قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 5 ف 18

من معرفة المصادر


 صفحة رقم : 12493   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> النشوة الفلسفية


الكتاب الخامس



الهجوم على المسيحية



1730 - 1774



الفصل الثامن عشر



الملحدون



1730-1751



1- النشوة الفلسفية


لنبدأ بتحديد مصطلحاتنا. سوف نعني بلفظة فيلسوف. كل إنسان يحاول أن يصل إلى آراء مسببة مقنعة عقلانية في أي موضوع مهما يكن، إذا نظر إليه في أبعاده العريضة. وفي تحديد أكثر، سنطلق هذا المصطلح في الفصول التالية على أولئك الذين يسعون إلى نظرة عقلانية إلى أصل الكون وطبيعته ومغزاه ودلالته ومصيره، والحياة أو الإنسان. ويجدر ألا نفهم الفلسفة على أنها ضد الدين أو أنها تتعارض معه، وينبغي أن نفسح في النظرة الواسعة للحياة البشرية مجالاً للدين. ولكن لما كان كثير من فلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر معادين للمسيحية كما عرفوها، فإن لفظة الفيلسوف اتخذت مفهوماً معادياً للمسيحية . وفي استعمالنا لهذا المصطلح الفرنسي فإنه سيتضمن هذا المفهوم عادة. وسينطلق على لامترى وفولتير وديدرو ودالمبيرث وجريم وهلفشيوس ودي هولباخ فلاسفة، ولكنا لن نعد روسو فيلسوفاً بهذا المعنى -على الرغم من أنه يجدر بنا أن نسميه فيلسوفاً، لأنه زودنا بحجة عقلانية دفاعاً عن الوجدان والإيمان. كما ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الفيلسوف قد يعارض الديانات القائمة من حوله، ومع ذلك، مثل فولتير،



 صفحة رقم : 12494   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> النشوة الفلسفية


يتمسك إلى النهاية بالإيمان بالله. إن الجدل الذي هاج مشاعر الطبقات المفكرة في نصف القرن الذي سبق الثورة الفرنسية لم يكن مجرد صراع بين الدين والفلسفة، بل كان بالدرجة الأولى بين الفلاسفة والمذهب الكاثوليكي المسيحي كما وجد في فرنسا آنذاك، إنه الغيظ المكظوم في قلوب الفرنسيين لقرون طويلة من جراء ما لطخت به الديانة سجلها من الوقوف في وجه التقدم والمعرفة والاضطهادات والمذابح. وبلغ رد الفعل أقصى مداه، ولكن كذلك كان الاسفاف في مذبحة سانت برثلميو (1572) ومقتل هنري الرابع (1610) واضطهاد الهيجونوت بعد ألغاء مرسوم نانت (1685). ولم يكن ثمة مثل هذا العدد الكبير من الفلاسفة قط من قبل، وألمع هلفشيوس إلى "تذوق عصرنا للفلسفة وحبه لها"(2) وكتب دالمبير: أطلق قرننا على نفسه قرن الفلسفة بغير منازع. فمن أصول العلوم الدنيوية الدنسة إلى أسس الوحي، ومن الميتافزيقا إلى مسائل الذوق، ومن الموسيقى إلى الأخلاق، ومن حقوق الأمراء والملوك إلى حقوق الشعوب. كل شئ كان موضع دراسة وتحليل ومثار نقاش وخلاف. وليس فينا من ينكر أن الفلسفة أحرزت بيننا تقدماً. إن العلوم الطبيعية تقدم لنا في كل يوم ذخراً جديداً... وأتخذت كل ميادين المعرفة تقريباً أشكالاً جديدة(3). وكان الفلاسفة الفرنسيون نتاجاً جديداً. فكانوا قبل كل شي واضحين ولم يكونوا جماعة منعزلة عن العالم تكسوهم المهابة والقداسة، يتحدثون إلى أنفسهم أو إلى نظراتهم أحاديث غامضة لا يفهمها إلا فئة معينة من الناس. وكانوا أدباء عرفوا كيف تتألق الأفكار والآراء في الألفاظ. وولوا ظهورهم نحو الميتافيزيقا باعتبارها ضالة ميئوساً منها، ونحو طرائق الفلسفة باعتبارها غروراً كاذباً عريضاً. ولم يكتبوا أبحاثاً مطولة معقدة جهدوا فيها في استنباط العالم من فكرة واحدة، ولكنهم كتبوا نسبياً موضوعات قصيرة، ومحاورات مسلية وقصصاً متبلة ببعض الفحش، وهجاء قتالاً من فرط السخرية، أو حكمة معبرة بطريقة بارعة توهم بالتناقض في سطر يحطم تحطيماً. وساق هؤلاء الفلاسفة حديثهم متناغماً مع رجال الصالونات وسيداتها، وفي كثير من الأحوال وجهوا كتبهم ومؤلفاتهم إلى شهيرات النساء، وكان لزاماً أن



 صفحة رقم : 12495   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> النشوة الفلسفية


تكون مثل هذه الكتب واضحة جلية يسهل إدراك مراميها، وقد تضفي على الإلحاد سحراً وفتنة. ومن ثم أصبحت الفلسفة قوة اجتماعية انتقلت من المدارس إلى المجتمع والحكومة. وأسهمت في الصراع بين الدول، وكانت جزءاً من الأنباء. ولما كانت كل أوربا المتعلمة تتطلع إلى فرنسا لمعرفة النظرات والآراء، فإن مؤلفات الفلاسفة الفرنسيين وصلت إلى إنجلترا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال وألمانيا والسويد وروسيا، وأصبحت أحداثاً في دنيا أوربا. وفاخر فردريك الأكبر وكترين قيصرة روسيا بأن يكونا من بين الفلاسفة، وربما لم يقلقهما تنبؤ الطبقة المحافظة الفرنسية بأن المفكرين الأحرار الفرنسيين كانوا يقوضون أساس أخلاق فرنسا ووحدتها وسلطانها وقوتها. وكان لجوتنبرج أثره البارز: فإن الطباعة عملت على نشر العلوم والتاريخ ونقد الأسفار المقدسة وروائع الوثنيين، وأصبح الفلاسفة الآن أقدر على التحدث إلى جماهير أكبر عدداً وأكثر استعداداً من ذي قبل، ولم يستنكفوا أن يهبطوا من أبراجهم العاجية ليعملوا على تبسيط المعرفة. ولم يكن هذا لأنهم وثقوا كثيراً في "الرجل العادي" كما عرفوه في ذاك العصر، ولكنهم وثقوا في أن نشر "الحقيقة" قد يعمل على تحسين سلوك البشر وتوفير مزيد من السعادة لهم. وأعتبر دالمبير أن "فن تعليم الإنسان وتنويره أنبل مهمة وهبة في متناول البشر"(4)، وأصبح "التجاسر على المعرفة" شعاره الاستنارة الذي حققه عصر العقل وفاز به. ذلك أن الإيمان الذي آذن بإنبلاج فجره فرنسيس بيكون قبل ذلك بقرن من الزمان أصبح أساس الفكر المتحرر وأداته -أي أن الفكر تحرر بهذا من أساطير الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة وبرز العقل متألقاً في عظمة وحي جديد، وطالب بالسيادة والسيطرة في كل مجال وميدان، وعرض إصلاح التعليم والدين والأخلاق والأدب والاقتصاد والحكومة بمفهومه المشرق. وأقر الفلاسفة بضعف العقل، مثله في ذلك مثل أي شئ بشري، وأدركوا أنه من الميسور تضليله بأي منطق فاسد أو تفسير خاطئ للخبرة. وما كان لهم أن ينتظروا شوبنهور لينبئهم بأن العقل عادة خادم للرغبة وأداة للإرادة. إن هيوم الذي هيمن على عصر العقل هذا في بريطانيا كان



 صفحة رقم : 12496   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> النشوة الفلسفية


أقوى ناقد واجهه العقل، وربما باستثناء كانت. وأعترف فولتير من أن لآخر بحدود العقل. وأتفق ديدرو مع روسو في أن الوجدان أساسي أكثر من العقل. وأعترف كل فلاسفة القرن الثامن عشر تقريباً بأن غالبية الناس حتى في أعظم الأمم حضارة ومدينة مرهقون بالحاجيات الاقتصادية والكدح في سبيل العيش إلى درجة لا يجدون معها فسحة من الوقت لتنمية العقل، وأن جماهير البشر تتحرك وتتأثر بالأهواء والعواطف والحزازات أكثر من تأثرها بالعقل، ومع هذا ظل الأمل معقوداً على انتشار العقل وإمكان تحريره من الأنانية الضيقة والتعاليم المغرضة. وهكذا برغم فترات التشاؤم التي مر بها الفلاسفة فقد سادت بينهم روح التفاؤل، ولم يكن الناس قط من قبل واثقين بقدرتهم، أن لم يكن على إعادة بناء أنفسهم، فعلى الأقل على إعادة بناء المجتمع. وبرغم كوارث السنين السبع، وفقدان كندا والهند واستيلاء إنجلترا عليهما، فقد سيطرت على ذهن فرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر حماسة وحيوية بدا أنهما ستعيدان إلى فرنسا العجوز المتوجعة قوتها وشبابها من جديد. ولم يحدث قط منذ أيام السفسطائيين الإغريق أن انتشرت مثل هذه الآراء والأفكار الكثيرة، أو أظهرت روح البحث والتحقيق والحوار والجدل المنعشة، فلا عجب أن يحس ديكلوس حوله "بشيء من اختمار العقل بميل إلى التطور والنمو في كل مكان"(5) وبما أن باريس كانت آنذاك عاصمة الفكر في أوربا، فإن حركة التنوير أصبحت حركة واسعة النطاق مثل حركة النهضة الأوربية وحركة الإصلاح الديني، والحق أن حركة التنوير هذه بدت وكأنها ذروة الحركات السابقة. وكانت النهضة قد ذهبت إلى ما وراء المسيحية لتكتشف الذهن الوثني، كما أن الإصلاح الديني كان قد كسر قيود السيادة المذهبية، وعلى الرغم منه تقريباً أطلق العنان لعمل العقل، وباتت مقدمتا العصر الحديث هاتين تكمل الواحدة الأخرى، وأصبح الآن في مقدور الإنسان في نهاية المطاف أن يحرر نفسه من معتقدات العصور الوسطى ومن أساطير الشرق. كما يقف على قدميه حراً طليقاً. حراً في أن يشك؛ وفي أن يحقق ويدقق. حراً في أن يفكر



 صفحة رقم : 12497   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> النشوة الفلسفية


ويجمع ألوان المعرفة وينشرها. حراً في أن يقيم ديناً جديداً حول مذبح العقل لخدمة البشر، وكان ثملاً كريماً شريفاً.



 صفحة رقم : 12498   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> خليفة الثورة


2- خليفة الثورة


ولكن كيف حدث كل هذا؟ ولماذا أنقلب كل هؤلاء الفلاسفة وبخاصة في فرنسا على المسيحية التي كانت فوق كل شئ قد مزجت الأمل بأهوالها ورعبها، والصدقات بجرائمها، والجمال بآثامها وخطاياها؟ إن الثورة التي قام بها الربوبيون في إنجلترا استطاعت أن تعبر عن نفسها مع تسامح نسبي حتى من جانب الكنيسة الرسمية، وربما كان هذا هو السبب في خمود لهيبها وفضلاً عن ذلك كانت الكنيسة الإنجليزية خاضعة للدولة فلم تعد تزعم زعماً فعالاً أنها -أي الكنيسة- سلطة منافسة مستقلة. أما الكنيسة في فرنسا فكانت هيئة قوية تملك نصيباً كبيراً من الثروة الوطنية وأرض الوطن، وهي مع ذلك مرتبطة بولاء أسمى مكانة بسلطة أجنبية. ويبدو أنها كانت تستنزف مزيداً من الثروة من أيدي العلمانيين إلى أيدي رجال الكنيسة عن طريق الوصية والتوريث، كما رفضت أن تدفع أية ضرائب أكثر من "المنح أو الهبات الاختيارية" واحتفظت بآلاف الفلاحين في أراضيها في استرقاق فعلي، واحتفظت بالرهبان فيما بدا أنه خمول عقيم. وكم أفادت الكنيسة من الوثائق الزائفة والمعجزات الكاذبة. وسيطرت على كل المدارس والجامعات تقريباً، وعن طريقها أشربت أذهان الشباب بالسخافات المخدرة المنافية للعقل، وأستنكرت، على أنه هرطقة، كل تعليم يتعارض مع تعليمها واستغلت الدولة في فرض رقابتها على حركة الكلام والصحافة، وبذلت الكنيسة غاية الجهد في خنق التنمية الفكرية في فرنسا. وحرضت لويس الرابع عشر على اضطهاد الهيجونوت غير الإنساني. والتخريب الخالي من الرحمة لبورت رويال، وارتكبت الكنيسة إثماً في الحملات الوحشية التي شنتها ضد الألبيجنسيين وإقرار المذابح الوحشية مثل مذبحة سانت برثلميو، وأشعلت نار الحروب الدينية التي دمرت فرنسا تقريباً. وفي وسط كل هذه الجرائم ضد الروح الإنسانية ادعت الكنيسة، وحملت



 صفحة رقم : 12499   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> خليفة الثورة


الملايين من ذوي العقول الساذجة على الاعتقاد بأنها فوق العقل وفوق الريبة والمساءلة، وأنها ورثت وحياً إلهياً، وأنها ممثل الله على الأرض الملهم المعصوم من الخطأ. وأن جرائمها كانت، بإرادة الله مثل حسناتها. وقدمت الكنيسة ردوداً كثيرة على هذه الاتهامات. ولسوف نعرض لها في الوقت المناسب. وفي الوقت نفسه أثارت هذه الاتهامات المتزايدة حفيظة آلاف الناس ودفعتهم إلى الأحتجاج، وأخيراً إلى العداوة المريرة. وتضاعف عدد المتشككين إلى حد أنهم لم يعودوا يخشون رجال الدين وأحرجوهم علناً بالأسئلة العويصة. وحين دعا الأب تورنمين غير المؤمنين حوالي 1730 إلى كلية "لويس الأكبر"، يقال "إن غرفته اكتظت بالمفكرين الأحرار والربوبيين وأنصار المذهب المادي، وما استطاع الأب الجليل أن يحول أحداً عن رأيه"(6). وجزع رجال الدين من كثرة عدد الفرنسيين والفرنسيات الذين فارقوا الحياة رافضين تناول الأسرار المقدسة للكنيسة. وهددت مدام دي بري بأن تأمر خدمها بإلتقاء راعي الكنيسة من النافذة حين ألح عليها في قبول مسحها بالزيت المقدس(7). وشكا أحد القساوسة من أنه "في اللحظة التي يظهرون فيها أمام الناس يجبرون على الدخول في مناقشة، فنحن مطلوب منا، وعلى سبيل المثال، أن نثبت فائدة الصلاة للإنسان الذي لا يؤمن بالله، وضرورة الصيام لإنسان أنكر طوال حياته خلود النفس، والمناقشة مزعجة إلى أقصى حد، على حين أن أولئك الذين يسخرون ويهزءون يقفون إلى جانبنا"(8). وذكر باربييه في 1751 "قد نرى في هذه البلاد ثورة تؤيد البروتستانتية(9) وكان مخطئاً. فإن طرد الهيجونوت لم يترك طريقاً وسطاً بين الكاثوليكية وعدم الإيمان بصحة الكتب المقدسة. إن الفكر الفرنسي المتحرر تخطى الإصلاح الديني وقفز طفرة واحدة من عصر النهضة الأوربية إلى عصر الأستنارة، وهكذا في فرنسا فإن الذهن الفرنسي لم ينعطف بثورته نحو الجانسنيين إو إلى الفئة القليلة الباقية من البروتستانت، بل أنعطف إلى مونتاني وديكارث وجاسندي وبيل ومونتسكيو، ولما رجع المفكرون الأحرار الفرنسيون إلى ديكارت رفضوا كل آرائه تقريباً اللهم إلا "شكله المنهجي"



 صفحة رقم : 12500   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> خليفة الثورة


وتفسيره الآلي للعالم الموضوعي. وكان بيل موضع إجلال وتقدير باعتباره أدق العقلانيين المتأملين، فقد ولدت شكوكه مزيداً من آلاف الشكوك. وكان "قاموسه" معيناً لا ينضب من الدروع التي يتسلح بها أعداء الكنيسة ضدها. وكان ما حدث في إنجلترا مثالاً حافزاً مشجعاً للمفكرين الأحرار في فرنسا. وبدا أولاً أن دعوة فرنسيس بيكون إلى العلم الإستقرائي تبشر بثمار أكثر بكثير مما يبشر استنباط ديكارت السحري لله والخلود من وجود ديكارت. ثم كانت مادية هوبز الفظة التي لم تكف قط عن إثارة ديدرو. وهناك أيضاً نيوتن الذي بدا أنه هبط بالإله إلى مجرد ضاغط زرار في آلة العالم، ولم يكن الفرنسيون قد عرفوا بعد أن نيوتن أكثر إنتاجاً في اللاهوت منه في العلوم. ولا ننس الربوبيين الإنجليز الذين أمدوا فولتير بالشجاعة والقوة الدافعة. وأخيراً جاء لوك، لأن المتشككين الفرنسيين رأوا أن صرح الدين ينهار أمام القول بأن كل الأفكار مستمدة من الإحساس. وإذا كان الإحساس نتاج قوى خارجية فإن الذهن نتاج الخبرة، وليس هبة خالدة من لدن اله لا يراه أحد. وإذا كانت الخبرة تخلق الشخصية، فإن الشخصية يمكن تغييرها بتغيير طرق التعليم ومادته، وإصلاح النظم الأجتماعية، ومن هاتين القضيتين خلص رجال مثل ديدرو وهلفشيوس ودي هولياخ إلى نتائج ثورية. وتساءل فولتير مستحضراً لوك في ذهنه "هل يمكن أن يكون ثمة شئ أعظم من أن نثير العالم بأسره سياسياً واجتماعياً ببضع حجج ومناظرات"(10). (مات فولتير قبل 1789). واستمع مرة أخرى إلى ما كتبه المركيز دارجستون اليقظ في 1753 . "قد يكون من الخطأ أن نعزو ضياع الدين في فرنسا إلى الفلسفة الإنجليزية التي لم تكتسب أكثر من نحو مائة فيلسوف في باريس، بدلاً من إرجاعه إلى الكراهية التي أضمرها الفرنسيون لرجال الدين إلى أقصى الحدود" . ثم يضيف دارجنسون بعد التنبؤ بالثورة، مما أسلفنا ذكره: ستكون الثورة شيئاً مختلفاً كل الاختلاف عن الإصلاح الديني- وهو



 صفحة رقم : 12501   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> خليفة الثورة


خليط مشوش من الخرافة والحرية جاءنا من ألمانيا في القرن السادس عشر. ولما كانت أمتنا وقرننا قد استنارا بطريقة متباينة كل التباين، فإنهما سيسيران إلى حيث ينبغي لهما أن يسيرا: سيطردان رجال الدين، ويلغيان مهنة القساوسة، ويتخلصان من كل الرحى وكل الأسرار الغامضة... فلا يتحدث المرء في مصلحة رجال الدين ولا يساندهم في دوائر المجتمع وإلا كان موضع سخرية واستهزاء، وأعتبر جاسوساً لمحاكم التفتيش. ويشير القساوسة إلى أنه في هذا العام نقص عدد أعضاء الجماعات الدينية بمقدار الثلث، وهجر الناس الكلية اليسوعية، وانسحب 120 راهباً من هؤلاء الرهبان الذين ساءت سمعتهم إلى حد كبير(11). وكان ثمة تأثيرات فكرية أخرى أضعفت عقيدة العصور الوسطى الدينية. وأنضم الفلاسفة إلى أصحاب المذهب الحافظ (الأرثوذكسي) في رفض سبينوزا، لأن هذا اليهودي الكبير دمغ بأنه ملحد، وكان من الخطر التحدث عنه دون اتهامه، كما حرص هيوم وفولتير على أن يفعلا. ولكنهم كانوا يقرءون سبينوزا سراً، وكانت "رسالته اللاهوتية السياسية" تثير نقد الأسفار المقدسة. وشرح كونت بولانفيليير سبينوزا بحجة تفنيده. إن هيوم الذي تأثر بفرنسا هو نفسه، كان يؤثر فيها كذلك، وكان البناؤون الأحرار (الماسونيون) يؤسسون لهم مراكز في فرنسا، حيث كانوا يمارسون سراً هرطقتهم الربوبية. وكانت الكشوف الجغرافية والتاريخ والدراسة المقارنة للأديان تضيف ناراً إلى البوتقة التي يجرى فيها اختبار المسيحية بما لم يعهد له مثيل قط من قبل. وكان كل علم من العلوم في نموه وتقدمه يزيد من درجة احترام العقل، ومن الإيمان بقانون كوني، ومن عدم الإيمان بالمعجزات، وبالذات بأعظمها شيوعياً وانتشاراً، ألا وهي تحويل خمسين ألف كاهن يومياً الخبز والخمر إلى جسم المسيح ودمه. وعملت القوى الاجتماعية على انحلال العقيدة. وكان كل ازدياد في الثروة يعجل في التسابق على اللذة والمتعة، كما كان يجعل القيود على الأخلاق المسيحية أكثر إزعاجاً يوماً بعد يوم، في باريس التي أحتفظ فيها أكثر الملوك مسيحية بمجموعة من الخليلات، والتي احتلت فيها مدام دي بمبادور مكان السيدة



 صفحة رقم : 12502   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> خليفة الثورة


مريم العذراء. بل أن الانحلال الخلقي في ذاك العصر تحول إلى اتهام للمسيحية، فكيف يتأتى، بعد سبعة عشر قرناً من سيطرة المسيحية، ألا تكون أخلاق أوربا أحسن حالاً من متوحشي أمريكا أو "الوثنيين في الصين؟". وكانت كل طبقة، عدا الفلاحين، تضم أقلية متشككة، واستاءت البيروقراطية الحكومية من استقلال الكنيسة وإعفاءها من الضرائب. والرباط الوثيق القديم بين الكنيسة و"ساعدها" الدنيوي العلماني وهو الدولة" بدأت تنقصم عراه. وكان هناك مفكرون أحرار، مثل مالشرب في مصلحة الرقابة، وكان يحمي بكل قواه ديدرو ودائرة المعارف. وأوثق صلة بالملك كانت مدام دي بمبادور التي كانت تكره اليسوعيين، والتي اعتبرها فولتير (واحداً منا). ورأت الأرستقراطية في الكنيسة دعماً لمركز أسرة البوربون التي كانت قد أطاحت بحكم هذه الأرستقراطية، ومن ثم لم تكن هذه الطبقة تعارض إضعاف رجال الدين، بل لقد هلل كثير من النبلاء وسروا بامتهان فولتير وعدم توقيره للكنيسة والنيل منها، وأبدى أفراد الطبقة الوسطى العليا ارتياحهم ورضاهم عن المفكرين الذين كانوا يحاربون رجل الدين. لأن هذه الطبقة لم تغفر للكنيسة استنكار الفائدة (الربا) وإيثارها ملاك الأرض على رجال المال، فلو أن هؤلاء الأساقفة المتعجرفين أذيقوا المذلة والهوان لصعدت البرجوازية إلى مراقي الشهرة والقوة والسلطان ومن ثم فإن رجال المال، من أمثال بويلنيير وهلفشيوس ودي هولباخ فتحوا أبوابهم وخزائنهم، بل حتى في بعض الحالات قلوبهم، للحرب ضد الكنيسة. وكان المحامون منذ زمن غير قصير يحقدون على رجال الدين ويحسدونهم، وكم تطلعوا إلى اليوم الذي يحكمون فيه الدولة. كما كانوا بالفعل يحكمون البرلمانات. وذهب أحد تقارير الشرطة في 1747 إلى أنه لا يكاد يوجد موظف في برلمان باريس لا يحتفظ بكتاب أو مخطوط مناف للدين في بيته(12). وعجت مقاهي باريس بالالحاد. وكان هجاء رجال الدين والسخرية منهم متعة ظرفاء المدن الذين أشاروا إلى الله بأنه "السيد وجود" وانتشرت المطبوعات المعادية لرجال الدين انتشاراً واسعاً حتى في الأقاليم، ووزع بعض الباعة المتجولين لقاء ربح وفير، ومن باب إلى باب، منشورات عنوانها "أشهر الدجالين



 صفحة رقم : 12503   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> خليفة الثورة


الثلاثة"%=@المخطوطة محفوظة في المكتبة الوطنية في باريس (وهو بهذا يقصد الأنبياء، مما لا تقره عليه).@ . ألم ينتقل إلى رجال الدين أنفسهم عدوى الشك الديني، بل هنا وهناك في كل مكان، عدوى الإلحاد الصريح غير المقنع؟ وإليك على سبيل المثال.



 صفحة رقم : 12504   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> جان مسلييه


3- جان مسلييه



1678-1733


كان جان راعي أبرشية أتربيني في شمبانيا. وكان في كل عام يمنح الفقراء كل ما تبقى بعد تسديد نفقات حياته المعتدلة البعيدة عن الإسراف والتبذير. وبعد ثلاثين عاماً من حياة هادئة مثالية في وظيفة الراعي، قضي نحبه وهو في الخامسة والخمسين، موصياً بكل ما يملك لأهالي الأبرشية، تاركاً نسخ من مخطوطة عنوانها "عهدي الجديد" وجهت إحداها إلى شعب الأبرشية، توسل فيها إليهم على المظروف الذي وضعت فيه المخطوطة، أن يغفروا له أنه خدم الخطيئة والأهواء طوال مقامه بينهم. وواضح أنه فقد الإيمان بالدين قبل أن يرسموه كاهناً" إنني لم أتقلد عملاً يتعارض مع مشاعري بشكل صريح طمعاً في المال، بل أني امتثلت في هذا لأبوي(13) ونشر فولتير أجزاء من "العهد الجديد" 1762 وأصدر ديدروا ودي هولباخ خلاصة له في 1772 تحت عنوان "رجاحة عقل الكاهن مسلييه" ولم يطبع النص الكامل حتى 1861-1864 ونفدت طبعته منذ عهد بعيد. ويندر الحصول عليه. وفي كل الحملة ضد المسيحية من بيل إلى الثورة، لم يعد هجوم متطرف قاس لا يرحم مثل هجوم كاهن القرية هذا. ويبدو أنه بدأ شكوكه بدراسة الكتاب المقدس. وأظهرت نتيجة هذه الدراسة أن الكنيسة كانت حكيمة إلى حد ما في إبعاد الكتاب المقدس عن العامة. وكان يجدر بها أن تحتفظ به بعيداً عن متناول رجال الدين أيضاً. ووجد الأب يوحنا صعوبات كثيرة في الكتاب المقدس. لماذا أختلف نسب السيد المسيح في إنجيل متى اختلافاً كبيراً في إنجيل لوقا. إذا كان كلاهما



 صفحة رقم : 12505   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> جان مسلييه


منزلا من عند الله؟ لماذا لم تنته سلسلتا النسب هاتان بيوسف إذا كان سيعفي سريعاً من إنجاب يسوع، لماذا يمتدح أبن الله بأنه أبن داود الذي كان زانياً بكل معنى الكلمة؟ وهل تنطبق نبوءات العهد القديم على المسيح، أم أن هذه التطبيقات مجرد للقوة اللاهوتية؟ وهل كانت معجزات العهد الجديد حيلاً أو خداعات ورعة، أم كانت عمليات طبيعية أسئ فهمها؟ وهل نصدق هذه لحكايات أم نتبع العقل؟ وصوت جان إلى جانب العقل وأيده: "لن أضحي بعقلي، لأن عقلي وحده يمكنني من التمييز بين الخير والشر وبين الحق والضلال... لن أتخلى عن الخبرة لأنها مرشد وهاد أفضل بكثير من الخيال، أو من سلطان المرشدين الذين أرادوا أن يزودوني به. لن أرتاب في حواسي. ولست أتجاهل أنها يمكن أحياناً تؤدي إلى الخطأ. ولكني من جهة أخرى أدرك أنها لن تضللني دائماً... إن حواسي تكفي لتصحيح الأحكام والقرارات المتسرعة التي ملت إلى اتخاذها(14). ولم يجد جان في العقل مسوغاً للإيمان بالإرادة الحرة أو خلود النفس، ورأى أنه "يجدر بنا أن نكون شاكرين أن تهيأ لنا جميعاً نوم أبدى بعد نصب وصخب الحياة الدنيا التي تسبب المشقة أكثر مما تسبب اللذة لغالبيتنا... عودوا جميعاً في سلام إلى المستقر العام الذي جئتم منه، ومروا دون ضجة أو تذمر مثل كل الكائنات التي حولكم"(15). وعلى أولئك الذين دافعوا عن فكرة الجنة، من قبيل العزاء، أجاب "بأن أقلية ضئيلة، على زعمها، حققت هذا الهدف، على حين كان مآل الأغلبية إلى الجحيم. فكيف إذن يمكن أن تكون فكرة الخلود عزاء؟ إن العقيدة التي تخلصني من المخاوف الرهيبة... تبدو مرغوباً فيها أكثر من الشك الذي تركني مؤمناً باله يتحكم في عطفه فلا يمنحه إلا لذوي الحظوة لديه، ويهيئ للآخرين السبيل ليكونوا جديرين بالعذاب الأبدي، فكيف يمكن لأي إنسان متحضر أن يؤمن باله يحكم على المخلوقات بالخلود في الجحيم؟".



 صفحة رقم : 12506   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> جان مسلييه


هل هناك في الطبيعة إنسان بلغ من القسوة حداً يتعمد فيه تعذيب، لا أقول رفاقه من الكائنات، بل أي كائن واعٍ حساس أياً كان؟ فأقروا إذن يا رجال اللاهوت أن إلهكم طبقاً لمبادئكم، شرير أكثر بكثير من أي شرير من بني الإنسان. إن القساوسة ورجال الدين جعلوا من الإله كائناً خبيثاً ماكراً صارماً إلى حد أن فئة قليلة في هذه الدنيا هي التي لا تود أن يكون الإله موجوداً... وأية أخلاق نتحلى بها إذ كنا نقلد هذا الإله(16). ورأى فولتير في هذا شيئاً من التطرف، وبذل أقصى الجهد عند نشره "العهد الجديد" (الذي ألفه جان) في أن يلطف من الحاد الكاهن بالربوبية، ولكن مسلييه كان عنيداً متشدداً. وأستطرد قائلاً أن اله المسيحية هو منشئ كل الشرور، لأنه حيث أنه قادر على كل شئ يتم دون رضاه وموافقه، فإذا وهبنا الحياة فإنه كذلك كتب علينا الموت، وإذا وهبنا الصحة والثروة، فإنه يعوض منهما بالفقر والقحط والمصائب والحروب(17). إن في العالم دلائل كثيرة على تصميم بارع، ولكن هلا توجد فيه علامات كثيرة بنفس القدر على أن العناية الإلهية، إن وجدت، قادرة على إيقاع أشد أذى شيطاني؟ إن كل الكتب زاخرة بأشد المديح والثناء رياء ونفاقاً على العناية الإلهية التي أفرطوا في الثناء على رقابتها اليقظة، ومهما يكن من أمر فإننا إذا تفحصنا كل أجزاء الكرة الأرضية لوجدنا أن الإنسان المتحضر وغير المتحضر على السواء في صراع دائم مع العناية الإلهية. فهو مضطر إلى أن يصد الضربات التي تنزلها به في صورة أعاصير وعواصف وصقيع وبرد وفيضانات وجدب وغيرها من مختلف النازلات التي تجعل كد الإنسان وجده غير ذي جدوى. وفي إيجاز أرى أن البشر جميعاً مشغولون باستمرار في حماية أنفسهم من الحيل الشريرة الخبيثة التي تدبرها العناية الإلهية التي يقال إنها ساهرة على توفير السعادة لهم(18). وفوق كل شئ هل وجد إله أغرب وأبعد عن التصديق من هذا؟ أنه لآلاف السنين ظل مختفياً عن أعين البشر، وأستمع دون استجابة واضحة بريئة



 صفحة رقم : 12507   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> جان مسلييه


لصلوات آلاف الملايين ودعواتهم وثنائهم عليه. والمفروض أنه حكيم بالغ الحكمة، ولكن ملكه يسوده الخلل والاضطراب والخراب. والمفروض أنه خير ولكنه يعاقب شيطان مجرد من الروح الإنسانية. والمفروض أنه عادل وهو يهيئ للأشرار سبل الرخاء والازدهار، على حين يتعذب القديسون حتى الموت. إنه منهمك دائماً في الخلق والتدمير(19). وبدلاً من الاعتقاد مثل فولتير بأن الإيمان بالله أمر طبيعي عام، أكد مسلييه أن مثل هذا الإيمان أمر غير طبيعي، وأنه يجب أن يصب في أذهان المراهقين أن: كل الأطفال ملحدون -ليس لديهم فكرة عن الإله... ويؤمن الناس بالله بناء على كلام أولئك الذين لا يعرفون عنه أكثر مما يعرف الأولون، إن مربياتنا هن أول معلمي اللاهوت. إنهن يتحدثن إليهم عن الإله كما يتحدث عن آدميين تحولوا إلى ذئاب... إن قلة قليلة من الناس كانت تتخذ إلهاً لولا ما يبذل من جهد في أن يجعلوا لهم إلهاً(20). وعلى حين أعلن معظم الملحدين عن إعجابهم بيسوع، نرى مسلييه يشمل السيد المسيح نفسه في هدمه الغاضب الانفعالي للعقيدة الدينية. وقبل كل شئ، أي رجل عاقل يصدق أن الله، لكي يسترضى البشر ويستميلهم... يمكن أن يضحي بإبنه البريء الذي لم يرتكب إثماً؟(21) أما عن يسوع نفسه فيقول:- إننا نرى فيه... متعصباً مبغضاً للبشر، يعظ البائسين فينصحهم بأن يكونوا فقراء، ويكافحوا الطبيعة ويجمدوها، ويكرهوا اللذة ويلتمسوا الآلام والشقاء، ويحتقروا أنفسهم، ويطلب أن يتخلوا عن الأب والأم وكل أواصر الحياة ليتبعوه. أية أخلاق كريمة!... لا بد أن تكون سماوية لأنها غير عملية بالنسبة للإنسان(22). وينتقل مسلييه إلى مادية كاملة. وليس من الضروري أن نذهب إلى ما وراء المادة لنسأل عمن خلقها. ويمكن أن يتخلف لغز المنشأ خطوة إلى الوراء ليفسح مجالاً للسؤال الطبيعي للطفل: "من الذي خلق الله؟" وأنا



 صفحة رقم : 12508   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> جان مسلييه


أقول لكم أن المادة تعمل من نفسها لنفسها... واتركوا لرجال اللاهوت علتهم الأولى وليس للطبيعة من حاجة بهذا لإحداث كل الآثار والنتائج التي تراها(23) وإذا كان لزاماً أن تعبدوا أحداً، فاعبدوا الشمس، كما تفعل شعوب كثيرة، فإن الشمس هي الخالق الحقيقي لحياتنا وللصحة والضوء والدفء والبهجة والسرور. ولكن واحسرتاه! ويأسف مسلييه، لو أن الدين كان واضحاً لكان أقل جاذبية وفتنة لدى الجهال... إن هؤلاء بحاجة إلى الغموض والأسرار والخرافات والمعجزات والأشياء التي لا يمكن تصديقها(24)... إن القساوسة والمشرعين، بابتداع الأديان واختلاف الأسرار... قد أرضوا أذواق الجهال، إنهم بهذه الطريقة يجتذبون المتحمسين والنساء والأميين(25). وصفوة القول، في رأى مسلييه، أن الدين كان جزءاً من مؤامرة بين الكنيسة والدولة لإرهاب الناس إلى إذعان مريح للحكم المطلق(26). إن الكهنة "حرصوا كل الحرص على أن يجعلوا إلههم مرعباً متقلباً طاغية كثير النزوات والأهواء. وكان لزاماً يكون كذلك من أجلهم حتى يكون في خدمة مصالحهم المتنوعة"(27) وتقع تبعة هذه المؤامرة على رؤوس رجال الدين أكثر منها على الملوك، لأنهم يسيطرون على الأمير منذ طفولته، عن طريق كاهن الاعتراف، ويلقنونه الخرافات، ويشوهون عقله ويعوقون نموه ويقودونه إلى التعصب الديني والاضطهاد الوحشي(28) وبهذا: زعزعت الخلافات الدينية أركان الإمبراطوريات وأدت إلى الثورات ودمرت الملوك وخربت أوربا بأسرها، ولم يكن من الميسور إخماد هذه النزعات الحقيرة حتى في أنهار من الدماء. إن الأنصار المتحمسين لدين يدعو إلى البر والإحسان والتآلف والسلام أثبتوا أنهم أشد ضراوة وقساوة من أكلة لحوم البشر أو المتوحشين، في كل مرة يستثيرهم فيها معلموهم إلى تحطيم اخوتهم، وليس ثمة جريمة لم يرتكبها الناس في سبيل إرضاء الرب أو تسكين سورة غضبه(29)... أو إقرار خداع الدجالين لحساب كائن لا يوجد إلا في خيالهم وحدهم(30).



 صفحة رقم : 12509   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> جان مسلييه


إنهم يدافعون عن هذه المؤامرة الضخمة المستمرة بذاتها من جانب الكنيسة والدولة ضد الإنسان والعقل على أساس أن ديانة خارقة للطبيعة، بل قل ديانة إرهاب، أمر لا غنى عنه في مهمة بناء الفرد والأخلاق. ولكن هل حقاً أن نظرية الجنة والنار تجعل الناس على جانب أكبر من الفضيلة، وهل الأمم التي يسودها هذا الزعم تشتهر بالسلوك الحميد والخلق القويم؟(31) ويكفي لنتحرر من الوهم أن نفتح أعيننا على أخلاق أشد الناس تمسكاً بالدين ونفكر فيها ملياً، وسنرى طغاة متعجرفين، ورجال البلاط، ومغتصبين لا حصر لهم، وحكاماً لا ضمائر لهم، ودجالين وزانين وفاسقين وأباحيين فجرة، وعاهرات ولصوصاً، وأوغاداً من كل صنف، لم يشكوا لحظة في وجود إله محب للانتقام، أو لم يشكو في عذاب الجحيم أو الجنة النعيم(32). كلا، إن الأفكار اللاهوتية، على الرغم من اعتراف كل الناس تقريباً بها، فإن تأثيرات على سلوكهم ضعيف، فالإله بعيد كل البعد ولكن الإغراء قريب "من ذا الذي ترهبه وتخيفه فكرة الإله؟ نفر قليل من الضعاف البائسين المتبرمين بالحياة، وبعض أفراد انطفأت فيهم بذرة العواطف والشهوات بحكم السن أو العجز والوهن أو تعثر الحظ(33). إن الدولة، لا الكنيسة، هي التي تخلق النظام وتعود المواطنين على طاعة القوانين" إن القيود والضوابط الاجتماعية أقوى من الدين في تقويم سلوك الناس(34) وأحسن العلاقات، مع تعاقب الأيام، هي تلك التي تؤسس على العقل والذكاء. ولكي يتبين الناس مبادئ الأخلاق القويمة فإنهم ليسوا بحاجة إلى اللاهوت أو الوحي أو الآلهة. إنهم ليسوا بحاجة إلا إلى الفطرة السليمة وحسن الإدراك، إنهم ينبغي عليهم أن يتفكروا في أنفسهم ويتأملوا طبيعتهم. ويتدبروا مصالحهم الواضحة، ويأخذوا بعين الاعتبار هدف المجتمع وهدف كل عضو فيه، ومن ثم يدركون بسهولة أن الفضيلة نعمة وأن الرذيلة نقمة على رفاقهم من الكائنات. والناس أشقياء لمجرد أنهم جهلة، وهم جهلة لأن كل شئ يتآمر على



 صفحة رقم : 12510   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> جان مسلييه


الحيلولة بينهم وبين الاستنارة. وهم أشرار لمجرد أن عقلهم لم ينم ولم يتطور بعد بدرجة كافية(35). ويستطيع الفلاسفة أن يبنوا أخلاقاً طبيعية فعالة، لو لم يكرهوا على معتقد تقليدي زائف خشية الكهنة الأقوياء المتسلطين: إن اللاهوت منذ أقدم العصور هو الذي حدد مسار الفلسفة وبم ساعدها اللاهوت؟ إنه حولها إلى رطانة غير مفهومة... ذات ألفاظ لا معنى لها، أكثر ملاءمة للتعمية منها للتنوير... كيف أضطر ديكارت وماليرانش وليبنتز وكثيرون غيرهم لإبتداع فرضيات ومراوغات ليوقفوا بين كشوفهم وبين الأفكار الخيالية والأخطاء الفاضحة التي أضفى عليها الدين صفة القداسة وأية احتياطات لم يلجأ إليها أعظم الفلاسفة لحماية أنفسهم. حتى إلى حد المغامرة بوصفهم بالطيش والحمق، وبأن كلامهم غير مفهوم إذا تعارضت أفكارهم مع مبادئ اللاهوت! وكان القساوسة اليقظون على أتم استعداد لهدم المبادئ والآراء التي يتعذر التوفيق بينها وبين مصالحهم. وكل ما استطاع الأفراد المستنيرون أن يفعلوه هو أن يتحدثوا ويكتبوا في معان خبيئة وغالباً مطاوعة موصومة بالجبن، حتى يوفقوا بين الباطل والحق توفيقاً مخزياً. كيف أمكن أن يدعى الفلاسفة والحديثون، تحت التهديد بأقسى الاضطهاد والتعذيب، إلى نبذ العقل والخضوع للعقيدة -أي لسيادة رجال الدين وسيطرتهم- وكيف يتأتى لأناس مكبلين بمثل هذه القيود والأغلال أن يطلقوا العنان لعبقريتهم ومواهبهم... أو يعجلوا بتقدم الإنسانية(36)؟ وكان لدى بعض الفلاسفة من الشجاعة ما استطاعوا معه أن يتقبلوا الخبرة والعقل هادياً ومرشداً لهم، ويحطموا أغلال الخرافة -لوسيبوس وديموقريطس وإبيقور وسترابو- ولكن مناهجهم كانت بسيطة معقولة مجردة من الأعاجيب والمعجزات من أجل عشاق الخيال حتى اضطرت إلى الاستسلام لاحداس أفلاطون وسقراط وزينون الخرافية. ومن بين الفلاسفة الحديثين أتبع هويز وسبينوزا وبيلا وغيرهم نهج أبيقور(37). ورثى مسلييه لما منيت به البشرية من خسارة نتيجة لسيطرة اللاهوت



 صفحة رقم : 12511   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> جان مسلييه


على الفلسفة. ودافع عن حرية الفكر حقاً أساسياً، يمكنه وحده أن يحقق للناس معنى الإنسانية وعظمة النفس(38). إنهم باظهارهم الحقيقة وحدها يمكنهم أن يدركوا أفضل مصالحهم، والعوامل الحقيقية التي تؤدي بهم إلى السعادة. لقد طال العهد بمعلمي الناس وهم يركزون أبصارهم على السماء، فليرجعوا بأبصارهم ثانية إلى الأرض. لقد تعب الذهن البشري من اللاهوت المبهم والخرافات السخيفة، والأسرار العويصة والطقوس الصبيانية. فلينشغل هذا الذهن البشري بعد هذا الإرهاق بالأشياء الطبيعية والأهداف والأشياء الواضحة والحقائق المعقولة والمعرفة النافعة(39). فليطلقوا حرية الكلام والفكر والصحافة والطباعة وليكن التعليم علمانيا غير مقيد. إذن لأسرع الناس الخطى يوماً بعد يوم إلى اليوتوبيا (المثالية). إن النظام الاجتماعي الراهن جائر، أنه يهيء لأقلية ضئيلة الثراء الخامل وينشر فيها الفساد نتيجة للترف وللبذخ، على حساب الإبقاء على الملايين في فقر مذل وجهل مخز. ونظام الملكية هو أس البلاء، فالتملك لصوصية، وقد كيفوا التعليم والدين والقانون لحماية هذه اللصوصية وإجازتها(40) وإن ثورة للقضاء على مؤامرة الأقلية ضد الأغلبية لها ما يبررها كل التبرير. وصاح مسلييه في غضبته الأخيرة "أين جاك كليمنت (قاتل هنري الثالث) ورافاياك (قاتل هنري الرابع) في فرنسا؟ هل بقي على قيد الحياة في أيامنا هذه رجال يطيحون برؤوس هؤلاء الجبابرة البشعين المنحرفين أعداء الجنس البشري، وبهذا يخلصون الناس من الطغيان(41)؟ فلنوزع الأمة الملكية توزيعاً عادلاً، وليشتغل كل إنسان بعمل مناسب، وليكن الإنتاج قسمة متساوية بينهم، وليتزوج الرجال والنساء وليفترقوا متى شاءوا، ولينشأ أطفالهم معاً في مدارس مشتركة، وعندئذ تكون ثمة نهاية للنزاع في الأسرة ونهاية لحرب الطبقات وللفقر. وهنا تكون المسيحية في النهاية حقيقية صادقة(42). وبعد أن ذكر جان مسلييه كل ما أسلفنا، ختم إنجيله أو عهده الجديد بعبارة يتحدى فيها، كما أدرك هو، كل الذين يمقتونه ويصبون عليه اللعنات:



 صفحة رقم : 12512   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> جان مسلييه


دعهم يفكروا أو يحكموا ويقولوا ويفعلوا ما يريدون... لن أعبأ بهم كثيراً... بل إني اليوم لم أعد أعبأ كثيراً بما يحدث في العالم. إن الأموات الذين أوشك أن ألحق بهم قريباً، لا يعانون الآن شيئاً ولم يعودوا يزعجون أنفسهم. ومن ثم فأنا أضع نهاية لكل هذا. أنا الآن أشبه شئ بالعدم، وبعد قليل سأصبح لا شئ حقاً(43). هل وجد ثمة عهد أو ميثاق مثل هذا في تاريخ البشرية جمعاء؟ تصور الكاهن المنعزل مجرداً من كل عقيدة ومن كل أمل، وهو يعيش منسياً لا ذكر له في قرية قد ترتعد فيها كل النفوس رعباً ورهباً، إلا نفسه هو، لمجرد الإطلاع على أفكاره الخفية. ولهذا لم يتحدث بمثل هذه الحرية إلا لمخطوطته. وهناك، ودون اكتراث ودون معرفة واسعة بطبيعة الإنسان، صب كل غيظه واستيائه في صراحة بالغة معادية للدين غاية العداء مما لم يعهده حتى عصره نفسه. وهنا كانت حملة فولتير ضد "المنبوذين" وكل مادية لامتري وكل الحاد دي هولباخ، وكل خيال ديدرو الجامع المدمر، بل شيوعية بابيف أيضاً. وأصدر فولتير "عهد" جان مسلييه بعد تردد، ونشره دي هولباخ فرحاً مغتبطاً، ومن ثم أختمر في ذهن فرنسا وأسهم في التمهيد لسقوط النظام القديم. ونشوة الابتهاج بالثورة الفرنسية.



 صفحة رقم : 12513   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> هل الإنسان آله


4- هل الإنسان آلة؟


إن جوليان أجوفروي دي لامتري رد على هذا السؤال بالإيجاب. ولد في سان مالو 1709 لتاجر ميسور. وتلقى تعليماً واسعاً وأعتزم أن يكون شاعراً. وحبذ والده الوظيفة الكنسية باعتبارها أقل خطراً، فأرسله إلى إحدى الكليات في بليسيس حيث شب الولد جانسنيا متحمساً. ولكن طبيباً صديقاً للوالد رأى (هكذا يقول فردريك الأكبر) أن طبيباً عادياً يمكن أن يحصل من علاج المرضى على أكثر مما يحصل عليه القسيس الفاضل من عمليات الغفران(44). ومن ثم حول جوليان اهتمامه إلى التشريح والطب وحصل على درجة في الطب من ريمس، وتتلمذ على بورهاف في ليدن، وكتب عدة أبحاث طبية، وعمل جراحاً في الجيش الفرنسي، ورأى واحداً



 صفحة رقم : 12514   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> هل الإنسان آله


في المائة من المجد والعظمة وتسعة وتسعين في المائة من حالات الإسهال(45) في ساحتي القتال في دتنجن وفونتنوي، ولزم هو نفسه الفراش أثر حمى شديدة، فلما شفي زعم أن صفاء ذهنه أو موضوع تفكيره كان يختلف باختلاف درجة الحمى. ومن ثم خلص إلى أن التفكير وظيفة المخ، ونشر هذا كله وما يرتبط به من آراء 1745 تحت عنوان "التاريخ الطبيعي للنفس". وسار البحث على هذا المنوال: "نحن لا نعرف ما هي النفس. ولا نعرف ما هي المادة، ولكنا نعرف على أية حال أنه لا توجد نفس بلا جسد. ولدراسة النفس تجب دراسة الجسم، ولدراسة لجسم ينبغي أن نبحث في قوانين المادة. إن المادة ليست مجرد امتداد، إنها أيضاً قدرة على الحركة، وهي تشتمل على مصدر فعال يتخذ مزيداً من الأشكال في مختلف الأجسام، ولسنا نعرف أن للمادة في ذاتها قوة الإحساس، ولكنا نشهد دليلا على تلك القوة حتى في أحظ الحيوانات. وإنه لأكثر اتفاقاً مع المنطق أن نعتقد بأن هذه الحساسية تطور من إمكانية من أصل واحد في المادة، من أن تعزوها إلى نفس خفية صبت في الأجسام عن طريق قوة خارقة للطبيعة. وعلى هذا فإن المصدر الفعال "في المادة يتطور في النبات والحيوان حتى إذا كان في الإنسان مكنه من أن يدق قلبه، ومن أن تهضم معدته ومن أن يفكر معه. وهذا هو التاريخ الطبيعي للنفس". وارتعدت فرائض القسيس في كتيبه لامتري فزعاً لهذه النتيجة، وصاح منذراً متوعداً، وفصل الطبيب الفيلسوف من وظيفة الجراح في الجيش، وكان يمكن أن يهب زملاؤه الأطباء لنجدته، لولا أنه كان قد كتب في نفس الوقت تقريباً كتاباً صغيراً تحت عنوان "سياسة الأطباء" يهجو فيه دسائسهم في تنافسهم على الوظائف التي تدر مالاً وفيراً. وانضموا إلى مهاجمته واستنكار آرائه. ورأى أن عمله في الطب قد أنهار كما انهارت شهرته، ففر إلى ليون، هناك شن هجوماً آخر على مهنة الطب وتحول إلى الفلسفة. وهكذا أصدر لامتري في ليون كتاب (الإنسان الآلة) وهو يقصد بالآلة هنا جسماً ترجع كل أفعاله إلى أسباب وعمليات بدنية أو كيميائية. أما



 صفحة رقم : 12515   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> هل الإنسان آله


جسم الحيوان آلة فيتضح له من مائة ظاهرة: فإن جسم الحيوان يظل ينبض ويرتجف، وأن أمعاءه تظل تتمعج (التمعج موجات متعاقبة من تقلص لا إرادي تحدث في جدران الأمعاء فتدفع محتوياتها إلى الأمام) لبعض الوقت بعد الموت. وتنبض العضلات التي تنفصل عن الجسم إذا نبهت وهكذا. فالحيوانات عندئذ آلات، وإذا كان الأمر كذلك، فلم لا يكون الإنسان، وعظامه وعضلاته وأوتاره وأعصابه قريبة الشبه إلى حد بعيد بالحيوانات العليا؟ وواضح أن الذهن يعتمد على العمليات الفيزيائية الكيميائية في الجسم والأفيون والقهوة والخمر ومختلف العقاقير لا تؤثر في الجسم وحده. بل إنها يمكن أن تغير مجرى التفكير وطبيعته، ومزاج الإرادة وقوتها. إنك إذا غيرت بعض الأنسجة في مخ فونتينيل لجعلت منه شخصاً أحمق أبله(46)، إن مرض الجسم يمكن أن يضعف الذهن. إن النفس تكتسب حيوية ونشاطاً بالجسم، وتكتسب حدة وذكاء كلما قوى الجسم(47)، والغذاء يؤثر في الخلق، وعلى هذا فإن "الإنجليز الذين يأكلون اللحم أحمر مشوياً بالدم، غير مطهو طهياً جيداً مثل لحومنا، يبدو أنهم يشتركون بشكل أو بآخر في الوحشية تبعاً لهذا اللون من الطعام(48) فهل ندهش إذن إذا وعي الفلاسفة دائماً في أذهانهم صحة الجسم حفاظاً على صحة النفس؟" وأن "فيثاغورس وضع قواعد للتغذية كما حرص أفلاطون على تحريم الخمر؟"(49) ويخلص لامتري إلى أنه: حيث أن كل قدرات النفس تعتمد إلى مثل هذا الحد على التنظيم السليم للمخ وكل أجزاء الجسم... فمن الواضح أن هذه القدرات ليست إلا هذا التنظيم نفسه. وواضح أن النفس آلة مستنيرة... فالنفس لذلك لفظة جوفاء، ليس لدى أي إنسان فكرة عنها، يجدر أن يستخدمها الإنسان المستنير لتعنى فقط ذلك الجزء الذي يفكر فينا(50). وفي كتاب "الإنسان نبات" (1748) توسع لامتري في "سلسلة الوجود" الكبيرة إلى نظرية للتطور. وفقد بعض ثقته حين حاول تخطي الهوة الواضحة بين اللاعضوية والعضوي، وفجأة نسي الآلية (المذهب الآلي) وأنزلق إلى



 صفحة رقم : 12516   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> هل الإنسان آله


المذهب الحيوي: أفترض بذوراً معينة مكنت المادة من أن تسبب الحياة(51) ووجد من السهل عليه بعد ذلك أن يتبع لوكريتس "لا بد أن الأجيال الأولى كانت ناقصة غير تامة... وما كان يمكن أن يكون الكمال عمل يوم واحد في الطبيعة، ولا في الفن"(52). وليضيق الهوة بين الحيوان والإنسان يحاول لامتري، على النقيض من ديكارث، أن يبرهن على أن بعض الحيوانات تفكر:- لننظر إلى القردة والسمور(حيوان ذو فراء ثمين) والفيل وغيرها في تصرفاتها. وواضح أن هذه الأنشطة لا يمكن تأديتها دون ذكاء، ولم ننكر الذكاء على أن هذه الحيوانات؟ وإذا وهبتم نفساً فقد ضيعت. ومن ذا الذي لا يرى أن الروح الحيوان يجب أن تكون فانية أو باقية، من أي النوعين نفس الإنسان؟(53). وليس ثمة فرق كبير بين أبسط إنسان وأذكى حيوان "فالبلهاء" أو المعتوهون... حيوانات لها وجوه بشرية. كما أن القرد الذكي إنسان صغير ذو شكل آخر(54) ويستطرد لامتري فيقول في دعابته المألوفة أن كل مملكة الإنسان ليست إلا مركبات من قردة مختلفة، ووضع البابا نيوتن على رأسها(55) ولم يعد الإنسان يكون قرداً إلا عندما أخترع أصواتاً معينة لتكون تعبيراً مناسباً عن أفكار بعينها. وأصبح إنساناً بفضل اللغة(56). وهل أقر لامتري بوجود إله "محركاً أول" لآلة العالم؟ وكأن فولتير وديدرو قد دافعا عن هذه الحجة من الحاجة إلى وجود نظام للكون. ورفضها لامتري في احتقار: إن كل تفكير يقوم على العلل أو الأسباب النهائية تفكير طائش. إن الطبيعة تمهد الطريق للسيد البرجوازي ليتحدث نثراً دون أن يعرفه. إن الطبيعة عمياء حين تهب الحياة، قدر ما هي بريئة حين تدمرها. وكما أنها دون نظر خلقت عينين تبصران، فإنها كذلك صنعت دون تفكير، آلة تفكر(57). ولم يكن لامتري ملحداً صريحاً. إنه تظاهر بالميل إلى نبذ موضوع الإله



 صفحة رقم : 12517   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> هل الإنسان آله


على أنه غير هام "فليس يهمنا من أجل راحة البال، إذا كانت المادة أبدية أو أنها خلقت، أو أنه يوجد أو لا يوجد إله"(58). ولكنه نقل ربما عن صديق وهمي "إن العالم لن يكون سعيداً مطلقاً إلا إذا كان ملحداً"، فعند ذاك لا تكون ثمة مزيد من خلافات لاهوتية ولا اضطهادات من جانب الكنيسة ولا مزيد من الحروب الدينية، ويمكن للإنسان أن يعبر عن غرائزه الطبيعية دون شعور بالإثم(59) وقنع لامتري بالنسبة لشخصه بالمادية (المذهب المادي) وأختتم كتابه "الإنسان آلة" بعبارة جريئة متحدية: "هذا هو منهجي -بل هو الحق، إلا إذا كنت ضللت كثيراً. إنه موجز بسيط. ناقشوه الآن إذا أردتم"(60). ويحتمل أنه من قبيل الدعابة أهدى لامتري بيانه "اللاأدري" (الغنوصي) إلى الشاعر المتدين الورع والعالم الفسيولوجي البرخت فون هوللر الذي رفض الإهداء فزعاً جزوعاً في خطاب إلى "صحيفة العلماء" عدد مايو 1749. إن المؤلف المجهول لكتاب "الإنسان آلة" أهدى إلى كتابه الخطير بقدر ما هو شاذ غير مألوف، وإني لأشعر بأني مدين بالفضل لله وللدين ولنفسي، إذ أدلي بهذا التصريح... إني أعلن هنا أن الكتاب الذي نحن بصدده لا يلتئم مع مشاعري، وأعتبر أن في إهدائه إلى شخصي إساءة بالغة تفوق في قساوتها كل إساءة وجهها المؤلف المجهول إلى كثير من أفاضل الناس. وأرجو ان يتأكد الجمهور أني لا علاقة لي بهذا المؤلف... وأني لا أعرفه... وأنه يجدر بي أن اعتبر أي توافق بيننا في الآراء أعظم كارثة محققة يمكن أن تنزل بي(61). وأستمر لامتري يطبع الإهداء في الطبعات اللاحقة من هذا الكتاب. وتناول الناس "الإنسان آلة" بالنقد والتمحيص على نطاق واسع، وأجمعوا على دحضه وتفنيده. وكان من اليسير نقد الأسلوب المضطرب في هذا المجلد الصغير وشجب الثقة بالنفس وتبيان مواضع مجانبة الحقيقة. ولم يكن واضحاً على الإطلاق أن النفس والجسم يغلبهما النعاس معاً(62) وبعض الكتاب أكثر إشراقاً في أحلامهم وأوهامهم منهم في كتاباتهم.


 صفحة رقم : 12518   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> هل الإنسان آله

وقد يستقر جسم مريض في جسم سليم مثل بوب وسكارون، ولن يسلم محبو اللحوم النادرة أنهم لا يزالون في مرحلة الصيد. إن لامتري نفسه الذي كان كثير المزاح نشر نقداً مزعوماً لكتابه، في رسالة غفل من أسم المؤلف تحت عنوان "الإنسان أكثر من آلة" -وربما كان هذا وسيلة لجذب الأنظار إلى كتابه الأول. ومن ناحية أخرى ربما كان لامتري متأثراً حقاً بالحجج التي تساق ضد المذهب الآلي، ونحن نعلم أنه كان مهتماً بشرح ترمبلي (1744) للقوى التجديدية في الماء العذب لبعض الحيوانات المائية البسيطة، مما لم يتفق بسهولة مع النظرية الآلية. وكان جورج سقتال الذي اشتهر برأيه في وجود نارية في الأجسام، قد قلب في جرأة (1717) الفرضية الفسيولوجية، ذلك انه بدلاً من القول بأن الجسم هو الذي يحدد أفكار النفس واختياراتها، فإن النفس -وهي العنصر المتأصل النشط- هي التي تتحكم في نمو الأعضاء وعملها. وكان تيوفيل دي بوردو -طبيب دالمبير- يعتقد أن العمليات الفسيولوجية، حتى أبسط الهضم غير قابلة لتفسيرات آلية أو كيميائية بحتة(63) وعرض جان بابتست روبينيه لحيوية كونية وهبت كل المادة الحياة والحساسية. وكان واضحاً أن لامتري يود أن يرتضي هذا الحل لمشكلة المادة بازاء الحياة. وفي الوقت عينه أنتقل لامتري ليستنتج مذهباً قائماً على اللذة من فلسفته المادية. وفي كتب ثلاثة مستقلة -بحث في السعادة، واللذة، وفن الاستمتاع- أعلن أن حب الذات هو أسمى الفضائل، وأن اللذة الحسية هي أعظم الخير، وكره تحقير اللاهوتيين لملذات الحياة، ونازع في سمو المتعة العقلية المزعومة ورأى أن كل الملذات حسية حقاً. ومن ثم فإن البسطاء من الناس الذين لا يهتمون بالحياة الفكرية أسعد حالا من الفلاسفة، ويقول لامتري: لا يندمن أي إنسان على انغماسه في الملذات الحسية ما دامت لا تنطوي على أي ضرر للغير، ولا يجوز أن يعتبر أي إنسان مسؤولاً مسؤولية خلقية عن جرائمه لأنها نتاج الوراثة والبيئة اللتين لا سلطان له عليهما، وينبغي ألا



 صفحة رقم : 12519   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> هل الإنسان آله


يعالجوه بالعضات بل بالدواء، وبحزم يحمي المجتمع، بل وبشفقه تعترف بحتمية كونية. ومن المرغوب فيه أن نختار لمناصب القضاء أمهر الأطباء(64). وكانت هذه الآراء من علائم انتصار أبيقور (وقد أسيء فهمه) على زينون في فرنسا القرن الثامن عشر: واستسلمت الفلسفة الرواقية في العهد الزاهر للويس الرابع عشر، لدفاع الأبيقورية عن مذهب اللذة في عصر الأستنارة، ولشمولية المادة واطراح الآلهة. فلا عجب أن يشتد الإقبال على كتب لاتري من جمهور تحرر من أوهام اللاهوت وأرهقته الشكليات التقليدية والقيود الخلقية. ومهما يكن من أمر فإن المجتمع المهذب نفر من لامتري باعتباره مفكراً خارجاً على جماعته كشف عن كثير من معتقدات الطبقة العليا، وهو عاجز عن ضبط النفس، وهاجمه رجال الدين مبعوثاً من عند الشيطان. وأستحث رجال اللاهوت في ليدن الحكومة الهولندية لإبعاده عن البلاد. وفي فبراير 1738 دعاه المفكر الحر فردريك الأكبر للحضور إلى بروسيا ومنحه راتباً، وضمه إلى أكاديمية العلوم في برلين، وأستأنف لامتري ممارسته مهنة الطب وكتب عن الربو وعن الدوزنتاريا أبحاثاً اعتبرها الملك أحسن ما كتب من نوعها. وبعد أن أصطدم فولتير بلامتري في حاشية فردريك، كتب إلى مدام دنيس في 6 نوفمبر 1750 يقول: هنا رجل مرح جداً، هو لامتري، وأفكاره عبارة عن ألعاب نارية، على شكل صواريخ من السماء دائماً. وثرثرته مسلية لبضع دقائق، ولكنها مزعجة بعد ذلك إلى حد مؤلم. أنه ألف دون أن يدري كتاباً رديئاً، دأب فيه على تحريم الفضيلة والندم وامتداح الرذائل، وحرض فيه قراءه على الحياة المختلفة والمنافية للأخلاق والحشمة -دون قصد سيئ منه. وفي كتابه هذا ألف من اللمسات المشرقة، ولكن فيه نصف صفحة من العقل. إنها أشبه بومضات برق في الليل.. اللهم حل بيني وبين اتخاذه طبيباً لي، إنه قد يعطيني عقاراً مزعجاً بدلا من الراوند بكل براءة. ثم يشرع في الضحك والسخرية. وهذا الطبيب العجيب هو قارئ الملك.



 صفحة رقم : 12520   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> الملحدون -> هل الإنسان آله


وأحسن ما في الموضوع إنه يقرأ له كتاب "تاريخ الكنيسة" إنه يقرأ مئات من الصفحات من الكتاب، وهناك مواضيع يكاد يختنق فيها الملك والقارئ من الضحك(65). وكان لامتري قد وصف الموت بأنه خاتمة مسرحية هزلية ساخرة تمثل. وفي 11 نوفمبر 1751، وهو في الثانية والأربعين قدم نفسه مثالاً لهذه المسرحية. ففي مأدبة عشاء أقامها له مريض عالجه من داء عضال، فأتخم بفطيرة من لحم الطير، فانتابته حمى شديدة وقضى نحبه. وهنا قتل المرض طبيبه(66). وكتب الملك بهذه لمناسبة رثاءً جميلاً. وتنفس فولتير الصعداء. وانتقلت أفكار الرجل المتوفى إلى ديدرو ودي هولباخ، ودخلت إلى روح العصر.