قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 2 ف 10

من معرفة المصادر

قصة الحضارة -> عصر فولتير -> فرنسا -> نشاط الذهن -> صناعة الكلام

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل العَاشِر: نشاط الذهن

1- صناعة الكلام

الآن أصبحت اللغة الفرنسية هي اللغة الثانية لكل متعلم ومثقف في أوربا، وواسطة الاتصال والتفاهم المعترف بها في الدبلوماسية والعالمية، وكان فردريك الأكبر يستخدمها بانتظام، اللهم إلا في التحدث إلى قواته. وألف جيبون أول كتاب له باللغة الفرنسية، واتجه تفكيره لبعض الوقت إلى أن يكتب بها مؤلفه المعروف "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها". وفي 1784 أعلنت الأكاديمية الألمانية عن مسابقة ذات جائزة لمن يكتب أحسن موضوع يوضح أسباب التفوق والتبريز، ونشرت مطبوعاتها بالفرنسية. وكانت الأسباب الرئيسية لهذا التفوق هو المنزلة السياسية السامية لفرنسا في عهد لويس الرابع عشر ونشر القوات الفرنسية للغتهم في الأراضي الوطيئة وألمانيا والنمسا وأسبانيا، وعلو مكانة الأدب الفرنسي في القارة، بشكل لا نزاع فيه (وقد يكون لإنجلترا تحفظات على هذا)، وشعبية المجتمع الباريسي بوصفه مدرسة للدراسات الثقافية والنشاط الاجتماعي، تنهل منها النخبة الممتازة في أوربا، ثم الرغبة في إحلال لغة أحدث وأكثر مرونة محل اللغة اللاتينية في علاقات الأمم بعضها ببعض، وقيام الأكاديمية الفرنسية بتنقية اللغة وتقسيمها عن طريق قاموسها، ولم تصل قط لغة وطنية أخرى ما بلغته الفرنسية من دقة وتنوع، ومن قوة وسحر في العبارة، ورشاقة ووضوح في الأسلوب. وكان ثمة بعض الخسارة في هذا الانتصار: ذلك أن النثر الفرنسي ضحى بالصراحة البريئة عند مونتاني والحيوية الدافقة القاسية الصادرة عن القلب عند رابليه. وأصاب الشعر الفرنسي الوهن والضعف في سجن القواعد التي وضعها بوالو، وانزلفت الأكاديمية نفسها-حتى أيقضها ديكلوس بعد انتخابه 1746-إلى شكليات غامضة وضآلة مبعثها الجبن والحذر. وكانت حرية الفكر والكلام النسبية في عهد الوصاية الخطير قد شجعت على مضاعفة عدد المؤلفين والناشرين والمكتبات. واندس من يطبعون وينشرون ويبيعون الكتب في كل مكان، حتى على الرغم من أنه يتقدم القرن، أصبحت هذه التجارة خاسرة، وكان في باريس وحدها منهم كلهم تقريباً فقراء معدمون. وانتشرت المكتبات في كثير من المدن، وكان في بعضها حجرات للمطالعة مفتوحة للجماهير، نظير رسم دخول ضئيل (40 سو) وقل أن كان التأليف مهنة كافية لكسب القوت، ولذلك كانت تكمل عادة بعمل آخر، فكان كريبيون الأكبر كاتباً لدى موثق عقود، وكان روسو ينسخ الموسيقى. واستطاع نفر قليل من مشاهير الكتاب أن يبيعوا إنتاجهم لقاء ثمن عال. ولما أعسر موريفو بسبب انهيار نظام لو، استطاع أن يصلح ماليته ويسترد ثروته برواياته ومسرحيته "ماريان"، وقبض روسو، وهو عادة فقير، خمسة آلاف جنيه عن كتابه "اميل". وكان حق الطبع القانوني الوحيد هو الترخيص الملكي بالنشر وكان في هذا حماية للمؤلف من السطو على كتابه في فرنسا، ولكن ليس من السطو وطبعه خارجها، وكان هذا الترخيص يمنح لمن يكفل المراقبون الرسميون خلو كتابه مما يسئ إلى الكنيسة أو الدولة. وكان يمكن للأفكار الجديدة أن تتخطى هذه العقبة بإخفاء مادة الكتاب أو الهرطقة في أسلوب مقنع. فإذا لم تنجح هذه الخدعة، فقد يعمد المؤلفين إلى إرسال المخطوط إلى أمستردام أو جنيف، أو أية مدينة أجنبية أخرى، ليطبع هناك بالفرنسية ويوزع في الخارج، ويتداول سراً في فرنسا.

وأدى اتساع الطبقة الوسطى وانتشار التعليم وتجمع المفكرين في باريس إلى خلق جمهور متلهف على الكتب، ونهضت مجموعة كبيرة من المؤلفين لتلبية هذا المطلب وإشباع هذه الرغبة. وأثار ضعف الدولة في عهد لويس الخامس عشر وانهيار الإيمان الديني، المناقشات الشفوية والخطية في المسائل السياسية والفلسفية. وإذ كرهت الأرستقراطية تلك الملكية التي حدث من سلطتها، كما كرهت الكنيسة التي كانت تساند الملكية، فإنها استمعت بآذان صاغية ذات مصلحة إلى نقد الحكومة والعقيدة كلتيهما، وانضمت الطبقة المتوسطة العليا إلى الأرستقراطية في إصغائها لهذا النقد، أملاً في تغيير يحقق لها المساواة الاجتماعية مع طبقة النبلاء.

وفي هذا الجو الجديد حقق المؤلفون والكتاب مكانة قلما تيسرت لهم قبل القرن الثامن عشر أو بعده. وقوبلوا بالترحيب في الصالونات حيث تحدثوا وأيدوا آراءهم بكل ما أوتوا من فصاحة وبيان. واستقبلوا في قصور ذوي الألقاب ما داموا لم يجرحوا كبرياءهم أو يسيئوا إليهم. وكان أصحاب المال يستضيفونهم ويكرمون وفادتهم، وفي بعض الأحيان يسكنونهم في قصورهم، مثل ما فعل بوبيلنيير، وأصبحوا برغم فقرهم قوة في الدولة. قال ديكلوس في 1751 "إن إمبراطورية رجال الفكر، من بين كل الإمبراطوريات، أوسعها امتداداً، دون أن تكون مرئية. إن أصحاب السلطة يأمرون، ولكن رجال الفكر يحكمون. وعلى المدى البعيد... إن عاجلاً أو آجلاً، سيتغلب الرأي العام أي شكل من أشكال الاستبداد والحكم المطلق أو يغلبه"(1) (وفي 1751 لم يكن قد تم التوصل بعد إلى الأسلوب الذي يتحقق به تشكيل الرأي العام تشكيلاً محكماً بالمال أو عن طريق الحكومة).

وإذا رحب جمهور متزايد بالكتاب الفرنسيين، وحفزهم مئات المتنافسين اليقظين، وحررهم ضعف العقيدة، واستحثهم زهو الطباعة وخيلاؤهم، فإنهم دفعوا إلى المطبعة بسيل من الرسائل والنشرات والأبحاث والنقد اللاذع والمقالات والمذكرات، و التاريخ والقصص والمسرحيات والقصائد والأبحاث الدينية والفلسفية، والكتابات الإباحية الداعرة والأدب المكشوف، مما حطم كل أغلال الرقابة وقيودها، واكتسح كل مقاومة، وغير عقل فرنسا وعقيدتها وحكومتها بل إلى حد ما عقل العالم وعقيدته وحكوماته. ولم يحدث قط أن وجد في الأدب من قبل مثل هذا الذكاء الحاد أو المزاج الرقيق أو هذا التهريج الماجن أو هذا السخف المهلك، وتصدعت كل القواعد التقليدية في الكنيسة والدولة تحت ضغط الهجمات التي شنتها تلك الأقلام الحادة، المسمومة أحياناً، المغمورة أو المجهولة عادة.

إن الرسائل الخاصة نفسها أصبحت قناعاً شائعاً. فما من سيدة أو رجل إلا نقح رسائله وأعاد كتابتها وصقلها وتأنق فيها أملاً في أن يطالعها أكثر من شخص الذي أرسلت إليه فتتألق أمام العيون وتكون متعة لقارئيها، كذلك نجحوا أحياناً في أن تكون رسائلهم "كتابات ممتازة" أي قطعاً من الأدب. وبسبب حبهم للحديث والمناقشة فإنهم تحدثوا على الورق إلى الأصدقاء أو الأعداء الغائبين عنهم، بشكل طبيعي وكأنما يخاطبونهم وجهاً لوجه، وبكل الحماسة والحيوية اللتين تدور بهما أحاديثهم حول المائدة في الصالونات. ولم تكن تلك الرسائل تتضمن مجرد توافه الأخبار الشخصية، بل كانت في معظم الأحوال نقاشاً في السياسة والأدب والفن، وكانت في بعض الأحيان نثراً-لغة المجتمع-يزخر بالسجع الذي كثيراً ما يأتي عفو في الفرنسية، مع أكبر الأمل في إطراء القارئ لها، وهكذا كان فولتير يدخل السرور على قلوب أصدقائه بسلسلة القصائد التي يبعث بها إليهم، مما كانت تفيض به قريحتهم الوقادة وفنه الرشيق.

وآذن عصر الخطابة بزوال، لأن فرنسا القرن الثامن عشر خشيت أن يتولاها السأم والضجر حتى لو استمعت إلى بوسويه آخر (أسقف وخطيب واعظ في القرن السابع عشر). ولكن الخطابة ستعود مع قيام الثورة. وكانت كتابة "المذكرات" لا تزال سائدة، لأنها باعتبارها رسائل إلى الأعقاب والأجيال القادمة. احتفظت بشيء من سحر المكاتبات وفتنتها. وفي نهاية الحقبة، وفي 1755 وصلت إلى المطبعة مذكرات البارونة مدام دي ستال لوني قد فارقت الحياة 1750، وقد أعادت هذه المذكرات إلى الأذهان ذكريات عهد الوصاية وأمسيات دي سكو. وهنا كما يقول جريم، كانت سيدة نافست فولتير نفسه بامتيازها وبراعتها في النثر(2).


2- المسرح

تفوقت المسارح على الصالونات من حيث المكانة التي احتلتها في باريس، وما حظيت به من حب وإقبال بين الباريسيين. ويقول فولتير لمارمونتيل: "إن المسرح أعظم مهنة سحراً وفتنة، ففيه يكسب المرء بين عشية وضحاها جاهاً ومالاً، وإن رواية واحدة تأتي لصاحبها بالثروة والشهرة"(3). وكانت هناك في الأقاليم مسارح لا بأس بها، وكان ثمة تمثيل مسرحي خاص في بيوت الأغنياء، بعض المسرحيات أمام الملك والحاشية في فرساي. ولكن التحمس للروايات في باريس بلغ حد الجنون والحمى والجدل والشجار أو الابتهاج والسرور. واحتفظت "الكوميدي فرنسيز" في "المسرح الفرنسي" بأعلى الدرجات في الموضوع والأداء، ولكن الجماهير الغفيرة كانت تقصد إلى "مسرح الإيطاليين" ومسرح "الأوبراكوميك". وتألفت كل هذه المسارح، ودار الأوبرا في "الباليه رويال" من قطاعات فسيحة بها عدة صفوف من المقصورات والمقاعد للقلة التي يفوح منها شذا العطر، أما جمهور المشاهدين الأقل تبرجاً وثراء فكانوا يقفون تحت الشرفات الداخلية، (على الأرض) التي نسميها خطأ. "الأوركسترا" ولم توضع فيها مقاعد حتى جاءت الثورة. وكان نحو 150 من المتحمسين المتأنقين الذين يدفعون أجراً أكبر، ويجلسون على خشبة المسرح، يحيطون بالممثلين من ثلاثة جوانب. وقد استنكر فولتير هذه العادة، لأن هذا كان يعوق الممثلين ويفسد المنظر. "لما كانت معظم رواياتنا لا تعدو أن تكون حواراً طويلاً، فإن التمثيل المسرحي لا يكون له وجود، أو إذ وجد بداً سخيفاً(4)وتساءل كيف يتسنى لممثل مسرحي أن يمثل على مثل هذا المسرح مشهد بروتس ثم أنطوني وهما يخطبان في أهل روما بعد قتل قيصر؟ وكيف يمكن "للروح" المسكين في هملت أن يسترق النظر من خلال هذه الهياكل العظيمة المتمتعة بامتياز الجلوس على خشبة المسرح؟ إنه ليكاد يكون من المتعذر تمثيل أي من روايات شكسبير في مثل هذه الظروف(5)وكان لاعتراضات فولتير القوية، التي أيده فيها ديدرو وغيره، أثرها فما وافى عام 1759 حتى كانت خشبة المسرح في فرنسا قد أخليت من المتفرجين.

ولقي فولتير نجاحاً أقل في حملاته لتحسين الوضع الديني للممثلين. وكانت مكانتهم الاجتماعية قد تحسنت، فكانوا يترددون على دور الأرستقراطية، وفي كثير من الحيان كانوا يمثلون بناء على طلب الملك. ولكن الكنيسة استمرت في اتهامها للمسرح بأنه مدرسة للفساد والفضائح والعمال المخزية، وذهبت إلى أن كل الممثلين بطبيعة الحال محرومون من الكنيسة، وحرمت دفنهم في الأرض المخصصة للمؤمنين-وهي تشمل كل المقابر في باريس وأشار فولتير إلى هذا التناقض:

إن الممثلين يتقاضون أجوراً من الملك، في الوقت الذي تحرمهم فيه الكنيسة. ويصدر إليهم أمر الملك بالتمثيل كل مساء، بينما تحظر عليهم الديانة أن يمثلوا إطلاقاً، وإذا امتنعوا عن التمثيل زج بهم في السجن (كما حدث عندما أضرب ممثلو جلالته عن العمل) فإذا مثلوا ألقي بهم (عند موتهم) في البالوعات. إننا نبتهج ونسر بهم، ونعترض على دفنهم معنا، ونرحب بهم على موائدنا بينما نغلق أبواب مقابرنا دونهم(6).

وكانت أدريان ليكوفرير أعظم الممثلات الفرنسيات في زمانها مثلاً واضحاً لهذه المتناقضات في حياتها ومماتها. إنها ولدت في 1692 قرب ريمس وجاءت إلى باريس في العاشرة من عمرها، وأقامت قرب "المسرح الفرنسي" وكثيراً ما شقت طريقها إليه، ثم قلدت في البيت الممثلات اللاتي أعجبت بهن وهي واقفة على أرض المسرح تحت الشرفات. وفي سن الرابعة عشرة نظمت فرقة من الهواة قاموا بالتمثيل على مسارح خاصة. وأعطاها الممثل "لي جراند" دروساً، وهيأ لها مكاناً في فرقة تمثل في ستراسبورج. وقامت بالتمثيل في الأقاليم لعدة سنوات، كما فعل موليير، وانتقلت من دور إلى دور، ومن قصة غرام إلى أخرى دون ريب. وهفت نفسها إلى الحب، فلم تصادف إلا الداعرين الفجرة، وتركها اثنان منهما على التعاقب حاملاً، ورفضا الزواج منها. وفي سن الثامنة عشرة وضعت بنتاً. وفي الرابعة والعشرين وضعت بنتاً أخرى. وفي 1715 عادت إلى باريس، والتقى بها هناك فولتير الشاب، وكان لها لبعض الوقت أكثر من صديق(7). وفي 1717 أصبحت السيدة الأولى في "المسرح الفرنسي" الذي كان مأواها ومبعث إلهامها في شبابها.

ولم تكن مثل معظم الممثلات الشهيرات بارعة الجمال، بل كانت بدينة، وكانت قسمات وجهها غير متناسقة، ولكنها تميزت برقة تفوق الوصف في جلستها ووقفتها وحركتها وعاداتها، وموسيقى مغرية في صوتها، وبريق من الشرر والاحساس في عينيها السمراوين، وتعبير متحرك كريم في وجهها. وكان كل تصرف منها يعبر عن شخصيتها. ورفضت أن تتبع الأسلوب الخطابي الذي كان قد أصبح تقليداً سائداً في التمثيل في فرنسا في المسرح الطويل المستطيل الشكل في المسارح القديمة. وعقدت العزم على أن تمثل دورها وتنطلق بعباراتها على خشبة المسرح كما تتحدث في الحياة الواقعية، اللهم إلا في إخراج الحروف من مخارجها والإبانة في اللفظ، ورفع درجة الصوت، مما هو لنقل كلماتها إلى أبعد مكان يوجد فيه الجمهور. إنها في فترة عملها القصيرة حققت ثورة أو انقلاباً في فن التمثيل المسرحي. وتحقق هذا أيضاً في عمق شعورها، وقدرتها على نقل انفعالات الحب أو رقته، وكل العطف أو الرعب في أي مشهد مأساوي. وتفوقت في الفن الشاق، فن الإصغاء المعبر اليقظ حين يتكلم الآخرون.

وامتدحها الشيب، أما الشبان فقد وقعوا في غرامها. وهام بحبها الشاب شارل أوجسطين دي قريول كونت أرجنتال الذي كان مقدراً أن يصبح "ممولاً ومدعماً بنقوده" لفولتير ووكيلاً له، وجزعت والدة شارل لهذا خشية أن يعرض على أدريين الزواج فتقبل، فأقسمت الأم أن تبعث بولدها إلى المستعمرات، وعندما سمعت الممثلة بهذا أرسلت إلى مدام دي قريول (22 مارس 1721) وتؤكد لها أنها لن تشجع الشاب على الاتصال بها أو تبادل الرسائل معها: "سأكتب إليه بأي شيء يرضيك. ولن أراه بعد الآن إذا كنت ترغبين في ذلك. ولكن لا تهدديه بإرساله إلى أقصى الأرض. وسيعمل كل ما يبعث في قلبك الرضا والارتياح، ويضفي عليك الشهرة والمجد، وما عليك إلا أن توجهي مواهبه وقدراته وتنمي فضائله لتؤتى ثمارها(8).

وكانت آدريين على حق، فإن دارجنتال فاز بعضوية برلمان باريس، وفي سن الخامسة والثمانين، حين كان يقلب النظر في الأوراق التي تركتها والدته، عثر على هذه الرسالة التي لم يكن يعرف عنها شيئاً من قبل.

واستمتعت آدريين بدورها بنشوة الحب كما عانت من الهجران والصدود. وكان الأمير الشاب موريس السكسوني كثيراً ما يتردد على المسرح الذي تعمل فيه، ولم يكن بعد قد انفتحت أوداجه زهواً بانتصاراته، ولكنه كان وسيماً عاطفياً خيالياً حتى أنه عندما أقسم على الإخلاص والولاء لها مدى حياته ظنته فارس أحلامها الذي طال انتظارها له، وإذا وصل الأمر بالرجال إلى وعد بالإخلاص مدى الحياة، فإنهم يحيون ويموتون عدة مرات مثل القطط (بسبع أرواح). ورضيت به عشيقاً (1721)، وعاشا لفترة من الزمن يرشقان كؤوس المحبة والإخلاص إلى حد أن باريس قارنتهما بقمريات لافونتين الحبيبات. ولكن الجندي الشاب الذي أصبح لتوه "قائد معسكر" راوده الحلم بأن يكون ملكاً، وقد رأيناه يسارع إلى كورلند (جزء من تلقيا الحالية) طمعاً في الحصول على التاج فيها، وكان نصف الأموال التي حملها معه من مدخرات آدريين.

فتسلت عن فراقه بتأسيس "صالون" في بيتها. ولم يكن غير ذي عائد فكري لها إنها كانت قد تعلمت رشاقة راسين وأفكار موليير، حتى أصبحت من خيرة سيدات فرنسا ثقافة وعلماً، ولم يكن أصدقاؤها من المعجبين العابرين، ولكنهم رجال ونساء أحبوا عقلها. فقصد فونتيل وفولتير ودارجنتال والكونت دي كايلوس بانتظام إلى دارها لتناول العشاء، ووجد بعض السيدات الأنيقات من ذوات الألقاب والأحساب متعة في الانضمام إلى هذه الجماعة المتألقة.

وفي 1728 عاد الجندي الذي لم يواته الحظ ولم يتحقق أمله إلى باريس.

وكان البعاد قد خفف من لوعة حبه. وتبين أن آدريين كانت تكبره آنذاك بأربعة أعوام حيث كانت في السادسة والثلاثين وعرض كثير من السيدات الثريات أن يشاركنه مضجعه، وكان الدم الملكي يجري في عروق إحداهن مثله تقريباً، وهي لويز دي لورين دوقة بويون حفيدة بطل بولندة النبيل جان سوبيسكي، وكانت تختال في جرأة أمام موريس في مقصورتها في المسرح الفرنسي، إلى حد أن آدريين ولت وجهها شطر هذه المقصورة، حين كانت تلقي في شيء من التوكيد بعض أبيات غاضبة من رواية راسين "Phedre" "لست واحدة من هؤلاء السيدات الوقحات اللائي تعلمن، وهن يلقين ظلالاً من الجريمة على مظهر الوئام الهادئ الوادع، إن يكن صفيقات إلى حد لا يستشعرن معه الخجل من سوء تصرفهن"(9). وفي يولية 1729 أبلغ سيمون بوريه، القسيس رسام المنمنمات الآنسة ليكفرير أن رسولين مقنعين من إحدى سيدات البلاط عرضا عليه أن يعطي الممثلة بعض أقراص السم لقاء 6600 جنيه إذا قام بالمهمة. فأخطرت آدريين الشرطة بذلك. فقبضوا على القسيس وأجروا معه تحقيقاً دقيقاً. ولكنه صمم على أقواله. وكتبت آدريين إلى مدير الشرطة رسالة رائعة تطلب منه إطلاق سراح القسيس: "إني تحدثت إليه، وجعلته يتحدث إليّ كثيراً لوقت طويل، وأجاب دائماً إجابات محكمة ذكية، ليس لأني أرغب في أن يكون ما قال صحيحاً. فإن لدي مزيداً من الأسباب التي تحملني على أن أتمنى أن يكون مخبولاً. آه: أليس إلى الله وحده أتوسل ان يغفر له؟ ولكن إذا كان بريئاً فأرجو أن نفكر يا سيدي إلى أي حد يجدر بي أن أهتم بمصيره. لا تلق بالاً إلى مهنتي أو مولدي وأصلي، ولكن حاول متفضلاً أن تستشف حقيقة نفسي التي بين جنبي، وكم هي صادقة مخلصة، وقد كشفت لك عن سريرتها. بجلاء ووضوح في كتابي هذا(10).

وأصر الدوق دي بويون على أية حال، على احتجاز القسيس، ثم أفرج عنه بعد بضعة شهور، وظل مصراً على أقواله. ولسنا ندري حتى يومنا هذا مبلغ صدق روايته.

وفي فبراير 1730 بدأت الآنسة ليكوفريير تعاني من إسهال يزداد سوء يوماً بعد يوم. وظلت تمثل أدوارها على المسرح، ولكن في أوائل مارس حملوها من المسرح مغمى عليها. وفي 15 مارس مثلت، وهي تلتقط آخر أنفاسها "جوكاست" في رواية فولتير "أوديت" وفي يوم 17 مارس لزمت الفراش، وصارت تنزف نزيفاً مميتاً من أمعائها، ولم يعد الماريشال يزورها، ولكن فولتير ودارجنتال فقط هما اللذان سهرا على العناية بها في هذه الخاتمة الفاجعة المذلة، وفاضت روحها في 20 مارس بين ذراعي فولتير.

وحيث كانت آدريين قد رفضت الشعائر الأخيرة للكنيسة(11). فإن القانون الكنسي حرم دفنها في الأرض المخصصة للمؤمنين، واستأجر أحد الأصدقاء اثنين من حملة المشاعل ليحملا جثمانها في عربة أجرة لدفنه سراً على ضفاف السين، فيما أصبح فيما بعد شارع بورجون. (في نفس العام 1730 دفنت الممثلة الإنجليزية آن أولدفيلد باحتفال عام في كنيسة وستمنستر.) وفي 1730 نظم فولتير قصيدة (موت الآنسة ليكوفرير يستنكر فيها المعاملة المهينة في دفنها بهذه الطريقة: "تأثرت كل القلوب، مثل قلبي، بالأسى والفجيعة. وإني لأسمع كل الفنون الذاهلة تولول من حولي، وهي تذرف الدمع. أن ملبومين (ربة المأساة) قضت نحبها، ماذا عساكم تقولون أيها الأعقاب رجال الغد إذا علمتم بهذا الأذى الأليم المدمر الذي ألحقه أناس قساة بلا قلوب بهذه البائسة التي تخلى عنها أصدقاؤها؟ لقد حرموا من الدفن من إذا كانت في اليونان القديمة لأقاموا لها مذبحاً في الهيكل. لقد رأيتم يقدسونها ويزدحمون حولها. إنها لا تكاد تموت متى تصبح محرمة، لقد سحرت ألباب العالم، ثم ها أنتم تعاقبونها، كلا، لن تكون هذه الضفاف بعد الآن دنسة، إنها تضم رفاتك، وستكون هذه المقبرة الحزينة معبداً جديدا لنا، نمجده في ترانيمنا، وتضفي عليه ظلالك قدسية".

وكان أعظم كاتب مسرحي في ذاك العصر، بطبيعة الحال، فولتير. وكان له منافسون كثيرون، من بينهم بروسبو جولتون دي كربيون، وهو معمر عجوز كان ينبغي له أن يفارق الحياة منذ أمد طويل. وكان كربيون قد أنتج فيما بين عامي 1705 و1711 روايات ناجحة ثم اقتنع بالفشل المحتوم لروايته "اجزرسيس" 1714، وهنا كانت نهايته، وكان قد انقطع عن التأليف، وبات يعاني الفقر، ويجد بعض السلوى في مسكن على السطح مع مجموعة لطيفة من عشر كلاب وخمسة عشر قطاً وبعض الغرابيب السود. وفي 1745 أنقذته مدام دي بمبادور بمعاش ووظيفة عاطلة (يقبض راتباً ولا يؤدي عملاً)، واتخذت التدابير الطبع مجموعة أعماله في مطبعة الحكومة. وقصد إلى فرساي ليقدم لها الشكر. ولما كانت هي مريضة، فقد استقبلته وهي ملازمة الفراش، فلما انحنى ليقبل يدها دخل لويس الخامس عشر، فصاح ابن السبعين "مولاتي، لقد وقعت الكارثة، إن الملك فاجأنا معاً"(12). وسر الملك بومضة الذكاء وسرعة البديهة وانضم إلى بمبادور في حثه على إكمال روايته "كاتيلين وكان قد أهملها وشهدتها مدام بمبادور والحاشية، ونال العرض الأول الاستحسان (1748). واهتز كربيون طرباً من جديد لما أصاب من شهرة ومال. وفي 1745 وهو في الثمانين أخرج آخر رواياته. وعمر بعد ذلك ثمان سنين، سعيداً بحيواناته.

ولم يطب فولتير نفساً بظهور منافس له من بين القبور، ولكن كان عليه أيضاً أن يواجه في الملهاة منافسه ماريفو المتعدد الجوانب الشديد الانفعال إن بيير كارل دي شمبلين دي ماريفو أصبح هجاءً حين رأى بمحض الصدفة، حبيبته ذات السبعة عشر ربيعاً تطبق عملياً مفاتنها المغرية أمام المرآة. ودق قلبه مؤقتاً فقط، لأن والده كان المدير الثري لدار سك النقود في ريوم، وكم من شابه أو غادة تاقت نفسها لتكون زوجة بيير. وتزوج من أجل الحب، وأدهش باريس حين عاش حياة جنسية طابعها الرصانة والاعتدال. وانضم إلى صالون مدام دي تنسان، وربما تعلم فيه الدعابة المرحة، والعبارة الرشيقة الإحساس الرقيق، وانتقل كل أولئك إلى رواياته، وتميزت به مسرحياته.

وأول نجاح أصابه ماريفو هو رواية "آرليكان يصقله الحب" التي عرضت لمدة أثنتا عشرة ليلة متوالية على "مسرح الإيطاليين" 1720. وبقدر ما كان يحصل عليه من أجور، فقد معظم أمواله عند انهيار بنك لو. ويروي إنه استرد ثروته بقلمه(13)، حيث كتب سلسلة من رواياته الملهاة (الكوميديا) أمتعت باريس بمرحها اللطيف وحبكتها البارعة، وأشهرها "لعبة الحب والحظ". وقد هاجمت اعتزام زوجين (أربعة أشخاص، رجلان وامرأتان) اعتزاماً متزامناً، ولكن غير متفق عليه، أن يختبرا إخلاص الخطيب الذي لم تقع عليه العين بعد، عن طريق تبادل الزي والشكل بين سيد وخادم وسيدة وخادمة، في سلسلة من المصادفات السخيفة المضحكة، مثل منديل ديزدمونة (في رواية عطيل). وسر نساء باريس أكثر مما سر رجالها بالمآزق التي يتورط فيها الحب في هذه الرواية وبما فيها من عاطفة رقيقة. وهنا أيضاً كما هو الحال في قصر فرساي، وفي الصالونات، وعند واتو وبوشيه، تحكمت المرأة، وكان لها القول الفصل، وحل تحليل المشاعر محل مشاكل السياسة وبطولات الحرب، وتخلت الملهاة الرجولية عند مولبير عن مكانها أمام الملهاة الأنثوية التي سيطرت على المسرح الفرنسي (معترضة الطريق) إلى أيام سكرايب وديماس الابن وساردو.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- القصة الفرنسية

إن ماريفو هذا هو نفسه الذي أضفى على القصة في فرنسا شكلاً جديداً. وفي 1731 أصدر الجزء الأول من "حياة ماريان". وتقبلها القراء قبولاً حسناً. واستمر يقدم أجزاء أخرى عام 1741، حتى بلغت أحد عشر جزءاً، ولم يكملها (ولو أنه عمر حتى عام 1763)، لأن هدفه لم يكن أن يقص حكاية بقدر ما كان أن يحلل شخصية، وبالذات شخصية المرأة، وبصفة خاصة في الحب. ولم يكن ثمة شيء رائع أخاذ أكثر من المشهد الافتتاحي، عصابة من اللصوص تسطو على مركبة للبريد والمسافرين، وتقتل كل من فيها، باستثناء ماريان التي عاشت لتقص القصة في شيخوختها.

وتحتفظ البطلة والمفروض أنها مؤلفة القصة، بعدم ذكر اسمها، وهذا عمل كيدي، إلى النهاية. وتحمل المخطوطة إلى صديق لها مع تحذيره "لا تنس أنك وعدتني ألا تبوح باسمي أبداً" أنا أود ألا يعرفني أحد إلا أنت"(14).

ولما كان أبوها من بين الضحايا، فقد تولى تربيتها رجل برجوازي محسن كريم، حتى أصبحت بائعة في محل لبيع ملابس النساء. وازدادت فتنة وجمالاً إلى حد أثار مسيو دي كليمال. وصار يقدم لها هدايا صغيرة ثم هدايا ثمينة، وأخيراً طلب يدها جزاء ما قدم. ولكنها رفضته، وأعادت إليه هداياه بعد ترددات يصفها ماريفو في ذكاء لطيف. وكان جديراً بنا أن نقول إنها في نفس الوقت كانت قد التقت بابن أخي كليمال، وهو مسيو دي فالفيل، الذي كان أقل من عمه مالاً وأصغر منه سناً. ومهما يكن من أمر فإن فالفيل يترك ماريان معلقة، لما يقرب من ألف صفحة، وينصرف إلى سيدة أخرى. وهنا ختام قصة ماريفو.

تلك هي القصة النفيسة في فرنسا القرن الثامن عشر، التي لم تنافسها إلا قصة "اتصالات خطيرة" التي كتبها كودرلوس دي لاكلوس (1782). إنها أعادت إلى الأذهان قصة مدام دي لاقاييت "الأميرة دي كليف (1678)، ولو إنها تكاد لا تعادلها في رقة الشعور وجمال الأسلوب، ولكن بزتها في تحليل الدافع والعاطفة، وهنا نجد امرأة، مثل باميلا عند ريتشاردسن، تحتفظ بشرفها لأهميته في سوق الزواج، إنها تدرك أنه ليس لدى المرأة إلا قيمة هزلية فانية، لتقدمها تأييداً لأحادية الزواج للرجل الذي يتجه إلى تعدد الزوجات. وتلك صورة أكثر تهذيباً من الصورة التي أخرجها ريتشاردسن، الذي بدأ قصة باميلا بعد تسع سنين من ماريان وربما تأثر بها. وفي مقابل ذلك نجد أن قصة ريتشاردسن "كلاريسا (1747)" ساعدت روسو في "هلواز الجديدة".

وعكس ماريفو خلق الطبقة المتوسطة القوي الحذر، على حين أولع كربيون الابن بفسق الأرستقراطية وفجورها الطائش. وكانوا يطلقون عليه "كربيون المرح" تمييزاً له عن أبيه "كربيون المكتئب" (الذي قال عن ابنه إنه أسوأ إنتاجه الكبير). نشأ كلود بروسبر جوليو دي كربيون في باريس في عصر الوصاية الذي رجحت أخلاقه التعليم الجزويتي الذي تلقاه كلود، ولعدة سنين شارك أباه سكنه فوق السطح وغربانه وكلابه وقططه. وفي 1734 وهو في سن السابعة والعشرين اشتهرت قصته "المنزلق على السطح". ومن الجائز أن يكون هذا لقب كل أبطاله وعنوان كل كتبه، لأن الحب فيها-كما قال شامفورت-هو مجرد "ملامسة سطحين"(15). ووقعت أحداث القصة في اليابان، ولكنها كانت نقداً لاذعاً أو هجاءً صريحاً للكنيسة والدولة في فرنسا، وللدوقة دي مين الصغيرة (الفتاة الجميلة)، إلى حد أن الكاردينال فليري أبعد الكاتب-كلود كربيون-عن باريس لمدة خمس سنوات.

ولما عاد المؤلف أصدر في 1740 أسوأ رواياته سمعة "الأريكة"، وقد أبعد من أجلها ولكن لمدة أقصر. ووقعت الأحداث في "أجرا" ولكن الأخلاقيات كانت باريسية. إن السلطان تولاه الضجر والسأم، ويريد قصصاً يسري عنه. ويتفضل رجل الحاشية الشاب أمانزي، فيرى كيف أنه تجسد فيما مضى من الزمان على هيئة أريكة، ويعود بذاكرته إلى بعض الخطايا التي ابتلى بها زنيرك الأريكة. وتعاقبت أحداث الزنى في تفصيل متزايد. ووجد كربيون متعة بالغة في قصته (Almohid and Mochles) وهما بعد أن أطنيا في التفاخر بعفتهما وطهارتهما، يعترفان بأن أفكارهما غير عفيفة مثل سلوك سائر البشر، ويخلصان إلى أنه لا يمكن أن يكون في الفعل إثم أكبر منه في التفكير، ومن ثم فانهما يوائمان بين الفعل والقول. وتلك، على أية حال، استثنائية. فان نساء كربيون يتطلبون عادة جزاء (عملاً) مالياً عن أقوالهن، ومن ثم أحصت "أميناً" بعناية ما حصلت عليه من مال، ولم تستجب لرغبة حبيبتها إلا بعد أن تأكدت كل التأكد إنه لم يخطئ في العملية الحسابية.(11)

ولقي الكاتب ما كان مقدراً له من نجاح. ووجد قراء في عدة لغات أسرفت كلها في تصرفات شاذة. واعترف لورنس ستيرن بأنه تأثر بقصص كربيون. وفضلها هوراس وولبول على قصص فليدنج. وكان مفهوم الرجل الفاضل العفيف توماس جراي عن الجنة والنعيم "أن يقرأ إلى الأبد قصصاً جديدة من تأليف ماتريفو وكربيون"(17). وجاءت من إنجلترا على عجل السيدة هنريتا ستافورد، وأصبحت خليلة كربيون، وأم ولده، ثم زوجته ويروون أنه جعل من نفسه زوجاً مثالياً لها(18). وفي 1752 انضم إلى الكسيس بيرون زشارل كوللي في تأسيس "الكاف-الكهف، وهو ناد للموهوبين المرحين الذين اشتهروا بالبعد في الوقار والمزاح. وفي 1759 عين "بدليل الخلف" رقيباً ملكياً على الأدب. ولما توفي والده في 1762، بعد أن أبطأ به الموت إلى حد مثير، ورث ابنه معاشه. "والأمور بخواتيمها".

وفقدت كتب كربيون شعبيتها قبل وفاته بزمن طويل. ولكن في الوقت نفسه كان أحد رجال الدين العلماء المثقفين قد كتب قصة لا تزال حية مؤثرة إلى يومنا هذا. وكانت حياة أنطوان فرنسوا بريفوست دي أجزيل، المعروف باسم الراهب بريفوست، متعددة الألوان مرهقة مثل سير الحياة التي أبدعها قلمه. إنه ولد في أرتوا في 1697، وتعلم في مدارس اليسوعيين، ثم أصبح راهباً مبتدئاً في طائفة اليسوعيين (1713)، وتركهم ليلتحق بالجيش، وارتقى إلى رتبة ضابط، ووقع في شراك الحب، وخاب فيه أمله وتحطم قلبه، وأصبح راهباً بندكتياً (1719)، ثم قسيساً 1726، وقد بعث على الدهشة والعجب أن نقول إنه منذ ذلك الوقت اعتمد في حياته كل الاعتماد على قلمه.

وكان بريفوست، حتى قبل أن يهجر حياة الدير، قد كتب قصة رومانسية "مذكرات ومغامرات رجل ذي حيثية"، نشرت الأجزاء الأربعة الأولى منها 1728 في باريس، وبعد عام قضاه في إنجلترا قصد إلى هولندة، وفي 1730 بدأ ينشر قصة ثانية "الفيلسوف الإنجليزي، أو تاريخ مستر كليفلند، الابن الطبيعي لكروامول "وهي من أوائل القصص التاريخية، وكتبها في ثمانية مجلدات في السنوات التسع التالية. وفي 1731 نشر المجلدات الخامس والسادس والسابع من "المذكرات" سالفة الذكر ونشر المجلد السابع على حدة في باريس 1731 تحت اسم "مغامرات الفارس دي جرييه ودي مانون ليسكو" (تأليف مسيود). وحظرت الحكومة الفرنسية تداوله، ومن ثم أقبل عليه الناس إقبالاً شديداً متزايداً. ويقال "إنه في باريس لقي رواجاً كبيراً، وتهافت الناس عليه كما يندفعون إلى النار"(19)

وقصة مأنون موضوعة في قالب قبيح غير مصقول من التظاهر والإدعاء، فثمة اثنتا عشرة بغياً في مركبة في طريقهن إلى ميناء الهافر لترحيلهن إلى أمريكا. والمركيز-الرجل ذو الحيثية المجهول، والمفروض أنه يدون المجلدات السبع من المذكرات، يأسر قلبه جمال إحدى الفتيات التي وصف وجهها فيما بعد "بأنه يمكن أن يعيد العالم إلى الوثنية"(20). ويرى كذلك فارس دي جرييه البائس الوحيد الذوق يحدق النظر باكياً في خليلته السابقة، مانون، ويستبد به الحزن والأسى لأنه مفلس ولا يستطيع أن يتبعها إلى منفاها، وتتحرك مشاعر المركيز ويتأثر تأثراً مزدوجاً فيعطي دي جرييه أربعة جنيهات ذهباً؛ مكنت الفارس من مصاحبة مانون إلى لويزيلنا. ويراه المركيز في كاليه بعد ذلك بعامين، ويأخذه إلى داره. أما بقية المجلد الصغير فهي رواية دي جرييه لقصة حبه.

وكان شاباً نموذجياً كريم المحتد، مبرزاً في كل شيء في الكلية في اميان، وكان في عزم أبويه أن يلحقاه بطائفة الفرسان في مالطة. وفي غمرة آمالهم العريضة "جعلاني أضع الصليب"(21). ولكن مانون مرت أمامي ودخلت حياتي، وتغير كل شيء. وكانت آنذاك في الخامسة عشرة وهو في السابعة عشرة، "ولم تكن قد تنبهت بعد إلى الفرق بين الجنسين". وعجل وهو هذا التطور المكبوت على الفرار. وتبلغه مانون أنها أرسلت إلى اميان ضد رغبتها لتندمج في سلك الراهبات، فيعرض عليها أن يخلصها من هذا، ويهربان إلى باريس، وبدا أن إعجابهما المتبادل كان عقداً وميثاقاً كافياً"، وتحللنا من مراسم الكنيسة، ووجدنا أننا أصبحنا رجلاً وزوجة، دون أن نفكر في هذا أو نتنبه له، ويكشف أخوه أمره ويقبض عليه ويعيده إلى والده الذي يخبره بأن مانون أصبحت بالفعل خليلة للسيد "ب" أحد رجال المصارف. ويرى دي جرييه أن يذهب ليقتل السيد "ب" فيحبس الوالد ابنه، ويأتي أحد الأصدقاء تيبرج، ويؤكد الزعم بأن مانون خليلة السيد "ب" ويحث دي جورييه على الانتظام في سلك الكهنوت، ويلتحق الشاب بمعهد سان سلبيس اللاهوتي، ويصبح راهباً. "وظننت أني تطهرت تماماً من دنس الحب، ويذهب بعد عامين لحضور امتحان عام ومناظرة في السوربون، فيفاجأ بمانون بين الحاضرين، وتشق عي طريقها إليه، وتعترف بخيانتها، ولكنها تقسم إنها لم تقترف الخطيئة مع السيد "ب" إلا لتوفر المال لدي جرييه. ويهربان من جديد.

ويتخذ الحبيبان مسكناً في ضاحية شبو، ويعيشان حياة باذخة على مبلغ الستين ألف فرنك الذي حصلت عليه مانون من السيد "ب". ويأمل دي جرييه بعد فصله من سلك الرهبنة وعودته إلى الفروسية، أن يحصل من أبيه على الصفح والمال أو أن يرث مال أبيه بعد موته. ويسطو عليهما أحد اللصوص فيسلبهما مالهما. ويجدان أنهما أصبحا معدمين بين عشية وضحاها. وأدركت آنذاك أن الإنسان قد يحب المال دون أن يكون بخيلاً.. لقد عرفت مانون.... ومهما كانت مخلصة وفية مغرمة بي في وقت الرخاء، فلا يمكن الاعتماد عليها في وقت الشدة. إنها اهتمت كثيراً بالمتعة والثروة لتضحي بهما من أجلي"(22). وهو يحبها أكثر من حبه للشرف. ويسمح لاخوتها أن يعلموه الغش في لعب الورق فيكسب بعض المال، ولكنه يتعرض للسرقة مرة أخرى. وتهجره مانون إلى رجل فاجر عجوز ثري، وتركت له رسالة تقول فيها "إني أعمل لأجعل فارس غنياً سعيداً". وينضم إليها في مؤامرة لابتزاز المال من هذا الرجل العجوز، وينجحان ويختفيان ثم يقبض عليها، وتوضع هي في الملجأ العام باعتبارها بغياً، ويرسل هو إلى الدير. ولكنه يهرب منه بإطلاق النار على حارس البوابة: ويقترض نقوداً ويرشو القائمين على الأمر في الملجأ ليسهلوا لمانون سبيل الهرب، وتقطع على نفسها عهداً بحبه إلى الأبد.

ولما نفد رصيدهما من المال، أجازت لوريث غني أن يتخذها خليلة، ويقبض عليها ثانية، ويقنع والد جرييه السلطات الرسمية بترحيلهما ويحاول دي جرييه إنقاذهما في الطريق، فلما عجز عن ذلك أبحر معها إلى نيو أورليانز، وهناك تعلمت أن تحتمل مرارة الفقر، وأن تكون مخلصة كل الإخلاص لدي جرييه، ويعودان إلى ممارسة الشعائر الدينية، ولكن ابن حاكم المستعمرة يهيم بحبها. ولما كان مانون ودي جرييه قد أهملا أن يعقدا عقداً شرعياً بالزواج، فإن الحاكم مارس حقه في أن يزوجها من أي فرد في المستعمرة، ومن ثم أمرها أن تقبل ابنه زوجاً لها. وأردى دي جرييه لابن قتيلاً في مبارزة، ويهرب الحبيبان إلى الفيافي والقفار سيراً على الأقدام. وبعد مسيرة عدة أميال مرهقة، تسقط مغشياً عليها وتفارق الحياة، "وقضيت يومين وليلتين لا تفارق شفتاي وجه عزيزتي مانون ويديها". وحفر بيديه جدثاً لها ويواريها التراب، ويرقد على القبر ليقضي نحبه هو الآخر. ولكن صديقه الطيب تيبرج، الذي قدم في نفس الوقت من فرنسا، يعثر عليه، ويصحبه ثانية إلى كاليه، إلى المركيز ليروي حكايته.

وأصبحت "مانون ليسكو" معيناً لا ينضب لقصص حب مبللة بالدموع. فإن أية امرأة، ولو لم تكن "محطمة القلب" تذرف الدمع على موت مانون وحزن دي جرييه، مغتفرة لها حيلها المالية، وله جرائمه الخسيسة. وضرب بريفوست على نغمة جديدة حين نسب إلى بطله وبطلته أخطاءً كثيرة إلى هذا الحد، وجعلها أخطاء حقيقية، حين كشف عن حب مانون الطاغي للذة والمتعة، وقدرة حبيبها على التطفل والغش والسرقة والقتل. وهي طراز عتيق للبطلة، وهو بالتأكيد مثال جديد للبطل. وربما بلغ الكتاب قدراً أكبر من القوة لو أن دي جرييه ترك ليموت على قبر مانون.

وربما روى بريفوست القصة بمثل هذا الإحساس والعاطفة لأنه هو نفسه كان لديه الحماسة والغيرة اللتان تجلتا في دي جرييه. ومن ثم كانت القصة سيرة حياته قبل أن تكون حادثاً. ولم يكن تافهاً متطفلاً، ترجم إلى الفرنسية روايات ريتشاردسن الثلاث الضخمة، وزادت تلك الترجمات من تهافت فرنسا على ريتشاردسن، وهو تهافت كان له مظهر مختلف عند روسو وديدرو. وترجم كتاب مدلتون "حياة شيشرون"، وكتاب هيوم "تاريخ إنجلترا"، وكتب عدة قصص أقل شأناً، وعدة مجلدات عن "التاريخ العام للرحلات". وفي أمستردام في 1733، وقع في غرام عشيقة رجل آخر. ولما نمى إليه أن البندكتيين استصدروا أمراً بسجنه، هرب إلى إنجلترا مصطحباً هذه السيدة معه. وفي لندن كسب عيشه بإعطاء دروس خاصة. وفي 15 ديسمبر قبض عليه بتهمة قدمها ضده أحد تلاميذه بأنه زيف ورق نقدية من ذات الخمسين جنيهاً-وهي جريمة عقوبتها القانونية الإعدام. وسرعان ما أطلق سراحه لأسباب مجهولة. وعاد إلى فرنسا (1734) وانضم من جديد إلى طائفة البندكت. وفي 1753 عين في دير سان جورج-دي جين.

وأدى موته بعد عشر سنين من ذلك إلى أسطورة ترويها حفيدته بيف لسانت بيف وكأنهما حقيقة، تلك هي أنه أصيب بالسكتة أثناء سيره في غابات شانتيللي، وأن طبيباً ظن أنه مات فقام بتشريحه ليقف على سبب الوفاة، وأن بريفوست كان لا يزال حياً، ولكن فحص الجثة هو الذي أودى بحياته(23). هذه القصة مرفوضة اليوم بصفة عامة(24).

وكان تأثير بريفوست كبيراً. إنه أسهم في تشكيل رواية روسو "هلواز الجديدة"، وحرك ديدرو الحاد الذهن الرقيق القلب ليكتب مسرحيات باكية عاطفية. كما اتخذ هذا التأثير مثالياً في قصة "بول وفرجيني" للكاتب برناردين دي سانت بيير. وبرز التأثير من جديد في "غادة الكاميليا" لديماس الابن. ولعبت دوراً في الحركة الرومانسية، إلى أن قدم فلوبرت "مدام بوفاري" (1857). ولا تزال مانون تحيا وتموت في الأوبرا.

4- حكماء أقل شأناً

ونعود إلى الكلام عن راهب آخر، وينبغي علينا في هذه المرة أن نوفيه حقه. فقد رأينا كيف أن شارل ايريني كاستل راهب سان بيير، روع الدبلوماسيين في أوترخت بكتابه "مذكرة في حفظ السلام على الدوام". (1712). وهي التي أسرت لب روسو وكان كلاهما كما رأينا، بعرض على نادي "أنترسول" خليطاً من أفكار وإصلاحات تقدمية إلى حد أن الكاردينال فليري أحس بأنه مضطر إلى إغلاق النادي إنقاذاً للدولة (1731). فماذا كانت هذه الأفكار؟

إن شارل هذا، على غرار كثير من الثائرين المتمردين، قد اكتسب ذهنه حدة ومضاء بفضل التعليم اليسوعي. إنه لم يطل به الوقت ليطرح العقيدة السائدة جانباً، وعلى الرغم من إنه ظل يعلن اعتناقه الكثلكة، فإنه ألحق بها أذى ماكراً في "مقالة ضد الإسلام"، حيث أن ما أورد فيها من حجج-مثل فولتير في كتابه "محمد"-يمكن تطبيقه بسهولة على المسيحية التقليدية. وواضح أن "تفسيره المادي" للمعجزات المزعومة التي قال بها البروتستانت والمنشقون والمسلمون" قصد به المثل التشكك في المعجزات الكاثوليكية. وفي 1717 ثم في 1729 أعاد نشر "مشروع السلام الدائم" بعد التوسع فيه. وناشد ملوك أوربا، ومن بينهم سلطان تركيا، أن يعقدوا ميثاقاً مقدساً يمكن أن يكفل بالتبادل ممتلكاتهم الحالية، وأن تنبذ الحرب وسيلة لتسوية الخلافات الدولية، وأن يخضع هذه الخلافات لاتحاد أوربي تكون له قوة فرض قبول القرارات التي يصدرها. وصاغ نموذجاً لدستور لهذا الاتحاد، مع القواعد التي يمكن اتباعها في إجراءات اجتماعات هذا الاتحاد. وحدد الأنصبة المالية التي تخصصها كل من الدول الأعضاء للاتحاد، ولم يكن أحد ليتوقع تنبؤه بأن مؤتمر فيينا 1715، سيشكل، على هذه الأسس "حلفاً مقدساً" للإبقاء دوماً على النظم الملكية والإقطاعية، وإخماد الحركات الثورية.

ولم يكن ثمة صعوبات يمكن أن تزعزع ثقة الراهب المرن السريع التكيف، فأقر، في عبرة دينية الإيمان بالتقدم، وفي كتابه "ملاحظات على التقدم المستمر في العقل العالمي" (1737) أعلن، قبل كوندورسيه بزمن طويل، إمكان بلوغ الجنس البشري مرتبة الكمال غير المحدود بفضل قوة العقل في رجال العلم والحكومات. إنه فوق كل شيء قال وهو مستغرق في التفكير والتأمل، بأن الجنس البشري وفقاً لمراجع موثوقة، لا يزيد عمره على سبعة أو ثمانية آلاف سنة، ومن ثم فإنه لا يعدوا أن يكون في مرحلة "طفولة العقل"، فما الذي لا نتوقعه منه في شبابه النشيط بعد ستة آلاف سنة، وفي الازدهار الرائع في مرحلة نضج الجنس البشري بعد مائة ألف عام من الآن؟(25).

إن سان بيير بمشكلتنا الحديثة: تلك هي أنه بينما خطت العلوم والمعرفة خطوات واسعة في طريق التقدم، لم يحدث في مجال الأخلاق أو السياسة تقدم متكافئ مع تلك الخطوات، إن المعرفة تزود الرذيلة بالوسائل والأدوات بقدر ما تهذب الأخلاق وتعمل على تنويرها. وكيف ننحو بنمو المعرفة نحو تقويم أخلاق الأفراد والأمم؟ وفي رسالته "مشروع لتحسين أوضاع حكومات الدول والبلوغ بها إلى درجة الكمال" (1737) اقترح سان بيير تأسيس "أكاديمية سياسية" تتألف من اعظم الرجال عقلاً وحكمة في البلاد، وتكون بمثابة هيئة استشارية للوزراء في الدولة في كل ما يتعلق بالإصلاح الاجتماعي والخلقي. وقدم عدة اقتراحات محددة: تعليم عام تحت إشراف الحكومة (لا الكنيسة)، تسامح ديني، زواج رجال الدين، توحيد القوانين الفرنسية، قيام الدولة برعاية الصالح العام والنظام الاجتماعي، وأخيراً زيادة الإيرادات القومية عن طريق الضرائب التصاعدية على الدخول والتركات(26). وفي 1725 أضاف الراهب إلى اللغة الفرنسية لفظة "الإحسان أو عمل الخير" ليميز الروح الإنسانية التي آثرها على الصدقات التي تقترن بفكرة التنازل والتلطف في النظام القديم. ووضع قبل هلفشيوس وبنتام بزمن طويل مبدأ المنفعة: ذلك "أن قيمة أي كتاب أو قاعدة أو نظام أو عمل تقاس بعدد وعظمة الملذات والمتع الفعلية التي تحققها، وما ينتظر أن تحققها في المستقبل، لأكبر عدد من الناس(27). وبدا معظم الأفكار الأساسية عند الفلاسفة استهلالاً أو مقدمة لسان بيير، بل للأمل في ملك مستنير، كعامل من عوامل الإصلاح. وكان سان بيير بكل بساطته وسذاجته وأطنابه، أحد الأذهان التي حملت بذور عصر الاستنارة.

ولا بد أن شارل بينو ديكلوس قد ازدرى الراهب سالف الذكر لأنه خيالي واهم لا يتفق مع ذهن واقعي. ولد في دينان بمقاطعة بريتاني، واحتفظ حتى النهاية بالشخصية الجادة الحذرة العنيدة التي تميز بها البريتون. وكان ابناً لوالد برجوازي ميسور ماتت في السنة الأولى بعد المائة، فاستطاع أن يقضي شبابه الطائش في باريس في عهد الوصاية. وتلقى تعليمه العالي عند اليسوعيين وبنات الهوى، وانغمس في حماقات الشباب أيما انغماس. وزاد من حدة ذكائه في المقاهي، ومكنت له شهرته بسرعة البديهية من ارتياد المجتمع والصالونات، وزاد من شهرته بقصة "تاريخ البارونة دي لوز" (1741) التي كادت أن تكون اتهاماً لله. إن البارونة تصد كل هجوم على أمانتها الزوجية، ولكنها تستسلم لحاكم فاسق فاسد، لتنقذ حياة زوجها المتورط في مؤامرة ضد الملك. وتغتصب البارونة مرتين. وفي سورة غضب جنوني تصرخ "أيها الرب القاسي، كيف استحق كراهيتك لي هل لأن الفضيلة كريهة لديك؟(28)".

وعلى الرغم من مغزى هذا الكتاب وما تضمنه من إثارة جنسية انتخب ديكلوس للأكاديمية (1746) بفضل نفوذ مدام دي بمبادور. واشترك بحيوية ونشاط في أعمالها، وأعاد تنظيمها، وربط بينها وبين أدب العصر وفلسفته ربطاً بعث فيها الحياة. وفي 1751 خلف فولتير في وظيفة مؤرخ لملك وفي 1754 سعى لانتخاب دالمبرت لعضوية الأكاديمية، وفي 1755 انتخب سكرتيراً دائماً لها، وظل الروح المسيطرة عليها حتى وفاته. وكسب الأكاديمية إلى جانب الأفكار المتحررة. ولكنه رثى وأسف لتهور دي هولباخ وهلفشيوس وديدرو "إن هذه العصبة من الملحدين الصغار سوف تنتهي باقتيادي إلى كرسي الاعتراف".

وإنا لنذكره بصفة خاصة من اجل كتابه "نظرات في الخير والشر في هذا القرن" (1750) وهو يتضمن تحليلاً هادئاً دقيقاً مفصلاً عن الأخلاقيات والشخصية الفرنسية. وكتبه قبل أن يبلغ الخامسة والأربعين، واستهله بوقار حكيم خَرِفْ "لقد عشت، وأود أن أعيش لأكون ذا نفع لمن سيعيشون". ويأسف "لأن أعظم الشعوب حضارة ومدنية ليست كذلك أكثرها تمسكاً بالفضيلة": إن أسعد الفترات هي تلك التي لا تعتبر فيها الفضيلة حسنة أو ميزة، وإذا بدأ اعتبارها كذلك، فإن العادات بالفعل تتغير. وإذا أصبحت هدفاً للسخرية فتلك هي آخر مراحل الفساد(29).

وفي رأيه أن "أكبر نقيصة في الرجل الفرنسي أن له على الدوام شخصية شبابية، ومن ثم فهو في الغالب أنيس لطيف، وقلما يكون راسخاً متزناً، ويكاد لا يمر بسن النضج، بل ينتقل من الشباب إلى عجز الشيخوخة..... فالرجل الفرنسي هو طفل أوربا(30)-مثلما أن باريس هي ملعبها. ولا يتعاطف ديكلوس كل التعاطف مع عصر العقل الذي يحس أنه دوامة تعصف حوله" "لست متأكداً من إني أحسن الظن كثيراً بهذا القرن، ولكن يبدو لي أن تخمراً معيناً في العقل يتجه نحو التطور والنمو في كل مكان(31)". إننا في هذه الأيام ننتقد كثيراً في عنف بالغ التحيز والتحامل وربما قضينا عليهما إلى حد كبير. إن التحيز ضرب من القانون العام السائد بين البشر... وفيما يتعلق بهذا الموضوع. لا أملك إلا أن أنحى باللائحة على الكتاب الذين يريدون مهاجمة الخرافة (وقد يكون من البواعث النافعة الجديرة بالثناء إذا تمت المناقشة على أساس فلسفي). فيقرضون أسس الأخلاق ويضعفون روابط المجتمع... والنتيجة المؤسفة لهذا على قرائهم، هي أن يصبح الشباب مواطنين سيئين ومجرمين مخزين، وأن ينتاب الشقاء الذين يتقدم بهم العمر(32).

وكان جريم المراسل الباريسي للشخصيات الأجنبية وواحداً من كثير ممن استاءوا من هذا التشهير الرقيق بالفلسفة، الصادر من رجل نهل من منابع كثيرة "إذا كان المرء مجرداً من الشعور فاسد الذوق ، فليس له أن يتحدث عن الأخلاق ولا عن الفنون(33). ولكن جريم كان يزاحم ديكلوس في الظفر بالحظوة لدى مدام دي ابيناي، وإن مذكرات هذه السيدة الرقيقة لنصور ديكلوس فظاً مستبداً إذا تمكن، شديد التهور إذا غلب على أمره. ولكن جريم هو الذي أعد هذه المذكرات للنشر. وإذا كان لنا أن نصدق هذه الصفحات العتيقة الباكية فإن مدام ابيناي طردت من بيتها هذا العربيد الخائن. وهام رجل الأكاديمية العلامة على وجهه بحثاً عن مضاجع وأراض أخرى، وأخيراً رحل عن هذا العالم وهو في السابعة والستين.

وكان لوك دي كلابيير مركيز دي فوفينارج أجدر بالحب. وفي سن الثامنة عشرة التحق بالجيش ثملاً يحب بلوتارك وبالطموح إلى ارتقاء مدارج المجد في خدمة الملك. واشترك في مغامرة الماريشال دي بل أيل المنكوبة في حملة بوهيما 1741-1743. وفي الانسحاب المهلك من براغ تجمدت رجلاه، وحارب في دتنجن 1743. ولكن اعتلت صحته إلى حد إنه ترك الجيش بعدها. وسعى إلى الحصول على منصب دبلوماسي، وكاد أن يظفر ببغيته بفضل مساعدة فولتير لولا أن مرض الجدري شوه وجهه. وبدأ بعده يضعف، وانتابه سعال مزمن قتال أقعده عن ممارسة أي عمل.

وأصبحت الكتب عزاءه، وشغله الشاغل. وكان يقول "فوق كل شيء، إن أحسن الأشياء هي أكثرها شيوعاً، فإنك تستطيع أن تشتري ذهن فولتير مقابل كراون واحد"(34)وحذر من الحكم على الكتب بثقل وزنها، فإن خير المؤلفين قد يتحدثون أكثر مما ينبغي وكثير منهم غامضون إلى حد يبعث السأم والضجر. والوضوح يزين التفكير العميق"(35). وكان مؤلفه الذي دفع به إلى المطبعة 1746 يقع في خمس وسبعين صفحة مقدمة في التعرف على الروح الإنسانية"، وأعقبه "607 من التأملات والحكم" في 115 صفحة. وبعد ذلك بعام واحد، وفي فندق حقير في باريس، قضى نحبه، وهو في الثانية والثلاثين، وهو يمثل موزار وكيتس في الفلسفة الفرنسية.

وقال فوفينارج "إن للفلسفة أنماطها وأشكالها، مثل الملابس والموسيقى والعمارة(36)" وقبل بضع سنين قليلة من إضفاء روسو المثالية على الطبيعة والمساواة، صور فوفينارج "الطبيعة بأنها صراع وحشي من أجل الغلبة والسيطرة"، و "المساواة" على أنها وهم وخداع: السائد بين الملوك، وبين الشعوب، وبين الأفراد، أن الأقوى يرتب لنفسه حقوقاً على الأضعف، ونفس القاعدة متبعة بين الحيوانات والكائنات غير الحية، وهكذا يجري كل شيء في الكون بالعنف. وهذا النظام الذي نعيبه بشيء من شبهة العدل، هو أعم وأثبت وأهم قانون في الطبيعة(37).

إن كل الناس غير أحرار وغير متساوين:

ليس حقاً أن المساواة قانون من قوانين الطبيعة. إن الطبيعة لم تجعل الأشياء متساوية. وإن قانونها الأساسي هو الإخضاع والتبعية.... ومن ولد ليطيع، فسوف يطيع حتى وهو متربع على العرش(38).

أما بالنسبة للإرادة الحرة، فهي أيضاً أسطورة أو خرافة "فليست الإرادة هي العلة الأولى لأي تصرف أو عمل، بل إنها المنبع الأخير". وإذا أوردنا المثل التقليدي على الإرادة الحرة، وهو أنك تستطيع أن تختار هذا أو ذلك أ أو ب "بمحض إرادتك" فإن فوفينارج يرد "إني إذا اخترت ب فإن هذا بسبب أن الحاجة إلى الاختيار تقفز إلى تفكيري في اللحظة التي تجول ب بخاطري فيها(39). والإيمان بالله أمر لا مفر منه ولا غنى عنه، على أية حال. وأحس فوفينارج بأنه عن طريق هذا الإيمان وحده يمكن أن يكون للحياة وللتاريخ معنى غير الصراع الدائم والهزيمة في النهاية(40).

وأبرز معالم فلسفة فوفينارج دفاعه عن العواطف، ولا ينبغي القضاء عليها لأنها أصل الشخصية والعبقرية وكل قوة التفكير ونشاطه. "الذهن عين النفس المبصرة، ولكن ليس قوتها، لأن قوتها تكمن في القلب أي في العواطف. إن أكثر العقول استنارة لا يمدنا بالقوة على العمل والإرادة(41).... والأفكار العظيمة تنبع من القلب... وربما كنا مدينين للعواطف بأعظم منجزات العقل(42).. إن العقل والوجدان يستشير كل منهما الأخر ويكمله بالتناوب، وهذا الذي يستشير أحدهما ويغفل الآخر، إنما يحرم نفسه في حمق وغباء من بعض الموارد التي منحنا إياها من أجل سلوكنا(43).

وأقر فوفينارج أن حب الذات عام بين الناس، ولكنه رفض اعتباره رذيلة، حيث أنه الضرورة الأولة من ضرورات قانون الطبيعة الأول: حفظ الذات. كما أن الطموح ليس رذيلة، بل أنه حافز "إن حب المجد والعظمة هو الذي يصنع ما تحرزه الأمم من تقدم ونجاح(44). ويضيف أن المرء غير أهل للمجد والعظمة إذا لم يع قيمة الوقت(45). ومهما يكن من أمر فإن هناك رذائل يجب أن تكبح جماحها القوانين والمبادئ الأخلاقية وإن فن الحكومة ليكمن في توجيه الرذائل إلى الخير العام(46). وهناك أيضاً فضائل حقيقية "إن أولى أيام الربيع أقل روعة وفتنة من نمو الفضيلة في الشباب(47).

وعلى الرغم من تسليم فوفينارج بآراء هوبز ولاروشفوكو، ومن تجربته للشر في حياته، فإنه احتفظ بإيمانه بالجنس البشري. قال صديقه مارمونتل: "إنه عرف الحياة ولم يحتقرها. إنه، وقد كان صديقاً للناس، اعتبر الرذيلة محنة وسوء حظ، يبتلي الناس بهما لا جريمة. وحلت الشفقة في قلبه محل الاحتقار والبغض... إنه لم يذل إنساناً قط... إن هدوءاً لم يتبدل أخفى آلامه عن أعين أصدقائه. وما كنا في حاجة لاحتمال المحنة، إلا أن تكون لنا فيه أسوة حسنة، فإنا ونحن نرى رباطة جأشه، ما كنا لنجرؤ على إظهاره حزنناً وشقائنا أمامه(48).

ووصفه فولتير بأنه "أتعس الناس حظاً وأكثرهم هدوءاً(49).

إن من أكرم مظاهر الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر. ذلك العطف السابغ والعون الودي اللذين حبا بهما فولتير "نبي العقل" فوفينارج نصير بسكال و "القلب". إن الفيلسوف الشاب أعلن عن إعجابه "برجل يشرف قرننا، رجل لا يقل عظمة وشهرة عن أسلافه"(50). وكتب إليه الرجل العجوز الأكبر منه سناً في لحظة من لحظات التواضع: "لو أنك كنت قد رأيت التور قبل مولدك ببضع سنين، فلربما اكتسبت كتاباتي قيمة أكبر(51)إن أفصح قطعة في مجلدات فولتير المائة هي ما قال في تأبين فوفينارج عند تشييع جنازته(52).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

5- مونتسكيو 1689 - 1755

أ - الرسائل الفارسية

Quill-Nuvola.svg المقال الرئيسي: m:الرسائل الفارسية

وجد فولتير أنه من العسير عليه أن يحب مونتسكيو لأن مؤلفه "روح القوانين" (1748) اعتبر بصفة عامة أعظم إنتاج عقلي في هذا العصر. وظهر كتاب حين بلغ صاحبه التاسعة والخمسين، وكان ثمرة خمسين عاماً من التجربة والخبرة، وأربعين عاماً من الدرس والبحث وعشرين عاماً قضاها في تأليفه.

ولد شارل لويس دي سيكوندا بارون دي لابريد ودي مونتسكيو، في لابريد بالقرب من بوردو وفي مقاطعة مونتاني، في 18 يناير 1689. وكان يفاخر مبتهجاً بأنه من سلالة هؤلاء القوط، وهم الذين بعد أن غزوا الإمبراطورية الرومانية، "أسسوا الملكيات وأقاموا صرح الحرية هنا وهناك في كل مكان"(53)إنه انتسب على أية حال إلى "نبلاء السلاح ونبلاء الرداء" كان أبوه كبير القضاة في جوين، وكان الصداق التي قدمته أمه قصر لابريد وأرضها. وفي ساعة مولده تقدم إلى بوابة القصر سائل مسكين، فأدخلوه وأطعموه وجعلوا منه عراباً للطفل (أي أباه في العماد)، زعماً منهم بأن شارل لن ينسى الفقراء أبداً(54). وتربى طوال السنوات الثلاث الأولى من عمره بين فلاحي القرية، وأرسل في سن الحادية عشرة إلى مدرسة طائفة الأورتوريين في جويللي على بعد عشرين ميلاً من باريس.. ثم عاد إلى بوردو في سن السادسة عشرة ليدرس القانون. وفي سن التاسعة عشرة حصل على درجته العلمية في القانون.

وفي 1713 مات أبوه، وكان شارل آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره، تاركاً له ممتلكات واسعة وثروة متوسطة. وكان يتحدث بصراحة عما "يملك من أرض وعن اتباعه" وسوف تراه تمسك بشدة بالنظام الإقطاعي. وبعد ذلك بسنة دخل برلمان بوردو عضواً وقاضياً. وفي 1716 أوصى له عمه-الذي كان قد اشترى رياسة البرلمان-بثروته ومنصبه، وقد دافع مونتسكيو فيما بعد عن "بيع المناصب" باعتباره "عملاً حسناً في الدول الملكية، لأنه يجعل من واجب أبناء الأسرات العريقة أن ينهضوا بالمهام التي قد لا يحصلون عليها عن طريق الدوافع النزيهة غير المغرضة وحدها(56). وبينما كان يتولى رياسة البرلمان قضى معظم وقته في الدرس والبحث، فأجرى تجارب وقدم أبحاثاً في الفيزياء والفسيولوجيا إلى أكاديمية بوردو، وخطط "تاريخاً جيولوجياً للأرض" لم يكتبه قط ولكن المادة التي جمعها له شقت طريقها إلى كتابه "روح القوانين".

وكان في الثانية والثلاثين حين ملأ أبصار وأسماع باريس في عهد الوصاية بأروع كتبه. إنه أغفل ذكر اسمه على كتابه "الرسائل الفارسية" (1721) لأنه ضم بين دفتيه قطعاً لا يليق صدورها عن قاض. وربما أخذ فكرته عن كتاب جيوفاني مارانا "جاسوس السيد الكبير" (1684) الذي نقل فيه جاسوس تركي وهمي للسلطان، في بذاءة تلفت النظر، عقائد المسيحيين الفاسدة وسلوكهم في أوربا، والمفارقات المضحكة أو القاتلة بين ما يعلنون وما يفعلون، وثمة أسلوب شبيه في تصوير الحضارة الغربية كما يراها الشرقيون، استخدمه أديسون في سبكتاتور"، وكان شارل دفرسني "تسليات جادة وهازلة" قد تصور تعليقات أحد أبناء سيام في باريس، كما أن نيقولا جيوددقيل كان قد أبرز العادات الفرنسية كما يراها أحد هنود أمريكا، وكانت ترجمة جالاند لكتاب "ألف ليلة وليلة" (1704-1717) قد زادت من شغف الفرنسيين بالحياة الإسلامية، كذلك فعلت المحاضرات المصورة عن رحلات سير جون شاردان وجان تافرنيه. كما أنه من مارس إلى يوليه 1721 لفت السفير التركي أنظار باريس بفتنة زيه وأساليبه الغريبة. من أجل ذلك كله كانت فرنسا مستعدة لتلقى "الرسائل الفارسية". وبيع من هذا الكتاب ثمان طبعات على مدى عام واحد.

وقدم مونتسيكيو "الرسائل" على أنها مكتوبة بقلم ريكا وأوزبك، وهما سائحان فارسيان في فرنسا. ومراسليهما في أصفهان. إن هذه الرسائل لن تعرض فقط نقاط الضعف والأهواء والتحيز عند الفرنسيين، ولكنها كشفت أيضاً عن حماقات السلوك والمعتقدات الشرقية من خلال الكتاب أنفسهم.

وحين يسخر القارئ من هذه العيوب والأخطاء، فليس أمامه إلا أن يتقبل عن طيب خاطر السخرية من عيوبه وأخطائه هو. وقد مست هذه العيوب والأخطاء مساً رقيقاً. ومن ذا الذي يغضب لهذه الأفكار الساخرة غير المقصودة، أو الطعنات بسيف مغلف بطريقة مهذبة؟ وفوق ذلك تضمنت بعض الرسائل أسراراً أو رسائل شخصية سارة من حريم أوزبك في أصفهان. من ذلك أن زاكي أي محظيته تكتب لتبلغه بما تعاني من آلام مبرحة لغيابه عنها. كما أن ريكا تصف مفهوم سيدة مسلمة عن الجنة بأنها مكان يكون فيه لكل سيدة فاضلة مجموعة من الرجال الوسيمين المكتملي الرجولة، وهنا يطلق مونتسكيو لقلمه العنان في سرد التفاصيل في أسلوب الطيش الذي اشتهر به عهد الوصاية.

وكان من غير المستطاع، اللهم في فترة خلو العرش هذه، أن تتفادى الهرطقات السياسية والدينية في الرسائل عين الرقيب والمؤاخذة الرسمية. لقد قضى الملك القديم نحبه، والملك الجديد ما زال صبياً، والوصي رجل متسامح مرح مبتهج. وعند ذاك استطاع مونتسكيو أن يجعل الفارسيين الذين أوردهم في رسائله يسخرون من حاكم "ساحر" جعل الناس يعتقدون أن الورق نقود (كان نظام لو قد انهار.(57)) كما استطاع أن يفضح فساد الحاشية، وخمول النبلاء المبذرين وسوء إدارة أموال الدولة، وأن يمتدح جمهوريات اليونان وروما القديمة، والجمهوريات الحديثة في هولندا وسويسرا. يقول أوزبك "إن الملكية نظام شاذ غير سوي، ينزلق إلى حكم استبدادي مطلق"(58) (انظر فيما بعد رأياً مخالفاً).

وفي الرسائل من 11-14 يوضح أوزبك طبيعة الإنسان ومشكلة الحكم بالتحدث عن سكان الكهوف (التروجلوديون) الذين يتخيلهم عرباً انحدروا من التروجلودييين الذين وصفهم هيرودوت(59)وأرسطو(60)بأنهم قبائل همجية عاشت في أفريقية (قبل التاريخ). وكان تروجلوديو أوزبك يكرهون كل تدخل حكومي. ومن ثم قتلوا كل حاكم مفكر، وعاشوا في جنة من الحرية التامة "اتركه ليعمل" واستغل كل بائع حاجة المستهلك ورفع سعر منتجاته. وإذا اغتصب رجل قوي زوجة رجل ضعيف، فليس ثمة قانون أو حاكم يلجأ إليه. وأفلت القتل والاغتصاب والسلب والنهب دون عقاب، اللهم إلا الاقتصاص الخاص بالعنف، وإذا عانى سكان النجاد من الجفاف تركهم سكان الوهاد يموتون جوعاً، وإذا عانى هؤلاء من الفيضان تركهم سكان النجاد يهلكون. ومن ثم فنيت القبيلة، وبقى على قيد الحياة أسرتان بفضل الهجرة، وتبادلتا العون، ونشأتا أطفالهما على التمسك بالدين والفضيلة واعتبرتا أنهما أسرة واحدة، واختلطت قطعانهما دائماً تقريباً.(61)ولما زاد عددهم وجدوا أن أعرافهم غير كافية-لحكمهم فاختاروا ملكاً وخضعوا للقوانين. وانتهى أوزبك إلى أن الحكومة ضرورية ولكنها تعجز عن تأدية مهمتها إذا لم تكن قائمة على الفضيلة في الحاكم والمحكومين.

وكانت الهرطقات الدينية في الرسائل أكثر ترويعاً وتنفيراً من الهرطقات السياسية. ويرى أوزبك أن الزنوج يتصورون أن الإله أسود وأن الشيطان أبيض. ويوحي (مثل زينوفون) بأنه إذا كانت المثلثات تتحدث عن اللاهوت، فلا بد أن للإله ثلاث أضلاع وثلاث نقاط حادة. ويعجب أوزبك من ساحر آخر يسمى البابا، يحث الناس على الاعتقاد بأن الخبز ليس خبزاً وأن الخمر ليس خمراً، وألف شيء من هذا الطراز.(62)ويسخر من الصراع بين اليسوعيين والجانسينيين. وأفزعته محاكم التفتيش في أسبانيا والبرتغال، حيث "يتسبب الدومنيكان في إحراق الناس كما يحرق القش".(63)ويسخر من المسابح وثياب الرهبان الفضفاضة. وهو يتساءل كم تعمر البلاد الكاثوليكية في منافسة مع الشعوب البروتستانتية، لأنه يرى أن تحريم الطلاق وعزوبة الراهبات والرهبان سوف يعوقان ازدياد السكان في فرنسا وإيطاليا وأسبانيا (قارن إيرلندة في القرن العشرين) ويقدر أوزبك، على هذا المعدل، أن الكاثوليكية في أوربا لن تعمر أكثر من 500 سنة أخرى(64) . أضف إلى هذا أن هؤلاء الرهبان الخاملين الذين يزعمون انهم مستعصمون زاهدون يستولون على كل ثروة الدولة تقريباً. إنهم عصبة من البخلاء يأخذون دائماً ولا يعطون أبداً. إنهم باستمرار يكنزون دخولهم لتكون مصدر قوة. وتصاب هذه الثروة بالشلل، فلا تتداول ولا تستغل في التجارة أو الصناعة أو المصانع"(66)ويقلق أوزبك التفكير في أن كفار أوربا الجهلة الذين يعبدون المسيح بدلاً من عبادة الله والإيمان بحمده سيكون مصيرهم النار، ولكن يراوده بعض الأمل في أنهم في النهاية سيعتنقون الإسلام ويُنقذون(67).

وفي تخيل رمزي جليل يتأمل أوزبك في الإلغاء (1685) مرسوم هنري الرابع للتسامح المعروف بمرسوم نانت.

أنت تعلم يا ميرزا كيف أن بعض وزراء الشاه سليمان (لويس الرابع عشر) دبروا خطة لإرغام الأرمن في فارس (الهيجونوت) على مغادرة المملكة أو الدخول في الإسلام (الكثلكة)، اعتقاداً منهم بأن إمبراطوريتنا ستظل ملوثة ما دامت تحتضن هؤلاء الكفار... إن اضطهاد مسلمينا الغيورين لهؤلاء الكفار عبدة النار اضطرهم إلى الفرار زرافات إلى الهند الشرقية، وبذلك حرم فارس من هذا الشعب الجاد النشيط. ولم يبق أمام هذا التعصب الأعمى إلا شيء واحد هو تدمير الصناعة، حتى تنهار الإمبراطورية (فرنسا 1713)، حاملة معها تلك الديانة التي أرادوا لها النهوض والتقدم.

وإذا كان الحوار النزيه غير المتحيز ممكناً يا ميرزا، فلست متأكداً من أنه من الخير للدولة أن تكون بها عدة ديانات مختلفة... والتاريخ زاخر بالحروب الدينية، ولكن... ليس تعدد الديانات هو الذي أدى إلى الحروب، بل روح التعصب الذي يشجع الديانة التي تعتقد أنها في صعود(68).

إن الأفكار التي تضمنتها الرسائل الفارسية تبدو لنا الآن مبتذلة عتيقة. ولكنها كانت للمؤلف حين عبر عنها، مسألة حياة أو موت، وعلى الأقل مسألة سجن أو نفي. إنها الآن عتيقة لأننا كسبنا معركة الحرية في التعبير عن الآراء. إن الرسائل الفارسية فتحت الطريق، لهذا استطاع فولتير بعد ذلك بثلاث عشرة سنة أن يصدر "رسائل عن الإنجليز" ويلقي ضوءاً إنجليزياً على حطام فرنسا. وأعلن هذان الكتابان عن عصر الاستنارة. وعمر مونتسكيو وحريته بعد كتابه، لأنه كان من طبقة النبلاء، ولأن الوصي على العرش كان متسامحاً، كما ارتفعت بعض أصوات الاستنكار وسط التهليل والإعجاب، ومع ذلك لم يجرؤ على الإفصاح عن اسمه وهو المؤلف. وذهب دارجنسون الذي انتقد هو نفسه الحكومة فيما بعد إلى أن "هذه التأملات وأفكار لا يستطيع أن يأتي بها رجل ذكي بسهولة، ولكن ينبغي على الرجل الحصيف الحذر ألا يسمح بطبعها". وأضاف ماريفو الحريص "يجدر أن يضن الإنسان بمجهوده في مثل هذه الموضوعات" وقال مونتسكيو "عندما حظيت إلى حد ما بتقدير الجمهور فقدت تقدير الطبقات الرسمية، وواجهت ألفاً من ألوان الاستخفاف والاستهزاء"(69).

وعلى الرغم من كل شيء قصد مونتسكيو إلى باريس ليرشف كؤوس الشهرة في المجتمع وفي الصالونات. وفتحت له الأبواب مدام دي تنسان ومركيزة لمبرت ومركيزة ديناند. ولما كان قد ترك زوجته وراءه في لابريد فلم يكن من العسير أن يقع في شراك الغرام مع سيدات باريس. وتطلع إلى آفاق بعيدة، فتاقت نفسه إلى ماري آن دي يوربون أخت الدوق دي بوربون الذي أصبح رئيساً للوزارة في 1723. ويروي من أنه ألف من أجلها شعراً منثوراً "معبد الحب" (1725) عامراً بنشوة الوجد والهيام، وخفف من وطأة خلاعة هذا الشعر بادعائه أن القصيدة مترجمة عن اليونانية، ومن ثم حصل على ترخيص ملكي بطبعها. وبذل المساعي وبخاصة عن طريق مدام دي ري، لينضم إلى الأكاديمية، فاعترض الملك بأنه غير مقيم في باريس. فأسرع إلى بوردو وتخلى عن رياسته لبرلمانه، وانضم إلى مجمع الأربعين الخالدين (1728).

وفي أبريل قام برحلة استغرقت ثلاثة أعوام زار فيها بعض أجزاء إيطاليا والنمسا والمجر وسويسرا وأراضي الراين وهولندة، وإنجلترا. التي قضى فيها ثمانية عشر شهراً (نوفمبر 1729-أغسطس 1731) وهناك عقد أواصر الصداقة مع تشسترفيلد وغيرهم من وجوه القوم، واختير عضواً في الجمعية الملكية في لندن، وانضم إلى البنائين الأحرار (الماسونية)، واستقبله الملك جورج الثاني والملكة كارولين، وحضر جلسات البرلمان، وأولع بما ظنه الدستور البريطاني. وعاد أدراجه إلى فرنسا شديد الإعجاب-مثل فولتير-بالحرية، ولكن ما لمسه من مشاكل الحكومة زاد من رصانته واتزانه. وآوى إلى لابريد، وحول متنزهه إلى حديقة إنجليزية، وتفرغ-فيما عدا زيارات طارئة إلى باريس-لأبحاثه وكتاباته التي شغلت بقية أيام حياته.


ب- لماذا سقطت روما

في 1734 أصدر مونتسكيو، دون توقيع، ولكن معترف به عند الجمهور، "نظرات في أسباب عظمة الرومان وسقوطهم". وكان قد دفع بالمخطوطة إلى عالم يسوعي، ووافق على حذف ما يمكن أن يثير ريب الكنيسة. ولكن الكتاب لم يجد، وما كان له أن يجد النجاح الذي صادفته "الرسائل الفارسية" لأنه لم يتضمن أية بذاءات أو أية أشياء تجافي الاحتشام، بل كان يعالج موضوعاً قديماً معقداً وكان محافظاً نسبياً في سياسته ولاهوته. ولم يستسغ المتطرفون (الراديكاليون) التوكيد على أن يكون الانحطاط الخلقي سبباً للاضمحلال القومي، ولم يكونوا مستعدين ليقدروا عمق التقدير والحكمة الرائعة في عبارات مثل "أن الذين لم يعودوا يرهبون القوة في مقدورهم أن يظلوا على احترامهم للسلطة".(70)وتعتبر هذه الرسالة الصغيرة الآن محاولة رائدة في فلسفة التاريخ، ورائعة من روائع النثر الفرنسي تعيد إلى الأذهان ذكرى بوسويه ولكنها تضيف الروعة إلى الوقار.

إن الموضوع جذب نظر المؤرخ الفيلسوف لأنه انتظم السلسلة الكاملة لحضارة عظيمة من الميلاد إلى الفناء، وعرض في نظرة شاملة وتفصيل رائع إحدى عمليات التاريخ الأساسية-وهي عملية الفناء أو الانحلال الذي يبدو أنه قدر محتوم أن يعقب كمال التطور في الأفراد والديانات والدول. وكان ثمة اشتباه في أن فرنسا بعد انقضاء القرن العظيم، قد دخلت في فترة طويلة من الاضمحلال في الإمبراطورية والأخلاق والأدب والفن. إن الثالوث المدنس: فولتير وديدرو وروسو-لم يكن قد بدأ بعد إنهم يتحدون التفوق الفكري والعقلي في القرن السابع عشر. ولكن جراءة العصر الجديد المتزايدة برزت في حقيقة أن مونتسكيو، وفي إيضاحه وشرحه لمجرى التاريخ لم يدرس إلا الأسباب الأرضية، وطرح جانباً في هدوء اللهم إلا لمحات من الإجلال الطارئ، العناية الإلهية التي نجدها في كتاب بوسيويه "بحث في تاريخ العالم" قد اتجهت بكل الأحداث إلى نتائج محتومة بقضاء هذه العناية الإلهية. ورأى مونتسكيو أن يفتش عن قوانين التاريخ، مثلما كان نيوتن يبحث عنها في الفضاء: "ليس الحظ هو الذي يحكم العالم، كما نرى من تاريخ الرومان... فثمة أسباب عامة معنوية أو مادية، تعمل عملها في كل مملكة، ترفعها أو تحافظ عليها أو تطيح بها، وكل ما يحدث خاضع لهذه الأسباب. وإذا كان ثمة سبب خاص يعينه، مثل النتيجة الطارئة لمعركة ما هو الذي قضى على دولة ما، فهناك سبب هام جعل سقوط هذه الدولة ينتج عن معركة واحدة. وصفوه القول إن الحركة العامة نجر معها كل الأحداث الخاصة غير المتوقعة(71).

وبناء على هذا اختزل مونتسكيو وهبط بدور الفرد في التاريخ. فالفرد مهما عظمت عبقريته لا يعدو أن يكون أداة "الحركة العامة". ولا ترجع أهميته إلى قدرته الفائقة بقدر ما ترجع إلى التقائه مصادفة مع ما أسماه هيجل "روح العصر" فلو أن قيصر وبومبي فكرا مثل ما فكر كاتو (سعياً في الإبقاء على سلطة السناتور الروماني) فربما انتهى آخرون غيرهما إلى نفس أفكارهما. وعند ذاك كانت الجمهورية التي كان مقدراً عليها الفناء لأسباب داخلية، تنساق إلى الانهيار على أيد أخرى"(72).

ولكن القدر ليس توجيهاً روحياً أو باطنياً، وليس قوة ميتافيزقية. انه مجموعة معقدة من عوامل تنتج "الحركة الرئيسية". والمهمة الأساسية للمؤرخين الفلسفيين، في رأي مونتسكيو، هي الكشف عن كل عامل من هذه العوامل وتحليله وتبيان فعاليته وعلاقته. ومن ثم كان سقوط روما (في نظره) يرجع أولاً إلى التحول من جمهورية توفر لها توزيع السلطات وتوازنها، إلى إمبراطورية تصلح أكثر ما تصلح لحكم بلاد تابعة لها، ولكنها تركز كل الحكم في مدينة واحدة في يد رجل واحد، مما يدمر حرية ونشاط المواطنين والأقاليم. ويمرر الزمن انضمت أسباب أخرى إلى هذا السبب الرئيسي: انتشار الخنوع والخمول بين الجماهير، رغبة الفقراء في أن تعولهم الدولة، ضعف الأخلاق بسبب الثروة والترف والفسق والفجور، تدفق الغرباء الذين تشكلهم التقاليد الرومانية والذين كانوا مستعدين لبيع أصواتهم لمن يدفع أكبر ثمن، فساد رجال الإدارة المركزيين والمحليين، خفض قيمة العملة، فداحة الضرائب، هجر المزارع، استنزاف الحيوية العسكرية بسبب الديانات الجديدة وطول أمد السلم، وفشل النظام العسكري وسيطرة الجيش على الحكومة المدنية، إيثار الجيش تنصيب الأباطرة أو خلعهم عن حماية الحدود من هجمات المتبربرين.... ومن الجائز أن مونتسكيو-على عكس توكيد بوسويه على العوامل الخارقة للطبيعة-لم يقم وزن كبير لتغيير الديانات، الذي أكده جيبون سبباً أساسياً لانهيار الإمبراطورية.

ولكن مونتسكيو كان دوماً يعود إلى ما أعتبره العامل الرئيسي في اضمحلال روما-وهو التحول من الجمهورية إلى الملكية, ذلك أن الرومان غزوا بفضل مبادئهم الجمهورية، كثيراً من الشعوب، ولكن في الوقت الذي حققوا فيه هذا، لم تقو الجمهورية على الصمود، وتسببت في الاضمحلال مبادئ الحكم الجديد وهي مخالفة لمبادئ الجمهورية(73). ومهما يكن من شيء فأننا عدنا إلى الفصل السادس لنتفحص المبادئ الأساسية أو الوسائل التي قهرت بها الجمهورية الرومانية "كل الشعوب" نجد مجموعة منوعة غريبة: الخداع، نقض المعاهدات، العنف والقوة، العقوبات الصارمة، بذر بذور الشقاق بين العدو ليسهل قهره تدريجياً، (فرق تسد)، نقل السكان من مكان إلى مكان بالقوة، تعكير جو الحكومات المناهضة ومحاولة القضاء عليها بتقديم المساعدات للثورات الداخلية ورشوة القائمين بها. وغير ذلك من الإجراءات المألوفة لدى رجال الدولة. واستخدم الرومان حلفاءهم في القضاء على أعدائهم، وسرعان ما استداروا ليدمروا هؤلاء الحلفاء(74)وواضح-أن مونتسكيو-ناسباً هذا الوصف للمبادئ الجمهورية أو مزدردا ميكافيللي في جرعة واحدة-اعتبر في الفصل الثامن عشر، الجمهورية مثلاً أعلى للعظمة، ورثى الإمبراطورية منزلقاً بهيجاً للانحلال. ومع ذلك اعترف بفساد السياسة في الجمهورية وبالعظمة السياسية للإمبراطورية في ظل "حكمة نرفاء، ومجد تراجان، وبسالة هادريان وفضائل الاثنين الانطونينيين"(75)وهنا وجه مونتسكيو كلاً من جيبون ورينان إلى تسمية هذه الحقبة "أكرم وأسعد حقبة في تاريخ الحكومة". ولدى هؤلاء الملوك الفلاسفة وجد مونتسكيو أيضاً أخلاق الرواقين التي فضلها بصراحة ووضوح على الأخلاق المسيحية، وانتقل إعجاب مونتسكيو بالرومان في عهد الجمهورية إلى الفرنسيين المتحمسين للثورة، وأسهم في تغيير الحكومة الفرنسية، والنظم العسكرية والفنون في فرنسا.

ووقع في الكتاب بعض أخطاء في عمل علمي عجل به ضغط الوقت والرغبة في إنجاز مهمة أضخم. فلم يكن مونتسكيو في بعض الأحيان مدققاً في استخدام النصوص القديمة. من ذلك، على سبيل المثال أنه أخذ الفصول التي كتبها ليفي عن "نشأة روما" على أنها تاريخ، على حين أن فاللا وجلارونوس وفيكو رفضوا هذه الرواية على أنها أسطورة. ويبخس مونتسكيو من قيمة العوامل الاقتصادية وراء سياسة جراتشي وقيصر، ولكن في نقابل مواطن الضعف هذه، فأن نظرة أوسع لا بد أن تحيط ببلاغة الكتاب وقوته وتركيز أسلوبه، ويعمق التفكير وأصالته، ومحاولة المؤلف الجريئة في أن يرسم في صورة واحدة ارتفاع وسقوط حضارة كاملة، ويرتفع بالتاريخ من مجرد سجل للتفاصيل إلى تحليل النظم ومنطق الأحداث. وهنا كان ثمة تحد للمؤرخين، كان على فولتير وجيبون أن يسعيا لمواجهته، كما كان هنا تلهف على فلسفة للتاريخ قد يحاول مونتسكيو نفسه، بعد جيل من الكد والجد أن يتبعه بكتاب "روح القوانين".


جـ- روح القوانين

Quill-Nuvola.svg المقال الرئيسي: روح القوانين

مضت أربعة عشر عاماً بين ظهور كتاب "النظرات" وكتاب "روح القوانين" بدأ مونتسكيو أروع أعماله هذا حوالي 1729، وهو في سن الأربعين. وكان موضوع روما حصيلة جانبية أو ثانوية إعتراضية.وفي 1747 حين بلغ السادسة والخمسين لقي من العمل نصباً وكأن به ميلاً إلى تركه، "كثيراً ما شرعت في هذا الكتاب، وكثيراً ما طرحته جانباً. وقذغت بالأوراق التي كتبتها ألف مرة."(76)وأهاب بالموزيات ربات الفنون والعلوم أن يرعينه ويساعدنه: "إن الدرب طويل، ولقد أضناني الأسى والإرهاق، أدخلن على قلبي البهجة والفتنة اللتين تدفعان بي إلى السير في الطريق، لقد عرفتهما يوماً، ولكنهما الآن تخلتا عني أنتن لستن مقدسات مطلقاً، إلا حين تتولين قيادنا، عن طريق اللذة والسرور، إلى الحكمة والحق"(77). ولا بد أن هؤلاء الربات استجبن لندائه، لأنه واصل العمل. ولما انتهت المهمة في خاتمة المطاف اعترف بتردده واعتداده بنفسه وزهوه: لقد سلكت طريقي نحو الهدف دون إعداد خطة. ولم أعرف أية قاعدة ولا شواذ وما عثرت على الحقيقة إلا لافتقادها ثانية. ولكن عندما وقعت على الأصول والمبادئ ذات مرة وأتاني كل ما كنت أفتش عنه، وفي غضون عشرين عاماً، وجدت أن العمل قد بدأ وخطا خطوات ثم أشرف على الاكتمال، حتى أنجز... وإذا صادف هذا العمل نجاحاً، فأني سأكون مديناً به لعظمة الموضوع وجلاله. ومهما يكن من أمر، فلست أظن أني كنت مفتقراً إلى العبقرية كل الافتقار, ولما رأيت كم من عظماء الرجال في فرنسا وألمانيا طرقوا هذا الموضوع قبلي، تملكتني الحيرة إعجاباً بهم، ولكن لم أفقد شجاعتي ولم يزايلني الإقدام، وقلت مع كوريجيو "وأنا أيضاً رسام"(78).

وعرض المخطوطة على هلفشيوس وهبنولت وفونتبيل، ورأى هذا الأخير أن البحث يفتقر إلى طلاوة الأسلوب الفرنسي.(79)وتوسل هلفشيوس إلى المؤلف ألا يسيء سمعته الطيبة بوصفه متحرراً بنشر كتاب يتساهل إلى هذا الحد مع كثير من المعتقدات المحافظة المتمسكة بالقديم(80). وقرر مونتسكيو أن هذه التحذيرات غير ذات موضوع، وتقدم للطبع. ولما كان يخشى الرقابة الفرنسية فانه أرسل المخطوطة إلى جنيف، وهناك صدر الكتاب 1748 في مجلدين، دون ذكر اسمه. وحين كشف رجال الدين الفرنسيون عن هرطقاته شجبوه وصدر أمر الحكومة بمنع تداوله في فرنسا. وفي 1750 تولى مالشرب-منقذ دائرة المعارف فيما بعد-شئون الرقابة، رفع الحظر عن الكتاب، وسرعان ما شق طريقه وصدرت منه وعشرون طبعة في عامين، وسرعان ما ترجم إلى لغات أوربا المسيحية.

وكانت العنونات على أيام مونتسكيو توضيحية حقاً، دقيقة غالباً. ولذا سمى كتابه "في روح القانون" أو "في العلاقات التي يجب أن تقوم بين القوانين وبين دستور كل حكومة، والعادات والمناخ والديانة والتجارة، وغيرها". وكان بحثاً في العلاقات بين القوى المادية والأنماط الاجتماعية، وفي العلاقات المتبادلة بين مكونات الحضارة. وحاول أن يضع الأساس لما يمكن أن نسميه الآن علم الاجتماع العلمي": أي-على غرار البحث في العلوم الطبيعية-التمكن من الوصول إلى نتائج محققة يمكن إثباتها، تلقى الضوء على المجتمع الحاضر، إلى تنبؤات مشروطة للمستقبل، وكان عسيراً بطبيعة الحال، على رجل واحد أن يتمه مع قصر العمر، والأوضاع الحالية للأثنولوجيا (علم الأعراق البشرية) والتشريع والتأريخ.

وبمعنى أدق، كانت فكرة مونتسكيو أن روح القوانين "-أي أصلها وطبيعته ونزعتها-إنما يحددها أولاً مناخ البلاد وتربته، ثم فسيولوجية الشعب واقتصاده وحكومته ودينه وخلقه وعاداته. وبدأ بتعريف عريض: إن القوانين بأوسع معانيها وأكثرها تعميماً هي العلاقات الضرورية التي تنشأ عن طبيعة الأشياء وواضح أنه أراد أن يأتي "بالقوانين الطبيعية" في العالم المادي، والاطرادات القياسية في التاريخ، تحت مفهوم عام واحد. وعلى غرار جروشيوس وبوفندروف وغيرهما ممن سبقوه، ميز مونتسكيو بين عدة أنواع من القوانين: 1-القانون الطبيعي، الذي عرفه بأنه "عقل إنساني، بقدر ما يحكم شعوب الأرض بأسرها"(81)أي "الحقوق الطبيعية" لكل الناس بوصفهم كائنات وهبت عقلاً. 2-قانون الأمم في علاقاتها بعضها ببعض. 3-قوانين سياسية تحكم العلاقات بين الفرد والدولة. 4-القانون المدني علاقات الأفراد بعضهم ببعض.

وذهب مونتسكيو إلى أنه في الأطوار الأولى للمجتمع البشري كان العامل الحاسم في القوانين هو التضاريس الأرضية: أهي غابة أم صحراء أم أرض منزرعة؟ أهي أرض داخلية أم ساحلية؟ أهي جبال أم سهول؟ وما هو نوع التربة وطبيعة الغذاء الذي تنتجه؟ وصفوة القول أن المناخ أول العوامل وبالدرجة الأولى أقوى العوامل في تحديد اقتصاد الشعب وقوانينه (وشخصيته القومية). (إن بودين في القرن السادس عشر سبق مونتسكيو إلى هذا التوكيد الأولى كما تبعه فيه بكل في القرن التاسع عشر). تأمل على سبيل المثال الفوارق المناخية، ونتيجة لها الفوارق البشرية، بين الشمال والجنوب:

إن الناس أكثر نشاطاً وحيوية في الأجواء الباردة... وهذا التفوق في القوة لا بد أن ينتج آثاراً مختلفة: وعلى سبيل المثال جرأة أكبر، أي مزيداً من الشجاعة، وشعوراً أكبر بالتفوق، أي رغبة أقل في الانتقام، وشعوراً أكبر بالأمن أي مزيداً من الصراحة وقدراً أقل من الارتياب ومن الدهاء السياسي والمكر. لقد شهدت الأوبرا في لإنجلترا وفي إيطاليا حيث رأيت نفس الروايات ونفس الممثلين، ومع ذلك فإن نفس الموسيقى حدثت آثاراً متباينة في كل من الأمتين، فإحداهما فاترة رابطة الجأش، والثانية نشيطة منتعشة مبتهجة... وإذا نحن سافرنا إلى الشمال لالتقينا بأناس قلت رذائلهم وكثرت فضائلهم... وإذا نحن اقتربنا من الجنوب لتخيلنا أننا نبتعد كل الابتعاد عن حدود الأخلاق، حيث تؤدي أقوى الانفعالات والأهواء إلى شتى أنواع الجرائم، حيث يبذل كل إنسان أقصى الجهد، إذا واتته الظروف، أن يحقق رغباته الجامحة...".

وفي البلاد الحارة نجد الماء الموجود في الدم يضيع إلى حد كبير بسبب العرق، ومن ثم يجب تعويضه بسائل مماثل، وللماء هناك فوائد جمة، وقد تعمل المشروبات القوية على تخثير كريات الدم الذي يتبقى بعد تبخر الرطوبة المائية. أما في البلاد الباردة فالماء المختلط بالدم قليلاً ما يفقد بالعرق، ومن ثم يجدر أن يستفيدوا من المشروبات الروحية التي بدونها قد يتخثر الدم... ومن ثم نجد أن تحريم الشريعة الإسلامية للخمر يلائم بلاد العرب. والقانون الذي حرم على القرطاجيين شرب الخمر قانون مناخي. ومثل هذا القانون لا يصلح للبلاد الباردة حيث يبدو أن المناخ يفرض عليهم لوناً من الإدمان على المسكرات بشكل عام... وينتشر شرب الخمر على قدر البرودة والرطوبة في الجو(82). أو تأمل العلاقة بين المناخ والزواج: إن الإناث في البلاد الحارة يكن صالحات للزواج في سن الثامنة أو التاسعة أو العاشرة... ويهرمن في سن العشرين، ومن ثم فإن عقلهن لا يقترن بجمالهن. وإذا تطلب الجمال السيطرة والتسلط أفسد العقل هذا المطلب. وإذا تحلين بالعقل تجردن من الجمال.. ومن ثم ينبغي أن تكون هؤلاء السيدات في حالة من التبعية، لأن العقل في الشيخوخة لا يمكن أن يوفر السيطرة التي لم يستطع حتى الشباب والجمال أن يحققاها. ولهذا كان طبيعياً إلى أبعد الحدود في هذه البلاد، إذا لم يكن ثمة قانون يمنع، أن يترك الرجل زوجة ليتزوج بأخرى وأن يباح تعدد الزوجات.

وفي المناخ المعتدل. حيث تحتفظ النساء بمفاتنهن على أكمل وجه، وحيث يتأخر بلوغهن سن النضج، وينجبن في مرحلة متقدمة من الحياة، نجد أن الشيخوخة أزواجهن تتبع شيخوختهن إلى حد ما، وحيث أنهن كن يتمتعن بقدر أكبر من العقل والمعرفة عند الزواج (أكبر من مثيلاتهن في الأقاليم شبه المدارية)، فإن هذا يستوجب وجود نوع من المساواة بين الجنسين، وقانون الاقتصار على زوجة واحدة تبعاً لذلك. وهذا هو السبب في أن الإسلام (مع نظام تعدد الزوجات) دخل بسهولة واستقر في آسيا بقدر ما امتد بصعوبة إلى أوربا، وأن المسيحية استقرت في أوربا وتحطمت في آسيا. وقصارى القول، هذا هو السبب في أن الإسلام أحرز مثل هذا التقدم في الصين، على حين لم تتقدم المسيحية إلا قليلاً(83).

وعند هذه النقطة يتبين مونتسكيو أنه أحل المناخ محل العناية الإلهية عند بوسويه، ويسارع فيضيف إكراماً للرب، احتراساً منقذاً: إن عقول البشر على أية حال خاضعة للعلة الأسمى، الله، الذي يفعل ما يشاء، ويخضع كل شيء لإرادته. وظن بعض اليسوعيين أن مونتسكيو قد عراه الخجل.

وسرعان ما تابع تعميماته الطائشة. ففي "الشرق"، (تركيا وإيران والهند والصين واليابان) يرغم المناخ على حجاب النساء وعزلتهن لأن (الهواء الحار يثير الشهوات) وقد يعرض تعدد الزوجات وأحاد به الزواج على حد سواء للخطر إذا أطلق اختلاط الجنسين كما هو الحال في (بلادنا في الشمال حيث عادات النساء فاضلة بطبيعتها وحيث العواطف هادئة، وحيث يتسلط الحب على القلب تسلطاً وديعاً سوياً إلى حد أن أقل قدر من الحزم والحكمة يكفي لتوجيهه وقيادته)(84). إنها لمتعة أية متعة أن تعيش في مثل هذه الأجواء التي تبيح الحديث وحيث الجنس اللطيف البالغ للفتنة يبدو أنه يزين المجتمع، وحيث الزوجات اللاتي تقتصر الواحدة منهن نفسها على إسعاد رجل واحد، ويسهمن في إدخال السرور والبهجة على الجميع(85)).

والعادات والأعراف نتائج مباشرة للمناخ أكثر من القوانين، لأن القوانين ينبغي أن تحاول في بعض الأحيان مقاومة آثار المناخ. وذلك أنه بتقدم الحضارة تتحكم الضوابط الأخلاقية أو القانونية-وينبغي لها أن تتحكم-في العوامل المناخية، مثال ذلك عزل المرأة وحجابها في الشرق. ويهدف أحكم المشرعين إلى موازنة (الأسباب الطبيعية). والعادات والأعراف وظيفة الزمان والمكان، وليس ثمة عادة أو عرف خطأ أو صواب أو أنه الأفضل في حد ذاته. والعرف، في الجملة خير قانون، لأنه تكيف طبيعي بين الشخصية والموقف، ويجدر بنا أن نتأنى ونسير بخطى وئيدة في تغيير العادة والعرف. وتأبى العادة أن تتبدل بالقانون عادة(86).

وحيث أن المواطن يحدد العادة التي تحدد بدورها الخلق القومي فإن شكل الحكومة لا بد أن يختلف من كان إلى مكان تبعاً لهذا المركب الثلاثي. وهي تتوقف بصفة عامة على مدى سعة الرقعة الحكومية: فالجمهورية تنسجم مع رقعة صغيرة من الأرض، يستطيع زعماء المواطنين فيها أن يجتمعوا للتشاور وللتداول أو العمل، فإذا اتسعت الرقعة تطلبت مزيداً من الحروب، وخضعت للحكم الملكي. وتتحول الملكية إلى استبدادية إذا حكمت رقعة شاسعة أكثر مما ينبغي لأن السلطة الاستبدادية وحدها هي التي تستطيع المحافظة على خضوع حكام المقاطعات لسلطانها(87). ويجدر أن تركز الملكية على (الشرف)، أعني أنه يجب تصنيف سكانها في مراتب، كما يجب أن يكون مواطنوها متحمسين غاية التحمس لألقاب الشرف والأوسمة وتفضيلهم أو إيثارهم بالحظوة. أما الجمهورية فيجدر أن تقوم على نشر (الفضيلة) على أوسع نطاق، ويعرف مونتسكيو الفضيلة على طريقته الخاصة بأنها (حب الإنسان لبلده-أعني حب المساواة(88).

وقد تكون الجمهورية أرستقراطية أو ديموقراطية تبعاً لطريقة حكمها: هل يتولاه قسم من المواطنين أو كلهم. ويعجب مونتسكيو بفنيسيا (البندقية) كجمهورية أرستقراطية. وبمدن الدول القديمة على أنها ديموقراطية وهو يعلم ولكن يتجاهل أن المواطنين المحررين ليسوا إلا أقلية. ويمتدح الحكم الذي أقامه وليم بن في أمريكا. ويمتدح في حماسة أكبر إنشاء المناطق الشيوعية الدينية التي أسسها اليسوعيون في باراجواي(89). والحق يقال على أية حال إن الديموقراطية الأمينة الحقة لا بد أن تحقق المساواة الاقتصادية والسياسية معاً، وأن تنظم المواريث والمهور، وتعمل على فرض الضريبة التصاعدية على الثروات(90). أن خير تلك الديموقراطيات هي التي يعترف فيها مواطنوها بعجزهم عن تحديد السياسة التي تنتهجها بلدهم، ومن ثم يقرون السياسة التي يحددها ممثلوهم الذين انتخبوهم. وينبغي على الدولة الديموقراطية أن تهدف إلى المساواة ولكن يمكن أن تدمرها روح المساواة المتطرفة، حين يسعد كل مواطن أن يكون في مستوى أولئك الذين اختارهم ليأتمر بأمرهم... وإذا كان هذا هو الوضع فلن تقوم للفضيلة قائمة في الجمهورية. فهنا يكون المواطنون راغبين كل الرغبة في ممارسة مهام الحكام الذين لا يعود أي توفير أو احترام. وهنا يكون الاستخفاف بمداولات السناتو، ومن ثم لا يكون هناك احترام لأعضائه، ولا احترام لكبر السن، وإذا انعدم التقدير والاحترام لكبر السن انعدم تبعاً لذلك الإذعان للوالدين أو الأزواج والامتثال للرؤساء.

وسرعان ما تتفشى هذه الظاهرة. إن الناس إذ يصابون بهذا البلاء محاولين التستر على فسادهم، يسعون إلى إفساد من وضعوا ثقتهم فيهم... وعندئذ يقتسمون الأموال العامة فيما بينهم، فإذا استثاروا بإدارة الأمور بالإضافة إلى تكاسلهم وتراخيهم، انصرفوا إلى مزج فقرهم بشيء من لهو الترف(91).

وهكذا يقول البارون، مردداً قول أفلاطون عبر ألفين من السنين: تنقلب الديموقراطية إلى فوضى. ثم إلى دكتاتورية، ثم تنهار.

وهناك في مونتسكيو أجزاء كثيرة تحبذ الجمهورية الأرستقراطية، ولكنه خشي الاستبدادية التي ذهب إلى إمكان قيامها في الديموقراطية إلى حد أنه كان يريد الصبر عليها أو تحملها إذا كانت هذه الجمهورية تحكم وفقاً لقوانين راسخة. ويعالج أقصر فصول كتابه الحكم المطلق الاستبدادي وهو يتألف من ثلاث مقالات قصيرة: "إذا أراد متوحشوا لويزيانا ثماراً قطعوا الشجرة من جذورها ليجمعوا الثمار، وهذا رمز للحكومة الاستبدادية(92)" أي أن الحاكم المستبد يستأصل أعظم الأسرات كفاية ومقدرة ليحمي قوته وسلطانه. وكانت الأمثلة التي أوردها لهذا شرقية بشكل يطمئن إليه، ولكن كان من الواضح أنه يخشى نزوع ملكية البوربون إلى الاستبداد، حيث كان الكاردينال ريشيليو ولويس الرابع عشر قد دمرا قوة الأرستقراطية السياسية. وتحدث عن ريشيليو وكأنه "مأخوذ بحب السلطة المطلقة(93)". أنه كره أشد الكراهية بوصف كونه نبيلاً فرنسياً، أن يهبطوا بمكانة طبقته إلى مجرد أفراد في الحاشية الملكية، واعتقد أن بعض القوى المتوسطة الخاضعة التابعة، ضرورة لحكومة صحيحة وكان يعني بهذه القوى النبلاء مالكي الأرض والحكام الوراثيين، وكان ينتسب إلى كليهما. ومن ثم دافع النظام الإقطاعي بتفصيل شديد (1753 صفحة)، مضحياً بوحدة كتابه وتناسقه. إن مونتسكيو هو الوحيد من بين فلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر الذي امتدح نظام العصور الوسطى، واتخذ من لفظة "قوطي"، تعبيراً عن الثناء والإطراء. وفي الصراع الذي استمر طوال حكم لويس الخامس عشر بين الملكية والبرلمانات اتخذ الحكام الذين يعدون للمعركة مصنعاً للحجج والأسانيد في "روح القوانين".

إن نفور مونتسكيو من الحكومة المطلقة مطية للحكم المطلق أدى به إلى تحبيذه حكومة مختلطة: فيها ملكية وأرستقراطية وديموقراطية معاً-ملك ونبلاء وجمعية عامة. ومن هنا كان أشهر آرائه، نظرية الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الحكومة(94). فالسلطة التشريعية تسن القوانين لكن لا تتولى تنفيذها، وتتولى السلطة التنفيذية القيام على تنفيذها ولكن لا تسنها. وتقتصر السلطة القضائية على تفسيرها. "وتضم السلطة التشريعية مجلسين، مجلس يمثل الطبقات العليا، وآخر بمثل العامة. وهنا يتحدث البارون ثانية.

في مثل هذه الدولة يوجد دائماً أناس يتميزون بحكم مولدهم وثرواتهم وألقابهم، فإذا تساووا وخلطوا بعامة الشعب، فلا يكون لهم إلا صوت واحد مثل الباقين، فإن الحرية العامة تكون بمثابة استرقاق لهم، ومن ثم يفقدون اهتمامهم بمساندة الحكم، وتكون معظم القرارات الشعبية في غير مصلحتهم. ويجدر أن يتناسب نصيبهم مع سائر امتيازاتهم في الدولة، وهذا يحدث فقط حين يشكلون هيئة في الدولة يكون لها الحق في مقاومة إساءة استعمال الشعب للسلطة في الدولة، كما يكون للشعب الحق في مقاومة أي اعتداء على حرية الشعب. ومن هنا تكون السلطة التشريعية في أيدي النبلاء وأيدي الذين ينتخبهم الشعب، على أن يكون لكل هيئة اجتماعية ومداولاتها منفصلة عن الأخرى، ولكل صلاحياتها وآراؤها(95)".

وتكون كل من الهيئات الثلاث وكل من المجلسين رقيباً بعضهم على بعض، وبهذه الطريقة المعقدة تلتئم حريات المواطن مع حكمة الحكومة وعدالتها ونشاطها. وكانت هذه الأفكار عن الحكومة المختلطة قد انحدرت إلى مونتسكيو من دراسته لهارنجتون وألجرنو وسيدني ولوك، ومن الخبرة التي اكتسبها في لإنجلترا. إنه ذهب إلى أنه وجد هناك مثله الأعلى مهما كان منقوصاً، في ملكية تكبح جماحها ديموقراطية في مجلس العموم، كما يكبح جماح مجلس العموم الأرستقراطية في مجلس اللوردات. وظن أن المحاكم في إنجلترا هي بمثابة كابح مستقل لجماح البرلمان والملك وامتدح ما كان قد رأى في إنجلترا رقابة نشتسترفيلد وغيره من النبلاء ولكنه مثل فولتير استخدم هذا الشكل المثالي حافزاً لفرنسا. ولا بد أنه عرف أن المحاكم الإنجليزية ليست مستقلة تمام الاستقلال عن البرلمان، ولكنه ذهب إلى أنه من الخير لفرنسا أن تفكر في الأخذ بحق المتهمين في إنجلترا تحقيق عاجل، أو إطلاق سراحهم بكفالة، ومحاكمتهم أمام محلفين من طبقتهم، مع تحدي الاتهام، وإعفائهم من التعذيب، ولكنه رأى كذلك "ألا يدعى النبلاء للمثول أمام المحاكم العادية بل أمام قضاة من نفس طبقتهم في هيئتهم. "إنهم كذلك لهم الحق في محاكمتهم أمام نظرائهم(96)".

إن مونتسكيو أصبح محافظاً أكثر فأكثر مع تقدمه في السن. إن روح المحافظة على القديم رسالة والتزم في الشيخوخة، كما أن الراديكالية، (التطرف) رسالة نافعة في الشباب، والاعتدال هبة وخدمة في أواسط العمر، ومن ثم كان لنا دستور في ذهن أمة، بما فيه من سلطات ذات وقيود وضوابط متبادلة وعرف مونتسكيو الحرية مع كل تمجيد لها بوصفها الهدف الصحيح للحكومة، بأنها" حق كل إنسان في عمل ما تجيزه القوانين فإذا أتى مواطن شيئاً تحرمه القوانين، فإنه لا يعود يتمتع بالحرية. لأن سائر المواطنين يمكن أن يكون لهم نفس الصلاحية(97)". واتفق مع زميليه جاسكون ومنتاني، على استنكار الثورات. "إذا ثبت شكل الحكومة واستقر منذ أمد بعيد، وبلغت الأمور حداً معيناً من الثبات والاستقرار، فإنه من الحكمة تقريباً أن تترك الأمور كما هي، لأن الأسباب-هي غالباً معقدو أو غير معروفة-التي هيأت لها الصمود والثبات، سوف تستمر في الإبقاء عليها (أي على هذه الحكومة(98)).

ورفض فكرة المساواة في الملكية أو السلطة ولكنه فكر، مثل جراتسي في تركيز ملكية الأرض: "من الأرض التي تكفي لتغذية أمة... لا تكاد تحصل عامة الشعب على ما يقوت أسره... فإن رجال الدين والأمير والمدن وعظماء الرجال وبعض البارزين من المواطنين يصبحون دون أن يحسوا ملاكاً لكل الأرض التي تبقى غير منزرعة. وتهجر الأسرات التي دمرت مزارعها، والرجل الكادح معدم فقير. وفي هذا الوضع يجدر بالهيئة الحاكمة أن توزع الأرض بين الأسرات المحتاجة وتوفر لها المواد والأدوات اللازمة لإصلاحها وزراعتها، وينبغي أن يستمر التوزيع ما دام هناك من يتسلمها(99).

واستنكر زراعة الأرض من أجل جباة الضرائب لحساب رجال المال الخصوصيين، واستنكر الرق بشدة في حماسة أخلاقية وتهكم لاذع(100). واعترف بالضرورة الطارئة للحرب، وامتد بمفهوم الدفاع إلى إجازة-المسارعة إلى الاستيلاء على الأراضي: إن حق الدفاع الطبيعي قد ينطوي أحياناً بالنسبة لدولة ما على ضرورة الهجوم، كما يرى بعضهم على سبيل المثال أن حفظ السلام قد يمكن دولة أخرى من تدمير هذا السلام، وعندئذ يكون غزو هذه الأمة الأخيرة هو السبيل الوحيد للحيلولة بينها وبين تدمير السلام(101). ولكنه استنكر سباق التسلح: ولقد ساد الاضطراب من جديد كل أوربا، فأصاب أمراءها وأغراهم بحشد قوات هائلة، ولهذا مضاعفاته، ويصبح بالضرورة معدياً، فإنه إذا شرع ملك في زيادة قواته، فإن الباقين بطبيعة الحال يحذون حذوه. ومن ثم لا نجني من هذا ألا الدمار الشامل(102).

وعلى الرغم من أنه قدر الروح الوطنية أكبر تقدير إلى حد أنه سوى بنها وبين الفضيلة، إلا أنه راوده في بعض الأحيان حلم مبادئ أخلاقية أرحب أفقاً: "إذا علمت أن ثمة شيئاً نافعاً لشخصي ولكنه يضر بأسرتي، فينبغي علي ألا أقدم عليه، وإذا علمت أن ثمة شيئاً نافعاً لشخصي، ولكنه يضر بأسرتي، وليس لوطني، فيجدر بي أن أحاول أن أنساه، وإذا رأيت أن شيئاً ذا فائدة لوطني، ولكنه يضر بمصلحة أوربا والجنس البشري فلا بد أن أعتبره جريمة رسمية(103)".

إن غاية ما يصبو إليه من مبادئ أخلاقية وديانة خفية هو مذهب الرواقيين القدامى: "لم توجد قط مبادئ أكثر منها التئاماً مع الطبيعة البشرية ولا أقوم منها لبناء المواطن الصالح... وإذا استطعت أن أتخلى عن المسيحية لحظة لوصفت القضاء على مذهب زينون مؤسس مذهب الرواقيين محنة من بين المحن التي ابتلى بها الجنس البشري... إن هذا المذهب وحده هو الذي صنع المواطنين، وهو وحده الذي صنع عظماء الرجال وهو وحده الذي صنع الأباطرة. وإذا نحينا جانباً الحقائق التي كشف عنها لحظة، وفتشنا في الطبيعة كلها فإننا لن نجد شيئاً أسمى من الانطوانيين، حتى ولا جوليان نفسه (وهو إطراء انتزع مني أرجو ألا يجعلني شريكاً في جريمة الردة).

كلا، لم يوجد قط منذ عهده أمير أجدر بحكم الجنس البشري(104). وواضح أن مونتسكيو حرص في "روح القوانين" على مسالمة المسيحية. إنه اعتراف بوجود الله-فأي حمق أفظع من قضاء وقدر أعمى خلق كائنات ذكية(105). ولكنه تصور هذا العقل الأسمى كما عبرت عنه قوانين الطبيعة، وهو لا يتدخل فيها مطلقاً. قال فاجيه "إن الله بالنسبة لمونتسكيو هو روح القوانين(106)"، وقبل المعتقدات الخارقة للطبيعة دعامة ضرورية لقانون أخلاقي لا يلتئم مع طبيعة الإنسان. "ومن الخير أن يكون هناك بعض كتب مقدسة لتكون شريعة مثل القرآن عند المسلمين، وكتب زرادشت عند الفرس، والفيدا عند الهنود، والكتب القديمة عند الصينيين. وإن الشرائع الدينية تكمل القوانين المدنية، وتحدد مدى السيطرة الاستبدادية(107)". وينبغي أن تكون الدولة والكنيسة رقيبة كل منهما على الأخرى، كما ينبغي أن تظل كل منهما منفصلة عن الأخرى. وهذا التفريق الكبير بينهما هو أساس هدوء الأمم(108)". ودافع مونتسكيو عن الدين ضد بيل(109). ولكنه أخضعه، مثل أي شيء آخر لتأثير المناخ والخلق القومي: "إن حكومة معتدلة هي أصلح ما يكون للعالم المسيحي، والحكومة المستبدة أصلح للعالم الإسلامي. وإذا اختيرت ديانة تلائم مناخ بلد ما، تتعارض مع مناخ بلد آخر فإن هذه الديانة لن تقوم في هذا البلد الثاني، وإذا أدخلت كان مآلها النبذ والرفض(110).... والمذهب الكاثوليكي أكثر ما يكون توافقاً مع الملكية، والبروتستانتية مع الجمهورية.... وإذا انقسمت المسيحية لسوء الحظ إلى كثلكة وبروتستانتية، فإن أهل الشمال يعتنقون البروتستانتية، على حين يظل أهل الجنوب متمسكين بالكاثوليكية. والسبب واضح. فإن أهل الشمال يتمسكون، وسيظلون يتمسكون إلى الأبد بروح الحرية والاستقلال، وهذا ما لا يتمتع به أهل الجنوب. فإن الديانة التي لا يكون لها رئيس بارز هي أكثر ملاءمة لهم(111).

وعلى حين سلم مونتسكيو بمزايا الدين إجمالاً فإننا نراه يسهب في نقده، واستنكر شراء رجال الدين في فرنسا(112). ودون "أفظع احتجاج على محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال، لوقف إحراق المهرطقين، وحذرهم من أنه "إذا تجرأ أحد في الأجيال القادمة أن يثبت أن الناس في أوربا في عصرنا كانوا متحضرين، فإنه لا بد أن يمثل أمام القضاء ليثبت أنهم كانوا متبربرين(113)" وسخر بوصفه قوطياً محباً لوطنه، من عصمة البابا من الخطأ وألح في أن تكون الكنيسة خاضعة للسلطة المدنية، واتخذ بالنسبة للتسامح الديني موقفاً وسطاً: "إذا كان للدولة مطلق الحرية في اعتناق أو نبذ أي دين جديد، فينبغي أن ترفضه، فإذا اعتنقته وجب عليها أن تتسامح معه(114). ومع كل احترامه للرقيب ظل مونتسكيو عقلانياً "فالعقل هو أكمل وأكرم وأجمل ملكتنا(115)". وماذا يقدم عصر العقل شعاراً أفضل من هذا؟.


د - النتيجة

ما أسرع ما اعترف الناس "بروح القوانين" حدثاً ضخماً في الأدب الفرنسي، ولكن النقاد تلقفوه عن اليمين وعن الشمال. فالجانسنيون واليسوعيون، وهم على طرفي نقيض عادة، اتفقوا على مهاجمته على أنه رفض ماكر خبيث للمسيحية. وقالت جريدة "أخبار الكنيسة" وهي لسان حال أتباع جانسن: "إن الجمل المعترضة التي يضعها المؤلف ليقول لنا أنه مسيحي تؤكد لنا توكيداً هزيلاً أنه كاثوليكي، وإن المؤلف ليسخر من سذاجتنا إذا حسبناه على غير ما هو عليه". وختم المحرر حديثه بنداء وجهه إلى السلطات المدنية باتخاذ إجراء ضد الكتاب(116). واتهم اليسوعيون مونتسكيو باتباعه فلسفة سبينوزا وهوبز، بافتراضه وجود قوانين في التاريخ مثلما هي في العلوم الطبيعية، ولم يترك مجالاً لحرية الإرادة. ودافع الأب برتييه في صحيفة "تريفو" اليسوعية عن أن الحق والعدل مطلقان، وليسا نسبيين تبعاً للمكان والزمان، وإن القوانين يجب أن ترتكز على مبادئ عامة من الله، لا على تنوعات المناخ والتربة والعرف والخلق القومي(117) ورأى منتسكيو أنه من الحكمة أن يصدر في 1750 "دفاعاً عن روح القوانين"، تتصل فيه من الحاد والمادية والجبرية، وأكد من جديد مسيحيته. ولكن رجال الدين ظلوا غير مقتنعين.

وكان الفلاسفة الناشئون في ذات الوقت مستائين، حيث اعتبروا روح القوانين كتيباً في المحافظة على القديم، واستاءوا من روعه العارض واعتدال إصلاحاته المقترحة، ومفهومه الهزيل الفاتر على التسامح الديني(118). وكتب هلفشيوس إلى مونتسكيو يعنفه على تركيزه السديد على أخطار التغيير الاجتماعي والمصاعب التي تعترضه(119). أما فولتير الذي كان يعد كتابه عن الفلسفة التاريخ في البحث "في الأعراف"، فإنه لم يكن متحمساً لعمل مونتسكيو. ولم يكن قد نسي معارضة السيد الرئيس لانضمامه إلى الأكاديمية بقوله: عار على الأكاديمية أن يكون فولتير عضواً فيها، وسيكون العار عليه يوماً ما ألا يكون عضواً فيها(120)".

وتوقف نقد فولتير تحت ضغط الظروف، وتحول إلى إطراء غير متحمس واعتراض بأن مونتسكيو كان مبالغاً في تأثير المناخ. ولاحظ أن المسيحية نشأت في أرض اليهود الحارة، وأنها لا تزال مزدهرة في النرويج القارصة البرد، ورأى أنه من الأرجح أن إنجلترا تحولت إلى البروتستانتية لأن آن بولين كانت جميلة، لا لأن هنري الثامن كان فاتراً(121). وإذا كانت روح الحرية نشأت-كما ذهب إليه مونتسيكو، في الأقاليم الجبلية، فكيف تفسر قيام الجمهورية الهولندية القوية، أو "حق اعتراض"، اللوردات البولنديين (وفي القاموس الفلسفي) دون صفحات كثيرة تتضمن أمثلة تدل على أن للمناخ بعض الأثر، ولكن للحكومة أثراً كبر منه مائة مرة ولكن للديانة والحكومة معاً، أثراً أكبر من هذا بكثير(122)). إننا لنسأل الذين يؤمنون بأن المناخ يفعل كل شيء (لم يزعم مونتسكيو هذا) لماذا يقول الإمبراطور جوليان في رسائله إن الذي سره في الباريسيين هو خلقهم الوقور وعاداتهم الصارمة، ولماذا نرى الباريسيين الآن، دون أدنى تغيير في المناخ، أطفالاً لعوبين هازلين، وهو أمر تعاقبهم عليه الحكومة وتسخر منهم من أجله، وفي نفس الوقت، كما أنهم هم أنفسهم يسخرون، في لحظة تالية من سادتهم ويهجونهم هجاء لاذعاً(123).

ووجد فولتير الجواب:

إنه الانقباض أو الاكتتاب، وهو عكس ما يرددونه في كثير من الإستشهادات والحكم والمثال، ولكنه دائماً الحقيقة تقريباً... "فالناس في المناطق الحارة جبناء مثل العجائز، أما في المناخ البارد فهم شجعان مثل الشبان". "إننا يجدر بنا أن نكون على حذر من أن بعض القضايا العامة. تفلت منا، وما كان في مقدور أحد أن يجعل من سكان لابلند أو الأسكيمو محاربين على حين أن العرب فتحوا في ثمانين عاماً من الأقاليم ما فاق فتوحات الإمبراطورية الرومانية بأسرها(124).

ثم يمتدح فولتير "روح القوانين" فيقول: "بعد أن أقنعنا أنفسنا على هذا النحو بأن الأخطاء كثيرة في ، "روح القوانين..." وأن هذا العمل ينقصه النهج، كما تعوزه خطة العمل والنظام، فقد يليق بنا أن نتساءل ما الذي أضاف عليه هذه القيمة الكبيرة، وأدى إلى شهرته العظيمة. إنه في المقام الأول مكتوب بذكاء عظيم، على حين أن من ألفوا في هذا الموضوع كانت كتاباتهم مملة تبعث على السأم والضجر. وعلى هذا الأساس رأت إحدى السيدات (مدام دي ديفان) وهي تتمتع بذكاء مثل ذكاء مونتسكيو أن الكتاب هو "الذكاء في القوانين"، وهو أصح تعريف له. وثمة سبب أقوى وهو أن الكتاب يعرض وجهات نظر أو آراء عظيمة ويهاجم الطغيان والخرافة والضرائب الفادحة... إن مونتسكيو كاد أن يكون على خلاف مع العلماء لأنه ليس عالماً، ولكنه كان دائماً على حق تقريباً ضد المتعصبين ومتعهدي الرقيق. أن أوربا مدينة له بالشكر والامتنان على الدوام(125). وأضاف في موضع آخر: "إن الإنسانية كانت قد ضيعت أعمالها المجيدة (من أجل الحرية) واستردها مونتسكيو(126).

واتفق النقد المتأخر مع فولتير إلى حد كبير على حين اعترض على مبالغاته(127). حقاً إن أسلوب الكتاب كان ضعيفاً، مع قليل من المنطق في ترتيب الكتاب وتسلسل موضوعاته ونسيان للفكرة الأساسية التي تحكم الربط بين أجزائه. وفي تحمس مونتسكيو ليكون عالماً، يجمع الحقائق ويفسرها، لم يعد فناناً. أنه ضيع الكل في الأجزاء، بدلاً من تنسيق الأجزاء في كل منسق. وكان قد قضى في جمع مادة الكتاب أكثر من نصف عمره، وكتبه في نحو عشرين عاماً، وأساء التأليف المتقطع إلى وحدة الكتاب، وتسرع في الوصول إلى أحكام عامة من أمثلة قليلة ولم يفتش عن أمثلة تنقضها-مثال ذلك أيرلندة الكاثوليكية في الشمال البارد ومن ثم يجب أن تكون بروتستانتية وتخلى من منهجه حين قال: "لقد وضعت المبادئ الأولى ووجدت أن الحالات الخاصة لا بد أن تكون صحيحة بالضرورة بشكل طبيعي، وأن تاريخ كل الأمم ليس إلا نتائج لهذه المبادئ "فهذا هو خطر تناول التاريخ بفلسفة يثبتها عن طريق هذا التاريخ وعند جمع مادة الكتاب قبل مونتسكيو كل بيانات السائحين دون تحقيق ولا تدقيق، وفي بعض الأحيان أخذ الخرافات والأساطير على إنها تاريخ، بل أن ملاحظاته المباشرة كان يمكن أن تكون خاطئة، ومن ذلك أنه رأى "فصلاً بين السلطات" وفي حكومة إنجلترا على حين أنه كان من الواضح أن السلطة التشريعية هناك كانت تغطي على السلطة التنفيذية.

وإلى جانب هذه الأخطاء لا بد أنه كان للكتاب مزايا أدت إلى الترحيب به وتأثيره. إن فولتير حدد أسلوبه بحق، على أن الأسلوب أيضاً عانى من شظايا المعلومات لا المعلومات الكاملة المستوفاة. وأولع مونتسكيو بالفصول القصيرة وربما كان هذا وسيلة للتركيز، مثال ذلك الفصل الذي كتبه عن الحكم الاستبدادي المطلق، مما أدى إلى التقطع وعدم الترابط مما عوق تدفق الفكرة. وربما كان جزء من عدم استيفاء البحث راجعاً إلى تفاقم ضعف بصره مما اضطره إلى الإملاء بدلاً من الكتابة. وعندما كان يتمتع بكامل قوته وحيويته حقق في عبارات قوية واضحة بعضاً من الإشراق والروعة في الرسائل الفارسية. ويروي فولتير أن في "روح القوانين من العبارات الساخرة أكثر مما يليق بكتاب في القانون. يقول مونتسكيو "إن الناس فينيسيا مقترون غاية التقتير إلى حد أنه من أجل المومسات وحدهن يستطيع الرجال أن يغادروا البيت ومعهم نقود(128)". وهذا، على الرغم من كل شيء، أسلوب وقدر معتدل هادئ وهو في بعض الأحيان غامض ولكنه يعوض عن حل الألغاز.

وكان مونتسكيو متواضعاً كما كان مصيباً في أنه أرجع جزءاً من قيمة الكتاب إلى موضوعه وهدفه. أنك لكي تعثر على قوانين في القوانين، وعلى نظام في تنوعها تبعاً للمكان والزمان، ولكي تعمل علة تنوير الحكام والمصلحين عن طريق دراسة مصادر التشريع وحدوده بالنسبة لطبيعة ومكان الدول والناس-فهذا عمل جليل ضخم تقتضي ضخامته وجلاله الصفح عن الزلات. وأخفق هربرت سبنسر في نفس هذا العمل بعد ذلك بمائة وثمانية وأربعين عاماً، وعلى الرغم من عدد كبير من المعاونين في البحث، وبسبب نفس الرغبة في استخلاص أحكام عامة، ولكن كلنا المحاولين كأننا زيادة في الحكمة. ولكن كتاب مونتسكيو كان. أفضل وهناك الناس سبقوه ولم يكن هو البادئ بالتأليف في هذا الموضوع، ولكنه عجل بوضع المنهج التاريخي بقوة للدراسة المقارنة للنظم. ولقد سبق فولتير في وضع فلسفة للتاريخ مستقلة عن الأسباب الخارقة للطبيعة وبلغ آفاقاً واسعة ونزاهة في الرأي لم يبلغها فولتير. إن بيرك أطلق على مونتسكيو "أعظم عبقرية نورت هذا العصر(130)واعتبره بين تين أعقل وأحكم وأكثر الرجال اتزاناً في هذا العصر(131)ورأى هوراس ورلبول أن روح القوانين أحسن كتاب ظهر على الإطلاق(132)وقد لا يكون هذا صحيحاً ولكنه أحسن كتاب ظهر في هذا الجيل.

لقد أنهك هذا الكتاب مؤلفه. وكتب إلى أحد الأصدقاء: أعترف لك أن هذا الكتاب قتلني. سأخلد إلى الراحة ولن أعمل شيئاً بعد الآن(133) وعلى الرغم من ذلك استمر يدرس ويبحث. وكان يقول "الدراسة بالنسبة لي هي خير علاج لكل خيبة أمل في الحياة. ولم أجد ضيقاً إلا فرج من كرته ساعة قضيتها في القراءة(134).

وزار باريس من حين لآخر وسعد بشهرته هناك التي كانت تضارع شهرة فولتير آنذاك (1748). ويقول رينال لقد جذب كتاب روح القوانين انتباه كل الشعب الفرنسي. إننا نجده في مكتبات علماءنا ودارسينا وعلى منضدة زينة سيداتنا وعند كل شبابنا المتأنق(135)ورحبوا بالمؤلف من جديد في الصالونات واستقبلوه في البلاط الملكي، ولكنه قضى معظم الوقت في لابيرد حيث قنع بأن يكون سيداً عظيماً. وسر الإنجليز بالكتاب أيما سرور حتى أنهم طلبوا من أعداداً وفيرة. وفي سنيه الأخيرة كاد أن يصاب بالعمى، وكان يقول "يبدو لي أن الأثير الخفيف من البصر الذي بقي لي ليس إلا فجر اليوم الذي تغلق فيه عيناي إلى الأبد(136)وفي 1754 قصد إلى باريس لإنهاء إيجار بيته هناك، ولكنه أثناء تلك الزيارة أصيب بالتهاب رئوي وقضى نحبه في 10 فبراير 1755 وهو في السادسة والستين وتناول الأسرار المقدسة الكاثوليكية. وكان الأديب الوحيد الذي شيع جنازته هو ديدرو وهو من أتباع مذهب اللاأدرية(137)وذاع صيته وامتد أثره على مر القرون. وكتب جيبون: "على مدى أربعين عاماً منذ صدور روح القوانين لم يقبل الناس على قراءة كتاب أو نقده أكثر منه. وليست روح البحث والتحقيق التي أثارها أقل مآثر الكاتب علينا(138)" وكان جيبون وبلاكستون وبيرك من بين من أفادوا من روح القوانين وعظمة الرومان واضمحلالهم وعده فودريك الأكبر أحسن كتاب بعد كتاب الأمير، ورأت كثرين الكبرى أنه ينبغي أن يكون كتاب الصلوات اليومية لدى الملوك(139)واقتبست فقرات منه للرجال الذين عينتهم لمراجعة القوانين الروسية. ولم ينقل واضعوا مسودة الدستور الأمريكي عن مونتسكيو نظرية فصل السلطات فحسب بل استبعاد أعضاء الوزارة من الكونجرس كذلك وتضمنت كتاباتهم كثيراً من الاقتباسات من الكتاب. وأصبح روح القوانين الكتاب المقدس عند الزعماء المعتدلين في الثورة الفرنسية تقريباً ونشأ عن كتاب عظمة الرومان واضمحلالهم بعض إعجابهم بالجمهورية عند الرومان. ويقول فاجيه أن كل الأفكار الحديثة العظيمة بدأت بمونتسكيو(141) وعلى مدى جيل من الزمان كان مونتسكيو، لا فولتير، هو صوت العقل وبطله في فرنسا.