قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 4 ف 17

من معرفة المصادر



 صفحة رقم : 12465   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> التشريح والفسيولوجيا


الفصل السابع عشر



الطب



1715-1789



1- التشريح والفسيولوجيا


ثم هناك أثر العلم في لطب. فقد ارتبط فن التطبيب بتحسن الميكروسكوب والترمتز، وظهور الكيمياء والأحياء، وأهم من ذلك كله المعرفة المتقدمة بتشريح وفسيولوجيا الإنسان والحيوان. وكان معظم الأبحاث في التشريح والفسيولوجيا من عمل الأطباء أنفسهم. وكان جوفاني باتيستا مورجاني أنموذجاً من الأطباء الكثيرين الذين جعلوا من الطب علما باحتفاظهم بسجلات أكلينية للحالات التي جاءتهم للعلاج. ففحص سبعمائة من هذه الحالات خلال الفترة التي عمل فيها بإخلاص ممارساً للطب وأستاذاً له في بادوا. وفي عامه الثمانين (1761) روى ملاحظاته في سبعين رسالة أرست أساس التشريح الباثولوجي: "في مواطن العلل وأسبابها كما بحثها التشريح" هنا ساق أوصافا عملية لانسداد القلب، والضمور الأصفر للكبد، وعمل الكلى، وربط بين العلامات الأكلينكية للالتهاب الرئوي وتصلب الرئتين، وأضاف إضافات هامة لمبحث القلب يقول السر وليم أوزلر "مازال الجزء الخاص بالتمدد الوعائي للأورطى من أفضل ما كتب في هذا الباب." "وهل من وصف أدق من وصفه للذبحة الصدرية؟"(1) وحصر موطن دواء الآن بوضوح أكثر من أي وقت مضى، في تغيرات مرضية تعرو أعضاء بعينها. وأعجبت المستشفيات بعمل مورجاني، فزودته ومعاونيه-دون معارضة من الكنيسة أو الدولة-بجثث الموتى من جميع طبقات المجتمع، حتى النبلاء ورجال الكنيسة؛ وأعرب أفراد كثيرون حباً في النهوض بالعلم، عن رغبتهم في أن يفحص مورجاني بعد موتهم(2). وقد أجرى التجارب على الحيوانات، دون أن يلقي هنا أيضاً أي احتجاج من الكنيسة.



 صفحة رقم : 12466   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> التشريح والفسيولوجيا


وواصل التدريس حتى بلغ التسعين. وفي 1764، حين كان في الثانية والثمانين، روى أنه "ينعم بعافية ابن الخمسين، ولا يزال يعمل دون استعانة بنظارات."(3) وقد لقبه طلابه في فخر برئيس المشرحين في أوربا كلها. وفي 1931 أقامت له بلدته "فورلى" نصبا تذكاريا في الميدان الذي يحمل اسمه. وأصبح تلميذه أنطونيو سكاربا أستاذا للتشريح في مودينا وهو بعد في العشرين. فلما رقي لكرسي التشريح في بافيا حين بلغ السادسة والثلاثين (1783) شارك سباللانتسانى وفولتا في دفع تلك الجامعة إلى مكانة مرموقة بين جامعات أوربا. واكسبه الشهرة الدولية دراساته التشريحية على الأذن والأنف، والأقدام، والأعصاب، وظل كتابه "ملاحظات على أمراض العيون الرئيسية" (1801) عشرات السنين الكتاب الجامعي العمدة في الرمد. أما فيلكس فيك دازير، الذي كان يصغر سكاريا بسنة واحدة فقط، فقد درس التشريح المقارن للطيور، وذوات الأربع، والإنسان. وأظهرت نتائجه تشابها غريبا مفصلا في بنية الأطراف في البشر والحيوانات، وأسهمت في وضع الإنسان في مكانه البيولوجي. وقد مات في السادسة والأربعين (1794)قبل أن يتم عملا أوصل تشريح الدماغ إلى ذروته في القرن الثامن عشر. وفي بريطانيا العظمى أضفى الأخوان هنتر، والمولودان في إسكتلندة، مزيداً من البهاء على حركة التنوير الاسكتلندية بعملهما في التشريح والجراحة. فأحدثت محاضرات وليم ثورة في تدريس التشريح في لندن، حيث تعطلت هذه الدراسة طويلاً من جراء القيد المفروض على توافر الجثث. وقد ذاع صيته لكشفه الخطير (1758) للوظيفة الماصة للأوعية اللمفاوية، ولتأليفه كتابا من عيون يسمى "تشريح الرحم الحامل" (1774، ولطبعه الناري، الذي علله بأنه، وهو المشرح، قد ألف "خضوع الجثث له خضوعا سلبيا"(4) ومات في 1783 وقد بلغ الخامسة والستين إثر إعياء أصابه في إحدى محاضراته. وقد أوصى بمجموعته التشريحية الكبرى لجلاسجوا، حيث ما زال محتفظا بها في متحف هنتر.



 صفحة رقم : 12467   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> التشريح والفسيولوجيا


أما أخوة جون هنتر فالقد ولد بعده بعشر سنوات، ومات بعده بعشر أيضا. وحين بلغ الحادية والعشرين (1749) كان قد حصل من العلم ما أهله للاضطلاع بصف وليم في التشريح العملي. وبينما كان يعمل مع أخيه، حل مشكلة سقوط الخصيتين عند الجنين، وتتبع دورة المشيمة وتشبعات الأعصاب الأنفية والشمية، واكتشف القنوات الدمعية، وقام بدور رائد في عض وظائف القناة اللمفاوية. وفي السابعة والعشرين دخل أكسفورد، فلما وجد اللاتينية واليونانية أشد مواتا من جثث الموتى، ترك لكلية والتحق بالجيش جراحا. وتعلم الكثير في أثناء الخدمة العاملة في الخارج عن جراحة البارود، فخلف بعد موته رسالة قيمة في الموضوع. وقد مارس الجراحة وعلمها عند رجوعه إلى إنجلترا، وواصل أبحاثه في التشريح والفسيلوجيا. وفي 1767 أصيب بحادث مزق له "أربطة أخيل" (التي تربط عضلات سمانة الساق بالعقب). ومن مشاهداته عن نفسه آنئذ، ومن تجاربه على الكلاب، توصل إلى جراحة ناجحة للأقدام المشوهة وغيرها من التشوهات التي تصيب الأربطة فيما تصيب. وحدث أنه حقن نفسه بالزهري عن غير قصد، فأرجا علاجه ريثما يدرس المرض من خبرته الشخصية(5)، على أنه أخطأ في اعتباره الزهري والسيلان مرضا واحدا. وأثبت بالتجربة أن الهضم لا يحدث في الأفاعي والسحالي أثناء اسباتها. وجمع لأبحاثه في بيته ببرمتن معرضا غريبا للوحوش، فيه الديوك البرية، والحجل، وضفادع البر، والسمك، والأوز، والقنافذ، وديدان القز، والنحل، والدبابير الكبيرة والصغيرة، ونسر، وفهدان، وعجل. وكاد يفقد حياته في صراعه مع العجل ومحاولته القبض على الفهدين الهاربين. وقد شرح نيفا وخمسمائة نوع من الحيوان. ودرس آثار مختلف السموم، واعترف في 1780 بأنه "سمم بضعة آلاف من الحيوان". وفي 1785 جلس إلى زينولدز ليرسمه، ولكنه كان كثير الحركة والتململ أول الأمر. وأوشك السر جوشوا أن يعدل عن تصويره، حين أخذت هنتر سنة من أحلام اليقظة عميقة ساكنة مكنت المصور من تخطيط اللوحة المعروضة الآنفي كلية الجراحين الملكية. وكان جون كأخيه صاحب



 صفحة رقم : 12468   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> التشريح والفسيولوجيا


طبع نزق عات. وقال حين وجد نفسه عرضة للذبحة الصدرية "أن حياتي في يد أي وغد يطيب له أن يضايقني ويغيضني"(6) وحدث أن أحد زملائه ناقضه، فاستشاط غضبا، ولم يلبث أن فارق الحياة بعد دقائق (1793)، ودفن في دير وستمنستر بجوار رفات بن جونسن. وقد حصل اتحاد الجراحين، بفضل منحة من الحكومة، على مجموعته المحتوية على ثلاثة عشر ألف عينة، وأصبحت المجموعة في 1836 متحف اللندني. و "الخطاب الهنتري" الذي يلقى في ذاكراه واقعة سنوية في عالم الطب الإنجليزي. أما الفسيولوجيا فإن أعظم أعلامها في هذه الحقبة هو ألبرشت فون هاللر وقد التقيا به شاعراً في شبابه، وفي سنوات اللاحقة وضع نفسه على رأس علماء الفسيلوجيا بكتابه "أصول فسيولوجية جسم الإنسان" الذي صدر في ثمانية مجلدات بين عامي 1757و1766. ولم تقتصر هذه الأسفار على تسجيل ما توافر من علم بتشريح الإنسان وفسيولوجيته، بل شملت كذلك كشوفه عن دور الصفراء في هضم الدهنيات، وعن قابلية ألياف العضلات للتهيج أو التقلص مستقلة عن الأعصاب، لا بل عقب فصلها عن الجسد. وخلص ديدرو من هذه التجارب وأمثالها إلى أنه "إذا كانت الحياة باقية في أعضاء فصلت عن الجسد، فأين هي النفس إذن؟ وما الذي يحدث لوحدتها؟... ولعدم قابليتها للانقسام؟"(7) وزعم بناء على هذه الشواهد أن جميع العمليات الفسيولوجية ميكانيكية. وخالفه هاللر، ففي رأيه أن قابلية النسيج العضوي للتهيج دليل مبدأ حيوي لا يوجد في المواد غير العضوية ولا يتفق والفلسفة الميكانيكية. وأظهر المزيد من دراسات هاللر أن "بنية عظام ذوات الأربع في جوهرها واحد هي وبنية الطيور" وأن "العظام في الإنسان لا تختلف في أي جزء من أجزاء بنيتها عن عظام ذوات الأربع"(8) وفي 1755 قام بأول ملاحظة مدونة لمرض التصلب السنبلي، أي تراكم الدهن في جدران الأوعية الدموية. يقول السر وليم فوستر "حين نفتح صفحات هاللر نشعر أننا انتقلنا إلى العصور الحديثة"(9).



 صفحة رقم : 12469   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> التشريح والفسيولوجيا


وأيدت أبحاث أخرى الرأي الميكانيكي. فتبين رورت هويت (1751) أن الأفعال المنعكسة لا تحتاج لأن يشارك فيها غير قطاع صغير من الحبل الشوكي. وبدا أن عمل برستلي، ولا فوزييه، ولا بلاس، ولا جرانج، يختزل النفس إلى عمليات كيميائية شبيهة بالاحتراق. وأثبت تجارب ريامور (1752) أن الهضم ينشأ عن الفعل الكيميائي للعصارات المعدية، وأثبت سباللانتساني (1782) أن هذا الفعل - فعل العصارات الهضمية - على الطعام يمكن أن يستمر حتى خارج المعدة، واكتشف جون هنتر أن هذه العصارات تبدأ بعد الموت في هضم جدار المعدة ذاته. وكان سباللانتساني من أساطين فسيولوجية القرن الثامن عشر وقد رأينا تجاربه على التولد "الذاتي أو التلقائي"، ولم يكن اهتمامه بعملية الهضم يعرف حدودا. فقد اكتشف الوظيفة الهضمية للعاب. وأجرى التجارب على نفسه بالقيء المصطنع، وبابتلاع الأكياس والأنابيب، التي استعادها بصبر من برازه. وكان أول من بين أن التقلص الانقباضي للقلب يرسل الدم في أصغر الشعيرات. وبين أن العرق ليس شبيها بالتنفس، ولكنه يستطيع إلى حد ما أن يحل محل الشهيق. وأصبح حجة في الإخصاب رغم أنه رئيس دير. وقد وجد أنه إذا غطيت أعضاء الذكورة في ضفدع بقماش مغموس في الشمع ظلت أنثاه دون إخصاب بعد الجماع ولكن حين جمع سائل الذكر من القماش ووضعه ملتحما ببيض الأنثى أصبحت مخصبة. وحصل الإخصاب الصناعي في الثدييات بحقنه مني كلب في رحم كلبة(10). وقد قدر القرن العشرون في نهاية المطاف مدى تجاربه التي لم يعترها كلل، وأدرك مغزاها، واعترف به كاهناً من الصفوة المختارة في كهنوت العلم.



 صفحة رقم : 12470   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> دهاء المرض


2- دهاء المرض


ولكن، هل هزم نمو المعرفة سعة حيلة المرض؟ كلا. لقد قدر فولتير متوسط عمر الإنسان في عصره باثنتين وعشرين سنة(11) وكان من



 صفحة رقم : 12471   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> دهاء المرض


أثر الأحياء الفقيرة المزدحمة في المدن النامية ارتفاع نسبة الوفيات في الأطفال، حتى بلغت أحياناً خمسين في المائة(12). وفي لندن كان ثمانية وخمسون في المائة من جميع الأطفال يموتون قبل أن يبلغوا الخامسة(13) وشاعت على نطاق واسع عادة ترك الأطفال حديثي الولادة. وفي السنوات الثمان بين عامي 1771 و 1777 أدخل قرابة 32,000 طفل إلى المستشفى اللقطاء بباريس- بمعدل تسعة وثمانين يوميا، ومن هؤلاء الرضع مات 25,476 (أي ثمانون في المائة) قبل أن يتموا ربيعهم الأول. وأعان على زيارة وفيات الأطفال في القرن الثامن عشر انتشار الرضاعة الجافة- أي إحلال البزازة محل ثدي الأم أو المرضع وقد قدر السر هانز سلون نسبة الوفيات في الرضاعة الصناعية بثلاثة أضعاف نسبتها في أطفال الرضاعة الطبيعي. وراجت الطريقة الجديدة على الأخص بين طبقات الراقية في فرنسا، إلى ن أشاع كتاب روسو "أميل" (1762) موضة الرضاعة من الثدي. واستمر الإجهاض ومنع الحمل. واستعمل القراب من القماش- الذي أوصى به فالبيو في 1564 للوقاية من عدوى الأمراض التناسلية - في القرن الثامن عشر لمنع الحمل(14). وقد ورد في كتاب الدكتور جان استروك "في الأمراض التناسلية"(1736) ذكر الزناة الذين "استعملوا حينا أكياس من نسيج رقيق من قطعة واحدة على شكل قراب. تسمى بالإنجليزية Condum(15)" وأصدرت امرأة تدعى المسز فلبس في 1776 إعلانات يدوية في لندن أذاعت أن في حانوتها كمية وافرة من "أسباب الأمان التي تكفل صحة زبائنها"(16). ولكن الأمراض التناسلية اقتضت الضحايا من كل طبقة رغم هذه "الآلات" كما كانت تسمى... وقد كتب اللورد تشسترفلد إلى ولده محذرا منها "ففي الحب قد يضيع الرجل قلبه ويحتفظ بكرامته... أما إذا ضيع أنفه فإنه يضيع معه سمعته"(17). ويصعب علينا-نحن الذين نعيش بعد جنر- أن نتصور أي لعنة ابتلى بها الجدري البشر قبل أن يهدي هذا الطبيب العالم الغربي إلى التطعيم ولقد حسب فولتير أن "من بين مائة شخص يولدون، يصاب ستون على الأقل بالجدري، ومن هؤلاء الستين يموت عشرون... وعشرون



 صفحة رقم : 12472   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> دهاء المرض


آخرون يحتفظون بندوب كريهة لهذا المرض القاسي تلازمهم مدى الحياة"(18) وبين عامي 1712 و1715 مات بالجدري ثلاثة من ورثة العرش الفرنسي. وقد ذهب الأمير دلين إلى أن 200.000 من نزلاء أديرة النساء والرجال لجئوا إليها هربا من ذل التشوه الذي أصابهم به الجدري(19). واستفحل المرض حتى بلغ درجة الوباء في باريس في 1719، وفي السويد في 1749-65، وفي فيينا في 1763 و 1767، وفي تسكانيا في 1764، وفي لندن في 1766 و 1770. وكانت الأوبئة الآن، بصفة عامة، أخف وطأة منها في القرون السابقة، ولكنها ظلت أحد الأخطار التي تهدد الحياة. وكانت أشد هولا في الريف منها في المدن، رغم ما في هذه من أحياء فقيرة مزدحمة، لأن الفلاحين كانوا أعجز من أن يدفعوا ثمن الرعاية الطبية. وقد قتلت أوبئة التيفوس، وحمى التيفود، واجدري، ثمانين ألف شخص في برتني في سنة واحدة (سنة 1741)(21). وفي 1709 قضى الطاعون الدملي على 300.000 شخص في بروسيا، وعاد ظهوره بشكل أخف في أوكرانيا في 1737، وفي موسكو في 1789 وكانت الحمى القرمزية، والملاريا (mal aria أي الهواء الفاسد) والدوزنتاريا أمراضا شاسعة، لا سيما بين الطبقات الدنيا، حيث أعانها على الانتشار الافتقار إلى حفظ الصحة للعامة والصحة الشخصية. وأصيبت باريس، ودبلن، وأبردين، وتورجاو، وبرن، بأوبئة من حمى النفاس المعدية. أما الأنفلونزة، التي سماها الفرنسيون La grippe (الالتصاق) فقد بلغت مرحلة الوباء في فترات مختلفة في إيطاليا، والسويد، وألمانيا. وكانت بين الحين والحين تقضي إلى شلل الأطفال، كما حدث للصبي الذي أصبح فيما بعد السر ولتر سكوت. وأشرف الالتهاب الرئوي، والدفتريا، والحمرة، أحياناً على مستوى الأوبئة. وكان السعال الديكي، الذي يبدو الآن قليل الشأن، واسع الانتشار وخطراً، لا سيما في شمالي أوربا، ففي السويد مات به أربعون ألف طفل بين عامي 1749و1764. ووفدت الحمى الصفراء من أمريكا، وانتشرت حتى أصبحت وباء في لشبونة عام 1723. وإلى هذه العلل وعشرات غيرها أضافت نساء الطبقات



 صفحة رقم : 12473   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> دهاء المرض


العليا مرضا سموه "the vapors" وهو مزيج مضطرب من الإرهاق العصبي، والوهم، والأرق، والسأم، يتفاقم أحيانا حتى يبلغ درجة الهستريا. ولمقاومة هذه الأعداء العامة اتخذت الحكومات بعض التدابير لحفظ الصحة. ولكن القمامة كانت لا تزال في أكثر الحالات تفرغ في الشوارع. وظهرت المراحيض في باريس في مطلع القرن، ولكن في بعض البيوت فقط، ولم تكن توجد إطلاقاً في غير باريس من أوربا. وكانت الحمامات ترفاً يختص به الأغنياء. ولعل الحمامات العامة كانت أقل عددا منها أيام النهضة الأوربية. وأحرز حفظ الصحة في الجيوش والبحريات تقدما أكثر منه في المدن. ونهض السر جون برنجل بالطب الحربي (1774)، وأحدث الاسكتلندي جيمس لند ثورة في حفظ الصحة البحرية (1757). وخلال بعثة آنسن سنة 1740 كان الأسقربوط أحيانا يعجز نحو خمسة وسبعين في المائة من الملاحين. وقرر لند في رسالة خطيرة عن هذا المرض (1754) أن عصير البرتقال أو الليمون تداوي به الهولنديون منه في 1565 واستعمله السر رتشارد هوكنز في 1593، وقد أدخل هذا الدواء الواقي بنفوذ لند إلى البحرية البريطانية (1757). ولم تكن في رحلة كوك الثانية التي امتدت أكثر من ثلاث سنين (1772- 75)، إصابات مميتة بالأسقربوط غير إصابة واحدة. وفي 1795 تقرر استعمال العصير أو الفواكه الحمضية إجبارياً في البحرية البريطانية (ومن هنا إطلاق كلمة limey على الجندي أو البحار البريطاني)، وبعد هذا أختفى مرض الأسقربوط البحري. وكان من معالم إنسانية القرن الثامن عشر البارزة، أن يضع فكتور ركيتي، مركيز مبرابوا، مبدأ (1756) مؤداه أن صحة الشعب مسئولية تقع على عاتق الدولة. وقد اقترح يوهان بيتر فرانك نظاماً كاملاً للخدمة الصحية العامة في كتابه "نظام كامل للرقابة الطبية العامة" (1777-78)، وكان قد بدأ حياته طفلاً فقيراً ملقى على عتبة بيت. وهذه المجلدات الأربعة -هذه"الذكرى النبيلة للولاء للإنسانية امتد طول العمر"(21)- وصفت



 صفحة رقم : 12474   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> دهاء المرض


التدابير التي ينبغي لأي مجتمع مدني أن يتخذها للتخلص من النفايات، وللحفاظ على نقاء الماء والطعام، ولصيانة الصحة في المدارس والمصانع، ولحماية صحة النساء في الصناعة. وزاد الطبيب على هذا أن أوصى بفرض الضرائب على العزاب، وبذل النصيحة للأزواج لحفظ صحتهم، وطالب بتعليم الأطفال مبادئ الصحة. وكان نابليون أحد الذين قدروا أفكار فرانك، فرجاه أن يأتي ويخدم في باريس، ولكن فرانك بقي في فيينا. وأما المستشفيات فقد تخلفت كثيراً عن واجب الاهتمام المنظم بالمرض. فقد ازداد عددها. ولكن جودتها هبطت. وضاعفت إنجلترا على الأخص من مستشفياتها في القرن الثامن عشر، ولكن كلها كان يعتمد على التبرعات الخاصة دون منحة من الدولة(22). وفي باريس تلقى أكبر مستشفياتها المسمى الأوتيل ديو 251,178 مريضاً في السنوات الإحدى عشرة بين 1737 و 1748، مات منهم 61.091. وقد أفضى التهافت على "منزل الله" هذا-كما سموه- إلى حشد ثلاثة أشخاص أو أربعة أو خمسة أو حتى ستة في فراش واحد، "فكان المحتضرون والناقهون يرقدون جنبا إلى جنب... وكان الهواء ملوثاً بالإفرازات المنبعثة من هذا العدد العديد من الأجساد المريضة"(23). وكان من بين الأعمال الخيرة الكثيرة التي قام بها لويس السادس عشر في 1781 أمره بأن "يخصص سرير مستقل لكل من 2.500 مريض، وأن ينام خمسمائة مريض على أسرة مزدوجة يفصلها حاجز"، وأن تخصص حجرات للناقهين(24). ومع ذلك لم يكن بالمستشفى بعد سبع سنوات من الأسرة المنفردة سوى 486، واحتوى 1.220 سريراً أربعة مرضى أو أكثر، ورقد ثمانمائة مريض على القش(25). وفي فرانكفورت-على -المين وغيرها من المدن كان الهواء في المستشفيات من الوخم بحيث "رفض الأطباء الخدمة في المستشفيات باعتبارها معادلة لحكم بالإعدام"(26).



 صفحة رقم : 12475   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> العلاج


3- العلاج


واجترأ بعض الأطباء على تقويض مواردهم بنشر المعرفة بالطب الوقائي. من ذلك أن الدكتور جون آربثنوت اللندني زعم في "مقال عن طبيعة الأمراض"، (1731) أن نظام التغذية يفعل كل ما في وسع الطب أن يفعله. وقد تنبأ بأمراض المستقبل في رسالة تسمى "ثمن صيانة الصحة" (1744). وتحسن تعليم طلاب الطب تحسينا بطيئاً، مع احتفاظ الجامعات الإيطالية (بادوا، وبولينا، وبافيا، وروما) بمكان الصدارة، وفيينا، وباريس، ومونبليه، بالمكان التالي؛ ولكن حتى في هذه الجامعات لم يكن هناك أكثر من أربعة أساتذة أو خمسة. وكان كل مدرس يجمع المصروفات الجامعية للمقرر الذي يدرسه، ويصدر تذاكر دخول، أحيانا على ظهر ورق اللعب(27) وبدأت بعض لمستشفيات الآن تعلم الطب الأكلينيكي. وكانت الممارسة القانونية للطب أو التوليد تتطلب دبلوما من معهد معتمد. وكما أن نظرية جيورج شتال عن النار باعتبارها "فلوجستونا" تسلطت على الكيمياء في القرن السابق للافوازييه، فكذلك تسلطت فكرته عن "حيوية المادة animism" على الطب. فقد رفض نظرة ديكارت إلى الجسم على أنه جهاز ميكانيكي، وصور النفس على أنها أصل لا مادي للحياة يشكل الجسم بوصفه أداته. وبناء عليه، رأى أن الطبيعة، في صورة قوة الحياة هذه، هي العامل الأهم في شفاء العلل، وما المرض إلا جهد من "الروح الحية anima" لاسترداد الصحة، والفعالية، والانسجام الطبيعي للأعضاء المضطربة؛ وارتفاع درجة الحرارة وسرعة النبض وسلتان تلجأ إليهما الطبيعة للتغلب على المرض، والطبيب الحكيم من يعتمد أول ما يعتمد على عمليات التخلص الذاتي من السموم، ويكره استعمال العقاقير. ولكن شتال ترك سؤالا بغير جواب، وهو ما السبب في الاضطراب. ومن الأجوبة جواب قدمه ماركوس أنطونيوس بلينكتس، الذي بعث في 1762 رأى أثناسيوس كيرشر في أن المرض راجع إلى عدوى بكائن دقيق. فقال إن لكل مرض كائناً مغيراً خاصاً به، له فترة حضانة محدودة.



 صفحة رقم : 12476   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> العلاج


على أن هذه البصيرة الممتازة بنظرية الجراثيم لم تترك طابعاً على طب القرن الثامن عشر العلاجي، وكان لا بد من بعثها مرة ثانية في القرن التاسع عشر. واقترحت بعض طرق التشخيص الجديدة، فدعا ستيفن هيلز إلى قياس ضغط الدم، وادخل ليوبولد أوينبروجر النقر على الصدر وسيلة لتبين السائل في القفص الصدري. وطور اسكتلنديان، هما جون مارتن وجيمس كري، استعمال الترومتر الأكلينيكي. وتنافست العقاقير، والجراحة، والشعوذة، على مال المريض. وظل الفصد الدواء الذي يصلح لكل الأدواء، وقد قدر طبيب في 1754 أن أربعين ألف شخص يموتون كل عام في فرنسا من جراء الإفراط في الحجامة(28). وفي أخريات القرن تصاعدت الاحتجاجات على هذا الدواء ووجدت لها صوتا فعالا في كتاب ولشتين "تعليقات على الفصد" وتكاثرت العقاقير. وقد نبذت فارماكوبيا لندن الرسمية الصادرة في 1746 الوصفات المؤلفة من نسيج العنكبوت، وقرون الثور الوحشي، ولبن العذراء، ولكنها احتفظت بالترياق، وعيون السرطان، وقمل الصوف والأفاعي، واللآلئ، زعما منها أنها تؤلف مزائج شافية. وقد أعطت فارماكوبيا عام 1721 صفة رسمية لصبغ الأفيون الكافوري (paregoric) وعرق الذهب المقيئ (الابيكاك)، ومقيئ الطرطير، وروح النشادر الطيار، وغيرها من العقاقير الجديدة؛ وأضافت طبعة 1746 الفالريانا، وروح النترات الطيب، و"البلسم" (صبغة الجاوي)؛ واعتمدت طبعة 1788 الاونيكا، والعشبة، والقشيرة، والمانزيا، وصبغة الأفيون... وبدأ استعمال زيت الخروع في أوربا الحديثة حوالي 1764، والزرنيخ حوالي 1786، وادخل اللحلاح (الكولشيوم) علاجا للنقرس في 1763 وتعلم غلام من شروبشير يدعى وليم وذرنج من جدة عجوز أن كف الثعلب (الديجيتال) مفيد للاستسقاء. وقد ظفر بمكان مرموق في تاريخ الطب باكتشافه فائدته في أمراض القلب(1783). وكان كثير من مشاهير الأطباء يصنعون عقاقيرهم ويبيعونها، ويتقاضون الأتعاب على تذاكرهم



 صفحة رقم : 12477   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> العلاج


الطبية لا على عيادتهم لمرضاهم. وأثرى أفراد من "الأدوية المملوكة لأصحابها"-المركبة من وصفات سرية مسجلة. وهكذا ابتلعت إنجلترا أطناناً من "إكسير ستوتن" و"زيوت بتن البريطانية" و"حبوب هوبر للنساء" و "أقراص الدود" لتشنج. وكان دجاجلة الطب ومشعوذوه عنصرا محببا في المسرح الطبي. من ذلك أن "الكونت" اليساندرو دي كاليوسترو، واسمه الحقيقي جوزيبي بلساموا، كان يبيع إكسيرا يطيل العمر للحمقى الأغنياء في أقطار عديدة. وزعم الشفالييه تيلر، وهو مسلح بأبرة السد (الكتركته)، إنه يشفي أي مرض من العيون، وقد استمع إليه جيبون وهاندل والأمل يراودهما. وأقنعت جوانا ستيفنز البرلمان بأن يدفع لها خمسة آلاف جنيه لقاء الكشف عن سر علاجها الشافي من الحصى، فلما نشرت وصفتها (1739) اتضح أنها مركب من قشر البيض، والحلزونات، والحبوب، والصابون، وفي كل حالة من الحالات التي زعمت أنها شفتها وجد الحصى في المثانة بعد موت المريض. وأما أشهر دجاجلة القرن الثامن عشر فهو فرانتز أنطون مزمير Mesmer وقد بعثت رسالته التي نال عليها درجة الدكتوراه من فيينا (1766) الدعوى القديمة القائلة بتأثيرات النجوم على الإنسان، ففسرها بأنها أمواج مغنطيسية وحاول حينا أن يشفي الأمراض بتمرير المغنطيس على الأعضاء المريضة، ثم أقلع عن هذا العلاج بعد أن قابل قسيسا بدا أنه يشفي بمجرد وضع يديه على المريض، ولكنه أعلن أن قوة سحرية تسكنه، وأن في إمكانه نقلها للغير بحفز من المال. وافتتح مكتبا في فيينا، حيث عالج المرضى بلمسهم- كما كان يفعل الملوك مع مرضى الداء الخنازيري، وكما يفعل دعاة الشفاء بالإيمان اليوم. وأعلن البوليس إنه مشعوذ، وأمره بأن يبرح فيينا في ظرف ثمان وأربعين ساعة. فرحل إلى باريس (1778) وبدأ من جديد بنشر "مذكرة عن كشف المغنطيسية الحيوانية" (1779)، وأقبل إليه المرضى لينومهم mesmerize فكان يلمسهم بعصاه السحرية، أو يحملق في عيونهم



 صفحة رقم : 12478   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> العلاج


حتى يخضعهم لإيحائه إخضاعاً أشبه بالتنويم؛ وكان قبح صورته معينا رهيبا في عملية التنويم هذه. وأقام أحواضاً مغنطيسية تحوي مزيجاً قوامه سلفيد الهيدروجين؛ ومزودة بنتوءات حديدية يمسها المرضى وأيديهم متشابكة؛ ولكي يجعل مزمير الشفاء مؤكدا كان يلمس كلا منهم بدوره. وكان بين مرضاه المركيز دلافماييت ودوقة بوربون، وأميرة لامبال، وغيرهم من الشخصيات البارزة في البلاط. وعرض عليه لويس السادس عشر عشرة آلاف فرنك أن كشف سره وأسس معهداً مغنطيسياً مباحاً للجميع، فرفض. وقد كسب خلال ستة أشهر 350.000 فرنك(29) وفي 1784 عينت أكاديمية العلوم لجنة من أعضائها لافوازييه وفرانكلن لبحث طرق مزمير. وقد سلم تقريرها ببعض دعاواه وعلاجاته الشافية (لا سيما للأمراض العصبية الصغيرة)، ولكنه رفض نظرية المغنطيسية الحيوانية التي قال بها. ثم أدانته حكومة الثورة الفرنسية باعتباره نصاباً، وصادرت ثروته المغرية ونفته من فرنسا. وقد مات بسويسرا في 1815. وفي لندن افتتح جيمس جراهام (1780)"معبد للصحة" على مبادئ مزمير مع تحسينات ادخلها عليه. فزوده بسرير عرس سحري للعروسين ضمن له كفالة النسل الجميل لهما؛ وكان يتقاضى مائة جنيه أجراً عنه لليلة(30). وكانت مساعدته "ربة الصحة" في إجراءاته هي إيما ليون، التي قدر لها حين أصبحت ليدي هاملتن أن تنوم اللورد نلسن ذاته. واستغرق الجمهور ورجال الطب القرن الثامن عشر بطوله تقريباً لتقبل التطعيم الرقائفي لوناً مشروعا من ألوان الطب العلاجي بعد أن أختلط عليهم الأمر لكثرة أدعياء الطب وعلاجاته المعجزة. وكان قدماء الصينيين قد مارسوا نقل الفيروس الذي أضعفت قوته من إنسان مصاب بالجدري إلى آخر لتحصينه ضد الجدري(31). ولهذا الغرض نفسه كانت النسوة الشركسيات يخزن الجسم بأبر مست بسوائل الجدري. وفي 1714 وصفت رسالة من الدكتور ايمانويل تيموني، قرأت على جمعية لندن الملكية، "الحصول على الجدري بالحز أو التطعيم، كما مورس منذ زمن طويل



 صفحة رقم : 12479   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> العلاج


في الأستانة(32). كتبت ليدي ماري ورتلي مونتاجيو من الأستانة في أول أبريل 1717: "أن الجدري، ذلك المرض الشديد الفتك والانتشار بيننا (نحن البريطانيين) قد جعله اختراع التطعيم سليم العاقبة تماما... وفي كل عام تجرى العملية لألوف الناس... وليس هناك حالة واحدة لشخص مات منها. وقد تصدق أنني مطمئنة جداً لسلامة التجربة إذا علمت أنني أنوي تطبيقها على ولدي الصغير الحبيب(33). وقد طعم الصبي البالغ من العمر ست سنوات في مارس 1718 بيد الدكتور تشارلز ميتلاند، وهو طبيب إنجليزي كان يومها في تركيا. وفي 1721 انتشر وباء جدري في لندن وفتك بأهلها لا سيما الأطفال. وكانت ليدي ماري قد عادت من تركيا، فكفلت الكتور ميتلاند، الذي عاد هو أيضا إلى وطنه، بأن يطعم أبنتها البالغة من العمر أربعة أعوام. ودعا ثلاثة من أبرز الأطباء ليروا أن الفتاة (التي أصبحت فيما بعد ليدي بيوت) لم تزعجها النتائج إزعاجا يذكر. فأعجبوا بما رأوا، وسمح أحدهم بتطعيم أبنه . ونشرت ليدي ماري الفكرة في البلاط. ووافقت الأميرة كارولين على تجربة التطعيم على ستة مجرمين حكم عليهم بالإعدام، فارتضوا على وعد بأن يفرج عنهم إن ظلوا أحياء؛ وعانى أحدهم من إصابة خفيفة بالمرض، أما الباقون فلم يبد عليهم أي أذى، وأفرج عن الستة جميعاً. وفي 1722 أمرت الأميرة بأجراء العملية على الأطفال الأيتام في أبرشية- سانت جيمس، فتكللت بالنجاح التام، وفي أبريل أمرت بأجرائها على اثنين من بناتها. وانتشر قبول التطعيم في الأوساط الأرستقراطية البريطانية، ولكن موت شخصين مطعمين في بيتهما عطل الحركة وقوى المعارضة لها. وشكا أحد النقاد من أن "تجربة لم تمارسها غير قلة من النساء الجاهلات... تسود فجأة، وبعد خبرة ضئيلة، على أمة من أكثر أمم الأرض أدبا وتهذيبا حتى وجدت طريقها إلى القصر الملكي(34). وأحست ليدي مارى بهذه الطعنة، فنشرت دون توقيع "بيانا واضحا عن التطعيم بالجدري بقلم تاجر تركي"وشجب معظم الأطباء الإنجليز التطعيم لما فيه من خطر،



 صفحة رقم : 12480   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> العلاج


ولكن في 1760 أدخل روبرت ودانيال ستن التطعيم بالثقب، وقررا أن لم يمت من بين 30.000 مطعم غير 1.200- أي أربعة في المائة. وظل قسيس إنجليزي يدعى إدوارد ماسي حتى عام 1772 يعظ ضد "عادة التطعيم الخطرة المدنية"، ويدافع بقوة عن الرأي اللاهوت القديم، الذي يرى أن الأمراض ترسلها العناية الإلهية عقاباً على الخطيئة(35). وربما أمكن صياغة هذا القول من جديد ككثير من التعاليم الدينية القديمة صياغة علمانية، وهي أن المرض كثيراً ما يكون عقاباً على الجهل والإهمال). وتبنت الفكرة دول أخرى. ففي أمريكا طعم الدكتور زابديل بويلستن أبنه (1721) خلال وباء الجدري السادس الذي تفشى في بوسطن، وأجرى 246 تطعيما آخر رغم معارضة هائجة هددت بشنقه. ودافع عنه أكثر بينامين فرانكلين وبنيامين رش تأييدهما الفعال لحركة التطعيم في فيلادلفيا. وفي فرنسا ضرب الوصي على العرش، فيليب أورليان، بشجاعته المعهودة، المثل لغيره بتطعيم ولديه. وعارضت كلية الطب بجامعة باريس التطعيم حتى 1763. ولكن فولتير امتدح حملة ليدي ماري في "رسائله حول الإنجليز"، ولاحظ انتشار التطعيم بين الشراكسة، وعزاه إلى القيمة المالية للجمال:"إن الشراكسة قوم فقراء، ولكن لهم بنات جميلات، هن إذن أهم سلعة في تجارتهم الخارجية، فهن اللاتي يزودن بالحسان حريم السلطان وصوفي فارس وغيرهم ممن يتيح لهم ثراؤهم شراء هذه السلع الثمينة والاحتفاظ بها."(37) وأذاع طبيب إيطالي يدعى أنجيلو جاتي تجربة التطعيم في فرنسا وأذاعها تيودور ترونشان في سويسرا. وتطعمت كاترين الكبرى والغراندوق بولس الروسي بناء على إلحاح فولتير(1768)، وفي ذلك العام طعم بان انجهنوز ثلاثة أعضاء من الأسرة الإمبراطورية في فينيا. كل هذه التجارب التي استعملت مصل الجدري من الإنسان، كان فيها الكثير مما يبعث على الشكوى، لأن نسبة الوفيات من التطعيم وإن



 صفحة رقم : 12481   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> العلاج


هبطت إلى أربعة في المائة كانت لا تزال مرتفعة ارتفاعا مؤذيا. ولاحظ جراح إنجليزي يدعى إدوارد جنر أن اللبانات اللاتي أصبن بجدري البقر (وهو مرض خفيف نسبيا) نادراً ما يصبن بالجدري الذي يفتك بالمرضى في غالب الأحيان. وحوالي 1778 خطرت له فكرة نقل المناعة ضد الجدري بالتطعيم بلقاح مصنوع من بقرة مصابة بالجدري (vacca باللاتينية هي البقرة). وكان هذا التطعيم قد تم من قبل على يد مزارع من دورست يدعى بنيامين جستي، في 1774-89، دون أن يلفت اهتمام أهل الطب وفي مايو 1796 أجرى جنر عملية التطعيم بتلقيح جيمس فيلبس بصديد جدري البقر. وفي يوليو لقح الصبي ذاته بفيروس الجدري ولم يصب الصبي بالجدري، فاستنتج جنر أن لقح البقر يعطي حصانة ضد الجدري. وفي 1798 نشر كتابه الخطير "تحقيق في سبب ونتائج لقاح الفاريولا"، (والفاريولا كان الاسم الطبي للجدري)، الذي روى فيه قصة ثلاث وعشرين حالة كانت كلها ناجحة، وبلغ الاقتناع بالتجارب التي أعقبت هذا مبلغاً حمل البرلمان في 1802و1807 على منح جنر ثلاثين ألف جنيه ليوسع عمله ويحسن طريقته، وبعدها تناقصت سريعاً الإصابات بالجدري ذلك المرض الذي ظل قروناً سوطاً من أسواط العذاب الكبرى التي أشرعت على حياة البشر، حتى اقتصر حدوثه اليوم في أوربا وأمريكا في جميع الحالات تقريباً على عدوى الأشخاص الذين لم يطعموا من وفود الفيروس من أقطار لا يمارس فيها التطعيم.



 صفحة رقم : 12482   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> الأطباء المتخصصون


4- الأطباء المتخصصون


كان فن التطبيب يتعقد بنمو علم الطب تعقداً أنبت فروع الطب المتخصصة. ولم تكن أمراض النساء بعد ميداناً للدرس قائماً بذاته، أما التولد فكان الآن مهارة متميزة، وانتقل أكثر فأكثر إلى أيدي الرجال. وظل حياء النساء يؤثر المولدات المدربات أينما تيسرن، ولكن العديد من الأمهات في البيوت المالكة ضربن المثل في قبولهن الرجال مولدين لهن. وكان وليم سمبلي رائداً في إنجلترا بدراساته في نظام المخاض واستعمال الملقط-



 صفحة رقم : 12483   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> الأطباء المتخصصون


وهي دراسات جمعها بعد خبرة ثلاثين عاماً في كتابه القيم"فن التولد" (1752). وأحرز الرمد تقدماً ذا بال بجراحات السد (الكتركته) التي أجراها وليم تشسلدين (1728) وجاك دافييل، وقد أبتكر ثانيهما (1752) العلاج الحديث للسد بانتزاع العدسة. وفي 1760 صنعت أول نظارة ذات بعدين لبنيامين فرانكلن وبناء على اقتراحه فيما يبدو. وسنلقي بديدرو يدرس سيكولوجية المكفوفين ويقترح إمكان تعليمهم القراءة باللمس، ولعل روسو (على ما يقال) اقترح بالتفاهم معه الطباعة البارزة للمكفوفين(38). وتقدم طب الآذان بفضل استعمال القسطرة لتنظيف قناة يوستاكيوس (1724). وبفضل أول جراحة ناجحة للالتهاب الحلمي (1736)، وكشف سائل مرن في متاهة الأذن (1742). وقد انقطع جياكومو رودريجر بيربرا الأسباني، الذي شغف حباً بفتاة صماء بكماء، لوضع لغة إشارات تستخدم يداً واحدة فقط، وحسن ألابيه شارل ميشيل دليبيه طريقة الكلام الصامت بأبجدية تستعمل كلتا اليدين، وكرس حياته لتعليم تلاميذه لإعاشتهم. وأصبح علاج العقول أكثر إنسانية باضمحلال النظرة اللاهوتية القديمة التي دان بها بوسويه وويسلي-والتي زعمت أن الجنون مس شيطاني سمح به الله عقاباً على الخطيئة الموروثة أو المكتسبة. فقد كان نزلاء النار نثروم (برج الحمقى) بفيينا يعرضون على المتفرجين لقاء رسم دخول شأن الحيوانات في معرض الوحوش. وكان مستشفى بيت لحم للمجاذيب (Bedlam) من أماكن الفرجة في لندن، يستطيع الجمهور فيه لقاء أجر أن يتفرس في المخبولين وهم موثقون بسلسلة وطوق حديدي إلى الحائط. وكان المجانين في الأوتيل ديو بباريس يعاملون بقسوة أو إهمال على أيدي خدم مبخوسي الأجر مرهقين بالعمل. وأسوأ من هذا كانت المستشفيات الخاصة لمرضى العقول، التي كان في الإمكان إقناعها بقبول حبس أشخاص يسلمهم إليها أقرباؤهم المعادون لهم(39). واستعملت شتى



 صفحة رقم : 12484   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> الأطباء المتخصصون


العقاقير أو الحيل لعلاج الضحايا أو تهدئتهم -كالأفيون، أو الكافور، أو البلادونا (ست الحسن)، أو الفصد، أو الحقن الشرجية، أو لزقة الخردل على الرأس. وذهب بعض المتخصصين إلى أن "دوشا" فجائياً من الماء البارد يخفف من السوداء (المنخوليا)، وأوصى غيرهم بالزواج علاجاً للجنون. أما أول خطوة حديثة نحو علاج أرشد للجنون فقد اتخذها كويكريو بنسلفانيا الذين أسسوا مستشفيات يعالج فيها الجنون على أنه مرض. وفي عام 1774 أسس الغراندوق ليوبولد الأول أمير تسكانيا في فلورنسه الأوسبدالي بونيفاتسيو، حيث بدأ، باشراف فنتشنتسو كياروجي، تناول المشكلة تناولا علمياً. وفي 1788 عينت الحكومة الفرنسية لجنة لإصلاح رعاية المجانين، وكان رئيس اللجنة، فليب بينيل قد بدأ حياته تلميذاً للاهوت، ثم انتقل إلى الفلسفة، وتشرب المبادئ الإنسانية التي نادى بها فولتير، وديدور، وروسو. وفي 1791 نشر كتابه "رسالة طبية فلسفية في الغربة العقلية" وهو واحد من معالم الطب الحديث، وفي 1792 عين مديراً طبيا للبيسيتر، وكان من أكبر مستشفيات الأمراض العقلية في فرنسا. وبعد عامين رقي لمستشفى أكبر هو سالبتريير وبعد أن وجه النداءات الكثيرة لحكومة الثورة، سمح له بأن يحطم سلاسل مرضاه، وأن يطلقهم من زنزاناتهم ويعطيهم الهواء النقي وضؤ الشمس، والرياضة، والأعمال العقلية المتدرجة. وكان هذا واحداً من الانتصارات الكثيرة التي حققتها النزعة الإنسانية العلمانية في أشد القرون إمعاناً في اللا أدرية.



 صفحة رقم : 12485   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> الجراحات


5- الجراحات


كانت الجراحة أهم تقدم أحرزه طب القرن الثامن عشر باستثناء تطور التطعيم إلى التلقيح. وقد عمرت الرابطة القديمة بين الجراحة وفن الحلاق الصحي حتى عام 1745 في إنجلترا، أما في فرنسا فقد أنهاها لويس الرابع عشر.(وما زال شعار هذا الحلاق-وهو العمود المخطط بالأحمر والأبيض رمزاً للضمادة الملوثة بالدم -يذكرنا بماضيه الجراحي).



 صفحة رقم : 12486   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> الجراحات


وفي 1724 صدق لويس الخامس عشر على إنشاء خمسة كراسي للجراحة في كلية سان-كوم بباريس. واحتجت كلية الطب بجامعة باريس على رفع الجراحة إلى مثل هذا المقام الكريم، وزحف الأطباء-وهم يرفلون في أروابهم الجامعية الحمراء ويتقدمهم حامل صولجان ومناد-على سان كوم حيث كانت تلقى محاضرة في الجراحة، فلما وجدوا الباب مغلقا حاولوا فتحه عنوة وتصايحوا بالشتائم والسباب، ناعتين الجراحين بأنهم حلاقون محدثوا نعمة، ولكن الجمع الذي احتشد انقلب على الأطباء وطردهم من المكان. وفي 1731 حصل جورج اريشال وفرنسوا دلابيروني على براءة ملكية بتأسيس "أكاديمية الجراحة"، وفي 1743 أصدر الملك أمرا حرر جراحي فرنسا من ارتباطهم بطائفة الحلاقين، واشترط الحصول على درجة من الكلية لممارسة الجراحة. ومن يومها استطاع الجراح أن يواجه الطبيب في غير خجل ولا أحجام. وحدث تطور مماثل لهذا في إنجلترا. ففي 1745 فصل الجراحين. رسميا عن الحلاقين، وتقرر اعتبار ممارسة الجراحة في لندن أو بقربها دون امتحان وإجازة تمنحها لجنة من كبار الجراحين جريمة يعاقب عليها القانون. على أن "كلية الجراحين الملكية" لم يصدر بها ترخيص رسمي إلا سنة 1800. أما في ألمانيا فقد كانت الجراحة عموما قبل فردريك الأكبر في أيدي الحلاقين والجلادين، والمتجولين من الممارسين غير المرخصين، الذين يجبرون العظام ويزيلون السد (الكتركته)، ويربطون الفتق، ويستأصلون الحصى. وكان الجراح في الجيش-وهو مفخرة بروسيا- يسمى"فيلدشيرر"، أي حلاق الميدان، لأن من وظائفه الحلاقة للضباط ولكن في 1724 فتحت في برلين كلية للطب والجراحة. وكانت كثرة جراحي القرن الثامن عشر العظام من الفرنسيون. واخترع لوي بتي "المرقأة" (ضاعظة الشرايين) وأدخل تحسينات على عمليات البتر والعنق وقد أجرى ديدرو في كتابه "حلم دالامبير" على لسان الطبيب الشهير تيوفيل دبوردي دبور دي وصفا لجراحة على المخ يجريها لابيروني. وقد



 صفحة رقم : 12487   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> الجراحات


أسس جان أندريه فثيل الجنفي جراحة العظام(1780). وفي إنجلترا طور وليم تشزلدن الجراحة الجانبية للحصى (1727) إلى مرتبة لم تكد تجاوزها بعده(40)، وفاخر بأنه أجرى جراحة لاستخراج حصاة في الربع وخمسين ثانية. وأصبحت الجراحة الانجليزية علما حين أرساها جون هنتر على أساس من التشريح وللفسيولوجيا السليمين. وقد أجرى تجارب على الحيوان ليجد بدائل لجراحات كثيرا ما تؤدى بحياة الإنسان. ففي 1786، بعد أن اكتشف وهو يجرب على وعل أن في استطاعة الأوعية الدموية الفرعية أن تواصل دورتها إذا أوقف المرور من وعاء دموي رئيسي، أنقذ حياة رجل يشكو وروما شريانيا في الساق بربط الشريان الذي يعلو الورم والاعتماد على أجزاء الجسم المحيطة به في امتصاص محتويات الورم. وقد أنقذت هذه الجراحة عددا لا حصر له من الأطراف والأنفس. كذلك يحتل اسم جون هنتر مكانا مرموقا في تطوير طب الأسنان. فقد كان هذا الفن في إنجلترا في القرن السابع عشر متروكاً أكثره لخالعي الأسنان، الذين كانوا يصيحون معلنين عن قدومهم ويعرضون على الجمهور حبالا من الأسنان كأنها شعار النبالة. وفي 1728 أعلن بيير فوشار في كتابه "جراح الأسنان" أن طب الأسنان فرع من الجراحة. ولكن هنتر كان أول منطبق الطرق العلمية على دراسة الأسنان. وقد أدخل تصنيفها إلى أنياب، وضواحك، وطواحن، وقواطع، وابتكر آلات لتقويم انطباق الأسنان. وكان أول من أوصى بإزالة لب الضرس تماماً قبل حشوه. وقد لخص أراءه في كتابه "التاريخ الطبيعي لأسنان الإنسان"(1721). وكان أكثر الجراحات الصغيرة يجري دون مخدر. وقد استعمل القدماء من قبل شتى الأشربة المنومة - مثل "السلوى"، والأفيون، وقاتل الدجاج، واللقاح، والشوكران، إلخ، وفي سفر التكوين أن الله ذاته أوقع على آدم "سباتاً" قبل أن يأخذ منه ضلعا. وقد وصف ديوسكوريدس في القرن الأول الميلادي نبيذ اللقاح في العمليات الجراحية(41). واستعملت الهند القنب الهندي cannabis indica (الحشيش)، وذكر أوريجانوس في



 صفحة رقم : 12488   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> الجراحات


القرن الثاني أشربه التنويم الجراحي، كما ذكرها القديس هيلاري-وموطنه بواتييه-في القرن الرابع. واستمر استعمال أكثر المنومات القديمة في العصور الوسطى، فكانت مدرسة سالرنو الشهيرة تحبذ استعمال "إسفنجة تخدير". أما في أوربا الحديثة، فإن المخدر المفضل كان السكر. ولم يكتشف السر همفري ديفي الخواص المخدرة لأول أكسيد النتروجين (الغاز المضحك) إلا في 1799. واكتشف الدكتور كروفورد لونج الطبيب بدانيالز فيل في جورجيا خواص الأثير المخدرة في 1839.



 صفحة رقم : 12489   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> الأطباء


6- الأطباء


كان من أثر ازدياد الثروة، ونمو الطبقات الوسطى عدداً وثراء، وتقدم علم الطب والتعليم، أن ارتفع مقام الأطباء ودخلهم إلى درجة لم يعهدوها من قبل وقد أثلج هذا صدر لامتري، وكان هو نفسه طبيباً، فقال "إن كل شئ يخلي السبيل أمام الفن العظيم، فن الطبيب الشافي... فالطبيب هو الفيلسوف الوحيد الذي يستحق تقدير وطنه... فمجرد رؤيته تعيد إلينا هدوءنا... وتبعث الأمل الجديد"(42). أما فولتير فكان نقاداً للأدوية-"أن الحمية خير من الدواء" ومعظم الأطباء في رأيه مشعوذين "في كل مائة طبيب ثمانية وتسعون مشعوذين" ولكنه أضاف: "أن الرجال العاكفين على رد العافية لغيرهم من الناس بممارستهم المهارة والإنسانية معاً هم أولا عظماء هذه الأرض، لا بل أن نصيباً من صفات الله، لأن عملية المحافظة والتجديد تكاد تبلغ في سموها عملية الخلق"(43). وقد أثنى ديدرو على كلية الطب بجامعة باريس(44). الجامعة التي نغضت كلية لاهوتها عليه حياته، فقال: "ليس هناك كتب أطالعها بسرور كثر من كتب الطب، ولا رجال يمتعنا حديثهم من حديث الأطباء- ولكن حين أكون معافى "فقط"(45). وقد جعل الدكتور دبورديه الشخصية المحبوبة في قصة "حلم دالامبير" وسلط الهجاء على مهنة الطب كالعادة، كما ترى في مسرحياته جلدوني وصور شودوفيكي، وقصة سموليت "فرديناند كونت فاذوم". وكاريكانورات توماس رولاندسن اللذيذة.



 صفحة رقم : 12490   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> تقدم العلم -> الطب -> الأطباء


وقد رفعت الأتعاب والدخول الأعلى من مقام الأطباء الاجتماعي. وكان أكثرهم في إنجلترا يتقاضى جنيها نظير الكشف على مريض. وبلغ إيراد بعضهم ستة آلاف جنيه في العام. وقد أصبح السر هانز سلون، أول من رقي للبابوية من الأطباء رئيساً للجمعية الملكية، وخلع جوزف الثاني إمبراطور النمسا على جوزف فون كوارين لقب البارون. ولقي الأطباء الترحيب في خيرة أندية لندن وصالونات باريس، وخلعوا عنهم الروب الأسود (السواتن) الكابي، وتزيوا بأحدث أزياء الطبقة الوسطى الراقية فكانوا في إنجلترا يبدون في سترة من الساتان أو الحرير المطرز الأحمر، وسراويل للركبة، وأحذية ذات مشابك، وعصا ذات مقبض ذهبي، وسيف أحياناً، أما في فرنسا فكانوا يضارعون كبار رجال الكنيسة في فخامة زيهم. وبعض هؤلاء الأطباء يطالبنا بتنويه خاص. منهم سيمون أندرية تيسو الذي اشتهر في لوزان بتزعمه الدعوة للتطعيم، وبكونه حجة في الصراع وقد جاهد لا ليشفي المرضى فحسب، بل ليحفظ الصحة على الأصحاء، وطبع كتابه "نصيحة للشعب في الصحة" (1760) عشر طبعات في ست سنوات، وترجم إلى كل لغة كبرى في أوربا. ومنهم ليوبولد أونبروجر الذي كان قطبا بين عظام الأطباء الذين شرفت بهم فيينا في عهد ماريا تريزا، وكان محبوبا لتواضعه وأمانته، ومحبته للناس، "مثل سام لخير ما في الخلق الألماني القديم من صادق القيمة والجاذبية"(46). ولم يكن الدكتور جوزف إجناس جيوتان محبوبا إلى هذا الحد، وكان أحد نواب مجلس طبقات الأمة في 1789، وحبذ عقوبة الإعدام، واقترح استعمال آلة لقطع الرؤوس (الجيلوتين) لتفادي ضربات الجلادين الخاطئة. أما تيودور ترونشان فكان أشهر الأطباء في سويسرا. وكان تلميذاً أثيرا لدى بويرهافي في ليدن، ومارس الطب عشرين سنة في أمستردام، وتزوج حفيدة جان دويت، وعاد إلى مسقط رأسه في جنيف، وأدخل فيها التطعيم (1749) بادئاً بنفسه وأطفاله. وفي 1756 دعاه دوق أورليان إلى باريس ليطعم ولده الدوق شارتر وابنته التي كانت يومها المدموازيل دمانبانسييه. وعجبت باريس لهذه الشجاعة، ولكن حين خرج المطعمان من هذه العملية دون أن ينالهم أذى، تقاطر صفوة الناس على مسكن ترونشان في البالية-رويال وكلهم شوق للتحصن من مرض ظل طويلا بنسبة عالية من الوفيات في فرنسا. وقد أعطى نجاحه وزنا لآرائه في موضوعات أخرى. فسبق روسو في حض الأمهات على إرضاع أطفالهن. ونصح مرضاه بالإقلاع من الدواء والإكثار من الرياضة في الهواء الطلق، وبأكل الأطعمة البسيطة، والإكثار من السباحة، وبالإتسال في الماء البراد، وبخلع باروكاتهم، وطواقيهم، وستائر أسرتهم، وبالتبكير في النوم والاستيقاظ. وحفل البلاط في فرساي حين أمر تفتح نوافذ القصر- التي ظلت مقفلة دائماً-بعض ساعات النهار على الأقل، حتى في الشتاء. وأصبحت أفكاره من موضات العصر، فكانت النساء من علية القوم يتمشين في ساعات الصباح الباكرة، مرتديات الثياب القصار للتهوية، وسرعان ما سميت هذه الثياب "ترونشين"(47). وحين استقر بفولتير المقام في جنيف وضع نفسه في رعاية ترونشانز يقول "إنه رجل طوله ستة أقدام، حكيم كأسكولابيوس، وسيم كأبوللو."(48) ولم يبادله ترونشان هذا الثناء، ولكن ربما كان كلاهما مخطئا كما قال فولتير عن نفسه وعن هاللر. أما مدام ديبينيه التي قطعت الرحلة الطويلة من باريس إلى جنيف طلباً للعلاج من ترونشان فقد رسمت لنا صورة كلها المديح والإطراء" قالت: سأنفق يومين أو ثلاثة في بيت فولتير مع السيد ترونشان. والحق أنني في كل يوم أكتشف في ترونشان صفات جديدة توحي باحترام وإجلال له لا حد لهما. فليس هناك ما يضارع حبه للخير، وتجرده من الأنانية، ومحبته لزوجته ورعايته لها. وأصارحك بعد أن عرفتها بأنها أشد نساء الأرض عبوساً وثقلاً(49). ولكن من ذا الذي يصدق حديث امرأة عن أخرى؟

هذا ولم يكن القرن الذي نحن بصدده فلذا في تاريخ الطب، فلم يزل جو الطب يخيم عليه ظلمات السرية، والشعوذة، والنظريات التي كان ينبغي أن تتوارى خجلاً منذ زمن نتيجة للخبرة، إلا أن تقدم التشريح والفسيولوجيا أرسيا الطب فوق أساس أسلم من ذي قبل، وكان تعليم الطب أشمل وأيسر، ومزاولة المهنة دون ترخيص في طريقها إلى الزوال، والتخصصات تزيد المعرفة وتحسن رعاية المرضى؛ وقد أطلقت الجراحة من عقالها، وأخذت العلاجات المعجزة تفقد سمعتها، وانتصارات الطب تقوم بدورها الهادئ في ذلك الصراع الأساسي بين الدين والعقل، وهو صراع راح يحتل مكان الصدارة في حياة الذهن..