قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 3 ف 14

صفحة رقم : 12305

قصة الحضارة -> عصر فولتير -> أوروبا الوسطى -> سويسرة وفولتير -> فيللا المباهج ليدليس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع عشر: سويسرا وفولتير 1715- 1758

1- فيللا المباهج (ليدليس)

على طريق لبون، خارج أبواب جنيف مباشرة ولكن في حدودها الإدارية، وجد فولتير في خاتمة المطاف مكاناً يستطيع أن يرقد فيه آمناً مطمئناً، هو فيلا فسيحة تسمى سان- جان، ذات حدائق مدرجة تهبط إلى نهر الرون. ولما كانت قوانين الجمهورية تحرم بيع الأرض إلا للبروتستنت السويسريين، فقد قدم 87.000 فرنك لشراء الملك (فبراير 1755) بواسطة وكالة لابا دجرانكور وجان روبير ترونشان هو الآن (1965) متحف للفن، يضم مخلفات صغيرة لفولتير.@ جان روبير، المصرفي والمدير العام لجنيف، (2) باكوب، عضو المجلس، (3) فراسوا، المؤلف والمصور (4) تيودور، الطبيب. و"ترونشان" هنا يقصد به تيودور، ما لم ينص على غير هذا. ما زال البيت موجودا (1965)، وقد نقصت مساحته كثيرا، ولكن مدينة جنيف تحتفظ به معهداً ومتحفاً لفولتير.@ . وبكل حماسة أهل المدن اشترى دجاجات وبقرة، وزرع حديقة خضر، وغرس الأشجار. لقد أنفق من عمره ستين عاماً حتى تعلم أننا "يجب أن نزرع حديقتنا". وخطر له أن في وسعه الآن أن ينسى فردريك، ولويس الخامس عشر، وبرلمان باريس، والأساقفة، واليسوعيين، ولم يبق إلا مغصه ونوبات صداعه. وبلغ ابتهاجه بيته الجديد مبلغاً جعله يسميه "ليدليس" أي المباهج وكتب إلى تيريو يقول: "إن بي من السعادة ما يخجلني"(1). ولما كانت استثماراته الذكية تأتيه بدخل مترف، فإنه أشبع رغبته في العيش المترف. فاحتفظ بستة جياد وأربع مركبات، وسائق، وجودي يمتطي أحد جياد العربة، وتابعين، وخادم خاص، وطاه فرنسي، وسكرتير، ونسناس- كان يحب أن يقارن بينه وبين الإنسان. وتربعت على عرش المؤسسة مدام دنيس، التي وصفها مدام دينيه حين زارت البيت في 1757 بهذه العبارات:

"امرأة قصيرة سمينة، مدورة كالكرة، تناهز الخمسين، ... قبيحة، طيبة، كذابة دون قصد ودون خبث، ليس فيها ذكاء ومع ذلك تبدو وكأن لها نصيباً منه... تكتب الشعر وتناقش في منطق وفي غير منطق... دون كثير ادعاء أو غرور، وأهم من ذلك كله دون أن تسئ إلى أحد.. تعبد خالها، بوصفه خالا وبوصفه إنساناً، وفولتير يحبها، ويضحك عليها، ويعبدها. إن هذا البيت، باختصار يجمع بين النقائض، ومشهد بمتع المتفرجين(2)(1).

ووصف زائر آخر هو الشاعر مارنتيل، المالك الجديد فقال "كان في فراشه حين وصلنا. فمد ذراعيه وعانقني وبكى فرحاً... ثم قال "هاأنت تجدني مشرفاً على الموت، فتعال وردني إلى الحياة، أو تلق آخر أنفاسي"... وبعد لحظة قال "سأنهض وأتناول الغداء معك"(3).

وكان في فيللا المباهج هذه عيب واحد- وهو برودتها في الشتاء، وفولتير يحتاج إلى الحرارة لشدة هزاله. وعليه فقد وجد لوزان خلوة صغيرة تدعى مونريون يقيها موقعها من ريح الشمال، فاشتراها، وأنفق فيها بعض شهور الشتاء خلال 1755- 57. وفي لوزان ذاتها اشترى (يونيو 1757) على نهر جران شين "بيتاً لو كان في إيطاليا لسمى قصراً" له خمس عشرة نافذة تطل على البحيرة. "هناك ودون أي معارضة من رجال الدين أخرج تمثيليات أكثرها من تأليفه. وكتب يقول "إن الهدوء شئ جميل. ولكن الملل ينتمي أرد عني هذا القريب القبيح أقمت مسرحاً(4).

هكذا، في غدوه وراحه، بين جنيف ولوزان عرف سويسرا.


2- المقاطعات السويسرية (الكانتونات)

في 1742 تساءل صموئيل جونسن "بأي سياسة عجيبة، أو بأي توافق سعيد بين المصالح، أمكن تجنب الفتن العنيفة في دولة تتألف من شتى المجتمعات ومختلف الأديان، رغم أن في أهلها من الولع بالحرب ما يجعل من تقرير جيش ومن حشده شيئاً واحداً؟(5).

هذا المركب الغريب من ثلاثة شعوب، وأربع لغات، ومذهبين، ظل في سلام مع العالم الخارجي منذ 1515. فبمقتضى ضرب من الميثاق المبرم بين اللصوص أمسكت الدول عن مهاجمته، ولقد كان مطمعاً غاية في الصغر (بلغ 227 ميلا في أقصى طوله، و137 في أقصى عرضه) فقيراً جداً في موارده الطبيعية، شديد الوعورة في أرضه، اتصف أهله بشجاعة تثبط همة المعتدى. واستمر السيسرون ينجبون خيرة الجنود في أوربا، ولكن الاحتفاظ بهم كان غالي الكلفة، لذلك كانوا يؤجرون لشتى الحكومات بسعر للجندي. وفي 1748 كان هناك ستون ألفاً من هؤلاء الجنود "الجوالين" في خدمة الدول الأجنبية. وقد أصبحوا في بعضها جزءاً دائماً من المؤسسة العسكرية؛ وكانوا أحب الحرس للبابوات والملوك الفرنسيين وأحوزهم لثقتهم؛ والعالم كله يعرف كيف قضى الحرس السويسري لآخر رجل منهم دفاعاً عن لويس السادس عشر في 10 أغسطس 1792.

وفي 1715 كانت ثلاثة عشرة مقاطعة تؤلف الاتحاد السويسري: أبنتسيل، وبازل، وجلاروز، وشافهاوزن، وزيورخ-وكانت في أغلبها ألمانية وبروتستنتية؛ ثم لوسرن، وشفيتس، وزولوتورن، وأونترفالدن، وأورى، وبتسوج-كلها ألمانية وكاثوليكية، ثم برن، وكانت ألمانية وفرنسية، بروتستنتية وكاثوليكية؛ ثم فريبورج، وكانت فرنسية وكاثوليكية. وفي 1803 ضم الاتحاد إليه مقاطعات أراجاو، وسانت جالين، وتورجاو (ألمانية بروتستنتية)، وتيتشينو (إيطالية وكاثوليكية)، وفو (فرنسية وبروتستنتية). وفي 1815 أضيفت ثلاث مقاطعات جديدة هي جنيف (فرنسية وبروتستنتية تنقلب الآن كاثوليكية بسرعة)، وفاليه (فرنسية، وألمانية، وكاثوليكية) والأقاليم المعروف للفرنسيين باسم جزيزون وللألمان باسم جراوبوندن تغلب عليه البروتستنتية، ويتكلم الألمانية أو الرومانش، وهي لاتينية أثرية.

وكانت سويسرا جمهورية النظام، ولكنها لم تكن ديمقراطية بمعناها المعروف، ففي كل مقاطعة تنتخب أقلية من السكان الذكور البالغين، الذين ينتمون عادة للأسر العريقة، مجلساً صغيراً يتألف من أربعة وعشرين إلى أربعة وستين عضواً. وكان المجلس الصغير يعين مجلساً خاصاً أصغر منه وعمدته وهو أكبر موظفي المقاطعة. ولم يكن هناك فصل للسلطات، فالمجلس الصغير هو أيضاً المحكمة العليا. وقصرت المقاطعات الريفية (وهي أوري، وشفيتس، وأونتفالدن، وجلاروز، وتسوج وأبنتسيل) حق الانتخاب على الأسر الوطنية، أما غيرها من المقيمين بها، مهما طال مقامهم، فيحكمون بوصفهم طبقة تابعة(6). ومثل هذه الأولجركيات كانت شائعة في سويسرا. فلوسرن مثلا قصرت صلاحية التعيين في الوظائف الحكومية على تسع وعشرين أسرة، ولم تسمح لأسرة جديدة بدخول هذه الدائرة إلا إذا انقرضت إحدى الأسر القديمة(7). وفي برن كانت 243 أسرة صالحة للتعيين في الوظائف، ولكن نحو ثمان وستين منها فقط هي التي تقلدت المناصب بصفة دائمة. وفي 1789 لاحظ المؤرخ الروسي نيكولاي كارامزين أن مواطني زيورخ "يفخرون بلقبهم فخر ملك بتاجه" لأن "أحداً من الأجانب لم يحصل على حق المواطنة منذ نيف و150 سنة."(8) (وعلينا أن نذكر أنفسنا بأن كل الديمقراطيات تقريباً أو الأولجركيات، لأن الأقليات يمكن تنظيمها للحركة والسلطة، أما الأغلبيات فلا).

وكان في حكومة المقاطعة نزوع إلى النظام الأبوي الذي يتطلب الطاعة لأولي الأمر. مثال ذلك أن المجالس في زيورخ أصدرت القوانين المنظمة للأكل، والشرب، والتدخين. وقيادة العربات، وحفلات الزفاف، واللباس، والتزين، وقص الشعر، وأجور العمل، ونوعية المنتجات، وأسعار الضروريات، وكانت هذه الأوامر من مخلفات القوانين البيئية أو النقابية القديمة، والواقع أن "معلمي" النقابات الحرفية الأثنى عشرة في زيورخ كانوا يكتسبون عضوية المجلس الصغير تلقائياً، بمعنى أن هذه المقاطعة كانت إلى حد كبير دولة نقابية. وقد كتب جوته في أخريات القرن أن شواطئ بحيرة زيورخ تعطي "فكرة جذابة مثالية عن أروع وأسمى حضارة"(9).

أما "مدينة وجمهورية" برن فكانت أكبر وأقوى المقاطعات. فهي تضم ثلث سويسرا، وتتمتع بأغنى اقتصاد، وحكومتها محط الإعجاب عموماً لما تتميز به من تدبير وطفاية؛ وقد شبهها مونتسكيو بروما في أزهى عصور الجمهورية. أما وليم كوكس، وهو قسيس بريطاني ومؤرخ عالم، فقد وصف المدينة كما رآها في 16 سبتمبر 1779 بهذه العبارات: حين دخلت برن أدهشني ما تميزت به من نظافة وجمال. شوارعها الرئيسية عريضة طويلة، ليست مستقيمة، بل منعطفة انعطافاً هينا، وتكاد بيوتها تكون متماثلة، وهي مبنية بحجر تغلب عليه الشهبة ومن تحتها البواكي. ويجري وسط الشوارع نهير نشيط، ماؤه شديد الصفاء، في مجرى صخري، وهناك نافورات عديدة تضفي على المدينة جمالا يعدل نفعها لأهلها. ويكاد نهر آر يحيط بالمدينة، إذ يلتف مجراه فوق قاع صخري أوطأ كثيراً من مستوى الشوارع.. والريف المجاور غني بالزرع، فيه تنويع لطيف من تلال ومروج وغابات ومياه... وترسم على الأفق البعيد سلسلة شديدة الانحدار من جبال الألب الوعرة المكللة بالثلوج(10)".

أما الخطأ الفادح الذي ارتكبه نبلاء برن ففي معاملتهم لمقاطعة فو. فهذا الفردوس الأرضي كان يمتد بحذاء الضفة السويسرية لبحيرة جنيف من أرباض مدينة جنيف حتى لوزان (العاصمة) ويصل شمالا إلى بحيرة نيوشاتل. على هذه الضفاف الجميلة والتلال الزاخرة بالكروم استمتع فولتير وجيبون بحياة غاية في التحضر، وشب روسو وتعذب، واختار بيت جولي الفاضل (في كلارنس، قرب فيفي). وقد خضع الإقليم لسيادة برن في 1536، ففقد مواطنوه حقهم في تقلد المناصب الحكومية، واشتد تبرمهم بالحكم البعيد عنهم، وتكررت ثوراتهم دون جدوى.

وكانت المقاطعات شديدة الحرص على استقلالها الذاتي. كل منها تعتبر نفسها دولة ذات سيادة، لها الحرية في خوض الحرب أو إبرام الصلح أو الدخول في أحلاف أجنبية، مثال ذلك أن المقاطعات الكاثوليكية ارتبطت بفرنسا طوال حكم لويس الخامس عشر. ورغبة في التخفيف من الصراع بين المقاطعات كانت كل منها ترسل مندوبين عنها إلى مجلس سويسري (ديت) ينعقد في زيورخ. ولكن هذا المجلس الاتحادي (الكونجرس) كانت سلطاته محدودة جداً، فهو لا يستطيع فرض قراراته على أي مقاطعة ترفضها. ويجب أن توافق جميع المقاطعات على هذه القرارات لكي تكون قانونية. وكانت حرية التجارة مقبولة من حيث المبدأ، ولكن حروب المكوس بين المقاطعات انتهكت هذا المبدأ. ولم تكن هناك عملة مشتركة، ولا إدارة مشتركة للطرق التي تربط المقاطعات.

على أن الحياة الاقتصادية زكت رغم العوائق الطبيعية والحواجز التشريعية. وكان رق الأرض قد زال في بضع مناطق على الحدود الألمانية أو النمساوية، فملك الفلاحون كلهم تقريباً الأرض التي يزرعونها. وكان الفلاحون فقراء في "مقاطعات الغابات" (وهي أوري، وشفايتس، وأونترفالدن، ولوسرن) وذلك لظروف جغرافية؛ أما حول زيورخ فازدهرت أحوالهم، وفي برن جمع العديد من الفلاحين ثروات بالفلاحة التي اتسمت بالعناية والمثابرة. وقد اضطر كثير من السويسريين إلى الجمع بين الزراعة والصناعة لطول الشتاء وصعوبة النقل؛ فالأسرة التي تغزل القطن أو تصنع الساعات تزرع الحدائق أو تغرس الكروم. واشتهرت فريبورج بجبها الجروبير (جرافيرا)، وزيورخ بدنتللتها، وسانت جالين بقطنها، وجنيف بالساعات، ونيوشاتل بالدنتيللا، وسويسرا كلها بالأنبذة. وكانت المالية السويسرية حتى في ذلك الحين مثار حسد أوربا، والتجار السويسريون نشيطين في كل بلد. وأثرت بازل من الاتجار مع فرنسا وألمانيا، وزيورخ من الاتجار مع ألمانيا والنمسا. ونافست بازل وجنيف ولوزان، أمستردام ولاهاي مراكز للنشر. وبعد أن أشاد هاللير وروسو بجمال البحيرات السويسرية المتألق وجبال الألب السويسرية المهيب، أمدت السياحة الاقتصاد الاتحادي بدعم متزايد.

أما مستوى الأخلاق فلعله كان في سويسرا أرقى منه في أي بلد آخر باستثناء إسكندناوة، حيث أنتجت الظروف المماثلة نتائج مماثلة. فكانت أسرة الفلاح مثالاً للجد، والعفة، والوحدة، والتدبير. وكان في المدن بعض الفساد في السياسة وبيع المناصب، ولكن حتى في هذه الأماكن أعانت الخشونة التي ولدها المناخ القاسي، والإقليم الجبلي، والآداب البروتستنتية، على الاستقرار الخلقي. وكان اللباس محتشما سواء عند الأغنياء أو الفقراء. وظلت قوانين الإنفاق صارمة مرعية الجانب في سويسرا(11).

أما الدين فكان نصف الحكم ونصف الصراع. فالحضور إلى الكنيسة إجباري، والمدن من الصغر بحيث يستحيل على الخوارج المتمردين أن يجدوا ملاذا في زحمة الجماهير. ويوم الأحد يوم تعبد لا هوادة فيه، ويروى إن الحانات في زيورخ كانت تهتز بالمزامير ترتل فيها في يوم الرب(12). ولكن المذهبين المتنافسين - الكلفني والكاثوليكي- ضربا أسوأ أمثلة السلوك، لأنهما أطلقا العنان للحقد والكراهية وقيدا العقل بالأغلال. وحظرت بعض المقاطعات الكاثوليكية كل عبارة إلا الكاثوليكية، وبعض المقاطعات البروتستنتية كل عبادة إلا البروتستنتية(13). وحرم القانون الخروج على الكنيسة الرسمية وتأليف مذاهب مستقلة. وفي لوسرن عذب ياكوب شمدلن في 1747 ثم شنق لمحاولته تنظيم حركة "تقوية" مستقلة عن الكنيسة. وكان حلف يمين الالتزام بالكلفنية شرطاً لشغل المناصب السياسية أو الكنسية أو التعليمية في لمقاطعات البروتستنتية(14). وفرضت الكنيسة والدولة رقابة شديدة على المطبوعات. وفي مقاطعات الغابات تضافر فقر الفلاحين، والعواصف، وإنزلاقات الأرض، وانهيارات الثلوج، وآفات الزرع، والفيضانات، والرهبة من الجبال المحيطة بالسكان- كلها اجتمعت تولد فيهم خوفاً خرافياً من الأرواح الشريرة الساكنة في القمم المحملة والرياح المدومة، ولكي يقهر الفلاحون المكروبون أعداءهم الخارقين للطبيعة كانوا يتوسلون إلى قساوستهم أن يخرجوا الأرواح النجسة ويمنحوا قطعانهم البركة في مراسم دينية. وقد انتهى حرق المتهمين بالسحر في جنيف عام 1652، وفي برن عام 1680، وفي زيورخ عام 1701، وفي المقاطعات الكاثوليكية عام 1752، ولكن امرأة في جلاروز قطع رأسها عام 1782 وكانت تهمتها أنها سحرت طفلاً(15).

وانبثق النور وسط هذه الظلمة بفضل المدارس الحكومية والمكتبات العامة. وكانت جامعة بازل تعاني اضمحلالا من جراء التعصب الديني، فلم تكد تقدر منجزات يوهان وياكوب ودانيل برنويللي، وأكرهت ليونارد أويلر على الهروب إلى قاعات أكثر سماحة لضيوفها. ولكن سويسرا رغم هذا أنجبت الأدباء والشعراء والعلماء في تناسب كامل مع عدد سكانها. وقد ذكرنا من قبل العالمين الزيورخيين يوهان ياكوب بودمير ويوهان ياكوب برايتنجر، وقد كان لهما أثر دائم على الأدب الألماني لأنهما عارضا إعجاب جوتشيد المفرط ببوالو والأشكال الكلاسيكية؛ ودافعا عن حقوق الوجدان، والعناصر الغيبية، بل اللامعقولة، في الأدب والحياة؛ وأشادوا بالشعر الإنجليزي وفضلا على الفرنسي، وقدما شكسبير وملتن لقراء الألمانية، وبعثا الأغاني القديمة (1751) وشعراء العصر الوسيط الغنائيين الألمان minnesungers وانتقل مذهبهم إلى ليسنج، وكلوبشتوك، وشيلر، والشاب جوته، وفتح الطريق للحركة الرومانسية في ألمانيا ولإحياء الاهتمام بالعصور الوسطى. وسار على هذا الدرب شاعر زيورخي يدعى سالومون جسنر، وأصدر قصائد"رعوية" (1756) فيها من فتنة الريف ما جعل أوربا بأسرها تترجمها، وشعراء مثل فيلاند وجوته يحجون إلى بيته.

وأنبه سويسريي القرن الثامن عشر ذكراً بعد جان جاك روسو هو البريشت فون هاللر البرني، أعظم الشعراء والعلماء في بلده وعصره. درس في برن، وتوبنجن، وليدن، ولندن، وباريس، وبازل، القانون والطب والفسيولوجيا والنبات والرياضة. فلما عاد إلى برن اكتشف جبال الألب. وأحس بجمالها وجلال خطوطها، فتدفق شعراً. وأصدر وهو بعد في الحادية والعشرين (1729) مجلداً من الشعر الغنائي سماه "الألب" ذهب كوكس المتحمس له إلى أنه شامخ خالد كالجبال التي يتغنى بها(16). وكان الكتاب سبقاً لروسو في كل شئ تقريباً. دعا العالم للإعجاب بجبال الألب لما فيها من علو شاهق ملهم وشهادة بعظمة الله؛ وأزرى بالمدن لأنها أوكار للترف والكفر تقضي انحلال الجسم والخلق، وأشاد بالفلاحين وأهل الجبال لصلابة عودهم ومتانة أيمانهم واعتدال عاداتهم. وأهاب بالرجال والنساء والأطفال أن يتركوا المدن ليعيشوا في الخلاء عيشة أبسط وأعقل وأصح.

ولكن علم هاللر هو الذي أذاع شهرته في أوربا. ففي 1736 عرض عليه جورج الثاني أستاذية النبات والطب والجراحة في جامعة جوتنجن. وهناك ظل يدرس سبعة عشر عاماً، بكفاية حملت أكسفورد وهاللي على دعوته، وأراد فردريك الأكبر أن يخلف موبرتوي عميداً لأكاديمية برلين، وحاولت كاترين الثانية إغراءه بالذهاب إلى سانت بطرسبورج وأرادت جوتنجن أن تعينه عميداً لها. ولكنه بدلا من هذا كله قفل إلى برن واشتغل طبيباً، واقتصادياً، ورئيساً لمقاطعته، وعكف في مثابرة على رائعة من روائع القرن العلمية هو كتابه"الأصول الفسيولوجية لجسم الإنسان" الذي سنلتقي به ثانية في مكان لاحق. وظل طوال هذه السنين، وطوال اشتغاله بهذه العلوم، محتفظاً بنقاء صادق في عقيدته الدينية ونزاهة صارمة في أخلاقه. فلما قدم فولتير ليعيش في سويسرا خيل لهاللر أن الشيطان رفع رايته فوق جنيف ولوزان. وقد زار كازانوفا كلا من هاللر وفولتير في 1760، وكان ينافس هاللر في تذوقه للجمال. فلنستمتع مرة أخرى برواية كازانوفا لمغامرته المزدوجة:

كان هاللر رجلا كبير الجسم والعقل، طوله ستة أقدام، عريضاً في أبعاده-فهو عملاق في الجسم والعقل. وقد هش للقائي كثيراً، وفتح لي عقله، وأجاب عن كل أسئلتي في دقة وتواضع.. فلما أخبرته أنني أتطلع إلى لقاء المسيو فولتير، قال إنني محق تماماً في تطلعي هذا، وأضاف دون مرارة "أن المسيو فولتير رجل يستحق أن يعرفه المرء، رغم أن كثيراً من الناس وجدوه أعظم عن بعد، وهذا يناقض قوانين الفيزياء".

وبعد بضعة أيام زار كازانوفا فولتير في فيلته المباهج": قلت له: مسيو فولتير، هذا اليوم مفخرة حياتي الكبرى. لقد كنت تلميذك طوال عشرين عاماً، وإن قلبي ليطرب لروية معلمي.

وسألني من أين جئت.

قلت "من روش. إنني لم أرد أن أبرح سويسرة دون أن أرى هاللر.. ولقد احتفظت بك كأنك النقل أختم به طعامي."

"هل سررت من هاللر؟"

"لقد أنفقت معه ثلاثة من أسعد أيام حياتي."

"إني أهنئك"

"يسرني أنك تنصفه. ويؤسفني أنه لا ينصفك إنصافك إياه"."

"أها! ربما كان كلانا مخطئاً"(17).

وفي 1775، نشر هالر آخر كتبه وكأنه يذيع على العالم كلمته الأخيرة، واسم الكتاب "وسائل تتناول عدة محاولات أخيرة للفكر الحر.. ضد الوحي"، وهو محاولة جادة لمعارضة كتاب فولتير "أسئلة في الموسوعة." وكتب رسالة مؤثرة للزنديق الرهيب، دعاه (وهو في الحادية والثمانين) إلى أن يستعيد "تلك السكينة التي تهرب حين تدنو العبقرية"، ولكنها تقبل على الإيمان الواثق؛" عندها سيكون أشهر رجل في أوربا أسعدهم كذلك"(18). على أن هاللر نفسه لم يظفر بهذه السكينة قط. فقد كان برما في المرض لفرط إحساسه بالألم "كان في سنواته الأخيرة يدمن تعاطي الأفيون الذي لم يكن له من أثر إلا زيادة ضجره الفطري لأنه لم يكن سوى ملطف وقتي لألمه"(19). وكان يعاني من خوف الجحيم، ويلوم نفسه على فرط ما بذل "لنباتاتي وغيرها من الحماقات"(20). وقد أدرك السكينة في 12 ديسمبر 1777.

3- جنيف

لم تكن جنيف في هذا القرن مقاطعة داخلة في الاتحاد، بل جمهورية قائمة بذاتها- المدينة وما وراء البحيرة - تتكلم الفرنسية وتدين بالمذهب الكلفني. وقد وصفها دالامبير في مقاله عنها في "الموسوعة" وصف معجب بها كما رآها في 1756: من العجيب أن مدينة لا يزيد سكانها على 24.000 نسمة وتشمل رقعتها أقل من ثلاثين قرية، قد حافظت على استقلالها، وهي من أكثر المجتمعات ازدهاراً في أوربا. وهي في غناها بحريتها وتجارتها ترى كل ما حولها يشعل دون أن يمسها من ذلك أذى. فالأزمات التي تضطرب بها أوربا ليست بالنسبة لها غير مشهد تتفرج عليه دون أن تشارك فيه. وهي مع ارتباطها بفرنسا برباط الحرية والتجارة، وبإنجلترا برباط التجارة والمذهب الديني، تبدي رأيها بإنصاف في الحروب التي تخوضها هاتان الأمتان الواحدة ضد الأخرى، ولكنها أحكم من أن تنحاز لإحداهما. وهي تصدر حكمها على جميع ملوك أوربا دون تملق، أو إساءة، أو خشية(21).

وكانت هجرة الهيجونوت من فرنسا نعمة على جنيف، لأنهم جلبوا إليها مدخراتهم ومهاراتهم، وجعلوا المدينة عاصمة صناعة الساعات في العالم بأسره. وقد قدرت مدام دبينيه عدد المشتغلين بتجارة المجوهرات بستة آلاف(22). فأصبح جاك نكير وزيراً لمالية لويس السادس عشر، وألبير جالاتان وزيراً لخزانة الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس جفرسن. وكان الحكم في جنيف امتيازاً طبقياً شأنه في كل المقاطعات، فلا يقبل في الوظائف العامة غير السكان الذكور الذين ولدوا في جنيف لآبا وأجداد مواطنين. وتلي طبقة الأشراف هذه طبقة البورجوازية من أرباب الصناعات، والتجار، وأصحاب الحوانيت ومعلمي الحرف، وأعضاء المهن. وكان الأشراف والبورجوازيون، الذين قل أن جاوز عددهم ألفاً وخمسمائة(23)، يجتمعون كل سنة في كاتدرائية القديس بطرس لينتخبوا "مجلساً كبيراً" من مائتي عضو "ومجلساً صغيراً" من خمسة وعشرين عضواً. ويختار المجلسان أربعة مأمورين، كل منهم لعام واحد، رؤساء تنفيذيين للدولة. وهناك طبقة ثالثة مجردة من حق الانتخاب، هم "المستوطنون" المنحدرون من آباء أجانب، وطبقة رابعة هم "الأهالي" المولودون في جنيف لجنيفيين غير وطنيين هؤلاء "الأهالي" الذين ألفوا ثلاثة أرباع السكان لم يكن لهم من الحقوق المدنية غير دفع الضرائب، فهم لا يستطيعون الاشتغال بالأعمال التجارية أو المهن ولا بوظائف الجيش أو برآسة حرفة في نقاب. ولقد دار التاريخ السياسي لهذه الجمهورية حول الصراع البورجوازيين للحصول على حق شغل وظائف الدولة، وصراع الطبقتين الدينيتين للحصول على حق التصويت. وفي 1737 امتشق مواطنو المدينة الحسام ليقاتلوا طبقة الأشراف، وأكرهوها على قبول دستور جديد يقضي لجميع الناخبين بالحق في أن ينتخبوا أعضاء في المجلس الكبير، ولهذا المجلس حق إصدار القرارات النهائية في مسائل الحرب والسلم، والأحلاف والضرائب، وإن كان التشريع لا يقدم إلا من المجلس الصغير، أما"الأهالي" فقد سمح لهم بالاشتغال ببعض المهن مع بقائهم محرومين من التصويت. وظلت الحكومة أوليجاركية، ولكنها كانت تدار بكفاية، ومحصنة نسبياً ضد الفساد.

وكان يلي طبقة الأشراف في النفوذ مجمع القساوسة الكلفينين. فقد نظم هذا المجمع شئون التعليم، والأخلاق، والزواج، ولم يسمح بأي تدخل في سلطته من السلطة العلمانية. ولم يكن هنا أساقفة ولا رهبان. وقد أشاد الفيلسوف دالامبير بفضائل الأكليروس الجنيفي ووصف المدينة بأنها أشبه بجزيرة من الأدب والعفة، رآها النقيض للفوضى الخلقية التي فشت بين فرنسي الطبقة العليا. أما مدام دبينيه فبعد أن مارست العديد من العلاقات الغرامية، امتدحت "العادات الصارمة... لشعب حر، هو عدو للترف(24).

ولكن رجال الدين زعموا أن شباب جنيف يفسد في لكباريهات، وأن الصلوات العائلية تتقلص، وأن الناس يثرثرون في الكنيسة، وأن بعض المصلين المتواجدين في المؤخرة يأخذون أنفاساً من "بيباتهم" ليستعينوا بها على ابتلاع العظة(25). وشكا الوعاظ من عجزهم عن توقيع العقوبات إلا الروحي منها، ومن إغفال تحذيراتهم وإنذاراتهم إغفالا متزايداً. وقد أبهج فولتير أن يجد العديد من رجال الدين الجنيفيين متقدمين نوعاً ما في لاهوتهم. فقد أتوا ليستمعوا بضيافته في فيللا المباهج، واعترفوا له سراً بأنهم لا يحتفظون من عقيدة كلفن القائمة إلا بالقليل. وقد أشار أحدهم، وهو جاك فيرن، في كتابه "التعليم المسيحي" (1754) بأن يبني الدين على العقل حين يخاطب الكبار، أما "عامة الناس... فمن المفيد أن تشرح لهم هذه الحقائق ببعض الطرق الشعبية ببراهين تصلح... لإحداث أثر أكبر في عقول الجماهير"(26). وكتب فولتير إلى سيدفيل (12 أبريل 1756) يقول: "لم تعد جنيف هي جنيف كلفن-بل على العكس، فهي بلد يحفل بالفلاسفة. و"المسيحية المعقولة" التي نادى منها لوك هي دين كل القساوسة تقريباً، وعبادة كائن أعلى عبادة مقترنة بنسق أخلاقي، هي دين كل القضاة الآتية: في "مقال الأعراف" (1756).

"يبدو أن ترضية تقدم اليوم لرماد سرفيتوس، فإن رعاة الكنائس البروتستنتية المثقفين. قد اعتنقوا آراءه (التوحيدية)"(28).

أما دالامبير، فبعد أن زار جنيف وبيت فولتير (1756)، وبعد أن تحدث إلى بعض القساوسة، وتبادل الرأي مع فولتير، كتب للمجلد السابع (1757) من الموسوعة مقالا عن جنيف أثنى فيه على تحرر إكليروسها فقال:

"إن العددين منهم لا يؤمنون بلاهوت المسيح الذي كان زعيمهم كلفن شديد الغيرة في الدفاع عنه والذي أمر بسببه بحرق سرفيتوس.. وجهنم التي هي أحد أركان إيماننا لم تعد كذلك عند الكثيرين من قساوسة جنيف. فهم يقولون أن من الإهانة لله أن نتصور أن هذا الكائن الذي يفيض طيبة وعدلا في طاقته أن يعاقب أخطاءنا بألوان من العذاب الأبدي... وهم يعتقدون أم هناك عقوبات في حياة أخرى، ولكنها مؤقتة. فالمظهر الذي كان من أهم أسباب انفصال البروتسنت عن كنيسة روما، هو اليوم العقاب الوحيد الذي يسلم به كثير منهم للخاطئ بعد موته، وهذه لمسة جديدة تضاف إلى تاريخ تناقضات البشر. والخلاصة أن الكثير من رعاة جنيف لا يدينون بغير السوسنيانية الخالصة، ويرفضون كل ما يسمى أسراراً، ويتصورون أن أول مبدأ للدين الحق هو ألا يطلب إلى الناس الإيمان بشيء يناقض العقل... وهكذا نرى من الناحية العلمية أن الدين اختزل إلى عبادة إله واحد، على الأقل بين جميع الذين لا ينتمون إلى طبقات العوام"(29).

فلما قرأ رجال الدين الجنيفيون هذا المقال انزعجوا كلهم- المحافظون منهم لوجود أمثال هؤلاء المهرطقين على المنابر الكلفنية، والمتحررون لفضح هرطقاتهم الخاصة على هذا النحو. وقامت لجنة بفحص الرعاة المشبوهين فأنكروا بشدة مزاعم دالامبير، وأصدرت اللجنة تأكيداً رسمياً جديداً للسنية الكلفنية(30).

على أن كلفن نفسه كان من بواعث هذه الاستنارة الشائعة التي أطراها دالامبير، لأن الأكاديمية التي أسسها أصبحت الآن من أروع المؤسسات التعليمية في أوربا. لقد علمت طلابها المذهب الكلفني، ولكنها لم تغل في تعليميه، وزودتهم بدراسات ممتازة في الأدب الكلاسيكي، وأعدت معلمين أكفاء لمدارس جنيف-وتحملت الدولة جميع النفقات. وأعارت مكتبة تضم 25.000 مجلد الكتب للجماهير، وقد وجد دالامبير "الشعب أفضل تعليما منه في أي بلد آخر"(31).

وأدهش كوكس أن يسمع تجاراً يناقشون الأدب والسياسة بذكاء. وفي هذا القرن أسهمت جنيف في العلوم بمنجزات شارل بونيه في الفسيولوجيا وعلم النفس، ومنجزات أوراس دسوسير في الأرصاد الجوية والجيولوجيا. أما في الفن أعطت العالم فنانها جان إتين ليوتار، بكل ما في كلمة العطاء من معنى. ذهب إلى روما بعد أن درس في جنيف وباريس، فصور هناك البابا كلمنت الثاني عشر وكرادلة كثيرين، ثم إلى الآستانة حيث عاش وعمل خمس سنوات، ثم إلى فيينا، وباريس، وإنجلترا، وهولندا، حيث كسب قوته من صنع اللوحات الشخصية، والصور بالباستل، وبالمينا، وبالمحفورات والصور على الزجاج. وقد رسم صورة أمينة غاية الأمانة لنفسه في شيخوخته(32) ظهر فيها أقرب من فولتير إلى القردة العليا.

أما في ميدان الأدب فلم توفق جنيف توفيقاً يذكر. ذلك أن الرقابة اليقظة على المطبوعات فنقت الطموح والأصالة الأدبيين. فحظرت الدراما باعتبارها مباءة للفضائح. وحين أخرج فولتير مسرحيته "زائير" أول مرة في 1755 في قاعة الاستقبال بفيللا دليس، تذمر رجال الدين، ولكنهم تسامحوا في الجريمة باعتبارها عيباً خاصاً في ضيف كبير. ولكن حين نظم فولتير فرقة من الممثلين من شباب جنيف، وعرض سلسلة من التمثليات، طالب المجمع الكنسي (31 يوليو 1752) المجلس الكبير بتطبيق مراسيم 1732و1739 التي تحظر كل عروض للمسرحيات عامة كانت أو خاصة، وأمر الرعاة بمنع رعاياهم من "تمثيل أدوار في المآسي ببيت السيد فولتير." وأعلن فولتير توبته، ولكنه أخرج المسرحيات في بيته الشتوي بلوزان. ولعله هو الذي أوعز لدالامبير بأن يضمن المقال المذكور الذي كتبه عن جنيف نداء لرفع الحظر:

ليس السبب استهجان جنيف للمسرحيات في ذاتها، بل لأنها (كما يقولون) تخشى الميل إلى التبرج، والانحلال، والإباحية التي تنشرها الفرق المسرحية بين الشباب، ومع ذلك، أليس في الإمكان علاج هذه المساوئ بقوانين صارمة مرعية التنفيذ؟... إن الأدب في هذه الحالة ينهض دون أن يزيد الرذيلة وستجمع جنيف بين حكمة إسبرطة وثقافة أثينا.

ولم يستجيب المجمع الكنسي لهذا النداء، ولكن جان جاك روسو رد عليه (كما سنرى) في خطابه المشهور"خطاب إلى مسيو دالامبير عن المسرحيات" (1758). وبعد أن اشترى فولتير إقطاعية فيرنيه تخطى الحظر ببناء مسرح في شاتلين، على أرض فرنسية ولكن بجوار حدود جنيف. هناك أخرج التمثيليات، واستقدم لحفلة الافتتاح أكبر ممثلي باريس، هنري لوي لوكان. وحظر رعاة جنيف حضور التمثليات، ولكن الحفلات وجدت إقبالا شديداً من الجماهير حتى أن قاع المسرح كان يغص بالنظارة قبل بدء البرنامج بساعات في هذه المناسبات، حين يكون مقرراً أن يظهر لوكان على المسرح. وكسب المقاتل العجوز آخر الأمر معركته، ففي 1766 أنهى المجلس الكبير حظر جنيف لتمثيليات.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- التاريخ الجديد

وصف شاهد عيان أداء لوكان دوره في مسرحية فولتير "سميراميس" ظهور لمؤلف في المسرح فقال: كان فولتير جزءاً لا يستهان به في العرض، وهو جالس في صدر بنوار أول، في مواجهة جميع النظارة، يصفق كمن به مس، مبدياً استحسانه تارة بعصاه وتارة بعبارات الإعجاب "ليس في الإمكان أبدع مما كان! آه، رباه، ما كان أروع تمثيل هذا الجزء!"... وبلغ من عجزه عن السيطرة على حماسته أنه ما أن ترك لوكان خشبة المسرح... حتى جرى خلفه... ولا يمكن تصور مفارقة أدعى للضحك من هذه، فقد أشبه فولتير واحداً من شيوخ الكوميديا-بجواربه المطوية على ركبتيه، والزي الذي يرتديه-زي "أيام زمان الحلوة" وهو لا يتماسك فوق ساقيه المرتعشتين إلا بالتوكؤ على عصاه، وكل أمارات الشيخوخة مرتسمة على محياه، فخداه غائران متغضنان، وأنفه مستطيل، وعيناه أوشكتا أن ينطفئ بريقهما"(33).

وبين المسرحيات والسياسة، والزوار، وفلاحة حديقته، وجد متسعاً من الوقت ليكمل في فيللته"دليس" عملين كبيرين وينشرهما. وقد ساءت سمعة الأول لما قيل عن خروجه عن للياقة، أما الثاني فقد فتح عهداً جديداً في كتابة التاريخ. كان يحتفظ بقصيدته"لابوسيل"منذ 1730 باعتبارها ترفيهاً أدبياً: ويبدو أنه لم يكن في نيته أن ينشرها، لأنها لم تكتف بالتهكم بعذراء أورليان (جان دارك) البطلة، بل هاجمت عقيدة الكنيسة الكاثوليكية، وجرائمها، وشعائرها، وأخبارها. وأضاف الأصدقاء والأعداء إلى مخطوطاتها المتداولة ينهم نتفاً فيها من البذاءة والمرح ما كان حتى فولتير ليكتبه. والآن، في 1755، بعد أن وجد الهدوء والسلام في جنيف، ظهرت في بازل طبعة مسروقة من القصيدة. فحرمها البابا، وأحرقها برلمان باريس، وصادرتها شرطة جنيف، وزج بناشر باريسي في سفينة الأسرى والعبيد لأنه أعاد إصدارها في 1757. وقد أنكر فولتير أنه كاتبها، وأرسل إلى ريشليو، ومدام بومبادور، وبعض موظفي الحكومة، نسخاً من نص مهذب نسبياً، وفي 1762 نشر هذا النص، فلم يناكده أحد بسببه. وحاول أن يكفر عن إساءته لجان دارك بتصويرها صورة أكثر إنصافاً وجداً في كتابه "مقال عن الأعراف"(34).

وقد قصد بهذا المقال أن يكون رائعته الكبرى، وكان أيضاً-بمعنى من المعاني-أثراً يخلد العشيقة التي استعاد ذكراها. ذلك أنه تقبل الاحتقار الذي صبته مدام دشاتليه على من عرفت من مؤرخين محدثين على أنه تحد له: قالت "ماذا يهمني، أنا المرأة الفرنسية التي تسكن ضيعتها هذه أن أعرف أن إيجل خلف هاكون على عرش السويد، وأن عثمان كان ابن أرطغرل؟ إنني قرأت بلذة تاريخ اليونان والرومان، ولقد قدموا لي صوراً رائعة اجتذبتني، ولكني لم أستطع إلى الآن أن أكمل قراءة أي تاريخ مطول لأممنا الحديثة. ولا أكاد أرى في هذه التواريخ شيئاً غير الخلط والتشويش: فهي حشد من الأحداث الصغيرة التي لا ترابط بينها ولا تسلسل، وألف معركة لم تحسم شيئاً. لقد زهدت في دراسة تغرق العقل دون أن تنيره(35). ووافقها فولتير على هذا الرأي، ولنه كان يعرف أن هذا ليس إلا التاريخ "كما يكتب". ولقد أسف على مسخ الأهواء الحاضرة للماضي، ففي هذا المعنى "ليس التاريخ إلا مجموعة حيل ندخلها على الموتى (36) ومع ذلك فإن إغفال التاريخ معناه أن تكرر إلي مالا نهاية أخطاءه، ومذابحه، وجرائمه. وهناك ثلاثة مسالك تفضي إلى هذا المنظور الفسيح السمح الذي يسمى الفلسفة: أولها دراسة البشر في الحياة عن طريق التجربة، الثاني دراسة الأشياء في المكان عن طريق العلم، الثالث دراسة الأحداث في الزمان عن طريق التاريخ. وحاول فولتير أن يسلك المسلك الثاني بدراسة نيوتن؛ ثم اتجه الآن إلى الثالث. ومنذ عام 1738 وضع هذا المبدأ الجديد "يجب أن يكتب المرء التاريخ مفلسفاً(38). وعليه فقد عرض على المركيزة ما يلي:

لو أنك تخيرت من بين هذا القدر الوافر من المادة الغفل التي لم تتشكل ما تبنين به صرحاً لاستعمالك الخاص، ولو أنك رغم إسقاطك كل تفاصيل الحروب... وكل المفاوضات التافهة التي لم تكن سوى ألوان من الخبث واللؤم لا غناء فيها... ولو أنك رغم احتفاظك بتلك التفاصيل التي تصور العادات، استطعت أن تؤلفي من تلك الفوضى صورة عامة واضحة المعالم؛ ولو أنك اكتشفت في الأحداث "تاريخ العقل البشري" أفتعتقدين عندها أنك ضيعت وقتك هباء؟"(39).

وظل عاكفاً على مشروعه هذا على مراحل متقطعة مدى عشرين عاماً يقرأ بنهم، ويسجل المراجع، ويجمع الملاحظات، حتى إذا جاء عام 1739، وضع لمدام شاتليه "مجملا للتاريخ العام"؛ وفي 1745-46 طبعت أجزاء منه في صحيفة "لا مركير دفرانس". وفي 1750 أصدر "تاريخ الحروب الصليبية"؛ وفي 1753، في لاهاي، ظهر "المجمل" في مجلدين، وفي 1754 في ثلاثة، وأخيراً نشر النص الكامل بجنيف في 1756 في سبعة مجلدات بعنوان "مقال في التاريخ العام"، وكان يشمل "عصر لويس الرابع عشر" وبعض فصول تمهيدية عن الحضارات الشرقية. وفي 1762 أضاف "خلاصة لعصر لويس الرابع عشر" وثبتت طبعة 1796 العنوان النهائي للكتاب كالآتي: "مقال في أعراف الأمم وروحها منذ شرلمان حتى أيامنا هذه "وكلمة الأعراف moeurs لم تكن العادات والأخلاق فحسب، بل التقاليد والأفكار والمعتقدات والقوانين. ولم يغط فولتير دائماً كل هذه المواضيع، ولا دون تاريخ الثقافة، أو العلم، أو الفلسفة، أو الفن؛ ولكن كتابه كان مجموعة تناولا جزيئاً لتاريخ الحضارة من أقدم العصور حتى زمانه. والأجزاء التي عالجت تاريخ المشرق مقدمات موجزة، أما القصة الأكمل فتبدأ بشرلمان، حيث توقف كتاب بوسويه "حديث في التاريخ العالمي" (1679). كتب فولتير يقول "أريد أن أعرف ما هي الخطوات التي انتقل بها البشر من الهمجية إلى المدينة"-وهو يعنى الانتقال من العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة"(40).

وقد أثنى على بوسويه لمحاولته كتابة "تاريخ عالمي". ولكنه اعترض على تصور هذا التاريخ تاريخاً لليهود والمسيحيين، ولليونان والرومان في علاقاتهم بالمسيحية على الأخص. وهاجم إهمال الأسقف بوسويه للصين والهند، وفكرته عن العرب، أنهم مجرد زنادقة همج. وأقر بالجهد الفلسفي الذي بذله سلفه في البحث عن موضوع موحد أو عملية رابطة في التاريخ، ولكنه لم يستطيع موافقته على أن التاريخ يمكن تفسيره تدبيراً تسيره العناية الإلهية، أو برؤية يد الله في كل حدث كبير. فلقد رأى التاريخ -بدلا من هذا- المسيرة البطيئة المترددة التي خطا بها الإنسان، بفضل الأسباب الطبيعية والجهد البشري، من الجهل إلى المعرفة، ومن المعجزات إلى العلم، ومن الخرافة إلى العقل. ولم يستطيع رؤية أي خطة إلهية في دوامة الأحداث. وقد جعل من الدين المنظم شخصية "الشرير" في قصته، ربما انتفاضاً على بوسويه لأنه بدا له على العموم حليفاً للظلامية، ميالاً إلى الطغيان، مثيراً للحرب. وهكذا دفع فولتير حرصه على استنكار التعصب والاضطهاد إلى الغلو في تحميل قصته من جانب، غلو بوسويه في تحميلها من الجانب الآخر.

وفي منظوره العالمي الجديد الذي أتاحه له تقدم الجغرافيا بفضل تقارير الرواد، والمبعوثين الدينيين، والتجار، والرحالة، اتخذت أوربا مكاناً أكثر تواضعاً في لوحة التاريخ الواسعة. فقد أعجب فولتير بتلك "المجموعة من لمشاهدات الفلكية التي تجمعت خلال ألف وتسعمائة سنة متعاقبة في بابل، والتي نقلها الاسكندر إلى اليونان"(41) وخلص إلى أنه لا بد أن دجلة والفرات قد غنيا بحضارة راقية، لا تظفر عادة بأكثر من جملة أو جملتين في تواريخ كتاريخ بروسويه. وتأثر أكثر بعراقة الحضارة في الصين وانتشارها وتفوقها؛ ومع ذلك فإن هذه الأمة وأمة الهند، أقدم الدول الحية... اللتين اخترعتا كل الآداب والفنون تقريباً قبل أن نعرف واحداً منها، كان نصيبها الإغفال حتى يومنا هذا في تواريخنا التي نزعم أنها عالمية."(42) وقد طاب لهذا المقاتل عدو المسيحية أن يجد ويقدم للقراء الكثير من الحضارات العظيمة التي سبقت المسيحية بزمن طويل، والتي لم يكن لها أي علم بالكتاب المقدس، ومع ذلك أنجبت الفنانين، والشعراء، والحكماء، والقديسين، قبل مولد المسيح بأجيال كثيرة. وقد أبهج عدو السامية المرابي، الحانق، أن يختزل كثيراً ذلك الذي قامت به يهوذا في التاريخ.

على أنه بذل بعض الجهود لينصف المسيحيين. فليس كل البابوات في صفحاته أشراراً، ولا كل الرهبان طفيليين. ولم يضن على رجل كالبابا إسكندر الثالث بكلمة طيبة، فقد "ألغى العبودية الإقطاعية... ورد حقوق الشعب، وعاقب لؤم الرؤوس المتوجة"(43). وأعجب بالشجاعة الهائلة "التي اتصف بها بوليوس الثاني، وعظمة آرائه"(44) وتعاطف مع الجهود البابوية لإقامة سلطة أخلاقية تكبح حروب الدول ومظالم الملوك. واعترف بأن أساقفة الكنيسة، بعد سقوط الدول الرومانية الغربية، كانوا أكفأ الحكام في ذلك العصر الذي كان يضم أوصاله بعدما أصابها من تفكك. ثم: "في تلك العصور الهمجية، والناس غية في البؤس، كان من التعزيات الكبرى أن يجد المرء في الديورة ملاذاً آمناً من الظلم والطغيان(45).... ولا نكران في أن الدير كان يضم فضائل عظمى، فلم يكد يوجد دير لم يحو أفراداً جديرين بالإعجاب يشرفون الطبيعة البشرية. وقد طاب للكثيرين جداً من الكتاب أن ينبشوا عن المفاسد والرذائل التي لوثت أحياناً بيوت التقوى والصلاح هذه"(46).

ولكن فولتير، الذي تورط مع الموسوعيين المتحفزين للمعركة في حرب مع الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، أكد بوجه عام على أخطاء المسيحية في التاريخ، وهون من اضطهاد روما للمسيحيين، وسبق جيبون إلى اعتبار هذا الاضطهاد أقل تكراراً من اضطهاد الكنيسة للمهرطقين. ثم سبق جيبون أيضاً إلى القول بأن الدين الجديد أضعف الدولة الرومانية. وذهب إلى أن القساوسة اغتصبوا السلطان ببث التعاليم السخيفة بين الجهال والسذج، وباستعمال قوة الطقوس المنومة لإماتة العقل وتقوية هذه الأوهام. ورمى البابوات بأنهم بسطوا نفوذهم وجمعوا الثروات باستعمال وثائق مثل "هبة قسطنطين" التي يسلم الناس عموماً الآن بأنها زائفة وصرح بأن محكمة التفتيش الإسبانية، ومذبحة الأليجنس المهرطقين، هما أحط ما وعى التاريخ من أحداث.

وبدت له العصور الوسطى في العلم المسيحي فاصلا مقفراً بين جوليان ورابليه، ولكنه كان من أول من اعترفوا بدين الفكر الأوربي لعلم العرب وطبهم وفلسفتهم. وأشاد بلويس التاسع مثلا أعلى للملك المسيحي، ولكنه لم ير نبلاً في شرلمان، ولا فهماً في الفلسفة المدرسة (الكلامية)، ولا عظمة في الكاتدرائيات القوطية التي أنكرها لأنها "خليط غريب من الجلافة والتخريم" ولم يكن متوقعاً من روحه المطاردة أن تقدر دور العقيدة والكهانة المسيحيتين في تشكيل الخلق والفضائل وحفظ النظام والسلام في المجتمعات، وتشجيع كل الآداب والفنون تقريباً، وإلهام الموسيقى الرائعة، وتجميل حياة الفقراء بالمراسيم والأعياد والتراتيل والأمل. ولا عجب، فلقد كان إنساناً يخوض حرباً، ولا يستطيع إنسان أن يقاتل ما لم يتعلم الكراهية. والغالب وحده هو الذي يستطيع تقدير عدوه حق قدره.

أكان مصيباً في وقائعه؟ عموماً، ولكنه ارتكب أخطاء بالطبع، وقد نشر الأبيه نونوت مجلدين بعنوان "أغلاط فولتير"، وأضاف بعضاً من أغلاطه هو(47). ولكن روبرتسن، وهو مؤرخ كبير، أعجب بدقة فولتير عموماً في هذا الميدان الشاسع(48). ولما كان فولتير يغطي هذه المواضيع الكثيرة في هذه الأقطار الكثيرة خلال قرون كثيرة، فهو لم يدع أنه تقيد بالوثائق الأصلية أو المصادر المعاصرة، ولكنه استعمل مراجعه الثانوية بتمييز ووزن حكيم للشواهد. ورسم لنفسه قاعدة هي التشكك في أي شهادة تناقص "الحسن المشترك" أو الخبرة العامة للنوع الإنساني. ولا ريب في أنه كان معترفاً في أيامنا هذه بأن غرائب عصر ما قد تقبل في العصر الذي يليه على أنها أمور عادية، ولكنه وضع هذا المبدأ الهادئ، وهو "أن عدم التصديق هو الأساس لكل أنواع المعرفة"(49). وهكذا سبق بارتولد نيبور في رفضه الفصول الأولى لليفي لأنها من قبيل الأساطير، وسخر من قصة رومولوس، وريموس، والذئبة التي كانت لهما الأم الرؤم، وسخف مزاعم ليفي، واتهم تاسيتوس بالمبالغات الانتقامية في وصفه لرذائل طبباريوس، وكلوديوس، ونيرون، وكاليجولا؛ وارتاب في هيرودوت وسوتنيوس لأنهما مروجان للشائعات والأقاويل، وذهب إلى أن في بلوتارخ من الولع بالنوادر ما لا يجعله موضع الثقة الكاملة، ولكنه قبل توكيديدس، وزينوفون، وبوليبيوس، مؤرخين جديرين بالثقة. وتشكك في الأخبار التي كتبها الرهبان، ولكنه أثنى على دوكانج ونللمون "المدقق" ومابيون "العميق" ورفض أن يواصل التقليد القديم، تقليد الخطب الخيالية، أو التقليد الحديث، تقليد "اللوحات"التاريخية. وأنزل مكان الفرد في المجرى العام للأفكار والأحداث، وكان الأبطال الوحيدون الذين عبدهم هم أبطال العقل.

وقد ألمع فولتير في "المقال" وفي غيره إلى فلسفته في التاريخ دون أن يصوغها. وكتب "فلسفة للتاريخ" وقدم بها لطبعة من "المقال" في 1765. وكان ينفر من "مذاهب" الفكر، ومن كل المحاولات لاختزال الكون في صيغة أو قانون، ويعرف أن الحقائق أقسمت أن تكون خصماً أبدياً للتعليمات. ولعله أحس أن أي فلسفة للتاريخ ينبغي أن تلي سرد الأحداث وتنبع منه، لا أن تسبقه وتقرره. على أن استنتاجات عريضة انبعثت من روايته للتاريخ: فالحضارة سبقت "آدم" و"الخليقة" بآلاف السنين؛ والطبقة البشرية في جوهرها واحد في كل زمان ومكان، ولكن شتى العادات والتقاليد عدلتها تعديلا منوعاً، وأن المناخ والحكومة، والذين، هي العوامل الأساسية التي تقرر هذه الاختلافات، وأن دولة العادات والتقاليد أوسع كثيراً من دولة الطبيعة"(50) والاتفاق والمصادفة (في نطاق السلطات الشامل للقوانين لطبيعة (يلعبان دوراً هاماً في توليد الأحداث، والتاريخ لا تصنعه عبقرية الأفراد بقدر ما تصنعه الأفعال الغريزية التي تؤثر بها الجماهير البشرية في بيئتها؛ وهكذا تنتج، جزءاً فجزءاً، العادات، والأخلاق، والاقتصاديات، والقوانين، والعلوم، والفنون والآداب التي تصغ حضارة وتبعث روح العصر."إن هدفي الرئيسي هو دائماً ملاحظة روح العصر، لأنه هو الذي يوجه أحداث العالم الكبرى"(51). والتاريخ في جملته، كما فولتير في "تلخيصه"، قصة مرة محزنة (كما يكتب عموماً).

"لقد اجتزت الآن المشهد الضخم للثورات التي عرفها العالم منذ عهد شارلمان؛ فإلام كان اتجاهها؟ إلى الخراب، وخسارة ملايين الأنفس! فكل حدث كبير كان نكبة كبرى. ولم يحفظ لنا التاريخ وصفاً لعصور السلم والطمأنينة؛ فهو لا يروي غير الغارات المدمرة والكوارث... والتاريخ كله بإجاز، ليس إلا سلسلة طويلة من أعمال القسوة العقيمة... مجموعة من الجرائم، والحماقات، والنكبات، التقينا وسطها بين الحين والحين ببعض الفضائل، وبعض الأوقات السعيدة، أننا حين نرى أحياناً أكواخاً مبعثرة في صحراء مقفرة... وبما أن الطبيعة ألقت في قلب الإنسان الأنانية والكبرياء وجميع الأهواء، فلا عجب إذن... أن نلتقي بسلسلة من الجرائم والكوارث لا تكاد تنقطع"(52).

وهذه صورة مقبضة جداً وكأن صاحبها رسمها فيما بين أيامه النكدة في برلين، أو وسط ضروب الإهانة والقهر التي لقيها فرنكفورت. ولعل الصورة كانت تصبح أكثر إشراقاً لو أن فولتير أنفق صفحات أكثر على رواية تاريخ الأدب، والعلم، والفلسفة، والفن. أما والصورة قائمة إلى هذا الحد، فـإنا نتساءل: ما باله قد جشم نفسه كل هذه المشقة ليرسمها بهذا الإسهاب الشديد؟ ولعله كان يجيب: لكي يصدم القارئ حتى يتنبه ضميره وفكره، ويهز الحكومات حتى تعيد صياغة التعليم والتشريع لتكون ناساً أفضل. صحيح أننا لا نستطيع أن نغير الطبيعة البشرية، ولكنا نستطيع أن نعدل تصرفاتها بتقاليد وعادات أصح وشرائع أحكم. وإذا كانت الأفكار قد غيرت العالم، فلم لا تصنع الأفكار الأفضل عالماً أفضل؟ وهكذا خفف فولتير في النهاية من تشاؤمه بالأمل في نشر التعقل عاملا صابراً من عوامل النهوض بالبشر.

وسرعان ما نقد الناقدون ما في "مقال الأعراف"؛ من عيوب.فلم يقتصر الأمر على نونوت، بل إن لارشير، وجينيه، وكثيرين غيرهم نددوا بأخطاء الحقائق التي وردت فيه، ولم يعسر على اليسوعيين كشف التحامل لذي شوهه. واتفق معهم مونتسكيو في الناحية فقال "إن فولتير يشبه الرهبان الذين لا يكتبون من أجل الموضوع الذي يعالجونه، بل لمجد طائفتهم؛ إنه يكتب من أجل ديره."(53) ورد فولتير على نقاده بأنه أكد على أخطاء المسيحية لأن غيره ما زالوا يدافعون عنها؛ ثم استشهد بأقوال مؤلفين معاصرين امتدحوا الحروب التي شنت على الالبيجنس، وإعدام هس، بل مذبحة القديس برتلميو، فالعالم يحتاج ولا ريب إلى التاريخ يدمغ هذه الأفعال بالإجرام ضد الإنسانية والفضيلة(54). -وربما أخطأ فولتير في فهم وظيفة المؤرخ رغم كل فكرته المنيرة عن الكيفية التي ينبغي أن يكتب بها التاريخ، فلقد جلس في مجلس القضاء يحاكم كل شخص وكل حادث، ويصدر الأحكام كأنه "لجنة أمن عام" التزمت بحماية الثورة الفكرية ودفعها قدماً. وقد حكم الناس لا بلغة زمانهم الفاسد ومعرفتهم المحدودة، بل في ضؤ المعرفة الأوسع التي توافرت منذ أن ماتوا. وقد ألف فولتير "المقال" في أوقات متفرقة على مدى عشرين عاماً، وسط الكثير من المغامرات والشدائد التي شتتت انتباهه، لذلك افتقر هذا الكتاب إلى اتصال الرواية ووحدة الشكل، ولم يدمج أجزاءه تماماً في كل متماسك.

ولكن محاسن الكتاب لا تحصى. فرقعة معرفته هائلة، وهي شهادة ما بذله فيه مؤلفه من البحث الجاد المثابر. وأسلوبه المشرق، الذي أثقلته الفلسفة وخففته الفكاهة، رفعه إلى مرتبة دونها مرتبة أكثر كتب التاريخ فيما بين كاسيتوس وجيبون. وقد لطفت روحه الهامة من تحيزه، وما زال الكتاب ينبض بمحبة الحرية، والتسامح، والعدالة، والعقل. في هذا أيضاً أصبحت كتابة التاريخ فناً، بعد الكثير جداً من كتب الأخبار التي اتسمت بالغفلة وافتقرت إلى الحياة. وفي جيل واحد أحال ثلاثة كتب تاريخ أخر أحداث الماضي أدباً وفلسفة: "تاريخ إنجلترا" لهيوم، و"تاريخ حكم الإمبراطور شارل الخامس" لروبرتسن، و "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" لجيبون-وكلها مدينة لروح فولتير، ومن بعض الوجوه للمثال الذي ضربه. وقد نوه ميشليه بالكتاب فقال في عرفان بالجميل أنه."التاريخ" الذي صنع فن كتابة التاريخ كله، والذي أنجبنا كلنا، نقاداً ورواة على السواء(55). وليت شعري ما الذي نفعله نحن هنا إلا السير على درب فولتير؟ عندما وضعت حرب السنين السبع فرنسا في صف أعداء فردريك، انبعث حب فولتير الكامل لوطنه من جديد، ربما ممزوجاً بذكريات قديمة فرانكفورت وارتياب جديد في جنيف. فبعد دالامبير، وتراجع أكليروس جنيف عن الآراء الجريئة التي ربطهم بها المقال، أحس فولتير بأن الخطر عليه في سويسرا لا يقل عنه في فرنسا. فمتى يستطيع العودة إلى وطنه؟ وحالفه الحظ هذه المرة. ذلك أن الدوق دشوازيل الذي أمتعته قراءة كتب هذا الطريد المنفي عن بلده تقلد وزارة الخارجية في 1758، وبلغت مدام دبومبادور ذروة نفوذها رغم اضمحلال جسدها، وكانت قد عفت عن حماقات فولتير؛ واستطاعت الحكومة الفرنسية الآن، والملك يلهو وسط حريمه، أن تغض عن عودة الزنديق الرهيب إلى فرنسا. ففي أكتوبر 1758، انتقل ثلاث أميال ونصفاً خارج سويسرة، وأصبح سيد فيرنيه. وكان في الرابعة والستين، لم يزل قريباً من الموت كما قال من قبل، ولكنه اختصم أقوى دوله في أوربا في أخطر صراعات القرن.