قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 1 ف 5

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 11824

قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الأدب والمسرح -> دولة القلم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس: الأدب والمسرح 1714-1756

1- دولة القلم

كانت إنجلترا تشغى بالطباعة على الأقل إن لم تشغ بالأدب. ففضلاً عن زيادة سكانها، لا سيما في المدن وخصوصاً في لندن، كان الإلمام بالقراءة قد انتشر بينهم باعتباره ضرورة للتجارة والصناعة وحياة المدينة. وعكفت البورجوازية المزدهرة على قراءة الكتب تميزاً وترويحاً، وعكفت النساء على الكتب فوفرن القراء والحوافز لرتشاردسن والرواية. وزاد من جمهور القراء المكتبات الدائرة، التي أنشئ أول مكتبة فيها يعيها التاريخ المدون في 1740، وسرعان ما أصبح عددها اثنتين وعشرين في لندن وحدها. وبدأت الطبقة الوسطى الجماعية تحل محل الطبقة الأرستقراطية الفردية بوصفها راعية للأدب، وهكذا استطاع جونسن أن يهزأ بتشسترفيلد. ولم تعد الإعانات الحكومية تتحكم في كبار الأقلام بالمغريات السياسية-كما حدث من قبل مع أديسون وسويفت وديفو.

وشحذت شهية الجمهور للأخبار تلك الصراعات المرة بين الأحرار والمحافظين، وبين الهانوفريين والاستيوارتيين، وتورط إنجلترا المتزايد في الشئون الأوربية والاستعمارية، وأصبحت الجريدة قوة يعتد بها في تاريخ بريطانيا. ففي 1714 كان هناك إحدى عشرة جريدة تصدر بانتظام في لندن، وأكثرها أسبوعي، وفي 1733 زادت إلى سبع عشرة، وفي 1776 إلى ثلاث وخمسين. وكان كثير منها تعنيه الأحزاب السياسية، فكلما رفع الشعب صوته اشترت الأقليات الموسرة الجرائد لتملي أفكارها. واشتملت كل الجرائد تقريباً على إعلانات. وخصصت "الديلي أدفرتيزر" التي أسست في 1730 أول الأمر للإعلانات دون سواها، ولكنها سرعان ما أضافت عنصراً مثيراً من الأنباء، كما تفعل جرائدنا الصباحية العملاقة، لدعم توزيعها وزيادة أجور إعلاناتها. وولدت في هذه الفترة بعض المجلات الهامة مثل "الكرافتسمان" (1726) وهي السوط الذي راح بولنبروك يسوط به ولبول، ومجلة "جراب ستريت" (1730-37)، وهي لسان بوب الحاد، ومجلة "الجنتلمان" (1731) التي أعطت جونسون وظيفة فيها، ومجلة "أدنبرة" (1755) التي ماتت إلى أجل فقط في 1756. وكثير من الجرائد والمجلات الإنجليزية ما زال حياً بعد مضي مائتي عام على صدوره.

هذه الدوريات كلها-اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية-أعطت المطبعة قوة أضافت إلى مخاطر الحياة البريطانية وحيويتها. ومع أن روبرت ولبول حظر نشر المناقشات البرلمانية، فقد أباح للصحفيين أن يهاجموه بكل ما في أدب القرن الثامن عش من قسوة وخبث. وقد عجب مونتسكيو القادم من فرنسا التي فرضت عليها رقابة المطبوعات، لتلك الحرية التي كانت صحيفة "جراب ستريت" تقذف بها داوننج ستريت (مقر الحكومة) بالمداد المسموم(1). وشكا عضو في البرلمان إلى مجلس العموم في 1738 من أن : "شعب بريطانيا العظمى تحكمه قوة لم يسمع بها قط من قبل، باعتبارها السلطان الأعلى، في أي عصر أو بلد. وهذه القوة يا سيدي لا تكمن في إرادة الملك المطلقة، ولا في توجيه البرلمان، ولا في قوة الجيش، ولا في نفوذ الأكليروس، إنها حكومة الصحافة. فالبضاعة التي تحفل بها صحفنا الأسبوعية يتقبلها الشعب باحترام يفوق احترامه لقوانين البرلمان، وآراء هؤلاء الكتاب التافهين لها عند الجماهير وزن أثقل مما لرأي خيرة السياسيين في المملكة(2)".

ورح الطباعون يعملون بحماسة جديدة ليلبوا الطلب المتزايد فككان في لندن 150 منهم، وفي إنجلترا كلها ثلاثمائة، اثنان منهم في هذا العهد-وهما وليام كاسلون وجون باسكرفيل-خلفاً أسميهما على طقم حروف طباعية. وظل الطبع والنشر وبيع الكتب في معظم الحالات موحداً في شركة واحدة. ومن الشركات الباقية إلى يومنا شركة لونجمان التي ولدت في 1724. وكانت كلمة "publishere الناشر" تدل على عائدة المؤلف، أما الذي يخرج الكتاب فهو بائع الكتب أو تاجرها bookseller. وألف بعض باعة الكتب، كأبي جونسن، أن يحملوا بضاعتهم إلى الأسواق، أو يسرحوا بها من مدينة إلى مدينة، ويفتحوا كشكاً في أيام السوق، وكان الثمن الذي يطلبوه عن كتاب مجلد يتفاوت بين شلنين وخمسة، ولكن الشلن عام 1750 كان يساوي دولاراً وربعاً تقريباً. وكان البرلمان قد أقر قانوناً بحقوق الطبع في 1710، وكفل للمؤلف أو من يخصصهم حقوق الملكية في كتابه أربعة عشر عاماً، تمتد إلى ثمانية وعشرين عاماً إذا عمر بعد الفترة الأولى. على أن هذا القانون لم يحمه إلا في المملكة المتحدة، وكان في استطاعة الطباعين في إيرلندة وهولندا أن ينشروا طبعات مسروقة ويبيعوها (حتى 1739) في إنجلترا منافسين بذلك بائع الكتب الذي دفع الثمن الكتاب.

في هذه الظروف المنطوية على المجازفة تشدد باعة الكتب في مساوماتهم مع المؤلفين. وكان الكتاب يبيع حقه في الكتاب عادة بمبلغ محدد، فإذا راج الكتاب على غير توقع فقد ينفح البائع المؤلف بمبلغ إضافي، ولكن هذا لم يكن لزاماً عليه. أما ثمن الكتاب الذي يؤلفه مؤلف معروف فكان يتفاوت بين مائة ومائتي جنيه. وقد تسلم هيوم خمسمائة جنيه ثمناً للمجلد من كتابه "تاريخ إنجلترا" وهو ثمن مرتفع ارتفاعاً استثنائياً. وكان للمؤلف الحق في قبول الاكتتابات لكتابه، كما فعل بوب في ترجمة للألياذة؛ وفي هذه الحالات كان المكتتب يدفع عادة نصف ثمن الشراء سلفاً، والنصف الثاني عند تسلمه الكتاب، وكان المؤلف يتولى الدفع للطابع.

وعاشت الكثرة العظمى من المؤلفين في فقر مسخط. من ذلك أن سيمون أوكلي، الذي ظل عاكفاً عشر سنوات على تأليف كتابه "تاريخ المسلمين" (1708-57)، اضطر إلى استكماله في سجن المدينين؛ وكان رتشرد سفدج يتسكع في الشوارع ليلاً لافتقاره إلى مسكن، وظل جونسون ثلاثين عاماً يعاني مرارة الفقر قبل أن يصبح أمير الأدب الإنجليزي. وكان شارع جراب (شارع ملتن الآن) الموطن التاريخي "للشعر والفقر" (كما قال جونسن)، حيث الكتاب المأجورون- من صحفيين، ومترجمين، ومصنفين، وقراء تجارب الطبع، وكتاب المقالات للمجالات، ومحققين-ينامون ثلاثة في فراش واحد ويرتدون البطاطين لافتقارهم إلى غيرها من الملابس. ولم تكن العلة في هذا الفقر شح باعة الكتب وعدم اكتراث ولبول بقدر ما كانت إتخام السوق الأدبية إتخاما لم يسبق له نظير بأصحاب المواهب الهزيلة ينافس بعضهم بعضاً في قبول الأجور المنحطة. وشارك طغيان حالات الإخفاق على حالات الفلاح في المال والأعمال، مع انسلاخ الأدب عن الحماية الأرستقراطية، على الحط من المكانة الاجتماعية للمؤلفين. وفي الوقت الذي كان فيه الشعراء والفلاسفة والمؤرخون في فرنسا يستقبلون بالترحيب في أروع البيوت والصدور، كانوا في إنجلترا-باستثنائين أو ثلاثة-يقصون عن "المجتمع المهذب" باعتبارهم بوهيميين غير مغتسلين. وربما كان هذا هو السبب في أن كونجريف رجل فولتير ألا يدرجه في زمرة الكتاب. وقد تحدى الكسندر بوب تحيزات عصره بادعائه إنه شاعر وجنتلمان معاً. وقد عنى بكلمة جنتلمان الرجل "الكريم المولد" لا الرجل الكريم السلوك. ولكن الأمر كان على النقيض!.

2- ألكسندر بوب 1688 - 1744

يستهل جونسن، الذي كان يحتقر الترجمات التي تبدأ بنسب صاحبها وتنتهي بمأتمه، ترجمته الممتازة لبوب بأنبائنا أن "الكسندر بوب ولد بلندن في 22 مايو 1668، لأبوين لم يتحقق لأحد قط من مرتبتهما أو مركزهما(3)". أما أبوه فتاجر كتان جمع ثروة متواضعة ثم اعتزل في بنفيلد قرب غابة ونزر. وكان أبواه كلاهما يتبعان المذهب الكاثوليكي الروماني، والسنة التي ولد فيها بوب كانت أيضاً السنة التي حطم فيها خلع جيمس الثاني آمال الكاثوليكية في تخفيف القوانين المعادية للكاثوليك. وخصت الأم الصبي الذي كان وحيدها بكثير من الترفق، وقد ورث عنها استعداداً للصداع، وعن أبيه تقوساً شديداً في عموده الفقري، فلم يزد طوله على أربعة أقدام ونصف.

وقد عهد بتعليمه الأول إلى القساوسة الكاثوليك، فأعانوه على إجادة اللاتينية، واليونانية بقدر أقل، وعلمه معلمون خصوصيون آخرون الفرنسية والإيطالية، وإذ أقفلت في وجهه الجامعات والمهن الراقية بسبب مذهبه، فقد واصل دراساته في البيت، فلما عاقه جسمه المحدودب وصحته الهشة عن العمل النشيط، ترك أبواه العنان لولعه بكتابة الشعر. يقول:

"كنت وأنا بعد طفل، لم تغرر بي الشهرة بعد،

ألثغ ببحور الشعر، لأن بحوره وافتني طوعاً(4)".

وحين بلغ الثانية عشرة أتيحت له نظرة خاطفة إلى دريدن يحتل مكان الصدارة في مقهى ولز، وأثار المنظر فيه رغبة عارمة في المجد الأدبي. فلما بلغ السادسة عشرة كتب بعض "الرعويات" التي تناولها الناس مخطوطة وحظيت بثناء أدار رأسه، وقبلت للنشر في 1709. وفي 1711، وبكل الحكمة الناضجة التي احتوتها سنوه الثلاث والعشرون، أدهش أدباء لندن بقصيدته "مقال في النقد" نراه- حتى وهو يحذر المؤلفين من أن:

"العلم القليل شيء خطر؛

فأنهلوا من الأعماق، وألا فلا تذوقوا ينبوع الشعر(5)".

يضع بحسم القاضي قواعد الفن الأدبي. هنا هضم الشاعر "فن الشعر" لهوراس، و "الفن الشعري" لبوالو في 744 بيتاً جيدة المعاني هضماً عجيباً، نظمت نظماً رائعاً، بألفاظ لا يزيد كثير منها على مقطع واحد- "أفكار طالما خطرت بالبال، ولكن لم يعبر عنها بمثل هذه الروعة(6)".

وكان للفتى ولع "بالابجرام"، وبضغط جوامع الحكمة في بيت واحد، ولقف كل فكرة بقافية. وقد أخذ مذهبه في النظم عن داريدن، ونظيته عن بوالو. وإذ كان لديه من الفراغ ما يتسع لصقل شعره، فإنه لم يتردد في قبول النصيحة الكلاسيكية، نصيحة تهذيب الشكل وصقله، وجعل الكأس أثمن نبيذها. ومع أنه ظل يجهر بكثلكته، فإنه اعتنق مبدأ بوالو القائل بأن الأدب ينبغي أن يكون العقل مفرغاً في ثوب لائق. أما الطبيعة فنعم، ولكنها الطبيعة التي روضها الإنسان؛ وأما الوجدان فنعم، ولكن الوجدان الذي هذبه وصفاه الذكاء. وأي مرشد أهدى إلى مثل هذا الفن المحكوم المنحوت من أعمال قدامى الشعراء والخطباء، وتصميمهم على أن يكونوا عقلانيين، وعلى أن يجعلوا كل جزء من عمل أدبي عنصراً منظماً مدمجاً في كل متناغم؟ هنا التقليد الكلاسيكي، المنحدر بطريق إيطاليا وفرنسا، بطريق بترارك وكورنيي، والذي يغزو الآن إنجلترا ويقهرها على يد الكسندر بوب، كما قهر شكسبير بمسرحية أديسون "كاتو" (في زعم فولتير)، وكما كست العمارة الكلاسيكية المنحدرة عن طريق بالاديو وسيرليو، وعن طريق بأرو ورن، الخيالات القوطية والشطحات الجامحة أو غلبتها بقواصر رزينة وصفوف أعمدة هادئة. وهكذا تكون مفهوم الشاعر الشاب عن العقل الكلاسيكي الذي يعمل في ناقد مثالي:


"ولكن أين هو الرجل الذي يستطيع أن يمحض النصح،

الذي مازال يغتبط بأن يعلم، ومع ذلك لا يطغيه علمه؟.

رجل لا يحرفه رضي ولا يميله حقد، لا هو متحيز في غباوة ولا مستقيم في عمى،

مهذب رغم علمه، مخلص مع تهذيبه،

جريء في تواضع، صارم في إنسانية،

يبصر الصديق بعيوبه في غير تحرج

ويطري العدو على فضائله وهو مبتهج،

رجل أوتي ذوقاً مدققاً دون تزمت،

ووهب العلم بالكتب والبشر جميعاً، محدث سمح، ونفس

تنزهت عن الكبرياء،

يحب أن يثني ثناء يؤيده فيه العقل(7)؟"

وقد وجد نفر من أمثال هذا الناقد، على استعداد للترحيب بمثل هذا الشعر وهذه الفضيلة المحسوبة من فتى في الثالثة والعشرين؛ وعلى ذلك خلع أديسون، الذي لا بد قد شعر أنه المقصود بهذه الأبيات، على الشاعر في العدد 253 من صحيفته "اسبكتيتور" ثناءً عظيماً لم يلبث أن ينسي في معارك الكلام. أما الشاعر جون دنيس، مؤلف مسرحية "أبيوس وفرجينيا" فقد خيل إليه أنه المذموم في أبيات بوب الطائشة:


"ولكن أبيوس يحمر لكل كلمة تقولها

ويحملق حملقة رهيبة بعين مهددة

وكأنه طاغية متوحش مرسوم على قطعة نسيج قديمة(8)"

فرد عليها بكتابة "تأملات نقدية وهجائية" (1711). وقد انتقى عيوباً حقيقية في فكر بوب وأسلوبه، وعرضها في إطار مقذع. فوصف بوب بالمنافق القبيح الذي خلق على شكل قوس كيوبيد أو ضفدع أحدب، وهنأه على أنه لم يولد في اليونان القديمة، وألا لألقت به عارياً بعد ولادته لقبحه(9). ولعق بوب جراحه وترقب فرصته.

ثم تابع نجاحه بنشر قصيدته "اغتصاب خصلة شعر" (1712) وكانت تقليداً سافراً لقصيدة بوالو Le Lutrin المقرأ (1674)، ولكن الناس أجمعوا على أنها فاقت أصلها. وخلاصة الموضوع أن اللورد روبرت بيتر أعرب عن تحمسه للمسز فيرمر بقصة خصلة من شعرها الجميل وهروبه بها، وتلا ذلك فتور بين الغاصب والمغتصبة. واقترح رجل يدعى كاريل على بويل أن أرابلاً قد يهدأ سخطها إذا قص الشاعر القصة في شعر مازح وقدم لها القصيدة. وهكذا فعل، وهكذا انتهى الأمر. فصفحت المسز فيرمر عن اللورد، ووافقت على نشر القصيدة. ولكن بوب وسع الخطة، مخالفاً نصيحة أديسون، وكدسها بعدة من الشعر الملحمي- الهزلي ضمت الكائنات الخرافية: السيلفات، والسمندلات، والحوريات، والأقزام المشاركة في الملحمة؛ وراقت هذه "المليشيا الخيفة للسماء السفلى" خيالات العصر وميوله، ولقيت قصيدة "الاغتصاب" المعدلة استحسان الجميع إلا الشاعر دنيس. وتوقف جورج باركلي في حملته على المادة ليهنئ المؤلف على لدونة ربة شعره. ولباقة بوب النظمية كلها، ومعين أخيلته وعباراته الذي لا ينضب، يجعلان القصيدة تتألق تألق الأحجار الكريمة التي رصعت بها الحسناء "بليندا" شعرها. وهو يصف بخبرة النساء مستحضرات التجميل التي يسلح بها أحد الجان البطلة لحروب الغرام، ويعدد في مرادفات تهكمية ما سيحفل به يومها من جلائل الأمور:

"ترى هل تحطم الحورية (بليندا- أرابيلا) قانون ديانا (قانون العفة)،

أم أن قارورة هشة من الصين سيصيبها شرخ،

أتراها تلوث شرفها، أم ثوبها الموشي الجديد؟

أتنسي أن تتلو صلواتها، أم يفوتها عرض بالأقنعة،

أتضيع قلبها، أم قلادتها، في حفل راقص...(1)"

وتشارك بليندا في ثرثرات جماعة الأشراف، وقمارهم في هامتن كورت، حيث:

"تموت سمعة عند كل كلمة(11)"؛

ويحشد الشاعر براعته الفنية ليصف لعبة ورق. فإذا انحنت بليندا لتشرب، قصّ البارون القوي خصلتها وهرب (وهذا السيل المتدفق) من البحر العمبقي "الأيامبي iambic" يأخذ بالألباب). فتطارده وقد أخذ الغضب منها كل مأخذ، وتعثر عليه، وتلقي قبضة من النشوق في وجهه؛

"وبغتة تفيض كل عين بالدموع المنهلة

وتردد قبة السماء صدى عطسه(12)"

وفي هذه الأثناء يغتصب الأقزام أو السيلفات أو السمندلات الخصلة ويجرونها وفي أثرها سحب الفخر إلى السماوات حيث تصبح نجماً مذنباً يفوق بريقه تلألؤ شعر بليندا.

وقد أبهج هذا كله نبلاء لندن ونبيلاتها، وأنديتها ومقاهيها. ووجد بوب نفسه رجلاً يشيد به الناس أبرع شاعر في إنجلترا، وغدا كل من عداه من الشعراء خصوماً له. ولم يضف جديداً لشهرته بالأبيات المملة التي وصف بها غابة ونزر (1713)، كذلك لم ينس له الأحرار بعد انتصارهم في 1714 أنه في تلك القصيدة كشف عن ميوله الكاثوليكية نحو الأسرة المالكة التي سقطت(13). ولكنه عاد فأسر جمهوره في 1717 بنظمه في مقطوعات من بيتين مقفيين couplets رسائل هلويز وأبيلار المختلفة. فنرى "الويزا" التي حبست نفسها في دير للراهبات تطلب إلى أبيلار المخصي أن يضرب بقوانين الكنيسة والدولة عرض الحائط ويأتي إلى حضنها:


"تعال إن جرؤت بكل ما فيك من فتنة!

تحد السماء، وطلبت بقلبي،

تعال، وبنظرة واحدة من تلك العيون المضلة

امح كل فكرة ذكية من أفكار السماء...

اخطفني، وأنت تهمّ بامتطاء جوادك، من مسكني المبارك، أعن الأصدقاء، وانتزعني من إلهي!"

وفي نزوة أخرى تقول له:

"لا أبعد عني بعد المشرقين،

لترتفع جبال الألب حاجزاً بيننا، ولتهدر محيطات بأسرها!

أواه، لا تأت، ولا تكتب، ولا تفكر في ولو مرة،

ولا تشاركني وخزة واحدة من وخزات الألم الذي ذقنه لأجلك(14)".

ومع ذلك تثق أنه آت إليها في ساعة احتضارها، لا عاشقاً بل كاهناً:

"ليتك تقف في ثياب مقدسة

والمشعل المقدس يرتعش في يدك

وتمد الصليب أمام عيني التي تهفو إليك،

وتعلمني وتعلم مني الموت(15)".

وكان بوب يحلم ككل شاعر في زمانه بأن ينظم ملحمة، وقد بدأ كتابة ملحمة وهو بعد في الثانية عشرة. فلما شب ودرس هومر خطر له أن يترجم الألياذة إلى ذلك المقطوعات ذات البيتين المقفيين التي كانت تكون منطقه الذي فطر عليه. واستشار أصدقاءه فأمنوا على الفكرة. وقدمه أحدهم وهو جوناثان سويفت إلى هارلي وبلونبروك وغيرهما من كبار رجال الحكومة آملاً في أن يحصل له على وظيفة شرفية يرتزق منها. فلما أخفق في هذا تكفل في أن يجمع له اكتتابات تعول "الكسندر" الجديد وهو يطفر بشعره فوق طروادة. وإذ كان سويفت في موقع استراتيجي بين طلاب الوظائف والكهنوت، فقد أعلن أنه "أفضل شعراء إنجلترا هو المستر بوب، بابوي بدأ ترجمة لهومر بالشعر الإنجليزي، لا بد له أن يكملها من أن يكتتبوا فيها جميعاً، لأن المؤلف لن يبدأ الطبع حتى أجمع له ألف جنيه!(16)". واقترح بوب أن يترجم الألياذة في ست مجلدات من قطع الربع، ثمن كل المجموعة منها ستة جنيهات (180 دولاراً؟). وقبلت الاكتتابات تترى رغم هذا الثمن الغالي، واشتدت الحماسة للمشروع حتى أن برنارد لنتو تاجر الكتب وافق على أن ينقد بوب مائتي جنيه لقاء كل مجلد، وأن يقدم له نسخاً مجانية لمكتتبيه. وبما أن المكتتبين (وعددهم 575) أخذوا 654 مجموعة، فإن بوب كسب 5320 جنيهاً (148.960 دولاراً؟) ثمناً للأياذة، وهو مبلغ لم يظفر بمثله مؤلف في إنجلترا إلى ذلك الحين. وظهر المجلد الأول المحتوي على أربعة أقسام في 1715. وقد لقى منافسه غير متوقعة بسبب نشر ترجمة في اليوم ذاته للقسم الأول بقلم توماس تيكل. وأثنى أديسون على ترجمة تيكل، التي اعتقد بوب أنها ليست في الحقيقة إلا بقلم أديسون، وأحس أن نشرها في آن واحد مع ترجمته عمل غير ودي، فأضاف أديسون إلى قائمة أعدائه.

ولو كان التفقه في العلم هو المحك الوحيد لما استحقت ترجمة بوب ثناء يذكر. فعلمه باليونانية متواضع، وقد اضطر إلى الاستعانة بالشراح المدرسين، وأنجز أكثر مهمته بالمضاهاة بين الترجمات السابقة وإعادة صياغتها بالأبيات الزوجية المقفاة من البحر الأيامبي (العمبقي) الخماسي التفاعيل iambic- pentameter couplets التي برع فيها. فأما بنتلي، أمير علماء الدراسات اليونانية الأحياء يومها، فقد أصاب في حكمه على هذا الأداء: "قصيدة لطيفة يا مستر بوب ولكن يجب ألا تسميها هومر(17)" فالأبيات الزوجية ونقر قوافيها الشبيه بنقر الطبل، والعبارات والفقرات والطباقات المتوازنة، هذه كلها عطلت أسلوب الشعر الإغريقي السداسي التفاعيل، الأسلوب السريع المتدفق. ومع ذلك كان هناك فخامة زاحفة، ومعين زاخر من اللغة، في تلك الأبيات التي ساقها الشاعر على نحو معجز، عبراً بها- رغم اعتراضات بنتلي- إلى القرنين الثامن والتاسع عشر، كأحب ترجمة للألياذة. قال فيها جونسن "إنها أسمى ترجمة للشعر شهدها العالم إلى اليوم(18)" وقال جراي إنه لن تضارعها أية ترجمة أخرى(19). كذلك كان رأي إنجلترا إلى أن أجال كيتس بصره في ترجمة تشامبن لهومر، واستمطر وردزورت اللعنة على الأسلوب المصطنع الطنان الذي أبهج الكثيرين جداً في عصر إنجلترا الأوغسطي.

ونشرت ألياذة بوب في 1715- 20، وأتى نجاحها بتجار الكتب المتنافسين إلى بابه. ورجاه أحدهم أن يعلق على طبعه حديثه لمسرحيات شكسبير، فوافق بغباوة، غافلاً عن الهوة التي تفصله عن شكسبير عقلاً وفناً. وراح يكد ويكدح بصبر ذاهب في تلك المهمة التي لا تلائمه، وظهرت الطبعة في 1725، وما لبث لويس ثيوبولد، أقدر المتخصصين في دراسة شكسبير يومها، أن أوسعها طعناً لقصورها، فصلبه في بوب في قصيدته "الدنسيادة" (أي ملحمة المغفلين).

وأقنعه لنتوت أثناء ذلك بأن يترجم الأوديسة، عارضاً عليه مائة جنيه ثمناً لكل مجلد من مجلداتها الخمسة، وأخذ المكتتبون 819 مجموعة، ولكن بوب، وقد افتقد الآن حافز الشباب والحاجة، سئم نحت مقطوعاته، وعهد بنصف العمل إلى دارسين كمبردج لم يطل بهما الوقت حتى تعلما محاكاة أسلوبه. وكان قد نبه المكتتبين سلفاً إلى أنه سيستخدم معاونين له، ولكنه حين نشر الأوديسة (1725- 26)- التي قصرت كثيراً عن ألياذته- نسب إلى مساعديه هذين الفضل في خمسة كتب من الكتب الأربعة والعشرين، في حين أنهما ترجما اثني عشر كتاباً في الواقع(20). ونقدهما 770 جنيهاً، أما هو فبلغ صافي ربحه 3.500 جنيه، إذ شعر بحق أن اسمه هو الذي باع الكتاب. وكفلت له الترجمتان الاستقلال المالي، فقال إن في وسعه الآن "بفضل هومر أن يعيش ويزكو غير مدين لإنسان أميراً كان أو نبيلاً(21)".

وفي 1718 اشترى فيللا في تويكنهام وحديقة مساحتها خمسة أفدنة تنحدر إلى نهر التيمز. وصمم الحديقة بالطراز الطبيعي، متحاشياً الرقابة الكلاسيكية التي مارسها في شعره. وقال "إن الشجرة شيء أنبل من الملك في ثيابه تتويجه(22)". وحفر له من بيته نفق تحت شارع معترض ليخرج منه إلى الحديقة؛ وزين هذه "المغارة" زينه حالمة فيها الأصداف، والبلورات، والمرجان، والمتحجرات، والمرايا، والمسلات الصغيرة. في هذه الخلوة اللطيفة الجو استضاف الكثير من الأصدقاء المشهورين- سويفت، وجراي، وكونجريف، وبولنبروك، وآربثنوت، والليدي ماري ورتلي مونتاجيو، والأميرة كارولين، وفولتير. وكانت الليدي ماري جارته في حي أطلقا عليه اسم "تويتنام"؛ وكان بولنبروك يسكن دولي على مقربة منه، ولندن لا تبعد أكثر من أحد عشر ميلاً في نزهة لطيفة بالقارب على التيمز، وأقرب منها القصور الملكية في رتشموند، وهامتن كورت، ووكيو.

وانضم الدكتور جون آربتنوت، الذي أضفى كتابه "تاريخ جون بول" (1712) على إنجلترا شخصية واسماً، إلى سويفت، وكونجريف وجراي، وبوب، في نادي سكربليروس الشهير (1713- 15)، الذي كرس للتهكم على كل ضروب الدجل والعجز. وأضيف كل ضحاياهم إلى القائمة المتعاظمة من خصوم بوب. وكان له مع الليدي ماري مغامرة اختلط فيها الواقع بالأدب وانتهت بعداوة مرة. وساكنه سويفت أحياناً، كما حدث أيام نشره "رحلات جلفر" (1726)، وتبادل الاثنان بغضهما للبشر، وبعض الرسائل التي كشفت عن رقة مخبؤه تحت دروعهما القاسية(23). أما معرفة بوب ببولنبروك فقد بدأت حوالي 1713، وتطورت إلى تأثير فلسفي. وقد أثنى الواحد منهما على صاحبه ثناء يبعث على الغثيان لغلوه، فقال بوب "أعتقد حقيقة أن في ذلك الرجل العظيم شيئاً يبدو أنه وضع هنا خطأ من عالم أعلى"، وقال بولنبروك وبوب يحتضر "لقد عرفته هذه السنين الثلاثين، ويزيد تقديرك لنفسي بسبب حبي لهذا الرجل"- وهنا خانه صوته كما تقول القصة(24).

ولا بد أنه كان هناك شيء يحب في هذا الشاعر الذي صورته الرواية المتواترة، بل صوره قلمه هو أحياناً، إنساناً مشاغباً خداعاً خسيساً مغروراً. وينبغي أن نذكر دائماً أنه كان ممروراً- وله العذر- بسبب ما استشعره كل يوم من مذلة عجزه البدني. لقد كان في صباه جميل الصورة، لطيف الطبع، وقد ظل وجهه دائماً جذاباً، ولو لمجرد توقد عينيه. ولكنه كلما شب أصبح تقوس عموده الفقري سافراً بصورة أكثر إيلاماً له. وقد وصف نفسه بأنه "مخلوق قصير، كله حيوية، طويل الساقين والذراعين، لا تخطئ إذا رمزت له بالعنكبوت، وقد حسبه البعض على بعد طاحونة هواء صغيرة(25)". (ويذكرنا هذا بسكارون المسكين). فإذا جلس إلى المائدة وجب أن يسند على مقعد عال كالطفل ليحاذي غيره. وكان يحتاج إلى من يخدمه طوال الوقت تقريباً. وما كان في استطاعته أن يمضي إلى فراشه أو ينهض منه دون أن يعان عليه، ولا أن يرتدي ثيابه أو يخلعها بنفسه، وكان يجد مشقة في الاحتفاظ بنظافة جسمه. فإذا نهض لم يستطع أن ينصب عوده حتى يشده خادمه إلى صدار من القنب المقوي، وبلغ من نحافة ساقيه أنه كان يلبس ثلاثة جوارب طويلة ليضخمهما ويدفئهما، وكان بسبب حساسيته الشديدة للبرد يرتدي "نوعاً من الصدرة الضيقة المصنوعة من الفراء"، تحت قميص من الكتان الثقيل الخشن. وقل أن عرف لذة العافية. وقد قال عنه اللورد باثورست أنه كان يشكو الصداع أربعة أيام في الأسبوع، ويمرض في الثلاثة الباقية. ومن المعجز أن استطاع جوناثان رتشردسن أن يرسم لبوب لوحة بمثل هذه الطلعة الحسنة(26)- كلها تيقظ وحساسية، ولكنا نستطيع في التمثال النصفي الذي صنعه له روبياك أن نتبين الجسم المعذب يعذب العقل.

ومن القسوة أن نتوقع من رجل كهذا أن يكون هادئ الطبع، أو لطيفاً، أو بشوشاً، أو رقيقاً. فلقد أصبح شأن كل عليل نزقاً، كثير المطالب، نكد المزاج. وندر أن نتجاوز في ضحكه الابتسامة، وإذ حرم كل فتنة الجسد، فقد عزى نفسه بكبرياء المقام وغرور الفكر. وكما يفعل حيوان ضعيف أو جريح، وكما يسلك فرد من أقلية مظلومة، تعلم المكر والمراوغة والدهاء، وما لبث أن تعلم الكذب، لا بل ممارسة الخيانة مع أصدقائه. وتملق النبلاء، ولكنه ترفع عن كتابات الإهداءات التي تستهدف الكسب. وكان فيه من الشجاعة ما حمله على رفض معاش عرضته عليه حكومة يحتقرها.

ونحن نرى في حياته الخاصة بعض الخلال الجديرة بالحب. قال سويفت عنه إنه "أعظم من عرفت أو سمعت عنه من الأبناء قياماً بواجبهم نحو آبائهم(28)". فلقد كان حبه لأمه أطهر عاطفة وأبقاها من عواطف روحه المضطربة. كتب في عامها الحادي والتسعين يقول إن صحبتها اليومية جعلته لا يحس أي افتقار إلى علاقات عائلية أخرى. وكانت أخلاقياته الجنسية أفضل تطبيقاً منها كلاماً؛ ولم يكن هيكله يصلح للزنا، ولكن لسانه وقلمه كان في وسعهما أن يكونا إباحيين إلى حد مقزز(29). وحتى في رسائله للمرأتين اللتين ظن أنه يعشقهما كان يكتب بتحرر مفرط لا تطيقه اليوم سوى بغي. ومع ذلك فإن إحداهما، وهي مرتا بلاونت، أحبت الشاعر العاجز حباً حسبه المتقولون علاقة آثمة. وفي 1730 وصفها بأنها "صديقة... كنت أتفق معها كل يوم ثلاث ساعات أو أربعة طوال هذه السنين الخمس عشرة(30)". وبات في شيخوخته المبكرة معتمداً على محبتها، وأوصى لها بكل تركته الكبيرة تقريباً.

وإذ كان دائم الوعي بعيوبه البدنية، فقد كانت تكويه كياً كل كلمة تنقد خلقه أو شعره. لقد كان العصر عصراً يغلب عليه حب الثأر في معاركه الأدبية، وكان بوب يرد على السباب بسباب لا يصح طبعه أحياناً. وفي 1728 حشد خصومه ونقاده في زريبة شعره، وأطلق عليهم كل سهام غضبه في أقوى أعمالهم الأدبية وأبلغها إيذاءً. ولم ينشر اسمه عليه، ولكن كل لندن القارئة استشفت توقيعه في أسلوب الكتاب. وسيراً على الطريق الوعر الذي سلكته من قبل قصيدة دريدن "ماك فلكنو" (1628)، أشادت قصيدة بوب "الدنسيادة" بكتبة جراب ستريت أقطاباً للمغفلين في بلاط الغباء الذي يتربع ثيوبولد على عرشه. وقد بكى على موت رن وجراي، وعلى إقصاء سويفت في منفاه الإيرلندي، حيث يموت "كفأر مسموم في جحر" يعني كتدرائية دبلن. أما عن الباقين فلم ير من حوله إلا عجزة فاسدين لا طعم لهم ولا مذاق. وتلقى ثيوبولد، ودنيس، وبلاكمور، وأوزبورن، وكرل، وكيبر، وأولدمكسون، وسميدلي، وآرنل- كل في دوره جزاءهم من الجلد والتهكم والقذر- ولا غرو فقد كان لشاعر ولع بالقذارة، ربما لأن هذه صفة تلازم العجز البدني(31).

وفي طبعة لاحقة ذكر بوب في ابتهاج، على لسان الشاعر سفدج، كيف أن حشداً من الكتاب حاصروا تاجر الكتب في تاريخ نشر القصيدة لأول مرة، وهددوه باستعمال العنف معه إذا نشرها، وكيف أن هذا جعل الجمهور أشد تهافتاً على النسخ، وكيف أن الطبعة تلو الطبعة كانت تطلب وتنفد، وكيف أن الضحايا ألفوا أندية ليكتلوا الثأر من بوب، وصنعوا دمية على صورته وأحرقوها. وجاء ابن دنيس بهراوة ليضرب بوب، ولكن اللورد باثورست صرفه عنه، وبعدها ظل بوب يأخذ معه في جولاته مسدسين وكلبه الدنمركي الضخم. ورد عليه عدد من ضحاياه بكتيبات، وبدأ بوب وأصحابه (1730) "مجلة جراب ستريت" ليواصلوا الحرب. وفي 1742 أصدر جزءاً رابعاً من "ملحمة المغفلين"، هاجم فيه المربين وأحرار الفكر تعطشاً لخصوم جدد- هؤلاء الذين يفخرون قائلين:

"إننا نتخذ في فخر ذلك الطريق الأعلى

ونجادل هابطين حتى نشك في الله،

ونجعل الطبيعة تعدو على قصده،

وندفعه إلى أبعد ما نستطيع.. ..

أو، بوثبة واحدة تقفز فوق كل قوانينه،

نجعل الله صورة للإنسان، والإنسان العلة النهائية،

ونجد الفضيلة شيئاً محدوداً، ونحتقر كل الصلات،

نرى الكل في أنفسنا، وأننا لم نولد إلا لأنفسنا،

لا نوقن بشيء يقيننا بعقولنا،

ولا نتشكك في شيء تشككنا في الروح والإرادة(32)".

وواضح أن بوب كان ينقب في الفلسفة، وليس مع بولنبروك وحده؛ فقد صدرت رسالة هيوم "في الطبيعة البشرية" في 1739، قبل هذا الجزء الرابع من "ملحمة المغفلين" بثلاث سنوات. وهناك بعض الأدلة على أن الفيكونت كان قد نقل إلى الشاعر ربوبية شافتسبري مشحوذة بحكمة الدنيا(33). وقال له بولنبروك، حسبك هجاء وسفاسف، ووجه ربة شعرك وجهة الفلسفة الدينية. يقول جوزف وارتن "لقد أكد لي اللورد باثورست غير مرة أنه قرأ كل خطة "مقال عن الإنسان" مكتوبة بخط بولنبروك، ومفصلة في سلسلة من القضايا كان على بوب أن ينظمها شعراً ويوضحها(34)". ويبدو أن بوب فعل هذا، إلى درجة استعماله عبارات بعينها من وضع المتشكك الكبير(35)، ولكنه أضاف بعض البقايا المنقذة التي تخلفت عن عقيدته المسيحية. وهكذا أصدر "مقالة عن الإنسان" فصدرت الرسالة الأولى في فبراير 1733، والثانية والثالثة في تاريخ لاحق من تلك السنة، والرسالة الرابعة في 1734. وسرعان ما ترجم المقال إلى الفرنسية، وأشاد به أكثر من عشرة فرنسيين باعتباره من ألمع ما ألف من جوامع الشعر والفلسفة معاً.

واليوم يذكر هذا المقال أولاً لما حوي من أبيات يعرفها كل إنسان، فلننصب بوب في رؤيتها في إطار فنه وفكره. وهو يستهلها بمناجاة لبولنبروك:

"استيقظ يا قديسي جون: واترك كل التوافه

للطمع الدنيء وكبرياء الملوك.

وما دامت الحياة لا تستطيع أن تهبنا

غير نظرة فيما حولنا يعقبها الموت،

فطوف ببصرك حراً فوق هذا المشهد كله، مشهد الإنسان،

يا له من متاهة هائلة، ولكنها ليست بغير خطة،..

فلنضرب معاً في هذا الحقل الفسيح،

ولنضحك حيث يجب الضحك، ونتصارح حيث نستطيع المصارحة، ولكن لنبرر طرق الله مع الإنسان(36)".

"فهل يستطيع الجزء أن يحتوي الكل؟" فلنكن شاكرين لأن عقلنا حدود ومستقبلنا مجهول:

"فذلك الحمل الذي قضي استهتارك بذبحه اليوم،

لو أوتي عقلك، أكان يطفر ويلهو؟

إنه في ابتهاجه إلى النهاية يقضم طعامه اليانع

ويلعق التي رفعت لتريق دمه(38)".

هاهنا تشاؤم خفي، فالرجاء لا يمكن أن يبقى حياً إلا بالجهل:

"فارج في تواضع إذن، وحلق بجناحين مرتعشين،

وانتظر الموت، ذلك المعلم العظيم، وأعبد الله.

إنه لا يهبك العلم بالنعيم الآتي،

ولكنه يسمح بأن يكون ذلك الرجاء بركتك الآن.

فالرجاء ينبعث أبداً في صدر الإنسان،

وهو لا ينعم بالسعادة بل لا يفتأ يرجوها أبداً(39)".

ولا قدرة لنا على رؤية المبرر لما يبدو في الحياة من مظالم؛ وعلينا أن ندرك أن الطبيعة لم تخلق الإنسان، وأن الله لا بد يرتب كل الأشياء لكل الأشياء، لا للإنسان وحده. ويصف بوب "سلسلة الوجود الشاسعة" ابتداء من أدنأ المخلوقات ومروراُ بالإنسان والملاك إلى الله، ويحتفظ بإيمانه في نظام إلهي وإن خفي عن علمنا:


"إن الطبيعة كلها ليست إلا فناً لا علم لك به؛

وكل المصادفات توجيه لا تستطيع رؤيته؛

وكل تنافر تناغم غير مفهوم؛

وكل شر جزئي خير كلي؛

ورغم ما حقد في العقل الضال من كبرياء،

فإن هناك حقيقة واحدة واضحة، وهي أن كل الوجود صواب(40)".

أما الدرس الأول فهو التواضع العقلي. ثم هذه الأبيات المذكرة تذكيراً رائعاً ببسكال:

"فاعرف نفسك إذن، ولا تجسر على فحص الله،

فالدراسة الصحيحة للبشر هي الإنسان.

هذا الذي وضع هذا البرزخ في حالة وسط،

كائن حكيم في غموض، عظيم في فجاجة...

حكم أوحد في أمر الحقيقة، مدفوع إلى أخطاء لا تنتهي،

مفخرة الدنيا، وأضحوكتها، ولغزها المحير!(41)".

فلنوافق في إطار هذه الحدود البشرية على أن "محبة الذات، منبع الحركة، تحفز الروح"، ولكن لا بد للعقل أيضاً أن يدخل ليبث النظام والتوازن في عواطفنا وينقذنا من الرذيلة. لأن"


"الرذيلة مخلوقة متوحشة رهيبة السحنة،

نكرها حالماً نراها،

ولكنا لكثرة ما نراها نألف وجهها،

ونحتملها أولاً، ثم نرثي لها، ثم نعانقها(42)".

هذه العواطف وإن كانت كلها ألواناً من محبة الذات إلا أنها جوانب من المخطط الإلهي، وقد تفضي إلى نهاية طيبة حتى لبصرنا الأعمى. فشهوة الجسد تبقى على النوع، وتبادل المصلحة ولد المجتمع. والنظام الاجتماعي والإيمان الديني نعمتان واضحتان، رغم أن الملوك وأصحاب المذاهب لطخوا التاريخ بدماء البشر:

"ليختلف الحمقى حول أشكال الحكم

فأصلحها هو أفضلها إدارة وتصريفاً

وليقتتل المتعصبون الثقلاء حول ضروب الإيمان،

فلن يخطئ من عاش حياة فاضلة(43)".

أما الرسالة الرابعة من مقال الإنسان فتنظر في السعادة، وتحاول جاهدة أن تسوي بينها وبين الفضيلة. فإذا رأيت الرجل الصالح يبتلي بالكوارث، والأشرار يفلحون أحياناً، فإنما السبب أن:

"العلة الكونية

لا تعمل وفق قوانين جزئية بل كلية(44)؛"

والله ينظم بالكل، ولكنه يترك الأجزاء لقوانين الطبيعة ولإرادة الإنسان الحرة. وقد يأسي البعض لفوارق الملكية باعتبارها مصدراً للشقاء، ولكن الفوارق الطبقية ضرورية للحكم:

"فالنظام أول قوانين السماء، وإذا سلمنا بهذا

كان البعض، ولا بد أن يكونوا، أعظم من الباقين(45)".

وليس هذا واضحاً وضح النهار، ولكن أي كلام آخر يمكن أن يقال للفيكونت بولنبروك، (أو يقوله بولنبروك)؟ والسعادة موزعة بالقسط رغم عدم المساواة في العطايا الطبيعية والمكتسبة؛ فالفقير سعيد سعادة الأمير. وليس سعيداً ذلك الوغد الغني؛ فهو يحتضن أمواله ولكنه يشعر باحتقار العالم له، أما البار فتنعم روحه بالسلام حتى في الظلم.

أما ما يسترعي نظرنا لأول وهلة في مقال الإنسان، فهو هذا الأسلوب المحكم الذي لا يضارع في إيجازه. يقول بوب "لقد اخترت الشعر لأنني رأيتني قادراً على التعبير عن هذه الأفكار بالشعر بأوجز مما بالنثر(46)". ولم يبلغ شاعر، حتى شكسبير نفسه، ما بلغه بوب من مقدرة على حشد ذخائر لا حصر لها- وحشد المعنى الكبير على الأقل- في حيز ضيق. فهنا في 652 بيتاً زوجياً، هي أدعى لأن تعيها الذاكرة من نظيرها في أي ميدان أدنى معادل غير العهد الجديد. وكان بوب عليماً بحدود قدراته، فقد أنكر صراحة أصالة أفكاره، وأراد أن يصوغ من جديد فلسفة ربوبية متفائلة بفن موجز، ووفق فيما أراد. وفي هذه القصيدة نحى عقيدته الكاثوليكية ولو إلى الحين. ورأى في الله علة أولى فقط، لا يعني "عناية إلهية خاصة" ليقي الرجل الفاضل من خبث الأشرار. وليس في هذا النسق معجزات، ولا أسفار مقدسة موحاة من الله، ولا آدم ساقط أو مسيح مكفر، إنما هو رجاء مبهم في الجنة، ولكن لا ذكر للنار إطلاقاً.

وقد هاجم نقاد كثيرون القصيدة باعتبارها فلسفة "إنسانية أو بشرية" منظومة. فالقول بأن "دراسة البشر الصحيحة هي الإنسان" عرف وجهاً من وجوه هذه الفلسفة، وبدأ أنه يغرق اللاهوت كله. فلما ترجم المقال إلى الفرنسية انقض عليه قسيس سويسري يدعى جان كروزاز، فزعم أن بوب قد ترك الله في طريق جانبي في قصيدة مفروض فيها أنها تبرر طرق الله للإنسان. ولم يخف للدفاع عن بوب أمام هذا الهجوم من الخارج رجل غير وليم وربرتون الفحل، فقد شهد أسقف المستقبل أن القصيدة عملاً من أعمال التقوى المسيحية التي لا شائبة فيها. ورغبة في تهدئة رجال الدين نشر بوب في 1738 ترنيمة حلوة سماها "الصلاة العالمية". ولم يقتنع السنيون تماماً، ولكن العاصفة هدأت. أما في القارة فقد استقبلت القصيدة بعواطف مسرفة. فقال فولتير في حكمه عليها "إنها في رأيي أبدع وأنفع وأسمى قصيدة وعظية نظمت في أي لغة(47)".

وفي 1735 كتب بوب مقدمة لمجلد من الهجائيات سماها "رسالة إلى الدكتور آربتنوت" دافع فيها عن حياته وأعماله، وقتل خصوماً جدداً. هنا وردت صورته الشهيرة لأديسون الذي سماه "أتيكوس"، وفضيحته القتالة للورد هرفي المخنث الذي كان قد زل فوصف بوب بأنه "قاس كقلبك"، مجهول كأصلك(48)". وطعنه بوب طعنات نجلاء تحت اسم "سبوراس" في أبيات يتجلى فيها الشاعر في أروع صورة وأسوئها. قال:


"ماذا؟ ذلك الشيء المصنوع من الحرير،

سبوراس، ذلك الخثارة البيضاء من لبن الحمير،

وا أسفاه! لا يجدي معه هجاء ولا كلام معقول! أيستطيع سبوراس أن يحس،

وهو الذي يحطم فراشة على دولاب التعذيب،

ولكن دعوني أصفع هذه البقة المذهبة الأجنحة،

ابن القذر هذا المزوق، الذي ينتن ويلدغ...

وسواء تكلم وهو عاجز عجزاً فاضحاً

وزيق كالدمية حين ينفخ فيها الملقن؛

أو جلس إلى إذن حواء، كأنه الضفدع الأليف،

ينفث حديثاً نصفه زبد ونصفه سم،

في توريات أو أحاديث سياسية، أو حكايات، أو أكاذيب،

أو غل أو سناج أو قوافي أو كفريات.

ذكاؤه متأرجح كله هنا وهناك،

صاعد حيناً، هابط حيناً، سيد مرة وفتاة مرة،

وهو ذاته تناقض حقير.

شيء ذو وجهين، يلعب كلا الدورين،

الرأس التافه، أو القلب الفاسد؛

غندور في زينته، متملق في مجلسه،

يخطر آناً كالنساء، ويتبختر آناً كالسادة(49)".

وكان بوب فخوراً ببراعته في هذه الهجمات القتالة-

"أجل إني فخور، ويجب أن أفخر برؤية

الرجال الذين لا يخشون الله يخشونني(50)".

وقد اعتذر عن مرارته بأن العصر يتهدده انتصار الغباوة، وأنه في حاجة إلى عقرب يلدغه ليفيق ويعقل، ولكنه انتهى في 1743 إلى أنه خسر المعركة. ففي آخر تنقيح لملحمة المغفلين رسم صورة قوية- هي نذر الشاعر "دون" بالويل والثبور صاغها بلهجة ملتن ونبراته للدين، والأخلاق، والنظام، والفن، وقد لفها كلها ظلام واضمحلال شاملان. فإلاهة الغباء المتوجة تتثاءب فوق عالم محتضر:

"إنها قادمة، إنها قادمة، تأمل العرش الأسود،

عرش الظلمة الأزلية والفوضى القديمة!

أمامها تتبدد كل سحب الخيال الذهبية،

وتلاشى كل أقواسه القزحية.. ..

بينما تأفل النجوم الذابلة نجماً بعد نجم

من الأفق الأثيري، عند سماع لحن ميديا الرهيبة

وهكذا عند الإحساس بدنوها، وخشية جبروتها الخفي،

ينطفئ الفن تلو الفن، وتمسي الدنيا ظلاماً في ظلام.

فانظر إلى الحقيقة وقد هربت متسللة إلى كهفها القديم،

وفوق رأسها أهيلت جبال من الفتاوي!

والفلسفة التي كانت من قبل تستند إلى السماء،

تنكمش إلى علتها الثانية ثم تموت.

والطبيعة (العلوم) تسأل ما بعد الطبيعة الدفاع (ضد هيوم؟)

وما بعد الطبيعة يستنجد بالحس الطبيعي (لوك؟)!

وترى الأسرار الخفية تلجأ إلى الرياضيات (نيوتن؟)!

ولكن عبثاً تحاول! فهي تحملق، وتترنح، وتهذي، ثم تموت.

ويستر الدين نيرانه المقدسة وقد احمر وجهه خجلاً،

وتذوي الفضيلة دون أن تدري...

فهناك دولتك الرهيبة وقد عادت أيتها الفوضى،

والنور ينطفئ أمام كلمتك القاتلة،

ويدك أيتها الفوضى الجبارة تنزل الستار

فإذا الظلام الدامس يلف كل شيء(51)".

ولعله حسب انحلاله هو انهياراً للكون كله. فقد كان وهو بعد في الخامسة والخمسين يموت من الهرم. وأصبح المشي عسيراً عليه لإصابته بالاستسقاء، والتنفس مؤلماً لإصابته بالربو. وفي 6 مايو 1744 أصابه هذيان كان يفيق منه فترات، وأعرب في إحداها عن إيمانه بحياة بعد الموت. وسأله صديق كاثوليكي أيستدعي له كاهناً فأجاب بوب "لست أراه ضرورياً ولكنه سيكون عين الصواب، وشكراً لأنك ذكرتني بهذا"(52). ومات في 30 مايو، "هادئاً رابط الجأش" (إذا صدقنا جونسن)، "حتى أن خدمه لم يتبينوا بالضبط وقت وفاته". ولم يكن من حقه أن يدفن في دير وستمنستر لأنه كاثوليكي، فووري التراب إلى جوار أبيه وأمه في تويكنهام.

أكان جنتلماناً؟ لا، فإن أحقاده الفياضة بالقدح والذم شاركت في تسميم هواء إنجلترا الأدبي في النصف الأول من القرن الثامن عشر، وقد أخرجت آلامه الجسدية أحماضاً لاذعة وحرمته العافية التي تفيض بالحب والود على من حولها. أكان عبقرياً؟ بالطبع، لا في الفكر الذي استعاره، بل في الشكل الذي بلغ به مرتبة الكمال في النوع الأدبي الذي اختاره. وقد وصفه ثاكري بأنه "أعظم فنان أدبي شهده العالم(53)". ففي لباقة الكلام، وإيجاز التعبير، وخصب العبارة، كان أمام عصره غير منازع. وحتى الفرنسيون قبلوا أعظم شاعر في جيله، وتطلع إليه فولتير مثلاً له وقلده، كما نرى في "أحاديثه عن الإنسان". ولقد ظل ثلاثين عاماً- أطول من أس شاعر آخر- أمير الشعر الإنجليزي، وثلاثين عاماً آخر نموذجاً يحتذيه الشعراء الإنجليز، إلى أن جاء وردزورت بشيراً بعصر جديد.

ونحن الذين نهرول ف حياتنا اليوم رغم فراغنا كله، نرى في مقطوعات بوب، في تشطيرها الآلي، أو في صعودها وهبوطها "كالأرجوحة"(54) على القدرة والتنويم، فلا توقظنا إلا بين الحين والحين بالإجرامات، وحتى مقاله البارع عن الإنسان، ليس شعراً إلا في أوزانه وقوافيه. والصنعة فيه ظاهرة فوق ما ينبغي، فلقد نسي الفنان نصيحة هوراس له بستر فنه. كذلك غفل عما نبه إليه هوراس من أن الشاعر لا بد أن يملك الشعور قبل أن يستطيع نقله؛ وقد شعر بوب، ولكن غالباً ليحتقر ويسب؛ وقد افتقد الإحساس بالجمال نحو الأفعال النبيلة أو اللطف الأنثوي. واستنفد خياله في العثور على ألفاظ رقيقة، بتارة، مركزة، لأفكار قديمة؛ فلم يتطاول ليمسك بالأشكال المثالية التي تلهم عظماء الشعراء والفلاسفة. ولم تعطه الأجنحة سوى أحقاده.

وهو لم يزل إلى اليوم الرمز الشعري الأكبر لعصر إنجلترا الأوغسطي- الذي يجوز أن نرسم حدوده بعمره، 1688- 1744. فمعرفة الذهن الإنجليزي المتزايدة بعيون الأدب اليوناني والروماني، وبمسرحية "القرن العظيم" الفرنسية؛ وتأثير الأرستقراطية- تأثير الطبقة المسيطرة على الكثرة- في الحديث، والعادات، والألفاظ المهذبة، ويسر السلوك ولطفه؛ وانتقاض العقل والواقعية على الشطط الاليزابيثي وعلى التدين البيورتاني المتزمت، وانتقال المعايير الفرنسية إلى إنجلترا مع عودة الملكية، والمكانة الجديدة للعلم والفلسفة- كل أولئك تضافر لإخضاع أشكال الشعر الإنجليزي السائدة لقواعد هوراس وبوالو الكلاسيكية. وجاء عصر من النقد بعد عصر الخيال، فبينما غزا الشعب في إنجلترا الإليزابيثية النثر ولونه، نرى النثر في إنجلترا الأوغسطية يحط من قدر الشعر ويغير لونه. وكان أثر هذا الأدب "الكلاسيكي الجديد" على اللغة الإنجليزية حسناً وسيئاً: فقد أعطاها دقة ووضوحاً ورشاقة جديدة، ولكنها خسرت حيوية الكلام الإليزابيثي وقوته ودفئه. وخضعت فورة الشخصية والتعبير وفردانيتهما القديمة لنظام مفروض من فوق، ألزم بالتطابق في الحياة، وبالشكل في الأدب. وهكذا استحال الشباب كهولة.

على أن الأسلوب الكلاسيكي الجديد لم يعبر إلا عن شطر من الحياة الإنجليزية، فلم يكن فيه متسع للتمرد ولا للعاطفة ولا للحب.

وقام شعراء بريطانيون، حتى أيام سلطان بوب، نددوا بالصنعة والمنطق، وتحولوا من العقد إلى الطبيعة، ووجدوا صوتاً يعبر عن الوجدان، والدهشة، والخيال، والاكتئاب المتفكر، والأمل المحزون. فبدأت ذلك الحركة الرومانسية في ذروة عصر إنجلترا الكلاسيكي.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- أصوات الوجدان

لم يكد الشعر الكلاسيكي الجديد يتأمل شيئاً غير عالم الكتب. فقد رأى هومر وهوراس، وأديسون وبوب، رؤية أوضح من رؤيته للرجال والنساء الذين يمرون في الشوارع، أو الطقس والمناظر الطبيعية التي تنفعل بها أمزجة الناس كل يوم. ولكن الأدب كشف الآن من جديد ما كان الفلاسفة يزعمونه طويلاً، وهو أن "الإنسان" فكرة عامة غامضة؛ وأنه لا وجود إلا "للناس"، المعتزين بفرديتهم الحريصين على واقعهم. وعمق الشعراء ذواتهم بلمس الأرض، وشعورهم بالحقول والتلال والبحر والسماء واستجابتهم لها، وبتغلغلهم إلى ما وراء الأفكار ليصلوا إلى المشاعر الدفينة التي يعلنها الكلام أقل مما يخفيها. فلم يبالوا كثير بالكلام واعتزموا الغناء، وعادت القصيدة الغنائية وذوت الملحمة. وغلب الشوق إلى العزاء المنبعث من الإيمان بما فوق الطبيعة، وإلى الانبهار الصوفي الذي يوسع الحياة، هجوم الربوبية على المعجزات، والتمس بازدياد، في أساطير العصور الوسطى، ورومانسيات الشرق، والأشكار القوطية، شيئاً من الهروب من الواقع القاسي لهذه الحياة الدنيا.

وبالطبع لم يخل عصر من أصوات الوجدان. ألم يشد "البطل المسيحي" للكاتب ستيل (1701) بالإيمان القديم والعاطفة الرقيقة؟ وألم تركز "السمات المميزة" لشافتسبري (1710) حياة البشر في "العاطفة" و "المحبة"؟ وألن يشتق المتشكك هيوم والاقتصادي سمث كل الفضيلة من شعور الأخوة والتعاطف؟ ولكن جيمس طومسن هو الذي ضرب أول ضربة واضحة جلية دفاعاً عن قضية الإحساس ورقة الشعور.

وكان ابن قسيس فقير في تلال إسكتلندة. نزل إلى أدنبرة ليدرس للقسوسية، ولكن عاقه من غايته إدانة الأساتذة لأسلوبه لأنه شعري بصورة لا تتفق ولغة الدين. فهاجر إلى لندن، وسرق ماله في الطريق، وأشرف على الهلاك جوعاً، وباع قصيدته "الشتاء" (1726) ليشتري حذاء(55). على أن إهداءه إياها إلى السر سبنسر كونتن أتاه بعشرين جنيهاً ثمناً لثنائه؛ ولا غرابة فإن النبلاء الإنجليز لم يكونوا صماً أو بخلاء بالقدر الذي خاله جونسون. وتصور طومسن في قصيدته صوت النعال وهي تطحن قشرة الجليد، وكيف:


"سمع الرياح تزأر والسيل العميق يهدر،

أو رأي العاصفة العميقة الثوران تتجمع

في سماء المساء الكالحة؛"

وكيف راقب من الشاطئ الرياح وهي تحرث البحر، وتقلب "اليوم من قاعه وقد تغير لونه"، وتمزق المراكب من مراسيها، وترفعها رفعاً خطراً فوق موجة تهوي بهاهوياً منذراً تحت أخرى، وتقذف بها فوق "صخر مدبب أو مياه ضحضاحة غادرة" ثم تبددها "شظايا متناثرة... تطفو في حركة دائرة". وصور الفلاح وقد اقتنصته عاصفة من الثلج الذي يعمي العيون، تغوص قدماه المتجمدتان في الثلوج العميقة وهو يكافح في سيره، حتى يعجز عن رفع حذائه، فيقع منهوكاً فريسة للموت متجمداً.

"أواه، ما أقل ما يخطر ببال المستكبرين، المستبيحين المرحين، كم من الناس يحسون في هذه اللحظة بالموت

وكل ضروب الألم الحزينة.. ..

وكم يذوون في الفاقة وغياهب السجون محرومين مما ينعم به الخلق كلهم من تنسم الهواء

وتحريك الأطراف، وكم يتجرعون كأس

الحزن القاتل، أو يأكلون خبز الضيق المر، وقد اخترمت أجسامهم رياح الشتاء،

وكم ينكمشون في ذلك الكوخ القذر،

كوخ الفقر التعس".


هنا نغمة جديدة من الشفقة تخزي "بل مل" وداوننج سترتت، وعودة تنعش النفس إلى شعر ملتن المرسل عقب ما وصف به طومسن قوافي بوب من "بهرجة تافهة".

وشهد عام آخر، وراع جديد لطومسن، طبع قصيدته "الصيف (1727)؛ وفي ذلك العام شارك بقصيدة شهيرة في صيحة الحرب على أسبانيا:

"حين انبعثت بريطانيا أول مرة

بأمر السماء من اليم الأزرق،

كان هذا دستور أرضها،

وتغنت ملائكتها الحارسة بهذا اللحن.

احكمي يا بريطانيا، تسلطي على الأمواج؛

إن البريطانيين لن يستعبدوا أبداً.

ومن لندن راح يجول الأيام والأسابيع في الريف، مستوعباً بحواس الشاعر المرهفة "كل مشهد ريفي، وكل صوت ريفي"، يحب "رائحة الألبان" المنبعثة من المزارع، وينتشي بمنظر الشمس منتصرة عقب المطر، أو يسبق كيتس في اكتئابه لمرأى الخريف. وهكذا نشر قصيدته "الربيع" في 1728، وبإضافة قصيدة "الخريف" ومطلعها ("حين تبدأ الورقة المسمومة في الالتواء") جمع القصائد الأربع كلها في ديوان "الفصول" (1730). وقد كوفئ بجولة في القارة رفيقاً لتشارلز تالبوت، ابن وزير الخزانة في ذلك الحين، فلما عاد عاش في دعة ونظم الشعر الرديء إلى أن مات الوزير (1737). وبعد أن صاحب الفقر فترة أخرى قدموه إلى ولي العهد (أمير ويلز) الذي سأله عن أحواله، فأجاب "إنها في وضع أكثر شاعرية من ذي قبل". وتلقى معاشاً قدره مائة جنيه مكافأة على ملاحظته الساخرة هذه. ثم قضى عليه برد أصيب به على التيمز، ومات غير متجاوز الثامنة والأربعين.

وقد قررت "الفصول" أسلوباً جديداً في شعر إنجلترا الأقل شأناً، ووجدت أتباعاً في فرنسا؛ هناك نظم جان فرانسوا دسان-لامبير، الذي سرق أميلي من فولتير، قصيدته "الفصول" (1769). وبينما كانت مقاطع الشعر الملحمي تختال عبر القرن، كان إدوارد ينج، ووليم كولنز، ووليم شنستون، ومارك أكينسايد، وتوماس جراي، يوسعون الطريق الرومانسي المفضي غلى وردزورث وتشاترتن. أما ينج فبعد أن ظل ينظم الشعر التافه المرح حتى الستين من عمره، عمل لآخرته بديوان شعر اسمه "خواطر ليلية في الحياة والموت والخلود" (1742-44). وقد شجب فولتير هذا النتاج الليلي لأنه "مزيج مهوش من الشعر الطنان والتوافه الغامضة"، ولكن ربما كان دافعه إلى هذا الحكم أن ينج كان قد وخزه ببيتين لاذعين قال فيهما:

"إنك مسرف في الذكاء، والخلاعة، والنحول،

حتى لنحسبك ملتن، الموت، والخطيئة، مجتمعة كلها في رجل واحد(56)".

وأما وليم كولنز فعاش نصف عمر ينج، وكتب أقل مما كتب ينج وأجود منه مرتين. هرب من دعوة لاحتراف القسوسية، وأنفق آخر دراهمه في صقل الأبيات الألف والخمسمائة التي نظمها قبل أن يجن ويموت (1759) وهو بعد في الثامنة والثلاثين. وأجمل من قصيدته "نشيد المساء" التي ظفرت بالتقريظ القبرية التي كتبها رثاء للجنود البريطانيين صرعى المعركة في 1745:


"كيف ينام الشجعان الذين يسقطون ليرقدوا

وقد باركتهم كل دعوات وطنهم!

حين يعود الربيع الذي بلل الندى أصابعه الباردة

ليجمل ترابهم المقدس،

هنالك يكسو بالعشب ثري أعطر

مما وطئته أقدام الخيال.

أجراسهم تدقها أيدي الجان

ولحن الموت ترتله أفواه لا ترى،

هنالك يحضر "الشرف"، حاجاً أشيب الشعر،

ليبارك العشب الذي يكسو ثراهم،

وتذهب "الحرية" برهة

لتقيم كالناسك الباكي على قبورهم".

وأكثر مما يذكر من شعراء الوجدان هؤلاء ذلك الروح الغريب الذي أسبغ على اكتئاب الشباب كثيراً من العبارات الرقيقة. ذلك هو توماس جراي، الذي كان أحد اثني عشر طفلاً ولدوا لكاتب عمومي لندني، مات منهم أحد عشر في طفولتهم. ولم يتخط توماس هذه السن الخطرة إلا لأن أمه استعملت مقصها لتفتح وريده بعد أن رأته يتشنج. فلما بلغ الحادية عشرة ذهب غلى ايتن، حيث بدأت صداقاته المشئومة مع هوراس ولبول ورتشرد وست ثم مضي إلى كمبردج، التي وجدها "مملؤة بالمخلوقات المكتئبة والمعلمين المجدبين". وأراد أن يدرس القانون، ولكنه انزلق إلى دراسة الحشرات وقرض الشعر، وانتهى إلى التبحر في اللغات والعلوم والتاريخ إلى حد خنق العلم فيه شعره.

وفي 1739 جاب أوربا مع هوراس ولبول. فلما عبر جبال الألب في الشتاء كتب يقول "ما من جرف، ولا سيل ولا منحدر فيها ألا وهو مفعم بالدين والشعر"، وفي 1740 حين كتب من روما أدخل إلى اللغة الإنجليزية كلمة جديدة هي picturesque (أي الشبيه بالصورة الرائعة). ولم يكن قاموس جونسن يعرف هذه الكلمة حتى في 1755. وفي ريدجو ايميليا تشاجر مع ولبول، فقد كان هوراس شديد الوعي بنبالته، وتوماس شديد الفخر بفقره، ووشي "صديق للطرفين" لكل منها برأي الآخر المستتر فيه، فافترقا، وواصل جراي رحلته منفرداً إلى البندقية وجرينوبل ولندن.

وبغضه في الحياة موت صديقه وست (1742) في السادسة والعشرين من عمره. فاعتكف في بيت عم له في ستوك بوجز، وهناك، وسط دراساته المتصلة، كتب (1742) "قصيدة غنائية في نظرة من بعيد لكلية ايتن". إذ نظر من مسافة مأمونة إلى هذه المشاهد المدرسية، فقد تذكر صديقه الذي قصف الموت عمره قبل الأوان، ووراء ألعاب هؤلاء الشباب ومرحهم رأى ببصر مكتئب مصائرهم الشقية:

"هؤلاء ستمزقهم الانفعالات والعواطف الجامحة،

ونسور العقل الجارحة،

والغضب المفعم بالاحتقار، والخوف الشاحب الوجه،

والخجل الذي يتوارى مختبئاً؛

أو يفني الحب المعذب شبابهم،

أو الغيرة المكشرة عن نابها،

التي تقرض القلب في شغافه

والحسد الشاحب، والهم الذابل،

واليأس المتجهم الذي لا يقبل العزاء،

وسهم الحزن الذي يخترم النفس.

انظر، في وادي الحياة أسفلك

تر رهطاً رهيباً،

هم أسرة الموت المؤلمة،

الأبشع منظراً من ملكتهم.

فهذا يحطم المفاصل، وهذا يلهب الأوردة،

وذاك يوجع كل عضلة مجهدة،

وأولئك يحدثون ثورة في الأحشاء الدفينة.

ثم هاهو الفقر أقبل ليكمل الفرقة،

الفقر الذي يخدل الروح بيده الباردة،

والهرم الذي يبري الناس على مهل.

لكل إنسان آلامه، والكل بشر،

قضي عليهم كلهم بالأنين،

فالحنون يئن لألم غيره،

والقاسي يئن لألم نفسه،

ولكن واهاً لهم! فلم يبصرون بحظوظهم،

ما دام الحزن لا يبطئ مجيئه أبداً،

والسعادة سريعة الهروب؛

إن التفكير كفيل بأن يدمر فردوسهم،

فأمسك، لأنه حيث يكون الجهل نعيماً

فمن الحماقة أن تكون حكيماً".

وفي أواخر 1742 قفل جراي إلى كمبردج ليستأنف دراساته.

وأرسل إلى ولبول، بعد أن اصطلحا، (1750) "مرثية مكتوبة في فناء كنيسة ريفية". وداولها ولبول بين أخصائه وطبعها ناشر لص وحرفها.. وحماية لشعره سمح جراي لددسلي بأن يصدر نسخة أفضل وإن شابها النقص هي أيضاً (1751)، في هذه القصيدة التي تعد من أروع قصائد القرن ألبس جراي الاكتتاب الرومانسي لبوساً كلاسيكياً دقيق النحت، مستبدلاً بمقطوعات بوب الزوجية العالية الرنين رباعيات هادئة تتحرك في وقار شجي التي خاتمتها الحزينة.

وفي 1753 ماتت أمه، فكتب لها قبرية رقيقة، ودفن همومه في الشعر. وفي قصيدة غنائية عن "تقدم الشعر" حياً انتقال ربات الفن والأدب من اليونان والرومان إلى "ألبيون"، واعترف بتطلعات صباه إلى مباراة الشاعر بندار، والتمس من الشعر أن يهبه عطية "العقل الذي لا يقهر". وفي قصيدة غنائية أكثر شموخاً حتى من هذه، واسمها "الشاعر"، رأى جراي في الشعراء ضرباً من التكفير عن سيئات الحياة البريطانية يفضح الرذيلة والطغيان. هاتان "القصيدتان الغنائيتان البنداريتان"، اللتان نشرتهما مطبعة ولبول في ستروبري هل، بلغتا في افتعال الشكل والازدحام بالشواهد القديمة والوسيطة مبلغاً جعل فهمها عسيراً على القراء إلا الراسخين منهم في الأدب. وقد لف جراي نزوعه هذه للعزلة في ثوب من الكبرياء فقال "ما كنت لأصيف حاشية (تفسيرية) أخرى لأنقذ أرواح جمع البوم الذين في لندن. إن الوضع الراهن حسد جداً-فلا أحد يفهمني، وأنا راض بهذا تمام الرضي. وكان اليوم معتاداً على مثل هذا الصفير في الظلام.

وإذا انكفأ مكتئباً إلى غرفته ببيتر هاوس في كمبردج يعاني من فقر وتهيب منعاه من الزواج، ومن حساسية شديدة قعدت به عن النضال الحياة، فقد أمسي إنساناً منطوياً حزيناً؛ وروعه بعض الطلاب ذات ليلة، وقد ساءهم منه عزوفه ووقاره، وعرفوا فيه الخوف من النار، فصاحوا تحت نافذته بأن الردهة تحترق. وفي رواية مختلف عليها أنه أدلى نفسه من النافذة وهو في قميص النوم وانزلق على حبل-ليقع في حوض ماء وضعه العابثون ليتلقاه(58). وفي 1769 جاب إقليم البحيرات الإنجليزية، وفي اليومية التي كتبها (بخط غاية في الجمال) جعل إنجلترا تدرك لأول مرة جمال ذلك الإقليم. وفي جولة أخرى بمالفيرن تلقى نسخة من قصيدة "القرية المهجورة" (لجولدسمث) فقال "هذا الرجل شاعر" ثم وضع النقرس نهاية لرحلاته، ثم لحياته بعد قليل (1771).

وطبقت شهرته الآفاق حيناً. فانعقد الإجماع في 1757 على أنه يقف على قمة الشعراء الإنجليز، وعرضت عليه إمارة الشعر فرفضها. وقال فيه كوبر متخطياً ملتن "إنه الشاعر الوحيد بعد شكسبير الذي يحق له أن ينعت شعره بالسمو". أما آدم سمث فأضاف متخطياً شكسبير "إن جراي يضيف إلى سمو ملتن أناقة بوب وتناغمه، ولا ينقصه شيء ليكون-ربما-أول شاعر في اللغة الإنجليزية، ألا يكون قد نظم شعراً أكثر قليلاً مما فعل(59)". وأعجب جونسن بالمرثية، ولكنه كان يملك من العلم ما عله يجد عشرات العيوب في القصائد الغنائية. "إن لجراي ضرباً من الوقار المختال، وأني لأعترف أنني أتأمل شعره برضي أقل مما أتأمل حياته(60)".

ونستطيع أن نقلب هذه الحكمة مطمئنين. فقد كانت حياة جراي تعسة لا إغراء فيها، من شجاره مع ولبول إلى قصة الحوض. وكانت أنبل أحداثها ثلاث قصائد أو أربعاً ستظل أجيالاً كثيرة من أدمغ البراهين على "تقدم الشعر من اليونان والرومان إلى آلبيون.

4- المسرح

ماذا كانت مسارح لندن تصنع في نصف القرن هذا الذي نحن بصدده؟ كان أهمها مسرح دروري لين. ثم (من 1733) كوفنت جاردن؛ وكان هناك مسارح صغيرة في لنكولنز أن فيلدز وجودمانز فيلدز، وكان في هييماركت "مسرح صغير" للتمثيليات الهزلية، "ومسرح جلالة الملك" للأوبرا؛ وبلغت جملة المسارح في لندن مثلي عددها في باريس. وكانت حفلات التمثيل تبدأ في السادسة مساء. أما النظارة فقد غيروا طابعهم منذ أيام عودة الملكية، فتحول "المجتمع الراقي" الآن على المسرح إلى الأوبرا. وكان المتفرجون المحظوظون أو الأثرياء لا يزالون يجلسون على خشبة المسرح. واتسع "قاع" المسرح وأعلاه قرابة ألفي شخص جالسين؛ هنالك غلبت الطبقة الوسطى، وقررت بتصفيق الإحسان استقبال التمثيليات ونوعيتها؛ ومن هنا ازدياد المنافسة بين الموضوعات البورجوازية والرومانسية. واستولت النساء على كل الأدوار النسائية وعلى كثير من قلوب الرجال؛ وبدأ الآن سلطان الممثلات الشهيرات من أمثال كتي كلايف، وبج ووفنجتن- التي رسمها هوجارت، وحاك تشارلز ريد رواية حولها.

ولقد قال جاريك، بما أن "هواية الممثلين الأولي، والعظمى، والمسيطرة، هي الأكل(61)" فإنهم فضلوا التمثيليات المتبلة بالجنس. وقال آدمز، القسيس الذي رسمه الروائي فيلدنج: لم أسمع قط بتمثيليات تصلح لأن يقرأها مسيحي إلا تمثيليات أديسون، ورواية ستيل "العشاق الواعون". على أن فيلدنج ذاته كتب هزليات فاجرة(62). وقد وصف فولتير المسارح في إنجلترا بأنها "مجردة من اللياقة". وناشد السرجون برنارد مجلس العموم في 1735 بأن يكبح شيئاً من جماح المسارح، وزعم أن "الأمة البريطانية... أصبحت شديدة الإدمان على الملاهي الداعرة العاطلة... لقد أدهش أوربا كلها أن يتقاضى السنيورات والخصيان الإيطاليون رواتب تعادل رواتب وزراء الخزانة(63)". ولم يفعل أحد شيئاً في أمر الناظر والعبارات الخليعة، ولكن حين سخر فيلدنج وجاي المسرح للهجو السياسي فهاجما روبرت ولبول وجورج الثاني، استصدر الوزير، المتسامح عادة مع المعارضة، بطريق البرلمان قانون الرخص (1737)، الذي وجه أمين البلاط إلى المزيد من التشدد في منح الأذن بالحفلات المسرحية .

وقد غالى ديدور في "موسوعته" في الثناء على مسرحية "التاجر اللندني"، التي أخرجت بلندن في 1731، والتي أثارت اهتمامه لأنها المسرحية التي أدخلت مأساة الطبقة الوسطى إلى المسرح البريطاني. وكانت الدراما الكلاسيكية الفرنسية قد أرست مبدأ مؤداه أن المأساة وقف على الأرستقراطية، وأنها تفقد مقامها ووقارها أن هي نزلت لى المشاهد البورجوازية. وقام جورج ليللو بمغامرة مزدوجة؛ أنزل المأساة إلى بيت تاجر، وكتبها نثراً. فترى فيها التاجر الأمين ثوروجود يعتز "بكرامة مهنتنا" ويثق بأنه "لما كان اسم التاجر لا يشين الجنتلمان أبداً، فهو إذن لا يقضيه إطلاقاً عن المجتمع الراقي". والفكرة في المسرحية هي تدمير حياة صبي تاجر على يد غانية أغوته، والموضوع موشي بالحض على مكارم الأخلاق وملفوف في العاطفة الرقيقة. وقد صفقت للمسرحية طبقة وسطى أبهجها أن ترى فضائلها ومثلها العليا معروضة على مسرح بريطاني. ورحب بها ديدرو وحكاها في حملته لإدخال "المأساة البيتية والبورجوازية" في المسرح الفرنسي. ونقل لسنج نبرتها في "الآنسة سارا سامبسن" (1755). وهكذا راحت الطبقات الوسطى تؤكد ذاتها في الأدب كما تؤكدها في السياسة.

أما في إسكتلندة، فقد أجج النار تحت قدر الدراما جون هيوم، الذي أغضب زملاءه رجال الدين بكتابته وإخراجه تمثيلية "دجلاس" (1756)، وهي أنجح مأساة في زمانها. وقد حياه ابن عمه ديفد هيوم في نوبة من الحماسة المتدفقة لا تكاد تليق بفيلسوف شاك، فقال أنه "تلميذ صادق لسوفوكليس وراسين قد يوفق في الوقت المناسب لتبرئة المسرح الإنجليزي من تهمة الهمجية(64)". فلما رفض جاريك المسرحية، رتب هيوم، ولورد كيمس (هنري هيوم)، و "المعتدلون" من رجال الدين الاسكتلنديين إخراجها في أدنبرة، وقام ديفد ببيع التذاكر. وكان الحدث نصراً لآل هيوم جميعاً ولباقي إسكتلندة، لأن جون هيوم حول أغنية شعبية اسكتلندية قديمة إلى دراما وطنية ملأت عيون الاسكتلنديين بدموع الفرح، اللهم إلا هيئة شيوخ الكنيسة بأدنبرة، التي نددت بخيوم لأنه جلب العار على ردائه، وذكرته "بالرأي الذي كانت الكنيسة المسيحية تراه دائماً في تمثيليات وممثلي المسرح لأضرارهم بالدين والفضيلة(65)". قد صدرت اتهامات رسمية لهيوم وقسيس آخر يدعى الكسندر كاريل لحضوره التمثيل. أما ديفد هيوم الذي اضطرم بالغيرة على قريبه فقد أهدى "المقالات الأربع" لابن عمه، وكتب اتهاماً حاراً للتعصب. واستقال جون من قسوسيته، وذهب إلى لندن، وشهد مسرحيته "دجلاس" تخرج، وعلى رأس ممثلاتها بج ووفنجتن (1757). هناك أيضاً انتصرت المسرحية، واحتشد الاسكتلنديون الساكنون لندن ليصفقوا لها، وفي نهاية هذه الحفلة الافتتاحية في لندن هتف اسكتلندي من أعلى المسرح "اخسأوا يا قوم: فما قولكم الآن في ويلي شكسبيركم(66)؟" وظلت التمثيلية تتردد على المسرح جيلاً بأكمله، مع أنها اليوم ميتة موت تمثيلية أديسون "كاتو". وحين مثلتها المسز سيدونز بأدنبرة في 1784، اضطر المجمع العام للكنيسة "إلى توقيت الاجتماع لأعماله الهامة بالتناوب مع أوقات تمثيلها، بحيث يجتمع في الأيام التي لا تمثل فيها(67)".

أما أطرب نجاح حققه المسرح اللندني في هذه الفترة فكان "أوبرا الشحاذ". وقد بدأ مؤلفها جون جاي حياته صبياً في متجر، وارتقى حتى أصبح سكرتيراً لأيرل كلارندن، وواحداً من أكثر أعضاء نادي "سكربليروس" حيوية ومرحاً. وقد وصفه بوب بأنه:

"دمث الطبع، رقيق العاطفة،

في ذكائه رجل، وفي بساطته طفل؛

مفطور على مرح يخفف من غضبته للحق،

مخلوق ليبهج العصر ويسوطه معاً(68)".

وقد وضع جاي بصمته على المسرح عام 1716 بتمثيلية "تريفيا أو فن التسكع في شوارع لندن". فقعقعة عجلات المركبات على أحجار الرصف، والسائقون يستحثون خيلهم بالسوط واللسان، و "الصبية الموحلة" تحمل السمك إلى بلنجزجيت، وهدوء "بل مل" بسيداته المعطرات يتكئن على أذرع العشاق، والسائق يشق طريقه الملتوي وسط مباراة في كرة القدم تسد الشارع، واللصوص المهذبون "يخففون جيبك من أثقاله بأصابع لا تحس"، والحارس الضخم يهدي خطاك المضطربة بمصباحه المرشد إلى طريقه الأمين "ويقودك إلى بايك؛ كل هذا وأكثر منه يجده في تريفيا من يريد أن يتصور لندن في 1716. وفي 1720 نشرت "قصائد" جاي بنظام الاكتتاب، فوافته بألف من الجنيهات خسرها في انهيار شركة بحر الجنوب. وخف بوب وغيره لنجدته، ولكنه أدرك الثراء من جديد عام 1728 بتأليفه "أوبرا الشحاذ". وتقد لنا مقدمتها الشحاذ، الذي يقدم لنا بدوره أوبراه.

وتبدأ بأغنية شعبية يغنيها بيتشوم، الذي يتظاهر (كما تظاهر جوناثان وايلد) بخدمة القانون بالإبلاغ عن النصوص (إذا رفضوا خدمته)؛، ولكنه في حقيقة الأمر يتجر في البضائع المسروقة. ويصف نفسه بالرجل الأمين لأن "كل أصحاب المهن الراقية يحتال بعضهم على بعض"، ويحدوهم الجشع للربح. ويفسد عليه أمره أن ابنته بولي وقعت في غرام قاطع الطريق الوسيم الأنيق الكابتن ماكهيث، وربما تزوجته، ومن شأن هذا الغرام أن يعطل تسخيره مفاتن بولي في ملاطفة المشترين والبائعين ورجال الشرطة. وتطمئنه المسز بيتشوم قائلة:

"بحقك لم يجب أن تختلف ابنتنا بولي عن غيرها من بنات جنسها، فلا تحب إلا زوجها، ولم يجب أن يقلل زواجها من ملاحقة الرجال الآخرين لها، على عكس ما نلحظه في مل مكان؟ كل الرجال لصوص في الحب، ويزيد من حبهم للمرأة أن تكون ملكاً لغيرهم(69)". على أن الأم تحذر ابنتها قائلة: "لست أعارض يا بولي، كما تعلمين، في أن تعبثي قليلاً مع زبون خدمة للعمل، أو سبيلاً لاستخلاص سر أو نحوه، ولكني سأقطع رقبتك لو وجدتك تصرفت كالحمقى، وتزوجت. أيتها اللعوب".


وتعتذر بولي عن زواجها في أغنية شعبية:

"أيمكن أن تحكم النصيحة الغرام؟

أيطيع كيوبيد أمهاتنا؟

لو كان قلبي بارداً كالثلج

لذاب من لهيب ناره.

حين قبلني ضمني بشدة

وكان عناقه حلواً فلم أملك غير الامتثال،

ورأيته أسلم وأفضل

أن أتزوج مخافة لومك وتقريعك(70)".


ويشتعل غضب بيتشوم، وهو يخشى أن يقتله ماكهيث ويقتل زوجته ليرث ثروتهما عن طريق بولي. فيبيت أن يشي بماكهيث لرجال القانون ليشنقوه دون ريب. ويظهر ماكهيت على المسرح، ويهدئ روع بولي بعناقه، ويؤكد لها أنه منذ الآن سيكون ملكاً لها دون غيرها من النساء:

"لقد كان قلبي طليقاً

يتنقل كالنحلة،

حتى سلبت بولي لبي

كنت أشف رحيق كل زهرة،

وأتقلب كل ساعة،

ولكن هنا اجتمعت كل الزهور في واحدة".

وتضرع إليه أن يقسم أن يأخذها معه إذا نقل. فيقسم قائلاً "في استطاعة أي قوة... أن تنتزعني منك؟ أيسر من هذا أن تنتزعي راتباً من رجل بلاط، أو أتعاباً من محام، أو امرأة جميلة من مرآة" ثم يشتركان في ثنائية جميلة:

"هو... لو ألقيت على شاطئ جرينلند،

واحتضنت فتاتي بين ذراعي،

دافئة الجسد وسط صقيع لا ينقضي

لا نقضي سريعاً ليل نصف العام.

هي... لو باعوني في أرض الهند

لاستطعت عقب انقضاء النهار المحرق

أن أهزأ بالكدح في القيظ الشديد

ما دمت أستريح على صدر فاتني.

هو... ولأحببتك اليوم كله،

هي... ولتعانقنا ولعبنا كل ليلة،

هو... لو سرحت معي في هيام

هي... فوق التلال، بعيداً جداً".

وتبوح له بأن أباها يدبر تسليمه للقانون، وتطلب إليه في أسي أن يختلف برهة. فينصرف، ولكنه يتوقف في حانة ليعطي أعوانه تعليماته بشأن إحدى سرقاته. فإذا انصرفوا رقص وعبث مع فتيات الحانة، وكان بيتشوم قد رشاهن ليشين به، فيسرقن مسدسيه وهن يدللنه، ثم يستدعين الشرطة، ونراه في سجن نيوجيت في المنظر التالي. هناك تتنافس عليه بولي وإحدى زوجاته، وتحررانه من السجن، ولكن يقبض عليه من جديد ويرسل إلى المشنقة، وفي طريقه إليها يعزي نساءه بهذه الأغنية:


"وداعاً إذن يا حبي- وداعاً يا ساحراتي العزيزات!

إني أموت راضياً- وهذا خير لكن.

هنا ينتهي كل نزاع طوال ما بقي لنا من حياة،

لأنني بهذا أرضي زوجاتي أجمعين(71)".

ويظهر الآن الشحاذ المؤلف، وبفخر بأنه جعل الرذيلة تلقى ما تستحقه من عقاب، كما هي الحال في جميع التمثيليات اللائقة، ولكن ممثلاً يعترض بأن "الأوبرا يجب أن تنتهي نهاية سعيدة" (لشد ما تتغير العادات!). ويذعن الشحاذ، وينقذ ماكهيث من حبل المشنقة ويحيط عنقه بحبل آخر هو بولي، ويرقص الجميع حولهما، بينما يتساءل الكابتن، أتراه لقي مصيراً شراً من الموت.

وكان من حسن حظ جاي أن أفاد من خدمات يوهان بوش، وهو مؤلف موسيقي ألماني يقطن إنجلترا، واختار يبوش موسيقى لأغاني جاي من الألحان الإنجليزية القديمة، وكانت النتيجة رائعة. فقد استجاب الجمهور بحماسة في حفلة الافتتاح بمسرح لنكولنز إن فيلدز (29 يناير 1728) رغم ما جاء في المسرحية من هجو للرشوة والنفاق. واستمر عرضها ثلاث وستين ليلة متوالية، وفاقت في هذا كل ما سبقها من تمثيليات، وعرضها عروضاً طويلة في كبرى المدن البريطانية؛ وما زالت تشغل المسرح في قارتين، وقد حولت إلى فلم من أبهج الأفلام في عصرنا. أا الممثلة التي قامت بدور بولي فقد أصبحت معبودة الفتيان الطائشين المرحين، وتزوجت دوقاً. ولكن رجلاً من رجال الكنيسة الشديدة الاحتفال بالطقوس ندد بجاي لأنه جعل قاطع طريق بطلاً لتمثيليتهن ولأنه تركه يفلت من العقاب. فلما حاول جاي أن يخرج تتمة للتمثيلية سماها "بولي" رفض كبير الأمناء الترخيص بها. فنشرها جاي، وراجت، وتصاعدت حصيلة "أوبرا الشحاذ" تصاعداً ساراً، حتى قال ظريف إن التمثيلية جعلت جاي غنياً (rich) وجعلت رتش (المدير) مبتهجاً (gay). وبعد أربع سنوات من انتصار الشاعر أصيب بمغص أودى بحياته.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

5- الرواية

كان الحدث البارز في التاريخ الأدبي لهذه الحقبة هو ظهور الرواية الحديثة. فروايتا "كلاريسا" و "توم جونز" من الناحية التاريخية أهم من أي قصيدة أو مسرحية إنجليزية في ذلك العهد. ومنذ عام 1740، باتساع مجال الحياة العامة وامتداده من البلاط إلى الشعب، ومن الأفعال إلى الأحاسيس، حلت الرواية محل الدراما صوتاً ومرآة لإنجلترا.

أما القصص فكانت قديمة قدم الكتابة، فللهند حكاياتها وخرافاتها؛ واليهودية ضمنت أدبها أساطير لراعوث واستير وأيوب؛ واليونان الهلنستية والأقطار المسيحية الوسيطة أخرجت رومانسيات مغامرة وحب، وإيطالية النهضة أنتجت آلاف "النوفللي "movelle (أي المستحدثات الصغيرة)، كما في بوكاتشو وبانديللو، وأسبانية النهضة وإنجلترا الاليزابيثية كتبتا حكايات تشرد لأوغاد رائعين، وفرنسة القرن السابع عشر أثقلت الدنيا بقصص حب أطول كثيراً من الحب. وقص لساج قصة جيل بلاس، وجود ديفو حكاية المغامرة بياناً لشجاعة الإنسان؛ وسخر سويفت قصة الرحلات ليسلخ بها جلد البشر.

ولكن أكانت هذه الآثار روايات بمعناها الحالي؟ لقد أشبهت قصص القرن الثامن عشر في كونها حكايات خيالية، وامتاز بعضها بميزة الطول الذي لا شك فيه، وصور بعضها الشخوص بجهد يحاول تجسيد الواقع؛ ولكنها "ربما باستثناء كروسو) افتقدت الحبكة التي تربط بين الأحداث والشخوص في كل متطور. لقد كان في قصة "الأورونوكو" للسيدة أفرا بن (1688)، وهي قصة عبد أفريقي، حبكة رابط، وكذلك قصص ديفو "الكابتن سنجلتون" (1720)، و "مول فلاندرز" (1722)، و "روكسانا" (1724)، ولكن هذه كلها كانت لا تزال سلسلة من الأحداث المترابطة أكثر منها وحدة بنائية يعمل كل جزء فيها على تقديم موضوع يوحد بينها. فلما ملك رتشاردسن وفيلدنج ناصية فن التطوير هذا، وصورا الشخصية وهي تنمو خلال الأحداث، وجعلا رواياتهما تصور العادات في عصرنا، كان هذا استهلالاً للرواية الحديثة.


أ- صموئيل رتشردسن 1689 - 1761

كان الرجل الذي استهل عصر الرواية الجديدة ابن نجار من داربيشير انتقل إلى لندن عقب مولد صموئيل. وكانت الأسرة ترجو أن تجعل الصبي قسيساً، ولكن الفقر عاقها عن تأهيله التأهيل المدرسي المطلوب؛ على أنه وفق في أن يضمن كتبه شيئاً من الوعظ. وكان الوسط الذي شب فيه يحتفظ بالفضيلة البيورتانية. وألحق صبياً لطباع، وأعانه اشتهاره بجمال الخط على زيادة دخله بتدبيجه ال سئل للفتيات الأميات اللاتي أضناهن الحب، وقد قررت هذه المصادفة الشكل الذي اتخذته رواياته أعني شكل الرسائل، وما أفاضت فيه هذه الروايات من ريادة لسيكولوجية المرأة وسبر لعواطفها. وأفاده جده واقتصاده، فأنشأ مطبعة خاصة به، وتزوج ابنة مخدومه السابق (1721)، وأنجب منها ستة أطفال، مات منهم خمسة في حداثتهم. كذلك ماتت أمهم (1730) وهي ما تزال صغيرة السن محبوبة، وأعانت هذه الأحزان على خلق مزاجه الذي تغلب عليه الكآبة. وتزوج ثانية، وأنجب ستة أطفال آخرين، واكتوى بمزيد من الأحزان، ثم ارتقى لوظيفة طباع مجلس العموم. وبلغ الخمسين من عمره قبل أن ينشر كتاباً.

وفي 1739 كلفه صديقان طباعان بكتابة مجلد صغير من نماذج للرسائل مرشداً "للقراء الريفيين الذين لا قدرة لهم على التحرير بأنفسهم"، ومعلماً في "التفكير والتصرف بصواب وحكمة في الشئون العادية لحياة الإنسان(72)". وبينما كان رتشاردسن يعد هذا الكتاب-وهنا اغتنمت العبقرية فرصة الظرف-خطر له أن ينسج سلسلة من الرسائل في قصة حب تشرح الفضيلة الحكيمة في بطلتها العذراء. ولعل الموضوع، وهو العفة المصونة خلال سلسلة طويلة من المغريات، قد أوحت به قصة "حياة ماريان" (1741-41) التي ألفها الكاتب الفرنسي ماريفو. أياً كان الأمر، فإن رتشاردسن أقام في نوفمبر 1740 معلماً على طريق الأدب الإنجليزي بإصداره كتاباً في مجلدين سماه "باملا، أو الفضيلة التي كوفئت؛ سلسلة من الرسائل العائلية من آنسة جميلة إلى أبويها؛ منشوراً لأول مرة ليربي مبادئ الفضيلة والدين في عقول الشباب من الجنسين" وراج الكتاب، وأضاف إليه رتشاردسن مجلدين آخرين في 1741، "باملا في أسمى حالاتها"، يقصان فضائلها وحكمتها بعد زواجها.

وما زال نصف القصة الأول طريفاً، لأننا لا نكبر أبداً على استطرافنا لقصص الإغواء-وإن كان كل شيء حتى الإغواء يصبح مملاً بعد ألف صفحة. ويبدأ التركيز على العاطفة في الصفحة الأولى، حيث تكتب باملا "أواه! لكم تذرف عيناي الدمع مدراراً! لا تعجبا إذا رأيتما الورق شديد التلوث". وهي مثال الطيبة والتهذيب والتواضع. فلما أرسلت خارج الأسرة لكي "تخدم" وهي في السادسة عشرة حولت لأبويها أول ما كسبت من مال "لأن العناية الإلهية لن تتركني في عوز... فإذا حصلت على المزيد فإنني واثقة بأنه من واجبي، وسيكون موضع اهتمامي أن أحبكما وأعتز بكما، لأنكما أحببتماني واعتززتما بي حين لم أكن أقوى على صنع شيء لنفسي(73)". أما الأبوان الحذران فيرفضان إنفاق المال حتى يطمئنا إلى أنه ليس عربوناً يدفعه مخدومها الأعزب لوصالها. وينبهانها إلى أن جمالها يعرض عفتها للخطر "إننا نخاف-نعم، يا بنيتي العزيزة، إننا نخاف-لئلا تشتطي في عرفان الجميل، فتكافئيه بتلك الجوهرة، بفضيلتك، التي لا يستطيع مال... أن يعوضك عنها". فتعدهما بأن تكون حذرة وتضيف "ما أجمل فعل الخير! إنه كل ما أحسد عليه العظماء". وعواطفها جديرة بالإعجاب وإن فقدت بعض فتنتها لأنها تصرح بها. وفي مأساة متفاقمة يدخل مخدومها مخدعها دون التمهيد الواجب، ويضمها إلى صدره المضطرب. فيغشي عليها، وتفسد خطته. فلما أفاقت "وضعت يدي على فمه وقلت: أواه! قل لي، ولكن لا تقل لي، ماذا عانيت أنا في هذه المحنة؟(74)". فيؤكد لها أن مقاصده أخفقت. وإذ تقدر ما ينطوي عليه اشتهاؤه لها من تحية، تتعلم شيئاً فشيئاً أن تحبه، وتعد المراحل التي تتدرج فيها عاطفتها من الخوف إلى الحب، لمسة من اللمسات الرقيقة الكثيرة التي تدعم شهره رتشاردسن كاتباً سيكولوجياً. على أنها تقاوم كل حصاراته رغم ذلك، وينتهي به الحال إلى الانهيار، فيعرض عليها الزواج. وإذا أسعد باملا أنها أنقذت فضيلتها وروحه، فإنها تعتزم أن تكون زوجة إنجليزية مثالية: تلزم بيتها، وتتجنب الحفلات الفخمة، وتمسك حسابات الأسرة بعناية، وتوزع الصدقات، وتطهو الهلام والكعك والحلوى والفاكهة المحفوظة، وتكون شاكرة إذا تفضل عليها زوجها بالحديث معها بين الحين والحين هابطاً السلم الطبقي إليها. ويختتم رتشاردسن المجلد الثاني بعظة في فوائد الفضيلة في المسامة بين الجنسين، "إن ناشر هذه الصفحات سيحقق هدفه إذا أوحت (فضيلة باملا) بالقدوة المحمودة في عقول أي أشخاص أفاضل، قد يكتسبون بهذا حقاً فيما نالته باملا عن جدارة من أسباب الثواب والثناء والبركة".

وأضحك هذا بعض الإنجليز، مثل فيلدنج القوي الصلب، ولكن آلافاً مؤلفة من قراء الطبقة الوسطى شاركوا باملا خفقات قلبها في تعاطف. وأطرى رجال الدين الكتاب، وقد سرهم أن يجدوا مثل هذه الدعامات لعظاتهم في أدب بدا أنه باع نفسه لرئيس الشياطين (بعلزبول). ونفدت أربع طبعات من باملا في ستة أشهر. وبالطبع حث الناشرون رتشاردسن على مزيد من التنقيب في هذا المنجم الغني، ولكنه لم يكن بالكاتب المرتزق، ثم إن صحته بدأت تعتل. فتريث، ومضي في أعماله الطباعية. ولم يخرج رائعته التالية التي جاءته بأوربا البورجوازية كلها عند قدميه إلا عام 1747.

وقد صدرت هذه الرائعة، واسمها "كلاريسا، أو تاريخ شابة" وطولها ألفاً صفحة، في سبعة مجلدات، ما بين نوفمبر 1747 وديسمبر 1748. وكان قد ساءه اتهامه بأن قصة باملا أظهرت الفضيلة مجرد خطة للمساومة، وأنها صورت فاسقاً صلحت حاله تصويرها لزوج صالح، لذلك عمد إلى إظهار الفضيلة هبة إلهية سوف تثاب في السماء، وإظهار فاسق سادر في غيه مقضياً عليه لا محالة بنهاية سيئة مدمرة، وخلاصة القصة أن لفليس الطائش الذي اشتهر بأنه شيطان من النساء، يطلب يد كلاريسا هارلو، فلا تثق به، ولكنها مفتونة أشد الفتنة بشهرته. وتحظر عليها أسرتها لقاء وغد كهذا وتغلق أبوابه في وجهه، وتعرض عليه مستر سومز، وهو رجل لا رذائل فيه ولا شخصية، فترفضه؛ ولكي يكرهوها على الإذعان يوبخونها ويعذبونها ويحبسونها. ويستأجر لفليس مساعداً ليزيف هجوماً مسلحاً عليها من أقاربها؛ ولكي تكفر منهم تسمح له بخطفها إلى سانت البانس. وهي راغبة في الزواج منه، ولكنه يرى في هذا مغامرة يائسة جداً. فيكتب صديق له: "... كنت أصمم على الزواج لولا هذا الاعتبار، وهو أنني متى تزوجت مرة أصبحت متزوجاً مدى الحياة. تلك هي المصيبة! لو أن الرجل استطاع أن يفعل كما تفعل الطير ويغير (زوجاته) كل عيد من أعياد القديس فالنتين.. لما كان في الأمر بأس على الإطلاق... وتغيير كهذا سيكون وسيلة للقضاء على.. أربع أو خمس كبائر فظيعة: هتك العرض، الذي يطلق عليه هذه التسمية السوقية، والخيانة الزوجية، والزنا؛ كذلك لن يلهث الرجل وراء تعدد الزوجات، وستمتنع كثيراً جرائم القتل والمبارزة، ولن يسمع الناس بشيء اسمه الغيرة (وهي العلة في أعمال العنف المفزعة)... ولن تكون هناك امرأة عاقر... فكلا الجنسين سيحتمل الآخر، لأن في استطاعتهما أن يرعى كل منهما مصلحته بعد بضعة أشهر... وستزدحم الصحف بفقرات.. .. تعني بتعارف المحبين. عندها ألن يكون التميز جميلاً جداً يا جاك؟ تماماً كما في الزهور، فهذا السيد، أو هذه السيدة، أما موسمي (أو موسمية)، وأما مستديم (أو مستديمة)(75)". ويحاول إغواء كلاربسا، فتنذره بأنها قاتلة نفسها أن لمسها، فيحبسهاً حبساً خسيساً وأن تلطف معها فيه، وترسل خلاله الرسائل المفعمة حزناً لأنا هاو، صديقتها التي تأتمنها على سرها. أما هو فيخترع الحيلة تلو الحيلة ليخترق معاقل دفاعها، فتقاومه، ولكنها ترى أن عرضها تلوث تلوثاً لا برء منه لأنها قبلت نصف قبول أن تهرب معه. وتكتب الرسائل الأليمة لأبيها ضارهة إليه أن يغفر لها بل أن يسحب اللعنة التي استمطرها عليه، والتي تعتقد أنها ستقفل في وجهها أبواب الجنة إلى الأبد، ولكنه يأبى، فتصيبها علة مدمرة لا يسندها فيها غير إيمانها. أما لفليس فيختفي في فرنسا ويقتل في مبارزة بيد عم كلاربسا، وأخيراً يأتي أبواها عارضين عليها المغفرة، فيجدانها ميتة.

إنها قصة بسيطة، طال عزفها على نغمة واحدة طولاً لا يمكن أن يشد عقولنا المحكومة، ولكنها أصبحت في إنجلترا القرن الثامن عشر مثار خلاف قومي. فكتب مئات من القراء إلى رتشاردسن في فترات النشر يتوسلون إليه ألا يدع كلاريسا تموت(76). ووصف أحد الآباء بناته الثلاث بأنهن "في هذه اللحظة تمسك كل منهن بمجلدها الخاص (من كلاريسا)، وعيونهن كلها بللها الدمع كأنها زهرة مخضلة في الربيع(77)". أما الليدي ماري ورتلي مونتاجيو، التي بلغت غاية ما تبلغ نساء عصرها الإنجليزيات من علم وثقافة، فقد تقبلت الكتاب على أنه استرضاء لعواطف الطبقة الوسطى وحماسة الجماهير، ولكنه آذن ذوقها الأرستقراطي. قالت:

"كنت تلك الحمقاء العجوز التي بكت على كلاريسا هارلو كما تبكي أي بائعة لبن في السادسة عشرة لسماعها أغنية "سقوط السيدة" الشعبية. والحق أن المجلدات الأولى الأنتني بما حوت من شبه كبير بأيام صباي، ولكن الكتاب في جملته بضاعة غثة... إن كلاريسا تتبع قاعدة الإفضاء بكل أفكارها لكل من تراه، وقد غاب عنها في أوراق التين في وضعنا البشري الشديد النقص لازمة لعقولنا لزومها لأجسامنا، وليس من اللياقة أن نعرض كل أفكارنا، تماماً كما أنه ليس من اللياقة أن نعرض كل أبداننا(78)". وألحت نساء إنجلترا الآن على رتشاردسن المنتصر في أن يصور لهن رجلاً مثالياً كما صور المرأة المثالية-في ظنهن-في باملا. فتردد أمام هذه المهمة الشائكة، ولكن حفزه إليها هجو فيلدنج لباملا في روايته "جوزف أندروز"، كما حفزته اللوحة الكاملة المفصلة التي رسمها فيلدنج لرجل في روايته "توم جونز"، وعليه فقد أخرج بين نوفمبر 1753 ومارس 1754، في مجلدات سبعة، "قصر السر تشارلز جرانديسن". ومزاج عصرنا الذي لا يبالي يصعب عليه أن يفهم لم لقيت هذه الرواية الثالثة نجاحاً عظيماً كما لقيت أختاها من قبل؛ فانتقاض القرن العشرين على البيورتانية، وعلى التوفيق الذي حاوله العصر الفكتوري الوسيط، ختم على قلوبنا فلم تعد ترى صور الطيبة المثالية، على الأقل في الذكور؛ فقد لقينا رجالاً طيبين، ولكن أحداً منهم لم يخل من عيوب تكفر عن طيبته. ولقد حاول رتشاردسن أن يجمل السر تشارلز بعض الهنات، ولكنا ما زلنا نكره هذه الشقة البعيدة بينه وبيننا. أضف إلى ذلك أن الفضيلة نفقد فتنتها إذا عرضت على الأنظار. ولقد أفلت جرانديسن بالجهد من أن يسلكه صانعه في زمرة القديسين.

وألح رتشاردسن على الوعظ إلحاحاً جعله يسمح لبعض العيوب أن تشوب فنه الأدبي. فانعدمت أو كادت الفكاهة والنكتة الذكية عنده، وأوقعته محاولة حكاية قصة طويلة بالرسائل في أشياء بعيدة الاحتمال (كتذكر العدد الهائل من الأحاديث)، ولكنها أتاحت له عرض الأحداث نفسها من مختلف وجهات النظر، وأضف على الحكاية ألفة لا تكاد تتير في شكل أقل ذاتية. وكان مما يتمشى تماماً مع العرف في ذلك العصر أن يكتب الإنسان الرسائل الطويلة الحميمة إلى من يثق بهم من ذوي القربى أو الأصدقاء. ثم إن طريقة الرسائل هذه أفسحت المجال أمام موهبة رتشاردسن الكبرى-وهي عرض خلق المرأة. هنا أيضاً توجد عيوب. فعلمه بالرجال أقل من علمه بالنساء، وبالنبلاء أقل من العامة، وقل أن لقط ما في النفس الإنسانية من تقلبات وتناقضات وتطور-ولكن مئات التفاصيل تدل على ملاحظته الدقيقة للسلوك الإنساني. ففي هذه الروايات ولد القصص السيكولوجي الإنجليزي والنزعة الذاتية التي بلغت في روسو مبلغ الحمى. وتقبل رتشاردسن نجاحه في تواضع وواصل عمله طباعاً، ولكنه بنى لنفسه بيتاً أفضل. وكتب رسائل طويلة ضمنها النصائح لدائرة كبيرة من النساء، كان بعضهن يدعوه "بابا العزيز"-وفي أخريات عمره دفع ثمن الفكر المركز والفن المسهب حساسية عصبية وأرقاً. وفي 4 يوليو 1761 قضت عليه إصابة بالفالج. وكان تأثيره الدولي أعظم من تأثير أي إنجليزي آخر في عصره باستثناء وسلي وبت الأب. وقد أعان في وطنه على صوغ المزاج الخلقي لإنجلترا جونسن، وعلى الارتفاع بأخلاقيات البلاط بعد جورج الثاني. وأسهم التراث الخلقي والأدبي الذي خلفه في تكوين رواية جولدسمث "قسيس ويكفيلد" (1766) ورواية جين أوستن "العقل والوجدان" (1811). أما في فرنسا فقد عد كاتباً لا ضريب له في القصة الإنجليزية. يقول روسو "لم تكتب قط في أي لغة رواية تعدل أو حتى تقترب من كلاريسا(79)". وقد ترجم الأبيه بريفوست رتشاردسن، ومسرح فولتير بأملا في "نانين" وصاغ روسو "هلويز الجديدة" على غرار كلاريسا موضوعاً وشكلاً وهدفاً خلقياً. وارتفع ديدرو إلى المناجاة المفرطة الحماسة في مقاله "تقريظ لرتشاردسن" (1761)، فقال لو أنه أكره على بيع مكتبته لما احتفظ من كتبه كلها إلا بهومر ويوربيديس وسوفوكليس ورتشاردسن. وفي ألمانيا ترجم جيلليرت باملا، وحاكاها، وبكى تأثراً من جرانديسن(80)؛ وانتشي كلوبشتوك طرباً بكلاريسيا؛ وبنى فيلاند تمثيلية على جرانديسن؛ وراح الألمان يحجون إلى بيت رتشردسن(81). وفي إيطاليا مسرح جولدوني قصة باملا.

واليوم لا يقرأ أحد رتشاردسن إلا مضطراً بحكم الدرس، ونحن لا نملك الفراغ الذي يتسع لكتابة رسائل كهذه، فضلاً عن قراءتها؛ والناموس الأخلاقي الذي يدين به عصر صناعي دارويني يهرب في ضجر من المحاذير والقيود البيورتانية. ولكنا نعرف أن هذه الروايات مثلث ثورة الوجدان على عبادة الفكر والعقل، أكثر مما مثله شعر طومسن، وكولنز، وجراي، ونتبين في رتشاردسن الأب-كما تتبين في روسو البطل-لتلك الحركة الرومانسية التي ستنتصر في أواخر القرن على صنعة بوب الكلاسيكية وواقعية فيلدنج العارمة.


ب- هنري فيلدنج 1707 - 1754

حين قدم إلى لندن في 1727 أعجب الناس كلهم بقوامه الفارع، وبنيته القوية، ووجهه الوسيم، وحديثه المرح، وقلبه المفتوح؛ فهنا رجل أعدته الطبيعة ليستمتع بالحياة في كل لذتها وواقعها السيئ السمعة. كان يملك كل شيء إلا المال؛ وإذ كان مضطراً-على حد قوله-إلى أن يكون سائقاً أجيراً، أو كويتباً أجيراً، فإنه شد نفسه إلى قلم، واكتسب قوت يومه بكتابة الهزليات والتمثيليات الكاريكاتورية. واستعملت الليدي ماري مونتاجيو، وهي ابنة خال له من المرتبة الثانية، نفوذها ليخرج له مسرح دروري لين تمثيلية "الحب وراء أقنعة عديدة" (1728)، وذهبت مرتين لتشهدها معلنة عن نفسها في تفضل؛ وفي 1732 ساعدت على عرض تمثيلية "زوج عصري" فترة طويلة. وواصل تأليف المسرحية تلو المسرحية، وكلها غير ممتاز، ووقع على عرق من الهجاء المرح في "مأساة المآسي، أو حياة وموت توم ثم الكبير" (1731).

وفي 1734 تزوج شارلوت كرادوك بعد خطبة اتصلت أربع سنين. وورثت عقب زواجهما 1.500 جنيه، فأخلد فيلدنج معها إلى حياة الدعة سيداً من سادة الريف. ووقع في حب زوجته. وقد وصفها وصف الزوج المفتون بزوجته في شخص صوفيا وسترن الجميلة في خفر، وأميليا بوث التي لا حد لصبرها وأناتها. وتؤكد لنا الليدي بيوت "أن اللغة المشرقة التي عرف كيف يستعملها لم تزد على أنصف محاسن الأصل وجمالها(82)". وفي 1736 عاد إلى لندن وأخرج تمثيليات لا تستحق الذكر. ولكن في 1737 وضع قانون الرخص قيوداً على الدراما، وانسحب فيلدنج من المسرح. ودرس القانون، وقبل محامياً (1740). وتحول مسار حياته في ذلك العام بظهور رواية رتشاردسن "باملا". وأثارت فضائل البطلة وخالقها المعتمدة كل ما في فيلدنج من نزوع إلى الهجو. و "قصة مغامرات جوزف أندروز وصديقه مستر ابراهام آدمز، مكتوبة بطريقة سرفانتيس" (1742) بدأها تقليداً ساخراً لباملا. فجوزف، الذي يقدمه لنا المؤلف على أنه أخو باملا، فتى طاهر جميل بين الفتيان كباملا بين الفتيات، تراوده مخدومته المرة بعد المرة كما وقع لباملا، ويقاوم مثلها، ويفصل مثلها في رسائله المحاولات الخبيثة للعدوان على عذريته. ورسالته لأخته باملا رسالة تكاد تكون "رتشاردسونية"، وإن لم تكن كذلك تماماً:

"أختي العزيزة باملا:

"أرجو أن تكوني بخير، عندي خبر ويا له من خبر أفضي به إليك!... لقد وقعت سيدتي في غرامي-أي ما يسميه عليه القوم بالوقوع في الغرام-وفي نيتها أن تدمرني، ولكني أرجو أن يكون لدي من العزم والحصافة ما يعصمني من التفريط في عرضي لأي سيدة على ظهر البسيطة.

"لقد طالما أخبرني المستر آدمز أن العفة فضيلة كبرى في الرجل كما هي في المرأة سواء بسواء. وهو يقول إنه لم يعرف قط امرأة غير زوجته، وسأحاول أن أقتدي به. والحق أن افضل كله لمواعظه ونصائحه الممتازة ولرسائلك في قدرتي على مقاومة إغراء يقول أن أحداً لا يذعن له إلا أن ندم في هذه الدنيا وهلك عقاباً في الآخرة... ما أجمل النصائح والمثل الطيبة! ولكني مسرور لأنها طردتني من مخدعها كما فعلت، فلقد كدت أنسي مرة كل كلمة قالها لي القس آدمز.

"ولست أشك يا أختي العزيزة في أن لك من الحصافة ما تصونين به فضيلتك من كل إغراء، وأتوسل إليك في إلحاح أن تصلي لكي منحني الله القوة على صون فضيلتي، لأنها في الحق تهاجم هجوماً عنيفاً من أكثر من امرأة، ولكني أرجو أن أقتدي بمثالك، وبمثال يوسف الصديق سميي، فأصون فضيلتي من كل إغراء(83)". وينجح جوزف، ويظل بكراً حتى يتزوج العذراء فاني. أما باملا، التي رفعت درجة في سلم المجتمع حين تزوجت مخدومها الغني، فتدين فاني لتجاسرها على الزواج من جوزف، الذي ارتفعت منزلته في المجتمع بزواج باملا برجل من عليه القوم. ولام رتشاردسن فيلدنج لأنه اقترف "إضافة فاجرة خسيسة" إلى باملا(84).

ولم تشبع شهوة فيلدنج للهجو بتقليده الساخر لرتشاردسن، وراح يحاكي الألياذة محاكاة ساخرة، بالتضرع إلى ربات الفنون والآداب ويجعل كتابة ملحمة. وقد فاض ينبوع فكاهته في مختلف الشخصيات التي تلقاها جوزف وآدمز في طريقهما، لا سيما الفندقي تو-واوز، الذي تفاجئه المسز تو-واوز متلبساً "بالجرم الفاضح" مع الخادمة بتي ثم تصفح عنه، و "احتمل في هدوء ورضي أن يذكر بذنوبه... مرة أو مرتين كل يوم طوال حياته الباقية". وإذ لم يكن في طبع فيلدنج أن يصنع بطلاً، ورواية بأكملها، من شاب لا عيب فيه، فإنه سرعان ما فقد اهتمامه بجوزف، وجعل القس آدمز الشخصية المحورية لكتابه. وقد بدا هذا خياراً بعيد الاحتمال، لأن آدمز كن قساً سنياً في إخلاص وصدق، يحمل معه مخطوطه بمواعظه باحثاً عن ناشر متهور. ولكن المؤلف أعطاه "بيبة" متينة، ومعدة قوية، وقبضتين صلبتين؛ ومع أن القس يعارض الحرب، فإنه مقاتل كفء يصرع سلسلة من الأوغاد يتعقبونه لسرقة قصته. وإلى حد بعيد أحب شخص رسمه فيلدنج، ونحن نشارك لذة المؤلف في مواجهته مواجهات غريبة مع الخنازير، والوحل، والدم. والذين كانوا في شبابهم يتأثرون تأثراً عميقاً بالمثل المسيحي الأعلى، لا بد يستشعرون المحبة الحارة لرجل دين خلا تماماً من الغش وفاضت نفسه براً. ويقابل فيلدنج بينه وبين القس تراليبر الجشع، الذي كان "من أضخم الرجال الذين يجدر بك أن تراهم، وكان في استطاعته أن يقوم بدور السر جون فلستاف دون أن يحشو بدنه(85)".

وازدهى النجاح فيلدنج، فأصدر في 1743 ثلاث مجلدات وضع عليها عنواناً متواضعاً هو "منوعات". وقد احتوى المجلد الثالث على آية من آيات التهكم المتصل في "حياة المستر جوناثان وايلد العظيم" ولم يكن ترجمة حقيقية للنص القرن الثامن عشر الأشهر، "فإن قصتي تروي على الأصح أفعالاً كان من الجائز أن يقوم بها(86)". وكان في شكله الأول سخرية من السر روبرت ولبول لاتجاره في الأصوات الانتخابية المسروقة، فلما مات ولبول أصدره المؤلف الجديد في صور هجاء "للعظمة" كما درج الناس على تقديرها وتحقيقها. وذهب فيلدنج إلى أن معظم "عظماء الرجال" أساءوا إلى البشر أكثر مما أحسنوا إليهم؛ وهكذا لقب الاسكندر بالأكبر أو "العظيم" لأنه بعد أن "اجتاح إمبراطورية شاسعة بالحديد والنار وأهلك العدد الهائل من البؤساء الذين لا ذنب لهم، ونشر الخراب والدمار كأنه العاصفة الهوجاء يقال لنا من أعمال الشفقة التي تذكر له أنه لم يذبح عجوزاً ولم يغتصب بناتها(87)" واللص أحرى بضمير أكثر راحة واطمئناناً من ضمير رجل الدولة، لأن ضحاياه أقل وغنيمته أضأل(88).

وبأسلوب التراجم السياسية يخلع فيلدنج على جوناثان شجرة نسب رفيعة، فيرجع بأصله إلى "ولفستن وايلد، الذي قدم مع هنجست". وكان لأمه صفة غروية في أصابعها غاية في العجب(89). ومنها تعلم جوناثان فن اللصوصية وآدابها، وسرعان ما مكنه ذكاؤه الفائق من تنظيم عصابة من الشبان البواسل الذين كرسوا حياتهم لإراحة الناس الزائدين عن الحاجة من سلعهم الزائدة عن الحاجة، أو من حياتهم التي لا معنى لها. وكان يصيب حظ الأسد من مكاسبهم، ويتخلص من المتمردين من مساعديه بتسليمهم لسلطات القضاء والأمن. وقد أخفق في إغواء ليتيا المطاردة، التي آثرت أن يعتدي على عرضها مساعده فايربلود، الذي "اغتصب هذه المخلوقة الجميلة في دقائق، أو على الأقل كاد يغتصبها، لولا أنها منعته من ذلك بامتثالها في الوقت المناسب(90)". وبعدها تزوجت وايلد. وبعد أسبوعين يدخلان في "حوار زوجي" تشرح فيه حقها الطبيعي في حياة الفسق، فيدعوها بالكلبة، ثم يتبادل القبل ويتصالحان. ويتصاعد حجم جرائمه أكثر فأكثر حتى يطيب لزوجته أن تراه محكوماً عليه بالإعدام. ويرافقه قسيس إلى المشنقة. فينشله وايلد في الطريق، ولكنه لا يجد معه سوى فتاحة للقوارير، لأن الكاهن كان ذواقه للخمور، أما "جوناثان العظيم، فبعد كل مغامراته الجبارة، كانت خاتمته-التي قل من عظماء الرجل من يستطيعون تحقيقها-أن علق من عنقه حتى مات(91)".

وفي أواخر عام 1744 فقد فيلدنج زوجته، وكدر موتها مزاجه حتى طهر حزنه بتصويرها تصوير المحب، خلال أسي البعد، في شخص صوفيا وأميليا. وبلغ به العرفان بالوفاء الصادق الذي أبدته خادمة زوجته التي بقيت معه لترعى أبناءه أنه تزوجها في 1747. وكان خلال ذلك يعاني من المرض والعوز، ثم أنقذه من الفقر تعيينه (1748) قاضي صلح لوستمنستر، ثم لمدلسكس بعد قليل. وكانت وظيفة شقة، ينقد عليها راتباً غير مضمون من رسوم المتقاضين الذين يوافونه بمحكمته بشارع بو. وقد وصف الجنيهات الثلاثمائة التي تجمعت له من هذه الوظيفة كل عام بأنها "أقذر نقود على وجه الأرض(92)".

ولا بد أنه كان خلال هذه السنوات الحافلة بالشدائد (1744-48) عاكفاً على أعظم رواياته، لأنها صدرت في فبراير 1749 في مجلدات ستة باسم "قصة توم جونز اللقيط". وهو يروي لنا أن الكتاب ألف في "بضعة آلاف من الساعات" استنقذها من القضاء والكتابة المأجورة، ولم يستطع أحد أن يتبين من فكاهة الكتاب القوية وأدبه الفحل أن هذه كانت سنوات الحزن والنقرس والعوز. ومع ذلك فهاهنا ألف ومائتا صفحة في رواية يعدها الكثيرون أعظم الروايات الإنجليزية. فلم يسبق في الأدب الإنجليزي أن وصف رجل هذا الوصف الكامل الصريح، بدناً وعقلاً وخلقاً وشخصية. ويحضرنا في هذا المجال تلك الكلمات الشهيرة التي قدم بها ثاكري لقصته "بندنيس".

"منذ أن ووري مؤلف توم جونز للتراب لم يؤذن لروائي منا أن يرسم "رجلاً" بأقصى ما يملك من قدرة. فحتم علينا أن نستره وأن نخلع عليه ابتسامة متكلفة تقليدية معينة. والمجتمع مصر على رفض "الطبيعي" في فننا.. .. وأنت تأبى أن تسمع.. .. ما يتحرك في دنيا الواقع، وما يدور في المجتمع، وفي الأندية، والكليات، وقاعات الطعام-تأبى أن تسمع واقع حياة أبنائك وحديثهم".

ويطالعنا توم أول ما يطالعنا طفلاً غير شرعي وجد في فراش المستر أولورذي الطاهر النقي. وبين هذه البداية وزواج توم في النهاية حشر فيلدنج مائة حدث، بأسلوب يوهم بأنه أسلوب قصص التشرد ذات الفصول المتتابعة في غير ترابط، ولكن القارئ سيدهشه أنه هو ثابر على القراءة إلى النهاية أن يجد أن هذه الأحداث كلها تقريباً ضرورية للحبكة البارعة، أو لعرض الشخوص وتطويرها؛ وأن يجد الخيوط تحل والعقد تفك. والعديد من الأشخاص مرسومون في صورة مثالية، مثل أولورذي الذي يكاد يشبه جرانديسن، وبعضهم مبسطون تبسيطاً شديداً، مثل بلايفل الذي يكرهنا على احتقاره، أو القس نواكوم، المربي "الذي سيطرت العصا على أفكاره(93)". ولكن كثيراً منهم يظهر فيهم ماء الحياة، ومنهم سكواير وسترن "الذي يعتز ببنادقه وكلابه وخيله(94)" أكثر من أس شيء في الدنيا، ثم تأتي زجاجة شرابه، ثم ابنته صوفيا الفريدة في بابها. هاهنا "كلاريسا" أخرى تعرف مسالكها بين فخاخ الرجال، وباملا أخرى تصيد رجلها دون أن تزعجها تجاربه الماضية قبل الزواج.

أما توم ففيه شيء من التحلل الجنسي، وفيما عدا ذلك فهو من أطيب أن يصلح للبقاء. تبناه أولورذي، وعلمه ثواكوم وأدبه بعصاه، فأدرك الرجولة القوية التي لا يكدر صفوها غير الخبثاء الذين يذكرونه بأصله الغامض. وهو يسطو على بستان فاكهة ويسرق بطة، ولكن أباه بالتبني يغتفر هذه الألاعيب جرياً على أفضل التقاليد الشكسبيرية. وتعجب به صوفيا وهو على بعد عفيف منه، ولكن توم، الشاعر بمولده غير الشرعي، لا يجرؤ إطلاقاً على الوقوع في حب سيدة تبعد عنه هذا البعد السحيق مكانة ومالاً. وهو يقنع بمولي سيجرم، ابنة حارس الصيد، ويعترف بأنه ربما كان أباً لطفلها، ويروح عنه كثيراً أن يجد أنه ليس إلا واحداً من عديدين يحتمل أن يكون أحدهم أباً للطفل. وتعانى صوفيا إذ تعلم بهذا الغرام الآثم، ولكن إعجابها بتوم لا يفتر إلا لحظة عابرة. وهو يمسك بها بين ذراعيه إذ تسقط من جوادها أثناء الصيد، ويشي احمرار وجهها بشعورها نحوه، فيسارع إلى مطارحتها الغرام. ولكن أباها، سكواير وسترن، كان قد هيأ جيبه لصفقة تزويجها من المستر بلايفل، وهو ابن أخت أولورذي الغني الذي لم يعقب، ووريثه الشرعي. وترفض صوفيا الزواج من هذا المنافق الشاب، ويصر أبوها، وتكد المعركة الناشبة بين إرادة الأب ودموع ابنته عدة مجلدات. أما توم فيبتعد محجماً، ويدعهم يفاجئونه في أيكة ومولي بين ذراعيه، وتظهر صوفيا في هذا المشهد فتقع مغشياً عليها. ويطرد أولورذي توم كارهاً، فيبدأ هذا أسفاره الحافلة بالأحداث، التي بدونها كان عسيراً على فيلدنج أن يكتب رواية، إذ كان لا يزال مقلداً لسرفاتتس ولساج. ويظل قلبه مع صوفيا الكسيرة الخاطر، ولكن وقد ظن أنه فقدها إلى الأبد ينزلق إلى فراش المسز ووترز. وبعد شدائد كثيرة، وتعقيدات لا تصدق، يصفح عنه أولورذي، ويحل محل بلايفل وريثاً له، ويصلح ذات البين مع صوفيا الخجول الصفوح، ويرحب به سكواير وسترن صهراً له ترحيباً صادقاً مع أنه كان قبل أسبوع على أهبة قتله. ويتعجل وسترن الخاتمة الآن فيقول:

"إليها يا بني، إليها، أمض إليها.. هل انتهى كل شيء؟ هل حددت اليوم يا فتى؟ ماذا، أيكون غداً أم بعد؟ لن أرضي بالتأجيل دقيقة أكثر من بعد غد... يمينا أنها لتود من كل قلبها أن تزف الليلة، أليس كذلك يا صوفي؟... أين بالله أولورذ؟ اسمع يا أولورذي، أراهن خمسة جنيهات لكراون أن سيولد لنا صبي بعد تسعة أشهر من غد(95)".

إن أحداً لم يصف الحياة الإنجليزية منذ شكسبير بمثل هذه الخصوبة أو الصراحة. ذلك أن أوصافهم لا تشمل كل جوانب تلك الحياة؛ ونحن نفتقد فيها الرقة والوفاء والبطولة والمجاملات والعاطفة-هذه التي توجد في أي مجتمع. أما فيلدنج فآثر رجل الغريزة عن رجل الفكر. واحتقر مهذبي الكتب ومطهريها الذين حاولوا في زمانه أن ينقوا تشوسر وشكسبير، كما احتقر الشعراء والنقاد الذين ظنوا أن الأدب الجاد يجب ألا يتناول غير علية القوم. وفهم الحب بين الجنسين على أنه حب جسدي، وأحال نواحيه الأخرى إلى دنيا الأوهام. واحتقر جنون المال الذي لحظه في كل طبقة، وكره الدجل والنفاق كرهاً شديداً. ولم يرحم الوعاظ، ولكنه أحب القس آدمز، والبطل الوحيد في "اميليا" هو الدكتور هاريسن، وهو قس أنجليكاني؛ وكان فيلدنج نفسه يعظ في كل مناسبة من رواياته.

وبعد أن نشر توم جونز جرد قلمه لحظة لتناول المشكلات التي كابدها في عمله قاضياً. وكانت تجربته تواجهه كل يوم بما في لندن من عنف وإجرام. فاقترح وسائل لتشديد حراسة الأمن العام وتصريف القضاء. ويفضل جهوده، وجهود السر جون فيلدنج، وأخيه لأبيه، الذي خلفه قاضياً في شارع بو، قضي على عصابة بثت الرعب في لندن، وشنق كل أفرادها تقريباً. وذكر متفائل في 1757 أن "الشر المسيطر، شر سرقات الشوارع، قد قمع كلية تقريباً(96)".

في هذه الأثناء كان هنري قد نشر آخر رواياته "أميليا" (ديسمبر 1751). أنه لم يستطع نسيان زوجته الأولى، ولقد نسي أن عيوب ربما شابتها، فأقام الآن لذكراها أثراً صورها فيه الزوجة الكاملة لجندي مبذر قصير النظر. فالكابتن بوث رجل لطيف شجاع كريم، وهو يعبد زوجته أميليا، ولكنه يقامر حتى يتردى في الدين، ويبدأ الكتاب بالكابتن في السجن. وهو يستغرق مائة صفحة يقص فيها قصته على نزيلة أخرى هي الآنسة ماثيوز؛ يفصل لها جمال زوجته وتواضعها ووفاءها وحنانها وغير ذلك من صفاتها المثالية، ثم يقبل دعوة الآنسة ماثيوز له أن يشاركها فراشها، وينفق "أسبوعاً كاملاً في هذا الحديث المجرم(97)". وفي مشاهد السجن هذه وغيرها من المشاهد اللاحقة، يفضح فيلدنج، ربما في شيء من المغالاة، نفاق الرجال والنساء وفساد الشرطة والقضاء ووحشية المساجين. ويجد القارئ هنا وصف سجون المدينين التي ستعمر قرناً آخر لتثير سخط دكنز. ويستطيع القاضي ثراشر أن يعرف جريمة سجين من لهجته الإيرلندية، "يا غلام، لسانك يشي بذنبك. فأنت إيرلندي، وهذا دائماً دليل كاف في نظري(98)". ويتصاعد عدد الأوعاد مع كل فصل، حتى تصرخ أميليا لأبنائها الذين عضهم الفقر قائلة "سامحوني لأنني أتيت بكم إلى هذه الدنيا(99)".

وأميليا، مثل جريزلدا، هي المثل الأعلى للمرأة الصبور كما تخيله فيلدنج. يكسر أنفها في أحد الفصول الأولى، ولكن جراحة الأنف تصلحه، وتعود جميلة جمالاً يغري بمحاولة العدوان على عرضها مرة في كل فصلين تقريباً. وهي تسلم بقصورها الفكري عن زوجها وتطيعه في كل شيء، إلا أنها ترفض الذهاب إلى حفلة تنكرية؛ وتحضر لحناً دينياً (أوراتوريو)، ولكنها تتعرض في تعريض نفسها لنظرات العابثين في فوكسهول. فإذا عاد بوث إليها بعد إحدى مغامراته الطائشة وجدها "تؤدي عمل الطاهي باللذة التي تستشعرها سيدة راقية في ارتداء ثيابها استعداداً لحفلة رقص(100)". وتتلقى رسالة من الآنسة ماثيوز اللئيمة تش فيها بخيانة بوث لزوجته في السجن، فتمزق الرسالة وتكتم خبرها عن زوجها، وتظل تحبه رغم كل سكره وقماره وديونه وسجنه، وتبيع حليها الضئيلة الثمن، ثم ملابسها، لتطعمها وتطعم أطفالها. ولا تفت في عضدها أخطاؤه بقدر ما تفت فيه قسوة الرجال والأنظمة التي توقعه في شباكها. فلقد كان فيلدنج، شأنه في ذلك شأن روسو وهلفتيوس، يرى أن أكثر الناس طيبون بفطرتهم، وإن ما يفسدهم هو البيئات الشريرة والقوانين السيئة. وعند ثاكري أن أميليا "أكثر الشخصيات فتنة في القصص الإنجليزي(101)". ولكن ربما لم تكن سوى حلم زوج. وفي النهاية تصبح أميليا بطبيعة الحال وارثة، وتعتزل هي وبوث في ضيعتها، ويستقيم حال بوث.

أما خاتمة الرواية فلا تكاد تبررها مقدماتها؛ فبوث يبقى بوث على الدوام. ولقد حاول فيلدنج أن يربط كل عقد حبكته في وحدة سعيدة، ولكن خفة يده هنا مكشوفة جداً، فلقد أدرك التعب هذا الروائي الفحل، وأثار تقززه جو اللصوص والقتلة الذي أحاط به. كتب بعد أن فزع من اميليا يقول "لن أزعج العالم بعد اليوم بمزيد من أطفالي الذين تلدهم لي ربة الأدب ذاتها". وفي يناير 1752 بدأ "مجلة كوفنت جاردن"، وكتب بعض المقالات القوية، ورد على نقد سمولت، وصوب طلقه إلى روايته "رودريك راندوم"، وفي نوفمبر ترك المجلة تموت. وكان شتاء 1753-54 أقسى من أن يحتمله بدنه الذي هده العمل والاستسقاء والصفراء والربو. وجرب ماء القار الذي نصبح به الأسقف باركلي، ولكن الاستسفاء استفحل، وأشار عليه طبيبة بالسفر إلى بلد أدفأ. ففي يونيو 1754 استقل سفينة تدعى "ملكة البرتغال" مع زوجته وابنته. وفي الطريق كتب "يوميات رحلة إلى لشبونة"، وهي من ألطف ما كتب. ومات في لشبونة في 8 أكتوبر 1754، ودفن هناك في الجبانة الإنجليزية.

فما الذي أنجزه؟ لقد أرسي دعائم رواية السلوك الواقعية؛ ووصف حياة الطبقات الوسطى الإنجليزية وصفاً أنصع من أي وصف أتى به مؤرخ، وفتحت كتبه عالماً بأسره. ولكنه لم ينجح مثل هذا النجاح في الطبقات العليا، وكان عليه أن يقنع في هذا الميدان، كما قنع رتشاردسن، بنظرة الدخيل. ولقد عرف من حياة وطنه الجسد خيراً مما عرف الروح، ومن الحب جسده خيراً مما عرف روحه، وغابت عنه مقومات الخلق الإنجليزي الأكثر رهافة وخفاء. ومع ذلك فقد ترك بصمته على سمولت، وستيرون، ودكنز، وثاكري؛ لقد كان أباً لهم أجمعين.


جـ- طوبياس سمولت 1721 - 1771

لم يكن سمولت يحبه، لأنهما تنافسا على استحسان القراء في الميدان نفسه. وكان أصغر الرجلين اسكتلندياً وافق هيوم على التحسر لأن إنجلترا عاقت الطريق إلى فرنسا. ولكن جده كان قد شجع الاتحاد البرلماني مع إنجلترا عملياً (1707)، وكان عضواً في البرلمان المتحد. ومات الأب وطوبياس في الثانية من عمره، ولكن الأسرة أنفقت على تعليم الصبي في مدرسة دمبرتون الثانوية وفي جامعة جلاسجو حيث درس المقررات الممهدة لدراسة الطب. ولكنه بدلاً من أن يواصل الدرس حتى يحصل على درجته الطبية أدركته عدوى الكتابة، وهرع إلى لندن وجاريك، يحمل مأساة ضعيفة ألفها، ورفضها جاريك. وبعد أن جاع طوبياس فترة قصيرة التحق مساعداً لجراح في البارجة "كمبرلاند" وأبحر معها (1740) في الحرب التي نشبت مع أسبانيا بسبب "أذن جنكنيز". واشترك في الهجوم الأخرق على قرطاجنة المواجهة لساحل كولومبيا. وفي جميكا ترك الخدمة، وهناك التقى بنانسي لاسيل التي تزوج عقب عودته (1744) إلى إنجلترا. وسكن بيتاً في داوننج ستريت ومارس الجراحة، ولكن شهوة الكتابة غلبته، وكانت تجاربه في البحرية تطالبه على الأقل بقصة واحدة. لذلك نشر أشهر رواياته في سنة 1748.

أما هذه الرواية، واسمها "مغامرات رودريك راندوم"، فهي رومانسية التشرد القديمة، الحافلة بالأحداث الدائرة حول إحدى الشخصيات. ولم يعترف سمولت بأي فضل لفيلدنج، ولكنه اعترف بالفضل الكبير لسرفانتيس ولساج. وقد شده البشر وأفعالهم أكثر مما شدته الكتب والألفاظ، فحشد قصته بالأحداث وأضفى عليها نتانة الأقذار ولون الدماء، وملأها ناساً تفوح منهم رائحة الشخصية والحديث الفحل. وهذه الرواية من أقدم وأفضل مئات الروايات الإنجليزية التي كتبت عن البحر. ولكن قبل أن يجند رودريك في البحرية يختبر-كما اختبر صانعه-عينات من الفنادق الإنجليزية والأخلاق اللندنية. وما أكثر ما افتقدناه لأننا لم نجرب السفر في مركبات القرن الثامن عشر تلك والنزول في تلك الفنادق!-مسرح حافل بالأنفس المصطرعة والجنود المحتضرين، والقوادين والمومسات، والباعة الجوالين يحملون حزمهم ويخفون نقودهم، والرجال يقلبون المباول بحثاً عن الفراش الخطأ، والنساء يصرخن مستغيثات من مغتصب ثم تسكتهن النقود، وكل صعلوك يتظاهر بالعظمة، وكل إنسان يسب ويشتم. فالآنسة جني تخاطب البائع الجوال قائلة "أنت أيها الفاسق العريق في الزنا مائة في المائة" وتسأل الكابتن "لعنك الله يا سيدي، من أنت؟ ومن جعلك كابتناً أيها المتملق، القواد، كناس الخنادق الحقير؟ تباً لك! وويل للجيش إذا كان أمثالك من ضباطه(102)".

وفي لندن يصبح رودريك (وهو هنا= سمولت) مساعداً لصيدلاني. ويفلت من الزواج حين يجد خطيبته في الفراش مع رجل آخر. "لقد أعطتني السماء من الصبر وحضور الذهن ما جعلني أنسحب فوراً، وشكرت حظي ألف مرة على هذا الكشف السعيد الذي عولت على الإفادة منه فأكف عن كل تفكير في الزواج مستقبلاً(103)" وهو يقنع بحياة الفسق، ويطلع على حياة البغايا وبلاويهن، ويعالج أمراضهن، ويندد بالدجاجلة الذين يبتزون مالهن، ويلاحظ أن المومس "مع كثرة شكوى الناس من أنها مصدر إزعاج تفلت من العقب بفضل مالها من نفوذ على القضاة، الذين تدفع لهم هي وجميع من يعملن في خدمتها تبرعات ربع سنوية لقاء حمايتهن(104)".

ثم يفقد وظيفته لاتهامه باطلاً بالسرقة، ويتردى في مهاوي الفاقة حتى "لم أجد ملجأ ألوذ به غر الجيش والبحرية". ويعفيه من عذاب اتخاذ القرار عصابة لجمع المجندين بالقوة، تصرعه على الأرض فاقد الوعي وتجره إلى متن سفينة صاحب الجلالة "ثندر". ويستسلم لمصيره، ويصبح ضابطاً جراحاً. وبعد يوم واحد في البحر يدرك أن الكابتن أوكم ليس إلا وحشاً نصف مجنون، يلزم البحارة المرضي بالعمل ضناً منه بالمال حتى يموتوا. ويقاتل رودريك في قرطاجنة وتتحطم به السفينة، فيسبح إلى بر جميكا، ويصبح خادماً لشاعرة عجوز عليلة، ويقع "في حب" ابنة أخيها نارسيسا، "وداعبته الأحلام بأنه سيستمتع يوماً ما بهذه المخلوقة اللطيفة(105)". وهكذا تجري القصة في تدفق سمولت اللاهث، بفقرات تتصل الواحدة منها ثلاث صفحات، في لغة بسيطة قوية بذيئة. وفي لندن يصادق رودريك مجموعة جديدة من الأصدقاء الغريبي الأطوار، بما فيهم الآنسة ميلندا جوستراب والآنسة بدي جرايبويل. ثم يمضي إلى باث بمزيد من مناظر مركبات السفر؛ هناك يلتقي بنارسيسا الحلوة ويظفر بمحبتها له، ثم يفقدها، ويشتبك في مبارزة... ويعود إلى البحرية جراحاً، ويبحر إلى غينيا (حيث "يشتري" قبطان سفينة أربعمائة عبد ليبيعهم في بارجواي "بربح كبير")، ثم يعود إلى جميكا، حيث يجد أباه الذي فقده منذ أمد طويل وأصبح الآن ميسور الحال، ويعود إلى أوربا ثم إلى نارسيسا، فيتزوجان ويعود بها إلى إسكتلندة وضيعة أبيه؛ أما نرسيسا "فيبدأ خصرها يستدبر بشكل ملحوظ". وأما رودريك:

"فإذا كان على الأرض شيء يسمى السعادة الحقة فأني استمتع بها. لقد سكتت الآن اضطرابات عاطفتي العاصفة ولانت في حنان الحب وهدوئه، بعد أن رسخ جذورها ذلك الاتصال الحميم والتعاطف القلبي الذي لا يجود به غير رباط الزوجية الطاهر".

وراجت رواية رودريك راندوم. وأصر سمولت الآن على نشر مسرحيته "قاتل الملك" مشفوعة بمقدمة محق فيها أولئك الذين رفضوها من قبل؛ وقد دأب على أن يطلق العنان لطبعه الحاد في خلق الأعداء. وذهب إلى أبردين في 1750 وتسلم درجة الطب، ولكن شخصيته كانت عقبة في طريق مارسته الطب، فانكفأ إلى الأدب. وفي 1751 أصدر "مغامرات بريجرين بيكل". وهنا، كما في راندوم، دعا العنوان القارئ لجولة من الأحداث المثيرة في حياة جوابه؛ ولكن سمولت وقع الآن على عرق من الفكاهة اللاذعة في أنجح شخوصه، ذلك هو الكومودور ترنيون، الذي يصفه بأنه "سيد من طراز غاية في الغرابة" كان "مقاتلاً مغواراً في زمانه، وفقد عيناً وعقباً في الخدمة العسكرية(106)" وهو يصر على أن يقص للمرة التاسعة كيف قصف بالمدافع بارجة فرنسية تجاه رأس فنستير. ويأمر خادمه توم بابير بأن يؤمن على كلامه، وهنا "فتح توم فمه كأنه سمكة "قد" لاهثة، وبإيقاع أشبع بعصف الريح الشرقية تصفي في شق" فاه بالتأييد المطلوب (وقد رأى فيه ستيرن هنا آثاراً طفيفة من العم توبي والجاويش تريم).

ويواصل سمولت مرحه خلال وصف صاخب لمسز جريزل وهي تخطب ود الكومودور الذي يتوسل إليه مساعده ذو الساق الواحدة، جاك هانشواي، ألا يسمح لها بأن "تجره تحت مؤخر سفينتها" لأنها "متى أحكمت وثاقك إلى مؤخرها، انطلقت والله حثيثاً، وجعلت كل عرق من عروق جسدك ينشق من الشد". ويطمئنه الكومدور قائلاً "لن يرى إنسان هوسر ترنيون طريحاً في مؤخر السفينة في ذيل أي-في العالم المسيحي(107)" على أن مختلف الخطط والمكائد تحطم عفته؛ فيوافق على أن "يثبت مركبه بمرساة" أي يتزوج، ولكنه يمضي إلى رباط الزوجية "كمجرم ماض إلى إعدامه... وكأنه يخشى في كل لحظة من تحلل عناصر الطبيعة". ويصر على أن يكون فراش زواجه أرجوحة شبكية، فتنهار تحت ثقل الجسدين، ولكن هذا لم يقع إلا بعد أن "ظنت السيدة أن هدفها العظيم قد تحقق، وسلطانها أصبح مكفولاً أمام جميع صدمات الحظ". على أن هذا التلاحم بين جسدين ينتهي بغير ثمر، فتنكفئ المسز ترنيون إلى البرندي و "فروض الدين التي راحت تؤديها بصرامة تفيض حقداً".

وقد صور السر ولتر سكوت سمولت في أربعيناته بأنه "وسيم جداً، جذاب الملامح، وحديثه-بشهادة كل أصدقائه الباقين على قيد الحياة-منير ومسل غلى أبعد حد(108)". وأجمع الناس على أنه رجل حاد الطبع في حديثه. قال يصف السر تشارلز نولز أنه "أميرال بغير إرادة، ومهندس بغير معرفة، وضابط بغير عزيمة، ورجل بغير السجن ثلاثة أشهر، وغرامة قدرها مائة جنيه (1757). على أن حدة طبعه كانت ترافقها فضائل كثيرة، فقد كان كريماً رحيماً، أعان فقراء المؤلفين، وأصبح كما قال السر ولتر "أباً شديد التعلق بأبنائه، وزوجاً محباً لزوجته(110)". وكان منزله في لورنس لين بحي تشلسي ملتقى لصغار الكتاب الذين كانوا يصيبون من طعامه وإن لم يتبعوا نصائحه؛ وقد نظم بعضهم في فرقة من المساعدين الأدبيين. وكان رائداً بين الناشرين (ودرايدن بين الشعراء)؟) في إلزامه تجار الكتب بتأييده في شرط يليق بعبقريته. وكان أحياناً يكسب ستمائة جنيه في العام، ولكن كان عليه أن يكد ويكدح ليكسبها. وكتب ثلاث روايات أخرى، اثنتان منها لا تستحقان الذكر. وأقنع جاريك بأن يخرج تمثيليته "العقاب"، التي نجحت بفضل هجماتها على فرنسا؛ ثم كتب لعدة مجلات مقالات تتسم بروح التحرش والمشاكسة؛ ورأس تحرير صحيفة "البريطاني" لسان حال المحافظين. وترجم جيل بلاسي، وعدة مؤلفات لفولتير، ودون كخوته (مستعيناً بترجمة سابقة)، وكتب-أو أشرف على كتابة-تاريخ لإنجلترا من تسعة مجلدات (1757-65). ومن المؤكد أنه استخدم "مصنعه الأدبي" المؤلف من الكتاب المأجورين في جراب ستريت ليصنف "تاريخاً للعالم" وكتاباً ذات ثمانية مجلدات اسمه "الحالة الراهنة للأمم".

وحين بلغ الثانية والأربعين عام 1763، كان قد دفع باعتلال صحته ثمن حياته المتطلعة، الحافلة بالمغامرة والجهد والشجار والكلام. ونصحه طبيبه بأن يستشير أخصائياً في مونبلييه يدعى الدكتور فيز. فمضي إليه، وأخبر الأخصائي أن ربوه، وسعاله، وبصاقه الصديدي، دليل على إصابته بالسل، واذكره العودة إلى رطوبة إنجلترا وخضرتها، فقد ظل عامين في القارة، يغطي نفقاته بكتابة "رحلات في فرنسا وإيطاليا" (1766)، وقد أبدى هنا، كما أبدى في رواياته، تلك النظرة الحادة اللماحة التي ترى سمات خلق الأفراد والأمم ومميزاته؛ ولكنه تبل أوصافه بالشتائم الصريحة. وأخبر سائقي مركبات السفر، وزملاءه المسافرين، وأصحاب الفنادق، والخدم، والأجانب المتحمسين لأوطانهم، رأيه فيهم دون مواربة؛ واعترض على كل فاتورة حساب، وحطم الفن الفرنسي والإيطالي، وسخر من الكاثوليكية، وحكم على الفرنسيين بأنهم لصوص جشعون لا يغفلون دائماً سرقاتهم بغلاف من الأدب والكياسة. استمع إليه يقول: "لو أن فرنسيا أدخل إلى أسرتك.. لكان أول رد له على مجاملاتك أن يطارح زوجتك الغرام إذا كانت جميلة؛ وإلا فأختك، أو ابنتك، أو ابنة أخيك أو أختك... أو جدتك... فإذا كشف أمره... صرح في صفاقة بأن ما صنعه لم يكن سوى تودد لا غبار عليه، مما يعد في فرنسا من مقومات التربية الحسنة(111)".

وعاد سمولت إلى إنجلترا وقد تحسنت صحته كثيراً، ولكن عله عاودته في 1768، فحاول الاستشفاء في باث. غير أنه وجد مياهها عديمة الجدوى له، وهواءها الرطب خطراً عليه؛ وفي 1769 عاد إلى إيطاليا. وفي فيللا قرب لجهورن كتب آخر كتبه وأفضلها وهو "رحلة همفري كلنكر" وفي رأي ثاكري أنه "أفكه قصة كتبت منذ ذلك الفن الجميل، فن كتابة الروايات(112)". وهو ولا شك أمتع وألطف كتب سملت إذا استطعنا أن نطيق شيئاً من القذر. وفي مطلع القصة تقريباً نلتقي بالدكتور-الذي يتحدث عن الروائح "الطيبة" أو "الخبيثة" باعتبارها ميولاً ذاتية خالصة" لأن كل شخص يزعم أنه يتقزز من رائحة إفرازات شخص آخر يستنشق رائحة إفرازاته هو برضا تام، وقد ناشد جميع الحاضرين من السيدات والسادة هناك أن يشهدوا على صدق قوله(113)"، ويلي ذلك صفحة أو اثنتان من شروح أشد لذعاً وحرافة حتى من هذه. وبعد أن تخفف سمولت من هذه اللقمة، عمد إلى اختراع سلسلة مرحة من الشخوص، يواصلون الحكاية بخطاباتهم في أسلوب غاية في العجب والإمتاع، وعلى رأسهم ماثيو برامبل وهو "سيد عجوز" وعزب عصي، ينطقه سمولت بآرائه. وهو يذهب إلى باث للاستشفاء، ولكنه يجد خبث رائحة مياهها أشد وقعاً في نفسه من قوتها الشافية. وهو يكره زحام الجماهير، ويغمى عليه مرة من رائحتهم المتجمعة، ولا يطيق هواء لندن الملوث، أو أطعمتها المغشوشة. يقول:

"إن الخبز الذي آكله في لندن عجين مؤذ اختلط بين الجير والشب ورماد العظام؛ غث المذاق مدمر للجسم. ولا يجهل القوم الطيبون هذا الغش ولكنهم يفضلونه على الخبز الصحي، لأنه أكثر بياضاً... وهكذا يضحون بمذاقهم وصحتهم... والطحان أو الخباز مضطر إلى تسميمهم... ومثل هذا الفساد الشديد يظهر في لحم العجول الذي يأكلونه، والذي يبيضون لونه باستنزاف دمه مراراً وتكراراً، وبغير هذا من الوسائل الخبيثة؛ وقياساً على هذا يصح للمرء أن يتناول غذاءه بمثل هذا الاطمئنان من قطعة محمرة من قفاز جلد الماعز.. .. ولن تصدقوا أن الجنون بلغ بهم أن يسلقوا خضرهم ومعها قطع نحاسية من نصف البنس لينضروا لونها(114)".

وعليه يهرع ماثيو عائداً إلى ضيعته الريفية، حيث يستطيع أن يتنفس ويأكل دون أن يعرض حياته للخطر. وفي طريقه إليها، بعد أن انتهى ربع القصة، يلتقط غلاماً ريفياً فقيراً في أسمال بالية يدعة همفري كلنكر "كانت نظراته تنبئ بالجوع، ولم تكد الخرق التي يلبسها تستر ما يقتضي اللياقة إخفاءه". ويعرض هذا الصعلوك أن يسوق العربة، ولكن حين يتربع على مقعد السائق العالي تنشق سراويله العتيقة، وتشكو المسز طابيثا برامبل (أخت ماثيو) من أن همفري "جرؤ على أن يؤذي بصرها بإبداء أردافه العارية". ويكسو ماثيو الصبي، ويلحقه بخدمته، ويحتمله بصبر حتى حين يصبح الفتى واعظاً مثودياً عقب سماعه جورج هوايتفيلد.

ويبدو جانب آخر من الموقف الديني في المستر-الذي يقابله برامبل في سكاربرو، والذي يفاخر بأنه تحدث إلى فولتير في جنيف "عن تسديد اللطمة القاضية لخرافة المسيحية(115)" ويدخل خارجي آخر اسمه الكابتن لزماها جو القصة في درم-"رجل طويل هزيل، يتفق مظهره هو وحصانه مع وصف دون كخوته ممتطياً جواده روزنانتي". وقد عاش بين هنود أمريكا الشمالية، وهو يقص في لذة كيف أن هؤلاء الهنود قد شووا على النار مرسلين فرنسيين لقولهما أن الله سمح لابنه "أن يدخل أحشاء امرأة، ويعدم كما يعدم المجرمون"، ولأنهما زعما أنهما يستطيعان "تكثير الله إلى ما لا نهاية بالاستعانة بقليل من الدقيق والماء" وكان لزماهاجو "يكثر استعمال ألفاظ مثل العقل، والفلسفة، وتناقض الحدود؛ وقد أنكر خلود نار الجحيم. بل قذف بعض مفرقعاته عقيدة خلود الروح قذفاً شيط شوارب إيمان السيدة طابيثا قليلاً(116)".

ولم يكتب لسمولت أن يرى "همفري كلنكر" مطبوعة. ففي 17 سبتمبر 1771 مات في فيللته الإيطالية غير متجاوز الخمسين، بعد أن خلق من الأعداء والشخصيات الحية أكثر مما خلقه أي كاتب آخر في زمانه. ونحن نفتقد فيه ما نجده في فيلدنج من ابتهاج وتقبل صحي للحياة وبناء للحبكة فيه جهد وعناية، غير أن في سمولت حيوية عارمة، وفيه رنين ورائحة مدن بريطانيا ومراكبها وطبقتها الوسطى، وحكايته ذات الأحداث المترابطة البسيطة تتدفق بحرية وحيوية أكثر دون أن يعوقها عائق من المواعظ.. ورسم الشخوص أقل لفتاً للنظر في فيلدنج، ولكنه أكثر تعقيداً. وكثيراً ما يقنع سمولت بتكديس السمات المميزة للأفراد بدلاً من ارتياده للتناقضات والشكوك والتجارب التي تصنع الشخصية. وهذا الأسلوب في تمييز الأفراد-بالمبالغة في خصيصة ما باعتبارها "لازمة" في كل شخص-انتقل إلى دكنز، الذي واصل بمذكرات بكوك الرحلة التي بدأها ماثيو برامبل.

هؤلاء الكتاب-رتشردسن وفيلدنج وسمولت-إذا أخذناهم معاً، وجدناهم يصفون إنجلترا منتصف القرن الثامن عشر وصفاً أكمل وأدق من أي وصف أتى به مؤرخ أو جميع المؤرخين-الذين يضلون طريقهم وسط الشذوذات. فكل شيء موجود هنا، اللهم إلا تلك الطبقة العليا التي أخذت عن فرنسا عاداتها ومستعمراتها. هؤلاء الروائيون أدخلوا الطبقات الوسطى دخول الظافرين إلى ميدان الأدب، كما أدخلهم ليللو إلى الدراما، وجاي إلى الأوبرا، وهوجارث إلى التصوير. لقد خلقوا الرواية الحديثة وتركوها تراثاً لا يباري.


6- الليدي ماري

بهذا اللقب ألفت إنجلترا أن تلقب ألمع الإنجليزيات في جيلها، المرأة التي دخلت تاريخ الآداب والعادات بهجومها على التقاليد التي حبست جنسها، ودخلت تاريخ آداب اللغة بكتابتها رسائل تنافس رسائل مدم دسفينييه.

وقد حظيت بظروف مواتية للانطلاق؛ فهي حفيدة السر جون ايفلين، وابنه ايفلين بييربونت الذي انتخب عضواً بالبرلمان سنة مولدها (1689)، والذي ورث عقب ذلك ضيعة غنية ولقب ايرل كنجزتن، ومن هنا لقبت ابنته بـ "ليدي ماري" منذ طفولتها. أما أمها، الليدي ماري فيلدنج، كان أبوها ايرلاً، وابن عمها هو الروائي المعروف. وماتت الأم وبطلتنا لا تتجاوز الرابعة من عمرها. وأرسل الأب أطفاله إلى أمه لتكفلهم، فلما ماتت عادوا إلى مقره الريفي المترف، ثورزبي بارك، في مقاطعة نوتنجهامشير، وكانوا يعيشون أحياناً في منزله اللندني في بيكاديللي. وكان شديد التعلق بماري التي اختارها "نخباً" (أي شخصاً يشرب نخبه) للعام في نادي الكيت كات؛ هناك كانت تنتقل من حج إلى حجر، وتبدي ذكاءها في شيطنة. وقد علمت نفسها في مكتبة أبيها بمعاونة مربيتها، فكانتا تتفقان هناك أحياناً ثماني ساعات في اليوم، تستوعبان الرومانسيات الفرنسية، والتمثيليات الإنجليزية. والتقطت بعض الفرنسية والإيطالية، وعلمت نفسها اللاتينية بالاستعانة بـ "تحولات" الشاعر أوفيد.. وكان أديسون وستيل وكونجريف يختلفون إلى البيت، ويشجعونها على الدرس، ويحفزون ذهنها المتطلع. ونحن نعرف، من مصدر وحيد هو مصدرها هي، أن إلمامها بالآداب اللاتينية هو الذي جذب إليها اهتمام إدوارد ورتلي. وكان حفيداً لإدوارد مونتاجيو، أول ايرل لساندوتش، واتخذ أبوه سني مونتاجيو اسم ورتلي عند زواجه بوارثة ذلك اللقب. وكان إدوارد حين التقى بماري (1708)-وهو في الثلاثين-رجلاً ذا شأن وتطلعات كبيرة، تزود بتعليم جامعي، ودعي لاحتراف المحاماة في الحادية والعشرين، وظفر بكرسي في البرلمان وهو في السابعة والعشرين. وهو لا يدري كيف بدأ توددها إليه، ولكن هذا التودد أحرز شيئاً من التقدم، لأنها اكتتبت له في 28 مارس 1710 تقول:

"اسمح لي بأن أقول هذا (وأنا عليمة بأن قولي قد يبدو غروراً)، وهو أني أعرف كيف أسعد رجلاً معقولاً؛ ولكن على ذلك الرجل... أن يسهم هو نفسه بشيء في هذا... وهذه الرسالة... هي أولى رسالة كتبتها في حياتي لإنسان من جنسك، وستكون الأخيرة. فعليك ألا تتوقع رسالة أخرى على الإطلاق(117)".

وأفلحت استراتيجتها المتأنية. فلما مرضت بالحصبة أرسل إليها رسالة قصيرة كانت أحر مما ألف أن يرسل: "كان يفرحني كثيراً أن أسمع بن حسنك قد أوذي جداً لو كنت أسر بأي شيء يسوءك، لأن من شأن هذا أن يقلل عدد المعجبين بك(118)". ودفع جوابها حملتها خطوة أخرى "إنك تظن أنني-لو تزوجتني-سأهيم بحبك شهراً، ويحب آخر في الشهر التالي، ولكن لن يحدث هذا ولا ذاك. ففي استطاعتي أن أقدر إنساناً، وأن أكون صديقة لإنسان، ولكنني لا أدري أأستطيع أن أعشق(119)". ولعل هذه الصراحة جعلته يتريث، لأنها كتبت في نوفمبر "تقول إنك لم تستقر على رأي بعد، فدعني أقرر نيابة عنك، وأعفيك من مشقة الكتابة ثانية. وداعاً غلى الأبد! لا ترد(120)". وعادت تكتب في فبراير 1711 لتقول له "هذه آخر رسالة أبعث بها(121)". واستأنف تودده إليها، فتقهقرت، وأغرته بالمطاردة الحثيثة. وتدخلت الاعتبارات المالية واعتراض الأب، فدبرا الهرب، وإن كان معنى هذا ألا تتوقع مهراً من أبيها. وأنذرت ورتلي إنذاراً أميناً "فكر الآن لآخر مرة بأي طريقة يجب أن تأخذني. سأحضر إليك بقميص نومي وتنورتي، وذلك كل ما ستحصل عليه معي(122)" والتقيا في نزل، وتزوجا في أغسطس 1721، وبعدها لقبت بالليدي ماري ورتلي مونتاجيو، هذا الاسم الأخير اتخذته من نسب زوجها، ولكن لما كان ابناً لابن ثان للأسرة (غير البكر)، فقد ظل اسمه إدوارد ورتلي دون ألقاب شرف.

وما لبثت دواعي العمل والسياسة أن نقلته إلى درم ولندن، بينما تركها بدخل متواضع جداً في عدة بيوت في الريف انتظاراً لوصول وليدها. وفي أبريل لحقت بورتلي في لندن، وهناك وُلد طفلها الأول في شهر مايو. على أن سعادتها كانت قصيرة الأجل، فقد رحل زوجها سعياً لإعادة انتخابه في البرلمان، وما لبثت أن أخذت تشكو الوحدة؛ لقد تطلعت إلى شهر عسل حالم، وتطلع هو إلى مقعد في البرلمان جديد. وأخفقت حملته الغالية التكلفة، ولكنه عين عضو لجنة صغيراً. واستأجر بيتاً قرب قصر سانت جيمس، وهناك، في يناير 1715، بدأت الليدي ماري غزوها للندن.

وقد خبرت فيها دوامة الحياة الاجتماعية. فكانت تستضيف الأصحاب أيام الاثنين، وتختلف إلى الأوبرا أيام الأربعاء، وإلى المسرح أيام الخميس. وتزور وتزار، وترفرف حول بلاط جورج الأول، ومع ذلك ظفرت برضي الأميرة كارولين. وصادقت الشعراء، وتبادلت النكت الذكية مع بوب وجاي. وافتتن بوب ببديهتها الحاضرة، ونسي لحظة احتقاره للجنس الأنعم، وصفق لجهودها في تعليم البنات، وأهداها بعض قوافيه التي نظمها في هرولة:


"في الحسن أو الذكاء

لم يجرؤ بشر بعد

أن يشك في علو كعبك،

ولكن من الرجال ذوي الفطنة

من رأي أن التسليم لسيدة

في أمور العلم أمر عسير.

إن المدارس الوقحة،

بقواعدها الغبية البالية،

أنكرت التعليم على الإناث،

وكذلك ينكر البابويون

على الناس قراءة الكتاب المقدس

مخافة أن تغدو الرعية حكيمة كراعيها.

إن المرأة كانت أول

من ذاق لذة المعرفة

(رغم أنها لعنت)

ويجمع الحكماء

على أن القوانين يجب أن تقضي

بالحق لأول مالك.

إذن فاستأنفي أيتها السيدة الحسناء

في جرأة ذلك الحق القديم

الذي هو مطلب جنسك كله؛

واجعلي الرجال يتلقون

على يد حواء ثانية ذكية

معرفة الخير والشر.

ولكن إذا كانت حواء الأولى

قد عوقبت عقاباً صارماً

لأنها لم تقطف غير تفاحة واحدة،

فأي عقاب جديد

يقضي به عليك،

يا من سرقت الشجرة كلها بعد أن ذقت حلاوتها(123)؟"

وكتب جاي الآن نشيداً رعوياً سماه "التبرج" هجا فيه بعض أعلام لندن تحت أسماء زائفة شفافة. وشاركت الليدي ماري في هذه اللعبة. وبمساعدة بوب وجاي نظمت نشيدين رعويين نافست أبياتهما الزوجية البتارة أبيات الشاعرين رشاقة ولذعاً. ولم تنشر هاتين القصيدتين، ولكنها سمحت بتداول نسخ مخطوطة منهما بين الأصدقاء-واكتسبت الآن شهرة بأنها قريع بوب بين النساء، امرأة تحذق فنون القلم والقوافي والسخرية الموجعة.

على أنها في ديسمبر 1715 كابدت لطمة أوجع من سهامها. ذلك أن الجدري الذي قتل من قبل أخاها هاجمها هجوماً قاسياً حتى شاع أنها ماتت. وقد نجت من الموت، ولكن وجهها تشوه ببثور الجدري، ورموشها سقطت، ولم يبق غير عينيها السوداوين النجلاوين أثراً من ذلك الجمال الذي اعتمدت عليه في دفع زوجها إلى الأمام. ومع ذلك ظفر ورتلي بالمكافأة، ففي أبريل 1716 عين "سفيراً فوق العادة" في البلاط العثماني، وابتهجت الليدي ماري، فلقد حلمت بالشرق مرتعاً للأحلام والشعر، وحتى وهي في صحبة زوجها قد تجد الرومانس في الآستانة أو في الطريق إليها. وكتب لها بوب وقد طاف هذا الحلم بخياله كذلك، في أول يوليو، رسالة أشرفت على شفا الغرام بأسلوب أنيق:

"لو خطر لي أنني لن أراك ثانية لقلت هنا أشياء ما كنت لأقولها لشخصك. فما أريد أن أتركك تموتين مخدوعة فيَّ، أي تذهبين إلى الآستانة دون علم بأنني، بشيء من المبالغة، وبغاية التعقل أيضاً، يا سيدتي".

ثم وقع بالتحية المنمقة المألوفة، تحية العبد الخاضع المطيع(124).

وفي أول أغسطس، عبر ورتلي وماري وابنهما البالغ ثلاث سنين ورهط من الخدم والحشم البحر إلى هولندا. ومروا بكولونيا إلى ريجنزبرج، حيث أبحروا على ذهبية يجدف فيها اثنا عشر ملاحاً مروراً بقمم جبلية تعلوها القلاع. وفي فيينا وجدت رسالة من بوب يقدم فيها قلبه ويؤكد لها:

"لا لأني أرى في كل إنسان متجرد مشهداً رائعاً مثلك أنت وقلة أخرى من الناس... في وسعك أن تتخيلي بسهولة مبلغ رغبتي في مراسلة شخص علمني منذ أمد بعيد أن الاحترام من أول نظرة محال كالحب، وأفسد عليَّ من ذلك الحين لذة كل حديث مع أحد الجنسين، وكل صداقة مع الجنس الآخر تقريباً.. لقد فقدت الكتب تأثيرها عليَّ، وآمنت منذ رأيتك أن هناك شيئاً أقوى من الفلسفة، وأن هناك، منذ سمعتك، إنساناً حياً هو أحكم من جميع الحكماء(125)".

ولكنه أضاف أمله بأن تكون سعيدة مع زوجها، وردت عليه قائلة:

"ربما ضحكت مني لشكري إياك بكل وقار عن اهتمامك المتفضل الذي أعربت عنه. ومن المؤكد أنه يحق لي، أن شئت أن أحمل الأشياء الجميلة التي قلتها لي على محمل الفكاهة والمزاج، وربما كان حملي لها على هذا المحمل صواباً. ولكنني لم أكن في حياتي ميالة ولو نصف ميلي الآن لتصديقك(126)".

وفي 3 فبراير 1717 بعث لها بوب بتصريح آخر يبوح فيه بحبه العميق، محتجاً على اعتباره إياه "صديقها فقط". واحتفظت ماري بهذه الرسائل لنفسها، سعيدة بأنها حركت حطام أحد الشعراء الأحياء. وبلغت الجماعة الآستانة في مايو. وهناك عكفت ماري على تعلم التركية بعزيمة ماضية، وبلغت من ذلك مبلغاً أتاح لها فهم الشعر التركي والإعجاب به، واتخذت الثياب التركية، وزارت النساء في الحريم، ووجدتهن أرقى من خليلات جورج الأول. ولاحظت ممارسة التطعيم في تركيا بشكل منتظم وناجح وقاية من الجدري، وطعم الدكتور ميتلاند الجراح الإنجليزي في الآستانة ولدها بناء على طلبها. ورسائلها من تلك المدينة لا تقل فتنة عن أي رسائل في هذا الجانب من جوانب مدام دسفنييه، أو هوراس ولبول، أو ملشيور جريم. ولم تنتظر حتى يخبرها إنسان بأنها أدب، فلقد كتبت بهذا التطلع، وقال لأصدقائها "أن أحدث اللذات التي صادفتها في طريقي هي رسائل مدام دسفنييه، جميلة جداً هذه الرسائل، ولكني أؤكد، دون أدنى غرور، أن رسائلي لن تقل عنها إمتاعاً بعد مضي أربعين سنة من الآن. لذلك أنصحكم بألا تقذفوا بأي منها في سلة المهملات(127)".

واتصلت رسائلها مع بوب. فتوسل إليها أن تأخذ تأكيداته مأخذ الجد، ولكن نبرته كانت مزيجاً محيراً من المزاح والحب. وقد تصور تركيا في خياله الشاطح "بلد الغيرة، حيث لا تتحدث النساء التعسات مع أحد إلا الخصيان، وحيث يؤتى لهن بالطعام،-حتى الخيار-مقطعاً". ثم أضاف وهو يفكر في تشوه جسده محزوناً "أنني شخصياً قادر على أن أتبع إنساناً أحببته، لا إلى الآستانة فحسب، بل إلى أرجاء الهند التي يقولون لنا أن النساء فيها يعظم حبهن لأقبح الرجال صورة،... ويرين في التشوهات دلائل الرضي الإلهي". ويقول إنه سيعتنق الإسلام إن اعتنقته ويصحبها إلى مكة، وأنه لو وجد التشجيع صدق(109)". وأقام عليه الأميرال دعوى القذف، فكابد سمولت الكافي لالتقى بها في لمباردية، "مسرح تلك الغراميات المشهورة بين الأميرة الجنية وقزمها(128)". فلما علك أنها عائدة إلى أرض الوطن هزه الطرب حتى كاد ينتش: "أكتب وكأنني ثمل، فاللذة التي أجدها في التفكير في عودتك تطريني فوق حدود التعقل واللياقة... تعالي بالله، تعالي يا ليدي ماري، تعالي سريعاً!(129)".

وأخفقت بعثة ورتلي، ودعي للعودة إلى لندن. ونحن نقرأ عينة من أسفار القرن الثامن عشر في رحيلهم من الآستانة في 5 يونيو 1718 ووصولهم إلى لندن في 12 أكتوبر. هناك عاودت الليدي ماري حياتها في البلاط ومع الأدباء والظرفاء، ولكن بوب الذي كان الآن عاكفاً على ترجمة هومر، كان مشغولاً في ستانتون هاركورت. على أنه انتقل في مارس 1719 إلى تويكنهام، وفي يونيو وجد ورتلي والليدي ماري بمعونته بيتاً هناك أيضاً باعه لهما السر جودفري نللر. وعقب ذلك دفع بوب لنللر عشرين جنيهاً ليرسم لها صورتها(130). وقد أجاد نللر رسمها مع أنه كان في الرابعة والسبعين. فاليدان رائعتان، والوجه يكاد يكون شرقياً كلباس الرأي التركي، والشفتان ممتلئتان امتلاءً شهوانياً، والعينان نجلاوان سوداوان لا تزالان تخلبان الألباب-وقد أشاد بهما جاي في أبيات في هذه الفترة. وعلق بوب اللوحة في حجرة نومه، وخلدها في قصيدة بعث بها إليها:

"البسمات اللعوب حول الفم المغمّز،

وسيماء الجلال والصدق السعيدة،

ونظير هذا من تألق في الذهن الرفيع

حيث اجتمعت كل المفاتن والفضائل،

علم في تواضع، وحكمة في اعتدال،

عظمة في غير تكلف، وذكاء في غير ادعاء(131)".

في ذلك العام بلغ نجمها أوجه، وبدأت الكوارث التي ابتليت بها. ذلك أن زائراً فرنسياً يدعى توسان ريمون أودع عندها ألفين من الجنيهات لتستثمرها على الوجه الذي تستصوبه. فاشترت بها أسهماً

من شركة بحر الجنوب بناء على نصيحة بوب، ولكن الأسهم هبطت هبوطاً مدمراً، فأصبح الألفان خمسمائة، فلما أنهت الأمر إلى ريمون اتهمهما بسرقة ماله (1721). وفي السنة نفسها هدد حياة ابنتها التي ولدتها في 1718 وباء جدري أصابها، فأرسلت في طلب الدكتور ميتلاند الذي كان قد عاد من الآستانة، فطعم الفتاة بناء على طلبها. وسنرى في مكان لاحق تأثير هذا المثل على الطب البريطاني قبل جنر. وفجأة، في 1722، انهارت صداقتها لبوب. كانا إلى شهر يوليو يلتقيان في كثرة أثارت القيل والقال في تويكنهام. ولكن في سبتمبر بدأ يكتب الرسائل الودية إلى جوديث كوبر، ذكر فيها على سبيل تعزيتها، أن هناك اضمحلالاً واضحاً في "ألمع ذكاء في العالم". وزعمت الليدي ماري أن بوب قد أباح لها بحبه في حرارة، وأنه لم يغتفر لها قط الاستخفاف التي قابلت به هذه المغامرة الجريئة(132). ولزم الصمت برهة، ولكنه كان بين الحين والحين يرهف شعره في مناسبات بسهام يستشفها القارئ بسهولة. ولما كتبت لصديق تذكر أن سويفت وبو وجاي هم الذين اشتركوا في كتابة قصيدة غنائية شعبية ظن الصديق أنها من نظمها، بعث إليها بوب بتوبيخ حاد؛ وفي قصائده "المنوعات" التي نشرها في 1728 أذاع هذا التوبيخ بوضوح صارخ:


"تلك ألاعيبك يا ليدي ماري،

ولكن ما دمت تفقسين، فاعترفي بأفراخك،

وكوني أكثر حذقاً في نقراتك،

فلا تنقري كبار ديوكك كما تفعلين بصغارها(133)".

وفي قصيدة سماها "التقليد" (1733) أشار إلى "سافو الهائجة.. .. التي ابتلاها حبها بمرض..." وهو يعني أن عشيقها أصابها بالزهري(134). ويقول هوراس ولبول أنها هددت بأن ترسل إليه من يضربه بالسوط.

وكانت هذه المشاحنة القبيحة ضربة أخرى أعانت على انهيار زواجها. ذلك أن ورتلي بعد أن استعاد مكانه في البرلمان تركها مهملة إهمالا واضحاً في تويكنهام. وقد جعلت موت أبيه (1727) رجلاً عريض الثراء، فزودها بحوائجها المادية، ولكنه تركها لمواردها الخاصة في شئون الحب. وأخذ ابنها يثبت أنه وغد كسول. أما ابنتها التي غدت امرأة ذكية مهذبة فكانت سلواها الوحيدة. وحاول اللورد هرفي أن يحتل مكان بوب في حياتها، ولكن كان في طبيعة جسمه ما جعله لا يستطيع أن يغتفر لها، ولا لزوجته، كونها امرأة. ولا بد أنه عرف بتقسيم الليدي ماري النوع الإنساني إلى رجال، ونساء، وهرفيين(135). وفي 1736 دخل نيزك إيطالي فلكها وغير مساره. ذلك هو فرانتشسكو الجاروتي، الذي ولد بالبندقية في 1712، وكان قد أثار بعض الضجة في دنيا العلم والأدب الخالص. وفي 1735 كان ضيفاً في بيت فولتير ومدام دشاتليه في سيريه حيث درس ثلاثتهم نيوتن. ثم قدم إلى لندن بخطابات تعريف من فولتير، واستقبل في البلاط، والتقى بهرفي وبالليدي ماري على طريقه. ووقعت في غرامه كما لم تقع قط في غرام ورتلي لأن قلبها كان خالياً، ولأنه كان جميلاً، ذكياً، شاباً. وكانت ترتعد حين يخطر لها أنها في السابعة والأربعين وأنه في الرابعة والعشرين. وبدا أن طريقها إلى الرومانس قد غدا ممهداً من زواج ابنتها بايرل بيوت (أغسطس 1736). فلما سعت أن الجاروتي عائد إلى إيطاليا أرسلت إليه خطاباً يفيض بعاطفة الصبايا المشبوبة:

"لم أعد أعرف بأي طريقة أكتب إليك. فمشاعري أقوى مما ينبغي، وليس في طاقتي أن أفسرها ولا أن أخفيها. فلكي تغتفر لي رسائلي يحب أن تجيش في صدرك حماسة كحماستي. وأنني لأرى كل ما في هذا من حماقة دون أي أمل في إصلاح نفسي. فمجرد فكرة مشاهدتك أعطتني نشوة تذيبني، فماذا جرى لتلك اللامبالاة الفلسفية التي صنعت مجد أيامي الماضية وهدوءها؟ لقد فقدتها غلى الأبد، ولو أن هذا الغرام المشبوب شفى لما رأيت أمامي غير الملل القاتل. فاغفر هذا الشطط الذي كنت السبب فيه، وتعال لتراني(136)".

وأتى، وتناول العشاء معها عشية رحيله. وكان هرفي قد دعاه أيضاً، فلم يلب دعوته. فجن من الغيرة، وكتب إلى الجاروتي طعناً مراً في الليدي ماري، منبهاً إياه إلى أنها كانت تذيع على لندن كلها غزوها الإيطالي بهذه العبارة المزهوة Vini, Vidi, Vici "جئت، ورأيت، وغلبت" ربما، ولكن رسائلها إلى الجاروتي لم تكن رسائل الغالب:

"ما أجبن الإنسان حين يحب" أخشى أن أسيء إليك بإرسالي هذا الخطاب حتى ولو كان قصدي أن أسرك. والحق أنني مجنونة في كل أمر يتصل بك حتى أنني لست واثقة من خواطري.. كل ما هو مؤكد هو أنني سأحبك ما حييت، برغم نزوتك وتعقلي(137)".

ولم يرد على هذه الرسالة، ولا على ثانية، ولا ثالثة، رغم تهديدها بالانتحار. أما الرابعة فقد انتزعت منه رداً جاء كما تقول "في وقت مناسب جداً لإنقاذ البقية الباقية من عقلي". فق عرضت أن تتبعه إلى إيطاليا، ولكنه ثناها عن الفكرة، وراحت تجتر غرامها في عزلتها ثلاث سنوات. ولكن في 1739 أقنعت زوجها بأنها في حاجة إلى رحلة لإيطاليا. وكان قد فقد حبه لها، فاستطاع أن يتصرف تصرف الإنسان المهذب. فودعها حين غادرت لندن، ووافق على أن يرسل لها راتباً ربع سنوي قدره 245 جنيهاً من دخله الخاص، وأن يحول إليها دخلها السنوي الذي أوصي به أبوها وقدره 150 جنيهاً. وسافرت بأسرع ما تستطيع غلى البندقية أملاً في أن تجد الجاروتي هناك، ولكنه كان قد ذهب إلى برلين (1740) ليعيش مع فردريك الثاني المتوج حديثاً، وكان يحبه حب اللوطيين. واتخذ ماري لها بيتاً على قناة البندقية الكبرى وقد استبد بها الحزن، وافتتحت فيه صالوناً، واستضافت الأباء والكبراء، وحظيت بالتودد اللطيف من نبلاء البندقية وحكامها.

ثم غادرت البندقية إلى فلورنسة بعد عام، وأقامت شهرين في قصر ريدولفي ضيفاً على اللورد والليدي بومفريت. ورآها هوراس ولبول هناك، وأرسل إلى هـ. س. كونواي وصفاً رقيقاً لها: "هل أنبأتك بأن الليدي ماري ورتلي هنا؟ إنها تضحك من الليدي ولبول (زوجة أخي هوراس)، وتقرع الليدي بومفريت، وتضحك منها المدينة كلها. ولا بد أن لباسها، وجشعها، ووقاحتها، تدهش أي إنسان لم يسمع باسمها. فهي ترتدي قبعة بشعة (تربط تحت الذقن) لا تخفي خصلاتها السوداء الدهنية القوام التي ترسلها دون تمشيط أو تجعيد، وأزاراً أزرق قديماً يفغر فاه ويكشف عن تنورة من التيل. وقد انتفخ وجهها انتفاخاً شديداً من أحد جانبيه بمخلفات-غطى بعضها بلزقة، وبعضها بالطلاء الأبيض.. وقد قامرت مرتين أو ثلاثاً في لعبة ورق (تسمى الفرعونية) في قصر الأميرة كراءون حيث تغش بكل وسيلة في اللعب. وهي في الحق مسلية، كنت أقرأ أعمالها التي تعيرها مخطوطة، ولكنها نسائية إلى حد مفرط، وأعجبني القليل من أعمالها(138)".

والواقع أن هذا الكاريكاتور كان له أساس، فقد جرى العرف في إيطاليا على أن ترتدي المرأة في بيتها الثياب الفضفاضة المهملة توخياً للراحة، وما من شك في أن وجه ماري منقراً جداً، ولكن ليس بالزهري بالتأكيد(139). وكان من عادات المؤلفين أن يعيروا الأصدقاء مخطوطاتهم. وقد أثارت الليدي ماري استياء ولبول الشاب بمصادقتها لمولي سكيريت، التي ساءه منها أنها أصبحت الزوجة الثانية لأبيه. ولعل الليدي ماري كانت أكثر إهمالاً لمظهرها مما اعتادت بعد أن ظنت أنها فقدت الجاروتي إلى الأبد.

ثم علمت أنه في تورين، فهرعت إليها، ولحقت به (مارس 1741)، وعاشت معه شهرين. ولكنه عاملها بخشونة وعدم مبالاة، وسرعان ما تشاجرا وافترقا، فمضي هو غلى برلين، وهي إلى جنوه. هناك رآها ولبول مرة أخرى، واستمتع بكرم ضيافتها، ووجه إلى مركبتها أبيات تنفث السم:

"إيه أيتها العربة، يا من حكم عليك بأن تحملي

جلد الليدي ماري العفن،

اذهبي بها إلى أقصى ركن في إيطاليا،

وأنزليها بالله حية،

ولا تعجني بهزاتك ولطماتك

نصف الأنف الذي ما زالت تحتفظ به(140)".


وفي 1760 أبهجها أن تعلم أن صهرها أصبح عضواً في المجلس الخاص لجورج الثالث. وفي 21 يناير 1761 مات زوجها تاركاً معظم ثروته لابنته، و1.200 جنيه في العام لأرملته. وعادت الليدي ماري إلى إنجلترا (يناير 1762) بعد غيبة امتدت إحدى وعشرين سنة، إما لأن موت زوجها أزال عقبة خفية في سبيل رجوعها، وإما لأن سطوع نجم صهرها في عالم السياسة قد اجتذبها إلى وطنها.

غير أن الأجل لم يمهلها أكثر من سبعة أشهر، ولم تكن بالأشهر السعيدة. ذلك أن مطاردتها لألجاروتي، وأنباء كتلك التي أشاعها عنها هوراس ولبول، كانت قد سوأت سمعتها؛ ثم أن ابنتها لم تسعد بحبة أمها رغم حرصها على صحتها وراحتها. وفي يونيو بدأت الليدي ماري تشكو ورماً في صدرها. وتقبلت في هدوء مصارحة طبيبها لها بأنها مصابة بالسرطان، وقالت إنها عاشت من العمر ما يكفي. وماتت بعد شهور من الألم (21 أغسطس 1762).

وكان من آخر طلباتها أن تنشر رسائلها لتعطي الفقراء جانبها من القصة، وتدعم حقها في تذكر الناس لها. ولكنها كانت قد عهدت بمخطوطاتها إلى ابنتها، فبذلت هذه الابنة (الليدي بيوت) التي غدت الآن زوجاً لرئيس الوزراء ما وسعها لتمنع نشرها. على أن الرسائل التي كتبتها من تركيا نسخت سراً قبل أن تسلم لابنتها، وصدرت في 1763. وسرعان ما نفدت عدة طبعات منها، وكان من قرائها الذين ابتهجوا بها جونسن وجبون. أما النقاد الذين قسوا على المؤلفة وهي حية، فقد أسرفوا الآن في إطراء رسائلها. وكتب سمولت يقول إن الرسائل "لم يكتب نظيرها أي كاتب رسائل من أي جنس، أو سن، أو أمة" وفضلها فولتير على رسائل مدام سفنييه(141). وقد أحرقت الليدي بيوت قبل أن تموت في 1794 يومية أمها الضخمة، ولكنها تركت الرسائل ليتصرف فيها ابنها البكر. فسمح بنشر بعضها في 1803، أما الرسائل التي كتبتها لألجاروتي فظلت طي الخفاء إلى أن أقنع بايرون جون مري بأن يشتريها من صاحبه الإيطالي(1817). ولم يكتمل نشرها إلا عام 1861، واعترف الناس بأن الليدي ماري تشارك بوب، وجراي، وجاي، ورتشاردسن، وسمولت، وهيوم، الفضل في جعل أدب إنجلترا أعظم آداب ذلك العصر الفحل تنوعاً وحيوية وتأثيراً.