قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 2 ف 9

من معرفة المصادر

قصة الحضارة -> عصر فولتير -> فرنسا -> عبادة الجمال -> انتصار الركوكو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل التاسع: عبادة الجمال

انتصار الروكوكو

في هذا العصر، فيما بين الوصايا وحرب السنين السبع-عصر طراز لويس الخامس عشر-كانت النساء تتحدى الآلهة: أي الفريقين أحق بالعبادة، وكان السعي وراء الجمال ينافس الانصراف إلى التبتل والورع، والاندفاع إلى الحرب. وفي الفن والموسيقى، كما في العلوم والفلسفة، تراجع كل ما هو فوق الطبيعة أمام كل ما هو طبيعي. إن هيمنة المرأة على ملك حساس شهواني، هيأت اعتباراً جديداً أو مكانة جديدة للرهافة ورقة الوجدان. كما أن الاتجاه إلى مذهب اللذة والمتعة في الحياة الذي كان قد بدأ على عهد فيليب دي أورليان، بلغ ذروته في أيام بمبادور. وأصبح الجمال أكثر من أي وقت مضى، أمراً ذا "قيم ملموسة" فكان شيئاً يسر المرء أن يلمسه بيده أو تقع عليه عيناه، ابتداء من خزف سيفر إلى لوحات بوشيه العارية. وتخلى المهيب الفخم عن مكانه للبهيج السار والجليل الوقور للرشيق الرقيق، وكبر الحجم لفتنة الرشاقة، وكان الروكوكو فن أقلية أبيقورية غنية متلهفة على الاستمتاع بكل لذة قبل انقضاء دنياها السريعة الزوال، وفي غمرة طوفان من التغيير تتعجل حدوثه. وفي هذا الطراز الدنيوي الصريح طفرت الخطوط فرحاً، ورقت الألوان، وخلت الأزهار من الأشواك، وتجنبت الموضوعات الفاجعة لتؤكد الإمكانات الباسمة المشرقة في الحياة، وكان الروكوكو آخر مرحلة في الباروك من تمرد الخيال على الحقيقة والواقع، ومن ثورة الحرية والانطلاق على النظام والقواعد. ومع ذلك لم تكن حرية مخلة، بل ظل إنتاجها يحتفظ بالمنطق والتركيب، ويعطي المغزى شكلاً. ولكنها كرهت الخطوط المستقيمة والزوايا الحادة، ونفرت من التماثيل، وآلمها أن تترك أية قطعة أثاث دون نقوش. وعلى الرغم من أناقة الروكوكو الجذابة، فإنه أنتج آلافاً من الأشياء التي لا يفوقها شيء في رشاقتها وزخرفتها. ولمدة نصف قرن من الزمان جعل الروكوكو من الفنون الصغيرة أسمى فن في فرنسا.

وعلى قدر علمنا لم يوجد قط مثل هذا النشاط من قبل، وقليلاً ما كان مثل هذا التفوق والامتياز، في مجالات الأعمال الجمالية، تلك المجالات التي كانت يوماً أقل شأناً. وفي تلك الحقبة صار الفنان والحرفي مرة أخرى شخصاً واحداً كما كان الحال في أوربا في العصور الوسطى، وكان هؤلاء القادرون على تجميل الجوانب الخصوصية في الحياة موضع تكريم مع الرسامين والمثالين والمعماريين في هذا العصر.

ولم يبلغ الأثاث قط من قبل هذه الدرجة من الروعة والإتقان. ولم يعد أثاث طراز "لويس الخامس عشر ضخماً مثل ما كان في عهد الملك العظيم، وقد كان تصميمه مقصوداً للراحة، ولا للعظمة والوقار، وكان أكثر ملاءمة لجسم المرأة وملابسها، منه للجلال والتباهي، واتخذت الأرائك أشكالاً شتى، لتتناسب مع الأوضاع الجسمية والأمزجة. وكتب فولتير "إن السلوك الاجتماعي أيسر اليوم منه في الماضي، ويمكن أن ترى السيدات يقرأن على الأرائك أو أسرة النهار (سرير ضيق يحول في النهار إلى أريكة) دون أن يسببن أي إزعاج أو مضايقة لأصدقائهن ومعارفهن(1). وكان السرير يتوج بظلة رقيقة جميلة وتزين ألواحه بالصور والرسوم أو تنجد، وتنفش قوائمه نقشاً جميلاً. وطورت أنماط جديدة من الأثاث لتواجه حاجات جيل آثر فينوس على مارس (آثر آلهة الجمال على إله الحرب) وأخذ الكرسي المنجد ذو الذراعين والوسادة الوثيرة (البرجير) والأريكة المكسوة بنسيج مزدان بالصور والرسوم، والكرسي الطويل (شيزلنج) ومائدة الكتابة والقراءة (ما يوضع عليه الكتاب عند القراءة) ومنضدة الحوض في حجرة النوم والمائدة المثبتة إلى الحائط تحت مرآة (الكونسول)، ومسند القدمين، والخزنة العالية ذات الأدراج، وصان السفرة-كل هذه الأشياء أخذت آنذاك أشكالها، وفي الغالب أسماءها التي احتفظت في الواقع بها إلى يومنا هذا. وأسرفوا في النقش وغيره من ألوان الزخرفة والتزيين إلى حد أثار رد فعل في النصف الثاني من القرن، وتطعيم خشب الأثاث بالصدف أو المعادن الذي أدخله أندريه شارل بولليه في عهد لويس الرابع عشر، وأهمله أبناؤه من بعده، حيث كانوا نجاري الأثاث لدى لويس الخامس عشر وغطت تشكيلة كبيرة من التطعيم سطح الخشب الملون أو المكسو بقشرة رقيقة أو المدهون بورنيش الك "ووضع فولتير" أشغال الك "في فرنسا القرن الثامن عشر، في مرتبة سواء مع ما كان يرد منها من الصين أو اليابان. أما الحرفيون من أمثال كرسنت، أو بورد اوبن، كافييري، وميسونيه فقد بلغوا من التفوق والتبريز في تصميم الأثاث وزخرفته درجة حدت بنجاري الأثاث الأجانب إلى القدوم إلى فرنسا لدراسة أساليبهم، ثم نشروا الطراز الفرنسية من لندن إلى بطرسبرج. وجمع جوست أوريل ميسونييه بين عشرة فنون أو تزيد، فبنى البيوت، وزخرف أجزاءها الداخلية، وصنع الأثاث على أحدث طراز، وصنع "الشمعدانات" والآنية الفضية للمائدة وصمم علب السعوط وأغطية الساعات، ونظم المشاهد الفاخرة، وألف عدة كتب دون فيها مهاراته وفنونه. وكاد أن يكون الرجل العالمي في زمانه.

وقد حلت الألفة والعلاقات الحميمة في الحياة على عهد لويس الخامس عشر محل التمسك بالرسميات الذي ساد القرن السابع عشر، فإن الزخرفة الداخلية انتقلت من الفخامة والأبهة إلى الرقة. وفي هذا أيضاً بلغ العصر الذروة، فالأثاث والبسط والسجاد والتنجيد والقطع الفنية، وساعات الحائط والمرايا، والإطارات والأنسجة المزدانة بالصور والرسوم والستائر واللوحات والسقوف والشمعدانات، حتى خزائن الكتب-صنعت كلها في تناسق في الألوان والطراز يسر الناظرين. وقد يساورنا الظن بأن الكتب كانت تشترى للون جلدتها والمادة المصنوعة منها قدر ما تشترى من أجل محتوياتها، ولكنا يمكن أن ندرك هذه اللذة أيضاً. وإنا لننظر بعين الحسد إلى المكتبات الشخصية الخاصة المرصوصة وراء الزجاج في خزائن جميلة مرتكزة على الحائط: وكانت حجرات الطعام نادرة في فرنسا قبل 1750، أما موائد الطعام فكانت تصنع بحيث يمكن بسهولة تمديدها لمضاعفة عدد الجالسين إليها وإزالتها، لأن ضيوف العشاء قد يبلغون عدد كبيراً لا يمكن التنبؤ به. ولم تعد المدافئ من ذاك الطراز الضخم الذي كان قد انحدر من العصور الوسطى إلى لويس الرابع عشر، ولكنها ازدانت بزخرفة مترفة، وفي بعض الأحيان (وهذا مثال نادر للذوق السقيم في هذه الحقبة) كانت تماثيل للمرآة تستخدم بمثابة أعمدة تحمل رفوف المدفأة, وكانت كل التدفئة تقريباً عن طريق مدافئ مفتوحة تسترها حواجز مزخرفة، ولكنا كنا نجد هنا وهناك في فرنسا، كما كان في ألمانيا، موقداً مكسواً بالخزف المزخرف. وكانت الإضاءة بالشموع التي تثبت بمائة طريقة مختلفة، تبلغ أقصى روعتها في الشمعدان الضخم المتألق، المصنوع من البلور أو الزجاج أو البرونز. وإنا لنعجب من كثرة القراءة على ضوء الشموع، ولكن ربما قللت المشاق من إنتاج الهراء واستهلاكه. ومع تقدم القرن، حلت اللوحات الحائطية الزاهية الألوان والمزخرفة زخرفة رقيقة محل النسيج المزدان بالصور والرسوم، وفي هذه الفترة كانت قمة ازدهار فن هذا النسيج. وفي كل أنواع النسيج تقريباً-من الدمقسي والمطرزات والمقصبات إلى البسط والسجاجيد والستائر الممتازة تحدت فرنسا في تلك الأيام أفخر منسوجات الشرق. وتخصصت أميان في المخمل المنقوش واشتهرت ليون وتور ونيم بالحرير المزركش. وفي ليون ابتدع جان بيلمنت وجان بابتست هويه وغيرهما سجاجيد تعلق على الجدران ممهورة ومخيطة بموضوعات ومناظر صينية أو تركية أسرت لب بمبادور. وكان هذا النسيج يصنع في مصانع المؤممة في باريس وبوفيه، وفي الحوانيت الخاصة في أوبيسون وليل. وكانت هذه المنسوجات إذ ذاك قد فقدت وظيفتها في الانتفاع بها للحماية من الرطوبة والتيارات الهوائية، وأصبحت للتزين فقط وغالباً ما صغر حجمها لتلتئم مع النزعة إلى تصغير الحجرات. وسار النساجون في مصانع الجوبلان وبوفيه وفق التصميمات والرسوم التي وضعها، والألوان التي تصح باستخدامها أئمة الرسم في ذاك العصر، وكانت جميلة بصفة خاصة تلك القطع الخمس عشرة التي نسجتها مصانع جوبلان (1717) وفق الرسوم التي أعدها شارل أنطوان كوبيل لتصوير قصة "دون كيشوت". أما نساجو بوفيه فإنهم، كما سنرى أنتجوا قطعاً رائعة من النسيج، صمم رسومها الفنان بوشيه. وفي 1712 أعيد تنظيم مصانع "سافونيري" وكانت في الأصل لصنع الصابون-وأطلق عليها المصنع الملكي لصناعة السجاد على طراز فارس والشرق الأدنى وسرعان ما أنتج سجاجيد ضخمة امتازت برسوم دقيقة وألوان متنوعة ووبر ناعم مخملي، وهذه أجمل سجاجيد ذات وبر في فرنسا القرن الثامن عشر. وكانت مصانع النسيج المزدان بالصور والرسوم هي التي تقوم بالتنجيد الذي يتطلب المثابرة وبذل أقصى الجهد لكراسي الأثرياء، ولا بد أن كثيراً من الأصابع المتواضعة الذليلة قد تعبت وتصلبت لتوفر لهؤلاء الأثرياء مقاعد وثيرة تقيهم عناء الجلوس.

وأقبل الخزافون الفرنسيون على عصر من المغامرة. وهيأت لهم حروب لويس الرابع عشر الفرصة. ذلك أن الملك العجوز صهر ما لديه من فضة لتمويل جيوشه وأحل الخزف مكان الفضة، وأمر رعاياه بأن يحذو حذوه. وسرعان ما لبت مصانع الخزف في روان وليل وسكو وستراسبورج وموستير سانت ماري ومرسيليا هذا المطلب الجديد. وبعد موت لويس الرابع عشر شجع الميل إلى الأطباق وغيرها من الأشياء المصنوعة من الخزف-شجع الخزافين إلى إنتاج أجمل ما عرف منها في تاريخ أوربا. ورسم مشاهير الفنانين من أمثال بوشيه وفلكونيه وباجو المناظر على الخزف الفرنسي وابتدعوا أشكالاً كثيرة منه.

وفي نفس الوقت كانت فرنسا تتجه إلى إنتاج الخزف الصيني. وكانت أنواع متعددة من العجينة الملساء تصنع في أوربا منذ مدة طويلة ترجع إلى 1582 في فلورنسه و1673 في روان، وكانت كلها على أية حال تقليداً للنماذج الصينية. ولم تكن مصنوعة من العجينة الصلبة المأخوذة من مادة الكاوين أي الصلصال الصيني، أو حجر الطفل الصيني الذي يذاب في درجة حرارة عالية في الشرق الأقصى. وإنما كانت من صلصال أقل صلابة يسخن في درجة حرارة منخفضة ثم يغطى "بالغربتة" وهي مادة متكلسة أو شبه منصهرة ومصقولة. وحتى هذا الخزف الصيني المصنوع من العجينة الطرية-وبخاصة في شانتبللي، وفنسن ومنسي-فيلروا (بالقرب من باريس) كان جميلاً جداً، واستمر استيراد الخزف المصنوع من الصلصال الصلب من الصين أو در سدن. وفي 1740 انتزعت مدام دي بمبادور مائة ألف جنيه من لويس الخامس عشر، و250 ألفاً من مصادر خاصة للتوسع في إنتاج الخزف من العجينة الطرية في فنسن. وفي 1756 نقلت عمال فنسن المائة إلى مبنى أوسع وأوفى بالغرض في سيفر (بين باريس وفرساي) وهناك في 1769 بدأت فرنسا إنتاج الخزف الصيني الحقيقي من الصلصال الصلب.

وأفاد صائغو الذهب والفضة من أن ملك فرنسا استخدم من منتجاتهم رصيداً احتياطياً قومياً، محولاً السبائك إلى أشكال مسرفة في الجمال، ولكن يمكن في الحال صهرها إذا دعت الضرورة. وفي عهد لويس الخامس عشر ازداد طلب الطبقات المتوسطة على المشغولات الفضية بوصفها أدوات نافعة أو وسائل للزينة. وتكاد كل أنماط السكاكين التي نستخدمها اليوم تكون قد اتخذت شكلها الراهن في فرنسا القرن الثامن عشر: شوكات المحار، ملاعق المثلجات، ملاعق السكر، أطقم الصيد، طقم الرحلات، سكاكين وشوكات الأكل، أضف إلى ذلك مملحة المائدة، وفناجين الشاي والأباريق والأواني وأدوات التجميل والشمعدانات، وكلها مزدانة بنقوش بديعة أو مصنوعة ف أشكال جميلة.. "وكان أحسنها في هذا المجال طراز لويس الخامس عشر من بين كل الطرز الفرنسية(2)وصنع صائغوا الذهب والفضة صناديق أو علباً صغيرة حملها الرجال والنساء على السواء، لحفظ السعوط أو الأقراص أو المساحيق أو الحلوى، كما صنعوا مائة صنف من الأواني والأوعية والصناديق لمنضدة الزينة وحجرة النوم والملابس، وكان في حوزة الأمير دي كونتي مجموعة من ثمانمائة صندوق من مختلف الأشكال، من المعادن النفيسة، وكلها رائعة متقنة الصنع. واستخدمت مواد أخرى كثيرة لمثل هذه الأغراض: العقيق، عرق اللؤلؤ، اللازورد.... وكان قطع الجواهر وتركيبها الامتياز الذي تفرد به 350 من مهرة الحرفيين الذين ضمتهم نقابة الصائغين.

وحملت أشغال المعادن سمعة العصر في رقة القوالب والأشكال والصقل والإتقان. واتخذت مناصب أو مساند الحطب المشتعل أشكالاً خرافية من التصميمات أو الرسوم المعقدة من الحيوانات الخيالية عادة. واستخدم البرونز الذهبي اللون لصنع أو زخرفة هذه المناصب والمشاعل والشمعدانات ذوات الشعب أو تحليتها بالزخارف، أو لتركيب ساعة الحائط أو البارومتر أو حجر الشب أو الخزف الصيني. فبلغ البرونز الحديث ذروه استخدامه في القرن الثامن عشر، فكان من الممكن أن تكون ساعات الحائط في أشكال ضخمة غريبة وساعات الجيب أو اليد صلبة جميلة-من البرونز أو المينا أو الفضة أو الذهب، ومزدانة بنقوش غاية في الجمال والإتقان. وكانت المشاعل في بعض الأحيان تحفاً رائعة في فن النحت، مثل تلك التي أبدعها فالكونيه لقصر فرساي. وكانت المنمنمات والرسوم الفاخرة من روائع هذا العصر. وأنتجت أسرة واحدة هي أسرة رومتيير، خمسة أشكال من الرصائع (الميداليات) المحفورة على مدى قرن من الزمان، تميزت كلها بدقة الصنع إلى أن الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة رحبت بانضمامها إليها، في عداد كبار الرسامين والمثاليين. إن القرن الثامن عشر عرض في الأشياء الصغيرة في الحياة أعظم ثروته خلواً من الهموم، كما عرض أكثر فنونه دقة وإتقاناً. وقال تلليران "إن أولئك الذين لم يعيشوا قبل 1789 لن يدركوا أبداً إلى أي حد يمكن أن الحياة حلوة"(3)، إذا تسنى للمرء أن يختار الطبقة التي ينتمي إليها ويتفادى المقصلة.


فن العمارة

وتجاهل فن العمارة الروكوكو تقريباً. وتتغير الطرز ببطء في البناء أكثر منها في الزخرفة لأن مقتضيات الرسوخ والثبات أقل مرونة من تقلبات الذوق. وكانت الأكاديمية الملكية لفن العمارة التي نظمها كولبير في 1681 يتولى توجيهها الآن ورثة تقاليد لويس الرابع عشر. وواصل روبرت دي كوت عمل جول هردوين مانسار الذي كان قد أكمل قصر فرساي. وكان جرمين بوفران تلميذاً لمانسار، وكان جاك جول جبراييل وابنه جاك آنج خلفين غير مباشرين لمناسار، ومن ثم حصر تيار هذه التقاليد مجراه في قوة وصلابة، واحتفظ هؤلاء الرجال بطراز الباروك، بل بالطراز نصف الكلاسيكي، بالمظاهر الخارجية التي سادت في القرن العظيم، مثل الأعمدة وتيجانها والعتبات، ولكنهم سمحوا بمسحة من الروكوكو فيما شادو من مبان. وخفف ضعف الإيمان من حدة التحمس لبناء كنائس جديدة، ولكن جددت على أية حال واجهتا كنيستين قديمتين. ذلك أنه في 1736 أقام روبرت دي كوت لكنيسة سانت روش أعمدة وقوصرة (مثلث أعلى الواجهة) كلاسيكية. وفيما بين 1743-1745 زود جان نيقولا سرفاندوني كنيسة سانت سولبيس برواق ضخم ذي طابقين في مدخلها، قائم على أعمدة دورية وأيويية من طراز بللاديو الروماني الكئيب، ولكن العمارة المدنية هي التي عبرت عن روح العصر وتحولت فيما بعد عدة قصور بنيت في تلك الفترة إلى وزارات وطنية أو دور للسفارات الأجنبية. من ذلك قصر ماتنيون 1721 الذي أصبح سفارة النمسا، ثم داراً لرئيس الوزراء، وقصر البوربون (1722-1750) الذي أدمج جزء منه في مجلس النواب، وقصر سوبيز (الذي عدل بناؤه 1742) والذي أصبح داراً للمحفوظات الوطنية.

وفي عهد المركيز دي ماريني، مدير المباني، ازدهرت أحوال عدد كبير من المهندسين المعماريين والمثالين والرسامين ومهندسي الزخرفة، ووجد مساكن وأعمالاً لهم ورأى أنهم يؤجرون أجراً حسناً. وكان المهندس المعماري الأثير لديه هو جاك آنج جيراييل الذي ارتضى التقليد الكلاسيكي عن طيب خاطر. وبعد صلح اكس لاشابل (1748) انهمك إدم بوشاردون في إقامة تمثال فارس للملك لويس الخامس عشر، وعهد إلى جبريل بتصميم المكان الذي يحيط بالتمثال. فوضع حول مساحة مكشوفة بين حدائق التويلري والشانزليزليه، دائرة من "الدرابزينات" والحدائق الغائرة، وشاد في الطرف الشمالي قصر كحريون الحالي ووزارة البحرية الحالية، وكلاهما على طراز كلاسيكي بحت، وعمد إلى تزيين الميدان بإقامة أربعة تماثيل أسطورية سرعان ما أطلق عليها الباريسيون أسماء خليلات الملك-ميللي فنتيميل، شاتورو، بمبادور. وأطلق على الميدان اسم لويس الخامس عشر، ونسميه اليوم ميدان الكونكورد. وقد يسرنا أن نعلم أنه كان هناك ازدحام في حركة المرور منذ مائتي عام. وجيمس انجل جبرائيل هذا هو نفسه الذي شاد في 1752 المدرسة الحربية المتناسقة الأجزاء إلى حد بالغ والتي تضاهي رشاقة أعمدتها مثيلتها في أية ساحة رومانية قديمة.

ولم تكن باريس هي وحدها التي جددت مبانيها وغيرت وجهها في هذا العصر ففي شاتنيللي عهد دوق بوربون إلى جان أوبيرت بإقامة أسطبلات لجياده وكلابه، بلغت من الفخامة حداً يدعو إلى المقابلة بينها وبين أكواخ الفلاحين. وفي اللورين جعل ستانسلاس لزكزنسكي من نانسي واحدة من أجمل مدن فرنسا، وهناك أكمل بوفران بناء الكاتدرائية التي كان قد بدأها أستاذه جول هاردوين "انسار" وفيما بين عامي 1750-1757 أقام أمانويل هيري دي كورني "المدينة الجديدة" في نانسي: دار البلدية من طراز الروكوكو، وميدان ستانسلاس الذي يؤدي عبر حديقة عامة وقوس النصر إلى ميدان دي لاكاريير ودار الحكومة، وأحاط جان لامور ميدان ستانسلاس بحواجز من قضبان حديدية متصالبة (1751-1755) هي أجمل ما صنع من نوعها في الفن الحديث. وأقامت ليون آنذاك ميدان كويس الأكبر وافتتحت كل من نانت وروان وريمس وبوردو ميدان الملك. وشادت تولوز مبنى فخماً للبرلمان، وأقامت روان نافورات جميلة وزينت الجسور الفخمة مدينة سنس. وعمت المتنزهات الواسعة نانت وبلوا ومونبلييه. وفيما بين عامي 1730-1760 حول جان جاك جبراييل بوردو إلى مدينة حديثة ذات ميادين شاسعة وشوارع واسعة ومتنزهات طلقة الهواء وواجهة جميلة تطل على المياه، وشيدت فيها المباني العامة على طراز عصر النهضة الرائع.

وأخيراً تخطت العمارة الفرنسية الحدود، فعهد إلى رجال العمارة الفرنسيين بإقامة المباني في سويسرا وألمانيا والدنمرك وروسيا وإيطاليا وإسبانيا. وفي أواسط القرن وحين ضعفت قوة فرنسا العسكرية ومكانتها السياسية نجد أنها بلغت ذروة النفوذ والتأثير في مجال العادات والفن.


النحت

خاض النحت في تلك الحقبة معركة مريرة في محاولة للاعتراف به فناً هاماً كبيراً. وكانت مهمته قد اقتصرت لعهد طويل على أن تكون زخرفية أو تزيينية. وفي عهد لويس الرابع عشر أقيمت التماثيل لتضفي زينة وبهاء على القصور الفخمة والحدائق الشاسعة. أما الآن فقد قل الاهتمام بالنحت لأن الولع بالبناء قد استنفد أغراضه كما استنزف فرنسا، وقبع الأغنياء في مبان أصغر حجماً، ولم تجد التماثيل الضخمة لها مكاناً في قاعات الاستقبال أو النوم. وشكا المثالون من ان الأكاديمية الملكية للرسم والنحت منحت معظم جوائزها للرسامين. واقترح بيجال أن يكون هناك مثال ملكي على غرار الرسام أو المصور الملكي، وأيد بشخصه حملة طائفة سان ميشيل لكسر التقليد الذي جرى عليه العمل وهو تكريم الرسامين وحدهم بمثل هذه المهمة. وانصرف المثالون على كره منهم إلى زخرفة البيوت بقطع صغيرة وبالزهريات والنقوش البارزة، وسعوا إلى منافسة رسامي الأشخاص بأن يشكلوا الجسم الفاني في صورة خداعة من البرونز أو الحجر الذي لا يبلى، ما داموا يتقاضون الأجر. ولما تهيأ لبعض هؤلاء المثالين مزيد من الفرص للعمل اختاروا طراز الروكوكو الرشيق الطبيعي اللعوب المرح على حين ظلوا يحبذون وقار الخطوط الكلاسيكية.

وكما هو الحال مع الرسامين والحرفيين مال فن النحت إلى أن ينموا في أسرات بعينها. وساعد نيقولا كوستو أستاذه أنطوان كويسيفوكس في تزيين القصور الملكية في مارلي وفرساي، وصمم الشخصيات العظيمة، رامزاً إلى أنهار فرنسا، وهي الآن في البلدية دار البلدية في ليون. ولا يزال تمثاله "النزول من الصليب" في كنيسة نوتردام دي باريس، و "الراعي الصياد" واحداً من اثنا عشر تمثالاً رائعاً تغالب الزمن والجو في حدائق التويللري. ونحت غليوم كوستو الأول الأخ الأصغر لنقولا، تمثالاً من المرمر لماري لزكز نسكا، مثل تمثال جونو(4) (زوجة جوبيتر في الأساطير الرومانية) كما نحت تمثال "جياد مارلي" القوية (1740-1745) لذلك القصر أساساً، ولكنها الآن متمردة على اللجام في المدخلين الغربي والشرقي لقصر الكونكورد. أما ابنه غليوم كوستو الثاني، فقد حفر للدوفين مقبرة في كاتدرائية سنس.

وأنجبت مدينة نانسي أسرة أخرى من الفنانين فورث جاكوب سجسبرت آدم أبناءه الثلاثة النحت والعمارة، وقضى لمبرت سجسبرت آدم عشر سنوات في الدرس والتحصيل في روما، عاد بعدها إلى باريس، حيث تعاون مع أخيه الأصغر نقولا سباستيان في إقامة نافورة "نبتيون وامفتريت" (إله وإلهة البحر) ف يحدائق فرساي ثم قصد إلى بوتسدام حيث حفر لفردريك الأكبر-هدية من لويس الخامس عشر-مجموعتين من الرخام-صيد الحيوان وصيد السمك-لقصر سان سوسي. ثم رجع نقولا سباستيان إلى نانسي وشاد مقبرة كثرين أو بالنسكا في كنيسة نوتردام دي بون سيكور، وثمة أخ ثالث، وهو فرانسوا بلتازار جسبار، أسهم في تزيين عاصمة ستانسلاس. وهناك أسرة ثالثة من النحاتين بدأت بالمثال فيلبوكافييري الذي غادر لإيطاليا في 1660 ليعمل مع ابنه فرانسوا شارل في خدمة لويس الرابع عشر.

وثمة ابن آخر هو جاك كافييري الذي بلغ بعبقرية الأسرة إلى الذروة متفوقاً على كل معاصريه في أشغال البرونز. وتنافست القصور الملكية كلها تقريباً في الإفادة من فنه في زمانه. وفي قصر فرساي اشترك مع ابنه فيليب في المدفأة في جناح الدوفين وفي صنع قاعدة برونزية من طراز الروكوكو لساعة الملك الفلكية المشهورة الآن. وتعد التركيبات والسنادات البرونزية التي صنعها للأثاث أثمن وأغلى قيمة من الأثاث نفسه(5).

وارتضى آدم بوشاردون-الذي أسماه فولتير "فيداس" فرنسا(6) (نحات أغريقي في القرن الخامس ق.م)-ارتضى تماماً كل القواعد الكلاسيكية التي نادى بها راعيه كونت دي كايلوس. وجد لعدة سنين مناناً لتمثال بيجال خيل لهذا الأخير أنه غلب على أمره. وأورد ديدرو ذكر بوشاردون في قوله "لم أدخل قط إلى مرسم (ستوديو) إلا خرجت منه بشعور من القنوط سيطر علي لعدة أسابيع"(7)ورأى ديدرو أن تمثال "الحب-كيوبيد"(8)الذي صنعه بوشاردون مكتوب له الخلود، ولكنه لا يكاد يتلظى بنار الحب، وخير منه النافورة التي أقامها المثال نفسه في شارع جرينل في باريس، وهي تحفة رائعة في جلالها الكلاسيكي وعظمتها وفي 1749 عهدت إليه المدينة بصنع تمثال فارس للملك لويس الخامس عشر، وأكب على العمل فيه لمدة تسع سنين، وصبه في 1758، ولكن لم يمهله القدر ليراه قائماً وطلب إلى السلطات البلدية، وهو على فراش الموت 1762، أن تكل إلى بيجال إكمال المشروع، وهكذا اختتمت المنافسة التي طال أمدها بين هذين المثالين، فيما ينبئ عن الإعجاب والثقة بينهما، ونصب التمثال في ميدان لويس الخامس عشر، ثم جاءت الثورة الفرنسية فحطمته 1792 باعتباره رمزاً بغيضاً.

ونبذ جان بابتست ليمويين كل القيود والقواعد الكلاسيكية، لأنها تحكم على النحت بالفناء. لماذا لا يعبر الرخام أو البرونز-مثل صور الألوان المائية أو الزيتية عن الحركة والوجدان والضحك والفرح أو الحزن-مما تجرأت التماثيل الهللينية على أن تعبر عنه؟ وبهذه الروح صمم ليمويين مقبرتي كاردينال فليري والرسام بيير مينارد لكنيسة سان روش، وكذلك في تمثال مونتسكيو الذي نحته لمدينة بوردو، أبرز المثال المؤلف "روح للقوانين" ساخراً مكتئباً شكاكاً، وسطاً بين سناتور روماني وفيلسوف إقليمي يسخر من أساليب الباريسين في حياتهم. وأصبحت تلك البسمة العابرة هي العلامة المميزة للعديد من التماثيل النصفية التي صنعها ليمويين بأمر من الملك لكثير من رجال فرنسا البارزين. وانتصر هذا الأسلوب التعبيري الممتع على كلاسيكية بوشاردون، وانتقل إلى بيجال وباجو وهودون وفالكونيه في عصر من اعظم عصور النحت في فرنسا.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الرسم

كان الرسامون هم أصحاب اليد الطولى بين الفنانين آنذاك. وعكست سيطرة بوشيه مرة أخرى نفوذ النساء وتأثيرهن على الفنون، وأحست مركيزة بمبادور أن الرسامين قد أضاعوا كثيراً من الوقت مع أبطال الرومان وقديسي المسيحية وآلهة الإغريق، وقد آن الأوان لينظروا إلى فتنة الأحياء من النساء في أبهى حللهن وتورد خدودهن، ويبرزوا بالخطوط والألوان رشاقة العصر التي لم يسبق لها مثيل في تقاطيع الوجوه، وفي الثياب وفي العادات وفي كل الكماليات في حياة الأقلية الثرية. وكانت المرأة يوماً خطيئة، وهي تعلن أنها لا تزال خطيئة، لكن لا شيء إلا أن تكون أكثر إغراء وفتنة. إنها ثأرت لنفسها من تلك القرون المرعبة التي أذلتها فيها الكنيسة ودمغتها بأنها أس البلاء، ومصدر اللعنة. وسمح لها بدخول جنة لا يغشأها إلا الخصيان بفضل عذرية أم الإله فقط. وليس ثمة شيء ينم في جرأة أكبر على اضمحلال الديانة في فرنسا من زحزحة السيدة العذراء عن الفن الفرنسي. وحل الملك والأرستقراطية ورجال المال محل الكنيسة في رعاية الفن. وفي باريس أصبحت أكاديمية سان لوك للرسامين منافساً ومستحثاً للأكاديمية الملكية للفنون الجميلة المحافظة المتمسكة بالقديم. وفي الأقاليم نشأت أكاديميات إضافية في ليون ونانسي ومتز ومرسيليا وتولوز وبور وكلبرمنت فراند وبو وديجون وريمس. وفضلاً عن جائزة روما السنوية وضعت اثنتا عشرة مسابقة وجائزة، بعثت في دنيا الفن حركة دائبة واهتياجاً شديداً، وفي بعض الأحيان كان الملك أو غيره من رعاة الفن، يواسون من لم يفوزوا في هذه المسابقات بشراء بعض لوحاتهم أو منحهم بعض المال الذي يكفل لهم الإقامة لبعض الوقت في إيطاليا. وعرض الرسامون لوحاتهم في الشوارع، وفي بعض الأعياد الدينية كانوا يثبتونها في الستائر التي تتدلى من نوافذ الأتقياء في الطرق التي يمر بها الموكب الديني. ورغبة في تعويق ما بدا للفنانين المعترف بهم أنه نهج غير ملائم، استأنفت الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في 1737 وبعد انقطاع ثلاث وثلاثين سنة، إقامة المعرض العام للرسم والنحت المعاصرين في "القاعة المربعة" في متحف اللوفر. وهذا المعرض السنوي أو الذي كان يقام كل عامين بعد 1751 أصبح في أواخر أغسطس وطوال سبتمبر حدثاً مثيراً في الحياة الفنية والاجتماعية في باريس، وفي دنيا الأدب، وجعل الصراع بين المحافظين في الأكاديمية والمتمردين داخلها أو خارجها، من الفن معركة تنافس معارك الحديث عن الجنس بل معارك الحرب الحقيقية في أحاديث الناس في العاصمة. واحتقر أنصار الخطوط البسيطة المحتشمة غير المبالغ في زخرفتها، والتهذيب الذي يعاون على الإصلاح-كما كانوا هم أنفسهم موضع احتقار-أنصار اللون والتجريب والابتكار والحرية. وأصبح النقد الفني عملاً ناجحاً. وكانت "تأملات في فن الرسم" للكونت دي كابوس تقرأ في إسهاب على الملأ في الأكاديمية. وروى جريم أنباء المعارض لقراء رسائله. وتخلى ديدرون عن هجومه على المسيحية ليصبح واحداً من أشد الفنيين معارضة في ذاك العصر. وأثار الحفارون على الخشب والمعادن مثل جاك لي بلون ولورنت كارز الهياج بنشر نسخ مطبوعة من الأعمال المشهورة وتزيين الكتب بالصور، وإنتاج روائع من عملهم هم أنفسهم. وكان لي بلون أول من بدأ الحفر بالألوان في 1720.

ولم يكسب الفنانون قط من قبل، اللهم إلا في مجال الفنون الدينية، مثل هذا الجمهور المتحمس، أو مثل هذه الرعاية على نطاق واسع. ويأت الرسام الآن يوجه نشاطه إلى العالم بأسره.


في حجرة الانتظار

ارتفع عدد كبير من الرسامين إلى قمة المجد في تلك الحقبة، حتى أنه ليشق علينا هنا مجرد ذكرهم، ولسوف نعرض في تفصيل أكثر لبوشيه وشاردان ولاتور، ولكن هناك من قد يزعجهم إغفالنا ذكرهم.

فهناك الرسام المبرز جان فرنسوا دي تروي، ولكنه كانت تعوزه الحيوية، وكان رسمياً إلى درجة لا يصلح معها أن يكون عظيماً. وأحبه الجميع، ووافق إلى حد مبير على أن يستخدم ملامح وجهه وكأنها ملامح وجه السيد المسيح "آلام المسيح في البستان(9)" ووجد في إغراء السيدات لذة أكثر منها في رسمهن، وترك وراءه كثيراً من القلوب الكسيرة المحطمة والأعمال المشوهة، وزخرف فرنسوا ليمويين (ويجب ألا تخلط بينه وبين المثال جان بابتست) عقد قاعة هركيول في قصر فرساي بنحو 142 شكلاً ضخماً، ونقل إلى تلميذه بوشيه فن إحلال اللون الوردي الذي تؤثره مدام دي بمبادور محل اللون الأسمر المائل للحمرة في لوحات رامبرانت واستبق شارل أنطوان كوبيل، وهو ابن وحفيد لرسامين، شاردان في رسم مشاهد الحياة اليومية وأحداثها، وقد التقينا به رساماً للوصي، وفي 1747 أصبح الرسام الأول للملك لويس الخامس عشر.

وقد سر فردريك الأكبر باقتناء لوحته "سيدة أمام المرآة" لقصر سان سوسي، ولا يزال اللوفر يعرض لوحته "الحب والأميرة فاتنة الجمال التي أحبها كيوبيد" من نسيج الجوبلان المنقوش، وهي تركيب نفيس من طبيعة بشرية وقماش.

وحظي جان مارك ناتيير بشعبية ورواج في رسم الأشخاص لأنه عرف، عن طريق الوضعة (كيف يكون وضع المرء أمام الرسام) واللون وحركة الضوء، كيف يخلص الجالسين أمامه من العيوب أو التشويهات التي أصابتهن بفعل الوراثة أو أحداث الحياة، حتى أن كل السيدات اللاتي رسمهن، فيما عدا واحدة، سررن حين وجدن أنفسهن في لوحاته، فاتنات مغريات كما اعتقدن دائماً في أنفسهن. ولوحته "مدام دي بمبادور" معلقة في فرساي، بشعرها الجميل الملون بلون خفيف، وعينيها الوديعتين اللتين لا تكادان تكشفان عن لهفتها على السلطان والسيطرة وتنافس الملوك والملكات على الظفر بالفنان ناتيير. فقد رسم ماري لزكزنسكا سيدة برجوازية تشرع في القيام بنزعة في الريف(10)وأنصف كل الإنصاف جمال أدليد(11) ابنة الملكة. وعندما زار بطرس الأكبر باريس رسم ناتيير لوحتين له ولزوجته القيصرة، ودعاه بطرس للانتقال إلى روسيا فأبى، فما كان من القيصر إلا أن حمل اللوحتين دون أن ينقده أجراً. وأحضر جاك أندريه أفيد المولود في الفلاندروز بعض لوحات فلمنكية واقعية تصور الناس كما هم، ولا بد أن ميرابو الأكبر جزع عندما رأى نفسه كما رآه أفيد فصوره(12). ولكنها على أية حال من أعظم لوحات هذا القرن.

وعلى كل هؤلاء السادة الجالسين في حجرة الانتظار-حتى على بوشيه وشاردان-نجد جريم وديدرو يؤثران كارل فانلو، وهو سليل أسرة كبيرة من الرسامين تحمل اسم فانلو، نعرف منهم تسعة بأسمائهم. ولد في نيس 1705. واصطحبه معه رفيقه الرسام جان بابتست إلى روما حيث درس بالأزميل والفرشاة معاً. وفي باريس فاز بجائزة روما 1724، ثم قضى في إيطاليا فصلاً دراسياً آخر، عاد بعده إلى فرنسا وأراضي الأكاديمية وأغضب بوشيه، بأتباعه كل القواعد الأكاديمية. وحيث أنه أفزع كل جهده وقضى كل وقته في الاشتغال بفنه، ولم يدخر منه شيئاً ليتعلم القراءة والكتابة والعادات القويمة والحديث المهذب، فإن مدام بمبادور نفرت منه ف شيء من الاشمئزاز(13)بأنه "وحش مزعج" ومع ذلك عهدت إليه برسم (مناقشة إسبانية). ولفترة وجيزة ارتضى مزاج العصر، ورسم سيدات متشحات بأردية ملتصقة بأجسامهن، ولكنه سرعان ما ركن إلى الرزانة والهدوء في حياة أسرية نموذجية، فخوراً بزوجته البارعة المصقولة ولوعاً بابنته كارولين. وفي 1753 اشترك مع بوشيه في زخرفة قاعة المجلس الرائعة في قصر فونتنبلو، وبلغ درجة كبيرة من الشهرة إلى حد أنه عندما اتخذ مقعده في الكوميدي فرانسيز، بعد مرض عضال كاد يودي بحياته، نهض الحاضرون وحيوه وصفقوا له مظهرين بهذه العلاقة الوثيقة بين الفن والأدب في هذا العصر الذي تميز بثقافة عالية.

وسجل جان بابتست أودري رحلات الصيد الملكية في أعمال النقش والرسم على القماش. واختارته الملكة معلماً لها. وكانت تتولاها الدهشة والعجب حين تراقبه وهو يعمل. وزودت بعض قطعه المنقوشة نساجي القماش بتوجيهات ونماذج ممتازة يهتدون بها في عملهم، وسرعان ما عين أودري مديراً للمصنع الملكي في يوفيه، فلم يجد هناك إلا الفوضى والتدهور، فأعاد تنظيم العمل في حزم وشدة، وأثار همم العمال بحماسته؛ وصمم لهم سلسلة من قطع النسيج المزدان بالرسوم، موضحاً بصور الحيوانات المبهجة قصص لافونتين الخرافية. وهناك أيضاً وضع الرسم التمهيدي للمجموعة الأخاذة من النساء والوحوش المعلقة في اللوفر، في "ديانا دي بورتيير". وتملكت النساجين في الجوبلان الغيرة من النجاح الذي أصابه مصنع بوفيه، فاقنعوا الملك بنقل أودري إلى المصنع القديم، وهناك أفنى نفسه في صراع مرير لحمل النساجين على قبول الألوان التي وضعها. وفي الوقت نفسه أسهم في كل من بوفيه وباريس في تدريب المواهب والقدرات المتشعبة لدى أكثر فناني منتصف القرن في فرنسا امتيازاً وتألقاً، وأكثر من نال منهم تعنيفاً قاسياً.

بوشيه 1703 - 1770

استمع إلى ديدرو وهو يتأمل في لوحات بوشيه العارية: أية ألوان، وأية تشكيلة، وأية وفرة في المواد والفكار! إن هذا الرجل توفر لديه كل شيء إلا يصدق. إن انحطاط الذوق واللون، وأسلوب التركيب، والشخصية والتعبير، كل هذا تبع خطوة بخطوة انحلال الخلق.... وماذا عسى هذا الرجل أن يرسم إلا ما تصوره في خياله؟ وماذا يمكن أن يتخيل رجل يقضي حياته برفقة نساء المدينة؟..... إن هذا الرجل لا يمس بفرشاته إلا ليبرز الأرداف والصدور. إنه لا يدرك ما هو الجمال.... فإن الكياسة والأمانة والبراءة والبساطة أصبحت كلها غريبة عليه. إنه لم ير الطبيعة لحظة واحدة قط، وعلى الأقل الطبيعة التي تدخل البهجة على نفسي، وعلى نفسك، مثل طفل كريم المولد، أو امرأة ذات وجدان حي. إنه مجرد من الذوق.... والواقع إنه في تلك اللحظة بعينها، عين الرسام الأول للملك (1765)(14)".

ويحتمل ألا يكون بوشيه قد اطلع على هذا النقد قط لأنه كان موجهاً إلى قراء جريم الأجانب. فلنلق نحن نظرة على الفنان دون نية مبيتة للحقد عليه أو الإساءة إليه.

كان بوشيه ابناً صميماً من أبناء باريس. وكان أبوه يشتغل بوضع التصاميم، يملك محلاً بالقرب من اللوفر، ولقن ابنه فرنسوا مبادئ الرسم والنحت، وإذ أظهر الفتى استعداداً وموهبة فقد تتلمذ على النقاش لورنت كارز ثم على الرسام فرنسوا اليمويين. وحيث اشتغل برسم المشاهد للأوبرا، فإنه اجتمع هناك بنفر من الممثلات وبنات الفرقة الموسيقية. وانغمس في مباذل عهد الوصاية، بقدر ما أتاحت له إمكاناته(15)ويروي لنا إنه وقع مرة في حب رومانتيكي مع بائعة فاكهة جميلة اسمها روزيت، وبدا له أنه قد تجسدت فيها البساطة والطهارة معاً، فاتخذ منها نموذجاً للوحة لمريم العذراء، أفرغ فيها كل ما تبقى له من تقوى طفولته وصباه. ولكنه، وهو لم يكمل بعد هذه اللوحة انزلق إلى اتصال جنسي غير شرعي، وحين حاول أن يكملها أفلت من الوحي والإلهام، كما أفلتت من روزيت. ولم يسترجع قط لحظات هذا الخيال الرقيق اللطيف(16).

وتطورت مهارته ونمت بسرعة تحت إرشاد ليمونيين. وفي هذا المرسم تعلم شيئاً من نزعة كوريجيو إلى الأشكال النسوية ذات التقاطيع الكلاسيكية والرقة الناعمة. وفي قصر لكسمبرج درس اللوحات الزيتية المتألقة على القماش التي كان روينز قد حول فيها الحياة لماري مديتشي إلى ملحمة من اللون "وعظمة الشباب". وفي 1723، وهو في سن العشرين فاز بجائزة رومه التي أهلته للإقامة الكاملة في باريس لمدة ثلاث سنوات، مع راتب قدره 300 جنيه، ثم أربع سنوات في روما. وإنا لنحصل على صورة حياة الطالب في عهد الوصاية إذا علمنا أن رفاق الفائز بهذه الجائزة حملوه على الأكتاف وطافوا به حول ميدان اللوفر.

وفي 1727 رافق كارل فانلو إلى إيطاليا. ويقول مدير الأكاديمية الملكية الفرنسية في روما وجد "للشاب الصغير المدعو بوشيه.... جحراً صغيراً في غرفة، وأسكنه فيه، وأخشى ألا يزيد حقيقة عن جحر، ولكنه على الأقل سيقيم تحت سقف(17). ولكن لم يكن لزاماً على الشاب المتواضع، كما وصفه المدير، دوماً أن ينام في هذا الجحر، لأنه وجد كثيراً من المضاجع ترحب به في روما. وإنه لمن علاءم تغير الذوق إنه لم يبد ولعاً بأعمال رافاييل أو ميكل أنجيلو، ولكنه عقد أواصر الصداقة مع تيبولو (رسام فينيسي 1696-1770).

ولما عاد إلى باريس (1731) استمر يوقد الشمعة من طرفيها (يمسك بالعصا من وسطها)، ونادراً ما كان يقنع بشيء إلا المعرفة المباشرة بنماذجه، ومع ذلك وجد فسحة من الوقت ليرسم بعض لوحات رائعة مثل "اغتصاب يوروبا" في الأساطير اليونانية (أميرة فينيقية أحبها زيوس واختطفها) وهي من بين عروضه التي لا تحصى لشكل المرأة. وخيل إليه في 1733 أنه وقع على فينوس نفسها في نموذجه جين بوزو، وعلى الرغم من انه أحس "بأن الزواج لا يلتئم معه"(18)فإنه اتخذ منها زوجة، ولم يرع عهد الزوجية إلا قليلاً. وكالت له هي بنفس الكيل. ومن المحتمل أنها جلست أمامه ليرسم لوحة "رينوو آرميد(19)" التي كسبت له العضوية الكاملة في أكاديمية الفنون الجميلة (1734). وحينذاك عهد إليه لويس الخامس عشر برسم مناظر سارة في حجرة نوم الملكة التي كانت لا تزال تتمتع بحبه، وعند إعادة افتتاح المعرض 1737 اتسعت شهرة الفنان وكثر رعاة فنه. ولم يذق بعد ذلك طعم الفاقة، ولم يعد له منافس.

وتخصص بوشيه في رسم "العاريات" وحتى زواجه لم يكن قد تريث طويلاً إلا نادراً مع امرأة واحدة ليكشف شيئاً أكثر من بشرتها. ولكنه كان قد وجد أن ذلك المظهر الخارجي ممتع بلا حدود، وبدا أنه عقد العزم على رسمه من كل الأركان والزوايا، وفي كل الأشكال والأوضاع، من الشعر الأشقر الحريري الناعم إلى الأقدام العارية التي لم تنتعل قط. وكان بوشيه هو الروكوكو قلباً وقالباً.

ولكنه كان أكثر من ذلك. وعلى الرغم من ان النقاد المتأخرين عابوا عمله من الناحية الفنية، فإنه كان بالفعل فناناً حاذقاً في التأليف واللون والخط، على أنه ف بعض الأحيان تعجل في العمل، ولم يعط الفن حقه رغبة في سرعة الحصول على الأجر، وهلل كثير من المعاصرين إعجاباً بروح التأثيرية الثورية في لوحاته وخصوبة خياله والرشاقة البسيطة في خطوطه. وقال ديدرو الذي ناصبه العداء، "لم يعرف أحد قدر ما عرف بوشيه، فن الضوء والظل(20)وكاد أي فرع من الرسم والتصوير ألا يروغ من مهارته. إن هؤلاء الذين لا يعرفون منا إلا بعض لوحاته الزيتية وقطعه المصورة على القماش ليدهشون إذ يعلمون أن "شعبية بوشيه ترجع إلى رسوماته قدر ما ترجع إلى لوحاته الزيتية(21). وكانت رسوماته مادة ثمينة طيلة حياته، وتنافس في الحصول عليها مشاهير جامعي الرسومات. وكانت تشتري لتستخدم مساند أو حوامل، وتعلق في حجرات النوم والجلوس على الجدران، وكانت من عجائب الاقتصاد-نقرة في الخد تعبر عنها نقطة أو بقعة صغيرة وبسمة يطبعها خط، وكل بريق وحفيف التنورات الحريرية ينبثق في إعجاز من قطعة من الطباشير. ومن المحقق أنه ليس من أجل الثروة وحدها، ولكن بفضل العبقرية والخيال المتفجرين فيه، يضيئان عينيه ويقودان يديه، أكب بوشيه على العمل عشر ساعات يومياً في مرسمه، تاركاً بصماته على كل شيء يلمسه تقريباً. وفضلاً عن ألف لوحة، رسم بوشيه المراوح وبيض النعام والخرف والرصائع والستائر والأثاث والمركبات ومناظر المسرح وجدران وسقوف المسارح. وقصدت كل باريس النشيطة لترى الزخرفة التي أعدها خلفية (لباليه نوفير" الأعياد الصينية" 1754. ولم يكن به ميل شديد إلى المناظر الطبيعية، لأنه كان سفير أفروديت إلهة الحب والجمال إلى اللوفر، ومع ذلك احتفظ بشخصياته البشرية في الغابات والحقول، بجوار المياه الفوارة والأطلال الظليلة وتحت السحب البيضاء في السماء الزرقاء، وشمس دافئة تغري بحرارة الدم وتطريها. وربما ظن المرء أن مشاهد الحياة اليومية لا تلائمه، ومع ذلك رسم لوحة "منظر أسرة" وأبرز-وكأنما أراد أن يحرر نفسه من عبودية الجمال-فناء المزرعة وحظيرة الماشية وبرج الحمام، وعربية اليد، والأنقاض في الفناء الخلفي، والحمير ترزح تحت أحمال من الأوعية والآنية التي تحدث قعقعة. واستكمالاً لذخيرته أصبح أعظم مصمم لرسوم النسيج في هذا القرن.

وفي 1736 دعاه أودري إلى مدينة بوفيه ليضع تصميمات للنساجين هناك حيث بدأ بأربعة عشر رسماً لمناظر قروية إيطالية(22). وقد لاقت هذه الرسوم نجاحاً كبيراً إلى حد أنها نسجت اثنتا عشرة مرة على الأقل قبل وفاته. ثم انتقل إلى موضوع أكثر نموذجية "قصة الأميرة الفاتنة"-خمس استار تعلق على الجدران، شكلتها مدام بوشيه، وهي من التحف الرائعة في فن القرن الثامن عشر. وتوج أعماله بست قطع من النسيج المزدان بالرسوم والنقش أطلق عليها "الحياة الريفية الكريمة"(23) إحداهما وهي "صائد الطير" تمثل حبيبين فاتنين من أروع ما أخرج من حرير والصوف. وشكا النقاد من أنه بسبب أودري وبوشيه أصبح النسيج المزدان بالنقوش أقرب شبهاً باللوجات الزيتية، وأنه فقد خصائصه المميزة. ولم يأبه لويس الخامس عشر بهذا كثيراً، لأنه عندما توفي أودري (1755) رقى بوشيه إلى رئيس مصانع الجوبلان.

وفي الوقت نفسه حظي الفنان المنتصر الظافر برعاية بمبادور المتقدة حماسة وغيرة. فزخرف لها قصر "المنظر الجميل" وصمم أثاثه. وللمسرح الذي سعت به إلى الترفيه والتسرية عن الملك رسم المناظر وابتكر الملابس ورسم لها عدة لوحات آية في الجمال الأخاذ والرقة يحار الناظرون إليها في الحكم عليها. وإن الاتهام بأن بوشيه لم يصل قط إلى ما وراء الجسد قد سقط الآن وأخرس، فإنه لم يهيئ لنا إن نرى كثيراً من مفاتن جسد العشيقة قدر ما هيأ لنا أن نلمس مناقب الذكاء والرقة التي حببتها إلى الملك، والاهتمام بالثقافة الذي جعل منها معبودة الفلاسفة، والذوق الفني النسوي الرفيع في الثياب الذي أضفى في كل يوم فتنة جديدة على مفاتن الجسد العانية. ويفضل هذه اللوحات ولوحة. الرحلة-لاتور "استطاعت بمبادور تذكير الملك في هدوء بالجمال الذي ولى والفتنة الأرق التي بقيت. وربما استخدمت بمبادور كذلك لوحات بوشيه الحسية الشهوانية في إرضاء رغبة الملك الجنسية القوية. ولا عجب إذن في أنها جعلت من بوشيه صديقاً أثيراً لديها، ووفرت له جناحاً في اللوفر، وتلقت عنه درساً في النقش، وبحثت معه مشروعاته في زخرفة قصورها، والارتقاء بالفنون. ورسم لها (1753) لوحتين من أعظم لوحاته الشروق والغروب"(24)وفي كلتا اللوحتين، بطبيعة الحال، كانت الأشكال البشرية تفوق الشمس بهاء وبريقاً.

وعمر بوشيه بعد بمبادور، وبعد الحرب الفاجعة مع إنجلترا وفردريك الأكبر، وظلت أحواله في ازدهار إلى سن السابعة والستين حيث وافته المنية. وتكاثر عليه التكليف بعمل اللوحات، وأصبح ثرياً، ولكن لم تقل حماسته وغيرته في العمل عن ذي قبل، وطهر ثروته بالبذل والسخاء. وكان عربيداً محسناً خيراً، لا يكل ولا يمل من الفسق والدعارة ولكنه دائماً أبدا مرح ودود، "لطيف كريم غير متحيز، ينأى بنفسه عن الأحقاد الدنيئة..... به مناعة ضد التلهف الحقير على كسب المال"(25)وكان متعجلاً في عمله إلى حد لم يبلغ معه قمة الامتياز. وأطلق لخياله عنان الحرية إلى درجة لم يلمس معها جوانب الحقيقة والواقع. وأبلغ رينولدز أنه ليس في حاجة إلى نماذج، وأنه يؤثر الرسم من الذاكرة، ولكن ذاكرته جاءت بأشكال مثالية. ولما لم يصوب له الواقع ذاكرته، فإنه بات مهملاً في رسمه مبالغاً في ألوانه. واتهمه جريم وديدرو وآخرون بأنه أخطأ فحسب الظرف واللطف جمالاً، وأنه هبط بجلال الفن إلى مجرد زخرفة سطحية ذات مظهر خداع، وبأنه افسد أخلاق العصر بإعلاء قيمة مفاتن الجسد. وعاب عليه ديدرو واستنكر ابتسامته المتكلفة وتصنعه... وشامات الجمال، واللون الأحمر على الخدود... ونساءه العابثات، ورجاله الفاسقين الشهوانيين وأولاد باخوس وسلينوس غير الشرعيين (إلها الخمر والعربدة في الأساطير اليونانية)(26)ومات بوشيه وهو يعمل في مرسمه تاركاً على الحامل لوحة لم يكملها "تزين فينوس" وكأنما يتحدى بها ديدرو. وعندما سمع ديدرو بموت الفنان أحس بالندم وقال "لقد أسأت إلى بوشيه كثيراً بكلامي عنه، وإني لأكف الآن عن الحديث عنه.(27)ولنكتف نحن بهذا القدر.

شاردان 1699 - 1779

كم اختلف عالم بوشيه عن دنيا شاردان-أي تباين بينهما في مفاهيم الجمال وفي الخلق والذكاء! كانت هنا تقريباً حرب طبقية، ثورة الطبقة المتوسطة ضد الأبيقورية المسرفة المبذرة عند رجال المال والأرستقراطية والحاشية. ولد جان مابتست سيمفون شاردان برجوازياً، وظل برجوازياً قانعاً، وصور الحياة البرجوازية في إخلاص بالغ. وكان أبوه معلم نجارة ذا مكانة عالية في نقابته، يمتلك داراً في شارع السين على الضفة اليسرى من النهر، ولما كان يظن أن أبنه جان سيخلفه في مهنته، فإنه لم يعن بتعليمه في المدرسة قدر عنايته بتدريبه على الأعمال اليدوية. وأسف شاردان على ما فاته من تعليم وعلى ضآلة ما حصل منه، ولكن هذا منعه من ارتياد مجالات الفن القديمة، فولى وجهه وفرشاته شطر الأشياء التي حوله في المصنع والبيت. وسرعان ما أحب الرسم وتلهف على التصوير، وسمح له والده بالالتحاق بمرسم بيير جاك كيز، ثم بتسجيل اسمه رساماً في البلاط الملكي.

ولم يكن الشاب سعيداً هناك، فإن النماذج التقليدية التي طلب إليه أن ينسخ عنها بدت بعيدة بشكل مخيف عن الحياة التي عرفها وألفها. وعندما طلب إليه جراح صديق لوالده أن يعد له لافتة تعلن عن مهنة الحلاق الجراح، وتبرز أدواتها، فإن جان-وربما تذكر عند ذاك شعار الرسام اتو لجرسانت-رسم لافتة ضخمة تمثل رجلاً جرح في مبارزة، يقوم على العناية به جراح ومساعده، ومن حسن التدبير أضاف إلى هذا سقاء وشرطياً وبعضاً من حرس الليل، ومركبة، وامرأة تحدق النظر من نافذتها، وحشداً من المتفرجين يحملقون من فوق الرؤوس-كل أولئك في منظر رائع عن الصخب والإيماءات والإثارة. وغضب الجراح ورأى أن يلقي باللافتة عرض الحائط، ولمنها جذبت انتباه المارة ونالت استحسانهم إلى حد كبير إلى درجة أن الجراح استبقاها على بابه، ولم نسمع بعد ذلك شيئاً عن شاردان، حتى كان عام 1728، حين حظيت بإطراء خاص، لوحته "السمكة" ولوحته "الخوان" (البوفيه)-طبق فضي فيه فاكهة-في معرض في الهواء الطلق في ميدان الدوفين. ودعاه بعض أعضاء الأكاديمية ليطلب الانضمام إلى عضويتها. ودبر أن يعرض بعض من لوحاته هناك غفلاً من اسمه، فأعلن من رأوها أنها تحف رائعة، ونسبوها إلى فلمنج، ثم اعترف شاردان بأنه صاحبها، فاستنكروا هذه الخدعة، ولكنه على أية حال فاز بعضوية الأكاديمية (1728).

وفي 1731 خطب مرجريت سنكتار التي وعده أبواها بصداق كبير، ولكن في فترة الخطوبة مني الوالدان بخسائر جسيمة وفارقا الحياة، تاركين مرجريت لا تملك شروى نقير، وتزوجها شاردان على الرغم من ذلك، وهيأ لهما أبوه مسكناً في الطابق الثالث من منزل كان قد اشتراه حديثاً على ناصية شارع دي فور وشارع البرنسيس. وهناك أقام الفنان مرسمه الذي كان أيضاً مطبخه، فقد اختار الآن بصفة نهائية أن يرسم الحياة الهادئة ومشاهد الحياة اليومية. وأصبحت الخضر والفاكهة والسمك والخبز واللحم كل الأشياء التي تبعثرت في أنحاء الغرفة، نماذج لفرشاته تارة، وصنوف قائمة طعامه تارة أخرى.

وافتتن شاردان بالأشكال والألوان المتغيرة في الأشياء العادية، ورأى فيها خصائص في لبيئة والتركيب والضوء قلما تلحظها العين الغافلة. فإن جانبي التفاحة أو خديها كانا بالنسبة له يحملان طابعاً رومانتيكياً مثل تورد وجنتي العذراء، وبريق السكين فوق مفرش المائدة الأخضر تحداه أن يمسك به في حركته السريعة، ويحاول تثبيته في فنه. وأبرز هذه الأشياء الصغيرة البسيطة في أمانة وتبصر، وبراعة فنية في اللون والمناسيب والضوء والظل، مما لم يتيسر إلا لقلة من الفنانين أن يبلغوه. وإننا لننظر إلى هذه الأشياء الطبيعية الميتة، ونحس بأنها حية وإننا لم نرها رؤية صادقة قط من قبل، وإننا لم نتحقق قط من تعقيد أشكالها وتفردها، ومن الفروق الدقيقة بين ظلال ألوانها، ولم يجد الشعر فقط في إناء من الأزهار أو عنقود من العنب، بل في مرجل قديم محطم، وفي جوزة، وفي قشرة برتقالة، وفي فتات كسرة من الخبز. ففي هذه كلها شعر دائماً كما كان الفلمنكيون والهولنديون قد عرفوا من قبل، ولكن من في فرنسا بوشيه وبمبادور خامره يوماً شعور بوجود هذا الشعر. وكان جمال هذه الأشياء بطبيعة الحال في عين الرائي أو المشاهد أو بالأحرى في نفسه. إن شعور شاردان القوي وبصيرته النافذة-وفقره-كل أولئك هو الذي جعل من مخزن حفظ الأطعمة قصيدة غنائية، ومن قائمة الطعام ملحمة شعرية.

وكل إنسان يعرف هذه القصة-أو الأسطورة؟-كيف انساق شاردان إلى رسم الأشكال البشرية. إنه سمع ذات يوم صديقه أفيد يرفض 400 جنيه أجراً لرسم لوحة لأحد الأشخاص، فعجب شاردان أشد العجب، وهو معتاد على الجور الضئيلة، لهذا الرفض. فما كان جواب أفيد إلا أن قال "هل تظن أن رسم إنسان سهل مثل رسم مرق التوابل (الصلصة).(28). وكانت سخرية لاذعة، ولكن مفيدة. إن شاردان كان قد ضيق مجال موضوعاته تضييقاً شديداً، وسرعان ما كان يمكنه أن يشبع رغبات زبائنه وعملائه في الأطباق وألوان الطعام، وعقد العزم على رسم الأشخاص، وكشف في نفسه عن عبقرية في رسم الأشخاص في رقة وتعاطف، وكان هو الذي هيأ لهذه العبقرية أن تخمد. وقبل التحدي من فوره. ورسم لوحة لصديقة أفيد نفسه، "المتفاخر"(29). وأتبعها بلوحة أحسن منها "دار لعب الورق". ولكن هنا أيضاً كان التفوق والامتياز في الملابس لا في الوجوه. وفي لوحة "الطفل والخذووف (النحلة)" خطا شاردان خطوته الثانية: اليدان بشعتان بعض الشيء، ولكن الوجه ينبئ عن عقل سليم. ووجد هذا الاعتناق الرقيق منفذاً في رسمه للبنات، كما هو الحال في التحفتين الرائعتين اللتين تضمهما مجموعة روتشيلد: "بنت تلعب تنس الريشة"، وأخرى "تتسلى بتناول غذائها".

إن شاردان لم ير في النساء الأغراء الباسم الذي أثار بوشيه، بل رأى فضائل وخصائص الزوجية والأمومة التي هي عماد الدولة، وهي التي تقودها إلى طريق الخلاص. ومع شاردان دخلت سيدات الطبقة المتوسطة مجال الفن الفرنسي، وحصلت على حقها فيه. إن هذا الفنان عرفها وأحبها في كل ما تقوم به من خدمات جليلة آسرة: إحضار الطعام من السوق، سحب الماء، تقشير السلجم، لف الصوف، العناية بالمريض، تحذير التلميذ من إهمال واجبه أو التهرب منه، أو كما أبرز شاردان في أشهر لوحاته "الخير والبركة"(30) الإمساك عن الطعام حتى تكف صغرى البنات، ويداها الصغيرتان مضمومتان، عن الصراخ والبكاء ويشيع في وجهها ابتسام الرضا، ورأى المرأة دائماً في ملابس البيت، غير متبرجة، في حركة دائبة، تخدم زوجها وأولادها من الفجر وصلاة الصباح إلى أن يأووا جميعاً في أمان إلى فراشهم ويتدثروا. وإننا لنرى من خلال لوحات شاردان باريس وهي أكثر حكمة وأكبر عقلاً من الحاشية، لا تزال متعلقة بالأخلاقيات القديمة والعقيدة الدينية التي وفرت لها عوناً روحياً. وهذا هو أعظم فن نفعاً وصحة في كل تاريخ الفن. إن هذه الصور التي يهلل لها العالم الآن لم تلق إلا رواجاً محدوداً جداً آنذاك، ولم تأت للفنان إلا بفرنكات معدودة تقيم أوده في بساطة قانعة. ولم يساوم مع عملاءه، وباع اللوحات بأي ثمن عرضوه عليه تقريباً, ولما كان يعمل في بطء وكد وجد، فإنه أنهك نفسه في فقر نسبي، على حين أن بوشيه استنفد جهده في يسر ورخاء. ولما توفيت زوجته الأولى بعد أربعة أعوام فقط من الزواج، آل مسكنه إلى حالة شديدة من الفوضى وسوء النظام. وكأنه مسكن طالب، ألح عليه أصدقائه أن يتزوج ثانية، ولو ليحظى بيد امرأة رشيقة وسيدة تعيد النظام إلى بيته. وتردد تسع سنين ثم تزوج الأرملة مرجريت بوجيه. وهو في بساطة زواج مصلحة. وجاءت له مرجريت بصداق متوسط، يشمل بيتاً تملكه (13 شارع البرنسيس)، فانتقل إليه. حيث وضعت خاتمة لفقره وعوزه، وكانت سيدة فاضلة وزوجة شديدة التدقيق. وتعلم هو أن يحبها شاكراً ممتناً.

وزيادة في معونته من الناحية المالية خصص له الملك (1752) راتباً قدره 500 جنيه، وعينته الأكاديمية (1754) أميناً للصندوق فيها، وسرعان ما عهدت إليه بترتيب اللوحات المقدمة إليها في قاعات العرض فيها، ولكنه لم يصلح لهذه المهمة مطلقاً، ولكن زوجته ساعدته فيها. وفي 1756 أقنع صديق نقاش-هو شارل نيقولا كوشان الثاني-ماريني بأن يخصص لشاردان غرفة مريحة في اللوفر. وهذا هو كوشان نفسه الذي كان تواقاً إلى إبعاد شاردان عن تكرار صور المطبخ، فحصل له على تكليف برسم ثلاث لوحات، لتوضع (فوق الباب) لقصر ماريني. فأخرج شاردان في جد واجتهاد (1765) "خصائص الفن" وخصائص الموسيقى(32) ثم حصل على تكليف آخر برسم لوحتين شبيهتين لقصر مدام دي بمبادور "المنظر الجميل". ولسوء الحظ لم يدفع المبلغ الموعود للوحات الخمس حتى عام 1771.

وفي نفس الوقت كان الفنان تتقدم سنه ويفقد مهارته. ففي 1767 نرى ديدرو الذي كان قد رحب بعمله وأثنى عليه بوصفه "روح الطبيعة والحقيقة" يقول في أسى وأسف "إن شاردان رسام ممتاز لمشاهد الحياة اليومية، ولكنه يذوي ويذبل(33)". وكانت لوحات لاتور المرسومة "بالبستل" تأخذ بمجامع الألباب في باريس. وفي غمرة المنافسة أخذ شاردان نفسه الطباشير والورق وأدهش لاتور حين أبدع لوحتين بالبستل لشخصه. وهما من أعظم الإنتاج وروعة واتقاناً وكمالاً في اللوفر. إحداهما تمثله في قلنسوة قديمة ضيقة مزدوجة العقد على رأسه، والعوينات (النظارة) في أعلى أنفه، ورباط عنق مربوط بإحكام حول عنقه. وأبرزت الأخرى نفس الزي ونفس الوجه مملوءاً بالدهشة والشخصية، بالإضافة إلى قناع يظلل عينيه اللتين يشكو فيهما ألماً. وأشهر من هاتين، لوحة البستل التي أبدعها لزوجته الثانية، وهي آنذاك في الثامنة والستين: وجه كريم جميل، أخرجه بمهارة متسمة بالحب. وتلك هي اللوحة التي يقع عليها اختيارنا لتكون تحفة شاردان ورائعته.

وكانت خاتمة مظفرة لحياة فذة شريفة كريمة. ولسنا في حاجة إلى تصوير شاردان رجلاً بريئاً من زلات البشر، فالحق أنه هو نفسه أيضاً، وقد وخزته أشواك الحياة وأساءت إليه الأحقاد، كان في مقدوره أن يقاوم بالانفجار في الغضب وفي قارص الكلام، ولكنه لما فارق الحياة في 1779، فإن أحداً في دنيا الفن الباريسي الحاسدة الحاقدة المفترية، لم يجد كلمة سوء عدائية يقولها فيه. بل إن نظام الحكم المنهار نفسه بدا أنه تحقق من ان شاردان قد كشف بأسلوب فني لم يبزه فيه أحد في زمانه، عن فرنسا، التي هي فرنسا الحقيقية التي لا تزال سليمة بارئة من السقام، تلك الدنيا المستترة، دنيا الكد الخالص والولاء للأسرة، مما يمكن أن يبقى ويعمر-ويساعد فرنسا على البقاء-بعد قرن من الفوضى والثورة. وكما قال ديدرو "كان شاردان أعظم ساحر لدينا"(33).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لاتور 1704 - 1788

إن نزعات الذوق المتقلبة لا تقدم اليوم إكليل الغار في فن الرسم الفرنسي في القرن الثامن عشر، إلى بوشيه أو إلى شاردان، بل تقدمه إلى موريس كانتان دي لاتور.

وهو أكثر الشخصيات الثلاث إمتاعاً وتشويقاً، لأنه مزج رذائله وفضائله باستهتار شيطاني، وساق العالم المرتعد بأسره إلى زاوية، وطلب كما فعل ديوجنيس، إلى ملك أن يبتعد عن طريقه. وكان نزاعاً إلى جمع المال في جشع شديد، مغروراً وقحاً متغطرساً، عدواً لدوداً وصديقاً متقلباً عميقاً مزهواً مثل رجل عجوز يخفى سني عمره أو يفاخر بها، وكان أميناً صريحاً، بخيلاً، ومحسناً مسرفاً وساذجاً أنيساً، وطنياً ملتهباً حماسة وغيرة، يحتقر الألقاب، ومن ثم رفض لقب النبالة الذي عرضه عليه الملك. ولكن هذا كله لا يتصل بالموضوع، فإنه كان أعظم رسام في عصره، وأعظم مصور بالبستل في تاريخ فرنسا.

وجلس لويس الخامس عشر يوماً إلى لاتور ليرسمه، فاستاء الملك وجرحت كبرياؤه لكثرة ما ردد الفنان من عبارات المديح والثناء على الجانب، وقال له "ظننت أنك فرنسي". فأجاب لاتور "لا يا مولاي، أنا من سانت كانتان في بيكاردي(34)" (مقاطعة في شمال فرنسا كانت يوماً جزءاً من الفلاندرز). انه ولد هناك لأب موسيقار موسر، أراد له أن يكون مهندساً، ولكن الوالد آثر أن يكون رساماً، فأنبه الوالد على ذلك، وهرب موريس وهو في الخامسة عشرة إلى باريس ثم ريمس ثم كمبراي، يرسم اللوحات هنا وهناك، وفي كمبراي دعاه أحد الدبلوماسيين الإنجليز إلى لندن ضيفاً عليه فيها. وذهب إليها موريس، وهنا جمع مالاً وقضى وقتاً سعيداً مستمعاً بالحياة، وعاد إلى باريس وتظاهر بأنه رسام إنجليزي. وكانت روزاليا كارييرا في باريس في عام 1721 وكان وجهاء القوم، ابتداء من الموصى إلى أحداث محدثي الثراء، يفتشون عن لوحاتها المرسومة بالبستل. ووجد لاتور أن مثل هذه الرسوم بالأقلام الملونة تلتئم مع مزاجه القلق، أكثر من الزيت الذي يحتاج إلى جهد وجلد. وقضى عدة سنين يحاول ويجرب ويخطئ، حتى تعلم أن يحقق وينجز بالطباشير ظلالاً ودقة في اللون والتعبير مما لم يتسن لأحد من رسامي الأشخاص في زمانه أن يباريه فيها. وعندما عرض بعض لوحاته في معرض 1737 بدأ رسامو الزيت يوجسون خفية من منافسة أقلام البستل لهم. وكانت لوحته الثلاث المرسومة بالبستل حديث معرض 1740. وكانت لوحته رئيس مدينة ريو في رداء الحاكم الأسود وعباءته الحمراء "هي التي فازت بالجائزة في معرض 1741. أما لوحته التي رسمها للسفير التركي فقد تكاثر عليها الجمهور المعجب في 1742. وسرعان ما طالبت دنيا الأناقة التي تهفو دوماً إلى كل ما هو مستحدث، بالتحول إلى طباشير، وأصبح صدام لاتور مع الملك حدثاً تاريخياً. ذلك أن الفنان بدأ بالاعتراض على الحجرة إلى اختيرت ليجلس الملك فيها أمامه ليرسمه، لأن الضوء كان ينفذ إليها من كل جانب، قائلاً "ماذا تتوقع من أن أفعل في هذه المشكلة؟" فأجاب الملك "لقد اخترت هذه الحجرة المنعزلة خصيصاً، حتى لا يعكر صفواناً أحد". فرد عليه لاتور بقوله "لم أكن يا سيدي أعلم أنك لست سيداً في دارك". وفي مناسبة أخرى عبر الفنان عن أسفه لأن فرنسا لا تملك أسطولاً ضخماً، فاعترض الملك في خبث "فما بال فرنيه الذي صور مناظر البحر يعج بالسفن(35)" ولما علم لاتور أن الدوفين أبلغ أنباء مضللة كاذبة عن مسألة معينة، ابتدره في رفق "وهكذا ترى كيف أنه من السهل على أناس أمثالكم أن يقعوا في حبائل المخادعين المختالين"(36).

وعلى الرغم من صراحته اللاذعة المزعجة، منحته الأكاديمية عضويتها الكاملة 1746-التي هي بمثابة شهادة امتياز وتفوق. ولكن في 1749، نتيجة سعي حثيث من الرسامين بالزيت، قررت الأكاديمية ألا تقبل مزيداً من رسوم البستل. وفي 1753 شكا أحد مصوري اللوحات الزيتية "من أن دي لاتور ارتقى برسم البستل إلى درجة قد تثير النفور من اللوحات الزيتية" ورد لاتور كيد الشاكي في نحره بالحوافز والروائع.

وكان له منافس في البستل، وهو جان بابتست برونو الذي كان يؤثره ليمونيين وأودري وغيرهما من الأكاديميين على دي لاتور، فطلب هذا إلى برونو أن يرسمه (لاتور شخصياً) فقبل برونو وأخرج له تحفة رائعة، وأجزل العطاء له دي لاتور الأجر، ولكنه رسم بعد ذلك نفسه في لوحة من أعظم اللوحات الذاتية المعروفة روعة وإبرازاً للشخصية والذات ودبر مع شاردان أن تعرض اللوحتان كلتاهما جنباً إلى جنب في معرض 1751. وأجمع كل الذين شاهدوهما أن اللوحة الذاتية تفضل لوحة برونو, ولا تزال اللوحة الذاتية التي رسمها لاتور لنفسه تبتسم ابتسامة النصر في متحف اللوفر.

وهناك أيضاً اللوحة التي تحدى بها بوشيه وهي لوحة البستل الوحيدة التي عرضها 1755. وأفلتت الفرصة منه تقريباً. فحين وجهت إليه الدعوة ليرسم أشهر سيدة في المملكة أجاب "أرجو أن تتفضلوا بإبلاغ مدام دي بمبادور أنني لا أخرج لأرسم". وكانت تلك طريقته في جلب الحظ والمال، مثل إيقاع الفريسة في الشرك، بالتراجع، وتوسل إليه أصدقاؤه أن يقبل، فأرسل كتاباً ينبئ بأنه سيحضر، ولكن شريطة ألا يقطع عليه أحد سير العمل. ولما وصل نزع وقاء حذائه، وخلع الحذاء، ونزع شعره المستعار عن رأسه ورقبته (ياقته) وغطى رأسه بقلنسوة حريرية، ثم بدأ يرسم. وفجأة فتح الباب ودخل الملك. فاحتج لاتور قائلاً: لقد وعدتني يا سيدي أن يظل الباب مغلقاً "فضحك الملك ورجاه أن يستأنف عمله، ولكنه رفض" يستحيل علي أن أطيع جلالكم. سأعود عندما تكون السيدة وحدها... لا أحب أن يقاطعني أحد. فانسحب الملك، وأكمل الفنان الجلسة، ومن أشهر صورتين لمدام دي بمبادور، نجد أن اللوحة التي رسمها لاتور أعمق من تلك التي أنتجها بوشيه، وأقل إشراقاً في اللون، واتقاناً في اللمسات الخيرة والتفاصيل، ولكنها أكثر نضجاً من حيث التعبير وإبراز الشخصية. ولا ريب أن لاتور رسم المركيزة، بإيحاء منها، باعتبارها راعية للفن والموسيقى والأدب والفلسفة، وعلى أريكة قريبة منها قيثارة، وفي يدها بعض صفحات موسيقية، وعلى المنضدة كرة أرضية، وحقيبة أوراق من نفش يديها، وقصة فولتير "هنرياد" وكتاب مونتسكيو "روح القوانين" والمجلد الرابع من موسوعة ديدرو.

وعندما فرغ لاتور من اللوحة طلب عليها أجراً قدره 48 ألفاً من الجنيهات. وعلى الرغم من تبذيرها وإسرافها فإنها رأت أن المبلغ المطلوب مبالغ فيه بعض الشيء، وأرسلت إليه 24 ألف جنيه ذهباً. وفكر لاتور في رد المبلغ. فسأله شاردان إذا كان يعرف ثمن اللوحات الموجودة في نوتردام، بما فيها روائع برون ولي سير، فأجاب لاتور سلياً، وقدر شاردان جملة تكاليفها بمبلغ 12 ألف جنيه. وأعاد لاتور النظر في تقديره وقبل المبلغ الذي أرسلته بمبادور (24 ألفاً). أليه، بصفة عامة كان يطالب بالجر تبعاً لثروة الجالسين أمامه، فإذا اعترضوا ردهم خائبين، وربما كان هناك بعض استثناءات لفولتير وروسو ودالمبرت، حيث أعجب بالفلاسفة من كل قلبه، وأقر صراحة بتجرده من الإيمان الديني.

وربما كانت أجوره المرتفعة سبباً في اشتداد الطلب عليه من جميع الأنحاء. وعن طريقه عرفنا الشخصيات القيادية في عصره، وأصبح قمة ف الرسم بالبستل، فأبدع لوحات جميلة رائعة للملكة ولولي العهد الصغير، والدوفين المتظاهر بالرزانة والاحتشام(38)، ولاكامارجو راقصة الباليه الأولى، وحاول أن يرسم لروسو لوحة يبدو فيها لطيفاً عاقلاً حكيماً(39)، وفي أحد أعماله البالغة الروعة رسم موريس دي ساكس القائد الوسيم المنتصر على الجيوش والسيدات(40)، وأبرز في لوحة رسمها لصديقه الرسام جان رستوت شعلة النشاط ونضارة الحياة في عينيه(41). ولبس الخز والمخرمات والشعر المستعار استعداداً لصورة ذاتية معلقة الآن في أميان. وعلى الرغم من عادته الخشنة ونزواته غير المشروعة، وحالاته النفسية المتقلبة التي لا ضابط لها، فقد كان موضع الترحيب في قصور الأرستقراطية، في ندوة مسيو دي لابوبلنيير في باسي، وفي صالون مدام جيوفرين. وكان يرتبط بأواصر الصداقة بمشاهير كتاب عصره، بل حتى الرسامين والمثالين الذين نظروا إلى نجاحه بعيون حاسدة-فانلو، شاردان، جريز، بيجال، باجو. ومنحه الملك معاشاً إضافياً ومسكناً في اللوفر. ولا بد أن الرجل كان، فوق كل شيء، محبوباً.

ولم يتزوج لاتور قط. ولكنه لم يتنقل كثيراً بين أحضان السيدات كما فعل بوشيه وكان له عشيقة، هي الآنسة فل Mlle Fel التي ساعد غناؤها على نجاح أوبرا روسو "عراف القرية". وتضايق منها جريم لأنها لم تبادله الحب، ولكنها أقبلت على لاتور من كل قلبها. وذكر هو لها بالعرفان والشكر كل ما وفرت له من أسباب الراحة والتسلية حتى إنه ظل يشرب نخبها وهو في الثمانين من عمره. وكان إخلاصها له شيء من العزاء والسلوى حين تقدمت به السن فتصلبت أصابعه وغشى بصره. ودفع ثمن الرخاء والرغد الذي نعم به وهو في ذروة مجده، بما لقي من إذلال طال أمده في سني شيخوخته واضمحلال صحته, إنه عمر بعد أن تلاشت عبقريته، وسمع النقاد يتحدثون عنها، وكأنما أدركها الفناء.

وعندما قارب الثمانين ترك مسكنه في اللوفر، ليعيش في الهواء الطلق في أوتي Auteuil. وأخيراً عاد إلى مسقط رأسه. واستقبلت سانت كانتان ابنها السخي المبذر بطلقات المدافع ودق النواقيس والهتافات الشعبية. وعمر في هذه البلدة الهادئة أربع سنوات أخرى وذبل عقله النشيط إلى مس خفيف غير مؤذ من الجنون، فأصبح يتمتم بشيء من فلسفة وحدة الوجود (الله والطبيعة شيء واحد، والكون المادي الإنسان مظاهر للذات الإلهية)، ويعبد الله والشمس معاً، ويحلم بالثورة مؤملاً في قيامها. وفارق الحياة قبل قيامها بعام واحد. وقبل أيدي خدمه وهو في النزاع الأخير.