قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 3 ف 12
صفحة رقم : 12190
قصة الحضارة -> عصر فولتير -> أوروبا الوسطى -> ألمانية باخ -> المشهد الألماني
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الكتاب الثالث: أوروبا الوسطى 1713- 1756
الفصل الثاني عشر: ألمانية باخ 1715 - 1756
1- المشهد الألماني
لم يكن منتظراً من فولتير وهو يخترق ألمانيا أن يستطيع ترويض ذهنه الباريسي الهوائي على تقدير ما للألمان من أجسام وملامح وآداب وحديث، وعلى تذوق الأدب والموسيقى والفنون القوطية. وأغلب الظن أنه لم يكن قد سمع قط بيوهان سبستيان باخ، الذي مات في 18 يوليو 1750، وبعد وصول فولتير إلى برلين بثمانية عشر يوماً. ولعله لم يكن قد رأى تلك العبارة التي وصف بها هيوم ألمانيا 1748، وهي أنها "بلد بديع، زاخر بقوم أمناء مجدين، ولو قيضت له الوحدة لكان أعظم قوة... في الأرض"(1). وكان من حسن طالع فرنسا وإنجلترا أن هذا الشعب القوي النشيط، البالغ عدده آنذاك زهاء عشرين مليونا من الأنفس، كان لا يزال منقسماً إلى نيف وثلاثمائة دويلة مستقلة من الناحية العملية، لكل منها أميرها المتمتع بالسيادة، وبلاطها، وسياستها، وجيشها، وعملتها، ومذهبها الديني، وزيها الخاص، وكلها في مختلف مراحل التطور الاقتصادي والثقافي، لا تجمعها غير رابطة اللغة، والموسيقى، والفن. وثلاث وستون من إماراتها-بما فيها كولونيا، وهلدسهايم، ومينز، وترير، وشييير، وفورتسبورج - يحكمها رؤساء أساقفة أو أساقفة، أو رؤساء ديورة. وكانت إحدى وخمسون مدينة - أهمها هامبورج، وبريمن، ومجدبورج، وأوجربورج، وفورمبورج، وأولم، وفرانكفورت-على المين-مدناً "حرة"، بمعنى أنها،كالأمراء، تخضع لرأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة خضوعاً طليقاً من القيود الثقيلة.
وكان أكثر الأراضي الألمانية، باستثناء سكسونيا وبافاريا، يزرعه الأقنان أو رقيق الأرض المرتبطون بها، ويخضع لكل الفروض الإقطاعية القديمة تقريبا. وكان هناك 4.500 قن من بين 8.000 فلاح في أسقفية هلدسهايم حتى عام 1750(2) وكانت الفوارق الطبقية حادة، ولكن طول العهد بها ثبتها تثبيتا جعل طبقة العامة تتقبلها في غير تذمر شديد، وقد خفف منها بقاء أطول واحترام أعظم لالتزامات السادة الإقطاعيين بحماية الفلاح في الكوارث، ورعايته في المرض والشيخوخة، والعناية بالأرامل واليتامى، وحفظ النظام والسلام(3). واشتهر الإقطاعيون "اليونكو" في بروسيا بإدارتهم أملاكهم بكفاية، وبتطبيقهم السريع للطرائق الزراعية المحسنة. وأخذت الصناعة والتجارة تنتعشان بعد أن أنفقت ألمانيا سبعة وستين عاما في الأفاقة من حرب الثلاثين سنة. وكانت سوق ليبزج أحفل أسواق أوربا بروادها، ففاقت سوق فرانكفورت حتى بيع في الكتب. وبلغت فرانكفورت وهمبورج في هذا القرن في نشاطهما التجاري شأواً لم تبلغه سوى باريس، ومرسليا، ولندن، وجنوه، والبندقية، والآستانة. ولم يستعمل أمراء التجارة الهمبورجيون ثراءهم في الترف والمظاهر فحسب بل في الرعاية المتحمسة للأوبرا، والشعر والدراما، ففي همبورج حقق هاندل انتصاراته الأولى، ووجد كلوبستوك المأوى، وكتب لسنج مقالاته عن المسرح الهمبورجي. وكانت المدن الألمانية كشأنها اليوم، خير المدن إدارة في أوربا(4).
وبينما أفلح الملك في فرنسا وإنجلترا في إخضاع النبلاء للحكومة المركزي، نرى أن الناخبين أو الأمراء، أو الأدواق، أو الكونتات، أو الأساقفة، أو رؤساء الديورة والذين حكموا الدويلات الألمانية، سلبوا الإمبراطور كل السلطان حقيقي على أملاكهم، وأتو بصغار النبلاء أتباعا في بلاط الأمير. وكانت هذه البلاطات(Residenzen) ، فضلاً عن المدن الحرة، مراكز للحياة الثقافية كما كانت مراكز للحياة السياسية في ألمانيا. وانجذبت إليها ثروات ملاك الأراضي، وأنفقت على القصور الضخمة ومظاهر البذخ والثياب الفاخرة التي كانت في كثير الأحايين نصف الرجل ومعظم سلطانه. وهكذا نجد إيبرهارت لودفج، دوق فررتمبرج، يكل إلى ي.ف.نتى ودوناتو فريتسوني أن يشيدا له (1704-33) في لودفجزبورج (قرب شتوتجارت) قصرا بديلا بلغ في فخامته تصميمه وزخرفته، وفي كثرة ما حوى من أثاث أنيق وتحف فنية بديعة، مبلغاً لا بد قد كلف رعاياه الكثير من المال والعرق. وفي 1751 ألحق بالقلعة الكبرى (Schloss) في هيدلبرج، التي بدء بناؤها في القرن الثالث عشر، راقود في كهف الخمور (وهو وعاء ضخم للتخمير) يتسع لتخمير 49,000 جالون من الجعة في المرة. وفي مانهايم اتفق الدوق شارل تيودور خلال حكمه الطويل ناخباً لليالاتين (1733-99)، 35 مليون فلورين على المؤسسات الفنية والعلمية، والمتاحف، والمكتبات، وعلى إعانة المعماريين، والمثالين، والمصورين والممثلين والموسيقيين. ولم تكن هانوفر بالبلد الفسيح ولا الفخم، ولكن كان يحوي داراً للأوبرا اجتذبت إليها هاندل. وكانت ألمانيا مجنونة بالموسيقى جنون إيطاليا الأم ذاتها.
وكانت كان لميونخ دار كبرى للأوبرا مولتها ضريبة فرضت على لعب الورق. غير أن بافاريا الناخبين أشهروا عاصمتهم بشيء آخر أيضاً هو العمارة. وكان مكسليان إيمانويل قد لجأ إلى باريس وفرساي حين اجتاح النمساويون في حرب الوراثة الإسبانية، فلما عاد إلى ميونخ (1714) جلب معه ولعا بالفن وطراز الركوك. وصحبه معماري فرنسي شاب يدعى فرنسوا دكوفلييه، شيد للناخب التالي، شارل ألبرت في حديقة نمفنبورج، آية من آيات الروكوك الألماني، هي قصر صغير يسمى امالينبورج (1734-39)، ظاهره بسيط،
وباطنه يعج بالزخرف: فيه قاعة مرايا (شبيجلزال)، مقببة تبهر الأنظار، ذات زخارف من الجص بأشعار شعرية وعربية الطراز، وحجرة صفراء (جلبس تسيمر) تحير زخارفها الجصية المذهبة العين التي تحاول تتبع تصميمها المعقد. وبهذا الطراز الطاغي نفسه بدأ يوزف افنر، وأتم كوفلييه، الحجرات الإمبراطورية في قصر الدوق بميونخ. وكان كوفلييه قد غادر فرنسا في العشرين من عمره قبل أن يتعلم الخضوع الكامل للذوق الفرنسي. ومن عكف الفنانون الألمان، دون أن يلقوا منه معارضة، على تطوير الزخارف الجصية بتحرر الهواة وحماستهم، فحققوا الكمال في الجزيئات مع الإسراف في الكليات. وقد تحطمت الحجرات الإمبراطورية في الحرب العالمية الثانية.
ولم يكن فردريك أوغسطس الأول "القوي"، ناخب سكسونيا (حكم 1694-1733) ليرضى بان يبزه أي دوق ميونخي. ومع أنه انتقل إلى وارسو (1697) ملكاً على بولندة باسم أوغسطس الثاني، فقد وجد الوقت ليفرض على السكسونيين من الضرائب ما يكفي لجعل درسدن "فلورنسة نهر الألب". فتقدمت بذلك جميع المدن الألمانية في الإنفاق على الفن، كتبت الليدي ماري مونتاجير في 1716 تقول: "إن المدينة أكثر ما رأيت من مدن في ألمانيا نظافة وأناقة، وأكثر بيوتها حديثة البناء وقصر الناخب آية في الجمال"(6). وجمع أوغسطس الصور في نهم كنهمه في جمع الخليلات، أما ابنه الماخب فردريك أوغسطس الثاني (حكم 1733- 63) فقد أغدق المال على الخيل والصور، و "جلب فنون إلى ألمانيا"(7) كما قال ونكلمان. وفي 1743 أوفد أوغسطس الأصغر هذا لجاروتي إلى إيطاليا حاملاً الدوقاتيات لشراء الصور، ولم يلبث الناخب أن دفع 000و100 سيكوين (000و50 دولار؟) ثمناً لمجموعة الدوق فرانتشسكو الثالث أمير مودينا، وفي 1754 اشترى لوحة رفائيل "سستسني مادونا" (عذراء كنيسة السستين) بعشرين ألف دوقاتية، وهو ثمن لم يسبق له نظير. وهكذا تكونت قاعة صور درسدن العظمى.
وقامت في درسدن دار جميلة للأوبرا في 1718، ولابد أن فرقتها كانت متفوقة، لأن هاندل أغار عليها ليزود منها مشروعاته الإنجليزية الجريئة في 1719، وكان أوركستراها بقيادة يوهان هاستي من خيرة الأوركسترات في أوربا(8). وفي درسدن ولد الخزف الميسيني- ولكن يجب أن تنفرد لهذا قصة مستقلة. وأما في عمارة العاصمة السكسونية فإن ألمع الأسماء كان متاوس دانيل بوبلمان، الذي شاد لأغسطس القوى في 1711-22 قصر تسفنجر الشهير مركزاً لمهرجانات البلاط. وهو مجمع باروكي رائع من أعمدة وعقود ونوافذ جميلة ذات عمد وشرفات وقبة تتوج هذا كله. وقد دمرت القنابل القصر في 1945، ولكن البوابة الفخمة أعيد بناؤها وفق التصميم الأصلي. ولهذا الناخب الذي لا يتعب ولا يكل أقام المعماري الروماني جيتانو كيافيري بطراز الباروك كنيسة البلاط (1738-51)، وهذه أيضاً دمرت إلى حد كبير ثم رممت بنجاح. إن التاريخ سباق بين الفن والحرب، والفن يلعب في هذا السباق دور سسيفوس (ملك كورنثة الذي قضي عليه بان يدحرج حجراً ثقيلا صاعداً الجبل، فلا يلبث الحجر أن يتدحرج إلى أسفل).
الحياة الألمانية
كانت ألمانيا الآن تتصدر أوربا في ميدان التعليم الأولى. ففي 1717 جعل فردريك وليم الأول ملك بروسيا التعليم الابتدائي إلزامياً في مملكته، وأسس في العشرين سنة التالية 1700 مدرسة لتعليم الصغار وتلقينهم ما يريد. وكان يقوم بالتدريس عادة في هذه المدارس مدرسون علمانيون وأخذ دور الدين في التعليم يتضاءل. وتركز الاهتمام على تعويد التلاميذ الطاعة والاجتهاد، وكان الجلد عقاباً لا غنى عنه. وقد حسب معلم أنه خلال إحدى وخمسين سنة مارس فيها التعليم جلد تلاميذه 124.000 جلدة بالسوط، وصفعهم بيده 136.715 صفعة، وضربهم بالعصا 911.527 ضربة، ولكمهم على آذانهم 1.115.800 لكمة. وفي 1747 أسس يوليوس هيكر، القسيس البروتستنتي في برلين أول "مدرسة واقعية Realschule ، وقد سميت كذلك لأنها أضافت الرياضيات والدراسات الصناعية إلى اللاتينية والألمانية والفرنسية، وسرعان ما أنشأت معظم المدن الألمانية معاهد على غرارها.
أما في الجامعات فإن دراسة اليونانية ارتفعت إلى مكان مرموق جديد فأرسلت بذلك الأسس لتفوق ألمانيا اللاحق في الدراسات اليونانية وقامت جامعات إضافية في جونتن (1737) وإرلانجن (1747). وإذا كان ناخب هانوفر (الذي أصبح ملكا على إنجلترا) يمول جامعة جوتنجن، فإنها حذت حذو جامعة هاللي في إطلاق يد الأساتذة في التعليم، والتوسع في تدريس العلوم الطبيعية والدراسات الاجتماعية، والقانون. وخلع الطلاب الآن الرداء الجامعي، وارتداء العباءة، وتقلدوا السيف والمهماز، والتحموا في المبارزات، وتلقوا الدروس من سيدات المدينة الأكثر تحللاً. وكانت الألمانية لغة التعليم إلا في الفلسفة واللاهوت. على أن الألمانية كانت قد انحدرت سمعتها الآن، لأن الطبقة الأرستقراطية أخذت تستعمل الفرنسية. كتب فولتير من برلين (24 نوفمبر 1750) يقول "أنني أجد نفسي هنا في فرنسا، فما من إنسان يتكلم غير الفرنسية. أما الألمانية فللجند والخيل، ولا يحتاج إليها المرء إلا على الطرق"(9). وقدم المسرح الألماني الهزليات بالألمانية، والمآسي بالفرنسية - وكانت عادة تختار من ذخيرة المآسي الفرنسية. وكانت ألمانيا آنئذ أقل الدول الأوربية نزعة قومية، لأنها لم تكن بعد دولة.
وعانى الأدب الأماني من هذا الافتقار إلى الوعي القومي. وكان أكثر مؤلفي العصر الألمان أثرا، وهو يوهان كرستوف جوتشيد، الذي جمع من حوله لفيفا من الأدباء أحال ليبزج إلى "باريس صغرى"، يستعمل الألمانية في كتاباته، ولكنه استورد مبادئه من بوالو، وندد بالفن الباروكي لأنه ضرب من الفوضى البراقة، ودعا إلى الرجوع للقواعد الكلاسيكية في الكتابة والفن كما مارسها الفرنسيون على عهد لويس الرابع عشر. وهاجم ناقدان سويسران-هما بودمير وبريتنجر-إعجاب جوتشيد بالنظام والقواعد، وأحسا أن الشعر يستمد قوته من قوى الوجدان والعاطفة الأعمق من العقل، وحتى في راسين يتفجر عالم من الانفعال والعنف خلال الشكل الكلاسيكي. وأكد بودمير أن "أفضل الكتابات ليس ثمرة القواعد... فالقواعد تشتق من الكتابات"(10).
أما كرستيان جيلليرت، الذي فاق جميع الكتاب الألمان شعبية، فقد وافق بودمير، وبويتنجر، ويسكال، على أن الوجدان هو لب الفكر وروح الشعر. وكان جديرا باسم المسيحي (كرستيان) إذ بلغ من احترام الناس له لنقاء حياته ورقة سلوكه أن الملوك والأمراء كانوا يختلفون إلى محاضراته في الفلسفة والأخلاق بجامعة ليبزج، وأن النساء كن يأتين ليلثمن يديه. وكان رجلا ذا عاطفة لا يخجل من الجهر بها، ناح على القتلى في معركة روسباخ بدلا من أن يحتفل بانتصار فردريك فيها، ومع ذلك فإن فردريك، أعظم رجل واقعي في ذلك العصر، وصفه بأنه "أكثر العلماء الألمان معقولية"(11). على أن فردريك آثر عليه في أغلب الظن إيفالد مرسيان فون كلايست، الشاعر الشاب الفحل الذي بذل حياته لأجله في معركة كونرسدورف (1759) وكان رأى الملك في الأدب الألماني قاسيا ولكنه مشوب بالأمل:"ليس لدينا كتاب مجيدون على الإطلاق، ولعلهم يظهرون حين أكون سائرا في فراديس النعيم... ستسخر مني لاهتمامي بتوصيل بعض المفاهيم عن الذوق وبعض "الملح" الكلاسيكي لأمة لم تعرف إلى لآن شيئا غير الطعام والشراب والقتال(12) وكان كانت، وكلويشتوك، وفيلاند، ولستج، وهردر، وشيلر، وجيته- كان هؤلاء جميعا قد ولدوا في هذه الأثناء. وثمة ألماني من أهل ذلك العهد كسب تعاطف فردريك الفعال وهو كرستيان فون فولف، وكان ابن دباغ ارتقى إلى منصب الأستاذية في جامعة هاللي. وقد اتخذ المعركة كلها موضوعا لتخصصه، فحاول أن يصنفها على أساس فلسفة ليبنتس. ومع أن مدام دشاتليه وصفته بأنه "ثرثار كبير"، فإنه التزم بأن يسترشد بالعقل، وبطريقته المتعثرة بدأ التنوير الألماني(Aufklarung) وحطم السوابق بتدريس العلوم والفلسفة بالألمانية. ومجرد إيراد قائمة بكتبه السبعة والستين كفيل بأن يعطل مسيرنا. وقد بدأ برسالة من أربعة مجلدات عن "جميع العلوم الرياضية" (1710)، ثم ترجم هذه المجلدات إلى اللاتينية (1713) وأضاف إليها قاموسا رياضيا (1716) ييسر الانتقال إلى الألمانية. وواصل التأليف بسبعة كتب(1712-25) في المنطق، والميتافزيقيا، والأخلاق، والسياسة، والفيزياء، والغائية، والأحياء، وكل عنوان منها تتصدره في جرأة هاتان الكلمتان "أفكار معقولة" وكأنه يرفع راية العقل فوق صارية. وإذ كان يهفو إلى جمهور قراء أوربي، فإنه غطى هذه المنطقة كلها بثماني رسائل لاتينية، كان أكثرها تأثيرا "علم النفس التجريبي"(1732)، و"علم النفس العقلاني" (1734) و"اللاهوت الطبيعي"(1736). وبعد أن خرج حيا من كل هذه المآزق ارتاد فلسفة القانون (1740-49)، ولكي يتوج هذا الصرح كتب ترجمة لحياته.
وسير أسلوبه المدرسي المنتظم يجعل من الصعب قراءته في عصرنا المحموم. ولكنه كان بين الحين والحين يلمس مناطق حية. من ذلك أنه رفض ما ذهب إليه لوك من اشتقاق المعرفة كلها من الإحساس، وكانت نظرياته معبراً بين ليبنتس وكانت لأنه أصر على الدور النشيط الذي يؤديه العقل في تكوين الأفكار. فالجسم والعقل، والحركة والفكرة، عمليتان متوازيتان، لا تؤثر إحداهما في الآخرة. والعالم الخارجي يعمل آلياً، وهو يبدي دلائل كثيرة على الخطة ذات القصد، ولكن ليس فيه معجزات وحتى عمليات العقل خاضعة لحتمية العلة والمعلول. أما الأخلاق فينبغي أن تلتمس ناموساً خلقياً مستقلا عن العقيدة الدينية، وعليها ألا تعتمد على الله لتخويف البشر حتى يلتزموا الفضيلة. وأما وظيفة الدولة فليست السيطرة على الفرد بل توسيع الفرص لنموه(13). وهو يطري الأخلاق عند كونفوشيوس بوجه خاص، لأنها لم تقم الفضيلة على الوحي فوق الطبيعي بل على العقل البشري(14). "إن قدامى أباطرة الصين وملوكها كانوا قوما ذوي ميل فلسفي وبفضل عنايتهم أصبح نظام حكومتهم خير النظم جميعا"(15).
وذهب كثير من الأمان إلى فلسفة فولف مهرطقة إلى حد خطر، رغم اعترافاته الجادة بالعقيدة المسيحية. وأنذر أعضاء في هيئة التدريس فردريك وليام الأول بأنه لو قبلت حتمية فولف فلن يكون في الإمكان عقاب أي جندي هارب، وسينهار صرح الدولة كله(16). فأمر الملك المرتاع الفيلسوف بأن يغادر بروسيا خلال ثمان وأربعين ساعة وإلا "كان عقابه الموت الفوري" فهرب إلى مجدبورج وجامعتها، حيث رحب به الطلاب رسولا وشهيداً للعقل. وقد نشر أكثر من مائتي كتاب أو كتيب خلال ستة عشر عاما (1721-37) تهاجمه أو تدافع عنه. وكان من أول أعمال فردريك الأكبر الرسمية عقب اعتلاه العرش (1740) إنه وجه دعوة حارة للفيلسوف المنفي يطلب إليه الرجوع إلى بروسيا وهاللي. وجاء فولف وفي 1743 عين مديراً للجامعة. وازداد اتباعه للابن التقليدي مع الزمن، ومات (1754) في كل ورع المسيحي السني. ولقد كان تأثيره أعظم كثيراً مما قد نحكم به من شهرته الضعيفة في العصر الحاضر، وجعلته فرنسا عضو شرف في أكاديمية علومها، وعينته أكاديمية سانت بطرسبورج الإمبراطورية أستاذاً فخريا بها، وترجم الإنجليز والإيطاليون مؤلفاته في مثابرة، وفرض ملك نابلي النسق الفولفي في جامعاته. وأطلق عليه الجبل الأصغر من الألمان لقب الحكيم، وشعر بأنه علم ألمانيا أن تفكر. واضمحلت طرائق التعليم المدرسية القديمة، وزادت الحرية الأكاديمية. ونقل مارتن كنوتسن الفلسفة الفولفية إلى جامعة كونجزبرج، حيث كان يدرس إيمانويل كانت.
وضعف تأثير الدين في الحياة الألمانية بسبب تطور العلم والفلسفة، ونتائج البحث في الكتاب المقدس التي أزالت الأوهام، فضلا عن قوى العلمنة الشديدة. وانتشرت بين الطبقات العليا الأفكار الربوبية التي وصلت من إنجلترا بفضل الترجمات واتصال إنجلترا بها نوفر، ولكن أثر هذه الأفكار كان تافها إذا قيس بنتيجة إخضاع الكنيسة-الكاثوليكية والبروتستنية على السواء-للدولة. لقد قوت حركة الإصلاح البروتستنتي العقيدة الدينية حينا، ثم جاءت حرب الثلاثين فأضرت بهذه العقيدة، والآن كان خضوع الأكليروس للأمراء الحاكمين سبباً في زوال هالة التقى والورع التي خلعت القدسية من قبل سلطانهم. وأصبحت التعيينات في الوظائف الكنسية يمليها الأمير أو السيد الإقطاعي المحلي. أما النبلاء فتظاهروا بالدين، كما فعل نطراؤهم في إنجلترا، باعتباره مسألة منفعة سياسية وعرف اجتماعي. وفقد الأكليروس اللوثري والكلفني مقامهما، واستردت الكاثوليكية سلطانهم في بطئ. في هذه الفترة انتقلت ولايات سكسونيا، وفورتمبرج، وهسي، وكلها بروتستنتية، إلى حكام كاثوليك، واضطر فردريك اللاأدري إلى استرضاء سيليزيا الكاثوليكية.
ولم تزك غير حركة دينية واحدة في المناطق البروتستنتية وهي حركة الإخوان المتحدين، أو الإخوان الموارفيين. ففي عام 1722 هاجر نفر من أعضائها الذين اضطهدوا في مورافيا إلى سكسونيا، ووجد الملجأ في ضيعة الكونت نيكلاوس لودفج فون تستسندورف. وقد رأى هذا الكونت الشاب، الذي كان هو نفسه ابن العماد لفيليب ياكوب سبينر في هؤلاء اللاجئين فرصة لإحياء روح المذهب التقوى. فبنى لهم على أرضه قرية هرنهوت (أي جبل الرب)، وأنفق ثروته كلها تقريبا على طبع الأسفار المقدسة وكتب تعليم العقيدة المسيحية، وكتب التراتيل وغيرها من المؤلفات لينتفعوا بها. وقد أعانت رحلاته في أمريكا(1741-42) وإنجلترا (1750) وغيرهما على إنشاء مستعمرات لهؤلاء الإخوان في كل قارة، والواقع أن الإخوان الموارفييين هم الذين بدءوا نشاط البعوث الحديث في الكنائس البروتستنسية(17) فقد جلب بيتر بولر تأثيرا قويا للإخوان في الحركة المثودية حين التقى بجون وسلي في 1735. وفي أمريكا استقر بهم المقام قرب بيت لحم في بنسلفانيا، وفي سليم بكارولينا الشمالية. واحتفظوا يإيمانهم ونظامهم سليمين لم تكد تمسهما رياح العقيدة وأزياء اللباس، وربما كان الثمن شيئاً من قسوة الروح في علاقاتهم العائلية، ولكن لا مناص للشاك من أن يحترم قوة إيمانهم وإخلاصه، وانسجامه الغريب مع حباتهم الخلفية.
وكانت أخلاق العصر بصفة عامة أسلم وأصح في ألمانيا منها في فرنسا، إلا حيث سرت بدعة محاكاة فرنسا من اللغة إلى الفسق. في الطبقات الوسطى خضعت الحياة العائلية لضبط أشرف على التعصّب والغلو، فقد درج الآباء على أن يسوطوا بناتهم، وزوجاتهم أحيانا(18)، وفرض فردريك وليم الأول على بلاط برلين نظاما تسوده الرهبة، ولكن ابنته وصفت البلاط السكسوني في درسدن بأنه بلغ في زناه بلغ بلاط لويس الخامس عشر. ويؤكد لنا مصدر غير ويق أنه كان لأوغسطس القوي 354 طفلا"طبيعيا"(أي غير شرعي) نسى بعضهم أبوتهم المشتركة في فراش سفاح المحارم. بل قيل إن أوغسطس نفسه اتخذ له خليلة من ابنته غير الشرعية الكونتيسة أوركتسيلسكا(19)، التي علمت فردريك الأكبر فيما بعد فنون الغرام. وقد أصدرت كلية الحقوق بجامعة هاللي في بواكير القرن الثامن عشر إعلاناً دافعت فيه عن التسري بين الملوك والأمراء(20).
وكانت الآداب السلوك صارمة، ولكنها لم تدع لنفسها ما تميت به الآداب الفرنسية من رشاقة الحركة أو سحر الحديث. وأدفأ النبلاء أنفسهم بالحلل والألقاب بعد أن انتزعت منهم السلطة السياسية. كتب اللورد تشسترفيلد في 1748 يقول :"أعلم أن الكثير من الخطابات رد دون أن يفتح لأنه أغفل كتابة لقب من بين عشرين في عنوانه"(21). وكان حكم أولفر جولدسمث قسوة المتعصب لوطنه إذ قال: " فلنوف الألمان حقهم، إنهم وإن كانوا أغبياء فليس هناك أمة حية تتكلف رزانة محمودة أكثر منهم، أو تفوقهم في فهم آداب الغباء"(22) وقد وافقه فردريك الأكبر(23) وظل الأكل وسيلة محببة لإنفاق اليوم. واقتبس الأثاث طرز النقش والتطعيم المزدهرة آنئذ في فرنسا، ولكن لم يكن في فرنسا ولا في إنجلترا شئ يداني في بهجته مواقد الطهو الملونة بألوان تشرح الصدر، والتي أثارت حسد الليدي ماري مونتاجيو(24). وكانت الحدائق الألمانية مطلينة، ولكن البيوت الألمانية، بما حوت من واجهات نصفها من الخشب، ونوافذ ذات أعمدة، وأفاريز واقية، خلعت على المدن الألمانية فتنة مشرقة تنم على حس جمالي مرهف وإن لم يكن قد تشكل.
والواقع أن الذي أرسى الاستعمال الحديث لفظ Aesthetic (جمالي) في كتابه بهذا العنوان (1750)، وأذاع نظرية في الجمال والفن بوصفها قسما من أقسام الفلسفة مشكلة من مشاكلها، كان ألمانيا يدعى ألكسندر باومجارتن.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفن الألماني
كانت صناعة الخزف هنا فناً كبيراً، لأن الألمان علموا أوربا في هذه الفترة كيف تصنع الصيني، فلقد استأجر أوغسطس القوي يوهان فرديدرش بوتجر لتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وأخفق بوتجر، ولكنه انشأ بمساعدة صديق قديم لسبينوزا يدعى فلترفون تشير نهاوس مصنعاً للقاشاني في درسدن، وأجرى تجارب وفقت آخر الأمر في إنتاج أول خزف صيني صلب العجينة. وفي 1710 نقل هذه الصناعة إلى مايسين، على أربعة عشر ميلا من درسدن، وهناك واصل تحسين طرائقه وصقل منتجاته حتى وفاته (1719). وكان خزف مايسين يرسم بالأوان غنية على أرضية بيضاء برسوم رقيقة للزهر والطير ومشاهد الحياة اليومية والمناظر الطبيعية ومناظر البحر واللقطات الغربية من الثياب والحياة الشرقيتين. وزاد يوهان يواكيم كيندلر العملية تحسيناً، فأضيف النحت في الصيني إلى الرسم تحت السطح المصقول؛ وخلدت التماثيل الصغيرة الغربية وأشخاص الفولكلور والكوميديا الألمانيين، ودلت روائع خصبة الخيال مثل رائعة "خدمة البجع" لكيندلر واييرلاين على أن في استطاعة الفن أن ينافس ما حوته خزائن النساء المنوعة بهاء ونعومة. وسرعان ما راحت كل مجتمعات أوروبا الأرستقراطية، حتى في فرنسا، تزين حجراتها بتماثيل من صيني مايسين فيها تهكم مضحك. واحتفظت المدينة بتفوقها في الفن إلى سنة 1758، حين اجتاحها الجيش البروسي في حرب السنوات السبع.
ومن أوجزبورج، ونونمبرج، وبايرويت، وغيرها من المراكز، سكب الخزافون الألمان في البيوت الألمانية فيضاً باروكياً من المنتجات الحرارية، من أبدع القاشاني والصيني إلى الأباريق البهيجة التي جعلت حتى فن شرب الجعة تجربة جمالية. وتزعمت ألمانيا أوروبا طوال أكثر من القرن الثامن عشر في صناعة الزجاج لا الصيني فحسب(25). كذلك لم يبز صناع الأشغال الحديدية الألمان أحد في هذا العصر، ففي أوجزبورج وإيبزاخ، وغيرهما صنعوا بوابات من الحديد المشغول تلك التي كان يقيمها جان لامور في نانسي. أما الصاغة الألمان فلم يفقهم غير أبرع زملاءهم في باريس. وحفر الحفارون الألمان (كنوبلزدورف، وجلومي، وروجنداس، وريدنجر، وجيورج كيليان، وجيورج شمت) أو نقشوا بالحرق سوماً بديعة في الأطباق النحاسية(26). أما المصورون الألمان في هذه الفترة فلم يظفروا بالشهرة الدولية التي ما زال يجزى بها فاتوا، وبوشيه، ولاتور، وشاردان. وإنه لمن ضيق أفقنا الفكري- ذلك الضيق الذي لا مهرب منه-جهل غير الألمان بصور مصورين ألمان مثل كوزساس آرام، وبلتازار دينر، ويوهان فيدلر، ويوهان تيلي، ويوهان تسيزنيس، وجيورج دماريه، فحسبنا أن نتلو أسماءهم على الأقل ونحن اكثر إحاطة بمصور فرنسي استوطن ألمانيا يدعى أنطوان بين، وقد أصبح مصور البلاط لفردريك وليم الأول ثم لفردريك الأكبر. وتصور رائعته فردريك وهو بعد غلام برئ في الثالثة ومعه أخته فلهليني ذات الستة أعوام(27)، ولو أن هذه اللوحة رسمت في باريس لسمعت بها الدنيا كلها.
واكتسبت أسرة صيتاً زائغاً في ثلاثة ميادين-التصوير والنحت والعمارة. فقد رسم كوزماس دميان آزام، في كنيسة القديس إميرام بريجنزبورج، صعود القديس بندكت إلى الفردوس، وأعانه على ذلك بمنصة إطلاق. واشترك كوزماس مع أخيه إيجد في رسم داخل كنيسة القديس نيبوموك بميونخ-عمارة يغشاها النحت بأكثر ضروب الباروك إسرافاً. وحفر إيجد بالجص"صعود مريم" لكنيسة دير في رور ببافاريا. وبدت اليد الإيطالية الرقيقة في نافورة نبتون الرائعة التي أقامهالورنتسو ماتيللي في درسدن، وكانت النافورة ن المعالم الشهيرة في بهاء العاصمة السكسونية. أما بلثازار برموزر فقد أفسد تمثاله "تمجيد الأمير أوجين(28)" بخليط مهوش من التماثيل الرمزية، وقد زين بمثل هذا الإسراف جناح قصر تسفنجر بدرسدن، ولكنه حقق درجة من الجلال والقوة تكاد تقربه من ميكل أنجيلو في تمثال "الرسل" المتجمعين حول منبر كنيسة البلاط بدرسدن، وتمثاله "القديس أمبروز" المصنوع من خشب الزيزفون في تلك الكنيسة يستشرف قمة النحت الأوربي في النصف الأول من القرن الثامن عشر. وقد تصور جيورج ايبنيست الجمال الألماني الممشوق في تمثاله البديع "باخوس واريادنى" الذي نحته لبستان سانسوني. وحفلت البساتين والحدائق الألمانية بالمنحوتات، وقدر خبير في الباروك أن "في ألمانيا من تماثيل الحدائق الجيدة نسبة تفوق كل ما في سائر أوربا من تماثيل مجتمعة(29)".
على أن المعمار هو الميدان الذي لفت فيه الفنانون الألمان أنظار الفنانين الأوربيين في هذا العصر. فقد ترك يوهان بلتازار نويمان بصمته على أكثر من عشرة مبان. وكانت رائعته قصر أمير فورتسبورج الأسقف، وقد تعاون آخرون معه في التصميم والتنفيذ(1719-44)، ولكن يده كانت اليد الهادية. وقد تحطمت في الحرب العالمية الثانية القاعة الفينيتسية وقاعة المرايا، المتألقتان بزخارفها، ولكن بقيت أربع قاعات لتشهد بهاء الداخل، أما بيت السلم الفخم الذي اشتهر في دنيا الفن كلها بصورة سقفه الجصية التي رسمها تيبولو؛ فكان واحد من عدة مبان شبيهة به أعانت على دفع نويمان إلى مكان مرموق بين معماريي زمانه. وبيت السلم الذي بناه للقصر الأسقفي في بروشزال يختلف عن هذا كل الاختلاف، ولكنه يكاد يعدله روعة-وهو ضحية أخرى من ضحايا الانتحار القومي. وربما فاق كليهما جمالا بيت السلم المزدوج الذي بناه لأوجستوسبورج في برول بقرب كولونيا. وكان بناء بيوت السلم غرامة، فأغدق من فنه على بيت آخر في دير بمدينة ايبراخ. وزين مصاعده بالباروك المزخرف كنيسة القديس بولس في تريير وكنيسة كرويتسبيرج قرب بون، وأضاف إلى كتدرائية فورتسبورج مصلى بلغ ظاهره أكمل ما يمكن أن يبلغه طراز الباروك. وتخصصت العمارة الكنسية الآن في بناء الديورة الضخمة. فقام إنريكو تسوكاللي في 1781 بترميم "كلوستر أتال"، وهو دير بندكتي بناه الإمبراطور لويس البافاري عام 1330 في واد جميل على مقربة من أوبراميرجا وحدد بناؤه إنريكوتسوكاللي، وتوجه بقبة رشيقة. وقد دمرت النار كنيسة الدير في 1744، فأعاد بناءها يوزف شموتسر في 1752، وقد حلى داخلها تحلية دقيقة بطراز الروكوك المذهب الأبيض، بصور جصية بريشة يوهان تسايلر ومارتن كنوللر، وأضيف مذابح جانبية فاخرة في 1757، وأرغن اشتهر بغطائه الجميل. وأروع هذه الآثار التقوية هي الكلوستركرشي، أو كنيسة الدير البندكتي، الغنية غنى لا يصدق، والواقعة في اوتوبورين جنوب شرقي ميمنجن. هنا نظم يوهان ميكائيل فيشر المجموعة، وقام يوهان كريستيان بالنقوش المذهبة، وصنع مارتن هورمان مقاعد المرتلين-وهي مفخرة الحفر الألماني في الخشب في القرن. وقد عكف فيشر على هذا العمل في فترات متقطعة من 1737، حتى وفاته في 1766.
وكرهت الطبقات الحاكمة - كما كره الرهبان- أن تنتظر جنة بعد القبر. فشيدت بعض القاعات الفخمة للمدن، مثل قاعتي لونبورج وبامبرج ولكن أعظم جهود العمارة العلمانية خصص للقلاع والقصور. فكان في كل كارلزروهي قصر لحاكم بادن دورلاخ، هو قلعة فريدة في بابها، بنيت على شكل مروحة-تتشعب أضلاعها من حديقة لها شكل مقبض متجهة إلى شوارع المدينة. وقد دمر هذا القصر كما دمر كثير مما احتوته المدينة في الحرب العالمية الثانية، وحاقت هذه المأساة أيضاً بقصر برلين العظيم الذي شيده أندرياز شلوتر وخلفاؤه(1699-1720)، ثم ضحية أخرى هي قصر مونبيجو، القريب من بوابة شبانداو ببرلين، أما قلعة برول التي صممت لرئيس أساقفة كولونيا فقد دمر بعضها، وأما قلعة بروشزال فقد دمرت برمتها. وفي ميونخ بنى يوزف افنر قصر برييزنج وفي تريير بنى يوهان زايتس لرئيس الأساقفة الحاكم "قصر الناخب"- وهو نموذج للجمال الوديع. وأما الأسقف ناخب مينز، فقد بنى له مكسمليان فون فيلش ويوهان دينتسينهوفر بقرب بومر زفيلدن قلعة كبرى ثانية، تدعى قلعة فيسنشتين، أقام فيها يوهان لوكاس فون هيلدبرانت بيت سلم مزدوجاً يستطيع كبار القوم أن يصعدوا ويهبطوا عليه دون أن يصدم بعضهم بعضاً.
وتوج فردريك الأكبر المعمار الألماني العلماني في القرن الثامن عشر بتكليفه جيورج فون كنوبلز دورف وآخرين بأن يبنوا في بوستدام (خارج برلين بستة عشر ميلا)، وفق تصميم صنعه الملك نفسه، ثلاثة قصور كانت في مجموعها ضريباً لفرساي: قصر الدولة "شتاتشلوس"، (1745-51)، والقصر الجديد "نويئس"(1755)، ومنتج فردريك الصيفي، لذي سماه شلوس"قلعة سانسوسي". فكان طريق مشجر من درج هين، يبدأ من نهر هافل، يفضى بعد خمس مراحل تخترق بستاناً مدرجاً إلى هذه "القلعة الخلية البال" التي اتخذت نوافذها ذات الأعمدة وقبتها الوسطى بعض وحيها من قصر تسفنجر بدرسدن. واحتوى جناح من أجنحتها على قاعة للفنون، وتحت القبة دائرة من الأعمدة الكورنثية الجميلة، مكتبة زينت بزخارف ملولبة روكوكية، وتألقت بالكتب التي احتوتها خزانات زجاجية، وأتاحت للملك ملاذاً من السياسة والقواد الحربيين. وفي سانسوسي على الأخص كان فولتير يلتقي بقرينه في الملك الفيلسوف الذي استطاع أن يحكم دولة، ويتحدى الكنيسة، ويصمم بناء، ويرسم لوحة شخصية، وينظم شعرا لا بأس به، ويكتب تاريخا ممتازا، وينتصر في حرب على نصف أوربا، ويلحن موسيقى، ويقود أوركسترا، ويعزف على الفلوت.
الموسيقى الألمانية
احتلت الموسيقى الألمانية مكان الصدارة من مولد هاندل وباخ في 1685 حتى موت برامز 1897. ففي أي وقت من هذه السنين التي بلغت 212 كان أعظم الملحنين الأحياء، باستثناء الأوبرا(30). وقد بلغ شكلان موسيقيان، هما الأوراتوريو والفوجه، غاية تطورهما في إنتاج الألمان في النصف الأول من القرن الثامن عشر، وقد يضيف البعض أن القداس الكاثوليكي الروماني تلقى تعبيره النهائي على يد بروتستنتي ألماني. لقد انتهى عصر القصور، وبدأ عصر الموسيقى. كانت الموسيقى جزءا من الدين، كما كان الدين جزءا كبيرا جدا من الموسيقى في كل بيت ألماني. فما من أسرة ، اللهم إلا في أفقر الطبقات إلا استطاعت أن تترنم بالترانيم المشتركة، وما من فرد إلا استطاع أن يعزف على آلة أو أكثر. ورتلت مئات من جماعات الهواة المسماة Liebhaber الكنتاتات التي يعتبرها المرتلون المحترفون اليوم عسيرة إلى حد مثبط(31). وظفرت كتيبات الموسيقى بشعبية الكتاب المقدس. ودرست الموسيقى مع القراءة والكتابة في المدارس العامة. وكان النقد الموسيقي أرقى من نظيرة في أي بلد باستثناء إيطاليا، وكان أعظم نقاد الموسيقى في ذلك القرن ألمانيا.
وأغلب الظن أن يوهان ماتيزون كان أشهر من أي موسيقى ألماني بين الموسيقيين الألمان وأقلهم ظفرا بحبهم. فقد حجب غروره جلائل أعماله. عرف اللغات الأدبية القديمة والحديثة، وألف في القانون والسياسة، وأجاد العزف على الأرغن والبيان القيثاري إجادة أتاحت له أن يرفض أكثر من عشر دعوات إلى شغل وظائف مرموقة، وكان راقصا رشيقا، ورجل دينا عريض الثقافة، وكان مثاقفاً خبيراً كاد يقتل هاندل في مبارزة معه. وغنى بنجاح في أوبرا همبورج، وألف الأوبرات، والكانتاتات، وتراتيل أسبوع الآلام، والموشحات الدينية، والسوناتات والسويتات. وطور شكل الكانتاتا قبل باخ. وظل تسع سنين قائد فرقة المرتلين للدوق هولستين، فلما أصيب بالصم قنع بأن يؤلف. وأصدر ثمانية وثمانين كتابا، ثمانية منها في الموسيقى، وأضاف إليها رسالة عن التبغ. وأنشأ واشرف على صحيفة "النقد الموسيقي"(1722-25)، وهي أقدم ما عرفنا من نقاش نقدي للمؤلفات الموسيقية القديمة والجديدة، وصنف قاموس تراجم للموسيقيين المعاصرين، ومات في الثالثة والثمانين (1764)، بعد أن حفز عالم الموسيقى حفزا قويا.
أما الآلات الموسيقية فكانت في تطور وتغير دائمين، ولكن الأرغن ظل سيدها من غير مناع. وكان له عادة ثلاث لوحات مفاتيح أو أربع، مضافا إليها دواسة لجوابين ونصف، وضوابط مختلفة تستطيع محاكاة أي آلة أخرى تقريبا. ولم تصنع إلى الآن أي أرغن أبدع من تلك التي صنعها اندرياس زلبرمان الاستراسبورجي، وحوتفريد زلبرمان الفرايبرجي ولكن الآلات الوترية كانت تزداد رواجا فاستعملت "موترة المفاتيح"clarichord (أي المفتاح والوتر) لوحة مفاتيح لتشغيل روافع مزودة بمماسات صغيرة من النحاس لتضرب الأوتار. وكان عمر هذه الآلة ثلاثة قرون وربما أكثر أما البيان القيثاري harpischord (الذي سماه الفرنسيون clavecin والايطاليون clavi أو gravicembalo) فكانت أوتاره ينقرها لسان من ريشة أو جلد ملصق بروافع تحركها (عادة) لوحة مفاتيح مزدوجة، بمساعدة دواستين وثلاثة ضوابط أو أربعة. وكان لفظ clavier يستعمل للدلالة على أي آلة موسيقية لوحة مفاتيح-الموترة، أو اليان القيثاري، أو اليان- وعلى لوحات مفاتيح الأرغن. وكان البيان القيثاري في أساسه قيثاراً تنقر فيه الأصابع الأوتار بواسطة مفاتيح، الريشة وروافع، وكانت تنبعث منه أصوات لها رقيق، ولكن لما كانت الريشة وريش ترتد بمجرد ضربها الوتر، فإن هذه الآلة لم يتح لها أن تطيل نغمة أو تنوع حدتها. ولكي تعزف درجتين من درجات الصوت كان لا بد لها من اللجوء إلى لوحة مفاتيح مزدوجة -العليا للـ "بيانو"(خافته) والسفلى للـ "فورتي" (عالية) وقد انبعث "البيانو فورت" من الجهود التي بذلت للتغلب على هذه العيوب.
وفي عام 1709 أو قبله صنع بارتولوميو كريستوفوري في فلورنسة أربعة "بيانات قيثارية بالخافت والعالي". وفيها حلت محل الريشة مطرقة جلدية صغيرة كان في الإمكان إطالة اتصالها بالوتر بمواصلة خفض المفتاح، في حين أمكن التحكم في علو النغمة بالقوة التي يضرب بها الأصبع المفتاح. وفي عام 1711 وصف سكبيوتى دي ما في الآلة الجديدة في مجلته "جورنالي ديي ليتراتي دياليا"، وفي عام 1725 ظهر هذا المقال بدرسدن في ترجمة ألمانية، وفي 1726 صنع جوتفريد زلبرمان، بوحي من التجمة(32)، بيانين على هدى من مبادئ كريستوفوري. وحوالي عرض نموذجا محسنا على يوهان سبستيان باخ، الذي صرح بأنه الضعف في القدرة الصوتية العليا، وأنه يتطلب لمسا شديدا. وسلم زلبرمان بهذه العيوب واجتهد في تلافيها. وبلغ من توفيقه في هذا أن فردريك في 1747، فأعجبه، ولكنه رأى أنه بلغ من الشيخوخة حدا لا يسمح الآلة الجديدة وظل في السنوات الثلاث الباقية في عمره يؤثر الأرغن والبيان القيثاري.
أما الأوركسترا فكان يستخدم أساسا في خدمة الأوبرا أو الكورس، وقل أن وضعت الموسيقى له وحده، ألا أن تكون مقدمات. وكانت الأوبرا والباصون أكثر عدداً منها في أوركسترا هذه الأيام، وطغت آلات النفخ على الآلات الوترية. أما الحفلات الموسيقية العامة فكانت إلى ذلك العهد نادرة في ألمانيا، وكادت الموسيقى تنحصر برمتها في الكنيسة، والأوبرا، والبيت، والشوارع. وأحييت حفلات لموسيقى الحجرة في ليبزج من 1743 في بيوت أغنياء التجار، ثم قبل بها جماعات أكبر فأكبر من المستمعين، وزيد العازفون إلى ستة عشر، وفي 1476 أعلن دليل صادر في ليبزج أنه "في أيام الخميس تحيا حفلة موسيقية بأشراف شركة التجار التقية، وأشخاص آخرين ، من الساعة الخامسة إلى الثامنة في نزل البجعات الثلاث وأضاف الإعلان أن هذه الحفلات يرتادها أفراد المجتمع العصري وتلقى الإعجاب والاهتمام الشديد(33). ومن هذه الجماعة الموسيقية Collegium Musieum تطور في 1781 الكونشرتو الكبير في قاعة تجار الأجواخ. Gewandhaus بلييزج-وهو أقدم سلسلة موجودة من الكونشرتو.
ولم تخص الآلات وحدها إلا بأقل القليل من المؤلفات الموسيقية، ولكن بعض هذه المؤلفات شارك بنصيب في تطوير السمفونية. وفي مانهايم قامت مدرسة من الملحنين والعازفين-كثير منهم من النمسا أو إيطاليا أو بوهيميا-بدور قيادي في هذا التطوير. فهناك جمع شارل تيودور أمير بالاتين الناخب (حكم 1733-99)، وراعى الفنون جميعا، أوكسترا اشتهر عموما بأنه خير الأوكسترات قاطبة في أوربا. وقد لحن يوهان شتاميتز، عازف الكمان الماهر، لهذا الأوركسترا سيمفونيات بالمعنى الصحيح، أي مؤلفات أوركسترالية مقسمة إلى ثلاث حركات أو أكثر، كانت أولاها تنهج نهج السوناتا-أعنى عرض مواضيع متقابلة، والتوسع فيها دون قيود، ثم تخليصها. وجريا على طريقة الملحنين النابوليين، اتخذ الشكل الجديد عادة تعاقب هذه الحركات: السريع ، والبطئ، فالسريع (الألليجرو، والأندانتي، والألليجرو). وأضاف أحيانا من الرقص "منيوتا". وهكذا انتقل عصر الموسيقى البوليفونية (أي المتعددة الأصوات)، المبينة على فكرة رئيسية واحدة، والبالغة قمتها في ي.س.باخ، إلى عصر الموسيقى السيمفونية - عصر هايدن، وموتسارت، وبيتهوفن.
وظل الصوت البشري أعظم الآلات الموسيقية سحراً. فلحن كارل فليب إيمانويل باخ، وكارل هاينريش جراون وغيرهما قصائد الغرام المشبوب التي نظمها يوهان كرستيان جونثر، ووجد يوهان إرنست باخ الفيماري الوحي للعديد من الأغاني الألمانية (الليدر)، الجميلة في شعر كرستيان جلليرت. وازدهرت الأوبرا في ألمانيا الآن، ولكن غلب عليها الطابع الإيطالي، إذا استوردت ألحانها ومغنيها من إيطاليا. وكان لكل بلاط كبير قاعة أوبراه، التي لا تفتح عادة إلا للصفوة. أما همبورج التي هيمن عليها تجارها فكانت استثناء للقاعدة، فقدمت الأوبرا الألمانية، وأباحت حضور حفلاتها للجمهور الذي يدفع، وجندت مغنياتها من السوق. وفي همبورج تربع راينهارت كازر على عرش مسرح جينزيماركت (سوق الأوز) أربعين عاماً. وخلال حكمه هذا لحن 116 أوبرا، معظمها إيطالي نصاً وأسلوباً، ولكن بعضها ألماني. ذلك أن كتاب ماتيزون "الموسيقى الوصي"، المنشور في 1728 أشهر صيحة الحرب على الغزاة الإيطاليين: "أخرجوا أيها البرابرة ![Fouri barbari ] ليمنع من الاشتغال بالأوبرا الأجانب الذين يحاصروننا من الشرق إلى الغرب!(34)، ولكن سحر الأصوات والألحان الإيطالية لم يكن سبيل إلى مقاومة. وحتى في همبورج خنق الولع بالأوبرات النابولية المؤلفات الوطنية. فاستسلم كايز وشد رحاله إلى كوبنهاجن، وأغلق مسرح همبورج أبوابه في 1739 بعد حياة امتدت ستين عاما، ولما أعيد افتتاحه في 1741 خصص صراحة للأوبرا الإيطالية. وحين أعاد فردريك الأبوبرا إلى برلين (1742)، اختار ملحنين ألماناً ومغنين إيطاليين. وقال في دهشة "مغن ألماني! أني لأوثر أن أسمع حصاني يصهل(35).
وأنجبت ألمانيا في هذا العصر مؤلفاً واحداً للأوبرا من الطراز الأول هو يوهان أدولف هاسي، ولكنه هو أيضاً خطب ود إيطاليا. فقد درس فيها عشر سنوات على أليساندرو سكارلاتي ونيكولو بوربورا، وتزوج المغنية الإيطالية فاوستينا بوردورني (1730)، ولحن الموسيقى لنصوص إيطالية وضعها أبوستولوزينو وميتاستاسيو، وغيرهما. واستقبلت أوبراته الأول في نابلي والبندقية استقبالا بلغ من حماسته أن إيطاليا لقبته "il caro Sassone" أي السكسوني المحبوب. فلما عاد إلى ألمانيا دافع بغيرة عن الأوبرا الإيطالية، ووافقه معظم الألمان، وكرموه أكثر من هاندل الغائب، وأكثر كثيراً من باخ المجهول، وشبهه بيرني، هو وجلوك، برفائيل وميكل أنجيلو الموسيقى في بلاد الألمانية(36). ولم يبلغ أحد حتى الإيطاليون، ما بلغته أوبراته المائة من غنى في الابتكار اللحني أو الدرامي. وفي 1731 تلقى هو وزوجته، أعظم مغنيات الأوبرا في ذلك العصر، دعوة إلى درسدن من أوغسطس القوي. وأسرت فاوستينا العاصمة بصوتها وسحرها هاسي بألحانه. وفي 1760، فقد أكثر ممتلكاته، ومن بينها مخطوطاته المجموعة، نتيجة قصف فردريك الأكبر لدرسدن بالقنابل. وكلفت المدينة المدمرة عن عرض أوبراته، فرحل هاسي وزوجته إلى فيينا حيث راح وهو في الرابعة والسبعين ينافس جلوك. وفي 1771، في زواج الأرشيدوق فرديناند بميلان، تقاسم البرنامج الموسيقي مع الصبي موتسارت البالغ الرابعة عشر من عمره. ويروي أنه قال "إن هذا الصبي سوف يحجبنا كلنا(37)!. وعقب ذلك ذهب هو وفارستينا لينفقا ما بقى لهما من عمر في البندقية. وهناك مات كلاهما عام 1783، هو في الرابعة والثمانين، وهي في التسعين. وقد فاق تآلف حياتهما اتساق أغانيهما.
وبينما كانت لموسيقى الإيطالية تنتصر في دور الأوبرا الألمانية، ازدهرت الموسيقى الكنسية رغم سخرية فردريك منها لأنها "عتيقة"، و"منحطة"(38) وسنرى الموسيقى الكاثوليكية تزكو في فيينا، وفي الشمال ألهمت الحماسة البروتستنتية الباقية على قيد الحياة فيضاً من الكنتاتات، والكورالات، وترانيم أسبوع الآلام، وكأن مائة ملحن كانوا يمهدون لباخ الطريق ويعدون له الأشكال والصيغ الموسيقية. وغلبت موسيقى الأرغن، ولكن الكثير من الأوركسترات كان يحوي الكمان والفيولنتشيللو. ولم يقتصر ظهور تأثير الأوبرا على التوسع في الأوركسترات وفرق الترتيل الكنسية، بل كذلك في لطابع الدرامي المتزايد للألحان الكنسية.
أما أشهر مؤلفي الموسيقى الدينية في ألمانية باخ فكان جيورج فليب تيليمان الذي ولد قبل باخ بأربع سنوات (1681) ومات بعده بسبعة عشر عاماً (1767). وقد عده ماتيزون أعظم معاصريه الألمان قاطبة في التأليف الموسيقى، ولعل باخ كان يوافق على هذا الرأي باستثناء واحد لأنه نسخ كأنتاتات كاملة ألفها منافسه. وكان تيليمان طفلاً عبقرياً، تعلم اللاتينية واليونانية والكمان والفلوت في طفولته، وحين بلغ الحادية عشرة بدأ يلحن، وفي الثانية عشرة ألف أوبرا مثلت على المسرح وقام هو بالغناء في أحد أدوارها. كذلك لحن كنتاتا وهو الثانية عشرة، وقادها وهو واقف فوق مقعد ليستطيع العازفون رؤيته.
ثم شب تيوتونيا قوياً بشوشاً مرحاً وألحاناً. وفي 1701 بينما كان يمر بهاللي التقى بهاندل الذي كان في السادسة عشرة من عمره فأحبه من أول نظرة. ومضى إلى ليبزج ليدرس القانون، ولكنه ارتد إلى الموسيقى وأصبح عازف أرغن الكنسية الجديدة (1704). وبعد عام قبل وظيفة الكنسية في زوراو، ثم مضى إلى أيزيتاخ، حيث التقى بباخ، وفي 1714 قام بدور العدَّاب لكارل فليب إيمانويل، ابن يوهان سبستيان. وفي 1711 قام ماتت زوجته الشابة وأخذت معها قلبه كما قال، ولكنه تزوج ثانية بعد ثلاث سنين. وفي 1721 مضى إلى همبورج، حيث كان عازفاً في ست كنائس، وأشرف على تعليم الموسيقى في الجمنازيوم، وإضطلع بشئون أوبرا همبورج، وحرر مجلة للموسيقى، ونظم سلسلة من الحفلات الموسيقية العامة استمرت إلى يومنا هذا. وقد حالف الحظ تيليمان في كل شئ، إلا في إيثار زوجته للضباط السويديين بحبها. وكانت قدراته على الإنتاج تضارع أي رجل في ذلك عصر ، عصر عمالقة الموسيقى. فقد لحن لجميع الآحاد والأعياد في سعة وثلاثين عاماً ألواناً من الموسيقى الدينية- تراتيل لأسبوع الآلام، وكنتاتات، واورتوريات، وأناشيد، وموتيتات، وأضاف إلى ذلك كله الأوبرات والأوبرات الفكاهية، والكونشرتات، والثلاثيات، والسرينادات، وقال هاندل إن في استطاعة تيليمان أن يلحن موتيتا ذا ثمانية أقسام بالسرعة التي يكتب بها المرء خطاباً(39). وقد أخذ أسلوبه عن فرنسا، كما أخذ هاسي أسلوبه عن إيطاليا، ولكنه أضاف إليه حيويته الخاصة. وفي 1765، حين كان في الرابعة والثمانين، فألف كنتاتا تسمى "إينو" عدها رومان رولان معادلة لنظائرها من تأليف هاندل، وجلوك، وبيتهوفن. ولكن تيليمان كان ضحية خصوبته. فقد لحن بأسرع مما يمكنه من الإتقان، ولم يكن له صبر على تنقيح الثمرات الناقصة لعبقريته أو شجاعة على تحطيمها. وقد اتهمه ناقد بـ"الإسراف الذي لا يصدق(40) واليوم يكون نسياً منسياً ولكنه بين الحين والحين يجيئنا روحاً متحررة من الجسد في الهواء، فنجد كل ألحانه المنبعثة من مراقدها رائعة الجمال(41).
ولم ينفرد فردريك بتفضيله كارل هاينريش جراون على تيليمان وباخ. وقد ذاع صيت كارل أول ما ذاع بفضل صوته السوبرانو، فلما قصر هذا الصوت تحول صاحبه إلى التلحين، فألف في الخامسة عشرة كنتاتا كبيرة لأسبوع الآلام (1716)رتلت في كرويتسشولي بدرسدن. وبعد أن مضى فترة يعمل عازفاً للكنيسة في برنزويك استخدمه فردريك (1735) ليشرف على الموسيقى في راينزبرج. وظل يخدم البلاط البروسي طوال الأعوام الأربعة عشرة الباقية من عمره، لأن موسيقاه، حتى الدينية منها، كانت تبهج الملك الشاك. وظفر لحن الآلام المسمى "موت يسوع"، الذي رتل أولا في كتدرائية برلين سنة 1755، بشهرة في ألمانيا لم تضارعها غير شهرة "المسيا" في إنجلترا وإيرلندة، وظل يعاد سنوياً في أسبوع الآلام حتى يومنا هذا. وشاركت ألمانيا البروتستنتية كلها فردريك في الحزن على موت جراون قبل أوانه.
وخلال ذلك كان خمسون "باخاً" قد ألقوا البذرة وأعدوا المسرح لظهور أشهر وريث لهم. وقد رسم يوهان سبستيان باخ بنفسه شجرة أسرته في كتابه "أصل أسرة باخ الموسيقية" الذي وصل إلى المطبعة في 1917، وقد أفرد الناقد الموسيقي المدقق "شبيتا"180 صفحة لرسم ذلك النهر الأورفي. وانتشر في مدن ثوربنجيا أفراد من آل باخ يمكن رد نسبهم إلى عام 1509. وكان أقدم موسيقي من الأسرة بدأ به يوهان سبستيان قائمته هو جد جده المدعو فايت باخ (توفي 1619). ومنه انحدرت أربع بطون من الباخيين الذين برز العديد منهم في الموسيقى، وقد بلغوا من الكثرة مبلغاً جعلهم يؤلفون ضرباً من النقابة المهنية التي الفت أن تجتمع دورياً لتبادل الرأي. وتلقى أحدهم، وهو يوهان أمبروزيوس باخ عن أبيه فن عزف الكمان الذي ورَّثه لأبنائه. وفي 1671، قد تزوج اليزابيث خلف ابن عمه موسيقياً للبلاط في أيزيناخ. وكان في 1668، قد تزوج اليزابيث لاميرهيرت، ابنة تاجر فراء أصبح عضوا في مجلس المدينة. فأنجب مها بنتين وستة أبناء. وارتقى أكبر الأبناء، وهو يوهان كريستوف باخ، إلى وظيفة عازف الأرغن في أوردورف. والتحق أبن آخر؛ هو يوهان باكوب باخ، بالجيش السويدي عازفاً للأوبرا. وكان أصغر الأبناء هو يوهان سبستيان باخ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يوهان سبستيان باخ 1685-1750
مراحل حياته
ولد في 21 مارس 1685 بأيزيناخ في دوقية ساكسيفايمار. وفي "الكوتهاوس" المشرف على ميدان لوثر كان المصلح الديني العظيم قد عاش صباه، وعلى تل مشرف على المدينة فارتبورج، القلعة التي اختبأ فيها من شارل الخامس (1521 وترجم العهد الجديد، إن أعمال باخ أشبه بالإصلاح البروتستنتي ملحناً.
واتت أمه وهو في التاسعة، ومات أبوه بعد ثمانية أشهر، وضم يوهان سبستيان وشقيقه يوهان باكوب إلى أسرة أخيهما يوهان كريستوف. وفي "الجمنازيوم" بأريزيناخ تلقى سبستيان الكثير من تعاليم المسيحية وبعض اللاتينية، وفي "الليسية" بمدينة أوردروف القريبة درس اللاتينية، واليونانية، والتاريخ، والموسيقى. وكان متقدماً في فرقته، فرقي بسرعة وكان أبوه قد علمه الكمان، وعلمه أخوه كريستوفر البيان القيثاري. وعكف بشغف على هذه الدراسات الموسيقية، وكأن الموسيقى تجرى في عروقه. ونسخ عدداً كبيراً من المؤلفات الموسيقية التي لم تكن ميسرة له بانتظام نسخاً كاملا، وهكذا بدأ الأذى الذي لحق ببصره فيما يظن البعض.
فلما ناهز سبستيان الخامسة عشرة انطلق ليكسب قوته تخفيفاً عن أسرة يوهان كريستوف المتزايدة. فوجد وظيفة مغن سوبرانو في مدرسة ديرر القديس ميخائيل بلونيبرج، فلما تغير صوته احتفظت به المدرسة عازفاً للكمان في الأوركسترا. ومن لونيبرج زار همبورج، التي تبعد عنها ثمانية وعشرين ميلا، ربما للذهاب إلى الأوبرا، ولكن بالتأكيد للاستماع إلى عزف يوهان ادم راينكن، عازف أرغن كنسية القديسة كاترين البالغ من العمر سبعة وسبعين عاماً. ولم تجتذبه الأوبرا، ولكن فن الأرغن استهوى روحه القوية النشيطة، ففن تلك الآلة الشامخة استشعر تحدياً لكل طاقته ومهارته. فما وافت سنة 1703 حتى كان قد بلغ من البراعة في العزف عليها مبلغاً حمل الكنيسة الجديدة بآرنشتات (القريبة من أرفورت) على استخدامه ليعزف ثلاث مرات كل أسبوع على الأرغن الكبير الذي ركب في الكنيسة مؤخراً، والذي ظل مستعملا حتى 1863. أما وقد أطلق يده في استعمال هذه الآلة لدراساته. فإنه بدأ الآن تلحين أول أعماله الهامة.
وقد أبقاه الطموح دائم التحفيز للنهوض بفنه. ونمى إليه أن أشهر عازف على الأرغن في ألمانيا، ديترش بوكستيهودي، سيعزف في مدينة لوبيك على بعد خمسين ميلا منه، سلسلة من الألحان فيما بين عيد القديس مارتن وعيد الميلاد في كنيسة مريم. فطلب إلى مجلس كنيسته إجازة شهر، فمنح الإجازة، وأناب ابن عمه يوهان ارنست في أداء عمله وصرف راتبه ثم انطلق راجلا إلى لونيك (أكتوبر 1705). وقد رأينا هاندل وماتيزون يقومان بمثل رحلة الحج هذه. ولم يغر باخ بزواج ابنه بوكستيهودي لقاء وراثة وظيفة، إنما كان يريد أن يدرس أسلوب الأستاذ في العزف على الأرغن. ولا بد أن هذا أو شيئاً غيره قد استهواه، لأنه لم يعد إلى أرنشتات حتى منتصف فبراير. وفي 21 فبراير 1706 وبخه مجلس الكنيسة على مده إجازته، وعلى إدخال "تنويعات غريبة" في إستهلالات ترانيمه الجماعية. وفي 11 نوفمبر أنذر لتقصيره في تدريب فرقة الترتيل تدريباً كافياً، ولسماحه سراً "لعذراء غريبة بالتراتيل في الكنيسة"، (ولم يكن يسمح للنساء بعد بالترتيل في الكنيسة). أما الفتاة الغريبة فكانت ماريا برباره باخ، ابنة عمه. وقدم من الاعتذارات ما استطاع تقديمه، ولكنه استقال في يونيو 1707، وقبل وظيفة عازف الأرغن لكنيسة القديس بلازيوس بمولهاوزن. وتقرر أن يكون راتبه السنوي خمسة وثمانين جولدينا، وثلاثة عشر بوشلا من القمح، وكردين من الخشب، وست حزم من الحطب، وثلاثة أرطال من السمك-وهو راتب يعد حسناً جداً بالنسبة للزمان والمكان(42) وفي 17 أكتوبر تزوج ماريا برباره.
ولكن تين له أن مولها متعبة كأرنشتات. ذلك أن جزءاً من المدينة كان قد احترق، ولم يكن أهلها المرهقون في حال يتقبلون معها هذه التنويعات الغريبة، وكان شعب الكنيسة ممزقاً بين اللوتريين السنيين المولعين بالترتيل، والتقويين الذين يعتقدون أن الموسيقى أقرب الأشياء إلى الكفر. وكانت فرقة المرتلين تشكو الفوضى، وباخ يستطيع إحالة الفوضى نظاماً في الأنغام لا في الرجال. فلما تلقى دعوة ليصبح عازف أرغن ومديراً للأوركسترا في بلاط فلهلم إرنست دوق ساكسيفيمار، توسل إلى رؤساءه أن يخلو سبيله(43). وفي يونيو 1708 انتقل إلى وظيفته الجديدة. وكان يتلقى راتباً طيباً في فيمار -156 جولدينا في العام، رفعت إلى 225 في 1713، واستطاع الآن أن يطعم الأفراخ التي كانت ماريا برباره تفقسها. ولم يقنع بحاله تماماً، لأنه كان خاضعاً لرئيس المرتلين في الكنيسة يوهان دريزي، ولكنه أفاد من صداقة يوهان جوتفريد فالتر، عازف الأرغن في كنيسة المدينة، ومؤلف أول قاموس موسيقي ألماني (1732)، وملحن كورالات لا تقل جودة عن كورالات باخ. وبما اضطلع في دراسة الموسيقى الفرنسية والإيطالية باهتمام الآن بفضل فالتر المثقف. وقد أحب فريسكوبالدي وكوريللي، ولكنه افتتن جداً بكونشرتات الكمان التي وضعها فيفالدي، ونقل تسعة منها لآلات أخرى. وكان أحياناً يدخل شذرات مما نقل في ألحانه. ونستطيع أن نحس أثر فيفالدي في كونشرتات برندنبورج ولكنا نحس فيها أيضاً روحاً أعمق وفناً أغنى.
أما أهم واجباته في فيمار فعزف الأرغن في كنيسة القلعة (شلوسكيرشي). وهناك كان في متناوله أرغن صغير ولكنه مجهز تجهيزاً كاملا. وألف لهذه الآلة الكثير من أعظم قطعه الأرغنية: الباسا كاليا والفوجه في مقام C الصغير، وأفضل التوكاتات، ومعظم الاستهلالات والفوجات الكبيرة. وكتاب الأرغن الصغير (أورجلبوخلاين). وكانت شهرته إلى الآن عازف أرغن لا ملحناً. وقد تعجب المشاهدون، ومنهم ماتزون الناقد، لخفة حركته في استعمال المفاتيح، والدوسات، والضوابط، وصرح أحدهم بأن قدمي باخ "تطيران على لوحة الدواسة كأنما كان لهما جناحان"(44)
ودعي ليعزف في هاله، وكاسل، وغيرهما من المدن. وفي كاسل (1714) أعجب به ملك السويد القادم فردريك الأول إعجاباً حمله على أن يخلع من أصبعه خاتماً ماسياً ويعطيه لباخ. وفي 1717، التقى باخ في درسدن بجان لوى مارشان الذي ذاع صيته في الأرض عازف أرغن للويس الخامس عشر. واقترح بعضهم مباراة بين العازفين، واتفقا على اللقاء في البيت الكونت فون فلمنج، وكان على كل منهما أن يعزف بمجرد النظر أي لحن أرغني يوضع أمامه. وحضر باخ في الساعة المحددة، ولكن مارشان رحل عن درسدن قبله لأسباب مجهولة الآن، فأتاح لباخ نصراً غيابياً لم يشرح صدره. على أن القوم تخطوه في الترقية، رغم اجتهاده وشهرته المتزايدة، حين مات رئيس عازفي فيمار، وأعطيت الوظيفة لابن الميت. وكان باخ في حالة استعداد نفسي لتجربة بلاط جديد. وعرض عليه ليوبولد أمير أنهالتكوتن وظيفة رئيس عازفيه. ولكن دوق ساكسيفيمار الجديد، قلهلم أوغسطس، رفض أن يخلي سبيل عازف أرغنه. وألح باخ عليه، فسجنه (6 أبريل 1717)، وثابر باخ على اصراره، فأطلقه الدوق (2 ديسمبر)، وهرول باخ بأسرته إلى كوتن. ولما كان الأمير ليوبولد كلفنيا لا يوافق على موسيقى الكنيسة، فقد كانت وظيفة باخ أن يدير أوركسترا البلاط، الذي كان الأمير نفسه يعزف فيه الفيولا دا جامبا (فيولا الساق). وعليه ففي هذه الفترة(1717-23) ألف باخ الكثير من موسيقى الحجرة، بما فيها السويتات الإنجليزية والفرنسية. وفي 1721 أرسل إلى كرستيان لودفج حاكم براندنبورج الكونشرتات التي تحمل ذلك الاسم.
تلك كانت في أكثرها سنوات سعيدة، لأن الأمير ليوبولد أحبه، واصطحبه في رحلات شتى، وأظهر في فخر موهبة باخ، وظل صديقا له يوم فرق التاريخ بين طريقيهما. ولكن حدث في يوليو 1720 أن ماتت ماريا برباره بعد أن ولدت لباخ سبعة أطفال ظل أربعة منهم على قيد الحياة. وبكاها سبعة عشر شهراً، ثم اتخذ له زوجة ثانية تسمى أنا مجدلينا فولكن، ابنة نافخ بوق في أوركستراه. وكان الآن في السادسة والثلاثين، وهي لا تتجاوز العشرين، مع ذلك قامت خير قيام بما ناطها به من واجب-وهو أن تكون أماً وفية لأطفاله. أضف إلى ذلك أنها كانت تعرف الموسيقى، فساعدته في تلحينه، ونسخت مخطوطاته، وغنت له بصوت وصفه بأنه "سوبرانو شديد الصفاء"(45). وقد أنجبت له ثلاثة عشر طفلا، مات سبعة منهم قبل أن يبلغوا الخامسة. لقد نزلت بتلك الأسرة العجيبة فواجع كثيرة. وقد أزعجت باخ مشكلة تعليم أطفاله بازياد عددهم. وكان لوثرياً متحمساً، كره الكلفنية الكئيبة التي تعلم العقيدة الكلفنية. ثم أن أميره المحبوب تزوج(1721) أميرة شابه قللت مطالبها من ليوبولد من اهتمامه بالموسيقى. ومرة أخرى رأى باخ أن قد آن أوان التغيير. لقد كان روحاً قلقة، ولكن القلق صنعه، ولو أنه ظل في كوتن لما سمعنا به قط. وحدث في يونيو 1722 أن مات يوهان كوناو، بعد أن شغل عشرين عاماً وظيفة قائد فرقة الترتيل في مدرسة توماس بليبزج. وكانت مدرسة خاصة ذات سبعة صفوف وثمانية مدسين، تهتم بتدريس اللاتينية والموسيقى واللاهوت اللوثري. وكان على الطلاب والخريجين، بإشراف قائد فرقة الترتيل، أن يقدموا الموسيقى للكنائس المدنية. وكان القائد خاضعاً لمدير المدرسة والمجلس البلدي الذي يدفع الرواتب.
وطلب المجلس إلى تيليمان أن يشغل الوظيفة الشاغرة، لأنه حبذ الأسلوب الإيطالي الذي اتسمت به ألحان تيليمان، ولكنه رفض. فعرضها على كريستوفر جراوبنر قائد فرقة المرتلين في دارمشتات، ولكن رئيس جراوبنر أبى أن يحله من عقده. وفي 7 فبراير تقدم باخ للمجس طالباً الوظيفة، وارتضى شتى الاختبارات التي أجريت عليه للتأكد من كفايته. ولم يشك أحد في مهارته عازفاً للأرغن، ولكن بض أعضاء المجلس رأوا أن أسلوب ألحانه يتسم بروح محافظة شديدة(46). وكان اقتراح أحدهم رجلا متوسط الكفاية(47). واستخدم باخ (22 أبريل 1723) بشرط أن يقوم بتدريس اللاتينية فضلا عن الموسيقى وأن يحيا حياة التواضع والهدوء، وأن يوقع بقبوله العقيدة اللوثرية، وأن يبدي للمجلس"كل الاحترام والطاعة الواجبين" وألا يغادر المدينة قط بغير إذن من العمدة. وفي 30 مايو أسكن هو وأسرته في جناح المدرسة السكني، وبدأ واجباته الرسمية. وظل يشغل هذه الوظيفة الثقيلة الأعباء حتى مماته.
وأخذ منذ الآن يلحن مؤلفاته الموسيقية، فيما عدا القداس بمقام "ب" الصغير، لاستخدامها في كنيستي ليبزج الرئيسيتين - كنيسة القديس توماس وكنيسة القديس نيقولا. وكانت خدمات الكنيسة يوم الأحد تبدأ في الساعة السابعة صباحاً بمقدمة على الأرغن، ثم يرتل القسيس الصلاة الافتتاحية، وترتل فرقة المرتلين كيريا (مطلع صلاة كيرياليسون-أي يا رب ارحمنا)، ويرتل القسيس والفرقة - وأحياناً المصلون- ترتيلة "جلوريا" (أي المجد لله في الأعالي) بالألمانية، ثم يرتل المصلون ترتيله. ويرتل القسيس الإنجيل وقانون الإيمان، ويعزف عازف الأرغن مقدمة، وترتل الفرقة كنتاتا، والمصلون ترتيلة "نؤمن كلنا بإله واحد"، ويلي ذلك عظة للقسيس تمتد ساعة، يعقبها الصلاة ثم البركة. وبعد ذلك يأتي تناول القربان المقدس، ثم ترنيمة أخرى. وتنهي هذه الخدمة في الساعة العاشرة شتاء والحادية عشرة صيفاً. وفي الحادية عشرة يتناول الطلاب والمدرسون الغداء في المدرسة. وفي الواحدة والربع بعد الظهر تعود الفرقة إلى الكنيسة لصلاة المساء، ومزيد من الصلوات، والترانيم، والعظة، وتسبحة "تعظم نفسي الرب Magnificat" في صيغتها الألمانية. وفي الجمعة الكبيرة ترتل الفرقة لحن الآم المسيح. ولكي يؤدى باخ الموسيقى لهذه الخدمات كلها درب فرقتين، كل منهما من نحو اثنى عشر عضواً، وأوركسترا يعزف على نحو ثماني عشرة آلة. وكان المغنون المنفردون جزءاً من الفرقة، يرتلون معها قبل ألحانهم ومقاطعهم الملحونة وبعدها.
ولقاء هذه الخدمات المعقدة التي أداها باخ في ليبزج كان يتقاضى راتباً في المتوسط سبعمائة طالر في السنة، يدخل فيه نصيبه من صروفات التلاميذ المدرسية، وأتعابه نظير تقديم الموسيقى في الأفراح والمآتم.
وكانت سنة 1729، التي جاءت ب" لحن آلام المسيح كما رواها القديس متي"، في حساب باخ سنة سيئة، لأن الجو اعتدل جداً حتى عز الموتى(48). وكان بين الحين والحين يكسب بعض المال الإضافي من قيادة الحفلات الموسيقية العامة للجماعة الموسيقية. وحاول أن يزيد من دخله بالمطالبة بالإشراف على الموسيقى في كنيسة القديس بولس الملحقة بجامعة ليبزج، وعارضه بعض منافسيه عليها، فظل سنتين في خلاف مع السلطات الجامعية وانتهى إلى حل وسط غير مرض لكل الأطراف المعنية.
ثم خاض معركة طويلة أخرى مع المجلس البلدي الذي يختار الطلبة لمدرسة توماس، ذلك أن أعضاء المجلس نزعوا إلى أن يرسلوا له طلاباً اختيروا بفضل نفوذ سياسي الكفاية موسيقية فيهم، فلم يستطيع باخ أن يصنع من هؤلاء الوافدين الجدد مرتلين لا للسوبراو ولا للمجهز، وفي 23 أغسطس 1730 أودع المجلس احتجاجاً رسمياً، وكان رد المجلس أن رماه بأنه معلم غير كفء وضابط للنظام ضعيف، وبأنه كان يفقد أعصابه وهو يوبخ التلاميذ، وبأن الفوضى تستشري في فرق الترتيل وفي مدرة .(49) وكتب باخ إلى صديق بلوينبرج يطلب إليه أن يساعده في العثور على وظيفة أخرى. فلما لم يفتح في وجهه باب التمس(27 يوليو 1733) من أوغسطس الثالث، ملك بولندة الجديد، أن يعطيه في بلاطه منصباً ولقباً يحميانه مما يلقاه من "إهانات لا يستحقها" وأبطأ أوغسطس في الاستجابة ثلاث سنوات، وأخيراً (19 نوفمبر 1836) خلع على باخ لقب "ملحن البلاط الملكي". وكان المدير الجديد لمدرسة توماس خلال ذلك ينازع باخ حقه في تعيين عرفاء لفرقة وتأديبهم وجلدهم. وطال النزاع شهوراً، وطرد باخ مرتين العريف الذي عينه إرنستي من منصبه الأرغن، وأخيراً ثبت الملك سلطة باخ.
لم تكن حياته قائداً للمرتلين في ليبزج إذن بالحياة السعيدة. فلقد سكب روحه وطاقته في ألحانه وفي أدائها، فلم يبق بعد ذلك شئ كثير لممارسة التربية أو الدبلوماسية. وقد وجد بعض العزاء في صيته الذائع ملحناً وعازف أرغن. وقبل الدعوات للعزف في فيمار، وكاسل، وناومبورج، ودرسدن، ونقد أجراً على هذه الحفلات العارضة وعلى اختباره للأراغن. وفي 1740 عين ابنة كارل فليب ايمانويل صناجاً في أوركسترا كنيسة فردريك الأكبر. وفي 1741 زار باخ برلين، وفي 1747 دعاه فردريك للحضور وتجربة البيانات التي اشتراها مؤخراً من جوتفريد زلبرمان. وأدهشت الملك ارتجالات "باخ العجوز"، وتحداه أن يرتجل فوجه في ستة أقسام، فأبهجته استجابة باخ. ولما عاد باخ إلى ليبزج لحن ثلاثية الفلوت، والكمان، والبيان القيثاري، وأرسلها هي وقطعاً أخرى "هدية موسيقية" للملك عازف الفلوت، بوصفه "ملكاً هو محط الإعجاب في الموسيقى كما في جميع فنون الحرب والسلام الأخرى"(50). وفيما خلا هذه الفواصل المثيرة، كرس باخ نفسه بإخلاص مضن لواجباته قائداً للمرتلين، ولحبه لزوجته وأبنائه، وللتعبير عن فنه وروحه في أعماله.
مؤلفاته الموسيقية
الآلية
كيف نعتذر لاجترائنا على هذا العرض لضخامة إنتاج باخ وتنوعه دون أن تتوفر لنا كفاية المحترفين للقيام بهذه المهمة؟ ليس في وسعنا أن نفعل شيئاً هنا، اللهم إلا أن نقدم للقراء قائمة تجملها المحبة لباخ.
فلنبدأ إذن بمؤلفاته للأرغن، فالأرغن ظل غرامه المقيم، لم يضارعه فيه أحد غير هاندل الذي فقد وراء البحار. كان باخ يحب أحياناً أن يفك كل ضوابطه لمجرد اختبار رئاته وجس قوته. وكان يلهو به لهوه بآلة دانت لسيطرته تماماً، وخضعت لكل شطحاته. ولكنه في استبداده هذا وضع حداً لأهواء العازفين بتحديده الأوتار التي يجب استعمالها بعلامات الجهير (الباص) المدونة، وذلك بأرقام في أسفلها، وهذا هو الجهير "المرقم" أو الكامل الذي يعين السلسلة المتصلة التي ينبغي أن يصاحب بها الأرغن أو البيان القيثاري الآلات الأخرى أو الصوت.
وخلال مقام باخ في فيمار أعد لابنه الأكبر ولغيره من الطلاب "كتيباً للأرغن" من خمسة وأربعين استهلالا كورالياً، وأهداه إلى "الإله العلي وحده تمجيداً له، وإلى جارى لكي يعلم به نفسه". وكانت وظيفة الاستهلال الكورالي أن يكون مقدمة بالآلات لترنيمة جماعية، ليرسم موضوعها ويحدد طابعها. ورتبت هذه الاستهلالات لتؤلف متتاليات ملائمة لعيد الميلاد، وأسبوع الآلام، وعيد القيامة، وظلت وقائع السنة الكنيسية هذه إلى النهاية"Alle Menschen mussen sterben" (كل البشر مصيرهم الموت)، تلتقي بموضوع من موضوعات باخ التي يعود إليها المرة بعد المرة، ويخفف منه على الدوام عزمه على مواجهة الموت بالإيمان بقيامة المسيح بشيراً بقيامتنا. وسنسمع هذه النغمة ذاتها بعد سنوات في لكورال الحزين"Komm, susser tod" (تعال أيها الموت الحلو). ويرافق هذه التقوى الغامرة في هذه الاستهلالات، وفي ألحان باخ الآلية بوجه عام، مرح صحي، فتراه يطفر أحياناً فوق المفاتيح في فرحة تنويعات تذكرنا بشكاوى مجلس كنيسة أرنشتات منه.
وبلغت جملة ما خلفه باخ من المقدمات الكورالية 143، يعدها دارسو الموسيقى أول أعماله وأكملها منم الناحية التقنية. فهي قصائده الغنائية كما أن القداسات وألحان الآلام ملاحمه. وقد طوف بسلم الأشكال الموسيقية كلها، ولم يسقط منه غير الأوبرا لأنها غريبة على وظيفته ومزاجه، ومفهومه عن الموسيقى قرباناً لله قبل كل شئ. ولكي يفسح لفنه مجالا أرحب أضاف فوجة للمقدمة، فجعل فكرة الجهير تتابع نفس الفكرة الرئيسية في الندى، أو العكس، في لعبة متشابكة أبهجت نفسه الولوعة بالطباق الموسيقى. فترى لحن المقدمة والفوجة بمقام E الصغير يبدأ ببساطة مغرية، ثم يحلق في أجواء معقدة من الغنى والقوة تكاد تلقى الرعب في أذن السامع. أما لحن المقدمة والفوجة بمقام D الصغير فهو باخ على أروعه بناءاً، وصنعة فنية، وتطويراً للفكرة الرئيسية، وخصوبة تصورية، وقوة عارمة. وربما كان أروع من هذا إلباسا كاليا والفوجة بمقام C الصغير. وقد أطلق الأسبان اسم Pasacalle على اللحن الذي يعزفه موسيقى "عابر بالطريق"؛ وأصبح في إيطاليا لوناً من الرقص، أما في باخ فهو فيض جليل من النغم، يجمع بين البساطة والتأمل والعمق.
وألف باخ للأرغن أو موترة المفاتيح اثنتي عشرة توكاتات tocattas أي قطعاً تستطيع أن تمرن "لمس" العازف. وكانت تحتوي على ضربات سريعة على لوحة المفاتيح ونغمات عالية جريئة، وأخرى خافتة رقيقة، وفوجه من النغمات يدوس بعضها أعقاب بعض في دعابة وعبث. وقد ظفرت التوكاتا والفوجه في مقام D الصغير، في هذه المجموعة، بأكبر عدد من المستمعين، وبعض، الفضل في هذا راجع لألحان أوكسترالية مكيفة كانت أنسب من الأرغن للأذن العصرية غير الكنسية. ومن بين التوكاتات السبع الموضوعة لموترة المفاتيح أو البيان القيثاري، يتبدى باخ هنا أيضاً في التوكاتا بمقام C الصغير وقد ملك ناحية صنعته في ثقة كاملة - فهي فرحة من مزج الألحان تعقبها حركة بطيئة كلها عذوبة صافية مهيبة.
وليس من السهل نحن الذين حرمنا الأنامل الماهرة والآذان المرهفة أن نقدر اللذة التي استشعرها ياخ ومنحها سامعيه في مؤلفاته التي وضعها لموترة المفاتيح- التي كانت بالنسبة له تعنى البيان القيثاري عادة. فعلينا أولا أن نفهم مبادئ البناء التي اتبعها في تطوير بضع نغمات فكرة رئيسية إلى بناء مفصل معقد ولكنه منظم - أشبه بقطعة فنية من الطراز العربي في سجادة فارسية أو محراب جامع، تسرح بعيداً عن قاعدتها وكأنها تحررت من كل القيود، ولكنها تفعل دائماً في منطق يضيف الإشباع العقلي إلى لذة الشكل الحسية. ثم علينا أن نستعير سحر يدي باخ، لأنه ابتكر في العزف فناً يتطلب الاستخدام الكامل لأصابع اليدين كلها (بما فيها الإبهام)، في حين قل أن تطلب من سبقوه أكثر من الأصابع الثلاث الوسطى في مؤلفاتهم لموترة المفاتيح. ولقد أحدث ثورة حتى في وضع اليد. فقد نحا العازفون قبله إلى الاحتفاظ بيدهم مبسوطة أثناء ضربهم المفاتيح، ولكن باخ علم تلاميذه أن يحنوا اليد حتى تضرب جميع الأنامل المفاتيح في نفس المستوى. وبغير هذه الطريقة كان يستحيل ظهور عازف مثل ليست.
وأخيراً، حين اقتبس باخ نظاماً اقترحه أندرياس فركمايستر في 1691، طالب بضبط الأوتار في الآلات ضبطاً متوسطاً متكافاً، بحيث يقسم "الجواب" إلى أثنى عشر نصف نغمة متساوية تماماً، فلا يحدث أي تنافر عند الانتقال من مقام إلى مقام. وكان في حالات كثيرة يصر على أن يضبط بنفسه البيان القيثاري الذي سيعزف عليه(51). لذلك وضع كتابه "البيان القيثاري الصحيح الضبط"(الجزء الأول، 1722 والجزء الثاني،1744): ثمان وأربعون مقدمة وفوجة- اثنتان لكل مقام كبير وصغير - "لاستعمال وتمرين شباب الموسيقيين الراغبين في التعليم، ولمن حذقوا هذه الدراسة أيضاً على سبيل التسلية" كما نص عليه العنوان الأصلي للكتاب. والقطع ذات أهمية كبرى للموسيقين، ولكن الكثير منها أيضاً يستطيع أن يبعث فينا فرحة باخ أو شعوره المتأمل، وهكذا نرى جونو يقتبس المقدمة بمقام C الكبير، في شكل محور، لتكون لحناً مصاحباً على آلة منفردة (أويلجاتو) للحنه "السلام يا مريم". وقد وجدت بعض النفوس العميقة، مثل ألبرت شفايتسر، في هذه المقدمات والفوجات "عالماً من السلام" وسط ضجيج الصراع البشري(52).
ثم أصدر باخ، الذي لم يكن لخصوبته نهاية، في 1731 الجزء الأول من كتابه "كلافيروبونج" (أي تمرينات على موترة المفاتيح) وقد وصفه بهذه العبارة "تمرينات من مقدمات، وموسيقى للرقصات الألمانية (المائدة) والكورانت، والسراباند، والجيج، والمنويت، وغيرها من اللطائف، مؤلفة على سبيل الترويح الذهني عن محبي الفن".(53) وأضاف إلى هذين الجزأين أجزاء ثلاثة في سنوات لاحقة، حتى أصبح الكتاب في النهاية متضمناً لأشهر مؤلفاته:"مبتكرات" و "بارتيتات"، وسنفونية، و"ألحان جولدبرج المحورة" و"الكونشرتو الإيطالي"، وبعض المقدمات الكورالية الجديدة للأرغن. وذكر المخطوط أنه يقدم"المبتكرات مرشداً أميناً يهدي محبي إلى طريق واضح.. لا لاكتساب الأفكار الجيدة (المبتكرات) فحسب، بل لوضعها بأنفسهم... ولاكتساب أسلوب غنائي في العزف، و...ميل قوي إلى التلحين"(54). وبهذه الأمثلة كان في استطاعة الطالب أن يرى كيف يمكن تطوير الفكرة الرئيسية، متى وجدت بالمزج بين الألحان عادة، تطويراً منطقياً لتبلغ خاتمة موحدة. وقد لعب باخ بفكراته كأنه حاو مرح، فهو يقذف بها في الهواء، ويقلبها بطناً لظهر، ويقلبها رأساً على عقب، ثم يقيمها على قدميها سالمة من غير سوء. إن الأنغام "والتيمات" لم تكن طعامه وشرابه والهواء الذي يتنفسه فحسب، بل كانت إلى ذلك تسليته وراحته.
وكانت البارتيتات تسليات شبيهة بما ذكرنا. وقد أطلق الإيطاليون لفظ "بارتيتا Partita على اللحن الراقص ذي الأقسام المختلفة. فالبارتيتات بمقام D الصغير وB الكبير اتخذت خمسة أشكال راقصة: "الألماند" أو الرقصة الألمانية، والكورانت الفرنسية، والسراباند، والمنويت، والجيج. ويظهر هنا تأثير العازفين الإيطاليين، الذي شمل حتى مصالبة اليدين، التي كانت حيلة محببة لدومنيكو سكارلاتى وهذه القطع تبدو لنا اليوم تافهة القيمة، ولكن يجب أن نتذكر أنها لم تؤلف للبيانو فورت الجبار، بل لموترة المفاتيح الهشة، وفي وسعها-إذا لم نشتط فيما تطلبه منها- أن تمنحنا بهجة فريدة في بابها.
وأعسر من هذه هضماً "ألحان جولدبرج المنوعة". ويوهان تيوفيلوس جولدبرج هذا كان عازف موترة مفاتيح للكونت هرمان كايزرلنج، السفير الروسي لدى بلاط درسدن. فلما زار الكونت ليبزج اصطحب معه جولدبرج ليهدئ أعصابه بالموسيقى التماساً للنوم. وفي هذه المناسبات تعرف جولدبرج إلى باخ وهو مشوق إلى تعلم طريقته الفنية في العزف على لوحة المفاتيح. وأعرب كليزرلنج عن رغبته في أن يؤلف باخ قطعاً للموترة من نوع "يدخل عليه شيئاً من البهجة في لياليه المؤرقة"(55). وتفضل باخ بتأليف "لحن ذي ثلاثين تنويعاً" أثبت أنه علاج للأرق. وكافأه كايزرلنج بقدح ذهني يحوي مائة جنيه من الذهب. ولعله هو الذي حصل لباخ على تعيينه ملحناً لبلاط الملك- النخب السكسوني.
على أن فن باخ لا قلبه هو الذي كان في هذه التنويعات. فتراه يهدي الموترة بشعور ولذة أعظم، سبعة توكاتات، وسوناتات كثيرة، و"ففتازيا وفجه ملونة" بمقام D الصغير، و"كنشرتو إيطالية" حاول فيها بحيوية وروح مذهلتين، أن ينقل إلى لوحة المفاتيح تأثيرات الأوركسترا الصغير.
وثمة شكل موسيقي وجد سبيله إلى جميع مؤلفاته الأوركسترالية تقريباً- وهو الفوجه. وقد وفدت كمعظم الأشكال الموسيقية من إيطاليا، ولاحقها الألمان في مطاردة مشبوبة طغت على موسيقاهم حتى مجيئ هايدن. وأجرى عليها باخ تجاربه في "فن الفوجة"، فأخذ فكرة واحدة وبنى منها أربع عشرة فوجة وأربعة اتباعات في متاهة فن مزج الألحان تبين كل ضرب من التقنية الفوجية. وقد خلف المخطوطة ناقصة عند موته، فنشرها ابنه كارل فليب إيمانويل(1752) ولم يبع منها غير ثلاثين نسخة. ولا عجب فعصر البوليفوني (تعدد النغمات)، والفوجة كان في طريقه إلى الزوال بزوال أعظم أساتذته، وأخذ فن مزج الألحان يخلى السبيل للهارموني.
ولم يكن ولوعاً بالكمان ولعه بالأرغن وموترة المفاتيح. لقد بدأ حياته عازف كمان أحياناً يعزف على الفيولا في المجموعات الموسيقية التي يقودها في نفس الوقت، ولكن بما أن أحداً من معاصريه أو أبنائه لم يذكر شيئاً عن عزمه على الكمان، فلنا أن نفترض أنه لم يكن يتجلى في تلك الآلة. على أنه لا بد كان قديراً في العزف عليها، لأنه ألف للكمان وللفيولا موسيقى غاية في الصعوبة، يغلب على الظن أنه كان على استعداد لعزفها بنفسه. وتعرف دنيا الموسيقى الغربية كلها "الشاسون" التي اختتم بها بارتيتا بمقام D الصغير الكمان المفرد، فهي آية في الأسلوب الفني ألف كل عازف كمان أن يهفو إليها هدفاً أعظم له. وقد يرى فيها بعضنا استعراضاً كريهاً من الحواية والشعوذة- أشبه بحصان يعذب قطة على مراحل عديدة. أما عند باخ فقد كانت محاولة جريئة ليحقق على الكمان عمق الأرغن وقوته اليوليفونيين. فلما نقل بوزوني اللحن إلى البيانو، أصبحت اليوليفونية أكثر طبيعية، وكانت النتيجة باهرة. (وعلينا ألا نتعالى على هذه المنقولات وإلا وجب أن ندين باخ ذاته). فإذا وصلنا إلى مؤلفات باخ التي أعدها لأوركستراه الرقيق، وجدت فيها حتى الأذن في المحترفة الكثير مما يشبه القصائد التي تتغنى للفرح والبهجة. ولا بد أن الهدية الموسيقية التي أهداها لفردريك الأكبر قد أبهجته بألحانها المتألقة وهزته بأنغامها المتألقة نصف الشرقية. وقد كتب باخ بالإضافة إلى البارتيتات أو المتتابعات في "تمرينات الموترة" خمس عشرة متتابعة لرقصات. وسميت ستة منها بالمتتابعات الإنجليزية لأسباب نجهلها الآن، وستة بالمتتابعات الفرنسية، وهذه التسمية أوضح لأنها نسجت على منوال النماذج الفرنسية واستعملت ألفاظاً فرنسية بما فيها كلمة Suite (أي المتتابعة) ذاتها. وفي بعضها تطغى مهارة الصنعة، فتسمع حتى الآلات الوترية تبعث أنغاماً يغلب عليها النفخ. ومع ذلك فأن أبسط الناس يستطيع أن يحس ذلك لجمال المهيب الذي يفيض به لحنه الشهير "أريوزو" أو "لحن لوتر المقام G" الذي يؤلف الحركة الثانية للمتابعة رقم 3. وقد نسيت هذه المؤلفات أو كادت بعد موت باخ، حتى عزف مندلسون أجزاء منها لجيته في 1830، وأقنع أوركسترا قاعة تجار الأجواخ بليبزج ببعثها سنة 1838.
واقتبس باخ شكل الكونشرتو كما مارسه فيفالدى، واستخدمه في شتى أنواع التشكيلات الآلية. والحركة البطيئة بطئاً مهيباً، عند موسيقى ولد بمزاج معتدل البطء، تجعل كنشرتو الكمان بمقام D الصغير مبهجاً جداً، كذلك فإن الحركة البطيئة في كنشرتو الكمان رقم 2 بمقام E هي التي تؤثر فينا بعمقها الحزين ورقتها المتألقة. وربما كان أعذب هذه القطع الموسيقية هو الكونشرتو بمقام D الصغير لكمانين، والنشيط vivace منهما تصوير خالص دون لون، كأنه شجرة دردار شتوية، ولكن الأريث Largo لقطة أثيرية من الجمال الصافي- الجمال المعتمد على ذاته، دون "برنامج" أو أي شائبة فكرية تشوبه.
ولكونشرتات براندبنودج تاريخها الخاص. ففي 23 مارس 1721 بعث بها باخ إلى أمير، نسيه الناس إلا في هذا الأمر، مشفوعة بهذه الرسالة بالفرنسية، التي صاغها كاتبها بأسلوب عصره. قال:
إلى صاحب السمو الملكي الأمير كرستيان لودفج، حاكم براندنبورج: مولاي: بما أنني تشرفت بالعزف أمام سموكم قبل عامين، ولاحظت أنكم استشعرتم شيئاً من السرور بالموهبة المتواضعة التي حبتني بها السماء في الموسيقى، وحين انصرفتم سموكم الملكي شرفتموني بأمر لي بأن أبعث إليكم ببعض قطع من تأليفي، فإني الآن عملاً بأوامركم الكريمة أبيح لنفسي أن أقدم لسموكم الملكي إحتراماتي المقرونة بالتواضع الشديد، مع الكونشرتات المرافقة... متوسلاً إليكم في تواضع ألا تحكموا على نقصها بدقة ذلك الذوق الموسيقي المرهف الرقيق الذي يعرف الجميع أنكم تملكونه، بل أن تتبينوا في كرم ولطف ذلك الاحترام العميق والطاعة الشديدة المتواضعة اللذين قصدت بهذه القطع أن تشهد عليهما. وفيما عدا ذلك يا مولاي، فإنني بكل تواضع أطلب إلى سموكم الملكي أن تجودوا بمواصلة أفضالكم علي، وبأن تثقوا بأنه ما من شئ أتوق إليه كرغبتي في استخدامي في شئون أجدر بكم وبخدمتكم، لأنني يا مولاي، بغيرة لا تعدلها غيرة، خادمكم المتواضع جداً جان سبستيان باخ(56).
ولا علم لنا هل شكر الحاكم لباخ هديته أو أثابه عليها، ولعله فعل، لأنه كان شغوفاً بالموسيقى، يحتفظ بأوركسترا ممتاز. وعند موته (1734) أدرجت الكونشرتات الستة، بخط باخ الشديد العناية والتأنق ضمن 127 كونشرتو في قائمة جرد وجدها شبيتا في المحفوظات الملكية ببرلين. وفي هذه القائمة قدرت قيمة كل من هذه الكونشرتات بأربعة جروشينات (1.60 دولار).
وتتبع كونشرات براندبنورج شكل الكونشرتو الكبير الإيطالي-ألحان في عدة حركات، تعزف على مجموعة صغيرة من آلات غالية (الكونشرتينو) يصاحبها أوركسترا وترى (الريبينو أو التوني). وقد استعمل هاندل والإيطاليون كمانين وفيولونتشيللو للكونشرتينو، أما باخ فقد نوع هذا بجرأته المعهودة، وقدم كماناً، وأوبوا، وبوقاً، وفلوتاً آلات مقصدرة في الكونشرتو الثاني، وكماناً وفلوتين في الكونشرتوا الرابع، وموترة مفاتيح، وكماناً، وفلوتاً في الخامس، وطور البنيان إلى تفاعل معقد بين الكونشرتينو والريبينو في حوار حي - من الانفصال والتعارض، والتداخل، والاتحاد - لا يفهم فنه ومنطقه ويستمتع بهما غير الراسخين في الموسيقى. أما من عداهم فقد يجدون بعض الفقرات مكررة تكراراً مملا، نذكرهم بأوركسترا ريفي يقيس الوقت لرقصة، ولكن حتى نحن نستطيع أن نحس بسحر الحوار ورقته، وأن نجد في الحركات البطيئة سلاماً مهدئاً أنسب للقلوب المسنة والأرجل المتلكئة مما نجده في دوامة الحركات العجلاء، ومع ذلك فإن الكونشرتو الثاني يستهل بأعجل (الليجرو) خلاب، والرابع يضفي عليه البهجة فلوت لعوب، أما الخامس فهو باخ في أوجه.
الصوتية
لم يستطع باخ وهو يلحن للصوت أن يلقي جانباً كل ما طوره من حيل وخفة يد على لوحة المفاتيح، ولا الجهود الجبارة المعذبة التي طالب بها أوركستراه، فقد كتب للأصوات كأنها آلات لا يكاد يكون لحذقها ومداها حدود، وكان ضنيناً في الاستجابة لرغبة المرتل أو المغني في أن يتنفس. ونهج نهج عصره في تمديد المقطع الواحد ليشمل ستة أنغام ("كيرييـ- يليـ- يـ- يـ- يـ- يـ- ييسون")، ومثل ذلك الاستكثار من الأنغام لم يعد أسلوب العصر، ولكن بفضل مؤلفاته للصوت حقق باخ شهرته الراهنة بوصفه أعظم ملحن في التاريخ. وقد حياه إيمانه الوطيد بالعقيدة اللوثرية إلهاماً حاراً يعدل أي إلهام وجده باليسترينا في القداس الكاثوليكي. فكتب نحو أربع وعشرين ترنيمة وست موتيتات وفي الاستماع إلى إحدى هذه الست Singet dem Herrn (رنمو للرب) "شعر موتسارت أول ما شعر بعمق باخ. وكتب لجماهير المصلين ولكورسه كورالات قوية كانت كفيلة بأن تبهج قلب لوثر الشبيه بقلبه" :عند أنهار بابل" و "حين تشتد الحاجة"، و"تجملي أيتها النفس المباركة" وقد أثر هذا الكورال الأخير في مندلسون تأثيراً عميقاً حتى قال لشومان "لو أن الحياة سلبتني الرجاء والإيمان لردهما إليَّ هذا الكورال وحده"(57).
ولحن باخ لأعياد الميلاد، والقيامة، والصعود، أوراتوريات-كانت تراتيل ضخمة للكوارس، أو المرتلين المنفردين، أو الأرغن، أو الأوركسترا. وقد رتل أوراتوريو Weinachts Oratorium الميلاد، كما يسمى الأورتوريو الأول، في كنيسة توماس في ستة أقسام على ستة أيام بين عيد الميلاد وعيد الظهور (الغطاس) 1734-45. وأخذ من أعماله المبكرة نحو سبعة عشر لحناً أو كورساً، مستعملاً حقه فيما يملك، ونسج منها قصة عن ميلاد المسيح استغرقت ساعتين. وكاد بعض ألحانه هذه التي سطا عليها لا ينسجم مع النص الجديد، ولكن كان في استطاعة السامع أن يغفر الكثير من الأخطاء في لحن يقدم، في مطلعه تقريباً، الكورس الذي يبدأ بهذه الكلمات "كيف ألقاك اللقاء الجدير بك؟".
كانت الأوراتوريات في صميمها تجميعات لكنتاتات. وكانت الكنتاتا ذاتها كورالا تتخلله الألحان. ولما كانت الخدمة اللوثرية كثيراً ما تطلب الكنتاتات، فقد ألف باخ ثلاثمائة منها، بقي منها إلى اليوم نحو مائتين. وقد حدت صلتها الوثيقة بالطقوس اللوثرية من عدد المستمعين لها في زماننا هذا، ولكن كثيراً من الألحان التي تضمنتها فيه جمال يسمو على أي لاهوت. وفي فيمار، في سنته السادسة والعشرين (1711) كتب باخ أول كنتاتاته الرائعة"Actus tragieus التي تبكي مأساة الموت ولكنها تفرح برجاء القيامة. وفي 1714-17 خلد تقسيمات السنة الكنسية بطائفة من أروع كنتاتاته: فالأحد الأول من الآحاد الأربعة السابقة للميلاد Advent كتب "تعال الآن، يا مخلص الوثنيين". ولعيد القيامة 1715 كتب "السموات تضحك، والأرض تبتهج" التي استعمل فيها ثلاثة أبواق، ونقارية، وثلاث أبواب وكمانين، وفيولنتشيللوين، وباصونا، وسلسلة أنغام على لوحة المفاتيح لتعين الكورس، وتحمل جمهور المصلين، على أن يهتزوا طرباً بانتصار المسيح؛ وكتب للأحد الرابع من الآحاد السابقة للميلاد في 1715،"القلب والفم والعقل والحياة" مع الكورال الجذل المألوف" و"أويلجاتو" الأوبرا، "يسوع، يا بهجة أشواق الإنسان". وكتب للأحد السادس عشر بعد عيد الثالوث الأقدس 1715، "تعالي يا ساعة الموت الحلوة". وفي ليبزج لحن تسبحة أخرى لقيامة المسيح "رقد المسيح في سجن الموت المظلم". وفي الذكرى المئوية الثانية لـ "إعلان العقيدة الأجزبورجي" لحن ترنيمة لوثر التي مطلعها "إلهنا حصن حصين" في صورة كنتاتا تعد الترنيمة في قوتها، ولكن ربما كانت أعنف من أن تكون تعبيراً مناسباً عن الإيمان.
وكان في باخ إحساس صحي بمباهج الدنيا رغم تدينه وصلته الوثيقة بالتقوى بحكم واجباته، وكان في وسعه أن يضحك، كما يبكي، من كل قلبه. وتسللت عناصر علمانية إلى مؤلفاته الدينية، وقد اكتشف بعض أنغام من أوبرات عصره في القداس بمقام B الصغير(58). ولم يتردد في أن يغدق موارد فنه على كنتاتات علمانية خالصة، بقي منها الآن إحدى وعشرون. فألف "كنتاتا الصيد" و"كنتاتا القهوة"و "كنتاتا الزفاف" وسبع كنتاتات لاحتفالات مدينة. وفي 1725 كتب كنتاتا كاملة بمناسبة عيد ميلاد أوجست موللر الأستاذ بجامعة ليبزج "أيولوس المغتبط" احتفالا بتحرير الرياح، وربما بمجاز خبيث. وفي 1742 خلع موسيقاه على "كنتاتا الفلاحين الساخرة سخرية كاريكاتورية صريحة، بما فيها عن رقص القرويين الصاخب وشربهم وغزلهم. وبعد عام 1740 لم تعد الموسيقى الكنسية الغالية في ليبزج، وقدمت الحفلات الموسيقية العامة بازدياد ألحاناً علمانية..
وقبل ن تدخل الموسيقى الدينية عصر اضمحلالها حلق بها باخ في أجواء لم تبلغها من قبل البلاد البروتستنتية. وكان من مخلفات القداس الكاثوليكي في الخدمة الكنسية اللوثرية ترتيل تسبحة "تعظم نفسي الرب" في عيد زيارة العذراء (2يوليو). وكان هذا إحياء لزيارة مريم لابنة خالتها أليصابات، حين فاهت العذراء كما ورد في إنجيل البشير لوقا (الإصحاح الأول 46-55) بترنيمة شكرها التي لا شبيه لها: Magnificat anima meadominam "تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى إتضاع أمته. فهو ذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني." ولحن باخ هذه السطور وما يليها مرتين، ولعله لحنها في صورتها لخدمة الميلاد بليبزج عام 1723. هنا يسمو الدين، والشعر، والموسيقى كلها إلى نفس الذروة في وحدة رائعة.
وبعد ست سنوات بلغ تلك الذرى غير مرة في "ألحان أسبوع الآلام كما ورد في إنجيل متى". ولقد كان تلحين قصة آلام المسيح وموته القرون الطوال جزءاً من الطقس الكاثوليكي. واقتبس كثير من الملحنين البروتستنت صيغة الكنتاتا لهذا الغرض، واستخدم أثنان منهم قبل باخ إنجيل القديس متى نصاً لهما(59). وكتب باخ على الأقل ثلاثة من ألحان الآلام، متبعاً فيها على التوالي روايات يوحنا (1723)، ومتى (1729)، ومرقص (1731). ولم يتخلف من اللحن الثالث غير قطع متناثرة. ولحن الآلام على رواية يوحنا يشوبه تعاقب غير منطقي للمناظر وخلط بين الأحداث، ونزوع تيوتوني إلى الخطب الراعدة، ولكن الأجزاء الأخيرة منه تخف إلى رقة ورهافة في الشعور، وعمق حزين في التأمل، بلغ غاية ما تبلغه الموسيقى تأثيراً في النفس.. ولحن Es ist vollbracht (قد أكمل) ترجمة عميقة لأخطر حدث في قصة المسيح، وما من امتحان للملحن أو المصور أعسر من هذا.
وفي عصر يوم الجمعة الكبيرة، 15 أبريل 1729، في كنيسة توماس بليبزج، أخرج باخ أعظم ألحانه قاطبة. وقد أتيح له في هذا اللحن "لحن الآلام على رواية متى، نص ألماني جيد، بنى على رواية متى الكاملة نسبياً، ورتبة أديب محلي يدعى كرستيان فردريك هنريكي، الملقب "بيكاندر". ويبدو أن باخ نفسه كتب النص لعدة كوارس وقد ظنها البعض قطعاً لا مبرر له لقصة الإنجيل، ولكنها كالكورس في المسرحية اليونانية تثري الدراما بالتعقيب والشرح، وإيقاعاتها الحزينة تعبر عن عواطفنا وتطهرها- وهما وظيفتان للفن الاسمي. وإذا كان الكثير جداً من موسيقى باخ إعلاناً للبراعة أو القوة، فإن لحن الآلام على رواية متى كله تقريباً هو صوت الأسى، أو العرفان، أو المحبة-في قرار الكورال المتكرر، الحزين، الرقيق، وفي رفاهة الألحان، وفي أنغام الفلوت الملازمة ترنم كأنها آتية من عالم آخر، وفي الضبط الوقور للأدوار المصاحبة التي تلتف حول الكلمات ووسط الأحداث كأنها زخارف مذهبة مفضضة في كتاب قداس من العصر الوسيط. هنا يفتح لنا باخ أعماقاً من الوجدان والمغزى لا تنكشف في مكان آخر إلا في الرواية الأصلية ذاتها، فهذه المأساة مازالت بالنسبة لنا نحن أبناء الحضارة الغربية أشد المآسي تأثيراً في نفوسنا، لأنها لا تقتصر على تمثيل صلب شخص مثالي نبيل بأيدي أخوتنا من بني البشر، بل تجاوز هذا إلى الرمز لصلبه يومياً في العالم المسيحي، ولذلك الموت البطيء، في كثير منا، موت الإيمان الذي أحبه هذا الشخص إلهاً له.
وكاد باخ أن يوفق في أن يبلغ مرة أخرى، في القداس بمقام B الصغير، ذرى الانفعال والصنعة التي بلغها في لحن الآلام المذكور. ولكنه لم يستطيع أن يشعر بالانسجام الكامل مع مغامرته الجديدة كما شعر في لحنه ذاك. فلقد كان إنجيل الآلام أساس العقيدة البروتستنتية ومرتكزها، وكان باخ مستغرقاً في تلك القصيدة استغراقاً لا سبيل إلى رده عنه. على أن القداس على أي حال كان تطويراً كاثوليكياً، وقانون الإيمان ذاته يعبر عن التزام لا شك فيه بـ "كنيسة واحدة مقدسة، جامعة (كاثوليكية)catholicam ، رسولية". ومع أن الشعائر اللوثرية احتفظت بالكثير من القداس الكاثوليكي، فإن هذا الكثير كان أثراً قلقاً تخلص فعلاً من لحن "يا حمل الله Agnus Dei" قبل باخ. وكان القداس في عصر باخ وفي الكنائس أيامه يغير قطعة قطعة بالكنتاتات. وبقاياه اللاتينية تقصى شيئاً فشيئاً عن الطقوس. وقد رتلت ألحاناً الآلام لباخ بالألمانية، وكان قد درس أربع ترانيم ألمانية بين الأبيات اللاتينية للحنه "تعظم نفسي الرب". ولكن القداس كان لاتينياً خالصاً بحكم التقاليد بحيث كانت أي اقحامات ألمانية فيه تغامر بأن يؤخذ عليها عيب التنافر. وكان قد غامر بهذا التحدي بكتابته أربعة قداسات جزئية بمثل هذه الملاحق الألمانية، ولم تكن النتيجة مرضية. فدرس بعناية تلك القداسات الكاثوليكية التي لحنها بالسترينا وغيره من الإيطاليين. وأرحت علاقته ببلاط درسدن أنه قد يسر الملك-الناخب الكاثوليكي إذا لحن قداساً كاثوليكياً. وحين بعث لأوغسطس الثالث (1733) ملتمساً بطلب وظيفة ولقب في البلاط أرفق معه لحني "كيرياليسون" و "المجد لله Gloria " أصبحا فيما بعد جزأين من القداس بمقام B الصغير. ويلوح أن الملك لم يهتم بهما. وأداهما باخ في كنائس ليبزج، فاستقبلا استقبالا طيباً، وواصل هو هذا العمل (1733-38) فأضاف إليهما أجزاء أخرى، قانون الإيمان Credo، ولحن "قدوس قدوس قدوس Sanetus" ولحن "أوصنا Osanna، ولحن "مبارك الرب Benedictus" ولحن "يا حمل الله" ولحن "هبنا سلاماً" Dona nobis pacem. فلما اكتمل هذا كله أصبح قداساً في صورته الكاثوليكية. ولعل باخ قد راوده الأمل في أن يأمر أوغسطس الثالث بترتيله في بولندة، ولكن القدر لم يحقق أمنيته، لأنه لم يترتل قط في كنيسة كاثوليكية. وقد قدمه باخ قطعة قطعة في مناسبات شتى، في كنيسة توماس أو كنيسة نيقولا يليبزج.
والآن، هل نسوق التحفظات المترددة التي تخالط إعجابنا بهذا القداس الضخم بمقام B الصغير؟ أن قوة باخ تطغي مراراً على ذلك التواضع الذي ينبغي أن يشرب خطاب موجه إليه تعالى، وقد يبدو أحياناً أنه لا بد قد ظن أن الله أصم أذنيه، لأنه قد أمسك طويلاً عن الكلام في لغات كثيرة. فلحن "كيرياليسون" يجر ضخامته الراعدة المختلطة جراً طويلا مملا حتى لنصبح نحن أيضاً في النهاية "إليسون- أي ارحمنا!" أما لحن "المجد لله" فهو في أكثره متقن من حيث مصاحباته الأوركسترا، وهو ينتقل إلى لحن جميل، لحن "الجالس عن يمين الآب". ولكنه يبيت أجش خشنا بصوت الأبواق في لحن "لأنك وحدك قدوس" ثم يتناول لحن "مع روحك القدوس" برعد من المقاطع الموسيقية لا بد جعل الروح القدس يرتعد مخافة أن يقتحم هذا التيوتوني الجبار أبواب السماء عنوة. ومن عجب أن قانون لأيمان-بتفاصيله ودقائقه العقائدية التي أحدثت الانقسام في العالم المسيحي، والتي لا تلائم بطبيعتها الموسيقى-ينتج أسمى لحظات القداس بمقام B الصغير، إلا وهما لحن "وتجسد" ولحن "الصلب"، حيث يظفر باخ ثانية بذلك الجلال الهادئ الذي بلغه في لحن الآلام على رواية متى. ثم يأتي لحن "وقام من ببين الأموات" فيطلق كل الأنغام الصارخة، التي نفذ صبرها، أنغام الأبواق والطبول، لتصبح وترعد تهللاً بانتصار المسيح على الموت. ويهدئنا لحن "مبارك الرب" بنغمة الصادح (التينور) الرقيق وكمانه المنفرد السماوي. والمصاحبة الأوركسترالية للحن "يا حمل الله" جميلة في عمق، ولكن لحن "هبنا سلاما" دليل على القوة لا على هبة السلام. تلك ردود فعل صريحة ليس لها كبير قيمة. ولن يتذوق القداس بمقام B الصغير تذوقاً كاملا غير أولئك الذين توافر لهم شئ آخر فضلا عن التربية المسيحية التي لم تفقد نغماتها التوافقية العاطفية، وهو القدرة الفنية على أن يميزوا ويستمتعوا بما في اللحن من بناء، ونغيمات، وصنعة، وبما استعمله الملحن فيه من موارد منوعة، وبما في تأليف الأوركسترالي من تعقيد، وبتكييف الأفكار الرئيسية في الموسيقى وفي أفكار النص.
وقد انتقد بعض الموسيقيين المحترفين باخ أثناء حياته. ففي 1737 نشر يواهان أدولف شايبي (الذي أصبح فيما بعد قائد الأوركسترا لملك الدنمرك) خطاباً غفلا من من التوقيع امتدح فيه باخ عازفاً على الأرغن، وأشار إلى أن "هذا الرجل العظيم يكون محط إعجاب الأمم كلها لو كان أسلس من هذا، ولو لم تكن ألحانه مفتعلة لما فيها من ضجيج واختلاط، ولو لم يحجب جمالها الاسراف في الصنعة(60). وبعد عام جدد شايبي هجومه فقال "إن ألحان باخ الكنسية تزداد افتعالا وبطئاً، وهي تقصر عن ألحان تليمان وجراون في الامتلاء بالاقتناع المؤثر أو التأمل الفكري(61). وكان شايبي قد حاول الحصول على منصب عازف الأرغن في ليبزج وعلق باخ على عزفه الذي أداه على سبيل الاختبار تعليقاً في غير مصلحته، وهجاه في إحدى كنتاتاته؛ ولعل نقد شايبي لم يخل من غل. ولكن شبيتا، أشد المعجبي بباخ حماسة، ينبئنا أن الكثيرين من معاصري شايبي شاطروه آراءه(62). وربما كان بعض نقاده يمثلون انتفاض الجيل الجديد في ألمانيا على الموسيقى الطباقية التي بلغت عند باخ من التفوق ما لم يترك بعده مجالا لشئ غير التقليد، وقد شهد القرن العشرين انتفاضاً كهذا على السمفونية.
ولعل شايبي كان مؤثراً هاندل على باخ، ولكن هاندل كان قد خسرته ألمانيا وكسبته إنجلترا، فشق على ألمانيا بالطبع أن تقارن بينه وبين باخ. فإذا عقدت هذه المقارنة كان هدفها دائماً تفضيل هاندل(63). وقد أعرب بيتهوفن عن الرأي الألماني حين قال، "إن هاندل أعظمنا جميعاً"(64).
ولكن هذا كان قبل أن يبعث باخ تماماً من زوايا النسيان. ومع الأسف أن هذين العملاقين - وهما أعظم مفاخر الموسيقى وألمانيا في النصف الأول من القرن الثامن عشر-لم يلتقيا قط، ولو قد فعلا لأثر الواحد منهما في صاحبه تأثيراً طيباً. وقد انطلق كلا الرجلين من الأرغن، واعترف الناس لهما بأنهما أعظم عازفيه في زمانهما، ثم واصل باخ إيثاره تلك الآلة بحبه، في حين جعل هاندل الصدارة للصوت، وهو الذي راح يتنقل بين مغنيات الأوبرا وخصيان المغنين، وزواج هاندل بين الميلوديا الإيطالية والطباق الموسيقى الألماني، وفتح طريقاً إلى المستقبل، أما باخ فكان التمام والكمال للماضي البوليفوني، الفوجي، الطباقي. وأحس الناس، حتى أبناؤه، أنه لم يبق من سبيل للتحرك على ذلك الخط. ومع ذلك كان في تلك الموسيقى القديمة شيئ صحي، سيستعيده في تشوف وحنين رجال مثل مندلسون؛ ذلك أنها كانت لا تزال مشربة بالإيمان الراسخ، الذي لم تزعزعه بعد تلك الشكوك التي ستنفذ إلى صميم العقيدة المعزية. ولقد كانت صوت حضارة مكتملة التشكل، بوصفها الملاك والذروة لفن ولتقليد موروث. ولقد عكست التنميق الزخرفي للبارك، ولأرستقراطية لم يعد يتصدى لها الآن متصد. ولم تكن ألمانيا قد ولجت بعد عصر تنويرها "الأوفكليرنج"، ولا سمعت صياح أي من ديوك الثورة. فليسنج مازال صغيراً، وكل ألماني تقريباً يؤمن بالعقيدة النيقوية قضية لا نقاش فيها، ولم يشذ بتفضيل فولتير غير الأمير فردريك البروسي. وعما قليل سيتزعزع صرح المعتقدات والطرائق الموروثة أفخم زعزعة تكاد تهدمه هدماً من جراء دعوات العقول المبتدعة، وستطوى صفحات ذلك السلام المنظم القديم، وذلك الاستقرار الطبقي، وذلك الإيمان العجيب الذي لا يساوره شك ولا تساؤل-كل هذا كتب موسيقى باخ، وستتغير كل الأشياء، حتى الموسيقى، باستثناء الإنسان دائماً.
ختام
لقد أتاحت عزلته وترويضه في ليبزج أن يرث الماضي دون غضاضة أو تمرد. وكان إيمانه الديني، بعد موسيقاه راحته وملاذه. كان يقتنى في مكتبته ثلاث وثمانين مجلداً في اللاهوت، أو التفسير، أو الوعظ والإرشاد. وقد أضاف إلى عقيدته اللوثرية، المستقيمة، الرجولية، مسحة من الغيبة، ربما أخذها عن الحركة التقوية في زمانه-مع أنه عارض التقوية لعدائها لأي موسيقى كنسية غير التراتيل. وكان أكثر موسيقاه ضرباً من العبادة. وقد ألف أن يبدأ التلحين بصلاة يقول فيها "أعني يا يسوع" وكان يستهل كل مؤلفاته تقريباً ويختمها بإهدائها لجلال الله ومجده. وعرف الموسيقى بأنها "تناغم لطيف لمجد الله وبهجة الروح المباحة"(65).
وفي الصور التي خلفها لنا في أخريات عمره نرى فيه الرجل الألماني النموذجي، عريض المنكبين، بديناً، ممتلئ الوجه أحمره، عظيم الأنف، له إلى ذلك كله حاجبان مقوسان أضفيا عليه نظرة متسلطة يشوبها بعض الغيظ والتحدي. وكان طبعه حاداً وقد حارب ببأس شديد دفاعاً عن منصبه وآرائه، أما فيما عدا ذلك فقد كان أشبه بدب دمث لطيف يستطيع أن يطأطئ وقاره مازحاً إذا توقفت المعارضة. ولم يشارك بنصيب في حياة ليبزج الاجتماعية، ولكنه لم يكن ضنيناً باستضافة الأصدقاء، ومن بينهم منافسون كثيرون من أمثال هاسي وجراون. وكان متعلقاً بأسرته، يستغرقه عمله وبيته. وقد درب جميع أطفاله العشرة الأحياء على الموسيقى، وزودهم بالآلات، واحتوى بيته خمس موترات مفاتيح، وعوداً، وفيولا للساق، وعد كمانات، وفيولات، وفيولنتشلات. كتب إلى صديق في تاريخ مبكر (1730) يقول "أستطيع الآن أن أحي حفلة موسيقية، صوتية وآلية، من أفراد أسرتي"(67). وقد يتاح لنا في موضع لاحق أن نرى كيف واصل أبناؤه وفاقوه شهرة.
ثم وهن بصره في أخريات عمره. وفي 1749 ارتضى أن تجرى له جراحة على يد نفس الطبيب الذي عالج هاندل بنجاح في الظاهر، ولكن الجراحة أخفقت هذه المرة وتركته مكفوف البصر تماماً. وعاش بعدها في حجرة معتمة لأن النور الذي لم يستطيع رؤيته كان يؤذي عينيه. على أنه واصل التلحين رغم بلواه، شأنه في ذلك شأن بيتهوفن الأصم، وراح الآن يملي صهيراً له الافتتاحية الكورالية "حين تشتد بنا الحاجة". وكان قد أعد نفسه للموت منذ أمد بعيد، ووطن نفسه على تقبله، إذا حان حينه، عطية من الآلهة؛ ومن ثم ألف لحنه المؤثر "تعال أيها الموت الحلو".
تعال أيها الموت الرحيم، أيها الراحة المباركة،
تعال لأن حياتي مقفرة،
وقد تعبت من الدنيا.
تعال لأنني في انتظارك،
تعال سريعاً وهدئ روحي،
وأسبل عيبني في رفق؛
تعال، أيها الراحة المباركة(68).
وفي 18 يوليو 1750 بدا أن بصره قد رد إليه بصورة معجزة، وتجمعت أسرته من حوله في فرح وابتهاج ولكن فجأة، في 28 يوليو، قضت عليه إصابة بالفالج و "رقد إلى الرب هادئاً مباركاً"(69) كما تقول لغة ذلك العهد المفعمة بالرجاء.
وكاد يصبح نسياً منسياً بعد موته. وبعض هذا النسيان مرجعة انزواء باخ في ليبزج، وبعضه عسر ألحانه الصوتية، وبعضه اضمحلال الميل إلى الموسيقى الدينية والأشكال الطباقية. وحاول يوهان هيللر، الذي شغل في 1789 وظيفة باخ قائداً لفرقة المرتلين في مدرسة توماس، أن "يبث في التلاميذ استهجان فجاجات باخ"(70). وكان اسم باخ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر يعني كارل فليب إيمانويل، الذي كان يأسف على طابع موسيقى أبيه العتيق(71). وما حلت سنة 1800 حتى بدا أن كل ذكر ليوهان سبستيان باخ قد طوى.
ولم يذكر عمله غير أبنائه. وقد وصفه أثنان منهما ليوهان نيكولاوس فوركل، مدير الموسيقى بجامعة جوتنجن. ودرس فوركل العديد من ألحانه فتحمس له، ونشر في 1802 ترجمة لحياته في تسع وثمانين صفحة صرح فيها بأن:
"الأعمال التي خلفها لنا يوهان سبستيان باخ هي تراث قومي لا يقوم بثمن ولا يملكه أي شعب آخر... وتخليد ذكرى هذا الرجل العظيم ليس واجب الفن وحده بل واجب الأمة... فهذا الرجل، الذي هو أعظم من عاش ولعله أعظم من سيعيش من شعراء الموسيقى ومنظريها، كان ألمانياً... فته به فخراً يا وطني"(72).
وفتح هذا النداء المستنفر للوطنية قبر باخ. فاشترى كارل تسلتر، مدير أكاديمية الغناء ببرلين، مخطوطة لحن الآلام، واستطاع فيلكس مندلسون، تلميذ تسلتر، أن يقنعه بأن يسمح له بأن يقود في الأكاديمية أول أداء لهذا اللحن يؤدى في مكان غير الكنيسة (11 مارس 1829). ولاحظ صديق لمندلسون أن لحن الآلام هذا قد بعث إلى النور بعد تقديمه أول مرة بمائة عام تقريباً، وأن يهودياً في الحادية والعشرين من عمره هو صاحب الفضل في بعثة من مرقده(73). وأدى جميع المشاركين في اللحن أدوارهم دون أن يتقاضوا أجراً. وزاد مندلسون على هذا الإحياء بتضمين معزوفاته ألحاناً أخرى لباخ. وفي 1830 نزل فترة ضيفاً على جوته، فشغله جوته بطلبه عزف ألحان باخ.
ووافق هذا الأحياء ظهور الحركة الرومانسية، وتجديد الإيمان الديني بعد حروب نابليون، وزال سلطان الواقعية؛ فقد ارتبطت الثورة (الفرنسية) المجرمة، وبـ "ابن الثورة"، ذلك الرجل الرهيب الذي طالما أذل ألمانيا في ساحات القتال. وكانت ألمانيا الآن ظافرة، فشارك حتى هيجل في الإشادة بباخ بطلاً للأمة. وفي 1837 دعا روبرت شومان إلى نشر أعمال باخ نشراً كاملاً، وفي 1850 تألفت "جماعة باخ"، وجمعت مخطوطات باخ من كل مصدر، وفي 1851 صدر أول مجلد، وفي 1900 صدر المجلد السادس والأربعون والأخير. وقال برامز أن أعظم حدثين في التاريخ الألماني وقعا في عهده تأسيس الإمبراطورية الألمانية، ونشر ألحان باخ الكاملة(74). وهذه الألحان تؤدى اليوم أكثر من ألحان أي ملحن آخر، ويتقبل العالم الغربي كله تقدير باخ بأنه "أعظم شاعر موسيقي عاش إلى اليوم".