلة؟ وهل هناك ألم مادي فحسب في فقدان بسبب الموت أو التحول عنها؟ أليس التمييز بين المادي والمعنوي قائماً وطيداً مثل التمييز بين الحيوان الدقيق الذي لا يرى إلا بالميكرسكوب والذي يحس، وبين الحيوان الذي يفكر ويتأمل ويعقل(59).
وإذ وصل الآن ديدرو إلى مفهوم البيولوجي للفضيلة- صفة تعمل على البقاء، فقد تسنى له في شيء من الغموض أن يدرك أن أسمى الفضائل هي تلك التي تعمل على بقاء المجموعة، حيث أن التنظيم الأجتماعي هو الوسيلة الرئيسية لبقاء الفرد، وفي قصة "أين أخي رامو" تبين ديدرو ماذا يحدث لمن يحاول تحطيم القيود المفروضة على الفرد من أجل الأحتفاظ بالجماعة أو الإبقاء عليها. ومثل هذا الإنسان يصبح كما مهملاً ومنبوذاً بغير عقيدة أو طعام أو زوجة أو أمل. وبذلك يختتم ديدرو عن تاهيتي بشيء من الأعتدال في بطء: "إننا سوف نندد بالقوانين الوحشية حتى يتم إصلاحها ولكنا في نفس الوقت سنخضع لها. إن من يكون من سلطته أن تنتهك حرمة قانون سئ يعطي لكل إنسان غيره الحق في أنتهاك حرمة القانون الصالح إنه أقل إزعاجاً أن تكون مجنوناً بين المجانين من أن تكون عاقلاً بمفردك"(60). وعندما أكتملت وبرزت مفاتن الأنوثة في أنجليك أبنة ديدرو، بدأ يساوره القلق بشأن أخلاقها، وكان يقظاً حريصاً على عذريتها بأعتبارها ذخراً ثميناً وسلعة رائجة. ولما رأى أنه قد تم زواجها في أمان، حذرها من لزنى، قائلاً إن مجرد الأرتياب في خيانتها لزوجها سيقتل الزوج كمدا، وستقضى عليه بسبب الخزي والفضيحة(61). وفي نقده للفنون عاب على الفنان بوشيه فساده وفسقه، وأمتدح التواضع وغيره من الفضائل المسيحية كما صورها جريز وشاردان. وبشر ديدرو في رواياته بالفضائل القديمة مثل أي برجوازي راسخ الأركان مزدهر الأحوال. وتسلى ديدرو ببعض قطع من المرح الطائش مثل "ملحق رحلة بوجينفيل" وبعض المرح الصاخب وشطحات الخيال على مائدة العشاء عند دي هولباخ. حتى إذا عاد أدراجه إلى بيته أصر على الأستمساك بكل فضائل الطبقة الوسطى، وحاول أن يمارسها إذا أجيز له شيء من الزنى على نطاق ضيق فقط.
وكانت أفكاره السياسية مهوشة مثل آرائه في الأخلاق، وسلم هو بهذا في صراحته لمحبته. ولم يتفق مع فولتير في أن الملك المستنير هو أفضل أداة ممكنة للأصلاح. وأتهم فردريك الأكبر بأنه طاغية، وحاول أن يحول كاترين الكبرى إلى الأفكار الديمقراطية. ووافق على الملكية الدستورية ولكنه أقترح جمعية وطنية ينتخبها الملاك لأن لهم سنداً أو مصلحة في حكومة أقتصادية صالحة(62). (وعندما كتب هذا لم يكن من المتصور أن يكون بديلاً ممكناً للأرستقراطية في حكومة فرنسا إلا الطبقة المتوسطة من الملاك) وحلم ديدرو بمجتمع كريم تتحقق فيه للجميع الحرية والمساواة كلتاهما (وهما العدوان الطبيعيان) ولكنه أرتاب في جدوى أية أصلاحات، حتى يرفع أنتشار التعليم من مستوى تفكير الناس وعقولهم .
وكانت آرائه الأقتصادية متطرفة من الناحية النظرية، معتدلة عند التطبيق، وحتى في سني الشيخوخة تعلق ديدرو بشيوعية فوضوية، مثلاً أعلى له: "إني مقتنع بأنه لن يتيسر للجنس البشري أية سعادة حقيقية ألا في دولة أشتراكية ليس فيها ملك ولا قاضي ولا قسيس ولا قوانين، ولا يكون فيها هذا لك، وهذا لي، وليس فيها حق تملك، وليس فيها رذائل أو فضائل(65) ولكنه أعترف بأن هذه النظرية "مثالية إلى حد شيطاني"(66) وتعجب أبن أخي رامو قائلاً "أي أقتصاد أجتماعي شيطاني عندنا! فهناك أناس يتوافر لديهم كل شيء إلى حد التخمة، على حين هناك آخرون يتضورون جوعاً ولا يجدون ما يبتلعون به"(67) وأدرك ديدرو في ساعات العسرة أن عدم المساواة في التملك سيبقى ببقاء عدم المساواة أو التكافؤ في القدرات، وطرح فكرة الأشتراكية لأنها غير عملية، حيث لم يوجد آنذاك إلا بروليتاريا صغيرة غير منظمة لا تكاد تكون واعية، ولكن راوده الأمل في أن يرتفع مستوى هؤلاء العمال ويتحسن وضعهم وشيكاً. ولما أنتهى الأمر إلى الأصلاحات العملية، أيد ديدرو الفيزيوقراطيين ووقف إلى جانب الرأسمالية الناشيءة. وأعلن أن حق التملك يجب أن يكون مقدساً مطلقاً، وأستنكر أي أعتداء على هذا الحق من جانب الدولة. وأنضم إلى كني وترجو وفولتير في الدعوة إلى تحرير الصناعة والتجارة من أية قيود حكومية(68).
وحبذ الإعانات الحكومية للزراعة بوصفها أكثر فروع الأقتصاد حيوية وأهمية، على حين أنها أيضاً أكثر الفروع وقوعاً تحت رحمة سائر الفروع(69). إن ديدرو مثلنا جميعاً أصبح أكثر محافظة (على القديم) كلما تقدمت به السن وزاد دخله.
ديدرو والفن
أن هذا العلاج المتجول للاهوت والأخلاق والسياسة والأقتصاد لا يشكل إلا بعض جوانب يسيرة من ديدرو المتعدد الأهتمامات والأنشطة، فهناك غير هذا كثير. ومن كان يظن أن هذا الرجل الفظ الذي يزدحم رأسه بأفكار كثيرة سيصبح بين عشية وضحاها أعظم ناقد فني في عصره؟. وفي 1759 كان صديقه جريم مشغولاً بشيءون الحرب وبمدام دي ابيناي، فطلب إلى ديدرو أن يقوم مقامه في تغطية أنباء معارض بينالي الرسم والنحت في اللوفر من أجل قراء "كورسبوندانس -الرسالة" التي كان يصدرها جريم. وذكر ديدرو أنباء المعارض فيما بين عامي 1759-1771، وعامي 1775-1781 وكان في بعض الأحيان يسهب في ذلك أيما أسهاب لأنه كان في هذه المذكرات يطلق لقلمه العنان ليعرض لكل مظاهر الحياة البشرية تقريباً. ولم يظهر في مجال النقد الفني شيء بمثل هذه القوة والصراحة وفي التصميم. وجاء بعض هذا النقد في صيغة محادثات مع الرسامين أنفسهم في المعرض أو على شكل رسالة شخصية إلى جريم. كما حدث في 1761: هاك يا صديقي الأفكار التي جالت بخاطري عندما شاهدت اللوحات والرسوم الموجودة في معرض هذا العام. ولقد دونتها دون أن أعني كثيراً بفحصها أو التدقيق فيها وإيضاحها.. وكل ما كان يدور بخلدي هو أن أوفر لك شيئاً من الوقت تستغله أستغلالاً أفضل(70).
وأقبل على مهمته الجديدة في أبتهاج متحمس، وشكر لجريم إرغامه أياه على أن ينظر إلى الفن المعروض لا نظرة الجمهور العابرة، أي نظرة سطحية زائفة، بل العزم الأكيد على دراسة كل رسم وكل تمثال، حتى شعر بحق بالبراعة الفنية في العمل المعروض وقيمته وأهميته. ولم يكن ديدرو معداً من الناحية الفنية ولكنه تحدث إلى الفنانين أنفسهم - شاردان لاتور، كوشان، فلكونيه... ودلارس طريقتهم في التأليف والعمل، وشغل الفرشاة والتلوين: "فتحت قلبي للأثار التي ينتجها جهد الفنان، وأدركت سحر الضؤ والظل وعرفت اللون، وأكتسبت شعور الجسد(71).
وأصبح ديدرو آخر الأمر ناقداً للأسلوب الفني ولكنه أنكر أية معرفة تقنية أو فنية، فإنه عرض أن يقول ماذا يعني عنده كل عمل فني، فعمد بادئ ذي بدء إلى شرح الموضوع أو القصة في شيء من التفصيل، حيث أن بعض قراء جريم لم يكن يتيسر لهم قط رؤية القطع الفنية التي هي موضوع البحث، كما أن نفراً منهم أشتروا اللوحات على أية حال، بناء على تقريظ ديدرو لها. إنه غالباً ما تخيل ثم يعيد كتابة المسرحية الحية التي لم يمثل منها الفنان إلا اللحظة المعبرة المركزة. وحول في بعض الأحيان الفن إلى أدب، ثم تباهي آخر الأمر بقوله. "إن شاردان ولاجرينيه، وجريز وغيرهم... أكدوا لي أنني الأديب الوحيد الذي يمكن لصوره أن تمر على قطعة القماش المعدة للرسم مثلما تعاقبت في رأسك الواحدة بعد الأخرى تقريباً(72).
إن ديدرو أوضح ما يحب وما يكره أو ما يؤثره وما لا يعجبه بصراحة لا خجل فيها. إنه بعد أن أستنكر كل شيء تقريباً في المدنية الفرنسية المعاصرة عاد فدافع عن الرسامين الفرنسيين في حماسة مشربة بحب الوطن. ورمى هوجارت بالكذب والجهالة لأنه قال إن فرنسا ليس فيها رسامون برعوا في أستخدام الألوان، ورد على ذلك بقوله "ربما كان شاردان من أبرع من أستخدموا الألوان في كل عصور فن الرسم"(73) وكان قاسياً مع ناتييه وعاب على بوشيه لوحاته العارية ولكنه أستمتع بها. وبعد أن نقد العيوب في إحدى هذه اللوحات قال "كله يستوي عندي فلأحصل عليها كما هي، ولا أظن أني سأضيع الوقت في الشكوى من أن شعرها فاحم إلى حد بالغ. وأغضبته لوحة تمثل يوسف يرفض عروض زوجة بوتيفار "لا يمكن أن أتخيل ماذا كان يريد، وما كنت أنا أتطلب شيئاً خيراً من هذا، وغالباً ما أرتضيت أقل منه(74) وأبدي عطفاً نحو الفنانين الذين يرسمون الصور العارية، وبصفة خاصة نحو المثالين الذين يصبونها. وفوق كل هذا "ماذا تفعل في التماثيل بالأزرار والنفثات(75) وأحب صور جريز التي تمثل براءة الفتيات وشارك جريز نزعته العاطفية وبصفة خاصة قدر لوحاته التي رسمها لزوجته التي كانت عشيقة ديدرو أيام شبابه. وأستساغ المناظر الطبيعية الموحشة في الفن الهولندي والفلمنكي، ووجد شعراً أكثر في شجرة بمفردها تعاني من كر السنين وتعاقب الفصول، منه في واجهة قصر منيف فلا بد أن يكون القصر أطلالاً حتى تثير الأهتمام وتكون اللوحة مشوقة(76) وأستهجن التوكيد القديم الكلاسيكي-التقليدي على العقلانية والنظام والتناسق، وأمتدح الخيال الخلاق وأثره على التفكير التحليلي. ودعا إلى "تآليف مرعبة أو حسية... تنقل الحب أو الرعب إلى أعماق القلب وتذيب الحواس وتطهر النفس، فثمة شيء في هذا الذي لا يمكن أن تحققه أية قواعد(77). وأحتقر فكرة "الفن للفن" فكان يرى أن للفن مهمة أخلاقية هي "تمجيد الفضيلة والتنديد بالرذيلة"(78).
وكان ديدرو واثقاً من ملاحظاته على معرض 1765 إلى حد أنه أضاف إليها مقالاً عن الرسم "ووجد مثل أفلاطون وأرسطو، إن جوهر الجمال يكمن في علاقته التناسق ين الأجزاء في كل واحد، ولكنه أرتأي أن يضاف إليها أيضاً تناسق ين الشيء وبيئته والغرض المقصود منه. ومن الوجهة المثالية عرف الجمال بأنه تكيف كامل مع الوظيفة فالإنسان الذكي الصحيح الجسم لا بد أن يبدو جميلاً، وينبغي على الفن أن يختار في منظر ما، المعالم والقسمات التي تحدد مغزاه، كما ينبغي أن يستبعد العناصر التي لا علاقة لها، وليس ثمة ما يدعو إلى أن يكون الفن تقليداً صاغراً حقيراً للهدف والواقع ومع ذلك يجدر بالفنان أن يدرس الشيء الطبيعي لا النماذج القديمة أو القواعد الشكلية فإن تنيير Teniers واحد خير من إثنى عشر واتو Watteau خياليين. وأحس ديدرو بشيء من التنافر بين الفن والعقل، وتين له أن قواعد بوالو التقليدية الكلاسيكية قد عوقت الشعر الفرنسي أو أصابته بالشلل. وهنا خالف فولتير لينضم إلى روسو في أن الفن يجب أن يكون فوق كل شيء صوت الوجدان ونتاجه. لذلك رفع من شأن اللون على حين أن رينولدز في نفس العقد من السنن كان يطري التصميم. وسلم ديدرو بأن التصميم يعطي الكائنات شكلاً ولكن اللون يعطيها حياة(79). ووجد جوته في هذا المقاتل أشياء كثيرة بدا له أنها خطأ، ولكنه ترجم نبذاً منها ووصفها لشيلر "بأنها عمل رائع، أنها تتحدث بشكل أنفع حتى للشاعر منه للرسام، ولو أنها للرسام كذلك مشعل قوي الضوء يهديه على الطريق"(80).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ديدرو والمسرح
كتب ديدرو يقول "ترددت عندما كنت شاباً، بين السوربون (الكهنوت) والمسرح(81). وفي 1774 كنت قد قضيت نحو ثلاثين عاماً أكتب الموسوعة على غير هوى مني، وكتبت روايتين أثنتين"(83) وأولى إهتمامه اكبر لرواياته منه لقصصه. ولما كان معظم قصصه لم ينشر إلا بعد وفاته فقد كان لرواياته أثر أكبر على شهرته وعلى حياته، كما أنها شكلت ما يقرب من الثورة في تاريخ المسرح الفرنسي. وكان ديدرو قد قرأ في شغف زائد قصص ريتشاردسن. وفي 1761 كتب مقالة "في مدح ريتشاردسن سما فيها إلى التغني بالثناء على الرجل الإنجليزي، لأنه ينفخ في القارئ من روحه وبغرس الفضائل، كما أنه أوتي الشجاعة ليصور حياة الطبقة الوسطى الجديرة بفن جاد وفوق هذا كان ديدرو قد تأثر برواية جورج للو Lillo "تاجر لندن" (1731) التي كانت قد أبرزت بنجاح عواطف طبقة رجال الأعمال وبلاياهم على المسرح الإنجليزي. وقال أن الرواية "من مستوى رفيع" حتى لوقورنت بسوفوكليس. لماذا لا تكون القلوب الكسيرة جديرة بمسرحية "مأساوية على الرغم من أنها ليست من ذوات الحسب والنسب؟ وعندما لجأ ديدرو إلى تأليف الروايات في الأسلوب الجاد نراه قد أزعج ورع التقاليد الفرنسية باستخدامه لروايته شخوصاً من الطبقة الوسطى وبالكتابة نثراً. وهكذا أرسل إلى المسرح والمطبعة في 1757 "الأبن الطبيعي أو المحرومون من الفضيلة ولم تلق نجاحاً على خشبة المسرح، ومثلت مرتين في الأقاليم (1757) ولم تمثل إلا 1771 في باريس، وواضح أنها مثلت مرة واحدة آنذاك ولكنها كانت حدثاً هاماً وحققت نجاحاً ورواجاً وهي مطبوعة في كتاب.
والقصة ممتعة إلى حد كبير فإن دورفال الأبن غير الشرعي المتمسك بالفضيلة الذي يعيش في بجبوحة، يجد فسه قد وقع في غرام روزالي المخطوبة لمضيفة كليرفيل، ويحس دورفال أن الفتاة تبادله حبه فيعتزم أن ينأى بنفسه حتى لا يحطم زواج صديقة. وعندما كان على وشك مغادرة المكان رأى رجالاً مسلحين يهاجمون كليرفيل، فأشتبك في قتال معهم وأنقذ حياة صديقه وعندما علم بأن والد روزالي التاجر فقد كل ثروته ولم يعد يستطيع أن يقدم لها صداقاً فأنه يعوض الخسارة خفية ومن ثم أصبح التاجر المفلس والد دورفال ووالد روزالي معاً، وتوطن النفس على أن تكون أختاله وتتزوج من كليرفيل، ويتزوج دورفال من أخت صديقه كنستانس وتختتم الرواية وقد غمرت الجميع دموع الفرح. وهذا كان أسهام ديدرو فيما كان النقاد قد أسموه بالفعل "مسرحية الدموع".
أن الذي هيأ للرواية مكاناً في التاريخ الفرنسي سلسلة من الحوادث نشرت معها، سميت فيما بعد "مناقشات حول الأبن الطبيعي" وجرت تقاليد المسرح الفرنسي على أن المسرحية الجادة (تمييزاً لها عن الهزلية) يجب أن تقتصر على أشخاص النبلاء ويجب أن تكتب شعراً. وأوضح ديدرو آنذاك فكرته في أن المسرحية الجادة ينبغي إلا تخشى إستخدام شخوص وأعمال رمهن برجوازية ومشاهد من حياة الأسرة وللبيت في شكل واقعي، مع كتابة الرواية نثراً. ورأى ديدرو أن يبين أن عبارة "سيد مهذب من الطبقة الوسطى" ليست التناقض الساخر الذي كان قد أرتاه موليير" ولكنه تطور المجتمع الجديد الذي تصاعدت فيه ثروة البرجوازية ومكانتها وسلطتها، واحتج بأنه يجدر بالكاتب المسرحي إلا يعرض كثيراً من الدراسة للشخصية بل كثيراً من ظروف الحياة الواقعية في الأسرة، في الجيش، في السياسة، في المهن، بل حتى في الصناعة. وحيث كانت الطبقات الوسطى منبع الفضيلة في فرنسا فقد أصر ديدرو على أن يكون من وظائف المسرحية الجديدة أن تغرس في الناس حب الفضيلة ومقت الرذيلة "مدمغ الفن المقصود به مجرد الترفيه بأنه ترف الطبقة الخاملة" فلا بد أن يكون لكل فن وظيفة وفائدة أجتماعية. وأي هدف أن يسعى المسرح إلى تحقيقه أفضل من أن يكسو الفضيلة فتنة وسحراً وجلالا! أن الرواية وما صاحبها من بيانات وتصريحات فرقت أهل الفكر في باريس إلى معسكرات متنابذة، وتناول باليسو وغيره من أعداء الفلاسفة آراء ديدرو بالتسفيه والتسخيف. أما فريرون فأنه لم ينقد الرواية بأنها تعليمية جافة كئيبة متبلة ببعض المشاعر والفضائل الزائفة فحسب، بل أنه كذلك أوضح في إعداد متوالية من "السنة الأدبية" التي كان يصدرها تشابهاً مريبابين النصف الأول من "الأبن الطبيعي" وبين كوميديا "التصديق الحق" التي كان جولدوني قد مثلها في البندقية 1750. وأعترف ديدرو بقوله: لقد إستحوذت عليها وكأنها خاص بي ولم يكن جولدوني أكثر تدقيقاً فأنه إستحوذ على رواية مولير "البخيل". وما كان يدور بخلد أحد أن هذا غير لائق. ولم يحلم أحد منا بأتهام موليير أو كورني بالسطو والأنتحال لأنه أقتبس ضمناً فكرة أحدى الروايات من مؤلف إيطالي أو مسرح أسباني(83).
وهذا يصدق بطبيعة الحال على رواية كورني "السيد Lecid " ورواية موليير "مأدبة الصخرة" Le Feslin de Pierre (دون جوان). وبتشجيع من الأصدقاء وتحدياً للأعداء، ووسط أشد ما يلاقي من عناء في الموسوعة، ألف ديدرو ونشر (1758) رواية أخرىة أسمها "رب الأسرة" وأضاف موضوعاً أثار الغضب: بحث في الشعر المسرحي، وهو عنوان يذكرنا بالعنوان الذي إستخدمه دريدن لبحث مماثل منذ تسعين عاماً. وأخرجت الرواية في تولوز ومرسيليا في 1760، وعلى "المسرح الفرنسي" في باريس في فبراياً 1761، حيث مثلت سبع ليل مما أعتبر نجاحاً متواضعاً. ووافق فولتير على تأجيل عرض مسرحيته Tanerede من أجل رواية ديدرو هذه، وكتب إلى منافسة الجديد "أيها الأخ العزيز ديدرو، تخليت لك عن مكاني عن طيب خاطر وبودي أن أتوجك بأكليل الغار" فرد عليه ديدرو "شكراً لك يا أستاذي العزيز وأني لأعلم كم كنت ترغب في أن يلاقي تلميذك نجاحاً. وقد تأثرت لهذا كثيراً، لك حبي وأحترامي إلى أخر لحظة في حياتي"(84) وأعيد تمثيل الرواية من جديد بنجاح في 1769 على المسرح الفرنسي وأصبحت عنصراً هزيلاً في إنتصار الفلاسفة.
وموضوع الرواية يتصل إلى حد ما بالسيرة الذاتية، فالوالد تذكير جميل بديدييه ديدرو، اللهم إلا في أنه يعظ أكثر كثيراً مما قيل لنا عن الرجل الطيب ديدييه: أما الأبن سانت ألبان (وهو صورة قريبة جداً من دنيس ديدرو) فأنه يسعى في الحصول على موافقة أبويه على زواجه من صوفيا، وهي إحدى بنات الطبقة العاملة، ويوافق الولد على أن يراها ويحبها، ولكنه يرفض أن يتزوج إبنه بمثل هذه البنت الفقيرة. وبعد خمسة فصول وبحض الصدفة التي خدمت ألف مسرحية يتبين أن الشابة إبنة أسرة كريمة ويرق قلب الوالد ويجري كل شيء على ما يرام ويمكن أن يغتفر لفريرون قوله أن الرواية مثيرة ميكانيكية سخيفة. وأثار أحد النقاد إلى أن التغني بالفضيلة كان مقصوداً به جريم كان يشارك روسو إحدى البغايا، وكان الآن عشيق مدام أبيناي، وأن ديدرو أطلق على بطلة روايته إسم هذه العشيقة صوفي فوللان Vollad أما فولتير فإنه على حين إمتدح المؤلف على ما في الرواية من "أشياء رقيقة فاضلة" كتب إلى مدام ديفان ستساءل "هل قرأ لك أحد رواية رب الأسرة؟ أليست مضحكة تدعو إلى السخرية؟ أن قرننا، فيما يختص بالعقيدة والإيمان فقيرة إذا قورن بقرن لويس الرابع عشر"(85).
ومهما يكن من أمر فإن ديدرو أحس بأن مسرحية القرن السابع عشر في فرنسا كانت على شكل غير طبيعي تماماً في أسلوبها الخطابي الحماسي الطنان الرنان، وفي وحداتها المحكمة المتزمتة في العمل والمكان والزمان، وفي تقليدها الكئيب للروايات الكلاسيكية القديمة لا الواقع الحي، وكانت رواياته وهي عاطفية حسية دون موازنة أو خجل بشائر رد الفعل الرومانتيكي ضد المذهب العقلي والكبت العاطفي في العصر الكلاسيكي، وكان تأثير ديدرو محسوساً أيضاً في الواقعية المتزايدة في إعداد المسرح تبعاً لمختلف الفصول، وفي دقة ملابس الممثلين بالنسبة لعصور التاريخ وفي الحفاظ على الخصائص القومية في النطق. وأشترك ديدرو مع فولتير في الحملة التي شنها لأخلاء خشبة المسح من النظارة. وقال جوستاف لانسون إن كل تحسين طرأ على فن الإخراج في المائة والخمسين عاماً الماضية بع من ديدرو"(87) اللهم إلا أن الناظر الآن تميل إلى أن تكون تخيلية أكثر منها واقعية. وكذلك تجاوبت ألمانيا مع ديدرو الذي أطلق عليه سانت بيف أقرب الفرنسيين إلى الألمان. وترجم لسنج رب الأسرة والمقالات المسرحية، وصرح بأنه ليس ثمة ذهن أكثر ميلاً إلى الفلسفة وتأثراً بها إنشغل بالمسرح منذ عهد أرسطو إلا ديدرو(88).
الكوميدي كذلك كان لديدرو رأيه في فن التمثيل المسرحي، وفي مقال طابعه التحدي تحت عنوان "تناقض حول الممثل الكوميدي" 1778 أعترض على القول بأنه من أجل تحريك شعور جمهور المتفرجين والتأثر فيهم يجب على الممثل ألا يستسلم للعاطفة التي يعبر عنها يجب أن يكون هادئاً رابط الجأش، وهذا بالطبع تسفيه لرأي خوراس الذي نصح الشعراء بقوله "إذا أردتموني أن أبكي فلتجهشوا أولاً بالبكاء". ويرد عليه ديدرو: "يجدر بالممثل أن يضم بين جنبيه مشاهداً أو متفرجاً لا يتأثر وغير متحيز. ويجب أن يكون لديه حسن الإدراك والتمييز، لا الحساسية... وإذا كان الممثل مليئاً حقاً بالشعور والوجدان فكيف يمثل نفس الدور مرتين بنفس الروح ونفس النجاح؟ وإذا كان ممتلئاً حماسية ونشاطاً في العرض الأول، فلا بد أن يهن ما أشتد من قوته أو يصبح جامداً كالصخر في العرض الثالث، أملأ المسرح بأناس يذرفون الدموع، ولكني لا أسمح لأحد منهم بأن يكون على خشبته (ممثلاً)(89). وتلك نصيحة قلما إتبعها ممثلو مسرحيات ديدرو. وكان ثمة تناقض في ديدرو نفسه، ذلك أنه في 1757 كتب يقول إن الشعراء والممثلين يحسون بقوة ولكنهم لا يعكسون إلا القليل من أحاسيسهم(90) ولكنه الآن يناقض نفسه، وربما كان هذا راجعاً إلى أنه شاهد في باريس فيما بين عامي 1763slash1770 دافيد جوك Gorrick يثير إنفعالات وأحسيس متباينة في تعاقب سريع، متى أراد. أو أنه كان قد وجد المفارقة في هملت وهو يأمر الممثلين السنيور: "وسط السيل والعاصفة (كما يمكن أن أقول) ودوامة النفعال تذرعوا بشيء من الأعتدال الذي يضفي عليها شيئاً من الهدوء والرفق"(91) ورفض سير هنري أرفنج تحليل ديدرو ولكن ناقداً حديثاً يعتقد أنه "ظل حتى اليوم أهم محاولة لمعالجة مشكلة التمثيل"(92). ويمكن أن يكون الممثلون عاطفين في الحياة ولا يجوز أن يكونوا كذالك على خشبة المسرح. (وربما يؤدي ضبط النفس على المسرح إلى الأنطلاق والتحرر في الحياة، ومن ثم يجب أن يغتفر لهم خطايا كثيرة). وينبغي عليهم أن يدرسوا الأحساس المعين في أسبابه وعلله، ويعبروا عنه بأيماءاتهم وأشاراتهم وكلامهم. ولكن يجب "أن يتذكروا في هدوء وسكون"(93). وتوصل ديدرو إلى إيضاح الفرق في رسالة إلى الآنسة جودان: "أن الممثل الذي لا يتحلى إلا بحسن التقدير والتمييز فاتر بارد، أما هذا الذي يتميز بالحيوية والحساسية فهو مجنون"(94).
إننا إذا ألقينا بنظرة إلى الوراء في العرض غير المرتب الذي أوردناه لذهن ديدرو المشوش نغفر له إضطرابه وسط هذا العدد الوفير من الأفكار والآراء ومجالات إهتمامه. ولم يكن شيء من الإنسانيات غريباً عليه أو بعيداً عنه، اللهم إلا الدين، بل إنه حتى بالنسبة لهذا، فإن ديدرو لم يخل من الشعور الديني. وكان من خصائص ديدرو أن يبدأ بالرياضيات والفيزياء وينتهي بالمسرحية والموسيقى. ولم يكن في مقدوره أن يكون من جهابذة العلوم، لأنه لم يكن يطيق صبراً على البحث والتجربة، ومن ثم قفز مبتهجاً إلى التعليمات. على أنها كانت كثيراً ما تنير العقل. وعرف من الموسيقى الشيء الكثير حتى أنه كتب عن طريقة إستعمال المفاتيح، ورسالة عن علم الإيقاع، وألف أعظم الروايات أثراً وأحسن القصص في عصره، ويتفرق في قصة القصيرة على كل معاصريه فيما عدا فولتير. ولكنه برز فولتير نفسه في أنه أضفى على القصة القصيرة من تركيز الفكر والعمل ما حدد لها شكلها حتى يومنا هذا. وحيث أدمن ديدرو على الحديث والنقاش وتدرب على إرتياد المنتديات (الصالونات) فأنه طور الحوار إلى درجة من الأشراق والحيوية، نادراً ما سمع بها قبله أو بعدة. وكتب في الفلسفة، ولكنه لم يكتب لغة غامضة للأبراج العاجية، وإنما كتب مناقشة حية في موضوعات حية بين أناس إندفعوا إلى معترك الحياة أة إلى خضم العالم راضين طائعين.
ديدرو
وراء هذا الذهن المتغير الأشكال والألوان، كان ثمة إنسان تجمل بفضائل كثيرة، كما أنه يبرأ من كل الأخطاء تقريباً، مما لعب كل منها دوره على مسرح حياته، وعند ما رسم فانلو لوحة لديدرو، أحتج هذا على أن الوجه في الصورة لم يظهر من صاحبه إلا جزءاً سريع الزوال، فلم يبرز إلا مجرد تعبير واحد عن حالة نفسية واحدة أو مزاج واحد وقال: إن لي مائة من التعبيرات المتباينة في كل يوم، تبعاً لحالتي النفسية أو مزاجي في كل لحظة: كنت هادئاً حزيناً حالماً رقيقاً عنيفاً منفعلاً متلهفاً. أن العلامات الخارجية الظاهرة لحالات ذهني الكثيرة المتباينة كانت تلاحق بعضها بعضاً بسرعة على وجهي إلى حد أن عين المصور وقعت على شخص مختلف من لحظة إلى أخرى ولم تقع على الشخص الحقيقي قط"(95).
ومهما يكن من أمر فإن هذه الوجوه الكثيرة أندمجت شيئاً فشيئاً في قالب مركب، وتركت له التقاطيع والقسمات المجعدة التي نراها في اللوحة التي رسمها له جريز Greuze مثل قيصر أضناه الألتحام العنيف مع جيش من الأفكار والأعداء، كما أرهقته محاولاته التعبير بأدق عبارة وأجلى بيان عن قبوله أو رفضه أي عن قوله نعم أو لا. وكان له حاجبان عاليان يطلان على رأس نصف أصلع وأذنان كبيرتان وأنف كبير منحن، ولسان ناطق وذقن متجلد، وعينان سمراوان، ثقيلتان حزينتان، وكأنما تستذكران من الأخطاء ما لا يجوز تذكره، أو تتأكد من عدم قابلية الخرافة للتخريب، أو تلاحظان أرتفاع معدل السذاجة، وكان أمام الناس عادة يضع شعراً مستعاراً، وقد يخلعه إذا نسي نفسه في نشوة الحديث، وقد يلعب به أو يضعه على حجرة، وكان مستغرقاً في الحياة، ولم يكن لديه فسحة من الوقت للتظاهر. ولم يذعن لأي إنسان في تقدير أخلاقه. وسلم "بأني قد يغلبني التأثر لحظة ولا ألبث إلا قليلاً حتى أعود سيرتي الأولى، الإنسان الصريح الوديع أم نصف المتسامح الأمين المحسن الذي يأسر الناس بحسن صنيعه. أستمر من فضلك في قصيدة المديح لأنها لم تكمل بعد. إني لم أذكر شيئاً بعد عن ذكائي". وساوره الشك في أن يوجد على ظهر البسيطة إنسان أكثر منه أمانة. وكان واثقاً من أنه حتى "أعمدة الكنيسة" تستطيع أن تعتمد على كلمته. وكتب إلى خليليته: " أية نفوس جميلة نفسك ونفسه" وهنا أدخل جريم في هذا الثالوث. وغمرته نشوة الفرح والأبتهاج وهو يتحدث عن مؤلفاته ورواياته واثقاً من خلودها. وأعتقد أن أخلاقه قويمة. والحق أنه أحتفظ بسيدة واحدة في وقت واحد. وتحدث عن نفسه على "أنه" الفيلسوف. "وسلم بوجود شبه بينه وبين سقراط وتساءل: "ماذا يهمني إذا كنت أدين بمناقبي ومآثري للطبيعة أو للخبرة ما دامت ثابتة وطيدة ولن يفسدها الغرور"(96)؟
والواقع أن ديدرو تحلى بعظم الفضائل التي نسبها لنفسه، لقد كان أميناً بمعنى صريح، ولو أنه أقترف كثيراً من الكذب في شبابه. ولم يكن يتكلف أو يتظاهر، وكان وديعاً رفيعاً، اللهم إلا في الحديث، حيث كثيراً ما كان متهوراً، وفي بعض الأحيان خشناً جافاً إلى حد كانت تضطر معه مدام جيوفرين إلى تنبيه إلى التزام النظام واللياقة. إنه يقيناً كان شجاعاً لأنه أستمر يناضل حين تخلى عنه الكثير من أصدقائه، بل حتى نصحه فولتير بأن يكف. وكان منصفاً اللهم إلا مع التقوى ومع روسو، وقد ندرك فيما بعد أنه لم يكن يستسيغ كثيراً حساسية جان جاك روسو. وكان كريماً بلا منازع مستعداً لمعونة من يلجأون إليه، أكثر ثناء وأطراء للناس منه لنفسه.وقضي أياماً كثيرة في القيام بأعمال جريم في صحيفة كورسبندانس، "وصياغة محاولات أصدقائه الأدبية في الشكل الملائم. وساعد نفراً كبيراً من الفقراء بمنح قدمها إليهم من دخله المتواضع. وإذا عرض عليه أحد الصحفيين المحتاجين قطعة هجاء في ديدرو نفسه طالباً إليه أن يراجعها معللاً ذلك بأنه إنما يسعى وراء القوت أجابه ديدرو إلى طلبه وراجعها ونقحها. بل اقترح عليه إهداءها إلى دوق أورليان الحالي الذي يوليني شرف كراهيته لي" وهذا ما حدث فعلاً وأرسل الدوق للصحفي الناشيء خمسة وعشرين جنيهاً(97). وكان متساهلاً في نقده للكتب واللوحات والرسوم (فيما خلا رسوم بوشيه) قائلاً أنه يؤثر الأشارة إلى الأعمال الجيده على السخرية من الأعمال الرديئة"(98) وكان أكثر الفلاسفة أنساً ووداً. وأيد روسو حتى 1758، وجريم حتى النهاية تقديراً من ديدرو لخلقه هو نفسه. وقالت مدام أبيناي أنهم تحدثوا عنه "بأعظم الأجلال والأحترام" وأعجبوا بعبقريته، ولكن خلقه كان مثار حماسة خاصة بينهم. ويقول جريم إنه أكمل من عرف من البشر(99). وكانت أخطاؤه في نظر مثل الأصدقاء أخطاء طفل صريح إلى حد السذاجة. وأعتبروا أنه أعمق من فولتير.
ومن المحقق أنه كان أكثر ثراء في الأفكار من فولتير، لأنه لم يكن ثمة قيود ولا ضوابط في بنيانه، وكان أكثر خيالاً وأقل عقلانية. وكان أكثر تهوراً وطيشاً، ولم يكن ناضجاً قط. يقول فولتير "أن ديدرو أتون شديد الحرارة إلى درجة يحترق معها كل ما يخبز فيه"(100). ومع ذلك خرجت منه أشياء كثيرة لم يكتمل نضجها ولا خبزها، وكان شديد الحساسية مثل روسو رقيق العاطفة مثله، كما كان مثله مستعداً ليبكي على جمال الطبيعة ومآسي الحياة وأعلن رأيه في الدين وربما عبر هذا الرأي عن نفسه: أن في ذرف الدموع بالنسبة للنفس الحساسة الرقيقة لذة وبهجة(101). ورآه زواره أحياناً بذرف الدمع-أو في سورة غضب- على كتاب، وبما كانت صداقته مع روسو قائمة على التماثيل في المشاعر ونفس قوة الوجدان، ونفس حب الطبيعة ونفس المفهم الرومانتيكي للعبقرية على أنها غريزة وأنفعال وخيال، ونفس التحمس لقصص رتشاردسن.وتلهف على تحذير كلاريا من Loelace وعندما قرأ عن الملوك القساة كان من اليسير عليه أن يتخيل أنه يستخدم خنجراً في سهولة عجيبة(102) أن فولتير+ روسو= ديدرو. ولم يغفر أي من هذين الرجلين له أنه جمع بينهما كليهما، على حين بقي هو فريداً مع نفسه.
وعبرت عاداته عن تناقص صفاته، فأنه أحب الطعام إلى حد الشره والأصابة بالحصى. ولكنه كان يقظاً لكل النتاج الثقافي في زمانه. وكره الترحال ولم يحبذه(103) ولكنه عبر قارة أوربا ليقدم إلى كاترين الثانية قيصرة روسيا شكره وتقديره، وأنهمرت دموعه لشعر الجميل، وأنغمس في البذاءة الفاحشة، وأحتقر المال وتحدث عن الفقر صديقاً ملهماً للفلاسفة، ولكن عندما مات ولده قصد إلى لانجرز (1759)، وسر بحصوله على ثلث البركة. ومن ثم دخله في 1760 نحو أربعة الآف سنوياً. فقال عند ذاك "أنا في حاجة إلى مسكن مريح، إلى فراش وثير وإلى سيدة معطرة، ومن ثم أستطيع بسهولة أن أصبر على بلايا دولتنا المتمدنة. أو هنا كبح جماح فولتير في ديدرو، وجماح روسو فيه وسخر منه.
وشغلت زوجته بالأمومة المثبطة للمهمة وبأعمال البيت غير العطرة إلى حد لم يستطع معه أن تلقى أذناً صاغية إلى أفكار زوجها وآرائه المتكاثرة. وجأر مثل ملتون بطلب الطلاق على أساس عدم التكافؤ العقلي، ولما لم يجيزوا له الطلاق لجأ إلى ما لا يزال الفرنسيون يلجأون إليه ألا وهو إتخاذ خليله - وصفوة القول كانت هناك الآنسة بابوتي Babuti التي أصبحت فيما بعد جريز Greuze ثم مدام بوسييه Puisieux التي لازمته عشر سنين. وفي 1755 وجد ضالته المنشودة في سيدة شابة وفرت له لمدة عشر عاماً الحب والأخلاص وحسن التفاهم. وتلك هي لويز هنريت فوللان Volland، وعاد فأطلق عليها أسم صوفي Sophie (لأنها بدت في عينيه روح الحكمة) وكانت عندما التقيا لأول مرة في الثامنة والثلاثين من عمرها غير متزوجة ريانة ممتلئة الجسم قصيرة البصر، ووصفها بأنها تضع منظاراً على وجه "جاف" تقريباً. وكثيراً ما عنفهابين لحين والحين لأنها كانت تنافسه في حب القراءة، لكنها جمعت الكتب بدلاً من العشاق. وقرأت كثيراً حتى في السياسة والفلسفة، ووجد ديدرو أن ساقيها غليظتان أكثر مما ينبغي، ولكنه كان شاكراً لها حسن أصغائها إليه، مولعاً بعقلها وقلبها. وكتب يوماً إلى جريم يقول "آه يا عزيزتي جريم، أية سيدة هذه! كم هي لطيفة جميلة أمينة رقيقة حساسة. ولسنا نعرف أكثر مما تأتي به هي من عادات وأخلاقيات ومشاعر فيما لا يحصى من الأشياء العامة. أن لها حكمها على الأشياء، ووجهات نظرها وأراؤها وأفكارها وطريقة تفكيرها الخاصة بها، كل أولئك قائم على العقل والحق وحسن الأدراك. ولا يثنيها عن شيء من ذلك الرأي العام أو السلطات أو أي شيء آخر"(104) ولا يمكن أن يكون كل هذا هياماً وغراماً، أما جوهر الموضوع فإن دكتور ترونشين رأى فيها روح نسر تسكن بيتاً من السحاب(105) أي أنها أحبت الثياب الفاخرة والتحليق في سماء الفكر والعقل.
وكتب إليها ديدرو طيلة عشرين عاماً أرق رسائله التي ستظل من ذخائر القرن الثامن عشر الأدبية. وقد أستطاع أنيكتب إليها في كل شيء بصراحة ويرسل إليها قصصه الداعرة وآخر تأملاته وأفكاره. فكتب لها كما لو كان يحدث إليها "إذا كنت بجوارك وذراعي يطوق ظهر مقعدك"(106). وفي علاقته بها تحقق مما لم يتحقق من مثله قط من قبل: تحقق من الدور الذي يمكن أن يلعبه الوجدان والعاطفة في الحياة. وكاد أن يكون من العسير عليه إلا أن يؤمن بالجبرية (القضاء والقدر) وبدا بعيداً عن التصديق أن تبادلهما المزدوج للأخلاص والحب والأفكار نتيجة فيزيوكيميائية لسديم بدائي. وأستطاع وهو في مثل هذه الحالة النفسية أحياناً أن يتحدث حتى عن الله. وإنه ليروي لصوفيا كيف أنه بينما كان يسير في الريف يوماً مع جريم التقط سنبلة من القح وأستغرق في التفكير في سر فسأله جريم "ماذا تفعل"؟ فأجاب "استمع" "ولكن من الذي يكلمك؟" فرد عليه "الله"(107).
وبعد أثنى عشرة سنة من أتصاله بصوفيا فوللان فترحبه لها. وأصبحت رسائله إليها موجزة، كما أصبح توكيد الإخلاص أكثر تكلفاً. وفي 1769 وهو في السابعة والخمسين، خلف صديقه المتوفي داميلا عشيقاً لمدام دي مو، وكانت في الرابعة والخمسين، وبعد عام واحد أزاح ديدرو عن مكانه عاشق شاب، على أن دنيس (أي ديدرو) ظل في الوقت نفسه يؤكد لصوفي حبه الأبدي.
وفي كل شطحات قلبه وذهنه أحتملت زوجته أنطوانيت بكل الصدق والإخلاص، ولم تكف عن لومه وتوبيخه. وألتمست السلوى والعزاء في الدين ولعب الورق ولم ينقطع الشجار بينهما يومياً تقريباً، ولم يضيق الزمن الهوة بين الرجل الذي تدور برأسه ألف فكرة والمرأة التي تعبد رباً واحداً ولم يتوقف أصدقاؤه قط لتحيتها عندما كانوا يأتون لزيارته. ولما أكتشفت علاقته بصوفي ثارت ثائرتها التي بدت له فرصة غير ملائمة للأفتراق عنها تماماً. ولفترة من الوقت ظل يتناول طعامه في مكتببه، وكتب إلى جريم يقول "إنهال بدأت تحس بنتائج هذا الفرق البسيط. إن نفاد نقودها وهو ما أراه وشيكاً، وسيدي حتماً إلى الصلح وعودة الإمور إلى مجاريها(108). وإنتابها المرض فرق قلبه لها وتولى رعايتها متذمراً، وتجاوبت معه في رقة ظن منها أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة. ومهما يكن من أمر فإنه في رسالة بعث بها إلى صوفي وصف مرض زوجته أنطوانيت مازحاً. وعندما فكر صديقه سوارد في الزواج نصحه ديدرو أن يلقي بنفسه في لجة اليم بدلاً من الزواج. (وكان زواج سوارد من أسعد الزيجات في عصر الشقاء هذا).
وكان من الجائز أن يولي ديدرو الفرار من داره لزلا أنه أحب وسائل الراحة في بيته، وشغف حباً بأبنته الجمسلة. وكانت أنطوانيت (173) في الثالثة والأربعين حين وضعت طفلها الرابع. وشبت ماري أنجليك وأكتملت لها كل مفاتن الأنوثة، فركز ديدرو كل إهتمامه عليها وتعلق بها، فشاركها في ألعابها. وأنا لنتصور الرجل الذي أثقلت الفلسفة رأسه يلعب فشاركها في ألعابها. وأنا لنتصور الرجل الذي أثقلت الفلسفة رأسه يلعب مع أبنته الصغيرة الغمضية والحجلة والطفل المعصوب العينين "كنت شغوفاً بأبنتي الصغيرة إلى حد الجنون. أية شخصية محبة هي: أو أية سيدة أستطيع أن أخلق منها إذا سمحت لي أمها بذلك". وعنى بتلقينها كل الفضائل المسيحية. ولما قاربت سن البلوغ زودها بتوجيهات لتصون نفسها من ذئاب باريس. وماذا كانت تعني عروضهم؟ "إنها تعني يا آنسة رضاء لي، هلا جللت نفسك بالفضيحة والعار، وفقدت مركزك الاجتماعي وتواريت عن أنظار المجتمع، وحبست نفسك في أحد الأديار وجعلت أباك وأمك يموتان حزناً وجزعاً(109)؟
ومن ثم فإنه مثل أي أب فرنسي أدخر مالاً ليدفع لها الصداق، وأتصل بمختلف الأسرات ليجد لها زوجاً في الوقت المناسب، وأستقر رأيه على أختيار زوج أبنته ورفضته أمها أنطوانيت، ولكن وافقت عليه الآنسة ماري وزفت إليه (1772)، وبكى ديدرو لفراقها، ولكن أغرورقت عيناهأكثر بدموع الفرح عندما رأى سعادتها الزوجية، وعاون الزوجان الصغيرين بسخاء قائلاً "أليس من الأفضل أن أعاونهم في الوقت الشدة أكثر من أن أنتظر إلى الوقت الذي لا يعودان يحتاجان إلى فيه". وأصبح زوج الأبنة هذا من المحافظين الحذرين الحريصين. ولما نضج في ديدرو الأحساس بالأبوة بدأ يحسن فهم أبيه، وينظر بين الأجلال والتقدير للقانون الأخلاقي الذي ساعد رجلاً على تنشيءة أسرة طيبة، ولكن قدراً كبيراً من البوهيمية ظل يلازمه. وعلى الرغم من أنه حب عرينه وملابسه وأخفائه القديمة، وأولع بتد أصابع قدميه أمام النار ويلزم البيت، فإنه كان يحرم نفسه من هذه المتعة بين الحين والحين، مثلما قضي مرة شهراً مع دي هولباخ في جراندفال Grandval وظل يرتاد المقاهي، وكان شخصية مألوفة في بعض الصالونات، وأحبته مدام حبوفرين على الرغم من خشونته في الحديث. وفي نوبات عطف الأمومة أرسلت إليه مكتباً جديداً وطاقماً من الكراسي المريحة المصنوعة من الجلد وساعة حائط ضخمة من الذهب والبرومنز ومبذلاً فاخراً-" روب دي شامبر" وقدم لها الشكر وتخلى عن أثاثه القديم وهو حزين ولكنه عبر عن عمق الأسف لردائه الذي نبذه!" لم لم أحتفظ به أنه قد صنع من أجلي، ولا يصلح إلا لي ولا أصلح إلا له، والتأم مع كل ثنية في جسمي دون أن يزعجني، وكان رداء جميلاً مليحاً على حين أن الرداء الجديد جامد يابس وكأنه يجعل مني تكثالاً لعرض الأزياء (مانيكان). وكانت طبيعته الطيبة الودودة تسارع إلى تلبية كل نداء وتأدية كل خدمة، فإذا علا التراب أحد الكتب أمكن أستخدام أحد جوانب الرداء منفضة. وإذا كان الحبر على قلمي سميكاً لا يتدفق كان جانب الرداء على أهبة الأستعداد. وإنك لترى من خلال الخطوط السوداء الطويلة كم من الخدمات أدى هذا الرداء. إن هذه الخطوط والأشرطة السوداء هي التي أنبأت عن الأديب وعن الكاتب وعن المجد الكادح، أما الآن فيبدو على أني ثري خامل الذكر، لا يعرفني أحد وكنت صاحب السلطان المطلق على ردائي القديم أما الآن فقد أصبحت عبداً أسيراً للرداء الجديد"(110). وأعتبر ديدرو أن صداقاته هي أكبر سلوى وأعظم إلهام له في حياته. وكان أرتباطه بجريم أوثق وأبقى من سائر محبيه. وفي 1772 بعد أن كان الواحد منهما قد عرف الآخر لمدة أثنتين وعشرين عاماً كتب إليه "عزيزي صديقي الوحيد، لقد كنت دائماً وستكون دائماً صديقي العزيز الوحيد(111) ومع ذلك أساء فتور جريم وتظاهره بعدم الأكتراث في بعض الأحيان إساءة بالغة إلى ديدرو. إن جريم الألماني أستغل طيبة قلب ديدرو وكثيراً ما أنابه عنه في تحرير صحيفته "كورسبندانس" وحل محله لا في كتابة أخبار المعارض فحسب؟، بل في عرض أحدث الكتب كذلك. وفي بعض الأحيان أشتغل أثناء الليل حتى آخر لحظة حددها جريم لإنجاز العمل(112) وعرض جريم على ديدرو أجراً فرفض أن يؤجر. ومن المؤسف أن نروي أنه في 1773 سمع ستانلاس بونياسكي ملك بولنده أن ديدرو كان يعد العدة لزيارة سانث بطرسبرج، وفكر في دعوته للتوقف لعدة أيام في وارسو، فما كان من جريم إلا أن نصح الملك بأنه لا غناء في التعرف على الفيلسوف "إن ديدرو بدلاً من أستغلال وقته في أقتسام مجد العبقرية مع فولتير يضيعه في كتابة شذرات لصحيفة كورسبنداس أو يضيعه سدى مع كل من يجد في نفسه الجرأة ليسأله. وأستطيع أن أؤكد لجلالتكم أنه سيموت مغموراً غير معروف"(113).
وربما كانت أسعد ساعات ديدرو (عدا الوقت الذي كان يقضيه مع أبنته أنجليك) هي تلك التي كان يقف فيها خطيباً في أمسيات دي هولباخ أو مدام جيوقرين للعشاء، وينطلق في الحديث بفصاحة في أي موضوع وهو لا يكون في أفضل حالاته في الأجتماعات التي يغلب عليها الأدب والتهذيب والتي يكون فيها الظرف هو المطلوب لا الأفكار. وكم أنزعجت مدام جيوفرين نفسها من تحمساته، وكانت نصائحها له بالأعتدال والتزام آداب اللياقة قدر شطحاته هو، ولكن على مائدة البارون التي أجتمع إليها كما أكدوا لهيوم، سبعة عشر ملحداً أطلق ديدرو لنفسه العنان ومن ثم (كما أجمع كلهم تقريباً) لا يكون في أحاديث باريس الممتعة ما هو أكثر أمتناعاً وسحراً من حديث ديدرو ويقول مارمونتل "إن الذي عرف ديدرو من كتاباته وحدها لا يعرفه إطلاقاً... لقد نعمت منه بمتعة فكرية أعظم(114) أما هنري مستر الذي كثيراً ما نسمعه فإنه يصفه في مقارنة ملائمة "إني عندما أسترجع ديدرو في ذاكرتي وأرى شدة تنوع أفكاره وغزارة علمه المذهلة وتحليقه وشطحاته السريعة وحرارته وأضطراب خياله المتهور وكل ما في حديثه من فتنة سحر وتشويش، أتجاسر فأشبه شخصية بالطبيعة نفسها تماماً، كما تعود أن يتصورها، غنية خصبة تكثر فيها الجراثيم من كل جنس، وديعة عنيفة بسيطة فخكة، قيمة مهيبة ولكن على غير مبدأ أو قاعدة، ودون سيد ذي سلطان ودون إله(115).
وأستمع إلى تقرير مباشر عن حديث ديدرو عن نفسه "بدأ أنى شاذ غريب عليهم، ملهم سماوي. إن جريم نفسه لم يتهيأ له من البصر ما يراني به ولا من السمع ما يستمع إلي به، ودهشوا جميعاً وأحسست أنا نفسي بين جنبي بشيء من الرضا لا أستطيع التعبير عنه، إنه كان أشبه بنار تضطرم في أعماقي تلفح صدري، أنتشرت بينهم وألهبتهم. كانت أمسية من الحماسة كنت أنا مضرمها"(116). وكانت شهرته المعاصرة أعظم بين من عرفوه منها بين أولئك الذين أوا فقط أعماله المنشورة، وأهمها دائرة المعارف ورواياته وأحسنها التمسك بالدين وجاك المؤمن بالقضاء والقدر، وحلم دالمبير وأبن أخي رامو، ولملا تكن قد طبعت عند وفاته. ومل أجل هذا السبب من ناحية ولتطرف آرائه وأفكاره في الدين والجنس أخفق ولم يحاول قط اللحاق بالأكاديمية ومهما يكن من أمر فإنه في نظر أصدقائه كان الفيلسوف زعيم زعيم جماعة الثائرين المتمردين. إن روسو حتى بعد أن كرهه بأعتباره عدواً خفياً كتب في أعترافاته "سيبدو ديدرو لعدة قرون قادمة فذاً أعجوبة، وينظر الناس من بعيد إلى هذا الرأس العالمي بمزيج من الأعجاب والدهشة كما ننظر نحن الآن إلى رأس أفلاطون وأرسطو(117).
وأفتتن جيته وشيللر ولسنج بكتابات ديدرو وشارك ستندال وبلزاك ودلا كروا في الأعجاب به وأعتبره كومت أسمى عبقرية في ذاك العصر المثير(118) وأسماه ميشيليه "برومثيوس الحقيقي (في الأساطير اليونانية هو الشيطان المعبود الذي سرق النار من السماء وعلمها لأهل الأرض). وقال إن المرء ليستطيع أن ينهل من كتابات ديدرو لمدة سنة ومع ذلك تتبقى ذخائر لا حصر لها(119) وهلا أستمعنا إلى مدام جيوفرين التي عرفته حق المعرفة، ولكنها لم تقرأ كتبه، أنها كتبت تقول "أنه رجل طيب ورجل أمين ولكنه عنيد متشبت برأيه ( ولو كان خطأ) غير متزن إلى حد أنه يرى ويسمع الأشياء على ما هي عليه ومثله كمثل رجل يحلم ثم هو يؤمن بأنه أحلامه صادقة(120). كان ديدرو طيباً وسيئاً، أميناً وخائناً، عنيداً ونزاعاً إلى الحق، قليل التوازان وخلاقاً مبدعاً بشكل بارع، كما كان حالماً ومناظلاً ومتنبئاً، يبدو أن مكانته في التاريخ تعلو وتسمو كلما أبتعد زمانه، حتى إن بعضهم اليوم ليعتقد أنه أعظم شخصية أمتاعاً وإثارة في فرنسا في القرن الثامن عشر(121) ولتقف الآن عند هذا الحد حتى نلتقي به مرة أخرى وجهاً وجهاً مع أمبراطورة ثم في لقاء الفلاسفة مع الموت.