قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 1 ف 6

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 11903

قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> التصوير والموسيقى -> المصورون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السادس: التصوير والموسيقى 1714-1756

المصورون

لم تكن إنجلترا التي سطع نورها الأصيل في عالم الأدب والسياسة سوى تابع متواضع في دنيا الموسيقى والتصوير. وكان لتخلفها في التصوير أسباب كثيرة، ليست منها أجواؤها الممتعة، فالأجواء أعتمت في الأراضي المنخفضة كذلك، ومع ذلك حفلت هولندا بمصورين كثيرين كثرة طواحين هوائها. وربما كان المانش أحد الأسباب، لأنه كان أشبه بالترس منع عن إنجلترا الفنون كما وقاها حروب القارة، وربما كانت الموهبة الإنجليزية غارقة في التجارة وفي الحرب بعد ولبول. وقد تلام البروتستنتية على ركود الفن الإنجليزي، لأن الفن ينمو ويترعرع على الخيال، والبروتستنتية أقصت الخيال عن الفن وكرسته للأدب واللاهوت، ولكن يرد على هذا أيضاً بأن هولندا كانت بروتستنتية. وأغلب الظن أن العامل الأهم كان الثورة والتراث البيورتانيين؛ إعدام تشارلز الأول عاشق الفن، وتشتيت مجموعته الفنية، وانحسار الذهن الإنجليزي-باستثناء ملتن-خلال فوضى الجمهورية (الكومنولث). وقد طأطأ التأثير البيورتاني رأسه خلال عودة الملكية، ولكنه عاد يرفعه مع وليم الثالث والهانوفريين، ثم اتخذ في المثودية صورة منبعثة من القوة، وغدا الجمال خطيئة مرة أخرى.

كان هناك منجزات صغيرة في الفنون الصغرى. من ذلك أن الخزف البديع الناعم العجينة صنع في تشلسي (1755) تقليداً لخزف مايسين وسيفر. وأثرى خزافو برمنجهام من صنع الآنية من اللك (اللاكيه). وبلغ ثراء أحدهم، واسمه جون بسكرفيل، مبلغاً أتاح له إشباع هوايته بطبع طبعات جميلة للشعراء الإنجليز. وزينت حنايا الركوك المتسمة بالخيال الجامح الكتب والقماش والأثاث والأواني وفضة شفيلد وقاعة الروتندا في حدائق فوكسهول، وبعض الحجرات في قصر تشسترفيلد وسترويري هل.

أما المثالون فقد كان الناس قد بدءوا يفرقون بينهم وبين البنائين. وكان أقطاب المثالين في إنجلترا أجانب المولد وأن أصبحوا عادة مواكنين بريطانيين. فوفد بيتر شاميكرز من أنتوبرت، وأشرك مع لوران ديلفو في نحت تمثال دوق بكنجهام ونورمانديه في دير وستمنستر. وكان أعظم هؤلاء الأجانب لوي روبياك، وهو ابن مصرفي من ليدن، قدم إلى إنجلترا في 1744 وارتقى سريعاً بفضل رعاية آل ولبول. وقد نفذ تمثال شكسبير النصفي المعروض الآن بالمتحف البريطاني، وتمثال هندل المعروض بقاعة الصور القومية، وحبته الملكة كارولين برعايتها، وجلست إليه ليصنع لها تمثالاً، وكلفه بأن ينحت تماثيل نصفية لبويل، ونيوتن، ولوك، وغيرهم من أفاضل الإنجليز لتضعها في مغارتها برتشموند. وقد لقب تشسترفيلد (وكان ذواقة للفنون) روبياك-"فيدياس زمانه(1)". ومات روبياك مفلساً في 1762 بعد أن عاش حياة ملؤها التفاني في خدمة فنه.

أما العمارة فكانت في نشوة من فن اللاديو. ذلك أن الثروة الصاعدة التي حققتها الطبقات العليا التي أثرت وهي متبرمة في ظل السلام الولبولي قد مولت مئات الرحلة الكبرى، التي تشرب فيها السادة البريطانيون حب معابد الرومان وقصور النهضة. وكانت البندقية دائماً تدخل في أسفارهم، فيقف المسافرون في الطريق عند فتشنتسا ليعجبوا بواجهات باللاديو، فإذا عادوا ملأوا إنجلترا بالأعمدة والأعتاب والقواصر الكلاسيكية. وفي 1715-25 أصدر كولين كامبل كتابه "فتروفيوس بريتانيكوس" الذي أصبح إنجيل البللاديويين، ودفع وليم كنت (1727) وجيمس جبز (1728) الطراز دفعة أخرى بتأليف كتيبات في العمارة، وفي 1716 نشر رتشرد بويل، ايرل برلنجتن الثالث، طبعة فاخرة من نصوص باللاديو، وفي 1730 نشر ترميمات باللاديو للصروح القديمة. واحتوى بيته الريفي في تشزيك على نسخة من "فيللا روتندا" التي بناها باللاديو في فتشنتسا، برواقها المعمد وقبتها الوسطى. وكان برلنجتن راعياً سخياً للأدب والموسيقى والفن، وصديقاً لباركلي وهندل وبوب وجاي.

وفي 1719 جلب من روما معه معمارياً شاباً يدعى وليم كنت ظفر بجائزة بابوية على رسومه، وكان شديد التحمس لكل ما هو كلاسيكي. وغدا كنت أحب الفنانين وأحفلهم بالمواهب في إنجلترا، بعد أن سكن قصر برلنجتن حتى وفاته (والقصر ما زال بعد تجديده مركزاً من مراكز الفن الإنجليزي) فصور أسقف قصور هوتن وستو وكنزنجتن؛ وصمم الأثاث وصحاف الطعام والمرايا والزجاج، ومركباً للمهرجانات وملابس لسيدات المجتمع، ونحت تمثال شكسبير في دير وستمنستر؛ وكان ممن تزعموا حركة تشجيع الحديقة الإنجليزية "الطبيعية"؛ وفي ميدان العمارة شديد معبد الفضيلة القديمة في حدائق ستو، وقصر ديفونشير ببيكاديللي، وقصر حس الخيالة في هوايتهول، وقاعة هولكم المدهشة في نورفوك.

وفي 1738 رفع اللورد برلنجتن إلى مجلس مدينة لندن تصميم كنت البللاديوي لمسكن عمدة لندن "مانشن هاوس"، واعترض عضو بأن باللاديو كان بابوياً، فرفض تصميم كنت، وتلقى جورج دانس الأب التكليف (وكان بروتستنتياً) وقام به خير قيام. ولكن في ذلك العام بدأت الحفائر في هركولانيوم، وأفضت الكشوف إلى على الحفر عن بومبيي (1748 وما بعدها)، وفي 1753 نشر روبرت وود "أطلال بلميرا (تدمر)" وفي 1757 "أطلال بعلبك"، وأعطت هذه الكشوف للحملة الكلاسيكية في إنجلترا دفعة لا تقاوم، ووضعت حداً لوفرة التزويق الباروكي الذي ازدهر في قصر فانبروج "بلنهيم" الذي بنى لأسرة تشرشل. وفي 1748 بنى إسحاق وير، وهو معماري آخر كان يرعاه برلنجتن، قصر تشسترفيلد في شارع كرزن.

وقد فات البالاديويين في تحمسهم هذا أن العمارة الكلاسيكية إنما صممت لأجواء البحر المتوسط لا لرياح إنجلترا وغيومها. وأخطأ كولن كامبل خطأً جسيماً بنقله عن النماذج الإيطالية دون أن يطوعها لشتاء إنجلترا؛ فقلعة ميروث التي بناها لم تسمح إلا لبصيص من أشعة الشمس بدخولها، أما قاعة هوتن التي شادها لروبرت ولبول فقد ضحت بحجرات المعيشة إيثاراً للصالات الفخمة التي تلقف التيارات الشديدة البرودة. واستخدم جيمز جبز، أحد تلاميذ كرستوفر رن، الطراز الكلاسيكي استخداماً رائع التأثير في كنيسة سانت ماري-لستراند بلندن (1714-17)، وبرج هذه الكنيسة أشبه بأغنية من الحجر. وأضاف جبز (1719) إلى كنيسة سانت كلمنت دين التي بناها رن برجاً يعلو علواً لا يتناسب مع قاعدته، ولكنه مع ذلك جميل جمالاً محفوفاً بالخطر. وتوج عمله في 1721 برواق كلاسيكي وأعمدة كورنثية في سانت مارتنز-أن-ذفيلدز، بميدان ترافلجار. وأخيراً خلق في مكتبة رادكليف بأكسفورد (1737-47) لحناً منسجماً من الأعمدة والقبة.

أما بهاء باث المعماري فالفضل الأول فيه لجون وود. وكانت الفكرة المسيطرة عليه هي ربط المباني المفردة في كتلة واحدة، ومن ثم صمم وبدأ-وأكمل ابنه جون بكفاية-"الهلال الملكي" الضخم-وهو ثلاثون بيتاً وراء واجهة موحدة من 114 عموداً كورنثياً-دمرت تدميراً شديداً في الحرب العالمية الثانية، ولكن أمكن ترميمها. وعلى مقربة من هذا المكان بنى وود الأب والابن "السيركس" (الميدان) (157-46)، وهو دائرة جميلة من المساكن يكسو واجهتها فريز متصل وثلاثة صفوف من الأعمدة؛ هنا سكن بت الأب، وتوماس جينزبورو، وكليف حاكم الهند. وصمم وود-دون أن يكمل-لجوانب ثلاثة من "كوين سكوير" سلسلة أخرى من المنازل الموحدة وراء واجهة تحكي واجهات قصور النهضة. والكثير من هذا البرنامج، برنامج تصميم وبناء المدن، موله رالف ألين الذي اتخذه فيلدنج نموذجاً صاغ على غراره "سكواير أولورذي". وبنى وود الأب لألن قصراً فاخراً بلاديوي الطراز في يرايور بارك (1735-43)، خارج باث بميلين. لقد كان فقر جماهير بريطانيا يعدله بهاء قصورها. فقد تكلف معبد ألن في برايور بارك 240.000 جنيه. وأوحت نزوة المباراة للنبلاء والتجار بإقامة القصور الضخمة للضيافة والتباهي. ويقول هرفي أن روبرت ولبول اكتسب عداء اللورد تاونشند الأبدي ببنائه هوتن هول على مستوى أشد ترفاً حتى من قصر تاونشند المجاور المسمى رينهام بارك. وقد ندد اللورد لتلتن بهذا "الجنون الوبائي" جنون بناء القصور، ومع ذلك طالبت زوجته بقصر جديد يبنى على الطراز الإيطالي، فأذعن لها تحت ضغط الإلحاح وإلى حد أشرف به على الإفلاس. فلما تم بناء القصر هجرت زوجتها إلى مغنى أوبرا إيطالي مشكوك في رجولته، وسرعان ما انتشرت في إنجلترا، وحتى في إيرلندة الإنجليزية، أمثال هذه البيوت المظهرية التي بناها الأغنياء. ونظمت الرحلات السياحية، ونشرت الكتب المرشدة، لزيارة هذه المساكن الفخمة وحدائقها وقاعات صورها. وطبقت شهرة هذه الصروح الآفاق حتى بلغت روسيا، فطلبت كاترين الكبرى إلى جوسيا ودجوود أن يصنع لها طقم مائدة إمبراطورياً مزيناً بمناظر من قصور الريف الإنجليزية(2).

وأودعت معظم الصور في إنجلترا، وأخفيت في كثير من الحالات، في هذه البيوت الأرستقراطية إذا لم يكن هناك بعد متاحف يستطيع الجمهور العام أن يشاهد فيها الصور. وكانت الرعاية تغدق بوجه خاص على الفنانين الأجانب، وكلها تقريباً لقاء لوحات تصور الأعيان الذين داعبهم الأمل في أن يخلدوا على القماش بينما تبلي أجسادهم داخل توابيت من الخشب؛ ولم يكن هناك سوق للمناظر الطبيعية ولا للوحات "التاريخية". فلما وفد كارل فانلو على إنجلترا في 1737 تهافت الكثير جداً من الوجوه النبيلة عليه ليصورها، حتى أن رتل العربات المقتربة من بيته ظل أسابيع ينافس ذلك الواقف أمام المسارح. ودفعت المبالغ الطائلة للرجل الذي كان يسجل مواعيده رشوة يؤدونها له ليسبقوا غيرهم وإلا فقد يضطر الواحد منهم إلى الانتظار ستة أسابيع(3).

"وحاولت "الجمعية الملكية للفنون" التي أسست عام 1754 أن تشجع المواهب الوطنية بالمباريات والمعارض، ولكن الطلب على التصوير الإنجليزي تباطأ جيلاً آخر. وظفر جوزف هايمور، وهو تلميذ لننلر، ببعض المشترين للوحاته حين رسم مشاهد من رواية "باملا(4)"؛ والتقط توماس هدسن بعض حيوية هندل في لوحته التي رسمها له في 1749(5). وكان من تلاميذ هدسن مصور يدعى جوشوا رينولدز، تنبأ أستاذه بأنه "لن ينبغ أبداً(6)". ولكن السر جيمس ثورنهل كان أبعد نظراً. فقد حقق نجاحاً بصور نيوتن، وبنتلي، وستيل، وصور القبة الداخلية لكنيسة القديس بولس، وأسقف مستشفى جرينتش وقصر بلنهيم، وأحرز الخلود بالإنابة، لأنه زوج ابنته لأعظم مصوري العصر الإنجليز قاطبةً.


وليم هوجارث 1697-1764

كان أبوه مدرساً وكاتباً أجيراً، ألحقه في صباه بنقاش للأسلحة. وانتقل من ذلك إلى الحفر على النحاس، ثم إلى رسم الرسوم الإيضاحية للكتب. وفي 1726 أعد اثنتي عشرة محفورة (كلشيهات) كبيرة لكتاب بطلر "هوديبراس". ثم التحق بفصل التصوير الذي كان يعلم فيه ثورنهل، وتعلم التصوير بالزيت، ثم هرب مع ابنة أستاذه، وصفح عنه ثورنهل وعينه مساعداً له. كانت الرسوم الإيضاحية التي رسمها هوجارث لمسرحية العاصفة، ولمسرحيتي هنري الرابع، ولأوبرا الشحاذ، صوراً نابضة بالحياة. فميراندا رقيقة حنون، وكالبان فظ غليظ، وبرسبرو عطوف كريم، وايريل يداعب مزهراً في الهواء، والسير جون فلستاف يتكلم من كرشه بخيلاء، والكابتن ماكهيث في أغلاله وألحانه، بطل في العيون زوجاته رغم كل شيء. ووقع هجاء المستقبل على ذلك العرق الذي تميز به، وذلك في لوحة "المصلين النيام"، فقد كره هوجارث كل المواعظ إلا مواعظه؛ أما في "حفلة الأطفال" فقد تلذذ بأجمل جوانب الحياة الإنجليزية. وهذه الصور تلذنا الآن، ولكنها لم تأته بثناء وقتها. وجرت تصوير الأشخاص ولكنه لم يحقق نتائج تذكر، وكانت المنافسة قاسية، فأكثر من عشرة مصورين يجمعون ثروات صغيرة بتملق زبائنهم وتوزيع العمل على مساعديهم؛فهم يرسمون الرأس ولكنهم يحيلون رسم الخلفيات والستائر لمساعدين يخبسونهم أجورهم. يقول هوجارث "وكل هذا يتم بسرعة مريحة تتيح الرئيس الحصول في أسبوع واحد على مال أكثر مما يستطيع أن يحصل عليه رجل ذو مواهب فنية من أعلى المراتب في ثلاثة أشهر(7)". وندد بتجار الوجوه هؤلاء الذين جملوا وجوه زبائنهم إشباعاً لغرورهم واستدراراً لمالهم. أما هو فمذهبه أن يصور زبائنه بكل ما فيهم من دمامل وإلا فلا. فلما جلس إليه نبيل تغلب عليه سيماء القردة صوره هوجارث بإهانة مؤذية. ورفض اللورد أن يأخذ صورته إذ لم يكن قد رأى نفسه قط كما يراه الآخرون. فأرسل إليه المصور رسالة جاء فيها:

"المستر هوجارث يقدم إحتراماته الواجبة للورد-وإذا وجد أنه لا يريد أن يأخذ الصورة التي رسمت له، فهو يذكره مرة أخرى بحاجة المستر هوجارث إلى المال. فإذا لم يرسل سيادته في طلب الصورة خلال ثلاثة أيام، فسيبيعها، بعد إضافة ذيل وغيره من الملحقات الصغيرة، إلى المستر هير مقتني الوحوش الشهير؛ لأن المستر هوجارث قطع لذلك السيد عهداً بإعطائه الصورة لعرضها في معرض للصور(8)".

ودفع اللورد المال. وكان هوجارث واثقاً من أن في استطاعته أن يرسم صور الأشخاص كأي فنان قدير. وبينما كان يصور هنري فوكس (البارون هولاند فيما بعد) أخبر هوراس ولبول أنه وعد فوكس أنه إذا جلس متبعاً تعليماته فإنه سيرسم له صورة لا تقل روعة عن صور روبنز أو فانديك(9)، وهو ما صدم هوراس في الصميم من تقاليده. وربما برر كثير من لوحات هوجارث التي رسمها للذكور استنكاراً ولبول لها، فالوجوه "مقلوبة" جداً، وبعضها يستحق وصف هوجارث الهازئ لبعض الصور الإنجليزية بالـ "ساكنة" ولكن يجب أن نستثني منها لوحة "السر توماس كورام" التي أسلفنا ذكرها في معرض الحديث عن الاحتفال بمستشفى اللقطاء الذي أسسه كورام، والذي ترى فيه صورته، فقد التقط هوجارث الطبيعة البارة بالناس في الوجه المبتسم، والخلق الحازم في اليدين المقبوضتين. ولقد كانت فرشاته، بوجه عام، أرفق بالنساء منها بالرجال. مثال ذلك أن "صورة سيدة" تنافس صور جانزبورو، وصورة "سيدة في ثياب بنية(11)" لها الملامح القوية لامرأة أفلحت في تربية أطفال كثيرين؛ وإذا كانت صورة "الآنسة ماري إدواردز(12)" ميتة نوعاً ما، فإن الكلب-وهو حاضر دائماً في لوحات هوجارث-يبعث فيها الحياة، وأروع من هذه الصور اللوحات الجماعية مثل "أسرة برايس(13)" و "أبناء جراهام(14)" وأفضل حتى من ذه "خدم هوجارث(15)"، حيث ترى كل وجه مرسوماً في حب بكل طابعه المتفرد. وأبدع صوره كلها بالطبع هي "بائعة الجمبري(16)"-وهي ليست لوحة شخصية بل ذكرى رجل سليم قوي الصبية التي رآها تبيع الجمبري من سلسلة متزنة على رأسها؛ فتاة عطلت من كل زينة أو زخرف، لا تستحي من الأسمال التي تكسوها، تطل على الدنيا وقد توردت وجنتاها وتألقت عيناها صحة وعافية بفضل الحركة والنشاط.

وقد ترك هوجارث على الأقل أربع لوحات صور نفسه فيها. ففي 1745 صور نفسه مع كلبه السمين "ترمب(17)". وفي 1752 أرانا نفسه جالساً إلى حامله، جسم قصير متين، ووجه مستدير قصير سمين، وأنف أفطس عريض، وعينان زرقاوان أتعبهما طوال النضال وشفتان مزمومتان تحفزا لاستئناف النضال. كان في رأي ثكرى "مواطناً لندنياً أميناً مرحاً، ورجلاً مخلصاً صريحاً، يحب نكتته، وأصحابه، وكأسه، وروزبيفه-روزبيف إنجلترا العجوز(18)". ولم يكن يصل طوله غلى خمسة أقدام، ولكنه كان يحمل سيفاً(19) ولا يطيق اللغو من أي إنسان. ووراء حبه للقتال دفاعاً عن النفس قلب محب، مسرف في العاطفة أحياناً، قطع على نفسه العهد أبداً بشن الحرب على النفاق والقسوة. وكان يحتقر النبلاء الذين يصورهم، ويحب اللندني البسيط البريء من الخيلاء. وقد أدخل الجماهير الإنجليزية إلى دنيا الفن، فصورهم في آثامهم وآلامهم، في مستشفى المجاذيب، والسجن، والدين، والكد المضني. وكره الفرنسيين لأنهم أفسدوا الإنجليز بغلوهم في الزينة وبخيلائهم الأرستقراطية. ولم ينس قط أنه قبض عليه لأنه رسم رسوماً تخطيطية لبوابة كاليه، فثأر لنفسه بتصويره الفرنسيين كما رآهم هناك: عمالاً أجلافاً، وجمهوراً يؤمن بالخرافة، وراهباً بديناً يحدق بنشوة في كتف من لحم البقر(20).

وقد أنبأنا هوجارث في كتابه "نوادر" كيف حولته ضآلة ربحه من صوره إلى التجارة الذي أكسبه الشهرة، قال: "كرهت أن أنحدر إلى درك "صانع" الصور الشخصية، وإذ كنت لا أزال أصبو إلى الاستقلال في عملي، فقد طلقت كل أمل في الانتفاع من ذلك المورد.. وبما أني لم أستطع إقناع نفسي بالعمل كما يعمل بعض إخواني، وجعل تصوير الأشخاص ضرباً من الصناعة يدار بالاستعانة بمصوري الخلفيات والستائر، لذلك لم تحقق لي هذه الطريقة من الربح ما يكفي لسد نفقات أسرتي. ومن ثم وجهت أفكاري إلى رسم وحفر الموضوعات الخلفية العصرية، وهذا ميدان لم يطرق في أي بلد أو عصر(21)".

وعلى ذلك رسم في 1731 ست صور سماها "رحلة بغي"، وحفرها على النحاس، ومن هذه المحفورات صنع سلسلة من النسخ المطبوعة عرضت للبيع بعد عام، ترى فيها الفتاة القادمة من الريف تقدمها قوادة قاهرة على الإقناع إلى سيد ملهوف؛ والصبية سريعة التعلم، ولا تلبث أن تحرز ثراءً قبيحاً. ثم يقبض عليها لا للبغاء بل للسرقة، وتؤدي عملها المفروض عليها في السجن وهو نفض القنب، ثم تسير حثيثاً غلى المرض والموت، ولكن يعزيها أن يشجع جثمانه رهط من المومسات، وكان في استطاعة هوجارث أن ينقل شخوصه من الواقع دون مشقة أو عناء، فقد رأينا المسز نيدهام ينكل بها في المشهرة عقاباً لها على احترافها بالبغاء، ويحصبها الجمهور، وتموت من إصابتها. (ومع ذلك فإن الكولونيل تشارتريز، الذي اتهم مرتين بهتك العرض وحكم عليه مرتين بالإعدام، عفا عنه الملك مرتين، ومات في أبهة النبلاء بمقره بالريف(22)). وقد أخطأ هوجارث حين خيل إليه أنه طرق ميداناً جديداً في هذه الرسوم التي تمثل الحياة اليومية، فقد سبقها الكثير في إيطالية النهضة، وفي فرنسا، وفي الأراضي المنخفضة، وفي ألمانيا. ولكن هوجارث جعل الآن من "الموضوعات الخلقية" فناً وفلسفة. على أنه، ككل الأخلاقيين، لم يكن مبرأ من الإثم، فقد أطاق في غير اشمئزاز صحبة السكارى والبغايا(23)، واكن الهدف من صوره المطبوعة أولاً التكسب، ثم التبشير بالفضيلة إن أمكن.

وراجت صور "البغي" المطبوعة، فاستهوت ألفاً ومائتي مكتتب، ونيف ربحها الصافي على ألف جنيه. ومع أن طبقات مسروقة كانت تنتقص من ربح المصور، فإنها أبعدت شبح الجوع عن بابه. وأقبل الجمهور البريطاني في غير تردد على مناظر الخطيئة هذه، وهو الذي لم يكن به ولع باللوحات، فهنا فاكهة محرمة، طهرتها الفضيلة ولكنها لم تنتقص من بهجتها، وهنا يستطيع المرء لقاء ثمن زهيد أن يتعرف إلى الرذيلة وهو في مأمن، وأن يرقب عقابها الذي تستحقه وهو راض. واستطاع هوجارث الآن أن يطعم أسرته من مكاسبه، لا بل اتخذ مسكناً له في حي لستر فيلدز العصري، وعلق على بابه رأساً مذهباً يشير إلى مهنته فناناً. وقد اشترى بعد ذلك بيتاً ريفياً في كزيك.

ثم رسم صوراً كبيرة في السنوات القليلة التالية، لا سيما "مهرجان سذريك"-وهي لوحة "بروجلية" إنجليزية-ولوحة جماعية لطيفة تدعى "أسرة إدواردز" ولكنه عاد إلى رسومه المطبوعة في 1733، وعارض سلسلة "البغي" بسلسلة سماها "رحلة فاجر" ترى فيها شاباً طائشاً مفتوناً يرث فجأة تركة كبيرة، فيهجر أكسفورد غلى لندن، ويستمتع بالحانات والمومسات، ويبدد ماله، ويجر إلى السجن لعجزه عن الوفاء بديونه، ثم تنقذه خليلته التي نبذها، ويستعيد قدرته على الوفاء بديونه الزواج من كهله عوراء غنية، ولكنه يقامر بثروته الجديدة في نادي هوايت، فيودع السجن مرة أخرى، ويختتم سيرته مجنوناً في مستشفى "بدلام". لقد كانت تمثيلية أخلاقية في صور سهلة الفهم تصور قطاعاً من الحياة تصويراً دقيقاً. ولكن يحمي هوجارث سلسلة صور "الفاجر" المطبوعة من السرقة شن حملة تستهدف الحماية القانونية لحقوقه. وفي 1735 أقر البرلمان "قانوناً لتشجيع فنون الرسم، والحفر، والنقش الخ"، وهذا القانون، الذي تعارف الناس على تسميته "قانون هوجارث" أعطاه حقاً يعادل حق التأليف على صوره المطبوعة. وفي 1745 باع بالمزاد اللوحات التي حفر عنها سلسلتي "البغي" و "الفاجر"، فربح منها 427 جنيهاً.

وتوافرت له الآن الكفاية المالية والثقة بالنفس، فغزا غزوة أخرى في التصوير. "لقد راودتني بعض الآمال في أن ينجح فيما يسميه المغالون في إطراء الكتب "الأسلوب العظيم في تصوير التاريخ(24)". وفي العقد الممتد من 1735 إلى 1745 أنتج صوراً رائعة كان عليها أن تنتظر قرناً لتحظى بالتقدير. فلوحة "الشاعر المحزون(25)" هي القصة القديمة، قصة المؤلف الذي افتقر يطالب في إلحاح بإيجار مسكنه بينما تحيك زوجته في عصبية وينام قطه في رضي خلي من الهم. وحاولت لوحته "بركة بيت حسداً" رسم مشهد من الإنجيل، ولكن هوجارث تبله بحسناء نصف عارية تقف أمام المسيح وجهاً لوجه. ولم يكن الفنان معصوماً من إغراء جسد الأنثى، ففي محفورته "الممثلات المتجولات يرتدين ثيابهن في جرن" خلع على هذا الجسد الفتنة والإغراء بالثياب نصف المجردة. وتقرب لوحة "السامري الصالح(26)" من مستوى "أئمة التصوير القدامى". وألطف منها لوحة كبيرة سماها "ديفد جاريك في دور رتشارد الثالث(27)" وقد كلفه بها رجل يدعى دنكوم دفع فيها مائتي جنيه، وهذا أغلى ثمن دفع لمصور إنجليزي إلى ذلك الحين.

ومع ذلك لم تظفر هذه الأعمال باستحسان النقاد. فعاد هوجارث (175) إلى هجو الحياة اللندنية في محفورات أكد فيها المنقاش درساً أخلاقياً بقصة. ففي المشهد الأول من "الزواج العصري" يتعاقد إيرل مفلس مصاب بالنقرس ليزوج لقبه وابنه الكاره فتاة كارهة هي ابنة حاكم إقليمي غني. ويعرض الإيرل نسب الأسرة في شكل شجرة على درج، ويرش المحامي المسحوق المجفف على التوقيعات، ثم يدير العريس ظهره للعروس التي تلقى أذناً مصغية لعشيقها، ويختص كلبان نفسيهما بالسلام العائلي. وفي المنظر التالي يبدو الزوجان وقد تخاصما. فقد عاد اللورد الشاب منهوكاً من مغامرة أنفق فيها ليلة ودلت على طبيعتها قلنسوة فتاة من الدنتللا تطل من جيبه؛ أما الزوجة الشابة فتتثاءب بعد أن قضت الليل ترفه عن أصحابها بالموسيقى والقمار و "الدردشة"، وهنا أيضاً ليس هناك مخلوق سعيد إلا الكلب. أما المشهد الثالث فهو هوجارث في أجرأ حالاته، ترى فيه اللورد الوغد يأتي بخليلته إلى طبيب دجال ليجهضها. والنظر الرابع يرينا الزوجة أثناء ترجيل شعرها في استقبال الصباح، ونرى عشيقها معها وهي تتجاهل الموسيقى التي يعزفها أو يغنيها ضيوفها، وفيهم مخنث في شعره أوراق ملفوفة. وفي المنظر الخامس أمسكها زوجها متلبسة مع عشيقها، ويستل الرجلان سيفيهما، ويجرح الزوج جرحاً مميتاً، ويفر العشيق من النافذة، ويغلب الندم الزوجة ويظهر رجل الشرطة بالباب. وفي المنظر الأخير نرى الأرملة الشابة تحتضر، وينزع أبوها خاتماً ثميناً من إصبعها ليستنقذ البقية الباقية من الثروة التي دفعها ثمناً للقبها.

وفي 1751 أعلن هوجارث أنه سيبيع بالمزاد في ساعة محددة في مرسمه اللوحات الزيتية التي رسمها لسلسلة "الزواج العصري"، ولكنه أنذر تجار الصور أن يبتعدوا عن المزاد. فلم يظهر غير شخص واحد، عرض 126 جنيهاً ثمناً للوحات وأطرها. ونزل عنها هوجارث لقاء هذا الثمن، ولكن سخط في سره على ما رآه إخفاقاً معيباً. وفي 1797 بيعت هذه اللوحات بمبلغ 1.381 جنيه. وهي اليوم من أغلى ما تملكه قاعة الصور القومية بلندن.وكان أثناء ذلك قد أسخط الملك بلوحته "زحف فرقة الحرس إلى إسكتلندة" (1745) وكانت السنة التي حاول فيها "الأمير تشارلي الجميل" الإطاحة بالهانوفريين. وصور هوجارث رجال الحرس الملكي يتجمعون عند إحدى ضواحي لندن المسماة فنشلي. يدعوهم زمار وطبال، ويستعين الجند على تقبل قدرهم بالسكر، وهم جماعة مظهرهم زري، وأصلح للقصف في حانة منهم للقاء مع الموت في ساحة الأبطال، وأطلع جورج الثاني على اللوحة كطلب الفنان الذي استأذن في إهدائه إليه. ولكن الملك رفض وهو يصيح "ماذا؟ مصور يهزأ بجندي؟ أنه يستحق أن يحبس عقاباً على وقاحته. اغربوا باللوحة الحقيرة عن وجهي" وتقول رواية غير مؤكدة أن هوجارث أهدى الصورة إلى فردريك الأكبر بوصفه "مشجعاً للفنون والعلوم(28)".

وعاد إلى صوره المطبوعة الهجائية. فتتبع سيرة صبيين من صبيان الصناع في اثنتي عشرة لوحة سماها "الجد والكسل" (1747). فأما فرانك جوتشايلد فيكد ويكدح ويقرأ الكتب الجيدة ويختلف إلى الكنيسة كل أحد، ويتزوج ابنة معلمه ويحسن إلى الفقراء، ويصبح عمدة البلدة وحاكماً إقليمياً ثم عمدة على لندن، وأما توم أيدل فينام ويشخر فوق نوله، ويقرأ الكتب الخبيثة مثل "مول فلاندرز"، ويسكر ويقامر وينشل، ثم يؤتى به أمام الحاكم جودتشايلد الذي يحكم عليه بالشنق وهو يبكي شفقة عليه. وقابلت محفورتان، هما "زقاق الجن" و "شارع الجعة" (1751) بين "النتائج الرهيبة لشرب الجن" والآثار الصحية للجعة. أما "المراحل الأربع للقسوة" (1751) فقد قال الفنان إنها استهدفت "تهذيب تلك المعاملة الهمجية للحيوان، التي تجعل منظر شوارع عاصمتنا محزناً جداً لكل نفس حساسة. وإنني لأشد فخراً برسمي لهذه الصور مما لو كنت صاحب رسوم رفائيل الهزلية(29)". وفي سلسلة "صور أربع لأحد الانتخابات" (1755-58) استهدف شروطاً أبهض ثمناً، فقد هاجمت فساد السياسة الإنجليزية.

ولو أخذنا صور هوجارث المطبوعة على أنها مجرد رسوم لكانت فجو في فكرتها وتنفيذها متعجلة غير دقيقة في تفاصيلها. ولكنه كان ينظر إلى نفسه على أنه مؤلف أو كاتب مسرحي أكثر منه مصوراً، وقد أشبه صديقه فيلدنج أكثر من ألد خصومه وليم كنت، ولم يكن يعرض تقنيات التصوير بل يقدم صورة للعصر، "لقد حاولت تناول موضوعي كما يتناوله كاتب للدراما، فصورتي هي خشبة مسرحي، والرجال والنساء هم ممثلي الذين يراد منهم ببعض الحركات والإيماءات أن يقدموا عرضاً صامتاً(30)". ونحن إلى نظرنا إلى صوره المطبوعة على أنها هجائيات وجدناها مبالغات متعمدة، فهي تشدد على جانب وترهف نقطة وهي أكثر ازدحاماً بالتفاصيل مما ينبغي أن يكون عليه العمل الفني، ولكن كل تفصيل فيما عدا الكلب الذي لا مناص منه يسهم في الموضوع. وصوره المطبوعة في مجموعها تتيح لنا نظرة إلى طبقة لندن الوسطى-الدنيا في القرن الثامن عشر؛ البيوت، والحانات وحي المل، وكوفنت جاردن، وكوبري لندن، وتشيبسايد، وبرايدويل، وبدلام، وشارع فليت، وهذه ليست كل لندن، ولكن ما صوره منها ينبض بالحياة نبضاً رائعاً.

أما ناقدو الفن وجماعوه وتجاره في ذلك العهد فلم يعترفوا لا بكفاية هوجارث فناناً ولا بصدقه هجاء. فاتهموه بأنه لا يصور غير حثالة الحياة الإنجليزية، وسخروا منه لأنه اتجه إلى صور مطبوعة شعبية لعجزه عن تصوير اللوحات الشخصية الناجحة أو المناظر التاريخية. ونددوا برسمه لأنه مهمل وغير دقيق. وقد رد عليهم بأن اتهم التجار بأنهم يتآمرون على الإشادة بما يحتفظون به من مخلفات كبار المصورين القدامى، بينما يتركون الأحياء يتضورون جوعاً. قال:

"إن أفضل الصور صيانة وأكملها صقلاً، بغير تكريس لها من سلطتهم وتأييد من التقاليد... لا تباع في مزاد علني بخمسة شلنات، في حين أن لوحة قماشية عتيقة، حقيرة، معطوبة، مرممة، إذا كرسها ثناؤهم عليها، لا بد أن تباع بأي ثمن مهما غلا، وتحتل مكاناً بين أرقى المجموعات. كل هذا يفهمه التجار فهماً تاماً(31)".

وقد رفض أن يخضع رأيه لأمثال هؤلاء التجار أو الخبراء. وندد باسترقاق المصورين الإنجليز لمحاكاة فانديك أو للي أو نللر؛ لا بل إنه أطلق على عمالقة التصوير الإيطالي لقباً هزلياً هو "الأساتذة السود"، لأنهم ألقوا على التصوير الإنجليزي حجاباً كثيفاً بالسحر الأسود (الشيطاني) الكامن في ألوانهم القاتمة الشبيهة بالصلصة البنية. فلما بيعت لوحة منسوبة إلى كوريدجو بأربعمائة جنيه في مزاد بلندن، تشكك في صحة نسبتها وفي قيمتها، وقال إن في وسعه أن يرسم صورة لا تقل عنها جودة في أي وقت شاء. فلما تحداه بعضهم، رسم لوحة "سجسموندا" (1759)-وهي محاكاة جيدة لكوريدجو، فيها الدانتيللا والملابس الزاهية والأيدي الرقيقة والوجه الجميل، ولكن العينين كان يشوبهما من الاكتئاب ما لم يسر المشتري المنتظر، الذي أبى أن يدفع الجنيهات الأربعمائة التي طلبها هوجارث ثمناً لها. وقد بيعت بعد موته بستة وخمسين جنيهاً.

ثم أعطى خصومه سلاحاً جديداً بتأليفه كتاباً. فعلى لوحة الألوان الظاهرة في الصورة التي رسمها لنفسه ولكلبه (1745) كان قد تتبع خطاً ملتفاً لاح أنه العنصر الأساسي في الشكل الجميل. وقد عرف هذا الخط في رسالة تربوية سماها "تحليل الجمال" (1753) بأنه ذلك الخط الذي يتكون بلف سلك في توال مطرد حول مخروط، وذهب إلى أن خطاً كهذا ليس سر الجمال فحسب، بل حركة الحياة. وكان هذا كله في رأي نقاد هوجارث هراءً سخيفاً.

على أنه أثري برغم أنوفهم، فاقتنى كل بيت مثقف تقريباً صوره المطبوعة، وتاح له بيعها المتصل دخلاً ثابتاً. وفي 1757، وبعد أن نسيت لوحته "زحف فرقة الحرس"، عين "رئيس المصورين لكل أعمال جلالته"، وهي وظيفة أتته بمائتي جنيه أخرى في السنة. وكان في وسعه الآن أن يختصم أعداءً جدداً. ففي 1762 أصدر صورة مطبوعة سماها "العصر الحاضر" هاجم فيها بت وولكس وغيرهما لأنهما تجار حرب. ورد ولكس في مجلته "البريطاني الشمالي" يصف هوجارث بأنه عجوز مغرور جشع لا يستطيع تصور "فكرة واحدة عن الجمال" ورد هوجارث بنشره لوحة صور فيها ولكس وحشاً أحول. ورد تشرشل، صديق ولكس، بخطاب شرس سماه "رسالة إلى وليم هوجارث"، فأصدر هوجارث صورة مطبوعة بدا فيها تشرشل على هيئة دب، وكتب يقول "إن اللذة والفائدة المالية اللتين حصلت عليهما من هاتين المحفورتين، بالإضافة إلى ركوبي الخيل بين الحين والحين، أعادا إليَّ من الصحة الموفورة أكثر ما يرجى في مثل عمري". ولكن في 26 أكتوبر 1764 انفجر أحد شرايينه فمات.

ولم يترك بصمة منظورة على فن زمانه. وفي 134 افتتح "مدرسة حياة" ليدرب الفنانين، وقد أدمجت في 1768 في الأكاديمية الملكية للفنون. ولكن حتى الفنانون الذين تعلموا في مدرسته هجروا واقعيته مؤثرين عليها المثالية الفاشلة يومها. مثالية رينولدز وجينزبورو. على أن تأثيره أحس به الناس في مجال الكاريكاتور؛ هناك انتقلت فكاهته وقوته من توماس رولاندسن إلى إسحاق وجورج كرونشاك، وأصبح الكاريكاتور فناً. أما شهرة هوجارث الحالية مصوراً فقد بدأت بملاحظة لهويسلر قال فيها إن هوجارث "هو المصور الإنجليزي العظيم الوحيد(34)". وقد استثنى هويسلر نفسه في حرص من هذه المقارنة. وقال قاض أقل تحوطاً في تقديره لهوجارث "إننا لو نظرنا إليه في أفضل صورة لوجدناه أعظم شخصية في تصوير القرن الثامن عشر(35)". وهذا التقدير يمثل ما يشيع اليوم من بخس لقدر رينولدز بدعوى أنه كان مجملاً للأرستقراطيين همه جمع المال، وتلك نزوة عارضة ستختفي. ومن العسير تقييم هوجارث كفنان، لأنه لم يكن فناناً فحسب، فلقد كان صوت إنجلترا الغاضبة لما فيها من فساد وانحطاط، ولقد عد نفسه بحق قوة اجتماعية. كذلك فهمه فيلدنج فقال فيه "أكاد أجرؤ على التأكيد بأن عمليه هذين اللذين يسميهما "رحلة فاجر"" و "رحلة بغي"، قصد بهما خدمة قضية الفضيلة.. أكثر مما خدمتها كل المجلدات الضخمة التي كتبت إطلاقاً في الأخلاق(36)". على أن شيئاً واحداً لا شك فيه، هو أنه كان الإنجليزي الصميم بين جميع من عاش من الفنانين الإنجليز.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الموسيقيون

من ألغاز التاريخ المحيرة ذلك السر في أن إنجلترا التي أسهمت هذا الإسهام الموفور في التطور والنظرية الاقتصاديين والسياسيين، وفي الأدب والعلم والدين والفلسفة-إنجلترا هذه أقفزت نسبياً في أشكال التأليف الموسيقي الأكثر تعقيداً منذ عصر اليزابيث الأولى. وربما وجدنا بعض تعليل لهذه الظاهرة في زوال الكثلكة من إنجلترا؛ فالمذاهب الجديدة شجعت المؤلفات الموسيقية الرفيعة تشجيعاً أقل، ومع أن الشعائر اللوثرية في ألمانيا والأنجليكانية في إنجلترا تطلبت الموسيقى، فإن أشكال البروتستنتية الأكثر تزمتاً في إنجلترا وفي الجمهورية الهولندية لم تبذل تشجيعاً يذكر لأي موسيقي تزيد على الترنيمة الجماعية التي يرنمها المصلون. وحل محل أساطير كنيسة روما وطقوسها، التي طالما شددت على مباهج الإيمان، عقائد جبرية قاتمة تشدد على هول الجحيم، ولم يستطع غير "أورفيوس" أن يغني في وجه الجحيم. وماتت أغاني إنجلترا اللإليزابيثية الغرامية الشعبية في الصقيع البيورتاني. وقد جلبت عودة الملكية من فرنسا روحاً أكثر مرحاً، ولكن بعد موت بيرسل أسدل حجاب كثيف على الموسيقى الإنجليزية من جديد.

هذا باستثناء الأغاني التي تفاوتت من الجهوريات الجماعية المنتشرة في أندية الطرب glee clubs إلى الرقة الهفافة التي تميزت بها الغنائيات المأخوذة من تمثيليات شكسبير. وكلمة glee هي الكلمة الأنجلو-سكسونية gleo، ومعناها الموسيقى؛ ولم تتضمن بالضرورة الفرح، وكانت تطبق عادة على الأغاني التي لا ترافقها الموسيقى لثلاثة أصوات أو أكثر. وازدهرت أندية الطرب قرناً، وبلغت أوجها حوالي عام 1780 في عز أيام أكبر مؤلفي لأغاني الطرب، وهو صموئيل وب. وكان أجمل منها موسيقات توماس آرن التي لحنها لأغاني شكسبير-"هبي، هبي، يا ريح الشتاء" و "تحت شجرة الغابة الخضراء" و "حيث ترشف النحلة رحيقها هناك أرشف رحيقي"؛ وما زالت هذه تسمع في إنجلترا. والموسيقى المشجي آرن هو الذي لحن قصيدة طومسن "احكمي يا بريطانيا"!" وفي هذه الفترة، أو قبلها، لحن وطني مجهول نشيد بريطانيا القومي، "حفظ الله الملك". وعلى قدر ما نعلم، غني هذا النشيد علناً أول مرة في 1745 حين جاء نبأ بأن قوات جورج الثاني هزمها الاسكتلنديون بقيادة المطالب الشاب بالعرش عند بريستونبانس، ولاح أن أسرة هانوفر قد حان حينها. والنشيد في أقدم صوره المعروفة وهي (وهي لا تختلف إلا اختلافاً طفيفاً عن الكلمات واللحن الحاليين) دعا إلى الله بالنصر على الحزب الإستيوارتي في السياسة الإنجليزية، وعلى الجيش الإستيوارتي الزاحف من إسكتلندة:


"حفظ الله مولانا الملك

ليحيي لنا النبيل (جورج الثاني) طويلاً،

حفظ الله الملك.

ربنا انصره نصراً عزيزاً

واجعله سعيداً عظيماً،

ليملك علينا طويلاً،

حفظ الله الملك.

ربنا وإلهنا قم،

وشتت أعداءه،

واجعلهم يسقطون،

واحبط سياساتهم

وأفسد مكائدهم الوضيعة

آمالنا معلقة عليه (في النص الحالي "عليك")،

احفظ اللهم أجمعين(37)".

واقتبست اللحن لفترات شتى تسع عشرة دولة، لحنت به أغاني وطنية، ومن هذه الدول ألمانيا وسويسرا والدنمرك والولايات المتحدة الأمريكية-التي أحلت في 1931 محل "أمريكا" نشيداً قومياً "الراية المرصعة بالنجوم" يغني وفق لحن عسير من أغنية شراب إنجليزية عتيقة.

ويدل رواج الأغاني الرقيقة في إنجلترا على ذوق موسيقي واسع الانتشار. فكان في كل بيت هاربسيكورد فيما عدا بيوت الفقراء، وكان كل إنسان تقريباً يعزف على إحدى الآلات الموسيقية، وتوفر من العازفين في الاحتفال بذكرى هندل عام سنة 1784 بدير وستمنستر عدد يكفي للعزف على خمسة وتسعين كماناً، وست وعشرين فيولا، وإحدى وعشرين فيولنتشللو، وخمسة عشر دبل باصاً، وستة نايات، وست وعشرين أوبوا، واثني عشر بوقاً، واثني عشر نفيراً، وست ترمبونات، وأربعة طبول، مع فرقة غنائية من تسعة وخمسين سوبرانو، وثمانية وأربعين تينوراً وأربعة وثمانين باصاً-وهذا عدد كان خليقاً لكبره بأن يرتجف له هندل فرقاً في مقبرته بالدير. ولم يدخل الكلارينت إلا في أواخر القرن.وكان هناك أراغن رائعة، وعازفون عظماء عليها مثل موريس جرين الذي كانت أناشيده وتسبيحات شكره-مع تلك التي لحنها هندل وبويس-هي تقريباً موسيقى إنجلترا الكنسية الوحيدة الجديرة بالذكر في ذلك العصر.

أما وليم بويس فقد ارتقى حتى أصبح مديراً للفرقة الموسيقية الملكية (أي الأوركسترا) وعازف الأرغن في الكنيسة الملكية رغم ما شاب سمعه من خلل في صباه. وكان أول "مايسترو" يقود العازفين واقفاً. أما هندل ومعاصروه الآخرون فكانوا يقودونهم من الأرغن أو الهاربسيكورد وما زالت بعض أناشيده-لا سيما "على أنهار بابل"-تسمع في الكنائس الأنجليكانية، وما زالت البيوت الإنجليزية تسمع على الأقل أغنيتين من أغانيه "قلوب من البلوط" التي كتبها لإحدى تمثيليات جاريك الإيمائية، و "رفقاً في هبوبك يا نسيم الجنوب" وهو لحن في كنتانا "سليمان". أما سمفونياته فتبدو ضعيفة هزيلة لآذاننا التي عراها الذبول.

كان الشيء المثير الوحيد في دنيا الموسيقى الإنجليزية في مطلع القرن الثامن عشر هو مجيء الأوبرا، وكانت هناك عروض سابقة ترجع إلى عام 1674، ولكن الأوبرا لم تستهو المزاج الإنجليزي إلا حين قدم المغنون الإيطاليون من روما في 1702. وفي 1708 صدمت لندن وافتتنت بصوت مغن سوبرانو، خصي (castrato) يدعى نيكوليني. وتلاه مغنون خصيان آخرون، وقد ألفتهم إنجلترا، وكادت تجن بصوت فارينللي. فما وافى عام 1710 حتى كان في لندن من المغنين الإيطاليين عدد أتاح لهم تقدير أول أوبرا فيها بالإيطالية دون غيرها. وقامت الاحتجاجات الكثيرة على هذا الغزو. وخصص له أديسون العدد الثامن عشر من صحيفته "سبكتيتور" مستهدفاً:

"أن يسلم إلى الأجيال القادمة وصفاً أميناً للأوبرا الإيطالية.... أن حفدتنا البعيدين سيشتد فضولهم لمعرفة السر في أن أجدادهم اعتادوا الجلوس معاً كأنهم جمهور من الأجانب في وطنهم ليستمعوا إلى تمثيليات بأكملها تمثل أمامهم بلسان لا يفهمونه".

واستنتج من حبكات هذه التمثيليات أنه ما من شيء في الأوبرا "يصلح للتلحين الجيد إلا كان لغواً فارغاً". وسخر من المناظر التي يغازل فيها البطل حبيبته بالإيطالية، فترد البطلة بالإنجليزية-وكأن اللغة أمر ذو بال في مثل هذه الأزمات. واعترض على المناظر المسرحية المسرفة-على العصافير الحقيقية التي تطير حول المسرح، ونيكوليني يرتعش في قارب مكشوف على بحر من الورق المقوى. وكان في صدر أديسون ضغينة يريد شفاءها، فقد كتب النص لأوبرا توماس كلايتون الإنجليزية "روزامووند" التي فشلت(38). وأغلب الظن أن ثورته (21 مارس 1711) فجرها العرض الأول (24 فبراير) لأوبرا إيطالية تسمى "رينالدو" في دار أوبرا هايماركت.

وزاد الطين بلة أن الموسيقى ألفها ألماني وفد مؤخراً على إنجلترا، هذا إلى أن الكلام كان بالإيطالية. ومما أفزع أديسون أن الأوبرا الجديدة حققت نصراً عظيماً، فما مضت ثلاثة أشهر حتى كانت قد عرضت خمس عشرة مرة اكتظ المسرح فيها دائماً برواده، ورقصت لندن على مختارات من موسيقاها، وتغنت بألحانها الأكثر بساطة(39). تلك هي بداية الطور الإنجليزي في أروع سيرة في تاريخ الموسيقى.


هندل 1685 - 1759

نشأته

كان جيورج فريدرش هندل أشهر مؤلف موسيقي على عهد يوهان سباستيان باخ. انتصر في ألمانيا ودانت له إيطاليا الموسيقية، وكان روح الموسيقي وتاريخها في إنجلترا طوال النصف الأول من القرن الثامن عشر. واتخذ تفوقه قضية مسلمة، لم يجادله في ذلك مجادل، وشمخ في دنيا الموسيقى كأنه مارد مسيطر يزن 250 رطلاً.

ولد في مدينة هاله بسكسونيا العليا في 53 فبراير 1685 قبل مولد يوهان سبستيان باخ بستة وعشرين يوماً، وقبل مولد دومنيكو سكارلاتي بثمانية أشهر. ولكن بينما أشرب باخ وسكارلاتي الموسيقي منذ طفولتهما، وأتيح لهما أبوان من مشهوري المؤلفين، وربيا على سلم موسيقي ملزم، ولد هندل لأبوين لا يكترثان للموسيقى؛ فأبوه كان الجراح الرسمي في بلاط الدوق يوهان أدولف أمير ساكس-فايسنفيلز، وأمه ابنة قس لوثري. ولم يرضيا عن إدمان الغلام على عزف الأرغن والهاربسيكورد، ولكن حين أصر الدوق بعد أن سمعه يعزف على ضرورة تدريبه على الموسيقى، سمحا له بأن يدرس على فريدريش تساخاو، عازف الأرغن بكنيسة ليبفراوينكيرشي في هاله. وكان تساخاو معلماً مخلصاً دقيقاً. فما بلغ جيورج الحادية عشرة حتى كان يؤلف السوناتات (التي بقي منها ست)، وحذق العزف على الأرغن إلى حد حمل تساخاو والأبوين المستسلمين على إيفاده إلى برلين ليعزف أمام صوفيا شارلوت ناخبة براندنبورج المثقفة، التي ستصبح عما قليل ملكة بروسيا. فلما عاد جيورج إلى هاله (1697) وجد أن أباه قد مات. أما أمه فعمرت إلى سنة 1729. وفي 1702 دخل جامعة هاله ليحضر لمهنة المحاماة في ظاهر الأمر. وبعد شهر عينه القائمون على الكتدرائية الكلفنية في هاله مكان عازف أرغنهم السكير. أما العبقري الشاب الذي لا يستقر على حال، والذي هفت نفسه إلى مجال أرحب، فبعد أن قضي عاماً واحداً هناك اقتلع كل جذوره التي في هاله باستثناء حبه المقيم لأمه وانطلق ميمماً هامبورج، حيث كان الناس يحبون الموسيقى حباً يكاد يبلغ حبهم للمال. وكان في هامبورج داراً للأوبرا منذ 1678. هناك وجد هندل، وهو في الثامنة عشرة، مكاناً له عازفاً ثانياً للكمان. وصادق يوهان ماتيسون البالغ من العمر اثنتين وعشرين عاماً، و"التينور" الأول في الأولبرا، الذي أصبح بعد ذلك أشهر النقاد الموسيقيين في القرن الثامن عشر. ورحلا معه إلى لوبك (أغسطس 1703) ليستمعا إلى الشيخ بوكستيهودي يعزف، ويتحسسا إمكان خلافته في العزف على الأرغن في كنيسة مارينكرشي، ووجدا أن خليفته يجب أن يتزوج ابنة هذا الشيخ. فنظرا إلى الشيخ وابنته ثم رحلا عن المدينة.

وانهارت صداقتهما في مبارزة سخيفة سخف المبارزات في أي مسرحية. ذلك أنه في 20 أكتوبر 1704 أخرج ماتيسون أوبراه "كليوبطره" ومثل دور البطل فيها. ولقيت نجاحاً لا شك فيه، وأعيد تمثيلياً مراراً. وفي هذه الحفلات قاد هندل الأوركسترا والمغنين من الهاربسيكورد. وكان ماتيسون أحياناً ينزل من خشبة المسرح بعد أن يموت في دور أنطونيوس، وفي نشوة الفخر يأخذ مكان صديقه قائداً وعازفاً على الهاربسيكورد، ويسعد بنصيب من التصفيق الأخير. وفي 5 ديسمبر أبى هندل أن يحل صديقه محله على هذا النحو. فألحق الصديقان الأوبرا بشجار ساخن، وعقب انتهاء التمثيل سارا إلى الميدان العام، واستلا سيفيهما، واقتتلا على أنغام المديح من رعاة الأوبرا والمارة. وصك سيف ماتيسون زراً معدنياً على سترة هندل فانكسر. وانقلبت المأساة مهزلة في نظر الجميع إلا بطليها، وراحا يجتران سخطهما إلى أن قبل مدير الفرقة أوبرا هندل "الميرا" التي احتاجت إلى ماتيسون ليؤدي دور التينور. وأعاد نجاح الأوبرا (8 يناير 1705) الخصمين صديقين كما كنا من قبل.

وأحب الناس أوبرا "الميرا"، التي احتوت على واحد وأربعين لحناً بالألمانية وخمسة عشر بالإيطالية، حباً أتاح عرضها عشرين مرة في سبعة أسابيع. ودب دبيب الغيرة في قلب راينهارت كايزر الذي كان مشرفاً على الفرقة ومؤلفاً لمعظم أوبراتها. وضعفت شبيه أوبرا هامبورج، وعاش هندل عامين على دخل ضعيف. وكان الأمير جوفان جاستوني دي مديتشي، أثناء مروره بهامبورج، قد نصحه بأن يرحل إلى إيطاليا حيث يجن الناس كلهم بالموسيقى ويصدح حتى خدم المطاعم بالأغاني الجميلة. واقتحم هندل ثلوج جبال الألب في ديسمبر وفي محفظته مائتا دوقاتية، وخطاب من جاستوني إلى أخيه فرديناند وجد جيوب فرديناند منيعة نزل إلى روما. ولكن دار الأوبرا هناك كان قد أغلقها البابا إنوسنت الثاني عشر باعتبارها بؤرة للفساد. وعزف هندل على الأرغن في كنيسة سان جوفاني لاترانو، وصفق له الجمهور عازماً بارعاً، ولكنه عاد إلى فلورنسة لأن أحداً لم يرد أن يخرج أوبراه الجديدة. هناك وجد جاستوني الذي دافع عنه، ففتح فرديناند كيس نقوده، ومثلت "رودريجو"، وسر الجميع بها، ونفح فرديناند مؤلفها الشاب بمائة سكوين (300 دولار؟) وطقم عشاء من الخزف. ولكن فلورنسة لم يكن بها دار أوبرا عامة، أما البندقية فكان بها ست عشرة داراً. ومن ثم مضي هندل إلى البندقية.

كان ذلك في خريف 1707، وملكة الأدرياتي مبهورة بسحر أليساندرو سكارلاتي، تصفق لأعظم أوبراته "مترداتي أوباتوري"، فلا مجال فيها لألمان شاب حديث العهد بتعلم أسرار الميلوديا الإيطالية ودرس هندل أوبرات سكارلاتي، ووجد له صديقاً وفياً في ابن اليساندرو. وتقول الرواية أنه حين عزف هندل وهو مقنع على الهاربسيكورد في حفلة تنكرية في البندقية، صاح دومنيكو سكارلاتي "هذا أما السكسوني المعجز أو الشيطان(42)". والصداقة الخالدة التي ربطت قلبي أعظم عازفين للهاربسيكورد في ذلك العهد أشبه بلحظة تناغم وانسجام وسط نشاز التاريخ. وقد ترك كلاهما البندقية للموسيقيين الأكبر منهما سراً وانطلقا إلى روما (يناير 1708؟).

وفي هذه المرة لقي هندل استقبالاً أفضل. فقد بلغ نبأ "رودريجو" العاصمة، وفتح الأمراء والكرادلة أبوابهم له، وهم أشد ضيقاً بلهجته الألمانية منهم بمذهبه اللوثري. وبنى المركيز دي رسبولي مسرحاً خاصاً في قصره ليخرج عليه أول أوارتوريو لهندل، واسمها "القيامة"، وكانت موسيقاها مفاجأة ملهمة في قوتها وتعقيدها وعمقها، وسرعان ما راحت الصفوة المثقفة كلها في روما تتحدث عن "السكسوني الطويل الجبار". غير أن موسيقاه كانت أصعب مما يحبه العازفون الإيطاليون. فلما أخرج الكردينال بييترو أوتوبوني أوراتوريو هندل "سريناتا" أتعبت الموسيقى أركانجلو كوريللي، الذي كان عازفاً أول للكمان وقائداً للأوركسترا. فتمتم في تأدب "أيها السكسوني العزيز، هذه الموسيقى تنهج النهج الفرنسي الذي لا أفهمه(43)". وأخذ هندل الكمان من يدي كوريللي وعزف بحيويته المعهودة. وسامحه كوريللي.

بقي على هندل أن يغزو نابلي. وتقول رواية لا يعتمد عليها أن هندل وكوريللي، وسكارلاتي الأب والابن، كلهم قصدوا تلك المدينة معهم (يونيو 1708). وتزعم قصة أخرى مشكوك فيها أن هندل وقع في غرام هناك؛ ولكن التاريخ الحذر يعترف في أسف بأنه ليس لديه أي دليل سليم على أي غرام وقع فيه هندل إبان حياته في أي بلد، اللهم إلا غرامه بأمه وبموسيقاه. وقد يبدو أمراً لا يصدق أن خلو قلب رجل استطاع أن يكتب مثل هذه الألحان المشبوبة من شعلة الحب، ولعل التعبير عنها بدد حرارته على أجنحة الغناء. أما أهم الأحداث في هذه الفترة التي أقام فيها هندل في نابلي فهو-على قدر علمنا-لقاؤه بالكردينال فنتشنتسو جريماتي، حاكم نابلي وسليل أسرة بندقية غنية. وقد قدم للمؤلف نص أوبرا تتناول موضوع أم نيرون القديم. وأتم هندل المهمة في ثلاثة أسابيع. ورتب جريماتي تمثيلها في مسرح أسرته بالبندقية، فأسرع إليها هندل حاملاً موسيقاه.

كانت الحفلة الافتتاحية لأوبرا "أجربينا" (26 ديسمبر 1709) أبهج الانتصارات التي عرفها هندل إلى ذلك الحين. ولم تخالج الإيطاليين الكرماء الغيرة لأن ألمانيا تفوق عليهم في لعبتهم، وأراهم روائع من النغم، واقتحامات من الانتقال، وأفانين من الصنعة قل أن أدركها حتى موسيقيهم المفضل اليساندرو سكارلاتي، فهتفوا "يحي السكسوني الحبيب(44)". ونال نصيباً من هذا الهتاف المغني الباصو الممتاز جوزيبي بوسكي الذي تنقل صوته قفي يسر بين سلسلة كاملة من تسع وعشرين نغمة. وخطب الكثيرون ود هندل الآن.فنصحه تشارلز مونتاجيو، ايرل مانشستر الذي كان سفيراً لبريطانيا في البندقية، بأن يذهب إلى لندن، وعرض عليه الأمير ارنست أوغسطس الأخ الأصغر للناخب جورج لويس، وظيفة قائد الفرقة الموسيقية الكنسية في هانوفر. لقد كانت البندقية رائعة، تتنفس الموسيقى، ولكن إلى متى يستطيع المرء أن يكسب قوته من أوبرا واحدة، وإلى متى يستطيع الركون إلى هؤلاء الإيطاليين المتقلبين؟ أما هانوفر ففيها ضباب، وغيوم، وكلام خارج من الحناجر، ولكن فيها أيضاً دار فخمة للأوبرا وراتب ثابت وطعام ألماني دسم؛ ثم أنه يستطيع بين الحين والحين أن يركب منها ليزور أمه في هاله. وعليه ففي 15 يونيو 1710 عين هندل قائداً للفرقة الكنسية في هانوفر، وكان يومها في الخامسة والعشرين، براتب سنوي قدره ألف وخمسمائة كراون، مع الأذن له بالغياب بين حين وحين. وفي خريف ذلك العام، طلب الأذن له بزيارة إنجلترا، فحصب عليه، ووعد بالرجوع سريعاً.


غزو إنجلترا

كانت أوبرا لندن في محنة. ففيها فرقة إيطالية تغني، مغنيها الباصو بسكي، ومغنيتها الكونترالتو زوجته، ومغنيها السوبرانو نيكوليني الذي ذهب تشارلز بيرني، مؤرخ الموسيقى الغيور، إلى أنه "أول مغن عظيم حقاً غني في مسرحنا(45)". ولكن دار أوبرا هايماركت (وكانت يومها تسمى مسرح صاحبة الجلالة)، ومسرح دروري لين، كانا يقعان في قسم من المدينة، تنشل فيه الجيوب وتحطم الرءوس. وتردد "المجتمع الراقي" في المغامرة بباروكاته وأكياس نقوده هناك.

وسمع آرون هل مدير الفرقة بأن هندل في لندن، فعرض عليه نص أوبرا مأخوذاً عن "تحرير أورشليم" لتاسو. وعكف هندل على العمل بنشاطه الهائل، ونقل في غير تحرج عن ألحانه هو، فلم ينقض أسبوعان حتى أتم أوبرا "رينالدو". فأخرجت في 24 فبراير 1711، وأعيد عرضها أربع عشرة مرة أمام جمهور حافل قبل أن ينتهي الموسم في 22 يونيو. وهاجمها أديسون وستيل، ولكن لندن أقبلت عليها، وتغنت بألحانها في الشوارع، وأكثر ما مس أوتار العاطفة من ألحانها بل يستطيع أن يحرك مشاعرنا حتى في يومنا هذا، لحنان هما اتركني إنني أبكي Lascia Ch'io pianga و Cara Sposa يا زوجتي العزيزة، وقد ربح جون وولش ألفاً وأربعمائة جنيه بنشره أغاني من أوبرا مينالدو، واقترح هندل في سخرية أن على وولش أن يكتب موسيقى الأوبرا القادمة ويترك له نشرها(46). وما لبثت هذه الأوبرا، وهي خير أوبرات هندل، أن أخرجت في دبلن وهامبورج ونابلي، وقد شغلت المسرح في لندن عشرين عاماً. ومد هندل أجازته حتى بلغت سنة كاملة وهو يرشف نجاحه على مهل، ثم عاد كارهاً إلى هانوفر (يونيو 1711) ولم يكن هناك أسداً في قاعات الاستقبال، بل خادماً في قصر الأمير الناخب؛ وأغلقت دار الأوبرا فترة الموسم، فألف الكونشر توات الكبيرة والكنتاتات، وبينما كان خياله يحلق في سماء الأوبرات. وفي أكتوبر 1712 استأذن في زيارة أخرى "قصيرة" لإنجلترا. وأذن له الأمير الناخب، ربما هو شاعر أن إنجلترا ستكون على أية حال إقطاعية هانوفرية بعد قليل. ووصل هندل إلى لندن في نوفمبر، ومكث هناك ستاً وأربعين سنة.

وقد حمل معه أوبرا جديدة هي "الراعي الوفي"، التي ما زال استهلالها اللطيف يسحر جونا. وقد أخرجت في 22 نوفمبر، وفشلت. وولفور بدأ موضوعاً آخر وقد حفزه هذا الفشل أكثر مما ثبط همته، والموضوع هو "تيسيو (ثيوسيوس). وكانت حفلة الافتتاح نصراً له، ولكن المدير هرب بعد الليلة الثانية حاملاً إيصالات شباك التذاكر. وتسلم عمله مدير آخر اسمه جون هيديجر، وواصل عرض "تيسيو" حتى بلغت عروضها ثلاثة عشر، وكافأ المؤلف الذي لم ينقذ أجره بتنظيمه حفلة خيرية لإعانة "المستر هندل"، ظهر فيها المؤلف وهو يعزف على الهاربسيكورد. ودعا ايرل بيرلنتن، وكان مستمعاً متحمساً، هندل لينزل ضيفاً عليه في قصر بيرلنتن، وقبل هذه الدعوة، ووجد المسكن الطيب والطعام المترف، والتقى هناك ببوب، وجاي، وكنت، وغيرهم من أئمة الأدب والفن.

وأقبلت عليه الدنيا أيما إقبال. ذلك أن الملكة آن تاقت لوضع حد لحرب الوراثة الأسبانية، وأتت النهاية مع معاهدة أوترخت، فأبهج هندل آن بأن "تسبحة أوترخت" وبـ "أغنية الميلاد" في عيد ميلادها. وأثبت فيهما أنه درس "كوارس" بيرسيل. وأثابته الملكة العطوف بمعاش قدره بمائتا جنيه. أما وقد ظفر بالاطمئنان والرخاء، فإنه استراح الآن على مجدافيه طوال سنة من التهرب. ولكن في أول أغسطس 1714 ماتت آن، وأصبح الناخب جورج لويس أمير هانوفر ملكاً على إنجلترا باسم جورج الأول. وتوجس هندل بعض الشيء من هذا الاتجاه الذي اتخذته الأحداث. فالواقع أنه هرب مع هانوفر، ولو أنه يتوقع أن يكون الملك غير راض عنه، وقد حدث هذا، ولكن جورج لزم الهدوء. وأعيدت تسمية مسرح هايماركت الآن فسمى "مسرح جلالة الملك"، وأحس الملك أنه ملزم ببسط رعايته على هذا المسرح، ولكنه كان يعرض أوبرا "رينالدو" التي لحنها لذلك المتهرب، فذهب جورج متنكراً إلا في لهجته، واستمتع بالعرض. وكان هندل خلال ذلك قد كتب أوبرا أخرى "أماديجي الغالي"، وأخرجها هيديجر في 25 مايو 1715، وأحبها جورج. وبعد قليل طلب عازف الكمان والمؤلف الإيطالي فرنتشسكو جيمنياني، الذي دعى للعزف في البلاط، أن يصاحبه هندل، لأنه عازف الهاربسيكود الوحيد في إنجلترا الذي يصلح لمصاحبته. وكان له ما أراد، وأبدع هندل في العزف فعفا عنه الملك، ورفع معاشه على أربعمائة جنيه في السنة.

ووكلت إليه الأميرة كارولين تدريس بناتها، وأضافت معاشاً قدره مائتا جنيه. وهكذا الآن صاحب أعلى أجر بين المؤلفين الموسيقيين في أوربا.

فلما غادر جورج الأول لندن (9 يوليو 1716) ليزور هانوفر اصطحب هندل معه. وزار الموسيقي أمه في هاله، وبدأ نفحته الدورية لأرملة معلمه القديم تساخاو التي أخنى عليها الدهر. وعاد الملك والمؤلف إلى لندن في مطلع 1717. ودعا جيمس بريدجس، ايرل كارنارفون-دوق تشندوس فيما بعد-هندل ليعيش في قصره الفاخر المسمى "كانونز" بمدلسكس، ويحل محل قائد الموسيقى فيه، الدكتور يوهان بيبوش، الذي انتقم لنفسه فيما بعد تأليفه موسيقى "أوبرا الشحاذ". هناك كتب هندل "متتابعات موسيقية للهاربسيكورد" وهي "فنتازيات" على الهاربسيكورد بأسلوب دومنيكو سكارلاتي وكوبران، وبعض الكونشرتوات الكبيرة، وأثنى عشر "نشيداً تشاندوسياً" وموسيقى لتمثيلية تنكرية لجاي سمها "آسيس وغلاطية"، وأوبرا "راداميستو".

ولكن من يخرج الأوبرا؟ لقد هبط عدد رواد مسرح صاحب الجلالة، وأشرف هيديجر على الإفلاس. ورغبة في إنقاذه وإنقاذ الأوبرا أسس نفر من النبلاء والأعيان (فبراير 1719) الأكاديمية الملكية للموسيقى، ومولوها بخمسين سهماً طرحت على الجمهور بسعر مائتي جنيه للسهم، واشترى جورج الأول خمسة أسهم. وفي 21 فبراير أعلنت صحيفة لندنية أسبوعية أن "المستر هندل، وهو أستاذ موسيقي شهير، أبحر إلى القارة بأمر جلالة الملك ليجمع فرقة من صفوة المغنين في أوربا للأوبرا في مسرح هايماركت(47)" وأغار هندل على مختلف الفرق في ألمانيا، وزار أمه مرة أخرى. وبعد ساعات من مغادرته هالة إلى إنجلترا ظهر يوهان سبستيان باخ في المدينة بعد أم مشي عليها نحو خمسة وعشرين ميلاً من كوتن، وطلب أن يقابل الألماني العظيم الذي غزا إنجلترا؛ ولكنه وصل متأخراً، ولم يلتق الموسيقيان قط.

وفي 27 أبريل 1720 مثلت "راداميستو" أمام الملك، وخليلته، وجمهور تألق بالألقاب والجواهر، وناضل أشخاص من ذوي الألقاب ليدخلوا. يقول مينويرنج "لقد رد العديد من السادة الذي عرضوا دفع أربعين شلناً ثمناً لكرسي من المقاعد الرخيصة(48)". ونافس الجمهور الإنجليزي في تصفيقهم وهتافهم البنادقة الذين صفقوا وهتفوا لأوبرا "أجربيينا" قبل ذلك بأحد عشر عاماً. وهكذا غدا هندل مرة أخرى بطل لندن.

ولكن البطولة شاب تمامها نقصان. ذلك أن جماعة منافسة من عشاق الموسيقى، يتزعمهم إيرل بيرلنتن الراعي الأسبق لهندل، فضلوا عليه جوفاني باتيستا بونونتشيني. فأقنعوا الأكاديمية الملكية للموسيقى بأن تفتتح موسمها الثاني بأوبرا بونونتشيني "آستارتو" (19 نوفمبر 1720)، وضمنوا لدور البطل فيها مغنياً سوبرانو كان الآن معبوداً للجماهير أكثر من نيكوليني. وكان لـ "سنسينو" هذا "فرانتيشسكو برناردي)، الكريه الطباع، الساحر الصوت،الفضل في انتصار أوبرا آستارتو والوصول بعروضها إلى العشرة. أما المعجبون ببونونتشيني فقد أشادوا به موسيقياً أعظم من هندل. ولم يكن أحد هذين المؤلفين مسئولاً عن الحرب التي قسمت الآن جمهوراً الأوبرا اللندني إلى فريقين متخاصمين، ولكن لندن كانت في ذلك العام، عام انفجار فقاعة بحر الجنوب، عصبية كباريس. أما الملك والأحرار ففضلوا هندل، وأما ولي العهد والمحافظون فناصروا بونونتشيني، واحتشد الظرفاء وكتاب الكراريس لدخول المعركة.. وبدا أن بونونتشيني قد أثبت تفوقه بأوبرا جديدة سماها "كريسبو" (يناير 1722) وفقت توفيقاً حمل الأكاديمية على أن تتبعها بنصر آخر لبونونتشيني هي "جريزلدا". فلما مات ملبره العظيم (في يونيو) اختير بونونتشيني، لا هندل، ليؤلف النشيد الجنائزي، ونفحت ابنة الدوق هذا الإيطالي معاشاً سنوياً قدره خمسمائة جنيه. لقد كان ذلك العام عام بونونتشيني. ورد هندل بأوبرا "أوتوني" ومغنية سوبرانو جديدة أغراها من إيطاليا بضمان لم يسبق له نظير مقداره ألفا جنيه. وكانت هذه المغنية، واسمها فرانتشسكا كوتزوني، كما رآها هوراس ولبول، "قصيرة سمينة، لها وجه عجيني القوام نزق، وبشرة ناعمة رقيقة، ممثلة غير قديرة، سيئة الهندام، غبية، شاطحة الأحلام(49)"، ولكنها كانت تصدح بصوت ساحر. وقد حفلت "بروفاتها" بصراع الإرادات والطباع الحادة. قال لها هندل "أعرف جيداً أنك شيطانة حقيقية، ولكنني أنا نفسك أريدك أن تعرفي أنني بعلزبول (رئيس الشياطين)". فلما أصرت على غناء لحن مخالفة لتعليماته، أمسك بها وهدد بأن يقذفها من النافذة(50). ولما كانت الألفان من الجنيهات ستتبعانها، فإنها أذعنت لأمره. وفي حفلة الافتتاح (12 يناير 1723) أبدعت الغناء حتى صاح أحد المتحمسين من المقاعد الرخيصة وسط غنائها "على اللعنة في أن بطنها عشاً من البلابل(51)". وقد نافسها سنسينو، وأعانها "باصو" بوسكي. وفي الليلة الثانية بيعت الكراسي بزيادة قدرها خمسة جنيهات. وفي نحو هذه الفترة كتب جون جاي إلى جوناثان سويفت يقول:-

"أما التسلية المسيطرة على المدينة فهي الموسيقى دون سواها؛ هي الكمانات والفيولات الجهيرة والأبواب الواقعية، لا القياثير والمزامير الشعرية. ولا يسمح لأحد بأن يقول "أنا أغني" إلا إذا كان خصياً أو امرأة إيطالية. وكل إنسان أصبح الآن حكماً عظيماً في الموسيقى كما كان الناس في أيامك حكاماً من الشعر؛ والقوم الذين لم يكونوا يستطيعون التمييز بين نغمة وأخرى يتشاجرون الآن كل يوم على الأساليب المختلفة التي ينتهجها هندل، وبونونتشيني، وأتيليو "أريوستي)... وفي لندن وستمنستر، في كل حديث مهذب، يجمع الرأي على أن سنسيئو هو أعظم رجل ظهر في الوجود(52)".

ثم اشترى هندل بعد أن صعد نجمة ثانية بيتاً في لندن (1723) وأصبح مواطناً بريطانياً (1727). وواصل حرب الأوبرا حتى 1728. ونبش التاريخ بحثاً عن الموضوعات، فعرض على المسرح فلافيوس، وقيصر، وتيمورلنك، وسكبيو، والاسكندر، ورتشارد الأول. ورد بونونتشيني باستياناكس، وارمينيا، وفارناسس، وكلبورنيا؛ ولحن وارتاجزرسيس، ودارا؛ ولم يسبق في أي عهد أن لحن التاريخ على هذا النحو المتناغم. وفي 1726 ازداد وطيس الصراع الثلاثي بوصول فاوستينا بوردوني، وهي مغنية نصف-سوبرانو، دانت لها قبل ذلك البندقية ونابلي وفيينا. صحيح أنها لم توهب نبرات كوتزوني الرقيقة العذبة، ولكنها وجدت لصوتها سنداً من وجهها وقوامها ورشاقتها. وفي أوبرا "اليساندرو" (5 مايو 1726) جمع هندل بين المغنيتين، وأعطاهما عدداً متساوياً من الألحان المنفردة، ووازن بينهما بعناية في لحن ثنائي، وصفق لها السامعون معاً بضع أمسيات، ثم انقسموا فريقين، فكان فريق يصوت سخرية بينهما الآخر يصفق استحساناً، وهكذا أضيف بعد جديد لحرب الأنغام. وفي 6 يونيو 1727 حين غنت المغنية الأولى في أوبرا بونونتشيني "اتسايناتي" انفجر أنصار كوتزوني محدثين جلبة شائنة من صفير الاستهجان وصيحات الاستنكار حين حاولت بوردوني الغناء. واندلع القتال في قاعة الصالة وسرى إلى خشبة المسرح، وشاركت فيه مغنيتا الأوبرا وراحت الواحدة منهما تشد شعر الأخرى، وحطم النظارة مناظر المسرح مبتهجين-وكل هذا في حضرة كارولين، أميرة ويلز، وهي شاعرة بالخزي والمهانة.

ولعل "قياس الخلف" هذا كان وحده كافياً لقتل الأوبرا الإيطالية في إنجلترا. أما الضربة القاضية فقد كالها لها واحد من أرق الناس في لندن. ففي 29 يناير 1728، قدم جون جاي "أوبرا الشحاذ" في مسرح لنكولنز أن فيلدز. وقد وصفتا أغانيها المرحة الذكية البذيئة، ولكن الذين سمعوها تغني على أنغام الموسيقى التي وضعها أو اقتبسها يوهان بيبوش-هؤلاء فقط هم الذين في وسعهم أن يفهموا لم تحول جمهور المسارح بجملته تقريباً عن هندل وبونونتشيني وأريوستي، إلى بيبوش وبوللي وجاي، وظلت "أوبرا الشحاذ" تمثل الليلة تلو الليلة طوال تسعة أسابيع، بينما راحت "سيرانات" مسرح صاحب الجلالة وخصيانه يغنون لكراسي خاوية. ثم إن جاي كان قد هجا الأوبرا الإيطالية وسخر من حبكاتها البلهاء، وهزأ بالارتعاشات و "الشخلعات" في غناء المغنين والمغنيات السوبرانو، واتخذ اللصوص والشحاذين والمومسات شخوصاً للتمثيلية بدلاً من الملوك والنبلاء والعذارى والملكات، وعرض القصائد الشعبية الإنجليزية أغاني أفضل من الألحان الإيطالية. وابتهج الجمهور بالألفاظ التي يستطيع فهمها، خصوصاً إذا كانت مكشوفة بعض الشيء. ورد هندل بمزيد من الأوبرات-سيروي، وطولوميو ملك مصر (1728) وقد حظيت كلتاهما بلحظات مجيدة ولكنهما لم تأتيا بربح. وفي 5 يونيو شهرت الأكاديمية الملكية للموسيقى أفلاسها ولفظت أنفاسها الأخيرة.

على أن هندل لم يسلم بالهزيمة. فبعد أن هجره النبلاء الذين لاموه على خسائرهم، كون مع هيديجر (يونيو 1728) "الأكاديمية الجديدة للموسيقى"، وأنفق عليها عشرة آلاف جنيه-وهي كل مدخراته تقريباً-وتلقى مع الملك الجديد، جورج الثاني، وعدا بألف جنيه في العام معونة له. وفي فبراير انطلق إلى القارة في رحلة أخرى ليجند مواهب جديدة، لأن كوتزوني وبوردوني وسنسينو ونيكوليني وبوسكي، هجروا سفينته المشرفة على الغرق وراحوا يغنون للبندقية. واستخدم هندل بدلاً منهم ديوكا وبلابل جدداً. أنطونيو برناكي السوبرانو، وأنيبالي فابري التينور، وآنا ماريا سترادا ديل بو السوبرانو. وفي رحلة عودته توقف ليزور أمه آخر مرة. وكانت يومها في التاسعة والسبعين، عمياء مشلولة تقريباً. وبينما كان في هاله زاره فلهلم فريدمان باخ، الذي أتاه بدعوة لزيارة ليبزج، حيث عرضت قبيل ذلك أول مرة "آلام المسيح كما رواها متى البشير". واضطر هندل إلى رفض الدعوة. فهو لم يسمع بيوهان سباستيان باخ إلا لمالماً، ولم يخطر بباله قط أن شهرة هذا الرجل ستحجب شهرته يوماً ما. وهرول قافلاً إلى لندن، والتقط في طريقه الباصو الهامبورجي يوهان ريمنشنيدر.

وظهرت الفرقة الجديدة في أوبرا "لوتاريو" في 2 ديسمبر 1729 دون أن تلقى نجاحاً. وجرب حظه ثانياً في 24 فبراير بأوبرا "بارتنوبي"، فلم يوفق. وأعيد برناكي وريمنشنيدر إلى القارة، واستدعى سنسينو ثانية من إيطاليا، وبفضله هو وسترادا ديل بو، ونص كتبه متاستاسيو، اجتذبت أوبرا هندل "بورو" أسماع لندن (2 فبراير 1731)، وكان قد خلع على هذه الأوبرا طائفة من أعظم ألحانه تأثيراً. وامتلأ مسرح صاحب الجلالة براوده مرة أخرى. واستقبلت أوبرتان أخريان، هما "ايتسيو" و "سوزارمي" استقبالاً طيباً.

ولكن الكفاح للإبقاء على جمهور إنجليزي بأوبرا إيطالية أخذ يصبح أشد عسراً. وقد بدأ الآن أنه طريق مسدود ينتهي دائماً بالإنهاك البدني والمالي. لقد قهر هندل إنجلترا، ولكن إنجلترا بدت قاهرته الآن، فلقد كانت أوبراته شديدة التشابه، مصيرها المحتوم إلى الضعف والهزال. ولقد سمت بها الألحان الرائعة، ولكن هذه الألحان إنما كانت موصولة بالحبكة وصلاً هزيلاً، وكانت بلغة غير مفهومة مهما كان فيها من انسياب رقيق، وكثير منها لحن للسوبرانو من الرجال، وهؤلاء ازداد العثور عليهم صعوبة. وتحكمت القواعد الجامدة والغير بين الفنانين في توزيع الألحان، وزادت من افتعال القصة. ولو أن هندل واصل السير على الخط الإيطالي لكاد يصبح النوم نسياً منسياً. على أن سلسلة من المصادفات انتزعته انتزاعاً من دربه المطروق ووجهته إلى الميدان الذي سيظل فيه نسيج وحده حتى في أعين زماننا هذا.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هزيمته

في 23 فبراير 1732، وفي حانة "التاج والمرساة" عرض برنارد جيتس، احتفالاً بعيد ميلاد هندل السابع والأربعين، أوراتوريو هندل "استير" عرضاً خاصاً. وقد اجتذبت جمهوراً مجزياً أغرى جيتس بتكرار عرضها مرتين-مرة لجماعة خاصة، ومرة (في 20 أبريل) للجمهور. وكان هذا أول أداء علني في إنجلترا. واقترحت الأميرة آن عرض "استير" بمسرح جلالة الملك وتزويدها بالملابس والمناظر والحركة، ولكن أسقف لندن أحتج على تحويل الكتاب المقدس إلى أوبرا. فاتخذ هندل الآن قراراً من أهم القرارات في حياته، وأعلن أنه سيخرج "قصة استير المقدسة" "أوراتوريو بالإنجليزية" في مسرح هيماركت في 2 مايو، ولكنه أضاف أنه "لن يصاحب الأداء حركة على المسرح"، وأن الموسيقى "ستؤدي بطريقة حفلة التتويج الدنية"، وهكذا فرق بين الأوراتوريو والأوبرا. وجاء بكورسه وأوكستراه، وعلم لاسترادا والإيطاليين الآخرين أن يغنوا أغانيهم المنفردة بالإنجليزية. وحضرت الأسرة المالكة، واحتملت "استير" عروضاً خمسة في أول شهر لها.

وأخفقت أوراتوريو أخرى سماها "أسيس وغلاطية" (10 يونيو) في إرضاء مشاهديها، وارتد هندل إلى الأوبرا. فعرضت أوبرا "أورلاندو" (27 يناير 1733) فترة طيبة، ولكن حتى مع هذا التحسن، واجهت شركته مع هيديجر الإفلاس. فلما أخرج هندل الأوراتوريو الثالثة "دبوره" (17 مارس) حاول أن يستعيد كفايته المالية بمضاعفة أجر الدخول. ونددت رسالة غفل من التوقيع موجهة إلى صحيفة "كرافتسمان" بهذا الإجراء، ودعت للثورة على سيطرة "المستر هندل الوقح... المستبد، المسرف(53)" على موسيقى لندن. ولما كان هندل قد ظفر برعاية الملك، فقد فقد أتوماتيكياً مودة فردريك، أمير ويلز، وابن جورج الثاني وعدوه. وأخطأ هندل-الذي كثيراً ما خضع سلوكه لحدة طبعه-بالإساءة إلى جوزف جوبي، الذي كان يعلم الرسم لفردريك؛ وثأر جوبي لنفسه برسمه كاريكاتوراً للموسيقى ظهر فيه مخلوقانهما متوحشاً له خطم خنزير بري؛ ووزعت نسخ من الرسم في أرجاء لندن فأضافت إلى تعاسة هندل. وفي ربيع 1733 شجع أمير ويلز حاشيته على تأليف فرقة منافسة سميت "أوبرا الأشراف". واستقدمت الفرقة من نابلي أشهر معلمي الغناء في ذلك العهد، وهو نيكولو بوربورا، وأغرت سنسينو بترك هندل، وكوتزوني بالمجيء من إيطاليا؛ وفي 29 ديسمبر، وفي مسرح لنكولنز أن فيلدز، أخرجت أوبرا بوربورا "آريانا" التي لقيت استحساناً عظيماً. أما هندل فقد قابل هذا التحدي الجديد بأوبرا تناولت موضوعاً مشابهاً مشابهة تنطوي على التحدي، "آريانا في كريت" (26 يناير 1734)، فلقيت هي أيضاً استقبالاً حسناً. ولكن في نهاية الموسم انتهى عقده مع هيديجر، وأجر هيديجر مرح جلالة الملك لأوبرا الأشراف، ونقل هندل فرقته إلى مسرح كوفنت جاردن الذي يملكه جون رتش.

وانتقم بوربورا بدعوة كارلو بروسكي، أشهر المغنين الخصيان، المعروف لأوربا كلها باسم "فارينللي". وقد نفصل الحديث عن غناء هذا الرجل حين نلتقي به في وطنه بولونيا، وحسبنا هنا أن نقول أنه حين انضم إلى سنسينو وكوتزوني في أوبرا بوربورا "أرتازرسي" كان ذلك حدثاً في تاريخ إنجلترا الموسيقي، وأعيد عرض الأوبرا أربعين مرة في السنوات الثلاث التي مكثها فارينللي-وقابل هندل بأوبرا "أريودانتي" (8 يناير 1735)، وهي من أروع أوبراته، غنية غنى فريداً في موسيقاها الآلية، وقد ظفرت بعشرة عروض في شهرين، ووعدت بأن تغطي نفقات هندل. ولكن حين أخرج بوربورا أوبرا "بوليفيمو" (أول فبراير) التي لعب فيها فارنيللي دور البطل، لم يستطع الملك ولا الملكة ولا الحاشية أن يمتنعوا عن مشاهدتها، وفاقت في مرات عرضها "أرتازيرسي"، بينما لم تلبث أوبرا هندل "التشينا" (16 أبريل) أن أقفر مسرحها من رواده-ولو أن ألحاناً أوركسترالية متتابعة (سويت) من موسيقاها لا تزال تظهر على البرامج اليوم. واعتزل هندل ساحة القتال نصف سنة ليطبب آلامه الروماتزمية بمياه ينابيع تنبردج.

وفي 19 فبراير عاد إلى كوفنت جادرن بأوراتوريو لحنها القصيدة درايدن "وليمة الاسكندر". كتب معاصر أن جمهور الألف والثلاثمائة مشاهد الذين ملأوا المسرح استقبلوا الأوراتوريو بصفيق "ندر أن سمع في لندن(54)". وتعزى هندل بربح منها بلغ 450 جنيهاً، ولكن القصيدة كانت أهزل من أن تحتمل إعادة عرضها أكثر من أربع مرات، رغم أن هندل قام بعزف مثير على الأرغن في فترة الاستراحة، وانقلب المؤلف-المخرج-القائد-العازف اليائس من الأوبرا من جديد. وفي 12 مايو قدم "أطلانطا" مسرحية رعوية تحتفل بزواج أمير ويلز. وكان قد دعا من إيطاليا مغنياً خصياً جديداً يدعى جيتسيللو (جواكينو كونتي) لغناء السوبرانو، وخص دوره بلحن (كاري سلفي" وهو من أجمل وأخلد أغانيه. وبلغ من سرور فردريك أنه نقل رعايته من فرقة بوربورا إلى فرقة هندل، ولكن هذا النصر كدر إلغاء الملك لتبرعه السنوي بألف جنيه لمشروع هندل حين سمع بالخطوة التي اتخذها ابنه.

وكف بوربورا عن المعركة في ربيع 1736. وملأ هندل مسرحه بمناوبة الأوبرا مع الأوراتوريو، وأضاف إلى فرقة "جوستينو" (16 فبراير 1737) "الدببة، والحيوانات الغريبة، والتنانين التي تقذف النار(55)". ولكن الجهد الذي اقتضته مسئولياته المنوعة حطمه. وفي أبريل أصابه انهيار عصبي، ونقطة شلت ذراعه اليمنى فترة. وفي 18 مايو عرض "برينيتشي"، آخر أوبرا كتبها لفرقته. ثم أغلق مسرحه في أول يونيو مثقلاً بديون كثيرة، متعهداً بالوفاء بها جميعاً كاملة، وقد فعل. وبعد عشرة أيام حلت "أوبرا الأشراف" المنافسة له، مثقلة بدين قدره اثنا عشر ألف جنيه. وهكذا انتهى عصر الأوبرا العظيم في إنجلترا. وكانت صحة هندل من بين ما تخلف من حطام. فالروماتزم في عضلاته، والتهاب المفاصل في عظامه، والنقرس في أطرافه-هذه كلها تفاقمت في صيف 1737 بنوبة جنون عارضة(56). فغادر إنجلترا ليستشفي بمياه آخن. وكتب السرجون هوكنز يقول إنه هناك: "أحتمل من إفرازات العرق التي بعثتها حمامات البخار ما أدهش كل إنسان. وبعد بضع محاولات من هذا النوع، بدأت معنويته خلالها ترتفع ولا تهبط من أثر العرق الغزير، فارقه اضطراب عقله، وبعد بضع ساعات.. .. ذهب إلى كنيسة المدينة الكبرى، ووصل إلى الأرغن، ثم عزف عليه عزفاً جعل الناس يعزون شفاءه إلى المعجزة(57)".

وفي نوفمبر عاد إلى لندن، وإلى الكفاية المالية وأسباب التشريف. وكان هيديجر قد عاد ثانية إلى مسرح صاحب الجلالة. ونقد هندل ألف جنيه لقاء أوبراتين، واحتوت إحداهما وهي "سرسي" (15 أبريل 1738) على اللحنين المشهورين "لارجو" و "أومبرا مايفو". ودفع مستأجر حدائق فوكسهول إلى روبياك ثلاثمائة جنيه لينحت تمثالاً يظهر فيه الموسيقى وهو يداعب أوتار قيثارة؛ وفي 2 مايو أزيح الستار عن هذا التمثال الثقيل الوقفة، الغبي التعبير، في الحدائق في حفلة موسيقية. ولا بد أن هندل قد سره أكثر من هذا تلك الحفلة التي أعين بها في 28 مارس، والتي أتت بكثير من ألف جنيه. فدفع الآن ديون أعجل دائنيه، وكان أحدهم يهدد بإيداعه سجن المدينين. ولكنه كان مشرفاً على الإفلاس برغم كل تشريف. ولم يستطع أن يتطلع بعد ذلك إلى هيديجر، الذي أعلن (24 مايو) أنه لم يتلق من الإكتتابات ما يتيح له إخراج أوبرات في 1738-39. هنا، ودون تكليف ولا فرقة، بدأ هندل أعظم أطواره، وهو في الثالثة والخمسين، والأوصاب والأوجاع تهز بدنه.

الأوراتوريو

نشأ هذا الشكل الجديد نسبياً من كورالات العصور الوسطى التي تمثل أحداثاً في التاريخ المدون في الكتاب المقدس أو حية القديسين. وكان القديس فليب نيري قد خلع على هذا الشكل اسمه بتفضيله إياه وسيلة للعبادة التعليم الديني في مصلى آباء الأوراتوريو في روما. وطور جاكومو كاريسمي وتلميذه اليساندرو سكارلاتي الأوراتوريو في إيطاليا، ونقلها هنريس شوتس من إيطاليا إلى ألمانيا، وبلغ رينهارت كيزر بهذا اللون شأوا بعيداً قبل موته (1739). وهذا هو التراث الذي بلغ غايته في "مسيا" Messiah هندل عام 1741.

والفضل في نجاح هندل يرجع بعضه إلى توفيقه بين هذا الشكل وبين الذوق الإنجليزي. وقد واصل اختيار موضوعات الأوراتوريو من الكتاب المقدس، ولكنه أضفى عليها بين الحين والحين عنصر تشويق غير ديني، كما فعل في موضوع الحب في "يوسف واخوته". وفي "يفتاح"؛ وركز على الطابع الدرامي لا الديني، كما فعل في "شاول" و "إسرائيل في مصر"؛ واستعمل نصاً إنجليزياً خالصاً، أخذ جزءاً منه فقط من الكتاب المقدس. لقد كانت في جزء كبير منها موسيقى دينية، ولكنها مستقلة عن الكنائس والطقوس. وقد مثلت على مسرح تحت رعاية علمانية. يضاف إلى هذا أن هندل استخدم الموضوعات الكتابية ليرمز بها للتاريخ الإنجليزي، فإسرائيل ترمز إنجلترا، وتمرد 1642 الكبير وثورة 1688 المجيدة يمكن سماعها في كفاح اليهود للتحرر من ربقة المصريين (أسرة ستيوارت) والسيطرة الهلنستية (الغالية)؛ ولم يكن الشعب المختار في حقيقته سوى الأمة الإنجليزية، وإله إسرائيل هو نفسه الإله الذي قاد الشعب الإنجليزي إلى النصر بعد المحن. وكانت فكرة هندل عن الله أشبه بفكرة البيورتان، فهو "يهوه" إله العهد القديم الجبار، لا إله الآب كما يصور العهد الجديد(58). وكان هذا إحساس إنجلترا، فاستجابت في فخر لأوراتوريوات هندل.

بدأ الطريق الصاعد إلى "المسيا" بأوراتوريو "شاول" التي أخرجت على مسرح صاحب الجلالة في 16 يناير 1739. "إن مارش الموتى المهيب، الجليل، لكفيل وحده بأن يخلد هذا العمل(59)".

ولكن الجمهور لم يعتد شكل الأوراتوريو، لذلك لم تعمر "شاول" أكثر من عشرة عروض. وبهمة لا تصدق ألف هندل وقدم (4 أبريل) آية أخرى من آياته هي "إسرائيل في مصر". هنا جعل الكورس هو البطل، صوت أمة تولد، ووضع موسيقى يعدها الكثيرون أسمى ما كتب(60). ولكن اتضح أنها مترامية عسيرة فوق ما يحتمله الذوق السائد آنئذ، وأنهى هندل موسمه التاريخي بديون جديدة. وفي 23 أكتوبر اندفعت إنجلترا إلى الحرب مع أسبانيا بسبب أذن جنكنز. وفي وسط ضجيج الحرب وصخبها استأجر هندل مسرحاً صغيراً، وفي عيد القديسة راعية الموسيقيين قدم الإطار الموسيقي الذي ألفه لقصيدة درايدن الغنائية التي كتبها بمناسبة "عيد القديسة سيسيليا" (22 نوفمبر 1739) ولم تستطع لندن، حتى في برد تلك الليلة من ليالي الشتاء وفوضاها، أن تقاوم ذلك الاستهلال الرخيم المشرق، أو لحن السوبرانو الأثيري في القسم الثالث، أو "الناي الشاكي الخافت" و "العود الصادح" في الخامس، في حين اتفق "دق الطبل الراعد، ذلك الدق المضاعف المضاعف المضاعف" مع روح الحرب المدمدمة في الشوارع. وعاود الأمل هندل، وجرب أوبرا سماها "أمينيو" (1740)، ولكنها فشلت، وجرب أخرى اسمها "ديداميا" (1741)، ففشلت هي أيضاً، واعتزل العملاق المرهق المسرح الموسيقي اللندني قرابة عامين.

وكان هذان العامان أروع ما ف حياته. ففي 22 أغسطس 1741 بدأ يؤلف أوراتوريو "المسيا". وقد اقتبس النص تشارلز جيننز من أسفار أيوب والمزامير وأشعياء ومراثي أرميا وحجي وزكريا وملاخي-وكلها من أسفار العهد القديم، ومن أناجيل متى ولوقا ويوحنا، ورسائل بولس، وسفر الرؤيا-وهي من أسفار العهد الجديد. وأتم كتابة الموسيقى في ثلاثة وعشرين يوماً، وقال لصديق إنه في بعض هذه الأيام "حسبتني حقاً أبصر السماء كلها أمامي فعلاً، والله العلي ذاته(61)". وإذ لم يتح له أمل مبكر في العثور على جمهور لها، فقد انتقل إلى كتابة أوراتوريو كبيرة أخرى هي "شمشون"، بناها على قصيدة ملتن عن معاناة شمشون Samson Agonistes وفي تاريخ غير معرف خلال هذه النشوات تلقى دعوة لعرض بعض أعماله في دبلن. وبدا له أن الاقتراح آت من العناية الإلهية التي تقدره حق قدره، ولكن الحقيقة أنه أتى من وليم كافندش، دوق ديفونشير، ونائب الملك في إيرلندة. ووصل إلى دبلن في 17 نوفمبر 1741. واستخدم أفضل من وجد من المغنين، ومنهم سوزانا ماريا كبر، الابنة المثقفة لتوماس آرن، ونظمت عدة هيئات خيرية ست حفلات موسيقية له، نجحت نجاحاً حمله على تقديم لسلة ثانية. وفي 27 مارس 1742 نشرت مجلتان في دبلن إعلاناً جاء فيه:

"رغبة في إغاثة المسجونين في عدة سجون، وإعانة مستشفى ميرسر.. .. سيقدم يوم الاثنين 12 أبريل على قاعة الموسيقى في شارع فيشامبل، أوراتوريو المستر هندل الكبرى الجديدة، المسماه "المسيا". وسيشارك فيها أعضاء الكورس في كلتا الكتدرائيتين، ويعزف المستر هندل بعض الكونشتوات على الأرغن(62)".

وبيعت التذاكر كذلك للبروفات التي ستجري في 8 أبريل، والتي قالت مجلة فوكنر أنها "تؤدي أداءً رائعاً... اعترف منه أعظم الحكام بأنها أبدع لحن موسيقي سمعه الناس إطلاقاً". وأضيف إلى هذا إعلان يؤجل حفلة الاثنين إلى الثلاثاء، ويرجو السيدات "أن يحضرن بغير أطواق لأثوابهن، لأن هذا من شأنه أن يدعم عمل البر، إذ سيفسح المكان لعد أكبر من المحاضرين". وطلبت فقرة أخرى إلى الرجال أن يحضروا بغير سيوفهم. وبهذه الطرق اتسعت قاعة الموسيقى لسبعمائة شخص بدلاً من ستمائة. وأخيراً، وفي 13 أبريل 1742، قدم أشهر الألحان الموسيقية الكبرى قاطبة. وفي 17 أبريل احتوت ثلاثة صحف دبلندية نقداً واحداً: "في يوم الثلاثاء الماضي قدمت أوراتوريو المستر هندل الكبرى المقدسة، "المسيا".. .. وقد اعترف أفضل الحكام بأنها أفضل القطع الموسيقية صقلاً. وتعوزنا الألفاظ للأعراب عن المتعة الفائقة التي أتاحتها للجمهور المزدحم المعجب. وقد تضافرت عناصر السمو والفخامة والرقة، التي واءم بينها وبين أنبل الألفاظ وأجلها وأشدها تأثيراً، لتطرب وتسحر القلب والأذن المسلوبين. ومن الإنصاف لمستر هندل أن يعرف العالم أنه تبرع في سخاء بحصيلة هذه الحفلة الكبرى لتوزع بالتساوي بين جمعية إغاثة المسجونين، ومبرة العجزة، ومستشفى ميرسر، وهو عمل ستذكره له هذه الهيئات بالشكر على الدوام(63)". وأعيد عرض "المسيا" في دبلن في 3 يونيو. وقد أعيدت ألف مرة منذ ذاك التاريخ، ومع هذا فمنذا الذي مل تلك الألحان-سواء الهادئة منها أو الفخمة-، تصاحبها الترانيم الخافتة الرقيقة اللطيفة مثل "سوف يطعم قطيعة" و "أعلم أن فادي حي"، و "ليتمجد اسمه" و "كان مزدري مرفوضاً"؟ لقد حدث والمسز كبر تترنم بهذا اللحن الأخير في أول عرض بدبلن أن صاح قسيسأنجليكاني من بين الحاضرين قائلاً "لتغفر لك خطاياك من أجل هذا أيتها المرأة!" فكل ما في الرجاء الديني من عمق وحرارة، وكل ما في الترتيل الورع من رقة وحنان، وكل ما وهب الموسيقى من فن وعاطفة-كل هذا اجتمع ليجعل من هذه الألحان أرفع اللحظات في الموسيقى الحديثة.

وفي 13 أغسطس غادر هندل دبلن منتعش الروح ممتلئ الجيب ولقد عقد النية على أن يغزو إنجلترا من جديد. ولا بد أنه قد سرى عنه غلو بوب في الثناء عليه في الجزء الرابع من "ملحمة الأغبياء" (1742):

هاهو هندل العملاق يقف قوياً وهو مدجج بسلاح جديد!

مثل برياريوس الشجاع، وله مائة يد (أي الأوركسترا)

يأتي ليحرك ويوقظ ويهز النفوس

ورعود جوبيتر تتبع طبوا مارس

وعليه ففي 18 فبراير 1743، في المسرح الملكي بكوفنت جاردن، قد الموسيقي الذي استعاد شبابه أوراتوريو "شمشون". وكان جورج الثاني على رأس الصفوة اللندنية التي حضرت حفلة الافتتاح. وأبهج الاستهلال الجميل كل إنسان سمعه إلا هوراس ولبول، الذي صمم على ألا يعجب بشيء قط؛ وكان اللحن الرفيع الذي مطلعه "يا رب الجنود" رائعاً روعة تقرب من روعة ألحان المسيا، وكما فعل شمشون الجبار الذي سحق بقوته المحتفلين إذ أسقط عليهم المعبد، فكذلك كان تأثير أوراتوريو "شمشون" ساحقاً على الحاضرين. ولكن حين عرضت المسيا نفسها بعد شهر (23 مارس) على لندن، لم يستطع حتى الملك-الذي أرسي يومئذ تقليداً دائماً بوقوفه عند ترنم الفرقة بلحن "هللويا"-أن ينهض بالأوراتوريو إلى مقام التقبل. فرجال الدين نددوا باستعمال المسرح للموسيقى الدينية، أما النبلاء فما زالوا على صدهم وجراح إخفاق فرقتهم الأوبرالية توجعهم. ولم تعرض المسيا في العامين التاليين إلا ثلاث مرات، ثم توقف عرضها حتى عام 1749. ففي ذلك العام أهدى هندل، الذي كان رجلاً باراً بالإنسانية فيما بين إفلاساته، أرغناً جميلاً لمستشفى اللقطاء الذي كان صديقه هوجارث يحبه حباً جماً، وفي أول مايو 1750 أول عرض من عروض المسيا السنوية لإعانة أولئك البؤساء المحظوظين. وفي 27 يونيو 1743 قاد جورج الثاني جيشه للنصر في معركة ديتنجن. فلما عاد إلى لندن حيته المدينة بالعروض والأضواء والموسيقى، وصدحت الكنيسة الملكية في قصر سانت جيمس بـ "تسبيحة ديتنجن" التي لحنها هندل لهذه المناسبة (27 نوفمبر). وكانت نتاج العبقرية والمقص، لأنها احتوت فقرات مسروقة من مؤلفين أسبق وأقل شأناً من هندل، ولكنها كانت معجزة من معجزات اللصق. وابتهج الملك.

فلما أن تشجع هندل بالابتسامات الملكية، جدد جهوده ليقتنص آذان لندن من جديد. وفي 10 فبراير 1744 قدم أوراتوريو أخرى سماها "سملي" احتوت ترنيمة بديعة اسمها "حيثما سرت" ما زالت تترنم بها إنجلترا وأمريكا، ولكن الأوراتوريو لم تستطع تجاوز عروض أربعة. وظل النبلاء على عدائهم لهندل، وحرصت نبيلات كثيرات على إقامة الولائم المترفة في الأمسيات المقررة للحفلات الموسيقية التي يحييها هندل، واستؤجر الأوباش ليمزقوا إعلاناته. وفي 23 أبريل 1745 ألغى الحفلات الموسيقية الثمان التي أعلن عنها من قبل، وأغلق مسرحه، واعتزل في تنبردج ولز. وأرجفت الشائعات أنه مجنون. كتب حامل لقب ايرل شافتسبري في تلك الفترة يقول (24 أكتوبر) "إن هندل المسكين يبدو أحسن قليلاً، وأرجو أن يتماثل للشفاء تماماً، ولو أن عقله قد اختلط اختلاطاً تاماً(64)". وربما أخطأت الشائعات، لأن هندل الذي بلغ الستين استجاب بكل قواه لدعوة من ولي العهد ليحيي ذكرى انتصار أخي الأمير الأصغر، دوق كمبرلاند، على القوات الإستيوارتية في كالودين. واتخذ هندل انتصار يهوذا المكابي (166-161 ق. م) على خطط أنطيوخس الرابع لقرض الهلنستية على وطنه موضوعاً رمزياً للأوراتوريو الجديدة. وقد أحسن الجمهور استقبالها (أول أبريل 1747) حتى احتملت إعادة عرضها خمس مرات في أول موسم لها. أما يهود لندن الشاكرون هذا الاحتفال النبيل بأحد أبطالهم القوميين، فقد أعانوا على تكثير جمهور النظارة، فمكنوا هندل من تقديم الأوراتوريو أربعين مرة قبل موته. واعترافاً بفضل هذا الدعم الجديد اتخذ أكثر موضعات ألحانه الدينية بعد ذلك من تاريخ اليهود أو أساطيرهم، اسكندر بالوس، ويشوع، وسوسنة، وسليمان، ويفتاح. وعلى عكس ذلك لم تجتذب أوراتوريو "تيودورا"-وهو اسم مسيحي-من الجمهور إلا أقل القليل، حتى لاحظ هندل في مرارة أنه "كان هناك مكان يتسع للرقص" وغادر تشسترفيلد المسرح قبل نهاية العرض معتذراً بأنه "لا يريد إزعاج الملك في خلوته(65)".


بروميثيوس

ليست الأوراتوريو إلا "نوعاً" واحداً من ذلك "الجنس" المسمى هندل. ذلك أن روحه المتعددة الأشكال اتجهت بتوافق تلقائي تقريباً لأي شكل من الأشكال الموسيقية الكثيرة. فالأغاني التي ما زالت تمس أوتار العاطفة، وقطع الأرغن أو البيان المتناهية الرقة، والسوناتات، والمتتابعات، والرباعيات، والكنشرتو، والأوبرا، والأوراتوريو، وموسيقى الباليه، والقصائد الغنائية، والرعويات والكنتاتات، والتراتيل، والأناشيد الوطنية، وتسبيحات الشكر، وترانيم أسبوع الآلام-كل شيء تقريباً إلا السمفونية الوليدة نجده في موسيقاه، منافساً بذلك فيض بيتهوفن أو باخ المتدفق، و"متتابعات الهاربسيكورد" تبدو اليوم على الهاربسيكورد وكأنها أصوات أطفال سعداء لم يعرفوا التاريخ بعد. وهناك مجموعة ثانية من المتتابعات بدأ بذلك الاستهلال الذي لعب به الموسيقى برامز لعباً مرحاً في "تنويعات وفوجه على موضوع لهندل".

وكما أخذ هندل الأوراتوريو عن كاريسيمي وكايزر وارتفع بها إلى أوجهاً، كذلك أخذ عن توريللي وكوريللي "الكونشرتو الكبير"-لآلتين أو أكثر لمغن واحد أو مغنيين مع أوركسترا صغير (أوركسترا الحجرة). وفي مجموعته الموسيقية السادسة ترك اثني عشر من هذه الكونشرتوات الكبيرة، مقابلاً كمانين وفيولنتشيللو بمجموعة وترية، وبعضها يبدو لنا اليوم رتيباً، وبعضها يقرب من كونشرتو براندنبورج لباخ. كذلك نجد في هندل كونشرتوات ممتعة لآلة منفردة-الهاربسيكورد أو الكمان، أو الفيولا، أو الأوبرا، أو الهارب. أما تلك المخصصة للوحات المفاتيح فكان يؤديها هندل بنفسه في المقدمات أو الفواصل. وكان أحياناً يترك متسعاً في موسيقى الكونشرتو لما يجب أن نسميه اليوم "ارتجالاً" cadenza، حيث يستطيع العازف أن يطلق العنان لخياله ويظهر براعته. وكانت ارتجالات هندل في مثل هذه الافتتاحات أعاجيب تحدث الناس بها طويلاً.

وفي يوليو 1717 نظم جورج الأول "رحلة" ملكية في ذهبيات حفلت بالزينات على نهر التيمز. وتكشف صحيفة "الديلي كورنت" عدد 19 يوليو 1717 عن هذا المشهد فتقول:

"في مساء الأربعاء حوالي الثامنة نزل الملك إلى النهر عند هوايتهول في ذهبية مكشوفة، كان فيها أيضاً دوقة نيوكاسل، وكونتيسة جودولفن، ومدام كيلمانسيك، وايرل أوكني، وصعدوا في النهر جنوب تشلسي. ورافقتهم ذهبيات كثيرة أخرى يستقلها بعض علية القوم، وزوارق كبيرة العدد بحيث غطت صفحة النهر تقريباً. وخصص زورق فرقة موسيقية من فرق المدينة لعزف الموسيقى، زود بخمسين آلة من جميع الأنواع، عزف عليها العازفون طوال الطريق من لامبث.. .. أبدع السمفونيات، التي لحنها المستر هندل خصيصاً لهذه المناسبة وأعجبت جلالته جداً حتى طلب عزفها أكثر من ثلاث مرات في الذهاب والإياب(66)".

وهذه هي "موسيقى الحياة"، التي هي اليوم أبقى وألذ ما تخلف من مؤلفات هندل الآلية. ويبدو أنه كان هناك في الأصل إحدى وعشرون حركة-وهو عدد أكبر من أن يحتمله المستمعون العصريون الذين تعوزهم الذهبيات والوقت، ونحن لا نستمع عادة لأكثر من ست. وبعضها متعبة بعض الشيء في تطوافها المشجي، ولكن أكثرها موسيقى صحية مرحة متألقة، كأنها متدفقة من ينبوع لتهديد خليلات الملك. و "موسيقى المياه" أقدم قطعة موسيقية في الذخيرة الأوركسترالية الحالية.

وبعد جيل كامل، ومن أجل جورج ثان، أضفى هندل الكرامة على مناسبة خلوية أخرى. ذلك أن الحكومة قررت إقامة عرض للألعاب النارية في جرين بارك احتفلا بصلح اكس-لا-شابل، ووكلت هندل بتأليف "موسيقى الألعاب النارية الملكية". فلما عزفت بروفا هذه الموسيقى في حدائق فوكسهول (21 أبريل 1749)، دفع اثنا عشر ألف شخص مبلغ الشلنين-الكبير في ذلك الوقت-للاستماع إليها؛ وبلغ التزاحم مبلغاً عطل المرور على الطريق الذي يعبر كوبري لندن ثلاث ساعات-"ولعل هذا كان أروع ثناء ظفر به أي موسيقي على الإطلاق(67)". وفي 27 أبريل شق نصف سكان لندن طريقهم إلى جرين بارك، واقتضى الأمر هدم ست عشرة ياردة من سوق الحديقة لتمكينهم من الدخول في الميعاد. وعزفت "فرقة" من مائة موسيقي لحن هندل، وتألقت الألعاب النارية في السماء،وشبت النار في مبنى أقيم لهذه المناسبة، فذعر الجمع المحتشد وأوذي كثيرون ومات شخصان. ولم يبق من المهرجان إلا موسيقى هندل. وإذ كان هدف هذه الموسيقى أن تخلد حرباً ظافرة وأن تسمع عن بعد فقد كانت عبارة عن دوي هتافات وطنين طبول أشد ضجيجاً مما تحتمله الأذن التي ألفت الحركة البطيئة. ولكن فيها حركة بطيئة جداً تقع وقعاً محموداً على الأعصاب المرهقة.

وانتهت إنجلترا آخر الأمر إلى محبة الألماني العجوز الذي ناضل جاهداً ليكون إنجليزياً. لقد فشل في نضاله، ولكنه حاول، حتى إلى حد السب والشتم بالإنجليزية. وتعلمت لندن أن تغتفر له بدانته الهائلة، ووجهه العريض وخديه المنتفخين، وساقيه المقوستين ومشيته الثقيلة، ومعطفه القرمزي المخملي، وعصاه الذهبية المقبض، وعجبه وتعاليه؛ لقد كان لهذا الرجل بعد كل المعارك التي خاضها الحق في الظهور بمظهر الفاتح، أو على الأقل بمظهر اللورد، نعم كان في سلوكه جلافة، وكان يدرب موسيقييه بالحب والغضب، ويوبخ جمهور المستمعين على كلامهم خلال البروفات، ويهدد مغنياته باستعمال العنف، ولكنه غلف عنفه بالفكاهة. فلما التحمت كوتزوني وبوردوني بالأيدي على خشبة المسرح قال هدوء "اتركوهما لتنهيا المعركة"، وراح يدق لحناً مصاحباً مرحاً على النقاريات ليرافق سورة غضبهما(68). ولما هدده مغن بالوثب على الهاربسيكورد لأنه عزف هندل المصاحب اجتذب السامعين أكثر من غناء المغني، طلب إليه هندل أن يحدد تاريخ هذه التمثيلية المقترحة للإعلان عنها قائلاً أن "الذين سيأتون ليروك تقفز أكثر من الذين سيأتون ليسمعوك تغني(69)". وكانت ملاحظاته الظريفة تعدل في براعتها تعليقات جوناثان سويفت، ولكن الاستمتاع بها كان يقتضي الإلمام بأربع لغات.

وفي 1752 بدأ يفقد بصره. فبينما كان يكتب "يفتاح" اختلطت الرؤية أمام عينيه حتى اضطر إلى الكف عن الكتابة. وفي المخطوطة الأصلية المحفوظة بالمتحف البريطاني أخطاء عجيبة-"سيقان رسمها بعيدة بعض الشيء عن النوتات التي تنتمي إليها، ونوتات واضح أنها ضلت طريقها(70)". وفي أسفل الصفحة سطر كتبه المؤلف "إلى هنا وصلت، الأربعاء 13 فبراير. منعتني عيني اليسرى من الاستمرار". وبعد عشرة أيام كتب على الهامش "23 فبراير، حالتي أحسن قليلاً. استأنفت العمل". ثم ألف موسيقى لهذه الكلمات "فرحنا يضيع في الحزن... كما يضيع النهار في الليل(71)".وفي 4 نوفمبر كتبت صحيفة "الجنرال أدفرتيرز": "بالأمس أعد "لعملية السد أو الكتركت) السيد جورج فردريك هندل التي يجريها له الطبيب وليم برومفيلد جراح سمو أميرة ويلز". وبد أن الجراحة نجحت، ولكن في 27 يناير 1753 أعلنت جريدة لندنية أن "المستر هندل كيف بصره في النهاية تماماً لسوء الحظ". على أن التقارير اللاحقة تشير إلى أنه احتفظ ببصيص من النور حتى موته.

وواصل التأليف والقيادة سبع سنين أخر. فقدم في ستة أسابيع (23 فبراير إلى 6 أبريل 1759) حفلتين عرض فيهما "سليمان"، وحفلة عرض فيهما "شمشون" واثنتين "يهوذا المكابي" وثلاثاً "المسيا". ولكن بينما كان يغادر المسرح عقب حفلة عرض المسيا في 6 أبريل وقع مغشياُ عليه، واقتضى الأمر حمله إلى بيته. فلما أفاق كان دعاؤه أن يفسح له في الأجل أسبوعاً آخر. "أريد أن أموت في يوم الجمعة الكبيرة، رجاء أن ألحق بالآلة الصالح، ربي ومخلصي الحبيب، في يوم قيامته(72)". وأضاف إلى وصيته ملحقاً أوصي فيه بألف جنيه لجمعية إعانة الموسيقيين العجزة وعائلاتهم، وبمبالغ كبيرة لثلاثة عشر صديقاً، وإلى "خادماتي راتب سنة لكل واحدة". ومات في سبت النور (عشية القيامة)، 14 أبريل 1759، ودفن في دير وستمنستر في 20 أبريل، في مشهد من "أعظم حشد للبشر من جميع الرتب رؤى في مثل هذه المناسبة بل وفي أي مناسبة أخرى(73)".

ولقد ترك ثروة موسيقية لا تضارع، ستاً وأربعين أوبرا، واثنين وثلاثين أوراتوريو، وسبعين مقدمة، وإحدى وسبعين كنتاتاً، وستة وعشرين كونشرتاً كبيراً، وثمانية عشر كونشرتاً للأرغن، وكثيراً وكثيراً غير هذا بحيث يملأ كل هذا مائة مجلد ضخم، تكاد تعدل أعمال باخ وبيتهوفن مجتمعة. وكان بعض هذا التراث مكرراً، وبعضه مسروقاً، لأن هندل سطا على موسيقى تسعة وعشرين مؤلفاً على الأقل دون إقرار بفضلهم ليستعين بهم على الوفاء بمواعيده(74)، مثال ذلك أن المينيوويت في مقدمة "شمشون" أخذت أنغامها نصاً من أوبرا كلوديوس لكايزر.

ومن العسير تقدير هندل بقدره الصحيح، لأنه لا يعرض علينا اليوم إلا اليسير من أعماله. أما الأوبرات، فإنها باستثناء بعض الألحان الساحرة لا سبيل إلى بعثها، فقد وضعت ضمن نماذج إيطالية ذهبت ولا أل في رجوعها فيما يبدو، ونصوص موسيقاها الموجودة الآن ناقصة، وهي تستعمل رموزاً واختصارات أكثرها غير مفهوم الآن، وقد كتبت لأوركيسترات يختلف تكوينها عن تكوين أوركستراتنا اختلافاً تاماً، ولأصوت لجنس ثالث مختلف كل الاختلاف عن المتوسط من أجناس عصرنا. وتبقى بعد ذلك موسيقى الكونشرتو الشبيهة بأرض صيد سعيدة تحوي كنوزاً منسية، و "موسيقى المياه"، والأوراتوريوات-ولكن حتى هذه الأوراتوريوات "عتيقة"، لأنها كتبت لإنجليز يعدون للمعركة ويهود شاكرين؛ وتحتاج تلك الكوارس الضخمة والحركات الصوتية المتكاثرة إلى معدة ضليعة في الموسيقى لتهضمها-وإن كان مما يبهجنا أن نسمع "يفتاح" و "إسرائيل في مصر" من جديد. ويخبرنا الموسيقيون أي في الأوراتوريوات المهملة فخامة ووقاراً، وسموا في الوجدان، وقوة في التصوير والتعبير والدراما، وتنوعاً وبراعة في التقنية التركيبية، لم يدركها أحد بعده في ذلك اللون من التأليف الموسيقى. وقد عاشت "المسيا" إلى اليوم رغم ما شبها من تكرار وتقطيع أوصال لأنها من جهة تصون وتدخر أهم العقائد المسيحية العزيزة حتى على من تنكروا لها، ولكن أهم من ذلك أن ألحانها العميقة و "قراراتها" المعبرة عن الانتصار تجعلها في جملتها أعظم تأليف مفرد في تاريخ الموسيقى.

وقد أدركت إنجلترا عظمته بعد موته، فلما اقتربت ذكرى ميلاده انضم النبلاء الذين كانوا يخاصمونه من قبل إلى الملك والنواب في أحيائها بثلاثة أيام من موسيقاه. ولما كان مولده في 1684 طبقاً للتقويم الإنجليزي، فقد أقيمت أول حفلة في 26 مايو 1784 بدير وستمنستر، والثانية والثالثة في 27 و29 مايو. ولم تكف هذه لتلبية الطلب، فأقيمت حفلتان أخريان في الدير في 3 و5 يونيو. وبلغ عدد المرتلين 274، والعازفين في الأوركسترا 251، وبدأ الآن ذلك التقليد الذي يسبغ على عروض هندل الضخامة العارمة والجلال الطاغي. وأحيت عروض هائلة كهذه احتفالات لاحقة بذكرى مولد هندل، حتى إذا جاء عام 1874 ازداد عدد المشاركين في الأداء حتى بلغ 3.500. وقد ذهب بيرني الذي سمع أحد هذه العروض الكبرى إلى أن ضخامة الصوت لم تنتقص من حلاوة الموسيقى(78). على أي حال كانت هذه أضخم حفلات أقيمت لإحياء ذكرى أي موسيقي كائناً من كان. والآن وقد خفت فورتها فقد يصبح في الإمكان الاستماع إلى موسيقى هندل من جديد.


فولتير في إنجلترا 1726-1728

كان يعيش في إنجلترا عام 1726 شاب فرنسي سيتبوأ في تاريخ القرن الثامن عشر مكاناً أهم كثيراً من مكان هندل. لقد بلغ فولتير السواحل الإنجليزية عند جرينتش قرب لندن في 10 أو 11 مايو. وكان أول انطباع له فياضاً بالحماسة. فقد كان أسبوع مهرجان جرينتش، وكادت صفحة التيمز تغطيها الزوارق والأشرعة الضخمة، وكان الملك هابطاً النهر في ذهبية حافلة بالزينة، تسبقها فرقة موسيقية، وعلى الشاطئ رجال ونساء يختالون على جياد تخطر، ثم عشرات من الفتيات الحسان يمشين وقد تزين ليوم عطلة. وأثارت مشاعر فولتير البالغ من العمر اثنتين وثلاثين سنة أجسادهن الرشيقة، واحتشامهن، ووجناتهن المتوردة. على أنه نسيهن حين وصل غلى لندن ووجد أن المصرفي الذي كان يحمل إليه خطاب تحويل على رصيده بعشرين ألف فرنك قد أشهر إفلاسه. وأنقذه أفرارد فوكنر، وهو تاجر التقى به في فرنسا، فأقام عدة شهور في ضيعة هذا البريطاني الكريم بواندزورث، وهي ضاحية من ضواحي لندن. وأرسل جورج الأول إلى فولتير مائة جنيه حين سمع بحادثه المؤسف.

وكان يحمل رسائل تعريف من هوراشيو ولبول، السفير البريطاني لدى فرنسا، إلى كثير من مشاهير الإنجليز، وقد التقى عاجلاً أو آجلاً بكل إنسان تقريباً ممن يشار إليهم بالبنان في ميدان الأدب أو السياسة الإنجليزية. فاستقبله روبرت ولبول، رئيس الوزراء، ودوق نيوكاسل، وسارة دوقة ملبره، وجورج أوغسطس وكارولين أمير وأميرة ويلز، ثم آخر المطاف الملك الذي نفحه بساعة ثمينة أرسلها فولتير عربون صلح لأبيه.

ثم زار "سيدي اللورد بولنبروك وسيدتي الليدي بولنبروك" و "وجد محبتهما لا تزال كما هي(77)". وفي أغسطس قام برحلة خاطفة إلى فرنسا، وهو لم يزل على تلهفه لقتال روهان، ولكن سبب الرحلة كان في أغلب الظن تنظيم شئونه المالية. وعاش ثلاثة أشهر-بعضها مع سويفت-ضيفاً على الايرل الثالث لبيتربورو. واستمتع ثلاثة أخرى في قصر ايستربري بضيافة بوب دودنجنتن، ذلك السياسي الفاسد والراعي العطوف لفيلدنج، وطومسن، وبنج. والتقى فولتير بكلا الشاعرين هناك، وقرأهما دون أن يخرج بفائدة من القراءة. ومن ثم عكف على تعلم اللغة بعزم صادق، فما وافت نهاية عام 1726 حتى كان يكتب الخطابات بالإنجليزية(78). واقتصر في الشهور الأولى على المجالس التي كانت تفهم فيها الفرنسية، ولكن كل من كان ذا شأن من الرجال أو النساء في الأدب الإنجليزي أو السياسة الإنجليزية كان يعرف الفرنسية. وكتب المذكرات التي ملأها الآن باللغتين على السواء، وهي تدل على أنه تعلم الألفاظ النابية أول ما تعلم من الإنجليزية.

وقد اكتسب من الإحاطة بالأدب الإنجليزي ما لم يكتسبه فرنسي مرموق بعده حتى ايبوليت تين. وقرأ بولنبروك، ولكنه وجد قلم الفيكونت أقل ألمعية من لسانه؛ على أنه ربما أخذ من كتاب بولنبروك المسمى "مفهوم الملك الوطني" الاعتقاد بأن خير الأمل في الإصلاح الاجتماعي يجيء على يد الملكة المستنيرة. وشق طريقه وسط أحقاد سويفت المقطرة، وربما تعلم منه بعض فنون الهجاء، وحكم بأنه "يفوق رابليه بما لا يقاس(79)". وقرأ ملتن، ووقع من فوره على هذه الحقيقة، وهي أن الشيطان هو الطل الحقيقي لملحمة الفردوس المفقود(80). وقد رأينا في مكان آخر انفعاله المختلط بشكسبير-الإعجاب ببلاغة "الهمجي المحبوب"، و "درر" السمو أو الرقة الدفينة وسط "كومة روث هائلة" من المهازل والمباذل(81). وقلد "يوليوس قيصر" في "موت قيصر"، وعطيل في "زائير". كذلك ظهرت رحلات جلفر من جديد في "ميكروميجاس"، ومقال بوب عن الإنسان في "رسائل منظومة في الإنسان".

وبادر بعد وصوله إلى إنجلترا بزيارة بوب. وصدمه منه تشوهه وعذاباته، وأذهلته حدة ذهن بوب وإرهاف عبارته، وفضل مقال بوب في النقد على مقال بوالو في "فن الشعر(82)". وزار كونجريف المسن وساءه أن يجد الرجل الذي كان يوماً ما مسرحياً عظيماً أراد أن يعتبر "جنتلماناً لا مؤلفاً(83)". وعلم في حسد بأمر الوظائف الشرفية والمعاشات التي منحتها الوزارات الإنجليزية قبل ولبول للمؤلفين، وقارن بين هذا الوضع وما صار إليه أمر أكبر شعراء فرنسا، الذي زج به في السجن لأنه استاء من إهانة نبيل له. ومن الأدب انتقل إلى العلم، فالتقى بأعضاء الجمعية الملكية، وبدأ يدرس نيوتن تلك الدراسة التي أتاحت له بعد ذلك أن يحل نيوتن محل ديكارت في فرنسا. وتأثر تأثراً عميقاً بالجنازة الرسمية التي شيعت بها صفوة الإنجليز نيوتن، ولاحظ كيف رحبت الكنيسة الأنجليكانية بعلام يدفن في دير وستمنستر. ومع أنه كان قد أصبح ربوبياً قبل زيارته لإنجلترا-إذ تعلم فن الشك من رابليه ومونتيني وجاسندي وفونتنيل وبيل-فإنه الآن اتخذ دعماً له من ربوبيي إنجلترا-من تولاند وولستن وتندال وتشب وكولنز ومدلتن وبولنبروك؛ وسيسلح مكتبته بكتبهم في فترة لاحقة، وكان أقوى حتى من هؤلاء تأثير لوك الذي امتدحته فولتير لأنه أول من درس العقل دراسة واقعية. ولاحظ أن القليل جداً من هؤلاء المهرطقين المصرين على هرطقتهم سجنوا بسبب آرائهم. ثم لاحظ نمو التسامح الديني منذ 1689، وذهب إلى أنه لا يوجد في إنجلترا تعصب دين أعمى، وحتى الكويكرز خفت فورتهم فغدوا رجال أعمال هادئين. وزار أحدهم، وسره بأن ينبأ بأن بنسلفانيا بلد مثالي يخلو من الطبقات والحروب والأعداء(84).

كتب بعد ذلك غلى مدام دو دفان يقول "ما أشد حبي للإنجليز، ما أشد حبي لهؤلاء القوم الذين يقولون ما يعتقدون(85)!" وعاد يقول: "انظري ما حققته قوانين الإنجليز، لقد ردت لكل إنسان حقوقه الطبيعية التي سلبته إياها كل النظم الملكية تقريباً. وهذه الحقوق هي: الحرية الكاملة للفرد وما يملك؛ وحقه في أن يكلم الناس بقلمه؛ وأن يحاكمه محلفون من الرجال الأحرار إذا اتهم بجريمة؛ وألا يحاكم في أي أمر إلا طبقاً لقوانين محددة؛ وأن يجهر وقت السلم بالدين الذي يفضله أياً كان، مع البعد عن تلك المناصب التي لا يختار لها إلا أعضاء الكنيسة الأنجليكانية(86)".

والسطر الأخير يدل على أن فولتير أدرك حدود الحرية الإنجليزية. فقد عرف أن الحرية الدينية لم تكن قط كاملة، وقد سجل في مذكراته القبض على "مستر شبنج" لما أبدى من ملاحظات مهينة على خطاب العرش(87). وكان في استطاعة أي من مجلسي البرلمان أن يستدعي المؤلفين لمحاكمتهم على تصريحاتهم المؤذية عن أعضاء البرلمان؛ وكان في استطاعة كبير الأمناء أن يرفض التصريح بالتمثيليات؛ وقد وضع ديفو في المشهرة عقاباً على نشرة حشاها تهكماً. ولكن فولتير أحس بأن حكومة إنجلترا رغم فسادها أعطت الشعب قسطاً من الحرية يحفزه حفزاً خلاقاً في كل مجالات الحياة.

فهنا على سبيل المثال كانت التجارة حرة نسبياً، لا يغل يدها ما يعرقلها في فرنسا من مكوس داخلية. وخلعت على رجال الأعمال المناصب الإدارية الرفيعة، وسيعين صديقه فوكنر بعد قليل سفيراً لإنجلترا في تركيا. وأحب فولتير، رجال الأعمال، روح الإنجليز العملية، واحترامهم للحقائق والواقع والمنفعة، وبساطة سلوكهم وعاداتهم وملبسهم حتى الأثرياء منهم. وأحب أكثر من هذا كله الطبقة الوسطى الإنجليزية. وقارن بين الإنجليز وجعتهم: رغوة على السطح، وحثالة في القاع، ولكن الوسط رائع(88). كتب في 12 أغسطس 1726 يقول: "لو خيرت لآثرت المكث هنا لغرض واحد هو أن أتعلم أن أفكر"، وفي دفقة من حماسته دعا تييريو غلى زيارة "أمه مغرمة بالحرية، مثقفة، ذكية، تحتقر الحياة والموت، أمة من الفلاسفة(89)".

وقد كدر صفاء غرامه هذا بإنجلترا ما حام حوله حيناً من اشتباه بوب وغيره في أنه يعمل جاسوساً على أصدقائه المحافظين لوزارة وليول(90). فلما اتضح أن الشبهة ظالمة نبذت للتو، وظفر فولتير بشعبية كبيرة بين النبلاء وصفوة المثقفين اللندنيين. وحين قرر أن ينشر ملحمة الهنريادة في إنجلترا، أرسلت له كل الدوائر المثقفة تقريباً اكتتاباتها، بما فيه جورج الأول، والأميرة كارولين، والبلاطان المتنافسان؛ وطلب سويفت غلى بعض هؤلاء، أو قل أمرهم، بالاكتتاب. فلما ظهرت القصة (1728) أهديت إلى كارولين، التي كانت الملكة الآن، مشفوعة بباقة من الأزهار إلى جورج الثاني، الذي رد على التحية بنفحة قدرها أربعمائة جنيه، ودعوة إلى حفلات العشاء الملكية. ونفدت ثلاث طبعات في ثلاثة أسابيع، رغم أن النسخة بيعت بثمن باهظ قدره ثلاث جنيهات. وقد قدر فولتير دخله من هذه الطبعة الإنجليزية بمبلغ 150.000 فرنك. واستخدم بعض هذا المال ليعين عدة فرنسيين في إنجلترا(91)، أما الباقي فقد استثمره بغاية الحكمة، حتى لقد حكم بعد ذلك على هذا الربح الذي لم يتوقعه بأنه الأصل في ثرائه. ولم يكف قط عن عرفانه بصنيع إنجلترا.

لقد دان لها قبل كل شيء بحفز هائل لذهنه وإنضاج لفكره. فلما عاد من منفاه جلب معه كتب نيوتن ولوك في حقائبه. وأنفق جزءاً من سنيه العشرين التالية في تعريف فرنسا بهما. كذلك جلب معه كتب الربوبيين الإنجليز، الذين زودوه ببعض الذخيرة التي سيستعملها في الحرب على "العار". وكما أن إنجلترا على عهد تشارلز الثاني تعلمت الخير والشر من فرنسة لويس الرابع عشر، فكذلك ستتعلم فرنسة لويس الخامس عشر من إنجلترا الأعوام 1680-1761. ولم يكن فولتير وسيط التبادل الأوحد في هذا الجيل؛ فإن مونتسكيو، وموبورتوي، وبريفوست، وبوفون، ورينال، وموريلليه، وليلاند، وهلفتيوس، وروسو-هؤلاء أيضاً أتوا إلى إنجلترا، والذين لم يأتوا تعلموا من الإنجليزية ما يكفي لجعلهم حملة للأفكار الإنجليزية. وقد أجمل فولتير في تاريخ لاحق هذا الدين في رسالة بعث بها إلى هلفتيوس. قال:

"لقد استعرنا من الإنجليز المرتبات السنوية، وأموال استهلاك الديون، وبناء السفن وتسييرها، وقوانين الجاذبية،... والألوان الأساسية السبعة، والتطعيم، وسنكتب منهم، دون إدراك منا، حرية تفكيرهم الرفيعة، واحتقارهم العميق لتفاهة المعلومات التي تعطيها المدارس(92)".

ومع ذلك شعر بالحنين إلى فرنسا. لقد أشبهت إنجلترا الجعة، أما فرنسا فلها مذاق النبيذ في فمه. والتمس المرة بعد المرة أن يؤذن له في العودة. ويبدو أنه منح الأذن بشرط معتدل هو أن يجتنب باريس أربعين يوماً. ولا علم لنا متى غادر إنجلترا، وأغلب الظن أن هذا كان في خريف 1728، وفي مارس 1729 كان في سان-جرمان-أن-ليه؛ وفي 9 أبريل كان في باريس، رجلاً هذبته المحن ومحصته دون أن تقضي عليه، جياشاً بالأفكار، متلهفاً على تغيير هذه الدنيا وتبديلها.