قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 3 ف 13
صفحة رقم : 12243
قصة الحضارة -> عصر فولتير -> أوروبا الوسطى -> فردريك الأكبر وماريا تريزا -> استهلال إمبراطوري
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثالث عشر: فردريك الأكبر وماريا تريزا
1- استهلال إمبراطوري 1711-1740
يبدو أن فولتير كان أول من لقب فردريك بـ "الأكبر" منذ عام 1742(1) Frederiv Le Grand وكانت العبارة جزءاً من ميثاق الإعجاب المتبادل دام عشرة سنين بعد ذلك التاريخ. ولكن إذا جاز التاريخ أن ينحو نحو الشاعر هويتمان في التهليل للمهزومين بنفخ الأبواق، حق له أيضاً أن يلقب ماريا تريزا بالكبرى، لأنها كانت واحدة من عدة ملكات فقن في العصور الحديثة معظم الملوك وأزرين بهم.
ولنبدأ حديثنا عنها من خلال خليفتها. فقبل أن تولد بست سنوات ارتقى أبوها الهابسبورجي (1711) عرش "الأمبراطورية الرومانية المقدسة" وتسمى شارل السادس. وكان رأي فولتير في هذه الدولة أنها لا تملك واحدة من هذه الصفات الثلاث، ولكنها لا تزال إمبراطورية، تكسوها مهابة تسعة قرون. وضمت هذه الدولة التي حكمت من فيينا حكماً واهناً النمسا، والمجر، وبوهيميا (تشكسلوفاكيا) واستراليا، وكارنثيا، وكارنيولا، والتيرول؛ وفي 1715 بسطت سلطانها على الأراضي المنبسطة الإسبانية السابقة، التي نعرفها الآن باسم بلجيكا، ولم تكن الدويلات الألمانية فيها خاضعة للإمبراطور إلا بالاسم، أما المدن الحرة الألمانية فقد اعترفت بسلطته في شئونها الخارجية، وكانت بوهيميا الآن في اضمحلال، فقد أشاع فيها الفوضى التعصب الديني واستغلال الملوك الغائبون عن أرضها وأكثرهم يتكلمون لغة أجنبية، أما المجر فكانت قد عانت من كونها أهم منطقة للصراع ين المسيحيين والعثمانيين، عبرها أكثر من عشرة جيوش واستهلكوها؛ وتقلص عدد سكانها، واستشرت الفوضى في حكومتها. ورفضت طبقة من النبلاء كبيرة العدد حربية النزعة، لم تعد مجرية الجنس إلا في قسم منها، أن تدفع الضرائب الإمبراطورية، وكرهت الحكم النمساوي. ولم يكن يملك أرضاً في المجر سوى النبلاء والكنيسة، فقسماها ضياعاً شاسعة يفلحها الأقنان، وجنيا منها الدخول التي بنيا بها كبار الأديار والقلاع والقصور، ورعيا الموسيقى والفن. وكان بعض النبلاء يمتلك خمسين ألف فدان للواحد، وكانت أسرة استرهازي تملك سبعة ملاين فدان(2).
أما النمسا نفسها، اكبر المستفيدين في الإمبراطورية، فكانت تنعم بالرخاء. فبينما لم يزد سكان المجر على مليونين، بلغ سكان النمسا زهاء 6.100.000 في 1754 زادوا إلى 8.500.000 في 1800. وفيها هي أيضاً كانت الأرض ملكاً للنبلاء أو الأكليروس يفلحها الأقنان؛ وقد عمرت القنية في النمسا حتى 1848. وكان شأن الضياع فيها شأنها في إنجلترا يحتفظ بها ملوكها كاملة بحق البكورة، الذي يقضي بأن تورث الأرض كلها للابن البكر، أما الأبناء الأصغر منه فيعوضون بوظائف في الجيش، أو الكنيسة، أو الإدارة؛ وهكذا بلغت حاشية الإمبراطور شارل السادس أربعين ألفاً، ولم يكن في النمسا طبقة وسطى غنية تتحدى سلطان الأرستقراطية الطاغي أو تخفف من دمها الأزرق. وكانت الزيجات مسألة بروتوكول. وأبيحت الخليلات والعشاق بقانون غير مكتوب، على ألا يجاوز هذا نطاق الطبقة. وقد كتبت الليدي ماري مونتاجيو من فيينا في 1716، ربما بما يعهد في الرحالة من مبالغات، فقالت:
"من العادات الراسخة أن يكون لكل سيدة نبيلة زوجان، إحداهما حامل الإسم والآخر القائم بالواجبات، وهذه الارتباطات معروفة جداً حتى أن القوم يعدونها إهانة صريحة تشجب علناً أن تدعو امرأة من علية القوم إلى الغداء دون أن تدعو في الوقت ذاته تابعيها هذين... العشيق والزوج اللذين تجلس هي بينهما رسمياً في وقار شديد... والمرأة تتطلع إلى عشيق حالما تتزوج باعتباره جزءاً من حاشيتها(3). وكانت الطبقة الأرستقراطية، في جميع أرجاء هذه الدولة التي كانت تتحول الآن إلى إمبراطورية نمساوية-مجرية تعمل ويدها في يد الكنيسة. ولعل النبلاء تقبلوا اللاهوت الكاثوليكي في شئ من التحفظ والارتياب، وكان العديد منهم ماسونا(4). ولكنهم سخوا شاكرين على دين أعان بمثل هذه السماحة أقفانهم وبناتهم المجردات من المهور على الرضى بنصيبهم في هذه الدنيا تعللاً بالآخرة. وكان تنوع العقائد كفيلا بتشويش هذه العملية لو أبيح لأنه مفض إلى الجدل والشك، أما التسامح الديني فهو ولا ريب من خطل السياسة. وقد جعل فيرميان رئيس أساقفة سالزبورج الحياة في رئاسة أسقفيته عسيرة على البروتستنت عسراً حمل ثلاثين ألفاً منهم على الهجرة، فنزح معظمهم إلى بروسيا (1722-23)(5) حيث شدوا من أزر عدو النمسا الصاعد. كذلك أسهمت هجرات أو حركات طرد مماثلة من بوهيميا في الاضمحلال الاقتصادي لتلك الدويلة التي كانت يوماً ما تعتز باستقلالها، وعملت على تقدم ألمانيا البروتستنتية.
وشارك الأغنياء والفقراء في تمويل عمارة العصر الكنيسة. ففي براغ أكمل كيليان اجناز دينتسنهوفر أعظم المعمارين التشيكيين، في عمارة ضخمة فخمة، كنيسة القديس نيقولا التي بدأها كريستوف دينتسنهوفر. وترك يوهان برنارد فيشر فون إرلاخ، أعظم المعماريين النمساويين، بصمته على سالزبورج، وباغ، وروما، وشيد هو وابنه يوزف إيمانويل رائعة من الباروك في كنيسة القديس شارل بفينا. وأبرزت الأديار الفخمة مجد الله ورفاهيات العزوية. فكان هناك مثلاً الدير البندكتي في ملك على الدانوب حيث نشر ياكوب برانتاوير ومساعدوه(6) مجمعاً يشتمل على مبان، وأبراج، وقبة، وفي داخله القصور الفخمة والأعمدة الرائعة، والزخرفة الفاخرة. وهناك دير القساوسة الأوغسطينيين القديم في دورنشتين الذي أعاد بناءه(7) بالباروكة الأنيق يوزف مونجناشت؛ ويلاحظ أن أهم مفاخره -البوابة الرئيسية والبرج الغربي- من إنتاج متياس شتايندل، وهو مثال اتجه إلى العمارة وهو في الثامنة والسبعين. وهناك كنيسة الدير البندكي وكتبته في آلتنبورج (وبانيهما هو مونجناشت أيضاً) وهما مشهورتان بالزخارف المترفة. وهناك دير الرهبان البندكتين في تسفيتل، وهو من آثار القرن الثاني عشر، وقد أقام فيه مونجناشت وشتايندل واجهة جديدة وبرجاً ومكتبة(9). أما الخورس الرائع فكان من صنع مايستريوهان في 1343-48؛ هنا أظهر الطراز القوطي القديم تفوقه على الباروك الجديد. ثم هناك دير ستامز في التيرول الذي أعاد بناءه(10) جيورج جومب، والذي تميزه المصبعات الحديدية والزخارف الجصية في بيت سلم "الأحبار"؛ وهنا كان يدفن أمراء الهايسبورج. وهناك كنيسة الدير في هوتسوجنبورج، وهي الرائعة التي أبدعها فرانتس بن يوزف مونجناشت، في حياته القصيرة (1724-48). وهناك كنيسة الدير في فيلليرنج، التي قيل فيها أنها "أبدع بناء بطراز الروكوك في النمسا"(11). ونلاحظ في مرورنا هنا الأرغن الرائعة في هذه الكنائس كالتي في هوتسوجنبورج وفيلليرنج، والمكتبات الجميلة؛ ومن نماذجها مكتبة الدير البندكتي في آدمونت، المحتوية على 94.000 مجلد، 1.100 مخطوطة في هيكل من الزخرف الباروكي. لقد كان رهبان النمسا في قمة مجدهم في عصر الإيمان المتداعي الذي نحن بصدده.
وقد جارهم النبلاء بنفس الخطو. ففي النمسا والمجر، كما في ألمانيا، كان كل أمير يتوق إلى ضريب لفرساي؛ ومع أنه عجز عن منافسة ذلك البهاء المفرط فإنه جمع من الأسلاب ما أتاح له بناء "قصر" palais (كما كان يسميه) يعكس كل جانب ومظهر فيه سمو مكانته. فشاد أوجين أمير سافوي قصراً صيفياً على مستويين في ضيعته خارج فيينا "بلفدير واطئ" (وهو الآن متحف الباروك) و "بلفدير عالي" وضع تصميمهما الجميل يوهان لوكاس فون هلدبرانت. وصمم يوهان برنارد فيشر فون إرلاخ قصر الأمير الشتوي (وتشغله الآن وزارة المالية) كذلك وضع تصميمات لقصر شونبرون وحدائقه لينافس بهما فرساي، ولكن البناء الفعلي الذي بدأ في 1696 أغفل هذه التصميمات أو خفف منها أثناء تنفيذه. وصمم فيشرفون إرلاخ وابنه يوزف إيمانويل المكتبة الإمبراطورية-وهي المكتبة القومية الآن-التي يرى أخصائي في فن الباروك أن بها أبدع بناء داخلي لأي مكتبة في العالم(12). وفي 1726 فتح شارل السادس هذا الكنز للجمهور وفي 1737 اشترى لها مجموعة المخطوطات والكتب الهائلة التي كان يمتلكها أوجين أمير سافوي. لقد كانت فيينا، إلى حد كبير، أجمل مدينة في دولة الجرمان.
وقد جمل اكثر العمارة النمساوية بالنحت. ونذكر هنا بجهل خجول تمثال "المسيح المصلوب" الخشبي الذي صنعه أندريه تاماش في دير شتامز، وتمثال الإمبراطور فرانسيس الأول الرخامي الذي تحته بلقازا مول والمعروض في متحف الباروك بفيينا؛ وفي وسعنا أن نستشعر على البعد تفاني يوزف شتامل في فنه، إذ أنفق معظم حياته في تجميل دير آدمونت بالتماثيل. ولكن كيف يغتفر لنا كل هذا الإبطاء في التنويه بجيورج رافائيل دونير مثالا لا يفوقه بين مثالي العصر غير برنتيتي؟ فقد ولد في اسلنجن بمنخفضات النمسا (1693) وتلقى فنه على يد جولياني؛ وبفضل هذه الوصاية الإيطالية اكتسب الميل الكلاسيكي الذي أتاح له تنقية ما في الباروك النمساوي من إسراف. على أن تمثاله الرخامي "تمجيد شارل السادس"(13) ما زال يعاني من غرابة الباروك وشططه-ففيه يرى الإمبراطور وقد رفعه إلى السماء ملاك له ساقان خميلتان وثديان متألقان؛ ومع ذلك فنحن شاكرون للفن أن أعاد للصاروفيم (الملاك) شيئاً ملموساً-وهو الذي خالته الفلسفة مجرداً من الجسد. ومن آيات دونير الجديرة بعصر النهضة تمثاله "القديس مارتن والشحاذ" في كاتدرائية برسبورج (براتيسلافا)، ولمنحوتته الرخامية البارزة "هاجر في البرية"(14) جمال كلاسيكي ناعم. وقد بلغ أوجه في التماثيل التي صبها من الرصاص لنافورتين كبيرتين في فيينا: نافورة "العناية الإلهية" في السوق الجديدة، التي تمثل أنهار النمسا، ونافورة أندروميدا التي تنافس نافورة روما. وقبل أن يموت في 1741 بعام بالضبط صب لكاتدرائية جورك مجموعة تمثل بكاء مريم على جسد المسيح؛ وهي مجموعة كانت خليقة بأن تشيع البهجة في صدر رافائيل لأن دونير اتخذ اسمه.
ولم ينتج المصورون ولا الشعراء في هذا العصر في النمسا أو ممتلكاتها أي آثار تثير اهتمام العالم الخارجي، وربما يستثنى من هذه القاعدة الصور الجصية التي صورها دانيل جران داخل قبة المكتبة الكبرى في فيينا. أما في الموسيقى فقد كانت فيينا المركز المعترف به للعالم الغربي. وكان شارل السادس يعشق الموسيقى عشقاً لا يعلو عليه سوى حبه لبناته وعرشه. وقد لحن هو نفسه أوبرا، وصاحب فارينيللي عازفاً على البيان القيثاري، وقاد البروفات. وجلب لفيينا خيرة المغنين، والعازفين، والممثلين، ورسامي المناظر المسرحية، دون أن يعبأ بالتكاليف. وفي إحدى المناسبات أنفق -فيما قدرت الليدي ماري- ثلاثين أف جنيه ليخرج أوبرا واحدة(15). وبلغ عدد المرتلين والعازفين في فرقة كنيسته 135. وأصبحت الموسيقى "إمبراطورية"، أو على الأقل أرستقراطية. وفي بعض الأوبرات كان جميع المشاركين-ساء العازفين المفردين، أو الكورس، أو الباليه، أو الأوركسترا-أفراداً من الطبقة الأرستقراطية. وفي إحدى هذه الحفلات كانت تقوم بالغناء في الدور الرئيسي الأرشيدوقة ماريا تريزا(16).
وقبل أعظم كتاب نصوص الأوبرا في ذلك العهد الدعوة إلى فيينا. فأقبل أبوستولو زينو من البندقية في 1718، وعمل شاعراً لبلاط شارل السادس، وفي 1730 اعتزل في لطف مخلياً مكانه لبيتروتراباسي، النابولي الذي كان قد تسمى من جديد، "ميتاستاسيو". وفي السنوات العشر التالية كتب ميتاستاسيو-بالإيطالية دائماً-مسرحيات شعرية بلغ من قدرتها على إثارة العواطف أن كبار ملحني أوربا الغربية أسعدهم أن يلحنوها. ولم يضارعه أحد في تكييف الشعر وفق مطالب الأوبرا - أي في ملاءمة موضع نصه، وحركته، ومشاعره، لمقتضيات المغنين المنفردين، والثنائيين، والمقاطع الملحونة، والكوارس، والباليهات، والمناظر المسرحية؛ ولكنه فرض لقاء ذلك على الملحنين التوافق الإيقاعي بين موسيقاهم ومسرحيته. وعظم نجاحه حتى خشي فولتير أن تطرد الأوبرا الدراما من المسرح، وقال "إن هذا الوحش الجميل يخنق مليومين (ربة التراجيديا)"(17).
وتربع شارل السادس على عرش كل هذه الموسيقى، والفن، والبلاط المتعدد اللغات، والإمبراطورية، بيد مبسوطة، وقلب رحيم، وحزن رجل الحرب. ذلك أن قواده لم يستطيعوا أن يتبعوا عصا قيادته، وحين طالبهم بأغاني الفرح لم يعطوه غير المآسي. لقد جرت ريح الحرب مع النمسا رخاء ما دام أوجين أمير سافوي محتفظاً بقوة ذهنه وسلطانه، وهو الذي شارك ملبره صد جيوش لويس الرابع عشر؛ فانتزعت بلغراد من العثمانيين، وسردانيا من سافوى، وميلان ونابلي والأراضي المنخفضة الإسبانية من أسبانيا. ورقي أوجين لا قائداً عاماً لجميع الجيوش النمساوية فحسب، بل وزيراً أول ومديراً للدبلوماسية. والواقع أنه بسط سلطانه على كل شئ إلا الأوبرا، ولكنه- وقد أذعن للناموس الذي يبلي أجساد البشر-أصاب الوهن عقله لا جسمه فحسب. وفي حرب الوراثة البولندية(1733-35) انزلقت النمسا إلى صراع مع فرنسا، وإسبانيا، وسافوي (التي كانت تعرف آنئذ بمملكة سردانيا الصغيرة) وخسرت اللورين، ونابلي، وصقلية (1735-38)، وأسفر تحالفها مع روسيا عن حرب أخرى مع تركيا؛ وضاعت منها البوسنة، والصرب، والأفلاق، وعادت بلغراد تركية من جديد (1739). ولم يؤت الإمبراطور من المواهب ما يعوض به المواهب التي افتقدها معاونوه. وإليك رأى فردريك الأكبر فيه:
"أخذ شارل السادس من الطبيعة الصفات التي تصنع المواطن الصالح، ولكنه لم يأخذ صفة من تلك التي تصنع الرجل العظيم. كان سمحاً دون تمييز، له روح محدودة دون بصيرة ثاقبة؛ وكان قادراً على الانكباب على العمل، ولكن دون عبقرية، يجهد نفسه دون أن ينجز الكثير، ويجيد معرفة القانون الألماني، وعدة لغات، وقد نبغ في اللاتينية على الأخص. وكان أباً صالحاً وزوجاً صالحاً، ولكن شابه ما شاب جميع أمراء البيت المالك النمساوي من تعصب وميل للخرافة"(18).
وكان عزاءه وفخره في كبرى بناته ماريا تريزا، التي وطد العزم على توريثها عرشه: ولكن أباه ليوبولد الأول كان قد أبرم (1703) "ميثاقاً متبادلاً للوراثة" تقرر فيه أن يحكم الوراثة مبدأ حق الابن البكر؛ فإذا لم يوجد وريث ذكر انتقل التاج إلى بنات ابنه جوزيف (المولود في 1678) ثم إلى بنات ابنه شارل(المولود في 1685). وترك موت جوزيف الأول في 1711 دون وريث ذكر(ولكن بابنتين على قيد الحياة) التاج لشارل. وفي 17143 بمقتضى "أمر عال" أصدره شارل لمجلسه الخاص، أعلن مشيئته بأن ينتقل عرشه وأملاكه الشخصية بعد وفاته إلى أكبر أبنائه الحي، فإذا لم يكن هناك ابن على قيد الحياة فإلى كبرى بناته. وقد ولد ابنه الوحيد ومات عام 1726. وبعد أن انتظر شارل عبثاً إنجاب آخر، ناشد الدولة الأوربية أن تتفادى نشوب حرب وراثة بقبولها وضمانها الجماعي لنظام الوراثة الذي وضعه. وفي الأعوام الثمانية التالية قبلت أمره العالي أسبانيا، وروسيا، وبروسيا، وإنجلترا، وهولندا، والدنمرك، وإسكندناوه وفرنسا.
ولكن مصاعب نشبت فصنعت كثيراً من التاريخ. ذلك أن سكسونيا وبافاريا كان على قيد عرشيهما أميران متزوجان من ابنتي جوزيف أخي شارل، فطالبا الآن بوراثة عرش الإمبراطورية عملا بميثاق ليوبولد الأول، أما فردريك وليم الأول ملك بروسيا فوافق على أساس تأييد شارل له في مطالبته بجزء من دوقيتي يولش وبيرج ويبدو أن شارل وافق على هذا الشرط ولكن سرعان ما بذل لمنافسي فردريك ليم وعوداً عكس هذا الوعد. وعليه انضم ملك بروسيا إلى أعداء الإمبراطور(19).
وفي 1736 تزوجت ماريا تريزا من فرانسس ستيفن، دوق اللورين، وغراندوق توسكانيا فيما بعد (1737)، وهي في الثامنة عشرة من عمرها. وفي 20 أكتوبر 1740 مات شارل السادس، مختتماً بموته فرع الذكور في بيت هابسبورج. واعتلت ماريا تريزا العرش بوصفها أرشيدوقة النمسا وملكة بوهيميا والمجر. وأصبح زوجها شريكاً لها في الحكم، وإذ لم يبد كبير اكتراث بشئون الدولة أو كفاءة تذكر للقيام عليها فقد وقع عبء الحكم كله على عاتق الملكة الشابة. وكانت في عام 1740 تملك كل مفاتن الأنوثة والملك؛ قسمات بديعة، وعيون زرق متألقة، وشعر أشقر غزير، ورقة في السلوك، وخفة في الحركة، ومتعة العافية، وحيوية الشباب(20). وكان ذكاؤها وخلقها يفوقان هذه المفاتن كلها قصراً عن التصدي للمشكلات التي أحدقت بها من كل جانب. وكانت الآن حاملاً في شهرها الرابع بالطفل الذي سوف يخلفها باسم جوزيف الثاني "المستبد المستنير". ونازعها حقها في العرش كل من شارل ألبرت ناخب بافاريا، وفردريك أوغسطس الثاني ناخب سكسونيا، وناصر حزب قوى في فيينا القضية البافارية، ولم يكن هناك تأكيد بأن المجر ستعترف بها ملكة عليها، ولم تتوج بهذا الوصف حتى 24 يونيو 1741. أما خزانة الإمبراطورية فخاوية إلا من 100.000 فلورين، زعمت الإمبراطورة أرملة شارل السادس أنها ملك لها. وكان الجيش مختل النظام، وقواده تعوزهم الكفاية. وكان مجلس الدولة مؤلفاً من أعضاء مسنين فقدوا القدرة على التنظيم أو القيادة. وانتشرت الشائعات بأن العثمانيين سيزحفون مرة أخرى على فيينا بعد قليل(21). وطالب فليب الخامس ملك أسبانيا بالمجر وبوهيميا، وملك سرداينا بلمبارديا ثمناً لاعترافهما بها(22). أما فردريك الثاني الذي أصبح ملكاً على بروسيا قبل تولي ماريا تريز العرش بخمسة شهور فقط، فقد بعث إليها يعرض الاعترافات بها والدفاع عناه ودعم انتخاب زوجها إمبراطوراً، شريطة أن تنزل له عن الشطر الأكبر من سيليزيا، فرفضت العرض، ذاكرة ما كان أبوها يرجوه من بقاء المملكة سليمة لا تجزأ ولا يمسها سؤ. وفي 23 ديسمبر 1740 غزا فردريك سيليزيا، ووجدت المملكة ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً نفسها تخوض حرباً مع أقوى دولة في ألمانيا، ومع الرجل الذي قدر له أن يكون أعظم قائد في عصره.
2- استهلال بروسي 1713 - 1740
أ- فردريك وليم الأول
كانت أسرة هوهنتسلرن قد نجحت في رفع إمارة برندنبورج الناخبة إلى مملكة بروسيا في 1701، وأصبح أميرها الناخب ملكاً باسم فردريك الأول. وقد أوصى بأن يرث ملكه بعد موته ابنه فردريك وليم الأول (حكم 1713-40). وكان الملك الجديد، عن طريق زوجته صوفيا دورتيا، صهراً لجورج الأول الذي ارتقى عرش إنجلترا في 1714. وكانت أملاك بروسيا تشمل بروسيا الشرقية، وبومرانيا السفلى، وإقليم الحدود المسمى برندنبورج (والمحيط برلين) وإقليم كليفز في غربي ألمانيا، وكونتية مارك، ومدينة رافنزبيرج في وستفاليا: وكلها أخلاط مفككة من البلاد تمتد امتداداً متقطعاً من الفستولا إلى الألب، ولا تربط بينها غير قوات الملك. وبلغ سكان "بروسيا" هذه في 1740 نحو 3.300.000 زادوا إلى 5.800.000 في نهاية القرن، أما بنيانها الاجتماعي فكان إقطاعياً في أساسه: فلاحون يدفعون الضرائب والفروض الإقطاعية، وطبقة وسطى ضعيفة، وطبقة نبلاء تطالب بإعفائها من الضرائب ثمناً لتزويد الملك بالعون الحزبي. وكانت رغبة فردريك وليم الأول في التحرر من الاعتماد على هؤلاء النبلاء بعض ما دعاه إلى تنظيم جيش دائم سيقرر التاريخ السياسي لأوربا الوسطى طوال نصف قرن.
كان فردريك وليم حاكماً شاذاً شذوذ ابنه الأشهر منه، الذي يرجع معظم الفضل في انتصاراته لجيش أبيه. ولم يوهب الوالد ولا الولد شخصية جذابة ساحرة، ولم يسترضي إحداهما العالم بجمال طلعته أو لطف ابتسامته، بل واجهه كلاهما بسحنة آمرة صارمة تسوس الجيوش: كان الأب قصيراً بديناً، له وجه متورد تحت قبعة مثلثة، وعينان تنفذان إلى صميم كل زيف وصوت يعلن عن إرادة صاحبه، وفكان على استعداد لطحن كل مقاومة. وإذ كان شهية طيبة دون أن يكون ذواق للطعام، فقد طرد طاهيه الفرنسي، واكل طعام الفلاحين؛ وكان يستهلك الكثير في وقت قصير دون احتفال يذكر لأنه كان في شغل عن هذا بعمله. ورأى نفسه سيد الدولة وخادمها، فعكف على تصريف شئون الحكم في أمانة وسخط، لأنه وجد فيها الكثير المعوج المنحرف، فأقسم أن يقومه بالقوة. واختصر إلى النصف عدد كبار الموظفين المغرورين الذين عطلت سلطاتهم المتضاربة عمل الحكومة، وباع ما ورثه من مجوهرات، وخيول، وأثاث فاخر، واختزل مظاهر بيت الملك إلى بساطة بيت المواطن من أهل المدن، وجمع الضرائب أينما أمكن تنميتها، وخلف لفردريك الثاني خزانة مملوءة إلى حد مغر.
وأراد من كل إنسان أن يكد ويكدح مثله، فأمر موظفي البلديات بأن يراقبوا أخلاق السكان، ويبشروا بالجد والاقتصاد، وأن يؤدبوا المتشردين بالأشغال الشاقة وبسط إشراف الدولة على التجارة والصناعة، ولكنهما وجدتا التشجيع في تحسن حال القنوات والطرق. وفي 1722 أصدر الملك اليقظ أمراً يقرر التعليم الإلزامي ففرض على كل أبرشية أن تمول مدرسة، فما وافت سنة 1750 حتى كانت بروسيا تتصدر أوربا كلها في التعليمين الابتدائي والثانوي(23). وألقيت البذرة لعصر كانت وجيته.
وحين تبين فردريك ويم أن الأتقياء من الناس يعملون بأثبت مما يعمل الشكاك، أيد الحركة التقوية. وتسامح مع الكاثوليك على مضض وأخبر الكلفنيين بأن يكفوا عن التبشير بكآبة مذهبهم الجبري، وأمر اللوثرين بأن يستعملوا الألمانية بدل اللاتينية في طقوسهم، وأن يقلعوا عن ارتداء المدرعات "والبطرشيلات" وعن رفع القربان أمام المصلين، باعتبار هذه كلها من مخلفات البابوية. ولما أكره رئيس أساقفة سالزبورج خمسة عشر ألف بروتستنتي على الهجرة، رحب بهم فردريك وليم وأقرضهم المال رحلتهم التي قطعوا فيها خمسمائة ميل، وأجر لهم الأراضي (ولم تكن من خيرة أرضه) إلى أن تؤتى أرضهم غلاتها. واستقدم خمسة عشر ألف مهاجر آخرين من سويسرا والدويلات الألمانية. وهكذا ردت بروسيا إلى الحياة الاقتصادية بعد أن دمرتها حرب الثلاثين.
كانت الرغبة العارمة التي دفعت الملك إلى هذا النشاط هي تأمين الأمة في عالم لا يكف عن الحرب. فحين تقلد فردريك وليم السلطة كانت الحرب الشالية الكبرى ما تزال مستقرة، تشتبك فيها السويد، وروسيا وبولندا، والدنمرك، وسكسونيا، وبعد قليل إنجلترا، وكانت العبرة الواضحة من هذه الحرب أنه لا غنى عن جيش قوي للسلم، وسط عالم يسوده السطو المؤمم. وكان ملك بروسيا تواقاً إلى الحصول على ستتن ثغراً لتجارة برلين، فاشتراها بمبلغ 400.000 طالر من الدول التي انتزعها من شارل الثاني عشر. ولكن شارل رفض عقب عودته من تركيا أن يعترف بهذا البيع لبضاعة مسروقة، فعرض فردريك وليم أن يردها للسويد نظير الـ 400.000 طالر التي دفعها، ولم يكن شارل يملك المال، ولكنه أصر على استرداد ستتن، فأعلنت بروسيا الحرب عليه (1715) وانضمت إلى أعوانه في حصار شترالزوند. وفر شارل إلى السويد ونصف العالم ضده، وأدركه الموت هناك. وعاد فردريك وليم إلى برلين وستتن في جيبه، وبريق الانتصار في عينيه.
بعد هذا أصبح الجيش شغله الإداري الشاغل. ولم يكن بالرجل العسكري النزعة تماماً، ولا كان مقاتلا قط، ولم يخض حرباً بعد ذلك بتاتاً، ولكنه عقد العزم على ألا يخوض أحد حرباً ضده وهو في مأمن. فلقد كان هذا الرجل الذي بنى أشهر جيش في ذلك القرن "من أعظم الملوك حباً للسلام"(24) وهو القائل "أن مبدئي ألا أؤذي أحداً، على ألا أسمح بأن يستهين بي أحد"(25) ومن ثم راح يجمع الجند، ويطلب أطول من يجد منهم قامة في ولع شديد؛ وكان يكفي للظفر بمودته أن يرسل له إنسان رجلاً طوله ستة أقدام على الأقل وكان الملك يسخو في دافع ثمنهم ويبتهج قلبه لقوامهم الفارع. ولم يكن أكثر جنوناً بالجيوش من زملائه الملوك، إلا فيما يتصل بطول الجندي. فقد كان لفرنسا مثلاً في 1713 من الجند النظاميين 160.000، ولروسيا 130.000، وللنمسا 90.000(26). ولكي يرفع فردريك وليم عدة جيشه إلى 80.000 في بلد لا يزيد سكانه على ثلاثة ملايين، جند الجند من الخارج وفرض التجنيد الإجباري في أرض الوطن، وقاوم الفلاحون وسكان المدن الإكراه على الخدمة العسكرية، فكانوا يؤخذون بالحيلة أو القوة؛ وحدث مرة أن اقتحم ضابط من فرق التجنيد كنيسة وساق أطول الرجال وأقواهم رغم توسلاتهم(27). (ولنذكر أننا نحن أيضاً نفرض التجنيد الإجباري) وكان الرجال إذا انخرطوا في سلك الجندية يجدون الرعاية الطيبة، ولكنهم أخضعوا لنظام قاس وتدريب شاق؛ وكان الجلد هو العقاب حتى لصغار الذنوب.
وطبق التجنيد الإجباري على النبلاء أيضاً، ففرض على كل نبيل سليم البدن أن يخدم في الجيش ضابطاً ما دام يطيق الخدمة العسكرية. وكان هؤلاء الضباط يدربون تدريباً خاصاً، ويخصهم الملك بالتكريم. فأصبحوا طبقة حاكمة يحتقرون التجار، والمعلمين، ورجال الدين، والطبقات الوسطى عامة، وينظرون إليهم نظرتهم إلى طبقات دنيا مستضعفة، وكثيراً ما كانوا يعاملونهم بوقاحة وتفاخر، أو بوحشية وضراوة. ولكنهم دربوا المشاة والمدفعية والفرسان في تشكيلات دقيقة وحركات طيبة لم يعرفها قط أي جيش حديث آخر في أغلب الظن. وشارك الملك ذاته في هذه المناورات العسكرية، وأشرف على تدريب جنوده في تدقيق وحب؛ فلما ولى فردريك الثاني العرش وجد تحت إمرته قوة الرجال مهيأة للخدع الحربية والغنائم، متجاهلة في لحظة كل دروس السلام التي تعلمها الأمير من الفلسفة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ب- فرتز الصغير
كان "جاويش تدريب الأمة البروسية العظيم" (كما وصف كارليل فردريك وليم الأول)(28)، أباً لعشرة أطفال أكبرهم فلهلمينا. والمذكرات التي خلفتها عند وفاتها (1758) هي أكثر مصادرنا مباشرة ووثوقاً عن تاريخ أخيها الباكر. وربما أسهبت بتركيز انتقائي في ذكر قسوة مربيتها، وأنانية أمها الجافية، ووحشية أبيها، وأوامره الاستبدادية في أمر زواجها، ومعاملته الصارمة للفتى فرتز الذي أحبته مفخرة وعزاء لحياتها(29). قالت "لم يوجد حب نظير حبنا الواحد للآخر لقد أحببت أخي حباً جماً وحاولت على الدوام أن أدخل السرور على قلبه"(30). وكان فردريك، المولود في 24 يناير 1712، يصغرها بثلاثة أعوام. ولم يرضى عنه أبوه ولا أمه. قد جهدا ليصنعا منه قائداً وملكاً، أما هو فأبدى كل إمارة على أنه سيصبح شاعراً وموسيقياً. وبين أيدينا التعليمات التي أعطاها فردريك وليم لمعلمي ولده. قال: "اغرسوا في ولدي ما يجب من محبة الله وخشيته باعتبارهما الأساس والركن الركين لخيرنا الزمني والأبدي. فلا تذكروا على مسمعه أبداً أي أديان زائفة أو مذاهب إلحادية، أو أريوسية، أو سوسينية، أو ما شاكل ذلك من أسماء لهذه السموم التي تستطيع إفساد العقل الحدث بسهولة كبيرة (وقد أصبح فردريك كل هؤلاء). ومن ناحية أخرى يجب أن يعلم ما يجب من استنكار للبابوية وبصر بما تفتقر إليه من أساس وما فيها من سخف...
وليتعلم الأمير الفرنسية والألمانية... دون اللاتينية... وعلموه الحساب، والرياضة، والمدفعية، والاقتصاد، بتعمق... والتاريخ على الأخص... وكلما شب زيدوه علماً بالتحصينات، وتشكيل المعسكر، وغير ذلك من علوم الحرب، ولكي يدرب الأمير منذ صباه على أن يعمل ضابطاً وقائداً... اغرسوا في ولدي الحب الصادق لمهنة الجندي. وأقنعوه بأنه لما كان السيف هو الشيء الوحيد الذي يكسب الأمير الشهرة والشرف، فإنه سيكون محتقراً من جميع الناس إذا لم يحبه ويلتمس فيه فخره الوحيد"(31).
ولو أفسح للأب في أجله بما يكفي لتاه فخراً بولده جندياً وقائداً، ولكن كل شئ بدا وكأنه يسير في طريق خطأ خلال سنوات التلمذة تلك. فقد كان الغلام ذكياً، ولكنه لم يهتم قط بالهجاء. احتقر اللغة الألمانية وأحب لغة فرنسا وأدبها موسيقاها وفنها. وأحب أن ينظم الشعر الفرنسي، وواصل هويته تلك إلى آخر عمره. وكان الملك الشيخ يستشيط غيظاً إذا رأى ولده وبيده كتب فرنسية، ويزداد غضبه حين يجده يعزف على الفلوت. وجاء يوهان كوانتش، عازف الفلوت في بلاط سكسونيا، إلى برلين ليعلم الصبي خفية بناء على طلب أمه. وكان كوانتش إذا سمع الملك يدنو يختبئ في خزانة، ويقلب فردريك روبه الفرنسي إلى سترة حربية، ولكن الأب كان يثور لمرأى الكتب الفرنسية ملقاة هنا وهناك، فأمر الخدم أن يرسلوها إلى بائع كتب، فبيعها خير من حرقها. ولكن الخدم لم يفعلوا هذا ولا ذاك، بل خبأوا الكتب، وبعد قليل أعادوها للأمير.
وبذل الشيخ قصارى جهده الذي اختلطت فيه محبة الأب بغضبه ليجعل الصبي مقاتلا. فاصطحبه في رحلات صيده، وخشنه بحياة الخلاء، وعوده الخطر والركوب والوعر، وألزمه العيش على الطعام الزهيد، والنوم القليل، ووكل إليه أمور فوج في جيشه، وعلمه أن يدرب جنده، وأن يرقى بطارية مدفعية، وأن يطلق المدافع. وتعلم فردريك هذا كله، وأبدى قدراً كافياً من الشجاعة، ولكن الأب تبين بغضب متزايد أن الفتى، الذي بلغ الآن السادسة عشرة راح يكون صداقة حميمة مريبة مع ضابطين شابين هما الكابتن فون كاتي والملازم كابت. وكان كاتي واسع الاطلاع كثير الرحلات، ورغم ما تركه الجدري على وجهه من ندوب، فإن "تهذيب عقله وسلوكه" كما قالت فلهلمينا "جعله رفيقاً لطيفاً جداً... وكان يفخر بأنه حر الفكر. وتأثير كاتي هو الذي دمر كل إيمان ديني في صدر أخي"(32).
ولم يستطيع فردريك وليم أن يستجيب لهذه التطورات المنحرفة في ابنه البكر إلا بالغضب والعنف. وكان ديدنه استعمال العصا مع خدمه، فهدد باستعمالها لتأديب ولده. وكانت فلهلمينا خلال ذلك تقاوم خططه لتزويجها لحليف سياسي قوي؛ وبدا أن الولد والبنت أرسلهما القدر ليخيبا كل أماله. "لقد بلغت ثورة أبي على أخي وعليّ مبلغاً جعله يقصينا عن حضرته فيما عدا ساعات الطعام. وحدث ذات مرة أن الملك قذف رأس أخي بطبقه، وكان يمكن أن يصيبه لولا أنه حاد عنه، وفي مرة أخرى قذف الطبق علي وقد نجوت منه أنا أيضاً لحسن حظي، ثم انهال على بوابل من السب والشتم... وإذ مررت أنا وأخي على مقربة لتبرح الحجرة دفع نحونا عكازه ليضربنا. ولم يكن يرى أخي قط دون أن يهدده بعصاه. وكثيراً ما قال لي فرتز إنه قد يحتمل كل معاملة سيئة إلا أن يضرب، فإذا بلغ الأمر حد الضرب فإنه سيهرب(33).
وفي وسعنا أن نفهم بعض أسباب الغضب الذي استشعره الملك المسن. ذلك أنه كان قد تطلع إلى ترك ملكه هذا الذي أعاد تنظيمه لولد يواصل رعايته للجيش، ويقتصد في النفقات، ويبني الصناعات، ويصرف شئون الدولة بأمانة واجتهاد، ولم يكن ممكناً أن نتوقع منه التنبؤ بأن ابنه هذا سيفعل هذا كله وأكثر منه. فهو لم يجد في "فريدرش" غير فتى وقح مخنث، يجعد شعره كالفرنسيين بدلا من أن يقصه كالجنود البروسيين(34)، ويمقت الجنود والصيد، ويهزأ بالدين، وينظم الشعر الفرنسي، ويعزف على الفلوت. فأي مستقبل يمكن أن يكون لبروسيا إذا حكمها هذا الفتى الضعيف؟ وحتى التماساته للعفو بين الحين والحين يمكن أن يفسرها أبوه بأنها جبن منه. وذات مرة قال الملك لمن حوله بعد أن لكم أذني ولده إنه لو لقي هذه المعاملة من أبيه لضرب نفسه بالرصاص؛ ولكن فريدرش لا يملك الإحساس بالشرف وإنه على استعداد لاحتمال أي شئ(35).
وحاول الملك -إذا صدقنا الخبر الذي أنهاه فردريك إلى فلهلمينا- أن يقتله في بوتسدام في ربيع 1730. قال: أرسل في طلبي ذات صباح. فما إن دخلت الحجرة حتى أمسك بناصيتي وطرحني أرضاً. وبعد أن ضربني بقبضته جرني إلى النافذة وربط حبل الستارة حول عنقي- وأتيح لي لحسن الحظ وقت للنهوض والإمساك بيديه، ولكنه جذب الحبل بكل قوته حول عنقي فشعرت بأنني أختنق وصحت مستغيثاً. وجرى تابع ليسعفني، واضطر إلى استعمال القوة لينقذني(36).
وأسر فريدرش- الذي بلغ الثامنة عشرة- إلى فلهلمينا أنه ينوي الهروب إلى إنجلترا مع كاتي وكايت. فتوسلت إليه ألا يفعل، ولكنه أصر وكتمت سره في خوف، ولكن الملك الذي أحاط ولده بالجواسيس علم بأمر المؤامرة، وقبض على ابنه وابنته، وعلى كاتي وكايت (أغسطس 1730). وأطلق سراح فلهليمنا بعد حين وفر كايت إلى إنجلترا، ولكن فريدريش وكاتي حوكما أمام مجلس عسكري وحكم عليهما بالإعدام (30 أكتوبر). وأعدم كاتي في فناء قلعة كوسترين (وهي الآن كوسترزين في بولندا) وأكره فريدرش بأمر أبيه على أن يشهد منظر الإعدام من نوافذ زنزانته (6 نوفمبر). وفكر الملك في قطع رأس ولده، وفي جعل من يليه من أبنائه ولياً للعهد، ولكنه خشي الأصداء الدولية لهذه الفعلة، فراض نفسه على الإبقاء على حياة فريدرش.
ومن نوفمبر 1730 إلى فبراير 1732 ظل الأمير يلزم كوسترن، في سجن محكم أول الأمر، ثم في حدود المدينة لا يبرحها، تحت رقابة مشددة طوال الوقت، ولكن "برلين كلها أرسلت إليه المؤونة لا بل أفخر الطعام والشراب"(37). في رواية فلهليمينا. وفي 15 أغسطس 1731، بعد عام من الفراق، جاء الملك ليرى ابنه، وقرعه ما شاء له التقريع، وقال له إن مؤامرة الهروب لو نجحت "لألقيت إلى الأبد في مكان لا ترى فيه الشمس أو القمر ثانية(38). جثا فريدرش على ركبتيه والتمس الصفح من أبيه، وانهار الشيخ، وبكى، وعانقه؛ وقبل فريدرش قدمي أبيه(39). فأطلق سراحه، وبعث به في جولة بالأقاليم البروسية ليدرس اقتصادها وإدارتها. لقد غيرت سنوات صراعه مع أبيه تلك من خلقه وقسته. أما فلهلمينا التي أبهجها أن تترك سقف أبويها فقد قبلت يد هنري ولي عهد بايرويت. وبعد أن تزوجا في برلين(30 نوفمبر 1731) ذهبت إلى الجنوب لتصبح (1734) أميرة بايرويت، ولتجعل بلاطها يزخر بالثقافة.
وفي فترة سلطانها هناك تحول المسكن الأميري، وهو قلعة إيريميتاج، إلى قصر ريفي (شاتو) من أجمل القصور الريفية في ألمانيا. وكان على فريدرش هو أيضاً أن يتزوج، رضى أم كره. وقد ساءه هذا الإلزام ، وهدد قائلا "لو أصر الملك على هذا فسأتزوج طاعة له، ثم أدفع بزوجتي إلى ركن من الأركان وأحيا كما أشتهي"(40). وعليه فقد قاد إلى مذبح الكنيسة (12 يونيو سنة 1733) إليزابث كرستينا "أميرة برنزويك- بيفرن الجليلة" وكان يومها في الحادية والعشرين وهي في الثامنة عشرة، "جميلة جداً" كما قالت أم فردريش لفلهلمينا ولكنها "بليدة كحزمة من القش-ولست أدرى كيف ينسجم أخوك مع هذه الإوزة"(41). ومع أن فردريك تعلم في سنوات لاحقة أن يقدرها تقديراً كبيراً، إلا أنه في هذه الفترة تركها أكثر الوقت وحيدة تلتمس لنفسها السلوى. وذهبا ليسكنا في راينزبرج، على أميال شمال برلين. هناك بنى الزوج الأعزب لنفسه حصناً يلوذ به، وأجرى التجارب في الفيزياء والكيمياء، وجمع العلماء، والأدباء، والموسيقيين، من حوله، وتبادل الرسائل مع فولف، وفونتنيل، وموبيرتيوي، وفولتير.
جـ - الأمير والفيلسوف (1736 - 40)
ورسائله مع فولتير من أعظم وثائق ذلك العهد كشفاً وإنارة: فهي تعبير أدبي رائع لشخصيتين بارزتين يتضاءل فيه فن أكبرهما سناً أمام واقعية الفتى المتفتح. كان فولتير الآن في عامه الثاني والأربعين، وفردريك في الرابعة والعشرين. وكان فولتير زعيم الأدباء الفرنسيين غير منازع، ولكن كاد يدير رأسه أن يتسلم من ولي عهد سيرتقي العرش بعد حين الخطاب التالي الذي كتبه من برلين في أغسطس 1736 وأرسله مع رسول خاص إلى الشاعر في سيريه:
سيدي: مع أنه لم يتح لي سرور التعرف إليك شخصياً فإن ذلك لا يقلل من معرفتي بك من خلال آثارك. فهي كنوز عقلية إذا جاز القول، وهي تكشف للقارئ عن مواطن للجمال عند كل قراءة جديدة لها... ولو بعث الخلاف حول فضائل المحدثين والقدامى من جديد، لدان عظماء المحدثين لك، ولك وحدك، بالفضل في رجحان كفتهم... فلم يحدث قط أن نظم شاعر مسائل الميتافيزيقا في إيقاع منغم، وقد حفظ لك أنت شرف السبق في هذا المضمار." وواضح أن فردريك لم يكن قد قرأ لوكرتيوس بعد، ربما لضآلة إلمامه باللاتينية، ولكنه قرأ فولف، وأرسل إلى فولتير:
"صورة من اتهام ودفاع السيد فولف، أشهر فلاسفة زماننا، الذي يتهم اتهاماً قاسياً بالمروق عن الدين والإلحاد لأنه حمل النور إلى أحلك أركان الميتافيزيقا... وقد طلبت ترجمة لكتاب فولف" رسالة عن الله، والنفس، والعالم... وسأوافيك بها". هذا وإن ما تقدمه من عطف ومعونة لجميع من يكرسون أنفسهم للآداب والعلوم يجعلني آمل أن تسلكني فيمن تراهم جديرين بإرشاداتك...." والظاهر أن فردريك كان قد سمع بعض ما شاع عن قصيدة فولتير "لابوسيل": (عذراء اللورين).
سيدي؛ لست أشتهي شيئاً لاقتناء جميع كتاباتك.... وإذا كان بين مخطوطاتك ما تود ستره عن أعين الجماهير فإني أتعهد بالاحتفاظ به سراً مكتوباً...
إن الطبيعة إذا شاءت كونت نفساً عظيمة ذات قدرات تدفع الآداب والعلوم قدماً، وواجب الأمراء أن يكافئوا الجهد النبيل الذي يبذله صاحب هذه النفس وليت "المجد" يستخدمني لأكلل نجاحك....
وإذا أبى حظي أن يسعدني بالقدرة على الاستيلاء عليك، فعساني على الأقل أرى يوماً ما ذلك الرجل الذي طالما أعجبت به من بعيد، وأؤكد لك، بلساني، أنني مع كل التقدير والاعتبار الواجبين للذين يكرسون جهودهم للجماهير مهتدين في ذلك بمشعل الحق- يا سيدي صديقك المخلص،
فردريك ولي عهد بروسيا
وفي وسعنا أن نتصور شعور الاغتباط الذي قرأ به فولتير هذا الخطاب، وهو الذي لم يكبر قط على الغرور، فراح يرشف رحيقه أمام المركيزة الغيور. وبادر بعد تسلمه بالرد عليه في 26 أغسطس 1736:
مولاي :
لا بد أن يكون إنساناً مجرداً من كل عاطفة ذلك الذي لا يتأثر تأثراً بالغاً بالخطاب الذي شئتم سموكم الملكي تشريفي به. فمحبتي لذاتي تزهو به زهواً شديداً؛ ولكن محبتي للبشر، التي غذوتها دائماً في قلبي، والتي أجرؤ على القول بأنها أساس خلقي، منحتني سروراً أعظم نقاء وصفاء- لأنني أرى أن في الدنيا الآن أميراً يفكر كإنسان، أميراً فيلسوفاً، سوف يسعد الناس.
واسمح لي بأن أقول أنه ليس على وجه الأرض إنسان لا يدين لك بالشكر على العناية التي تبذلها لكي تهذب بالفلسفة السلمية نفساً ولدت لتأمر وتنهي. إذ لم يوجد بين الملوك صالح إلا أولئك الذين بدءوا بمحاولة تعليم أنفسهم، وبتبين خيار الناس من أشرارهم، وبحب ما هو حق، ويمقت الاضطهاد والخرافة. وإن أميراً يثابر على هذه الأفكار قد يعيد العصر الذهبي إلى بلده! ترى لم لا يسعى إلى هذا المجد إلا قلة قليلة من الأمراء؟.... لأنهم يفكرون في ملكهم أكثر مما يفكرون في النوع الإنساني. أما حالك فنقيض هذا بالضبط؛ (وما لم يغير ضجيج العمل ولؤم البشر يوماً ما من هذا الخلق الإلهي) فإن شعبك سيعبدك، والعالم كله سيحبك، والفلاسفة الجديرين بهذا الاسم سيؤمون دولتك، والمفكرين سيتزاحمون حول عرشك.... لقد تركت الملكة كرستينا الشهيرة ملكها طلباً للآداب والفنون، فاملك إذن يا مولاي، وستقبل الآداب والفنون ساعية إليك...
ولست أجد من الشكر لسموكم المعاني ما يكفي على إهدائي ذلك الكتيب عن السيد فولف. وإنني أحترم الأفكار الميتافيزيقية، فهي أشعة من نور تتخلل الليل الدامس. وفي رأيي أننا يجب ألا ننتظر من الميتافيزيقيا أكثر من هذا. ولا يبدو أن من المحتمل الكشف إطلاقاً عن الأصول الأولى للأشياء. فالفئران التي فرض عليها البقاء في ثقوب صغيرة من بناء هائل لا تدري هل البناء خالد أم غير خالد، أو من بناه، أو لم بناه. وما أشبهنا بهذه الفئران. والبناء الإلهي الذي بنى الكون لم ينبئ أحداً منا قط يسره المكنون فيما أعلم..
سأصدع بأمرك وأبعث إليك بتلك الكتابات التي لم تنشر. وستكون أنت يا مولاي جمهور قرائي، وسيكون نقدك مكافأتي، فهذا ثمن لا يقدر على دفعه من الملوك والأمراء إلا الأقلون. وأنا واثق من كتمانك سرها... وإني في حق أراها سعادة غالية أن آتى لأقدم احترامي لسموكم الملكي... لولا أن الصداقة التي تبقيني في هذه الخلوة لا تسمح لي بمغادرتها، ولا شك أنكم توافقون جوليان، ذلك الرجل العظيم المفترى عليه كثيراً، على قوله "ينبغي أن بفضل الأصدقاء دائماً على الملوك".
وثق يا مولاي أنه أياً كان ركن الأرض الذي سأختتم فيه حياتي، فإن تمنياتي ستكون دائماً لك-أي لسعادة شعب بأكمله. وسيعد قلبي نفسه واحداً من رعاياك، وسيكون مجدك دائماً عزيزاً علي. وسأتمنى أن تكون دائماً كما أنت، وأن يكون الملوك الآخرون مثلك-وإنني مع عميق الاحترام خادم سموكم الملكي المتواضع جداً.
فولتير(43)
واتصلت الرسائل بين أعظم ملوك زمانه وأعظم أدبائه طوال اثنين وأربعين عاماً، مع انقطاعات أليمة تخللتها. وتكاد كل كلمة في هذه الرسائل تجزى قراءتها، لأنه لا يتاح لنا كثيراً امتياز الاستماع إلى رجلين كهذين يتحدثان هذا الحديث لحميم المدروس. نحن نصد أنفسنا بصعوبة عن إغراء نقل ما في هذه الرسائل من الأحكام المنيرة، ومن آيات الذكاء؛ ولكن بعض فقراتها تعيننا على تصور هذين العملاقين المتنافسين، رب السيف ورب القلم .
فهما بادئ ذي بدء يتفقان في إعجاب الواحد منهما بصاحبه. ففردريك يعرب عن دهشته لأن فرنسا لم تتبين "الكنز المخبوء في قلبها"، ولأنها تترك فولتير "يعيش وحيداً في صحاري شامبين... ومنذ الآن ستصبح سيريه (معبدي) دلفي، ورسائلك وحي المقدس" (44). "اترك وطنك الجاحد، وتعال إلى بلد يعبدك فيه أهله"(45). ويرد فولتير باقات الزهر بأجمل منها، فيقول "إنك تفكر كتراجان، وتكتب كبليني، وتستعمل الفرنسية كأحسن كتابنا... ستكون برلين بفضل رعايتك أثينة ألمانيا، بل ربما أوربا"(46). وهما متفقان على الربوبية، يؤكدان الإيمان بالله ويعترفان بأنهما لا يعرفان عنه تعالى قط وهما يمقتان رجال الدين الذين يقيمون سلطانهم على ما يزعمون من قرب الله(47). ولكن فردريك مادي صريح "الشيء المؤكد هو أنني، مادة، وأنني أفكر"(48) وجبري خالص؛ أما فولتير فليس مستعداً بعد للتخلي عن الفكرة حرية الإرادة(49). وينصح فردريك "بالصمت العميق إزاء القصص الخرافية المسيحية، التي قدسها قدمها وغرارة الناس السخفاء والتافهين"(50) ولا يترك فولتير فرصة يلقن فيها تلميذه الأمير حب الإنسانية وكراهية الخرافة، والتعصب، والحرب أما فردريك فلا يأخذ الإنسانية مأخذ الجد الشديد: "إن الطبيعة تنجب بطبيعتها اللصوص، والحساد، والمزورين، والقتلة؛ فهم يغطون وجه البسيطة، ولولا القوانين التي تقمع الرذيلة لاستسلم كل فرد لغرائزه الفطرية ولما فكر إلا في نفسه"(51)... والبشر بطبيعتهم ميالون إلى الشر، وهم ليسوا أخياراً إلا بقدر ما تهذب التربية والتجربة من عنفهم وطيشهم(52).
وقد تميزت السنوات الأخيرة في تلمذة فردريك بحدثين. ففي 1738 انضم إلى جماعة الماسون(53). وفي 1739، وهو في نشوة من تأثير فولتير فيما يبدو، ألف كتيباً سماه "الرد على كتاب الأمير لميكافللي" حاسب فيه الفيلسوف الإيطالي حساباً عسيراً على ما بدا في كتابه من تبرير لأي ذريعة يراها الحاكم ضرورية لصيانة دولته أو دعمها. وقال الأمير الجديد، لا، فالمبدأ الحق الوحيد للحكم هو ولاء الملك وعدله وشرفه. وقد أعرب الفيلسوف الأمير عن احتقاره للملوك الذين يؤثرون "مجد الفاتحين المهلك على المجد الذي يكسب بالعطف والرحمة."، وتساءل ما الذي يغري إنساناً بأن يطلب عظمته الشخصية باشفاء غيره من الناس وتدميرهم"(54). ومضى فردريك يقول:
إن مكيافللي لم يفهم طبيعة الملك الحقة... فهو ليس السيد المطلق المتصرف فيمن يدينون لحكمه، إنما هو أول خدامهم، وينبغي أن يكون الأداة لرفاهيتهم كما أنهم الأداة لمجده(55).
ثم أطرى فردريك الدستور الإنجليزية مقتدياً بفولتير على الأرجح:
يبدو لي أننا لو شئنا الإشادة بشكل من أشكال الحكم على أنه القدوة لجيلنا لكان هو الحكم الإنجليزي. فالبرلمان هناك هو القاضي الأعلى للشعب والملك على السواء، وللملك كامل القدرة على فعل الخير، ولا قدرة على فعل الشر(56).
ولسنا نجد في هذه الآراء أي علامة من علامات عدم الإخلاص، فهي تتكرر المرة بعد المرة في رسائل فردريك التي تنتمي لهذه الفترة. وقد بعث بمخطوطة كتابه إلى فولتير (يناير سنة 1740)، الذي طلب الإذن له بأن ينشرها. ووافق المؤلف الفخور على استحياء، وكتب فولتير مقدمة للكتاب، وأخذ المخطوطة إلى لاهالي، وأشرف على طبعها، وصحح تجاربها. وفي أواخر سبتمبر طلع الكتاب على الناس فجأة غفلا من اسم المؤلف بعنوان "المعارض لميكافللي". وسرعان ما كشف مؤلفه، وشارك القراء فولتير في الترحيب بمقدم ملك- فيلسوف.
أما فردريك وليم الأول فقد ظل إلى النهاية تقريباً على ما كان عليه طويلا، كأنه سنديانة كثيرة العقد، يوبخ، ويندد، ويشرع القانون بطريقته العجيبة. وبأنه يسالم العالم على مضض إلا حين أنبأه واعظ البلاط بدنو أجله، وبأنه يحب أن يغفر لأعدائه إن أراد أن يغفر الله له. وأرسل في لحظاته الأخيرة في طلب فردريك، وعانقه وبكى، فلعل هذا الفتى العنيد، رغم هذا كله، أن يحوي بين جنبيه مقومات ملك؟ وسأل القادة المحيطين بسريره "ألست محظوظاً لأن لي ولداً أستخلفه"؟(57) ولعل الابن فهم الآن أكثر من ذي قبل إحساس أبيه الشيخ بأن الملك يجب أن يكون له بعض الحديد في دمه.
وفي 31 مايو 1740 أسلم فردريك وليم الأول روحه وعرشه وقد أبلاه النضال ولما يجاوز الحادية والخمسين، وآل الملك لمعارض مكيافللي.
3- مكيافللي الجديد
كان فردريك الثاني في الثانية عشرة منى عمره حين ولى العرش. وكان لا يزال- كما رسمه أنطوان بين قبل ذلك بعام- الموسيقى والفيلسوف رغم دروعه البراقة: قسمات حلوة رقيقة، وعينان واسعتان تختلط فيهما الزرقة بالشهية، وجبين عال؛ "له أسلوب في السلوك طبيعي جذاب، وصوت خافت سار"(58). على حد قول السفير الفرنسي. وكان إلى ذلك الحق تلميذه فولتير، وقد كتب له بعد ستة أيام من تقلده الحكم: لقد تبدل حظي، وشهدت اللحظات الأخيرة لملك، ومعاناته، وموته. لم يكن بي حاجة وأنا أرتقي العرش إلى ذلك الدرس لكي أشمئز من خيلاء العظمة البشرية... وأرجو ألا ترى في إلا مواطناً غيوراً، وفيلسوفاً تغلب عليه نزعة الشك، وصديقاً صدوقاً. وإني أستحلفك بالله أن تكتب لي كتابتك لإنسان عادي، وأن تحتقر مثلي الألقاب والأسماء وكل مظاهر الزهو والغرور(59).
وعاد يكتب إلى فولتير بعد ثلاثة أسابيع:
"إن ضخامة العمل الذي ألقاه القدر على عاتقي لا يكاد يترك وقتاً لحزني الحقيقي. وإنني أشعر أنني بعد فقدي أبي مدين بجملتي لبلدي. وبهذا الهدف أعمل بكل طاقتي لاتخاذ أسرع التدابير وأصلحها للخير العام"(60).
وقد صدق. ففي غداة توليه العرش، حين حكم من برد الربيع بأن المحصول سيكون متأخراً وهزيلاً، أمر بأن تفتح مخازن الغلال العامة، وأن يباع القمح للفقراء بأسعار معقولة. وفي اليوم الثالث ألغى في جميع أرجاء بروسيا اللجوء إلى التعذيب في محاكمة المجرمين-قبل أن يصدر باكاريا رسالته الخطرة بأربعة وعشرين عاماً، وينبغي أن نضيف أن التعذيب في المحاكمات وإن إجازة القانون إلا أنه من الناحية العملية تقادم في عهد فردريك وليم الأول، وأن فردريك انتكس لحظة إلى استعماله في حالة واحدة عام 1752(61). وفي 1757 وكل إلى صموئيل فون كوكيي، كبير القضاة البروسيين، أن يشرف على إصلاح القانون البروسي إصلاحاً شاملا.
وظهر تأثير الفلسفة في أعمال أخرى قام بها هذا الشهر الأول. ففي 22 يونيو أصدر فردريك أمراً بسيطاً جاء فيه "يجب التسامح مع جميع الأديان، وعلى الحكومة أن تتحقق من أن أحداً منها لا يجوز على غيره، لأن على كل إنسان في هذا الوطن أن يصل إلى السماء بطريقته الخاصة"(62). ولم يصدر أمراً رسمياً عن حركة المطبوعات، ولكنه أباحها عملياً، فقال لوزرائه "إن الطباعة حرة" واحتمل في صمت ملؤه الاحتقار مئات الانتقادات العنيفة التي نشرت ضده(63). ومرة أخرى هجوماً ساخراً معلقاً في أحد الشوارع، فأمر بأن ينقل إلى مكان يسهل فراءته فيه. وقال "لقد انتهيت أنا وشعبي إلى اتفاق يرضينا جميعاً: يقولون ما يشتهون، وأفعل ما أشتهي"(64). ولكن هذه الحرية لم تكن كاملة قط؛ فكلما ارتقى فردريك الأكبر في مدارج العظمة حظر النقد العلني لتدابيره الحربية أو مراسيمه الضرائبية. وظل ملكاً مطلق السلطة وإن حاول أن يجعل تدابيره متسقة مع القوانين.
ولم يبذل أي محاولة لتغيير هيكل المجتمع أو الحكومة البروسيين. فظلت المجالس والهيئات كما كانت، إلا أن فردريك شدد الرقابة عليها وشارك بهمة أكبر في أعمالها؛ وقد أصبح عضواً في جهاره البيروقراطي. قال السفير الفرنسي "إنه يبدأ حكمه بطريقة مرضية جداً: فحيثما تلفت وجدت آثار بره برعيته وعطفه عليها"(65). ولكن هذا لم يمتد إلى التخفيف من وطأة القنية؛ فظل الفلاح البروسي أسوأ حالا من الفرنسي، واحتفظ النبلاء بامتيازاتهم.
وتضافر تأثير فولتير مع تقليد ليبنتس في إحياء أكاديمية برلين للعلوم إحياء قوياً. فبعد أن أسسها فردريك الأول (1701) أهملها فردريك وليم الأول. أما فردريك الثاني فقد جعلها الآن أبرز الأكاديميات في أوربا. وقد سلف القول بأنه رد فولف من منفاه. وأراد فولف أن يرأس الأكاديمية ولكنه كان طاعناً في السن، ضعيف الساقين، فيه شئ من الخضوع للعقائد التقليدية. أما فردريك فأراد فردريك رئيساً لها من أصحاب "العقول القوية" (أحرار الفكر)، رجلا مواكباً لآخر تطورات العلم، لا يعوقه معوق من اللاهوت. عملاً باقتراح من فولتير (أسف عليه فيما بعد) دعا (يونيو 1740) بيير لوى مورو دمويير توي، الذي كان الآن في منتصف عمره، عائداً لتوه من بعثة شهيرة إلى لايلاند لقياس درجة من درجات العرض. وحضر موبيرتوي وأغدق عليه فردريك العون والتأييد، فبنى مختبراً عظيماً وأجرى تجارب أحياناً في حضرة الملك والحاشية. وقد ذهب جولدسمث، الذي لا بد قد خبر جمعية لندن الملكية، إلى أن أكاديمية علوم برلين "تفوق أي أكاديمية غيرها في الوجود"(66).
وأبهج هذا كله فولتير. فلما أتيحت لفردريك فرصة زيارة كليفز دعا الفيلسوف للقائه. وكان فولتير يومها في بروكسل، فانتزع نفسه من مركيزته الفكدة، وسافر 150 ميلاً إلى "شلوس مويلاند". هناك رأى أفلاطون الجديد ديونيسيوسه أول مرة، وأنفق ثلاثة أيام (11-14 سبتمبر 1740) في نشوة غامرة لم يفسدها غير وجود ألجاروتي دموبيرتوي. وفي خطاب للسيدة سيدفيل كتبه في 18 أكتوبر أبدى رأيه في فردريك فقال: في ذلك المكان رأيت رجلاً من ألطف الرجال في الدنيا، هو زينة المجتمع، ولو لم يكن ملكاً لسعى إليه الناس في كل بلد، فيلسوف مبرأ من التزمت، كله حلاوة، وكياسة، وسلوك كريم؛ ينسى أنه ملك حين يلقى أصدقاءه. لقد احتجت إلى جهد من ذاكرتي لأتذكر أن الجالس عند أسفل سريري ملك له جيش عدته 100.000 مقاتل(67).
ولم يكن فردريك أقل إغتياظاً. فقد كتب إلى مساعده جوردان في 24 سبتمبر يقول:
رأيت فولتير الذي كن تواقاً إلى معرفته، ولكني رأيته وحمى الربع تهدني، وعقلي وجسدي متوتر الأعصاب... إن له فصاحة سيشرون، ولطف بيلي، وحكمة أجريبا، فهو باختصار يجمع خير ما يجني من الفضائل والمواهب من ثلاثة من أعظم القدماء. وعقله لايني عن التفكير، وكل قطرة مداد هي رحيق ذكاء يقطر من قلمه... إن لاشاتليه محظوظة بعيشة معها، فإن في وسع إنسان لم يؤت من المواهب غير ذاكرة قوية أن يؤلف كتاباً رائعاً من الأقوال الحكيمة التي ينثرها كيفما اتفق"(68).
فلما رجع فردريك إلى برلين لاحظ أن لديه جيشاً عدته 100.000 مقاتل، وفي 20 أكتوبر مات شارل السادس وارتقت عرش إمبراطورية النمسا والمجر شابة لها جيش من الدرجة الثانية. في ذلك اليوم ذاته أرسل فرديك إلى فولتير خطاباً نذيراً بالشر، جاء فيه "أن موت الإمبراطور يغير كل أفكاري السليمة، وأظن أن الأمور ستنحو في شهر يونيو نحو المدافع والبارود، والجنود والخناق، بدلاً من الممثلات والمراقص والمسارح؛ بحيث أراني مضطراً إلى إلغاء الاتفاق الذي كنا على وشك إبرامه(69).
وأحس فولتير في قلبه وجعاً. أترى تلميذه هذا تاجر حرب كأي ملك آخر؟ وانتهز دعوة فردريك إياه لزيارته في برلين فقرر أن يرى ما هو مستطيع صنعه في سبيل السلام وقد يستطيع في الوقت ذاته أن يصلح ما فسد بينه وبين فرساي لأن الكردينال فلوري، الذي ظل قابضاً على دفة الحكم في فرنسا كان هو أيضاً ينشد السلام. وعليه ففي 2 نوفمبر كتب إلى الكردينال يعرض خدماته عميلا سرياً لفرنسا، في محاولة لرد فردريك إلى حظيرة الفلسفة. وقبل العنيفة على الدين "لقد كنت حدثاً، وربما طالت حداثتك بعض الشيء"(70). وفي خطاب آخر بنفس التاريخ (14 نوفمبر) كتب الكردينال اللطيف ينبئ بتسليمه كتاب "المعارض لميكافيلي من مدام دشاتليه وأطراه وهو يحدس بحكمة هوية مؤلفة: أياً كان مؤلف هذا الكتاب، فهو جدير بأن يكون أميراً إن لم يكنه. والقليل الذي قرأته منه يفيض حكمة ومعقولية وفيه تعبير عن مبادئ جديرة بالإعجاب الشديد، مما يؤهل مؤلفه لقيادة غيره من الناس، شريطة أن يؤتى من الشجاعة ما يجعله يطبق مبادئه. فإذا كان قد ولد أميراً فقد دخل في ميثاق جليل جداً مع الشعب؛ وما كان الإمبراطور أنطونيوس مكتسباً المجد الخالد الذي يحفظ به جيلا بعد جيل لو لم يعدم بعدالة حكمه تلك الفضيلة السامية التي بسطها لجميع الملوك في مثل هذه الدروس المنيرة... وسوف أتأثر تأثراً لا حد له إذا استطاع صاحب الجلالة البروسي أن يجد في مسلكي بعض التطابق مع مبادئه، ولكني أؤكد لك على الأقل أنني أعتبر مخططه مخططاً لأكمل وأمجد حكومة(71). وبعد أن رتب فولتير أداء فردريك لجميع نفقات رحلته عبر ألمانيا لأول مرة، وأنفق زهاء أسبوعين مع الملك في رايننزبرج وبوتسدام وبرلين (20 نوفمبر إلى ديسمبر) وارتكب خطأ بإطلاعه فردريك على خطاب الكردينال عن كتابه "المعارض لميكافللي" وتبين فردريك فوراً أن فولتير يلعب دور الدبلوماسي، ففسر مديح فلوري الجميل على أنه دعوة للتعاون مع فرنسا، وضايقه أن يرى نفسه معوقاً بمقال كتبه في الفلسفة. وتبادل الشعر والأجوبة البارعة مع فولتير، ورفه عنه بعزفه على الفلوت، وصرفه دون شئ محدد أكثر من شكره على الكينين الذي لطف به الشاعر برداء الملك، وفي 28 نوفمبر كتب فردريك إلى جوردان وهو يعنى فولتير دون أن يذكر اسمه صراحة". إن صاحبك البخيل سيعب ما شاء ليروى ظمأه الذي لا يطفأ للغنى، فسيقبض ثلاثة آلاف طالر، وهو ثمن غال يدفع لمهرج؛ فما من مهرج بلاط نقد مثل هذا الأجر من قبل"(72). ويبدو أن هذا المبلغ شمل نفقات رحلة فولتير-التي تطوع فردريك على الأرجح بدفعها-وتكاليف نشر كتابه "المعارض لميكافيللي" التي كان فولتير قد قدمها من جيبه الخاص. وهكذا إذا دخل المال من الباب خرج الحب من الشباك، كما يقولون، إن فردريك لم يستطيب دفع نفقات عميل فرنسي ولا تكاليف كتاب كان يسره أن يرشو العالم ليناله.
وغلب تأثير فردريك وليم الآن تعاليم الفيلسوف. وكلما حلت فرص السلطة وتبعات الحكم محل موسيقى صباه وشعره وهو بعد أمير، ازداد فردريك بروداً وقسوة، لا بل إن المعاملة السيئة التي كان أبوه يصبها عليه أغلظت جلده ومزاجه. وكان في كل يوم يرى أولئك العمالقة الـ 100.000 الذين خلفهم له أبوه، وفي كل يوم كان عليه أن يطعمهم. فأي معنى لتركهم يصدأون ويبلون في السلم؟ أما من ظلم يستطيع هؤلاء العمالقة رفعه؛ أجل، هناك سيليزيا، التي تفصلها بوهيميا عن النمسا، والأقرب إلى برلين منها إلى فيينا؛ وكان نهر الأدور العظيم يجرى هابطاً من بروسيا إلى برزلا وعاصمة سليزيا التي لا تبعد عن برلين غير 183 ميلا إلى الجنوب الشرقي. فماذا يفعل النمساويون هناك؟ إن لبيت برندبنورج مطالب في سليزيا -في الإمارات السابقة- وهي بيجرندورف، وراتيبور، وأوبيلن، وليجنتس، ويرييج، وفولار؛ هذه كلها أخذتها النمسا أو تم التنازل لها عنها بمقتضى ترتيبات لم تكن قط مرضية لبروسيا. إذن فالآن، والوراثة النمساوية محل نزاع، وماريا تريزا صغيرة ضعيفة، وعلى العرش الروسي قيصر طفل هو إيقاع السادس-الآن هو الوقت الملائم للإلحاح على تلك المطالب القديمة، ولتصحيح تلك الأخطاء القديمة-ولإعطاء بروسيا وحدة وأساساً جغرافياً أعظم من ذي قبل.
وفي أول نوفمبر قال ليوديفيلز أحد مستشاريه: "حل لي هذه المسألة: إذا أتيحت لإنسان ميزة فهل ينتفع بها أو لا ينتفع؟ إنني مستعد بجيشي وبكل شئ آخر. فإذا لم أستعمله الآن كنت أملك في يدي أداة عديمة الجدوى رغم قوتها. وإذا استعملت جيشي قيل إنني أوتيت مهارة استغلال التفوق المتاح لي على جارتي". ورأى بوديفيلز أن هذا العمل سيعتبر عملاً غير أخلاقي. فرد فردريك: ومتى كانت الفضيلة معوقاً للملوك؟(73) وهل في وسعه أن يمارس الوصايا العشر في عرين الذئاب ذاك الذي يسمى الدول العظمى؟ ولكن ألم يتعهد فردريك وليم بتأييد "الأمر العالي" الذي ضمن لماريا تريزا تلك الممتلكات التي خلفها لها أبوها؟ إن هذا التعهد على أية حال كان مشروطاً بتأييد الإمبراطور لمطالب بروسيا في يوليش وبيرج، وهذا التأييد لم يأت، بل على العكس بذل لمنافسي بروسياز فالآن يمكن الثأر لهذه الإهانة المؤلمة.
وعليه ففي ديسمبر أرسل فردريك مبعوثاً إلى ماريا تريزا يعرض عليها حمايته إذا أقرت مطالبه في شطر من سيليزيا. وإذ توقع رفضها لهذا الغرض، فإنه أمر شطراً من جيشه يبلغ ثلاثين ألف مقاتل بالزحف. فعبر الحدود إلى سيليزيا في 23 ديسمبر قبل وصول مبعوث فردريك إلى فيينا بيومين. وهكذا بدأت الحرب السيليزية الأولى (1740-42)، وهي أولى مراحل حرب الوراثة النمساوية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
4-حرب الوراثة النمساوية 1740-1748
لن نتتبع فردريك في كل تحركاته العسكرية، لأن هذا الكتاب تاريخ للحضارة. ولكن يهمنا طبيعة الإنسان وسياسة الدول كما تكشف عنهما أقوال فردريك وأفعاله، والسياسات المتقلبة للدول. ولعل حقائق سياسة القوة لم تقر في أي حرب مدونة بأوضح مما تعرت في هذه الحرب. اخترق الجيش البروسي سيليزيا دون أن يلقى مقاومة تذكر. فأما النصف البروتستنتي من السكان، وهم الذين عانوا بعض الاضطهاد في ظل الحكم النمساوي، فقد رحبوا بفردريك محرراً لهم؛(74) وأما الكاثوليك فقد تعهد لهم-وأوفى بعهده-بكامل الحرية في ممارسة دينهم. وفي 3 يناير 1741 استولى على برزلاو في هدوء. وهو يؤكد لنا أنه "لم ينهب بيت، ولم يهن مواطن، وقد أشرق النظام البروسي بكل بهائه"(75)؛ وكان هذا أرق وأرفق استيلاء على مدينة. وأمرت ماريا تريزا المرشال نايبيرج بأن يجمع جيشاً في مورافيا ويعبر إلى سيليزيا؛ وفي 10 أبريل اشتبك هذا الجيش بقوة فردريك السيليزية الرئيسية في مولفتش، على عشرين ميلا جنوبي برزلاو. وكانت عدة جيش نايبيرج 8.600 فارس، و 11.400 راجل، و 18 مدفعاً، وعدة فردريك 4.000 فارس و 16.000 راجل، وستين مدفعاً، وقد قررت هذه الفروق مراحل المعركة ونتائجها. فغلب الفرسان النمساويون الفرسان البروسيين الذين لاذوا بالفرار. وأقنع المرشال شفرين فردريك بأن يفر مع الفارين مخافة أن يؤسر ولا يفرج عنه إلا بفدية مدمرة. ولكن بعد أن ذهب الملك وفرسانه، صمد المشاة البروسيون لجميع الهجمات سواء من الفرسان أو المشاة، أما المدفعية البروسية فقد أعادت تعبئة مدافعها بمدكات حديدية وألحقت من الأذى البالغ بالنمساويين ما حمل نايبيرج على إصدار أمره بالتقهقر. فلما استدعى فردريك ثانية إلى ساحة القتال أبهجه وأخجله أن يجد أن جيشه كسب المعركة. وأحس أنه أذنب لا بالجبن فحسب بل بالاستراتيجية الناقصة؛ فلقد بعثر رجاله الثلاثين ألفاً في سيليزيا قبل أن يدعم غزوه، ولم ينقذ الموقف غير شجاعة مشاته وحسن تدريبهم. وجاء في مذكراته أنه "فكر كثيراً في الأخطاء التي ارتكبها، وحاول إصلاحها فيما تلا ذلك"(76). ولم يكن في بسالته قصور مرة أخرى بعد هذا، وندر أن أخطأ في التكتيك أو الاستراتيجية.
ونمى نبأ هزيمة الجيش النمساوي إلى ماريا تريزا وهي تستجم عقب ولادة طفلها. وبدا أن أملها الوحيد- في حالة الضعف الذي أصاب قوتها وماليتها- معقود على معونة من الخارج. فلجأت إلى الدول الكثيرة التي تعهدت من قبل بتأييدها للأمر العالي الخاص بحكمها. واستجابت إنجلترا بحذر؛ فهي في حاجة إلى نمسا قوية تثبت لفرنسا. ولكن جورج الثاني خاف على إمارته الهانوفرية إن خاض الحرب ضد جارته بروسيا. وأقر البرلمان البريطاني إعانة قدرها 300.000 جنيه لماريا تريزا، ولكن المبعوثين البريطانيين حثوها على أن تتنزل عن سيليريا السفلى (الشمالية) لفردريك ثمناً للسلام. وكان فردريك راضياً بهذا الحل، ولكن الملكة رفضته. أما بولندا، وسافوي، والجمهورية الهولندية، فقد وعدت كلها بالمعونة، ولكنها أبطأت في إرسالها إبطاء أفقدها أثرها في النتيجة.
وكل ائتلاف يلد نقيضاً له. فما إن رأت فرنسا ذلك التقارب بين عدويها القديمين إنجلترا والنمسا حتى بادرت بالتحالف مع بافاريا، وبرويسا، وأسبانيا البوربورنية. وقد رأينا أن فرنسا كان لديها مكيافللها، وهو بيل - إيل، الذي اقترح هذه الآية من آيات اللصوصية السياسية. فعلى فرنسا التي تعهدت بتأييد الأمر العالي أن تسرع بالإفادة من مصيبة ماريا تريزا، وذلك بتأييد شارل ألبرت البافاري في مطالبته بالعرش الإمبراطوري عن طريق زوجته. وعلى فرنسا أن تقدم له المال والجند للمشاركة في الهجوم على النمسا، فإذا أفلحت الخطة قصر حكم ماريا تريزا على المجر، والنمسا السفلى، والأراضي المنخفضة النمساوية، وأصبح شارل إمبراطوراً يحكم بافاريا، والنمسا العليا، والتيرول، وبوهيميا، وجزءاً من سوابيا؛ أما الابن الثاني لملك إسبانيا فيأخذ ميلان، عارض فلوري الخطة، وتغلب بيل-ايل، وأرسل ليظفر بتأييد فردريك للمؤامرة. ووقعت فرنسا وبافاريا على تحالفهما في نمنبورج في 18 مايو 1741. وأحجم فردريك عن الانضمام فلم يكن في وسعه أن يسمح لفرنسا بأن تقوى شوكتها إلى هذا الحد، ولم يفقد الأمل في الوصول إلى تفاهم مع ماريا تريزا، ولكن لما لم تعرض عليه سوى تنازلات تافهة، فقد وقع ببرزلاو في 5 يونيو حلفاً مع فرنسا، وبافاريا، وأسبانيا؛ وأراد أن يشارك في الغنيمة بنصيب إن قسمت المملكات النمساوية. وتعهد كل طرف من الأطراف الموقعة على الحلف بألا تعقد حكومته صلحاً منفرداً سرياً. وضمنت فرنسا استيلاء فردريك على برزلاو وسيليزيا السفلى، ووعدت بأن تحث السويد على تعليق روسيا في حرب تشغلها، ووافقت على إرسال جيش فرنسي لمنع قوات إنجلتاه الهانوفرية من المشاركة في اللعبة.
أما وقد تركت ماريا تريزا بغير حليف تقريباً، فإنها صممت على الاستنجاد بنبلاء المجر العسكريين. وكان هؤلاء النبلاء، أو أسلافهم، قد عانوا الأمرين من حكم النمسا؛ فقد حرمهم ليوبولد الأول دستورهم القديم وحقوقهم الموروثة، فلم يكن لديهم إذن كبير مبرر لإغاثة حفيدته. ولكن حين ظهرت أمامهم في مجلسهم النيابي (الديت) في برسبورج (11 سبتمبر 1741)أثر فيهم جمالها ودموعها. وخطبت فيهم باللاتينية، واعترفت بأن حلفاءها تخلوا عنها، وأعلنت أن شرفها وعرشها يعتمدان الآن على بسالة وشهامة الفرسان المجريين والأسلحة المجرية وما يروي من أن النبلاء هتفوا باللاتينية "لنمت فداء مليكنا" (فهكذا سموا الملكة) إنما هو قصة جميلة هبطت الآن إلى مرتبة الأسطورة(78). فقد ساوموا كثيراً، واستلوا منها العديد من التنازلات السياسية؛ ولكن حين جاءهم زوجها فرانسيس ستيفن في 21 سبتمبر ومعه مرضع ترفع لهم بين يديها الطفل جوزيف ذا الشهور الستة، استجابوا للنداء بشهامة، وهتف كثيرون منهم بأن حياتهم ودماءهم فداء للملكة(76) وأقر المجلس التجنيد العفوي العام. ودعوة جميع الرجال للسلاح، وبعد تعطيل طويل ركبت قوة مجرية صوب الغرب للدفاع عن الملكة.
ولو أن شارل ألبرت واصل زحفه على فيينا لكان الوقت قد فات لتخليص هذه العاصمة. ولكن الذي حدث أثناء ذلك (19 سبتمبر) أن سكسونيا انضمت إلى الحلف المعادي للنمسا؛ فخشى شارل ألبرت أن يستولي أوغسطس الثالث على بوهيميا. ونصح فلوري الأمير البافاري بأن يستولي على بوهيميا قبل أن يستطيع السكسوني الوصول إليها. وحث فردريك شارل على مواصلة الزحف على فيينا. أما شارل الذي كانت فرنسا تموله فقد أطاع فرنسا. وخشي فرديك أن تصبح فرنسا بعد غلبة نفوذها في بافاريا وبوهيميا قوة خطرة على أمن بروسيا، فوقع هدنة سرية مع النمسا (9 أكتوبر 1741) وزلت له ماريا تريزا مؤقتاً عن سيليزيا السفلى لحرصها على إنقاذ بوهيميا.
وأحدقت ثلاثة جيوش الآن ببراغ: أحدها بقيادة ألبرت، والثاني جيش فرنسي بقيادة بيل-ايل، ثم عشرون ألف سكسوني. وسقطت العاصمة البوهيمية ذات الحامية الضعيفة بعد الهجمة الأولى (25 نوفمبر) ولكن النصر كان كارثة على شارل. ذلك أنه وقد استغرقته الحملة على بوهيميا ترك إمارته البافارية دون أن يدعمها بأسباب دفاع تذكر، ولم يدر بخلده قط أن تستطيع ماريا تريزا الهجوم عليها وهي مهددة بأخطار من هذه الجوانب الكثيرة، ولكن الملكة أبدت من مرونة الحركة وسهولة التكيف ما أوقع الفزع في قلوب أعدائها. فقد استدعت عشرة آلاف جندي نمساوي من إيطاليا، وأخذت الفرق المجرية تصل إلى فيينا، فأمرت على هذين الجيشين الكونت لودفج فون كيفنهولر، الذي تعلم فنون الحرب على يد أوجين أمير سافوي. أما وقد توفرت للجيشين القيادة القادرة، فقد فتحا بافاريا واجتاحاها دون مقاومة تذكر؛ وفي 12 فبراير 1742 استولى على ميونخ عاصمتها. وفي هذا اليوم نفسه في فرانكفورت-أم-مين، توج شارل ألبرت إمبراطوراً على الإمبراطورية الرومانية المقدسة باسم شارل السابع.
أما فردريك، الذي كان يتحول مع كل ريح من رياح القوة، فقد دخل الحرب من جديد خلال ذلك. لقد جعل الهدنة مشروطة بكتمان أمرها، ولكن ماريا تريزا كشفت أمرها لفرنسا، ووصلت إلى آذان فردريك هذه الهمسات الدبلوماسية، فبادر بالانضمام إلى حلفائه من جديد (ديسمبر 1741). واتفق معهم على خطة يقود بمقتضاها جيشاً يخترق مورافيا إلى النمسا السفلى، وهناك تلتقي به القوات السكسونية والفرنسية البافارية، ويزحف الجميع معاً إلى فيينا. ولكنه كان يقود الآن عملياته وسط سكان معادين له عداء نشيطاً، وكان الفرسان المجريون يغيرون على خطوط مواصلاته مع سيليزيا. فارتد ثانية ودخل بوهيميا. هناك، على مقربة من شوتوستز، هجم على مؤخرته جيش نمساوي بقيادة الأمير اللوريني شارل الكسندر (17 مايو 1742). وكان هذا الأمير، زوج أخت ماريا تريزا، شاباً في الثلاثين وواحداً من ألمع وأشجع أمراء أسرته، ولكنه لم يكن قريعاً لفردريك في تكتيكات المعركة. وكان لكل منهما جيش عدته نحو ثمانية وعشرين ألف مقاتل. وعادت طلائع فردريك إلى ساحة القتال في الوقت المناسب تماماً، فوجه قوتها الكاملة ضد جناح مكشوف للنمساويين، فتراجعوا في تقهقر منتظم. ولحقت بالجيش خسائر فادحة، ولكن النتيجة أقنعت ماريا تريزا بأنه ليس في استطاعتها أن تقاتل كل أعدائها في وقت واحد. فقبلت نصيحة المبعوثين الإنجليز الذين أشاروا عليها بإبرام صلح واضح محدد مع فردريك، وفي هذه المرة، وبمقتضى معاهدة برلين (28 يونيو 1742) نزلت له عن سليزيا كلها تقريباً. وهكذا وضعت الحرب السليزية الأولى أوزارها.
أما الجيشان النمساويان اللذان يقودهما كيفنهولر والأمير شارل الكسندر فقد زحفا الآن داخل بوهيميا. وواجهت الحامية الفرنسية في براغ التطويق والتجويع. ورغبة في تحاشي "قياس الخلف" هذا لأحلام بيل-إيل، أمرت فرنسا المرشال مايبوا بأن يقود إلى بوهيميا ذلك الجيش الذي كان يشاغل قوات جورج الثاني في هانوفر. وإذ تحررت إنجلترا على هذا النحو، فإنها دخلت الحرب بنشاط، وأقرضت ماريا تريزا 500,000 جنيه، وأرسلت ستة عشر ألف جندي إلى فلاندر النمساوية؛ ودفعت الأقاليم المتحدة 840.000 فلورين مساهمة منها في نفقات الحرب. وأحالت الملكة المال جيوشاً. وسد أحد هذه الجيوش مايبوا في زحفه على بوهيميا. وتجمعت القوات النمساوية، التي ازداد عددها، غير مرة حول براغ. وفر بيل-إيل ومعظم جنوده إلى يجير بعد أن كلفهم هذا ثمناً عالياً. وأقبلت ماريا تريزا من فيينا إلى براغ، وهناك توجت أخيراً (12 مايو 1743) ملكة على بوهيميا.
وبدت الآن منتصرة في كل مكان. وفي شهر مايو هذا وافقت الأقاليم المتحدة على أن تعينها بعشرين ألف مقاتل. وبعد شهر هزم حلفاؤها الإنجليز أعداءها الفرنسيين في ديتنجن. وكان لسيطرة البحرية الإنجليزية على البحر المتوسط أثر في دعم قضيتها في إيطاليا، ففي 13 سبتمبر انضم ملك سردانيا شارل إيمانويل الأول إلى حلف من النمسا وإنجلترا، ونال شريحة من لمباردية من النمسا وتعهداً من إنجلترا بأن تدفع له 200.000 جنيه كل عام نظير 45.000 جندي؛ وهكذا اشترى الجند بالجملة، والملوك بالتجزئة. وداعبت الآن ماريا تريزا الأحلام، لا باسترداد سليزيا فحسب، بل بضم بافاريا، والإلزاس، واللورين، إلى إمبراطوريتها، إذ كانت عنيدة وقت الانتصار بقدر ما كانت باسلة وقت الشدة.
أما فردريك فقد داعب السلام برهة. ففتح دار أوبرا جديدة في برلين، وقرض الشعر، وعبثت أنامله بالفلوت. وجدد دعواته لفولتير، ورد فولتير بأنه ما زال وفياً لإميلي. ولكن حدث عند المنعطف أن الوزارة الفرنسية-التي راعها أن تجد فرنسا في حرب مع إنجلترا، والنمسا، والجمهورية الهولندية، وسافوي-سردانية-تذكرت أن عبقرية فردريك وعمالقته سيكونون عوناً مرحباً به؛ وأن انتهاكاته لمعاهداته التي أبرمها مع فرنسا يمكن اغتفارها إذا انتهك معاهدته مع النمسا؛ وأنه قد يمكن إقناعه بأن يرى في سطوة النمسا المنبعثة من جديد خطراً يتهدد سلطانه على سيليزيا بل على بروسيا. فمن يستطيع أن يوضح له هذا على أحسن وجه؟ لم لا يجرب فولتير، الذي بيده الآن دعوة من فردريك، والذي يتوق دائماً لأن يلعب دوراً في السياسة؟
وهكذا عاد فولتير داعية السلام يخترق ألمانيا في مركبة يثب داخلها ويتأرجح، وأنفق هناك ستة أسابيع(من 30 أغسطس لى 12 أكتوبر 1743) وهو يحاول إقناع فردريك بخوض الحرب. ولم يستطع الملك أن يلتزم بوعد، فصرف الفيلسوف خاوي الوفاض إلا من التحيات. ولكن تقدم حملات عام 1744 أدخل في قلبه الخوف على سلامته وعلى دوام مكاسبه. ففي 15 أغسطس بدأ الحرب السيليزية الثانية.
وأراد أن يفتح بوهيميا. ولما كانت سكسونيا تقع بين برلين وبراغ، فقد سير جنوده مخترقاً درسدن، فأسخط بذلك أوغسطس الثالث الغائب عن وطنه. وما وافى الثاني من سبتمبر حتى كان رجاله الثمانون ألفاً يدقون أبواب براغ، وفي 16 سبتمبر استسلمت الحامية النمساوية. وبعد أن ترك فردريك خمسة آلاف جندي لاحتلال العاصمة البوهيمية، زحف جنوباً وهدد فيينا من جديد. وردت ماريا تريزا بتحدي هذا الخطر، فركبت على عجل إلى برسبورج وطلبت من الديت المجري تجريدة أخرى من الجند، فجمع لها 44,000، وبعد قليل زادهم 30,000 آخرين. وأمرت الأمير شارل بالكف عن مهاجمة الألزاس وقيادة الجيش النمساوي الرئيسي شرقاً لاعتراض زحف البروسيين. وتوقع فردريك أن الفرنسيين سيطاردون النمساويين، ولكنهم لم يفعلوا. فحاول أن يكره شارل على القتال، غير أن الأمير تجنبه، ولكنه دعم جهود المغيرين لقطع خطوط اتصال البروسيين بسليزيا وبرلين. وأعاد التاريخ نفسه؛ فقد وجد فردريك جيشه معزولا وسط سكان من الكاثوليك المتحمسين لمذهبهم المعادين له عداء فيه دهاء وبراعة. وكانت الجنود المجرية في طريقها للانضمام إلى الأمير شارل. ونمى إلى فردريك أن سكسونيا دخلت صراحة في صف النمسا. وخاف فردريك أن يعزل عن عاصمته وعن مصادر تموينه، وأمر الحامية البروسية بالتخلي عن براغ؛ وفي 13 ديسمبر قفل راجعاً إلى برلين، دون زهو الماضي، بعد أن تعلم أن الخادع قد يخدع.
وجرى تيار الحرب أشد ما يكون معاكسة له. ففي 8 يناير 1745 وقعت إنجلترا، والأقاليم المتحدة، وبولندا-سكسونيا، في وارسو ميثاقاً مع النمسا وعد جميع موقعيه بأن يرد لكل منهم كل ما كان يملكه في 1739- ومعنى هذا أن تعاد سليزيا لماريا تريزا. ووعد أوغسطس الثالث بأن يقدم 30.000 مقاتل نظير 150.000 جنيه من إنجلتاه وهولندا، بواقع خمسة جنيهات لكل نفس. وفي 20 يناير مات شارل السابع بعد أن تقلد عرش الإمبراطورية برهة قصيرة جداً، وكان يبلغ الثامنة والأربعين، وقد أعب حين حضره المنية عن أسفه لما ألحقه بوطنه م خراب من جراء تطلعه لعرشي الإمبراطورية وبوهيميا، وطلب إلى مكسمليان جوزيف أن يقلد عن هذه الدعاوي ويسالم البيت المالك النمساوي، وامتثل الناخب الجديد للنصيحة رغم اعتراضات فرنسا؛ ففي 22 أبريل تخلى عن كل دعاوي في عرش الإمبراطورية، ووافق على تأييد الدوق فرنسيس ستيفن في مطالبته بالتاج الإمبراطوري. وسحبت الجنود النمساوية من بافاريا.
وفكرت الملكة الآن لا في استرداد سليزيا فحسب، بل في تقطيع أوصال بروسيا ضماناً لها من أطماع فردريك(80). وقد أقلقها مؤقتاً انتصار الفرنسيين على حلفائها الإنجليز في فومنتنوا (11 مايو 1745)، ولكنها في ذلك الشهر أرسلت جيشها الرئيسي إلى سيليزيا وأصدرت إليه الأمر بالدخول في المعركة. والتقى النمساويون الذين عززتهم فرقة سكسونية بفردريك في هوهنفريدبيرج (4 يونيو 1745). هنا أنقذته براعته التكتيكية، فقد نشر خيالته ليستولوا على تل استطاعت مدفعيته أن تقصف منه مشاة العدو. وبعد ساعات من التقتيل انسحب النمساويون والسكسون تاركين وراءهم أربعة آلاف أسير وكانت تلك المعركة الفاصلة في الحروب السليزية.
وعادت إنجلترا تطوع دبلوماسيتها لمقتضيات السلام. فقد أكرهتها غزوة 1745 الإستيوارتية على سحب خيرة جندها من فلاندر، واستولى المرشال دساكس على المدينة تلو المدينة لفرنسا، وحتى على القاعدة الإنجليزية الكبرى في أوستند، وخشى جورج الثاني أن يصل الفرنسيون المنتصرون إلى إمارته المحبوبة هانوفر. أما البرلمان البريطاني الذي خلع ولبول لحبه السلام فقد مل الآن حرباً كلفت الملايين من الدنانير الغالية، فضلا عن آلاف الرجال الذين يمكن تعويضهم، وناشد المبعوثون الإنجليز ماريا تريزا أن تصل إلى تفاهم مع فردريك تمكيناً للقوات النمساوية والإنجليزية من التركيز على فرنسا التي نفخ فيها العافية قائد كادت انتصاراته تعدل غرامياته. ولكن الملكة أبت، فهددتها إنجلترا بسحب كل معونة وإنهاء كل دعم مالي، ولكنها أصرت على الرفض. فدعت إنجلترا فردريك إلى مؤتمر في هانوفر، وهناك وقعت مع ممثليه صلحاً منفرداً (26 أغسطس 1745)، وقبلت إنجلترا بمقتضى هذا الصلح شروط معاهدة برلين، التي أكدت ملكية بروسيا لسيليزيا، ووافق فردريك على تأييد انتخاب الدوق فرانسس ستيفن إمبراطوراً. وفي 4 أكتوبر، في فرانكفورت، توج فرانسس إمبراطور، وأصبحت ماريا تريزا إمبراطورة.
وأمرت قوادها بأن يواصلوا الحرب. فقاتلوا البروسيين في زور بيوهيميا (30 سبتمبر) وفي هينير زدورف (24 نوفمبر)، وهزم النمساويون مرتين رغم تفوقهم العددي. وتقدم خلال ذلك جيش بروسي يقوده ليوبولد أمير أنهالت-دساو في سكسونيا، وعند كيسلدورف (15 ديسمبر) سحق القوات التي تحمي درسدن. ودخل فردريك درسدن قادماً إليها بعد النصر. دون مقاومة وفي شهامة وسماحة؛ فحظر أعمال النهب والسلب، وطمأن أبناء أوغسطس الثالث الذين فروا إلى براغ. وعرض الانسحاب من سكسونيا إذا انضم الملك الناخب إلى إنجلترا في الاعتراف بتملك لسليزيا وكف عن مساعداته لماريا تريزا، ووافق أوغسطس. ووجدت ماريا تريزا نفسها وحيدة بعد أن تخلت عنها إنجلترا وسكسونيا، فأبرمت معاهدة درسدن (25 ديسمبر 1745) التي نزلت فيها عن سيليزيا ومقاطعة جلاتز لبروسيا. وهكذا وضعت الحرب السيليزية الثانية أوزارها. وفقدت حرب الوراثة النمساوية الآن معناها، ولكنها استمرت؛ فحاربت فرنسا النمسا وإنجلترا على السلطة في فلاندر؛ وحاربت فرنسا وأسبانيا والنمسا وسردينا على السلطة في إيطاليا. وكان لانتصارات النمساويين في إيطاليا ما يقابلها من انتصارات للفرنسيين في الأراضي المنخفضة. وأخيراً أكره الإعياء المالي، لا أي نفور من المذابح، المتخاصمين على الصلح. وانتهت حرب الوراثة النمساوية بنهاية مؤسفة بمقتضى معاهدة إكس لاشابل، بعد مفاوضات طالت من إبريل إلى نوفمبر 1748، وثبت بها استيلاء فردريك على سيليزيا، وكان هذا الكسب القيم الوحيد الذي استطاعت أي دولة من دول الظفر به لقاء ثمانية أعوام من التنافس في التدمير. فردت فرنسا الأراضي المنخفضة الجنوبية إلى النمسا رغم انتصارات ساكس؛ واعترفت بالأسرة الهانوفرية المالكة في انجلتره، ووافقت على طرد المطالب الشاب بالعرش من الأراضي الفرنسية.
واستراحت الدول ثمانية أعوام حتى يستطيع مخاض النساء أن يعوض النقص في الجيوش لجولة جديدة في لعبة الملوك.
5- فردريك في أرض الوطن 1745-1750
قفل الملك الظافر الذي أدركه التعب إلى برلين (28 ديسمبر 1745) وأقسم أن "سيكون منذ اليوم سلام إلى آخر حياتي!"(81) ونددت به كل أوربا خارج بروسيا (ونددت به بعض الناس داخلها) لصاً غادراً، وأعجبت به لصاً ناجحاً. واستنكر فولير مذابحه ولقبه "الأكبر"(82) (أو العظيم). وكان فردريك قد رد في 1741 على احتجاجات الشاعر فقال:
تسألني كم من الزمن اتفق زملائي على أن يدمروا العالم فيه. وجوابي أنه ليس لي أدنى علم به، ولكن القتال أصبح فاشية هذا العصر، وفي ظني أن أمده سيطول. وقد أرسل لي الأبيه دسان-بيير، الذي يخصني بشرف مكاتبتي، كتاباً جميلا في طريقه رد السلام إلى ربوع أوربا والحفاظ عليه إلى الأبد..
وكل ما ينقص الخطة لكي تنجح هو موافقة أوربا وبضعة توافه مماثلة(83).
وقد قدم لأوربا دفاعه في كتابه الذي نشر بعد موته باسم "تاريخ جيلي"، واعتنق فيه مبدأ مكيافللي الذي غلب فيه مصلحة الدولة على مبادئ فضيلة الفرد.
ربما رأت الأجيال القادمة بدهشة في هذه المذكرات روايات عن معاهدات أبرمت ثم نقضت. ومع أن لهذه التصرفات سوابق كثيرة، فإنها ما كانت تشفع للمؤلف لو لم يكن لديه مبررات أفضل يعتذر بها عن سلوكه. إن مصلحة الدولة يجب أن تقوم قانوناً للملوك. ويجوز نقض المحالفات لأي من هذه الأسباب:
1-حين لا يوفى حليف ما بتعهداته؛ 2- حين يبيت حليف خداعك، وحين لا يكون أمامك سبيل إلا أن تسبقه إلى خداعه؛ 3- حين تفرض عليك قوة قاهرة تضطرك إلى نقض اتفاقاتك، 4- حين تعوزك الوسائل لمواصلة الحرب.... ويبدو لي واضحاً جلياً أن الفرد الذي يتولى منصباً عاماً يجب عليه أن يوفي بوعده بكل أمانة... فإذا خدع استطاع أن يطلب حماية القوانين له.. ولكن إلى أي محكمة يلجأ الملك إذا انتهك ملك آخر المواثيق التي بذلها له؟ إن كلمة فرد ما تنطوي على كارثة لرجل واحد فقط، ولكن كلمة ملك قد تجر كارثة شاملة على أمم برمتها. وهذا كله يمكن اختزاله إلى سؤال واحد هو: هل من الخير أن يهلك الشعب أم أن يخرق الملك معاهدة؟؟ وأي أبله متردد في الجواب القاطع عن هذا السؤال؟(84)
وقد وافق فردريك اللاهوت المسيحي على أن الإنسان بطبيعته شرير. فلما أعرب مفتش تعليم يدعى زولتسر عن الرأي بأن "ميل البشر الفطري يتجه إلى الخير أكثر من الشر" رد الملك عليه قائلا "أواه يا عزيزي زولتسر، إنك لا تعرف هذا النوع الإنساني اللعين"(85). ولم يقتصر فردريك على مجرد تقبل تحليل لاروشفوكو طبيعة البشر على أنها أنانية خالصة، بل آمن بأن الإنسان لن يقر بأن قيد على الجري وراء مصلحته إن لم يكبحه الخوف من الشرطة فما دامت الدولة هي الفرد مضروباً في أعداد كثيرة، وليس هناك شرطة دولية يردعها عن أنانيتها الجماعية، فلا سبيل إذن إلى كبح جماحها إلا أن تخاف سطوة غيرها من الدول. ومن ثم كان أول واجبات "خادم الدولة الأول" (كما سمى فردريك نفسه) أن ينظم قوة الأمة على الدفاع، وهي تتضمن السبق بالهجوم - أي أن تفعل بالآخرين ما يبيتون أن يفعلوه بك. وهكذا كان الجيش في رأى فردريك، كما كان في رأى أبيه، أساس الدولة. لقد أرسى دعائم اقتصاد تشرف عليه الحكومة وتخططه بعناية، ورعى الصناعة والتجارة، وبعث عملاءه إلى جميع أرجاء أوربا ليجلبوا مهرة الصناع، والمخترعين، والصناعات، ولكنه أحس أن هذا كله لا غناء فيه آخر الأمر إن لم يصنع من جنوده أفضل جيوش أوربا تدريباً، وأضبطها نظاماً، وأجدرها بالثقة والاطمئنان.
أما وقد ملك هذا الجيش، ومعه بوليس حسن التنظيم، فإنه لم ير به حاجة إلى الدين معوناً على النظام الاجتماعي. فلما سأله وليم برنزويك ألا يرى أن الدين دعامة من أفضل دعائم سلطة الحاكم، أجاب "إنني أجد الكفاية في النظام والقوانين.... لقد كانت الدول تحكم حكماً جديراً بالإعجاب حين لم يكن لدينك وجود"(86) ولكنه قبل أي عون استطاع الدين بذله في غرس المشاعر الفاضلة التي تعين على "النظام". وحمى جميع الأديان في مملكته، ولكنه أصر على تعيين الأساقفة الكاثوليك لا سيما في سيليزيا. (كذلك أصر الملوك الكاثوليك على تعيين الأساقفة الكاثوليك، وعين الملوك الإنجليز الأساقفة الأنجليكان.) وقرر أن يكون لكل إنسان الحرية في أن يعبد كما يشاء، أو لا يعبد على الإطلاق. وشمل هذا الروم الكاثوليك، والمسلمين، والتوحيدين، والملحدين. على أنه كان هناك قيد واحد على هذه الحرية، فحين كان الجدل الديني ينقلب إلى السب أو العنف الشديدين، كان فردريك يخمده كما أي خطر يهدد السلام الداخلي. وفي سنواته الأخيرة كان أقل تسامحاً مع الهجمات على حكومته منه على الهجمات على الله.
فأي رجل كان، مرهب أوربا هذا ومعبود الفلاسفة؟ لم يزد طوله على خمسة أقدام وست بوصات، وليست هذه بالقامة الشامخة. وقد غلبت عليه السمنة في شبابه، ولكنه غدا الآن بعد عشر سنين من الحكم والحرب نحيلا، عصبياً، مشدوداً، وكأنه سلك من الحساسية والنشاط الكهربيين، له عينان حادتان فيهما ذكاء متشكك، وله قدرة على الفكاهة، ونكته الذكية لا تقل حدة عن نكت فولتير. كان في وسعه، كإنسان لا يعارضه أحد، أن يكون غاية في اللطف، ولكنه كملكاً كان صارماً، وندر أن خفف العدل بالرحمة، فكان يستطيع أن يناقش الفلسفة مع مساعديه وهو يرقب في هدوء جنوده وهم يعانون الجلد وكان لكلبيه لسان لاذع يجرح أصدقاءه أحياناً. وهو شديد الشح عادة، كريم بين الحين والحين. وإذ ألف أن يطاع، فقد أصبح مستبد الطبع، لا يكاد يطيق اعتراضاً، وندر أن يلتمس النصيحة، ولا يعمل بها إطلاقاً. فيه وفاء لأخصائه، ولكنه يحتقر النوع الإنساني. نادر الحديث مع زوجته، يضيق عليها في النفقة، ومزق في وجهها الكشف الذي دونت فيه احتياجاتها في مسكنة(87). وكان عادة ودوداً لشقيقته فلهلمينا، ولكنها هي أيضاً وجدته أحياناً متحفظاً فاتر العاطفة(88). أما غيرهن من النساء، باستثناء الأميرات من زواره، فقد باعد ما بينهن وبينه؛ ولم يكن به ميل للطائف الأنثى ومفاتنها، سواء الجسدية أو الخلقية، وقد أبغض ثرثرة الصالونات. وآثر الفلاسفة والشبان ملاح الوجوه، وكثيراً ما صحب هؤلاء إلا مسكتنه بعد العشاء(89). وربما كان حبه للكلاب أكثر حتى من حبه لهؤلاء. وكان أحب رفاقه إليه في أخريات عمره كلابه السلوقية التي كانت تنام في فراشه؛ وقد أمر بإقامة أنصاب على قبورها، وبأن يدفن بجوارها(90). لقد وجد أن من العسير عليه أن يكون قائداً ناجحاً محبوباً في وقت واحد.
وفي 1747 أصيب بنوبة قلبية فالج وظل فاقد الوعي نصف ساعة(91). بعد هذا قاوم ضعف صحته بالعادات الثابتة والحمية، ينام على حشية رقيقة فوق سرير بسيط قابل للطي، ويستجلب النوم بالقراءة. وكان يقنع في منتصف عمره هذا بالنوم خمس ساعات أو ستاً في اليوم، فيستيقظ في الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة صيفاً، وبعد ذلك شتاء. لا يقوم على خدمته غير خادم واحد - أهم واجباته أن يوقد له ناره ويحلق له لحيته؛ وكان يحتقر الملوك الذين لا يستغنون عن مساعدين يلبسونهم. ولم يعرف عنه نظافة الشخص أو أناقة الملبس، فكان ينفق نصف يومه وهو في روبه، ونصفه وهو في سترة الحارس. يبدأ فطوره بعدة أكواب من الماء، ثم عدة أقداح من القهوة، ثم يتناول بعض الكعك، ثم كثيراً من الفاكهة. وبعد الفطور يعزف على الفلوت، متأملا شئون السياسة والفلسفة وهو ينفخ آليته.
وفي نحو الحادية عشرة من كل صباح يحضر تدريب جنده وعرضهم. وكانت وجبة الظهيرة الرئيسية تختلط عادة بالمداولات. ثم ينقلب بعد الظهر مؤلفاً، فينفق ساعة أو ساعتين في كتابة الشعر أو التاريخ؛ وسنجده مؤرخاً ممتازاً لأسرته ولجيله. فإذا فرغ ساعات للإدارة روح عن نفسه بالحديث مع العلماء، والفنانين، والشعراء، والموسيقيين. وفي السابعة مساء قد يشارك في حفلة موسيقية عازفاً على الفلوت. وفي الثامنة والنصف يحل موعد حفلات عشاءه المشهورة في سانسوسي عادة (بعد مايو 1747)، يدعو إليها أخص أخصائه، وكبار زواره، وأقطاب أكاديمية برلين. وكان يطلب إليهم أن يكونوا على سجيتهم، وينسوا أنه ملك، ويتحدثوا دون خوف، وهو ما فعلوه في كل موضوع إلا السياسة. وكان فردريك نفسه يتكلم في إسهاب، وعلم، وذكاء. يقول أمير لين "كان حديثه موسوعياً، فالفنون الجميلة، والحرب، والطب، والأدب، والدين، والفلسفة، والأخلاق، والتاريخ والتشريع، تعرض على بساط البحث كل في دوره"(92). ولم ينقص الحفل غير مفخرة واحد حتى يصبح مأدبة للفكر. وقد أقبل في 10 يوليو 1750.
6- فولتير في ألمانيا 1750-1754
لقد رضى حتى هو عن استقباله. فقد اصطنع فردريك العادات الغالية في الترحيب به. كتب فولتير لريشليو يقول "تناول يدي ليقبلها، وقبلت أنا يده، وقلت إنني عبده"(93). وأفرد له مسكن أنيق في قصر سانسوسي، فوق الجناح الملكي مباشرة. ووضعت خيول الملكة ومركباته، وحوذيوه، ومطبخه، تحت تصرفه. وأحاط به أكثر من عشرة خدم يغالون في العناية به، وخطب وده عشرات الأمراء، والأميرات، والنبلاء، والملكة ذاتها. وقد عينه الملك كبيراً لأمنائه براتب قدره عشرون ألف فرنك في السنة، ولكن أهم واجباته كان تصحيح الفرنسية في شعر فردريك وكلامه. ولم يتقدمه في حفلات العشاء غير الملك. وذهب زائر ألماني إلى "أن مطارحاتها أطرف ألف مرة من أي كتاب"(94).
وقد قال فولتير بعد ذلك مستحضراً هذه الأحاديث "لم يحظ مكان آخر في الدنيا بحرية أكبر في الحديث عن خرافات الإنسان"(95).
وقد انتشى طرباً بهذا كله. فكتب إلى دارجنتال (سبتمبر 1750) يقول:
إنني أجد مرفأ ألجأ إليه بعد ثلاثين عاماً من العواصف. أجد حماية ملك، وحديث فيلسوف، وخلالا لطيفة لإنسان محبوب، كلها مجتمعة في رجل ظل ستة عشر عاماً يتوق إلى تعزيتي عن عثرات حظي وتأميني من أعدائي... هنا أطمئن إلى مصير هادئ إلى النهاية. وإذا جاز للإنسان أن يطمئن إلى أي شئ، فهو خلق ملك بروسيا(96).
وكتب إلى مدام دنيس يطلب إليها أن تحضر وتعيش معه في فردوسه. على أنها بحكمة آثرت باريس والعشاق الأصغر، فحذرته من إطالة المكث في بلين. وقالت في خطابها إن صحبة السلطان لا يؤمن جانبها، فهو يغير رأيه ويبدل محاسيبه، وعلى المرء أن يكون على حذر دائماً من أن يعارض مزاجه أو إرادته، وسيجد فولتير نفسه إن عاجلا أو آجلا خادماً وسجيناً أكثر منه صديقاً(97).
وأرسل الفيلسوف الأحمق الخطاب إلى فردريك فكتب له هذا الرد (23 أغسطس) وهو كاره أن يفقد الغنيمة التي تريد الظفر بها:
قرأت الخطاب الذي كتبه ابن أختك من باريس. وإني لأقدر لها الود الذي تكنه لك. ولو كنت مكان مدام دنيس لفكرت كما تفكر، أما وأنا ما أنا، فإني أفكر بطريقة أخرى. وإنه ليحزنني أن أكون سبباً في تعاسة عدو، فكيف إذن أبغي بلية رجل أقدره، وأحبه، يضحي من أجلي ببلده وكل ما هو عزيز على الإنسانية، لا يا عزيزي فولتير، لو أنني تبينت أن انتقال إلى هنا سيحلق بك أقل أذى لكنت أول من يثنيك عنه. وإني لأوثر سعادتك على سروري المفرط بتملكك. ولكنك فيلسوف، وكذلك أنا، فأي شئ إذن أكثر طبيعية، وبساطة، وتمشياً مع نظام الأشياء، من أن يمنح فلاسفة خلقوا ليعيشوا معاً، تربطهم دراسات واحدة، وميول واحدة، وطريقة تفكير مشابهة، يمنح بعضهم بعضاً هذا الإشباع لرغباتهم؟... إنني موقن بأنك ستكون سعيداً جداً هنا، وأنك ستعد أباً للأدب ولأصحاب الذوق، وأنك واجد في كل التعزيات التي يمكن أن يتوقعها رجل له كفايتك من رجل يقدره. مساء الخير(98).
ولم يقتضي تدمير هذا الفردوس من أكبر الفيلسوفين سناً أكثر من أربعة أشهر. لقد كان فولتير مليونيرا، ولكنه، لم يطق أن يفوت عليه فرصة قد تضخم ثروته. ذلك أن بنك سكسونيا كان قد أصدر أوراقاً سميت "شهادات إيراد"، هبطت إلى نصف قيمتها الأصلية. وقد اشترط فردريك في معاهدة درسدن دفع ثمن الأوراق التي اشتراها البروسيون، عند استحقاقها بقيمتها الاسمية ذهباً، واشترى بعض البروسيين الخبثاء بعض هذه الأوراق بثمن بخس في هولندا ثم صرفوا ثمنها كاملا في بروسيا. وفي مايو 1748 حظر فردريك هذا الاستيراد إنصافاً لسكسونيا. وفي 23 نوفمبر 1748 استدعى فولتير في بوتسدام مصرفياً يهودياً يدعى أبراهام هيرشي. وفي رواية هيرش أن فولتير طلب إليه أن يذهب إلى درسدن ويبتاع له بمبلغ 18,430 أيكوسا أوراقاً بسعر خمسة وثلاثين في المائة من قيمتها الاسمية. وزعم هيرش أنه نبه فولتير إلى أن هذه الأوراق المالية لا يمكن جلبها قانوناً إلى بروسيا، وأن فولتير وعده بأن يحميه، وأعطاه خطابات تحويل على باريس وليبزج. وضماناً لهذه المبالغ أودع هيرش لدى فولتير ماسات من قبل بمبلغ 18,430 أيكوسا. ولكن فولتير ندم على هذه الاتفاقات بعد رحيل عميله، وقرر هيرش بعد وصوله إلى درسدن ألا يمضي في تنفيذ العملية. وأوقف فولتير الدفع على خطابات التحويل، وعاد المصرفي إلى برلين. ويقول هيرش إن فولتير حاول أن يرشوه ليسكت، بشراء ماسات قيمتها ثلاثة آلاف أيكوس. وتنازعا على تقدير القيمة وأمسك فولتير برقية هيرش وصرعه(99)؛ فلما لم يتلق ترضية أكثر من هذا جعل السلطات تقبض عليه، وعرض النزاع على المحكمة علناً (30 ديسمبر). وفضح هيرش خطة فولتير لشراء الأوراق السكسنية، فأنكرها فولتير زاعماً أنه أرسل هيرش إلى درسدن لشراء فراء، ولكن أحداً لم يصدقه.
فلما سمع فردريك بهذه الورطة بعث برسالة غاضبة من بوتسدام إلى فولتير في برلين (24 فبراير 1751): لقد سرني أن أستقبلك في بيتي؛ وقدرت عبقريتك، ومواهبك، وعلمك، وكان لي ما يبرر اعتقادي بأن رجلا في مثل سنك أعياه النضال مع الكتاب والتعرض للعاطفة يجئ إلى هذا المكان ليحتمي به احتماءه بمرفأ آمن.
ولكنك حين وصلت انتزعت مني بصورة غريبة بعض الشيء أمراً بألا أكلف فريرون بكتابة الأنباء من باريس، وكان من الضعف... ما جعلني أمنحك سؤلك، مع أنه ليس من حقك أن تقرر أي الأشخاص يجب أن أستخدم. وقد شعرت بأن باكولار دارنو (شاعر فرنسي في بلاط فردريك) أساء إليك، والرجل الكريم السمح كان يعفو عنه، أما المنتقم فيطارد أولئك الذين يطيب له أن يبغضهم... ومع أن دارنو لم يسئ إلي بشئ، فإني طردته بسببك... ثم كانت لك مع يهودي خصومة هي أقذر الخصومات في الدنيا، وقد أثارت فضيحة رهيبة في طول المدينة وعرضها. ومسألة شهادات الإيراد تلك معروفة جيدا في سكسونيا حتى لقد شكوا لي شكاوي مرة.
وإنني من جهتي كنت محافظاً على الهدوء والسلام في بيتي حتى وصلت؛ وإني أنذرت بأنك إن كنت مولعاً بالدس والتآمر فقد أخطأت اختيار من يعينك عليه. فإني أحب الناس المسالمين الهادئين الذين لا يشيعون في سلوكهم انفعالات الدراما المأساوية. فإن اعتزمت العيش عيشة الفلاسفة، فسيسرني أن ألقاك، أما إن أسلمت نفسك لكل سورات غضبك وانفعالك ودخلت في مشاجرات مع كل الناس، فإنك لن تحسن إلي بمجيئك هنا، وخير لك أن تبق في برلين.
وحكمت المحكمة لصالح فولتير. وأرسل إلى الملك اعتذارات ذليلة وعفا عنه فردريك، ولكنه نصحه بأن "يكف عن الشجار، سواء مع العهد القديم أو الجديد"(100). وبعدها أنزل فولتير بيتاً ريفياً لطيفاً يسمى "بيت المركيز" ويقع قرب سانسوسي. وأرسل له الملك تأكيدات باحترامه المجدد، ولكن حماقة فولتير لم تذهب به إلى حد الثقة بها. وبعث له الملك الشاعر قصائد يطلب إليه تهذيب فرنسيتها، وأضنى فولتير نفسه فيها كثيراً وأغضب كاتبها بإدخال تغيرات حادة عليها.
ونظم فولتير الآن قصيدته المسماة "في القانون الطبيعي"، وقد حاولت أن تجد الله في الطبيعة، مقتدية في ذلك بطريقة الكسندر بوب على الأخص. وأهم من هذه القصيدة مضموناً قصيدة "عصر لويس الرابع عشر" التي أكملها وصقلها خلال تلك الأشهر ثم نشرها في برلين (1751). وكان حريصاً على الفراغ من طبعها قبل أن يضطر لسبب ما إلى الرحيل عن ألمانيا لأنها لن تكون بمأمن من الرقابة على المطبوعات إلا في رعاية فردريك. كتب إلى ريشليو في 31 أغسطس" تعلم جيداً أنه ليس هناك (في باريس) رقيب صغير واحد للكتب لا يعتبر تشويه عملي أو مصادرته حسنة أو واجباً"(101). وحظر بيع الكتاب في فرنسا، وأصدر تجار الكتب في هولندا وإنجلترا طبعات مسروقة لم ينقذوا عليها شيئاً؛ فإذا عرفنا هذا فهمنا حبه للمال فهماً أفضل. لقد كان عليه أن يحارب "تجار الكتب الأوغاد"(102) لا رجال الدين والحكومات فحسب.
و "عصر لويس الرابع عشر" أكثر أعمال فولتير وأمانة في الإعداد فقد خطط له في 1732، وبدأت في 1734، ونحاه جانباً في 1738، ثم عاد إليه في 1750. وقد قرأ له مائتي مجلد، وتلالا من المذكرات غير المنشورة، واستشار عشرات الناس ممن بقوا على قيد الحياة بعد العصر العظيم، ودروس الأوراق الأصلية التي كتبها أبطال العصر أمثال لوفوا وكولبير، وحصل من الدوق دنواي على مخطوطات التي خلفها لويس الرابع عشر، ووجد وثائق هامة لم تستخدم إلى ذلك الحين في دار محفوظات اللوفر(103). ووازن بين الأدلة المتضاربة بحكمة وعناية، وحقق مرتبة عالية من الدقة. لقد حاول مع مادم دشاتليه أن يكون عالماً ففشل، والآن اتجه إلى كتابة التاريخ وكان نجاحه في ذلك ثورة.
وقد أعرب قبل ذلك بزمن طويل عن هدفه في خطاب تاريخه 18 يناير 1739:" أن هدفي الأهم ليس التاريخ السياسي والحربي، بل تاريخ الآداب والفنون، تاريخ التجارة، تاريخ الحضارة - وبعبارة موجزة، تاريخ العقل الإنساني. "وأعرب عنه إعراباً أفضل حتى من هذا خطاب كتبه لتييريو في 1736. يقول:
حين طلبت حكايات ونوادر عن عصر لويس الرابع عشر لم أكن أقصد الملك ذاته بقدر ما أقصد الآداب والفنون التي ازدهرت في عهده. وإني لأوثر تفاصيل عن راسين وبوالو، وكينو ولولى، وموليير، ولوبرون، وبوسويه، وبوسان، وديكارت، وغيرهم، لاعن معركة ستنكركي. لم يبق من أولئك الذين قادوا الجيوش والأساطيل إلا اسمهم، ولا ثمر بجنيه النوع الإنساني من مائة معركة كسبت، أما الرجال العظماء الذين ذكرتهم فقد جهزوا مباهج صافية باقية لأجيال لم تولد. فقناة تربط بين بحرين، أو لوحة بريشة بوسان، أو مأساة رائعة، أو حقيقة يماط عنها اللثام، هذه كلها أشياء أثمن ألف مرة من جميع حوليات البلاط، وكل قصص الحرب. وأنت تعلم أن العظماء من الرجال هم الأوائل في نظري، أما "الأبطال" فهم الأواخر. والعظماء عندي هم كل الذين بزوا غيرهم في النافع المبهج. أما الذين يخرجون الأقطار فليسوا أكثر من أبطال(104).
وربما رفع فولتير الأبطال العسكريين من مكانهم في المؤخرة إذا أنقذت انتصاراتهم الحضارة من الهمجية؛ ولكن كان من الطبيعي أن يجد الفيلسوف الذي لم يعرف سلاحاً غير الألفاظ متعة في رفع اضرابه إلى مكان مرموق، واسمه خير بيان لنظريته لأنه لم يزل بعد قرنين من الزمان أبرز الأسماء في ذكرنا لعصره. وكانت نيته في الأصل أن يخصص الكتاب برمته التاريخ الثقافي. ثم أشارت عليه مدام دشاتليه بكتابة "تاريخ عام" للأمم؛ وعليه فقد ألف فصولا في السياسة، والحرب، والبلاط، ليجعل المجلد تتمة متجانسة لكتاب أكبر عنوانه "مقال في التاريخ العام" كان يتخلف تحت قلمه. ولعل هذا هو السبب في أن التاريخ الثقافي غير مندمج في بقية المجلد، فالنصف الأول من الكتاب مخصص للتاريخ السياسي والحربي، ثم تأتى أقسام عن العادات "خصائص ونوادر"، والحكومة، والتجارة، والعلوم، والأدب، والفن، والدين.
وتطلع الكاتب المطارد خلفه في إعجاب إلى العهد كان الملك فيه يكرم الشعراء (إذا لم يحيدوا عن الجادة)؛ وربما كان تشديده على دعم لويس الرابع عشر للآداب والفنون هجوماً جانبياً على عدم اكتراث لويس الخامس عشر بمثل هذه الرعاية. أما وقد برزت الآن عظمة العصر الماضي في هذه الذكرى المموهة "وأغفل ذكر استبداده وغارات خياليه على البيوت، فإن فولتير راح يضفي شيئاً من الكمال على الملك الشمس ويطرب لانتصارات القواد الفرنسيين - وإن وسم بالعار تدمير البلاتينات. ولكن النقد يخفي رأسه أمام هذه المحاولة الحديثة الأولى لكتابه التاريخ المتكامل. وقد أدرك المعاصرون الفطنون أن هذه بداية جديدة- فهي التاريخ يترجم للحضارة، التاريخ الذي حوله الفن والنظرة الصحيحة أدباً وفلسفة. فما انقضى عام على نشره حتى كتب إيرل تشسترفيلد لولده يقول:
لقد أرسل من فولتير إلى برلين كتابه "تاريخ عصر لويس الرابع عشر" وقد جاءني في أوانه، ذلك أن اللورد بولتبروك علمني مؤخراً كيف ينبغي أن يقرأ التاريخ. وها هو ذا فولتير يريني كيف أن يكتب... إنه تاريخ الفهم الإنساني، بقلم عبقري لينتفع به الأذكياء من الناس... وقد تحرر مؤلفه من الأهواء الدينية والفلسفية والسياسية والقومية أكثر من أي مؤرخ صادفته إطلاقاً، ومن ثم فهو يروي هذه الأمور كلها بصدق ونزاهة على قدر ما تسمح له بعض الاعتبارات التي لا مفر دائماً من مراعاتها(105).
وكان فولتير خلال جهوده الأدبية برما بوضعه القلق في بلاط فردريك. ذلك أن لامتري، الرجل المادي النزعة المرح الطبع الذي كان كثيراً ما يقرأ للملك، نقل في أغسطس 1751 إلى فولتير ملاحظة أبداها مضيفهما: "سأحتاج إليه (أي فولتير) سنة أخرى على الأكثر (مهذباً لفرنسية الملك)؛ إن الناس يعتصرون البرتقالة ثم يلقون قشرتها"(106). ويتشكك البعض في صحة نسبة هذه الملاحظة إلى فردريك، إذ لم يكن في طبعه أن يفضي بسره لأحد على هذا النحو، ولم يكن مستحيلاً على لامتري أن يتمنى إقصاء فولتير عن حظوته. كتب فولتير إلى مدام دنيس في 2 سبتمبر يقول "بذلت قصارى جهدي لكيلا أصدق لامتري، ولكني ما زلت حائراً." ثم كتب إليها في 29 أكتوبر يقول "مازلت أحلم بقشرة البرتقالة تلك... وما أشبهني بذلك الرجل الذي كان يسقط من برج فلما وجد نفسه مرتاحاً في الهواء قال لا بأس بهذا الوضع لو دام"(107).
وكان في ألمانيا رجل آخر شارك في المهزلة. وقال فردريك إنه لا بد من زوال واحد من رجلين فرنسيين في بلاط واحد(108) ذلك أن موبرتوي عميد أكاديمية برلين، كان لا يتقدم عليه مقاماً بين ضيوف الملك في سانسوسي غير فولتير؛ وكان كلا الرجلين ضيفاً بهذا الجوار؛ ولعل فولتير لم ينس أن مدام دشاتليه كانت يوماً ما مغرمة بموبرتوي. وفي أبريل 1751 أقام فولتير وليمة دعا إليها موبرتوي فلبى الدعوة. وقال له فولتير إن كتابك "عن السعادة" أمتعني كثيراً، باستثناء بضعة غوامض سنناقشها معاً ذات مساء." وعبس موبرتوي وقال "غوامض"؟ قد يكون هناك غوامض بالنسبة لك يا سيدي." ووضع فولتير يده على كتف العالم وقال "سيدي العميد، إنني أقدرك، فأنت رجل شجاع، تريد الحرب. فلتخوضها إذن، ولكن دعنا الآن نأكل شواء الملك"(109). وكتب إلى دارجنتال (4 مايو) يقول "لم يؤت موبرتوي من آداب السلوك ما يفتن كثيراً. إنه يقيس أبعادي بربعيته في خشونة؛ ويقولون أن معلوماته يخالطها الحسد... إنه رجل فيه بعض الفظاظة، وليس اجتماعياً جداً." ثم كتب إلى ابنة أخته دنيس في 24 يوليو يقول"لقد أشاع موبرتوى بدهاء أنني وجدت "أعمال" الملك رديئة جداً، وأنني قلت لبعضهم وأنا أتسلم بعض أشعار الملك (ألا يتعب إرسال غسيله القذر إلى لأغسله"؟(110) وليس من المؤكد أن موبرتوي حمل هذه الشائعة إلى فردريك، ولكن فولتير ظنه مؤكداً، فعقد النية على الحرب.
وكان من إسهامات موبرتوي في العلم "مبدأ الحركة الدنيا"_ أي أن كل التماثيل في عالم الحركة تنجز بأقل قوة تكفي لأحداث النتيجة. وقد تعثر صموئيل كوينيج، الذي دان لموبرتوي بعضويته في أكاديمية برلين، على وثيقة قيل إنها نسخة من خطاب غير منشور كتبه ليبنتز، وسبق فيه إلى وضع هذا المبدأ. وكتب كوينيج مقالا عن هذا الكشف، ولكنه عرضه على موبرتوي قبل أن ينشره، وأبدى استعداده للعدول عن النشر إذا اعترض عليه العميد. غير أن موبرتوي وافق على نشره، ربما بعد أن اطلع عليه على عجل. وطبع مقال كوينيج في عدد مارس 1751 من مجلة "أكتا إيروديتورم" التي تصدر في ليبزج، فأثار نشره ضجة. وطلب موبرتوي إلى كوينيج أن يقدم خطاب ليبنتز إلى الأكاديمية، ورد كوينيج بأنه لم ير غير نسخة منه بين أوراق صديقه هنتسسي الذي شنق في 1749، وأنه نقل نسخة عن هذه النسخة، وهو مرسلها الآن إلى موبرتوي، ولكن هذاعاد فطالب بالأصل. واعترف كوينيج بأن الأصل لا يمكن العثور عليه الآن لأن أوراق هنتسي تبددت بعد موته. وعرض موبرتوي الأمر على الأكاديمية (7 أكتوبر 1751)، فأرسل سكرتيرها إلى كوينيج أمراً نهائياً أصل الخطاب، فلم يستطع. وعليه ففي 13 أبريل 1752 حكمت الأكاديمية بأن خطاب ليبنتز المزعوم مزيف. ولم يحضر موبرتوي هذه الجلسة لأنه شكا نزفاً سببته إصابة بالسل(111). وأرسل كوينيج استقالته من الأكاديمية، وأصدر "نداء إلى الشعب" (سبتمبر 1752).
وكان كوينيج قد أنفق مرة عامين في سيريه ضيفاً على فولتير ومدام دشاتليه. وقرر أن ييضرب ضربة دفاعاً عن صديقه القديم ضد عدوه الحالي. ففي عدد 18 سبتمبر من مجلة "المكتبة العقلانية" ظهر مقال بعنوان "رد عضو في أكاديمية برلين على عضو في أكاديمية باريس" دافع من جديد عن كوينيج وخلص إلى أن:
"السيد موبرتوي مذنب أمام الدوائر العلمية الأوربية لا بالانتحال والخطأ فحسب، بل باستغلال منصبه لمصادرة النقاش الحر، واضطهاد رجل شريف... وقد احتج عدة أعضاء من أكاديمتنا على هذا الإجراء الفاضح، ولولا خشيتهم من إغضاب الملك لتركوا الأكاديمية"(112). وكان المقال غفلا من الإمضاء، ولكن فردريك عرف لمسة فولتير الغادرة. وبدلا أن يقذفه بصاعقة ملكية، كتب رداً وصف فيه الرد المذكور بأنه "خبيث، جبان، دنئ" ووسم كاتبه بأنه "دجال لا يستحي"، "ولص قبيح" و "ملفق للطعون الغبية"(113). وكان هذا الرد أيضاً غفلا من التوقيع، ولكن صفحة الغلاف تحمل الأسلحة البروسية ومعها النسر، والصولجان، والتاج. وأحس فولتير أن كبرياءه قد جرحت، ولم يكن في طاقته قط أن يترك لعدو الكلمة الأخيرة، ولعله وطن النفس على أن يختصم الملك. وكتب لمدام دينس (18 أكتوبر 1752) يقول "لست أملك صولجاناً، ولكني أملك قلماً." ثم استغل غاية الاستغلال نشر موبرتوي مؤخراً (درسدن، 1752) لسلسلة من "الرسائل" اقترح فيها حفر ثقب في الكرة الأرضية، إلى مركزها إن أمكن، لدراسة تركيبها، ونسف هرم من أهرام مصر للكشف عن أسرار هدفها وتصميمها، وبناء مدينة لا يتكلم الناس فيها غير اللاتينية حتى يقضي الطلاب فيها عاماً أو عامين ويتعلموا تلك اللغة كما تعلموا القومية، وألا ينقد الطبيب أجره إلا بعد شفاء المريض، وأن جرعة كافية من الأفيون قد تمكن متعاطيها من التنبؤ بالمستقبل، وأن العناية الصحيحة بالجسم قد تتيح لنا إطالة العمر إلى ما لا نهاية(114). وانقض فولتير على هذه الرسائل انقضاضه على فريسة سهلة، مغفلا بعناية أي فقرة فيها إدراك سليم أو أي لمحات من الفكاهة ثم قذف بالباقي في مرح على قرون دعابته الذكية. وهكذا كتب في نوفمبر 1752 "خطاب الدكتور أكاكيا، طبيب البابا المقيم." وكامة Diatribe (ومعناها الآن هجاء) كانت تعنى يومها خطاباً، أما akakia فكلمة يونانية معناها "غرارة أو غفلة". وقد بدأ الطبيب المزعوم في براءة ظاهرة بتشككه في أن يكون رجل عظيم كعميد أكاديمية برلين مؤلفاً لكتاب بهذا السخف. وعلى أي حال "ليس في عصرنا هذا ما هو أشيع وأعم من أن يزيف مؤلفون صغار جهل على العالم، تحت أسماء مشهورة، كتباً غير جديرة بالمؤلفين المزعومين. فلا بد أن هذه الرسائل هي من هذا الضرب من التزييف، لأنه مجال أن يكون العميد العلامة قد كتب هذا الهراء. وخص الدكتور أكاكيا بالاحتجاج على ذلك الاقتراح بعدم نقد الطبيب أجره إلا بعد شفاء المريض- وهو اقتراح ربما كان يمس وتراً متعاطفاً في صدر فولتير الموجع، ولكن "أينكر الموكل على محاميه أتعابه التي يستحقها لأنه خسر قضيته؟ إن الطبيب يعد مريضه بأن يعينه لا بأن يشفه. وهو يبذل ما في وسعه وينقد أجره على هذا الأساس"، وكيف يكون شعور عضو الأكاديمية إذا اقتطع قدر معين من الدوقاتيات من راتبه السنوي نظير كل غلطة ارتكبها، أو كل قول سخيف فاه به، خلال العام؟ وراح الطبيب يفصل ما اعتبره فولتير أغلاطاً أو سخافات في أعمال موبرتوي(115).
ولم يكن هجاؤه هذا بالبراعة التي يخالها الناس عموماً، فكثير منه معاد وبعض ما فيه من نبش عن الأخطاء تافه غير كريم؛ ونحن نخفي حقدنا في أيامنا هذه بأدب أكثر. ولكن فولتير سر بتمثيليته هذه سروراً لم يستطع معه أن يقاوم بهجة رؤيتها مطبوعة. فأرسل مخطوطة منها إلى ناشر في لاهاي، وأرى الملك في الوقت نفسه مخطوطة أخرى. واستمتع فردريك بقراءة الهجاء(أو هكذا قيل) وكان بينه وبين نفسه يوافق على أن موبرتوي فيه أحياناً غرور لا يطاق، ولكنه نهى فولتير عن نشره، وواضح أنه وجد في لنشر مساساً بكرامة أكاديمية برلين وسمعتها. وسمح له فولتير بأن يحتفظ بالمخطوطة، ولكن الهجاء نشر رغم ذلك في هولندا. وسرعان ما انبثت ثلاثون ألف نسخة منه في أرجاء باريس، وبروكسل، ولاهاي، وبرلين. ووصلت نسخة منها ليد فردريك، فأعرب عن غضبه بعبارات جعلت فولتير يفر إلى مسكن خاص في العاصمة. وفي 24 ديسمبر 1752 رأى من نافذته جلاد الدولة الرسمي يحرق كتابه على الملأ. وفي أول يناير 1753 رد لفردريك مفتاحه الذهبي بوصفه أميناً للقصر، وصليب الاستحقاق الذي خلعه عليه.
وكان الآن مريضاً حقاً، تلهب الحمرة جبينه، وترهق الدوزنتاريا أمعاءه، وتبرى الحمى جسده. فلزم فراشه في 2 فبراير ولم يبرحه طوال أسبوعين، وبدا عليه كما قال زائر عاده في مرضه "كل مظهر الهيكل العظمى"(116). ورق له قلب فردريك، فأوفد طبيبه الخاص ليرعى الشاعر. فلما تحسنت صحته كتب إلى الملك يستأذنه في زيارة بلومبيير، فلعل مياهها تشفى حمرته. وأمر فردريك سكرتيره بأن يرد عليه (16 مايو) "بأن في استطاعته أن يترك هذه الخدمة حين يشاء، وأنه لا حاجة به للاعتذار بمياه بلومبيير، ولكن عليه أن يتكرم قبل رحيله بأن يرد إلى ... مجلد القصائد الذي عهدت به إليه"(117). وفي الثامن عشر من الشهر دعا الملك فولتير للعودة إلى مسكنه القديم في سانسوسي. وأتى فولتير، ومكث ثمانية أيام، وبدا أنه أصلح ما بينه وبين الملك- ولكنه احتفظ بقصائد الملك. وفي 26 مارس ودع فردريك، وتظاهر كلاهما بأن الفراق إلى حين. وقال الملك "اعتن بصحتك قبل كل شئ، ولا تنس أنني أنتظر عودتك بعد استشفائك بالمياه... رحلة طيبة!"(118) ولم يلتقيا بعدها قط.
وهكذا انتهت هذه الصداقة التاريخية، ولكن العداوات السخيفة استمرت. فقد انطلق فولتير مع سكرتيره ومتاعه يتأرجح في مركبته إلى الأمان في ليبزج السكسونية. هناك تلكأ ثلاثة أسابيع بحجة ضعف صحته، وأضاف مزيداً إلى "الخطاب". وفي 6 أبريل تلقى رسالة من موبرتوي يقول فيها:
تقول الجرائد إنك تخلفت في ليبزج لمرضك، ولكن معلوماتي الخاصة تؤكد لي أنك لا تمكث هناك إلا لطبع مزيد من القذف في.. إنني لم أسئ إليك قط، وما كتبت ضدك ولا قلت شيئاً قط. لقد كنت على الدوام أراه أمراً لا يليق بي أن أراد على السفاهات التي رحت تذيعها عني... ولكن إذا صح أن في نيتك العودة إلى مهاجمتي في مسائل شخصية،... فإنني أنذرك بأن في من العافية ما يمكنني من العثور عليك أنى كنت، وأصب جام غضبي وانتقامي عليك(119).
ورغم ذلك طبع فولتير "الخطاب" المنقح، وطبع معه رسالة موبوتوي. وأصبح الكتيب، الذي تضخم الآن حتى بلغ خمسين صفحة، حديث القصور والبلاطات في ألمانيا وفرنسا. وكتبت فلهلمينا من بايرويت إلى فردريك (24 أبريل 1753) تعترف بأنها لم تملك نفسها من الضحك على الخطاب. أما موبرتوي فلم ينقذ تهديده، كذلك لم يمت غيظاً وكمداً كما ظن البعض؛ فلقد عمر ست سنوات بعد الدكتور أكاكيا، ومات بالسل في بازل عام 1759.
وفي 19 أبريل رحل فولتير إلى جوتا، ونزل فندقاً عاماً بها، ولكن سرعان ما أقنعه دوق ودوقة ساكس-جوتا بالنزول ضيفاً عليهما قصرهما. ولما كان بلاطهما الصغير يهتم بالثقافة، فقد جمعت الدوقة الأعيان والأدباء، وقرأ لهم فولتير شيئاً من أعماله، حتى من قصيدة "لا بوسيل المرحة". ثم مضى إلى فرنكفورت -أم على -مين، وهناك أدركته إلهة الانتقام.
ذلك أن فردريك حين تبين أن فولتير يواصل الحرب التي شنها على موبرتوي، خامرته الظنون في أن الشاعر المستهتر قد يذيع على الناس القصائد التي كتبها الملك، والتي لم تزل نسخة منها-طبعت سراً- في حوزة فولتير وهي قصائد في بعضها خروج عن اللياقة، وبعضها يتهكم بالمسيحية، وبعضها يتحدث عن الأحياء من الملوك حديثاً فيه من الدعاية أكثر مما فيه من الاحترام، فمن شأنها أن تنفر منه قوى نافعة. وعليه فقد أرسل إلى فربتاج، المقيم البروسي في فرانكفورت، يأمره بحبس فولتير حتى يسلم "ذلك الهيكل العظمى، الشيطاني" قصائد الملك وشتى الأوسمة التي خلعها عليه إبان "شهر العسل". وكانت فرانكفورت "مدينة حرة"، ولكنها تعتمد على رضى فردريك اعتماداً لم تجرؤ معه على التدخل في هذه الأوامر؛ أضف إلى ذلك أن فولتير كان من الناحية الرسمية لا يزال في خدمة ملك بروسيا وفي إجازة ممنوحة منه. ومن ثم قصد فربتاج في أول يونيو فندق الأسد الذهبي الذي وصل إليه فولتير البارحة، وطلب إليه في أدب أن يسلمه الأوسمة والقصائد. وسمح فولتير للمقيم بأن يفتش متاعه ويأخذ الأوسمة الملكية، أما قصائد الملك فقال إنها على الأرجح في صندوق أرسله إلى همبورج. وأمر فربتاج بوضعه تحت الحراسة حتى يعاد الصندوق من همبورج. وفي 9 يونيو تعزى الفيلسوف المغيظ بوصول مدام دنيس، التي أعانته على التنفس عن غيظه. وقد راعها هزاله "كنت على يقين من أن هذا الرجل (فردريك) قاتلك! "وفي 18 يونيو وصل الصندوق، وعثر فيه على المجلد المحتوى على القصائد، وسلم للمقيم، ولكن في يوم ذاته وصل توجيه جديد من بوتسدام يأمر فربتاج بالاحتفاظ "بالوضع الراهن" لحين وصول أوامر أخرى. فحاول فولتير الهروب بعد أن عيل صبره، وفي 20 يونيو ترك حقائبه مع ابنة أخته وفر هو وسكرتيره خلسة من فرانكفورت.
ولكن فربتاج لحق بهما قبل أن يجتازا الحدود الإدارية للمدينة، وعاد بهما إليهما وأودعهما سجينين في فندق العنزة، لأن "صاحب فندق الأسد أبى أن يستبقي فولتير أطول مما بقي عنده بسبب شحه الذي لا يصدق"(120) (في رواية فربتاج). واستولى آسرو فولتير على نقوده كلها، وعلى ساعته، وبعض جواهره التي يتحلى بها، وصندوق نشوقه-الذي رد إليه سريعاً بناء على توسله لأنه قال إنه لا غنى لحياته عنه. وفي 21 يونيو وصل خطاب من فردريك يأمر بالإفراج عن فولتير، ولكن فربتاج رأى أن الأمانة في أداء الواجب تقتضيه أن ينبئ الملك بمحاولة فولتير الهروب، فهل يطلق سراحه رغم ذلك؟ وفي 5 يونيو وافق فردريك على الإفراج عنه، وأطلق سراحه بعد اعتقاله خمسة وثلاثين يوماً. وفي 7 يونيو غادر فرانكفورت إلى مينز، وعادت مدام دنيس إلى باريس، بأمل الحصول على إذن لفولتير بدخول فرنسا.
وكان نبأ اعتقاله قد ذاع، فاحتفل به القوم وأشادوا به حيثما ذهب، لأن فردريك لم يحبه أحد غير أخته فلهلمينا، أما فولتير فهو رغم شيطنته كلها كان أعظم الأحياء من الشعراء، والمسرحيين، والمؤرخين. وبعد أن قضى ثلاثة أسابيع في مينز رحل في بطانة كبطانات الأمراء إلى مانهايم وستراسبورج (15 أغسطس إلى 2 أكتوبر) حيث أمتع روحه بفكرة وجوده على أرض فرنسية. ثم مضى إلى كولمار (2 أكتوبر) حيث زارته فلهلمينا في طريقها إلى مونبليه وطيبت خاطره "بالأنعامات" واسترد من عافيته ما أوحى إليه ببعض رسائل ظريفة لمدام دنيس التي كانت تشكو ورماً في فخذيها:
بالله يا طفلتي العزيزة ما الذي تريد ساقاك وساقاي أن تقول؟ لو أنها كانت معاً لما شكت مرضاً... إن فخذيك لم يخلقا للألم. فهذان الفخذان اللذان سيقبلان بعد قليل يلقيان الآن معاملة مخزية(121).
وكتب في لهجة أكثر تواضعاً إلى مدام بمبادور يتوسل بنفوذها على لويس الخامس عشر ليسمح له بالعودة إلى باريس. ولكن ناشراً لصاً في لاهاي كان قد نشر طبعة مشوهة سماها "موجز التاريخ العام" اختصر منها كتاب "مقال التاريخ العام" أو "مقال في العزف" الذي لم يتمه فولتير، وقد احتوى نقداً جارحاً للمسيحية. وبيع الموجز بسرعة في باريس، قال لويس الخامس عشر لبومبادور "لست أريد أن يأتي فولتير إلى باريس"(122) وطالب اليسوعيون في كولمار بطرده من تلك المدينة، فحاول أن يسترضى أعداءه الكنسيين بتناوله القربان في عيد القيامة. وكانت النتيجة الوحيدة لهذا العمل أن انضم أصدقاؤه لليسوعيين في رميه بالنفاق. وكان تعقيب مونتسكيو "انظروا إلى فولتير الذي لا يعرف أين يضع رأسه" ثم أضاف "أن النفس الصالحة أغلى ثمناً من النفس الجميلة"(123).
وفكر الفيلسوف المشرد، بعد أن سدت في وجهه المسالك، في الرحيل عن أوربا والإقامة في فيلادلفيا. وكان معجباً بروح بن وجهود فرانكلن الذي وحد مؤخراً بين البرق والكهرباء "لولا أن البحر يسبب لي دواراً لا يطاق لقضيت بقية عمري بين كويكريي بنسلفانيا"(124). وفي 8 يونيو 1754 غادر كولمار ووجد ملجأ في دير سنون البندكتي بالورين. هناك علم أن دوم أوجستن كالميه رئيس للدير، وأن بمكتبة الدير اثنا عشر ألف مجلد؛ ووجد فولتير السلام وسط الرهبان ثلاثة أسابيع. وفي 2 يوليو رحل إلى بلومبيير، وشرب من مياهها في خاتمة المطاف. ولحقت به مدام دنيس هناك. وظلت منذ ذلك الحين سيدة (Mistrest خليلة) بيته على الأقل. واستأنف تجواله، وعاد إلى كولمار، ولم يجد فيها راحته، فانطلق إلى ديجون ومكث فيها ليلة، ثم إلى ليون التي أقام فيها شهراً (11 نوفمبر إلى 10 ديسمبر). ونزل أسبوعاً ضيفاً على صديقه ومدينه القديم لدوق ريشليو، ثم انتقل إلى فندق الباليه رويال، ربما خوفاً من أن يؤذى سمعته. وذهب إلى أكاديمية ليون وتلقى كل ما خلعته عليه من تكريم. وأخرجت بعض تمثيلياته على المسرح المحلي، ورفع تصفيق الاستحسان معنوياته. وفكر في الإقامة في ليون، ولكن رئيس الأساقفة تنسان اعترض، فرحل فولتير عنها. وأيقن أنه قد يقبض عليه في أية لحظة لو مكث في فرنسا.
وعليه ففي ختام عام 1754، أو مطلع عام 1755، عبر جبال الجورا وألقى عصا التسيار في سويسرا.