قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 1 ف 4

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 11756

قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الدين والفلسفة -> الموقف الديني

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: الدين والفلسفة

1- الموقف الديني

كان لقصة القرن الثامن عشر في غرب أوربا موضوع ذو شقين، انهيار النظام الإقطاعي القديم، والانهيار الوشيك للدين المسيحي الذي أضفى على ذلك النظام سنده الروحي والاجتماعي. فقد كانت الدولة والدين مرتبطين برباط المعونة المتبادلة، وبدا أن سقوط الواحد يجر الآخر إلى مأساة مشتركة.

وقد لعبت إنگلترة الفصل الأول في كلتا ناحيتي هذا التغيير العظيم. في المسرح السياسي سبقت حربها الأهلية (1642-49) الثورة الفرنسية بمائة وسبعة وأربعين عاماً في خلع أرستقراطية إقطاعية وضرب عنق الملك. أما في مجال الدين فإن نقد الربوبيين للمسيحية سبق الحملة الفولتيرية في فرنسا بنصف قرن، وسبقت مادية هوبز مادية لامتري بقرن، وسبقت رسالة هيوم "في الطبيعة البشرية" (1739) و"مقالة "في المعجزات" (1748) هجوم "الفلاسفة" الفرنسيين على المسيحية في "الموسوعة" (1751). وكان ڤولتير قد تعلم شكوكيته في فرنسا-وبعضها أخذه عن بولنبروك الإنجليزي المبعد عن وطنه-قبل أن يحضر إلى إنجلترا ولكن السنوات الثلاث التي قضاها في إنجلترا (1726-28) روعته بمشهد السنية وقد أصابها الانحلال والكاثوليكية وقد ذلت، والبروتستانتية وقد تفرقت شيعاً مستضعفة، والربوبيين يتحدون كل شيء في المسيحية إلا الإيمان بالله-وهو بالضبط التحدي الذي سيحمله فولتير إلى فرنسا. يقول فولتير "في فرنسا ينظر الناس إليّ على أنني مقلّ في الدين، وفي إنجلترا على أنني مُسرِف فيه(1)".

وقد كتب مونتسكيو بعد أن زار إنجلترا في 1731 يقول "ليس في إنجلترا دين(2)". وهذا بالطبع تدريب على المبالغة اللافتة للأنظار، لأنه في تلك الفترة بعينها كان جون وتشارلز وسلي يؤسسان الحركة المثودية في أكسفورد. ولكن مونتسكيو، وهو رجل أرستقراطي، تنقّل أكثر ما تنقل بين أقطاب النبالة أو العلم، وهو يخبرنا أنه في هذه الجماعات "إذا ذكر الدين ضحك الجميع(3)". وهذا أيضاً يبدو غلواً في القول؛ ولكن لنستمع إلى اللورد هارڤي، الذي كان يعرف تقريباً كل رجل وامرأة ومنحرف بين علية القوم:

"إن خرافة المسيحية هذه... قد نسفت الآن (1718) في إنجلترا، حتى ليكاد أي رجل عصري أو ذي مكانة يخجل من الاعتراف بمسيحيته خجله في الماضي من الجهر بتجرده من أي دين. وحتى النساء اللائي كن يفخرن بذكائهن حرصن على أن يفهمن الناس أن الميول المسيحية هي ما يحتقرن الالتزام به(4)".

في تلك الطبقات أو العقول الرفيعة كان الدين يعني أما نعاس صلاة القداس الأنجليكاني أو "حماسة" المذاهب المنشقة، وعما قليل سيعرف الدكتور جونسن الحماسة بأنها "إيمان مغرور بالإلهام الخاص"-وبالمعنى الحرفي "إله في باطن الإنسان". وكانت الكنيسة الرسمية قد فقدت كرامتها ونفوذها بمساندتها الاستيوارتيين ضد الهانوفريين وحزب الأحرار المنتصر؛ وخضعت الآن للدولة، وغدا قساوستها أتباعاً أذلاء للطبقة الحاكمة. وكان القسيس الريفي هو الهدف المفضل لهجو الأدباء أو سخرية السوقة، وقد كرم فيلدنج من شذوا عن هذه القاعدة في شخص القس آدمز. وغلبت الفوارق الطبقية في الكنائس، فكان للأغنياء مقاعد خاصة قرب المنبر، وجلس عامة الناس أو وقفوا في المؤخرة، فإذا قضيت الصلاة لزم العامة أماكنهم ريثما يخرج صف الكبراء في وقار بطيء(5). وفي بعض كنائس لندن، حيث يكثر عدد الفقراء القادمين للعبادة، كان المصلون من أصحاب البواريك يهربون بعد أن يقفلوا مقاعدهم خلفهم(6)، ملتمسين هواء أكثر نقاء.

وكان بعض الأساقفة الأنجليكان أمثال بطلر، وباركلي، ووربرتون، رجالاً متبحرين في العلم؛ وكان اثنان من هؤلاء على خلق عظيم، ولكن أكثر كبار الأكليروس كانوا في مناوراتهم للترقي يشاركون في لعبة السياسة شكّاك البلاط ومحظياته، ويفنون في حياة الترف دخول كثير من الأبرشيات. وقد روي أن الأسقف تشاندلر دفع 9.000 جنيه لترقيته من لتشفيلد إلى درم، أما ويليز أسقف ونشستر، وبوتر رئيس أساقفة كنتربري، وجبسن وشرلوك أسقفا لندن، هؤلاء جميعاً ماتوا "أغنياء غنى مخزياً" وبلغت ثروة بعضهم 100.000 جنيه(7). ولم يكن ثكرى يطيقهم، فقال:

"قرأت أن الليدي يارموث (خليلة جورج الثاني) باعت أسقفية لكاهن بمبلغ 5.000 جنيه... أكان هو الحبر الوحيد في عصره الذي قادته أيد كهذه إلى المحراب؟ إنني إذ أختلس النظر إلى داخل قصر سانت جيمس الذي يقطنه جورج الثاني، أرى الثياب الكهنوتية الكثيرة تحدث حفيفاً وهي تصعد السلم الخلفي لسيدات البلاط؛ قساوسة متسترين يدسون أكياس النقود في حجورهن، وذلك الملك العجوز الفاجر يتثاءب تحت مظلته في المصلى الملكي أثناء عظة القسيس، الواقف أمامه، (أو) يثرثر بالألمانية... بصوت يبلغ من علوه أن القسيس... انفجر صارخاً في منبره لأن حامي الإيمان وموزع الأسقفيات لا يريد الإصغاء إليه!(8)".

وكان من سمات العصر أن الكنيسة الرسمية أصبحت شديدة التسامح مع عقائد أعضائها وطقوسهم المختلفة، وقد وصفها بت بأنها "عقيدة كالڤنية، وطقوس بابوية، وأكليروس أرمنيوسي(9)" أي أن العقيدة الرسمية كانت جبرية، والطقوس شبيهة بطقوس روما الكاثوليكية، ولكن روحاً متحررة سمحت للقساوسة الأنجليكان برفض حتمية كلفن واعتناق تعليم المهرطق الهولندي أرمينيو القائل بحرية الإرادة. لقد ازداد التسامح لأن الإيمان اضمحل، وآية ذلك أن هرطقات كهرطقة هيوم، كانت تروع إنجلترا القرن السابع عشر لو جهر بها إنسان، لم تُحدث غير موجة طفيفة على نهر الفكر البريطاني. وقد وصف هيوم نفسه إنجلترا بأنها استكانت إلى حال من عدم الاكتراث الهادئ بأمور الدين لا تجدها في أية أمة أخرى من أمم الأرض(10)".

وكان كل الإنجليز ملزمين بالعبادة الأنجليكانية حسب نص القانون. فكل متخلف عن صلوات الأحد عرضة لتغريمه شلناً عن كل تهرب، وكل من يسمح لهذا المتخلف بمساكنته يعاقب بغرامة عشرين جنيهاً في الشهر(11)؛ على أن هذه القوانين ندر أن طبقت. وكانت العبادة الكاثوليكية محرمة، قانوناً أيضاً لا تطبيقاً. فالقس الكاثوليكي الذي يؤدي وظيفة كهنوتية عقابه الحبس المؤبد. ومثل هذه العقوبة فرضت لثني أي كاثوليكي عن فتح مدرسة؛ وحرم على الوالدين إرسال أبنائهم إلى الخارج ليتعلموا تعليماً كاثوليكياً وإلا غرموا 100 جنيه. ولا يحق شراء الأرض أو ورثها إلا للمواطنين الذين أقسموا يميني الولاء والسيادة (اللتين تعترفان بملك إنجلترا رأساً للكنيسة) وقرروا رفضهم لعقيدة التحول. وكل كاثوليكي يرفض أداء هاتين اليمينين يحرم من المناصب المدنية أو العسكرية، ومن ممارسة المحاماة، ومن إقامة أي دعوى أمام القضاء، ومن العيش في نطاق عشرة أميال من لندن؛ يضاف إلى هذا أن هذا الكاثوليكي يجوز في أي وقت نفيه من إنجلترا والحكم عليه بالإعدام إذا عاد إليها. على أن الذي حدث فعلاً أيام جورج الأول والثاني هو أن الكاثوليك كانوا يورثون ثروتهم وعقيدتهم بانتظام لأبنائهم، ويستطيعون الاستماع إلى القداس في كنائسهم الصغيرة وبيوتهم دون معوق، وأن الكثيرين منهم أدوا اليمينين المطلوبتين مع تحفظ بينهم وبين أنفسهم(12).

وكان كل البروتستنت الإنجليز الغيورين الآن يتبعون المذاهب المنشقة على الكنيسة الرسمية. وقد ضحك فولتير واغتبط لكثرة عددهم: مستقلون (بيورتان)، ومشيخيون، ومعمدانيون، ومجمعيون، وكويكريون، وتوحيديون. فأما المشيخيون (البرزبتيريون) فكانوا في طريقهم إلى التسامح بعد أن فقدوا سلطتهم السياسية، ولم يأخذوا عقيدة الجبر مأخذ الجد الشديد، وكان كثير منهم قانعاً في صمت بمسيح بشري(13). وفي 1719 قرر مجمع للقساوسة المشيخيين بأغلبية 77 إلى 69 أن التعهد بالتزام عقيدة الثالوث التقليدية ينبغي ألا يكون شرطاً يفرض على المرشحين رعاة للكنيسة(14). وأما الكويكريون فكانوا في نمو لا في العدد بل في الثراء، وكلما ارتقوا في مدارج المجتمع أصبحوا أكثر تقبلاً لأساليب حياة البشر وذنوبهم. على أن ميلاً إلى الاكتئاب أصاب كل المنشقين تقريباً حتى وهم ينعمون بالثراء، وبينما كانت طبقات المجتمع العليا تجعل من يوم الأحد يوم جذل كانت الطبقة الوسيطة الدنيا-حيث يتكاثر المنشقون-تواصل "الأحد العبوس" الذي ورثته عن البيورتان. في ذلك اليوم كانت الأسرة عقب صلوات الصباح في البيت تمضي إلى قاعة الاجتماع لحضور خدمة دينية تمتد ساعتين، فإذا عادت إلى البيت قرأ الأب الكتاب المقدس أو الكتب التقوية على زوجته وأبنائه الذين قد يجلسون على وسائد فوق أرض عطلت من الأبسطة. وكانوا عادة يذهبون ثانية إلى خدمات دينية تقام عصراً ومساءً، ويصلون جماعة، ويسمعون عظة أخرى، ويجدون بعض اللذة في ترتيل الترانيم الجَهْورية. ولم يكن مسموحاً بأي غناء في ذلك اليوم المقدس، ولا بلعب الورق، ولا بأي تسلية من أي نوع كانت بصفة عامة. ويجتنب السفر في يوم الرب، فيعطي قطاع الطرق بهذه الطريقة يوم راحة.

ووجد فولتير في معرض وصفه للمشهد الديني في إنجلترا الكثير مما يصلح درساً لفرنسا التي ما زال التعصب يحكمها. قال:

"انظر إلى بورصة الأوراق المالية الملكية بلندن... هناك يُجري اليهودي والمسلم والمسيحي معاملاتهم معاً وكأنهم من دين واحد، ولا ينعتون بالكفر غير المفلسين. هناك يثق المشيخي بالقائل بعماد الكبار، ويعتمد الأنجليكاني على كلمة الكويكري. فإذا انفض هذا الجمع الحر مضي بعضه إلى مجمع اليهود، وبعضه ليشرب كأساً من الخمر. هذا الرجل يذهب وبعمّد في حوض هائل باسم الآب والابن والروح القدس؛ وذلك يأمر بختان ولده وبتمتمة طائفة من الكلمات العبرية التي يجهل كل الجهل معناها فوق الطفل؛ وآخرون (الكويكر) يمضون إلى كنائسهم-حيث ينتظرون الوحي وقبعاتهم على رءوسهم؛ والكل راضون.

"ولو أن إنجلترا لم تسمح بغير دين واحد، لأصبحت الحكومة في أغلب الظن مستبدة؛ ولو كان هناك دينان فقط لذبح الناس بعضهم بعضاً؛ أما والأديان بهذه الكثرة، فإنهم جميعاً يعيشون في سعادة وسلام(15)".


2- التحدي الربوبي

تضافرت عوامل كثيرة على تقويض صرح العقيدة المسيحية في إنجلترا: ارتباط الكنيسة بصعود الأحزاب السياسية وسقوطها؛ وازدياد الثروة ومطالب اللذة في طبقات المجتمع العليا، ودولية الأفكار بفضل التجارة والسفر، والإلمام المتزايد بالأديان والشعوب غير المسيحية، وتكاثر الملل وتبادل النقد فيما بينها، وتطور العلم، وازدياد الإيمان بالأسباب الطبيعية والقوانين الثابتة، والدراسة التاريخية والنقدية للكتاب المقدس، واستيراد أو ترجمة كتب خطيرة مثل "معجم" بيل و "الرسالة اللاهوتية السياسية لسبينوزا"، والكف عن رقابة الدولة على المطبوعات (1694)، ومكانة العقل الصاعدة، والمحاولات الجديدة للفلسفة، في أعمال بيكون، وهوبز، ولوك، لتفسير العالم والإنسان تفسيرات طبيعية و-تلخيصاً لكثير من هذه العوامل-حملة الربوبيين (المؤلهة) Deists لاختزال المسيحية إلى مجرد الإيمان بالله والخلود.

وكانت تلك الحركة قد بدأت بكتاب "الحقيقة لهربرت لورد تشربري" في 1624، ونمت خلال القرن السابع عشر ومطلع الثامن عشر بتشارلز بلاونت، وجون تولاند، وأنتوني كولنز، وواصلت الآن سيرها بأثر متراكم في أعمال هويستن، وولستن، وتندال، ومدلتن، وتشب، وآنت، وبولنبروك. وقد طرد وليام هويستن الذي خلف نيوتن أستاذاً "لوكازياً" للرياضة في جامعة كمبردج من منصبه ذاك (1710) لأعرابه عن بعض الشكوك في الثالوث، فدافع عن أريوسيته في كتاب "أحياء المسيحية البدائية" (1712)، وأجهد نفسه ليثبت أن تنبؤات العهد القديم لا تشير إلى المسيح. فلما أقلع المدافعون عن المسيحية عن اتخاذ الحجج من التنبؤات، وبنوا ألوهية المسيح على المعجزات المروية في العهد الجديد، أطلق توماس وولستن سورته التي خلت من التوقير للمسيحية في "ستة أحاديث عن معجزات مخلصنا" (1727-30). يقول فولتير "لم يهاجم المسيحية قط مسيحي بمثل هذه الجرأة(16)". وقد زعم وولستن أن بعض المعجزات لا تصدق، وبعضها غير معقول. ووجد أن مما لا يصدقه العقل أن يلعن المسيح شجرة تين لأنها لم تثمر تيناً في وقت مبكر من العام كوقت الفصح. وتساءل ماذا كان مربو الأغنام لصوفها فاعلين بيسوع لو أنه دفع أغنامهم إلى الموت كما فعل بخنازير الجدريين؛ إنهم كانوا "يستصدرون حكماً بإعدامه شنقاً"، لأن القانون الإنجليزي يعتبر هذا العمل جناية كبرى(17). وذهب وولستن إلى أن قصة قيامة المسيح خدعة مفتعلة خدع بها الرسل سامعيهم.وغطى هذا كله بتأكيدات زعم فيها أنه ما زال مسيحياً "قوياً كالصخرة". ومع ذلك أهدى كل حديث إلى أسقف مختلف، مع التنديد بكبرهم وجشعهم تنديداً حملهم على رفع دعوى القذف والتجديف عليه (1729). وحكمت عليه المحكمة بدفع غرامة قدرها مائة جنيه، وبتقديم ضمان لسلوكه سلوكاً حميداً في المستقبل. فلما عجز عن جمع المبالغ المطلوبة زج به في السجن. وقدم فولتير ثلث المبلغ، وجمع الباقي، وأفرج عن وولستن. ولا شك أن المحاكمة كانت إعلاناً عن "الأحاديث"، فبيع منها ستون ألف نسخة في بضع سنوات(18). روت "سيرة لوولستن" بقلم كاتب مجهول (1733) كيف أنه وهو سائر في سانت جورجز فيلدز، "لقيته شابة وسيمة وخاطبته بهذه الكلمات... أيها الوغد العجوز، ألم تشنق بعد؟" فأجابها وولستن "أيتها المرأة الطيبة، أنا لا أعرفك. فقولي لي من فضلك بما أسأت إليك"؛ فأجابت المرأة "لقد هاجمت مخلصي، فما الذي يحدث لنفسي الخاطئة المسكينة، لولا مخلصي الحبيب؟-مخلصي الذي مات من أجل الخطاة الأشرار أمثالي(19)".

وبلغت الدعوى الربوبية ذروتها في ماثيو تندال، زميل كلية جميع النفوس بأكسفورد. فبعد حياة هادئة محترمة كان أهم ما ميزها اعتناقه الكاثوليكية ثم تحوله عنها، نشر وهو في الثالثة والسبعين أول مجلد من كتابه "المسيحية قديمة قدم الخليقة" (1730). وخلف عند موته بعد ثلاث سنوات مخطوطة مجلد ثان وقع في يد أسقف فأتلفه. وفي وسعنا أن نقدر وقع المجلد الأول من الردود التي حاولت مناقضته وعددها 150، وهذا الكتاب هو الذي ابتعث كتاب الأسقف بطلر "أوجه الشبه بين الدين والطبيعة" وكتاب الأسقف باركلي "ألسيفرون" (أو الفيلسوف الصغير).

وقد طوف تندال في غير ترفق بكل أوهام اللاهوت. فتساءل لم أعطى الله وحيه لشعب صغير واحد هم اليهود، وجعله حكراً عليهم أربعة آلاف سنة، ثم أ؟رسل إليهم ابنه بوحي آخر ما زال بعد ألف وسبعمائة سنة مقتصراً على أقلية من الجنس البشري. فأي نوع من الآلهة يمكن أن يكون هذا الإله الذي استعمل هذه الطرق السقيمة بمثل هذه النتائج البطيئة الناقصة؛ وأي إله رهيب هذا الذي عاقب آدم وحواء على طلب المعرفة، ثم عاقب كل ذراريهم لمجرد أنهم ولدوا؟ يقول لنا أن السخافات التي يتضمنها الكتاب المقدس سببها أن الله وفق كلامه لغة سامعيه وأفكارهم. فيا له من هراء! لم لم يستطع أن يحدثهم بالحقيقة البسيطة بصورة مفهومة؟ ولم استخدم الكهنة وسطاء له بدلاً من أي يتحدث مباشرة إلى نفس كل إنسان. ولم سمح بأن يصبح دينه الموحي لشعب بعينه أداة اضطهاد، وإرهاب، وحرب، لا يخرج منه البشر بعد قرون من هذا التدبير الإلهي أكثر فضيلة منهم عن ذي قبل؟-بل جعلهم في الواقع أشد ضراوة وقسوة مما كانوا في ظل العبادات الوثنية! أليس في كونفوشيوس أو شيشرون فضيلة أرفع مما في مسيحية التاريخ؟ إن الوحي الحقيقي موجود في الطبيعة ذاتها، وفي عقل الإنسان الممنوح من الله؛ والإله الحقيقي هو الإله الذي كشف عنه نيوتن، المهندس لعالم عجيب يعمل بعظمة وجلال وفق قانون ثابت؛ والفضيلة الحقة هي حياة العقل في انسجام مع الطبيعة، "فكل من ينظم ميوله الفطرية بحيث تؤدي إلى أقصى حد لاستخدام عقله، وصحة جسده، ولذات حواسه، مجتمعة كلها معاً (لأن في هذا سعادته)-له أن يثق بأنه لا يمكن أن يُغضِب خالقه الذي إذ يحكم كل الأشياء حسب طبائعها فهو لا بد يتوقع من مخلوقاته العاقلة أن تسلك وفق هذه الطبائع(20)". تلك هي الفضيلة الحقة، تلك هي المسيحية الحقة "القديمة قدم الخليقة".

وواصل كونيَرز مدلتن الهجوم من الزاوية التاريخية. فبعد أن تخرج في كلية ترنتي بكمبردج رسم قسيساً، وبينما كان يكيل الضربة تلو الضربة للأيمان السني، واصل الممارسات الخارجية للعبادة المسيحية. وقد كتب طرفاً من أفضل النثر في عصره، وكتابه "سيرة شيشرون" (1741) ما زال إلى اليوم سيرة رائعة رغم كثرة ما استعاره من سير شيشرون التي سبقته. وقد أبهج زملاءه القساوسة حين أرسل إلى إنجلترا "رسائل من روما" (1739)، التي بين فيها بتفصيل ينم عن علم ودراية رواسب الطقوس الوثنية المتخلفة في مجموعة الطقوس الكاثوليكية-البخور، والماء المقدس، وآثار القديسين، والمعجزات، والقرابين المنذورة والأنوار القائمة أمام المزارات المقدسة، و "كبير الأحبار Pontifex Maximus" القديم الذي أصبح كبير أحبار روما Pontiff. وصفقت إنجلترا البروتستنتية للرسائل، ولكنها سرعان ما تبينت أن ولع مدلتن بالتاريخ يمكن أن يكدر صفو اللاهوت البروتستنتي كالكاثوليكي سواء بسواء. فلما دافع دانيال ووترلاند عن حرفية صدق الكتاب المقدس ووحيه رداً على تندال، أنذر مدلتن في "رسالة الدكتور ووترلاند" (1731) اللاهوتيين البروتستانت بأن تشبثهم بكل أساطير الكتاب المقدس باعتبارها تاريخاً فعلياً ليس إلا عملاً انتحارياً، لأن تقدم المعرفة سوف ينبذ أن عاجلاً أو آجلاً مثل هذه الخرافات ويُكره المدافعين المسيحيين على التقهقر في خجل إلى موقف أكثر تواضعاً. ثم لجأ مدلتن إلى حجة فضحت ما كان لدراسته للتاريخ من أثر في إيمانه الديني فقال: "حتى ولو كان اللاهوت المسيحي لا يصدق، فإن المواطن الصالح سيساند المسيحية والكنيسة المسيحية باعتبارهما درعاً للنظام الاجتماعي يوفر روادع ممتازة للهمجية الكامنة في طبيعة البشر(21)".

وأخيراً أصدر [[مدلتن أهم أعماله ، تحقيق حر في القوى الإعجازية المزعون أنها وجدت في الكنيسة المسيحية خلال العصور المتعاقبة" (1748)-وهو كتاب عدّه هيوم بعد ذلك أسمى من مقالة المعاصر "في المعجزات" (1748). وقد بدأ بالتسليم بحجية المعجزات المنسوبة في الأسفار القانونية من العهد الجديد إلى المسيح أو رسله، وأراد أن يظهر فقط أن المعجزات المنسوبة إلى آباء الكنيسة وقديسيها وشهدائها بعد القرن الميلادي الأول غير جديرة بالتصديق، ومجرد سرد تلك القصص يكفي للكشف عن سخفها. وقد أمّن بعض آباء الكنيسة على مثل هذه القصص وهم يعلمون زيفها؛ ونقل مدلتن عن موزهايم، المؤرخ الكنسي العلامة، تصريحه بالخوف من أن "الذين يبحثون بشيء من العناية كتابات أعظم وأقدس لاهوتيي القرن الرابع سيجدونهم كلهم وبلا استثناء ميالين إلى الخداع والكذب كلما اقتضت ذلك مصلحة الدين(22)".

وفي كتاب مدلتن عيوب كثيرة. فقد فاته أنه هو أيضاً زكى الخداع بالجملة دعماً للمسيحية، وغفل عن أن من التجارب الغريبة، كإخراج "المس الشيطاني"، أو كسماع القديس أنطونيوس للشيطان واقفاً ببابه، ما يمكن أن ينشأ عن قوة الإيحاء أو الخيال، وربما بدت هذه التجارب من قبيل المعجزات لمن رووها بأمانة. على أي حال كان من أثر هذا "التحقيق الحر" أنه سلّط على معجزات العهد القديم ثم على معجزات العهد الجديد، طرق النقد ذاتها التي طبقتها مدلتن على عصر آباء الكنيسة، وكان خصومه الكاثوليك محقين تماماً حين زعموا أن حججه من شأنها إضعاف كل الأساس الإعجازي للإيمان المسيحي. ولعل مدلتن قد قصد إلى هذا. ولكنه احتفظ بترقياته الكنسية إلى النهاية.

كان اعتناق بولنبروك للربوبية سراً مخفي وعدوى متفشية في الطبقة الأرستقراطية. ففي كتاباته التي حبسها عن النشر في حياته صوّب قدحه المفعم بالازدراء إلى جميع الفلاسفة تقريباً فيما عدا بيكون ولوك. فلقب أفلاطون بأبي الكذب اللاهوتي، وسمي القديس بولس "حالماً متعصباً" وليبنتز "مشعوذاً كيميائياً(23)" والميتافيزيقيين "مجانين مثقفين" ووصف كل القائلين بتميز النفس عن الجسد بأنهم(24) "معتوهون روحيون" وسخر من العهد القديم لأنه خليط من الهراء والأكاذيب(25). ولقد صرح بإيمانه بالله، ولكنه رفض ما بقي من العقيدة المسيحية. فكل المعرفة عنده نسبية وغير يقينية. يقول: "ينبغي لنا دائماً أن نكون غير مؤمنين... ففي الدين، والحكم، والفلسفة، ينبغي أن نتشكك في كل شيء مقرر(26)" وألقى وراء ظهره بآخر تعزيات الشكاك وهي الإيمان بالتقدم؛ فكل المجتمعات تمر بدورات "من النشوء إلى الفساد، ومن الفساد إلى النشوء(27)".

وفي 1744 ورث بولنبروك ضيعة الأسرة في باترسي، وغادر فرنسا لينفق هناك آخر سني صراعه مع المرض واليأس. وهجره أصحابه القدامى لانهيار نفوذه السياسي وحدة طبعه. وأنهى موت زوجته الثانية (1750) اهتمامه بشئون البشر، "في كل سنة ازداد عزلة في هذه الدنيا(28)" وهذا عقاب الأنانية. وفي 1751 ابتلى بالسرطان الذي انتشر في وجهه فأملي وصية تتسم بالتقوى، ولكنه رفض أن يسمح لأي قسيس بالاهتمام بروحه(29). ومات في 12 ديسمبر بعد ستة شهور من العذاب، بغير أمل لا لنفسه ولا للبشر. لقد أخذ اضمحلال الإيمان الديني يولد ذلك التشاؤم الذي سيصبح العلة الخفية التي تبتلي بها النفس العصرية.


3- الدفع الديني

أما المدافعون عن المسيحية فلم يقابلوا الهجوم الربوبي بأي استسلام أو هزيمة، بل إنهم على العكس من ذلك ردوا الهجوم بكل ما أوتي تندال أو مدلتن أو بولنبروك من قوة عارمة، وعلم واسع، وأسلوب مقذع. واعتمد المدافعون الأضعف شأناً، مثل تشاندلر أسقف لتشفيلد، ونيوتن أسقف لندن، على الحجج البالية، وهي أن اليهود كانوا ينتظرون في حرارة وشوق مجيء "المسيا" حين أتى المسيح، وإن كثيراً من النبوءات اليهودية تحققت على يديه؛ أو رجعوا-كما فعل شرلوك أسقف لندن وبيرس أسقف روتشستر-إلى الشواهد الكثيرة على قيامة المسيح. وركز شرلوك وغيره على أن الأدلة على معجزات المسيح غامرة ساحقة، وفيها كفاية لدعم ألوهية المسيح والمسيحية. وقال شرلوك إن رفض حدث توافرت الأدلة على صدقة لأنه يناقض تجربتنا عمل شديد الخطر، فعلى الأساس نفسه رفض سكان المدارين أن يؤمنوا بحقيقة الثلج. فإذا زعمنا أن الأشياء لا يمكن أن تكون غير ما عرفناها، "تجاوزنا أعلام حواسنا، وقامت النتيجة على الهوى لا على العقل(30)". وليس في إمكاننا التأكد من أن الإنسان لن يقوم من الأموات برغم تجربتنا الواسعة، الضيقة في حقيقتها. فانظر كم من العجائب التي نقبلها الآن على أنها أحداث عادية في حياتنا كنا من قبل نظنها بعيدة التصور!

أما جورج باركلي، الذي ترك بصمته على الفلسفة في السنوات 1709-13، فقد أدلى بدلوه في الجدل من جزيرة رود بكتاب "ألسيفرون" أو الفيلسوف الصغير (1733)، وهو حوار يتألق بالتفكير الجريء والأسلوب المرح. والسيفرون هذا يصف نفسه بأنه رجل حر التفكير، تقدم من التسامح الديني إلى الربوبية إلى الإلحاد، وهو الآن يرفض الدين كله باعتباره خداعاً يموه به الكهان والحكام على الناس؛ وهو يأبى الإيمان بأي شيء غير الحواس، والعواطف، والميول الفطرية؛ ويندز بوفرانور (لسان حال باركلي) الربوبيين بأن عقيدتهم مفضية إلى الإلحاد، وأن الإلحاد سيفضي إلى انهيار الفضيلة. قد يكون هناك بعض الملحدين الأفاضل، ولكن ألا تولد عقيدتهم، إذا ما قبلتها الجماهير، الإباحية والتمرد على القانون؟ وهؤلاء المتشككون في الدين ينبغي أن يتشككوا في العلم أيضاً، لأن كثيراً من دعاوي العلماء-كما هي الحال في الرياضة العليا-تتجاوز تماماً شهادة حواسنا أو تناول فهمنا. وما من شك في أن عقيدة التثليث ليست أعصى على الفهم من الجذر التربيعي لناقص واحد.

وأما وليام وربرتن فلم يكن بالرجل الذي يرسي إيمانه أو موارده الكنيسة على أساس واه كجذور باركلي الصماء. فبعد أن دُربّ لممارسة المحاماة، ورُسم قساً أنجليكانياً، شق طريقة وسط غابة اللاهوت بكل ما أوتي الذهن القانوني من براعة يقظة. ولعله كان أصلح للجيش منه للمحاماة أو لرداء الكهنوت، فقد كان يستطيب العراك، وما كان يستطيع النوم في الليل إلا إذا أردى خصماً في النهار. وقد وصف حياته بأنها "حرب على الأرض، أي على المتعصبين والمنحلين، الذين أعلنت عليهم الحرب الأبدية كما فعل هانيبال أمام المذبح(31)". واتسع مرمى سهامه وبعد، فإذا أخطأت الخصوم قتلت الأصدقاء. وقد وصف معاصريه بأوصاف محكمة. فجونسن "بلطجي" خبيث وقح، وجاريك "إذا انحرف مرة وتكلم كلاماً له بمعنى كان أقرب إلى الهراء"، وسموليت "اسكتلندي متشرد" يكتب "لغواً مضروباً في عشرة آلاف"، وڤولتير "وغد" يتمرغ في "أقذر بالوعات التفكير الحر(32)".

وقد ظهرت رائعته الضخمة ذات المجلدين في 1737-41 بعنوان "رسالة موسى الإلهية مفسرة طبقاً لمبادئ ربوبي ديني" وكانت حجتها مبتكرة وفذة. فالأيمان بحالة مستقبلة من الثواب والعقاب لا غنى عنه للنظام الاجتماعي (وهو ما وافق عليه الكثير من الربوبيين)، ولكن موسى وفق في تنظيم الحياة اليهودية وأبلاغها حالة من الرخاء والفضيلة بغير ذلك الإيمان، ولا تفسير لهذه المعجزة إلا بالإرشاد الإلهي لموسى واليهود، ومن ثم فرسالة موسى ونواميسه الهية، والكتاب المقدس كلمة الله. وأحس وربرتن أن هذا الإيضاح "قريب كل القرب من اليقين الرياضي(33)" ولم يكن زملاؤه اللاهوتيون سعداء كل السعادة برأيه في أن الله أرشد اليهود خلال 613 قانون وأربعة آلاف سنة دون أن يعلمهم أن نفوسهم خالدة. ولكن المؤلف القوي ملأ صفحاته ببحوث علمية-عن طبيعة الفضيلة، وعن التحالف الضروري بين الكنيسة والدولة، وعن ديانات الأسرار والشعائر في العصور القديمة، وعن أصل الكتابة، وعن معنى الرموز الهيروغليفية، وعن التاريخ المصري، وعن تاريخ سفر أيوب، وعن أخطاء أحرار الفكر، والآثريين، والعلماء، والمؤرخين، والتوحيديين والأتراك، واليهود-حتى لقد ذهلت إنجلترا بأسرها لثقل علمه واتساع مداه. وتقد وربرتن من معركة إلى معركة-ضد كروساز، وثيوبورلد، وبولنبروك، ومدلتن، ووسلي، وهيوم-حتى بلغ أسقفية جلوستر المريحة المجزية.

وأما جوزيف بطلر فكان ألين عوداً ولكنه أكثر رهافة وتهذيباً، رجلاً بالغ الرقة والتواضع والإحسان، حَزّ في نفسه كثيراً أن يرى الدين الذي أعان على فطن الحضارة الأوربية من الهمجية، يواجه امتحاناً من أجل حياته. وقد صدمه الإقبال الذي لقيته مادية هوبز في الطبقات العليا. فلما عرضت عليه (1747) رئاسة أسقفية كنتربري-وهي أعلى منصب كنسي في إنجلترا-رفضها معتذراً بأنه قد "فات وقت محاولة دعم كنيسة متداعية(34)". وفي 1751 أعرب عن فزعه "لما أصاب الدين من انحلال شامل في هذه الأمة.. فتأثيره يبلي أكثر فأكثر في أذهان الناس... وعدد الذين يجهرون بالكفر في ازدياد، وتحمسهم للكفر يزداد بتزايد عددهم(35)". وقد أدهش صديقه "دين تكر" بسؤاله: ألا يجوز أن تصاب الأمة كما يصاب الفرد بالجنون؟ وكأنه شعر أن شعباً من الشعوب قد يصاب بفقد الذاكرة الروحي إذا تخلى عن تراثه الديني والخلقي.

ومع ذلك كرس حياته في محاولة لرد اعتبار عقلي للإيمان المسيحي. فنشر وهو ما زال قسيساً شاباً في الرابعة والثلاثين "خمس عشر عظه" (1726) لطف فيها من تحليل هوبز المتشائم للطبيعة البشرية، فزعم أن الإنسان وإن كان في نواح كثيرة شريراً بطبيعته، إلا أنه بطبيعته أيضاً كائن اجتماعي أخلاقي، فيه إحساس فطري بالحق والباطل. وقال إن العناصر الأسمى في كيان الإنسان تدين بأصلها لله، الذي هي صوته، وعلى هذا الأساس أقام نظرية عامة تقول بأن هناك قصداً إلهياً يتخلل العالم. وأعجبت كارولين بحجته، وفي 1736 عين بطلر كاهناً خاصاً للملكة.

في ذلك العام نشر كتاباً ظل طوال قرن أهم حصن لحجج المسيحية ضد الإلحاد، واسمه "وجه الشبه بين الدين الطبيعي والموحي، وبين تكوين الطبيعة ومسلكها" وقد كشفت مقدمة الكتاب عن مزاج العصر:

"لقد انتهينا-ولا أدري كيف انتهينا-إلى حال أصبح فيها من القضايا المسلمة عند الكثيرين، إن المسيحية ليست موضوعاً يكثر فيه البحث والتحقيق إلا لأنه قد تبين آخر الأمر أنها ديانة زائفة. ومن ثم يتناولونها وكأن هذا بات الآن نقطة يجمع عليها كل أصحاب الفطنة والتمييز، فلم يبق إلا أن يجعلوا منها هدفاً رئيسياً للهزء والسخرية، وكأنهم يعاقبونها لأنها قطعت على الناس لذات الدنيا هذا الزمان الطويل(36)".

وإذ قصد بالكتاب أن يكون رداً على الربوبيين، فإنه افترض وجود الله. وكان "الدين الطبيعي" الذي يدين به الربوبيون يقبل "إله الطبيعة"، مخطط العالم وصانعه الأعظم، ولكنه يرفض الإله الذي صوره الكتاب المقدس، وهو إله ظالم ظلماً بيناً، لأنه لا يتفق أبداً وهذا المفهوم السامي. وأراد بطلر أن يبين أم في الطبيعة من علامات الظلم والقسوة ما لا يقل عما في "يهْوه" كما صوره العهد القديم؛ وأنه لا تناقض بين إله الطبيعة وإله الوحي، وأن الذين قبلوا أحدهما ينبغي منطقياً أن يقبلوا الآخر. ويبدو أن كاهن الملكة الخاص، الطيب، لم يدر بخلده قط أن بعض الشكاك الوقحين قد يخلصون من هذه الحجة (كما خلص جيمس مل) إلى أنه لا هذا الإله ولا ذاك جدير بأن يعبده المتحضرون.

وأقام بطلر حجته في وجود الإلهين، وفي أنهما واحد، على الترجيح والاحتمال. فقال إن عقولنا ناقصة، وأنها عريضة لكل ضروب الخطأ، فليس في إمكاننا أن نصل إلى اليقينية لا في مر الله ولا في أمر الطبيعة؛ وحسبنا الترجيح، والترجيح يؤيد الإيمان بالله والإيمان بالخلود. وواضح أن النفس أسمى من الجسد، لأن أعضاء الجسد أدوات النفس وخدامها. والنفس، التي من الواضح أنها جوهر الإنسان، لا داعي لفنائها مع الجسد، وأغلب الظن أنها عند الموت تبحث عن أدوات جديدة في مرحلة أعلى. وليس من المريح للطبيعة أن يتغير كائن من صورة أدنى إلى صورة أعلى-كتغير الكائنات الزاحفة مثلاً إلى كائنات مجنحة، أو تغير الخادرة إلى فراشة؛ وقياس آخر يرجح أنه سيكون في حياة النفس بعد موت الجسد ألوان من الثواب والعقاب-مع الافتراض دائماً بأن الله موجود. فكما أننا نعاقب المجرمين على جرائمهم ضد المجتمع، كذلك تعاقب الطبيعة في معظم الحالات الناس على ما اقترفوا من آثام؛ ولكن بما أن هناك أمثلة كثيرة لا تلقى فيها الرذيلة عقاباً واضحاً، في هذه الحياة، لذلك كان مما لا يصدق أن الله لن يعيد، في حياة أخرى، علاقة أكثر إنصافاً بين السلوك والمصير. وضميرنا، حسنا الخلقي، لا يمكن أن يكون قد جاءنا إلا من لدن إله عادل.

وأكثر ما لحجج بطلر من أهمية في عصرنا هذا مرجعه أنها توضح مرحلة في تطور العقل العصري. ونحن إذا نظرنا إليها باعتبارها موجهة أصلاً ضد الربوبيين وجدنا فيها فكرة لا يستهان بها؛ فالذين قبلوا شهادة القصد الإلهي في الطبيعة، لا مبرر لهم في فرض الكتاب المقدس بسبب الإله القاسي المعلن عنه في العهد القديم، لأن إله الطبيعة لا يقل عنه قسوة. لقد كانت طريقة غاية في الأصالة في الدفاع عن المسيحية. والظاهر أن بطلر لم يتوجس من أن هذه الحجة قد لا تفضي إلى المسيحية، بل إلى شيء أشد دفعاً من اليأس إلى الكفر-إلى النتيجة التي خلص إليها توماس هنري هكسلي، وهي أن القوى المطلقة في الكون أو وراءه غير أخلاقية، تتناقض أشد التناقض مع ذلك الإحساس بالحق والباطل الذي بنى عليه بطلر، كما بنى عليه كانط، الكثير من لاهوته. على أية حال كان كتاب "وجه الشبه" خطوة إلى الأمام ولو في هدوئه ولطفه، فهنا لا توجد كراهية لاهوتية، ولا قدحاً دينياً، بل محاولة جادة من الكاتب للتأدب حتى مع أولئك الذين بدوا أنهم يدمرون أعز آمال البشر. ورحبت الملكة كارولين بالكتاب لأنها رأت فيه أفضل دفاع ظهر إلى ذلك الحين عن العقيدة المسيحية. وأوصت وهي على فراش الموت بترقية بطلر، فعينه جورج الثاني أسقفاً على برستل، ثم ناظراً على كتدرائية القديس بولس، وأخيراً أسقفاً على درم. وهناك ضرب بطلر المثل لزملائه بالعيشة البسيطة والتصدق على الفقراء بجانب كبير من دخله.

وقد ترك كتابه للكفر منافذ كثيرة حتى إن كثيراً من رجال الكنيسة أشاروا بالكف عن هذا الجدل، وآثروا أن يرسوا إيمانهم عن الحاجات والعواطف الدينية بعيداً عن سهام العقل. مثال ذلك إن كتاب هنري دودويل "المسيحية دون أساس من الجدل" (1742) يرفض الجدل العقلي في المسائل الروحية، لأنه لا يهدي إلى الحقيقة، وأقل من ذلك إلى السعادة، إنما هو رقصة موهنة ترقص فيها الحجج المؤيدة والمعارضة، وما من إنسان يقيم إيمانه على مثل هذه الأسس المائعة. وذهب دودويل إلى أن حجج كلارك، ووربرتن، وبطلر، وغيرهم من المدافعين المسيحيين، قد هزت من الإيمان الديني أكثر مما قوت، وربما لم يكن هناك إلحاد لولا أن المحاضرين في محاضرات بويل التذكارية دأبوا كل عام على تنفيذ الإلحاد. إن المسيح لم يجادل، بل علم كمن له سلطان. فانظر إلى أي شخص متدين حقاً، تجد فيه اقتناعاً باطنياً، لا استنتاجاً عقلياً؛ فالإيمان للنفس البسيطة يجب أن يكون تقليداً مقبولاً، وللروح الناضجة يجب أن يكون شعوراً مباشراً بواقع فوق الطبيعة.

أما وليام لو، فبعد أن ترك بصمته على الجدل مع الربوبيين، دفعته قراءة يعقوب بومي إلى التحول من الجدل إلى الصوفية؛ وفي نصف القرن الذي نحن بصدده، والمتسم بالمادية والكلبية الظافرتين، كتب عن الوجود الباطن للمسيح ومحبته الفادية بحرارة وثقة كأنه توماس أكمبيس مولوداً من جديد دون أن يطرأ على تغيير. وقد ضحّى بكل المطامع الدنيوية برفضه حلف اليمين التي تعترف بجورج الأول رأساً للكنيسة الإنجليزية؛ فحرم زمالته بكمبردج، واستُردت درجاته الجامعية. ثم أصبح معلماً خاصاً لأبي إدوارد جيبون، ومكث مع تلك الأسرة ردحاً كفى لأن يذكره المؤرخ (جيبون). قال هذا الشاك "لقد ترك في أسرتنا سمعة الرجل الفاضل التقي الذي يؤمن بكل ما يصرح به، ويمارس كل ما يأمر به(37)" وقد أثنى جونيسن على كتاب لو "دعوة جادة إلى حياة تقية مقدسة" (1729) وقال أنه "أروع قطعة من اللاهوت الوعظى في أي لغة(38)" فمن المؤكد أن صوفية الكتاب أصح من تلك التي تتوه في رؤى خارقة، سماوية كانت أو جهنمية. كتب لو يقول: ليس هناك شيء خارق للطبيعة في نظام فدائنا كله، فكل جزء فيه له أساس في أعمال الطبيعة وقواها، وكل فدائنا إنما هو الطبيعة مصححة. "وليست الجحيم مكاناً، بل هي حالة النفس المضطربة، ولا الجنة مكاناً، ولا "حالة غريبة، منفصلة، مفروضة"، بل هي سعادة نفس في نظام وسلام(39). ومع أن لو كان عضواً مخلصاً في الكنيسة الإنجليزية، فإنه كان يحلم برهبنة مجددة بروتستنتية. يقول:

"أذن لو أن أشخاصاً من الجنسين... تواقين إلى الكمال، تجمعوا في جماعات صغيرة، تنذر الفقر الاختياري، والتبتل، والعزلة، والعبادة، حتى تخفف صدقاتهم حاجة البعض، ويتبارك الجميع بصلواتهم وينتفعوا بقدوتهم... هؤلاء لا يتعرضون للاتهام بأي ميل للخرافة أو تعبّد أعمى... بل يمكن أن يقال حقاً وصدقاً أنهم يستعيدون تلك التقوى التي كانت فخر الكنيسة ومجدها على حياة قديسيها العظام(40)".

وقد أثرت مثل لو العليا ونثره الرائع في عمة جيبون، هستر جيبون، تأثيراً حملها هي وأرملة غنية على الذهاب للعيش بقربه في مسقط رأسه كنجزكليف بنورثمتونشير، وكرستا أكثر دخلهما لأعمال البر تحت إشرافه. وقد وجد هذا الرجل سعادته في توزيع الطعام والثياب والعظات على الفقراء والمرضى والمحرومين، وهو الذي كان في يوم ما طالب علم شغوفاً بالبحث، محباً للصحبة المثقفة المهذبة. فأنكر جميع لذات الدنيا تقريباً، وجدد الحملة البيورتانية على المسرح باعتباره "بيت الشيطان" أو على الأقل "شرفة الجحيم(41)". ولم يكن الخلق الإنجليزي، ولا مزاج العصر، حفيين بصوفية لو، وبدا أنه مختتم حياته في خمول ذكر عقيم، وإذا جون وسلي يأتي ليجلس عند قدميه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- جون وسلي 1703-1791

إذا أردنا أن نفهم مكانه في التاريخ وجب أن نذكر أنفسنا ثانية بأنه حين أسس هو وأخوه تشارلز الحركة المثودية Methodism في أكسفورد (1729) كان الدين في إنجلترا أحط منزلة مما كان في أي فترة من فترات التاريخ الحديث. فلم يكن يختلف إلى الكنيسة من أعضاء مجلس العموم أكثر من خمسة أو ستة(42). وكان رجال الأكليروس الأنجليكاني قد غالوا في قبولهم العقلانية غلوا جعلهم يبنون كل كتاباتهم تقريباً على الجدل العقلي. وندر أن ذكروا الجنة أو النار، وكانوا يؤكدون على الفضائل الاجتماعية دون الغيبيات. والعظة الإنجليزية كما وصفها فولتير كانت "رسالة جدية ولكنها جافة أحياناً، يقرؤها رجل على الشعب دون إيماءة ودون أن يرفع صوته رفعاً ملحوظاً(43)". ولم يكن الدين نشيطاً حاراً إلا في المذاهب المنشقة التي تتبعها الطبقة الوسطى. وكان عمال المدن مهملين إهمالاً كلياً تقريباً من الأكليروس الأنجليكاني، "كان هناك فرقة ضخمة تتألف من أدنى الطبقات، أفرادها بعيدون عن متناول التعليم أو الدين، لا دين لهم، ولم يعلموا ديناً على الإطلاق(44)"، وقد أسلموا إلى فقر لا يضيئه نور الأمل الديني إلا قليلاً. في هذه الخلفية أحيا جون وسلي وجورج هوايتفيلد العقائد والآداب البيورتانية أحياء قوياً وأسساً الكنيسة المثودية.

كان اللاهوت والثورة يجريان في عروق آباء وسلي. فجده الأكبر برتلميو وستلي طرد من وظائف القسوسية في دورست لأنه واصل العبادة المنشقة بعد أن رُدّ الاحتكار الكنسي في إنجلترا للكنيسة الأنجليكانية. وأصبح جد جون، جون وستلي، قسيساً في دوريست، وسجن لرفضه أن يستعمل كتاب الصلاة العامة، وطرد من القسوسية، وأصبح راعياً منشقاً في بول. وأسقط والد جون، واسمه صموئيل وسلي، حرف التاء من اسمه، وشق طريقه إلى أكسفورد، وهجر المنشقين، ورسم قسيساً أنجليكانياً، وتزوج سوزانا آنزلي (وكانت بنت واعظ) وأصبح قسيس ايبورث في لنكولنشير، ومات من أبنائه التسعة عشرة ثمانية في طفولتهم-وفي هذا بيان لشقاء النساء، وفحولة القساوسة المستهترة، ونوعية الطب في إنجلترا القرن الثامن عشر. وكان الأب مؤدّباً صارماً في البيت وعلى المنبر، نشّأ أبناءه على الخوف من إله منتقم، وأدان إحدى رعايا أبرشيته بالزنا، وأجبرها على السير في الشارع في مسوح التوبة(45). وكانت زوجته ضريباً له في الصرامة والتقوى. فلما بلغ ابنها الأشهر التاسعة والعشرين شرحت له فلسفتها في التربية الخلقية فقالت:

"إنني أصر على قهر إرادة الأطفال في وقت مبكر، لأن هذا هو الأساس القوي والمعقول الوحيد للتربية الدينية، الذي بدونه لا يكون للتعاليم ولا للقدوى جدوى. ولكن متى قهرت هذه الإرادة قهراً تاماً أصبح في الإمكان أن يحكم الطفل بعقل أبويه وتقواهما، إلى أن يبلغ فهمه درجة النضج... فإذا بلغ الطفل عاماً كانوا (أي أطفالها) يعلمون أن يخافوا العصا ويبكوا بصوت خافت، وبهذه الطريقة وفروا على أنفسهم الكثير من العقاب الذي كان يصيبهم إن لم يفعلوا(46)".

وأصبح أكبر أبنائها، صموئيل وسلي الثاني، شاعراً وعالماً وقسيساً أنجليكانياً أنكر على أخويه مذهبهما المثودي. وكان الطفل الثامن عشر هو تشارلز وسلي، الذي دعم مواعظ أخيه جون دعماً قوياً بترانيم بلغ عددها 6.500. أما جون فكان الخامس عشر، وهو مولود بايبورث في 1703. فلما بلغ السادسة احترق بيت القسيس، وتركته الأسرة وسط النيران ظناً منها أنها قضت عليه، ولكنه أطل من شبك في الطابق الثاني، فأنقذه جار وقف على كتفي آخر، وسمى نفسه بعد ذلك "جمرة اختطفت من بين المحترقين" ولم يتغلب قط على خوفه الشديد من الجحيم. وفي بيت أبيه كانت أي ضوضاء غير واضحة السبب، تفسر على أنها وجود خارق للطبيعة، شيطاني أو إلهي.

وحين بلغ جون الحادية عشرة أرسل إلى مدرسة تشارتر هاوس الحرة، وفي السابعة عشرة إلى كرايست تشيرش بأكسفورد. وقد تغلب على ضعف صحته بإدمان المشي والركوب والسباحة، فعمرّ حتى بلغ الثامنة والثمانين. وقرأ كثيراً، واحتفظ بمذكرات ومقتطفات من قراءته توخى فيها التدقيق والعناية. وكان أحب الكتب إليه كتاب جيرمي تيلر "الحياة المقدسة والموت المقدس"، وكتاب توماس أكمبس "محاكاة المسيح". وبدأ-حتى في أيام دراسته بالكلية-تلك اليومية التي هي إحدى آيات الأدب الإنجليزي والتقوى البروتستنتية. وقد كتب بعضها بالشفرة والاختزال. وفي 1726 عين زميلاً بكلية لنكولن، وفي 1728 رسم قسيساً أنجليكانياً.

وأخوه تشارلز هو الذي بدأ بجمع في أكسفورد جماعة صغيرة من نحو خمسة عشر طالباً ومعلماً اعتزموا ممارسة المسيحية بدقة منهجية. وأعداؤهم هم الذين خلعوا عليهم تهكماً وازدراء أسمى "النادي المقدس" و "المثوديين". وكانوا يقرءون معاً العهد الجديد اليوناني والآداب القديمة، ويصومون كل أربعاء وجمعة، ويتناولون العشاء الرباني كل أسبوع، ويتفقدون المسجونين والمرضى ليقدموا لهم العزاء والأمل الديني، ويرافقون المحكوم بإعدامهم إلى المشنقة. ووصل جون وسلي إلى تزعم الجماعة بفضل شدة حماسته وتقواه، فكان يستيقظ كل يوم في الرابعة-وهي عادة احتفظ بها حتى وهو طاعن في السن، ويخطط منهجياً في كل صباح الأعمال التي تؤدى في كل ساعة من ساعات اليوم. وكان يعيش على ثمانية وعشرين جنيهاً في العام، ويوزع باقي دخله على أعمال البر. وقد أكثر من الصوم حتى بدا مرة أنه قد دمر صحته تدميراً لا برء منه. وكان يحج راجلاً إلى وليم لو يلتمس منه النصيحة، وأصبح كتاب لو "دعوة جادة إلى حياة تقية مقدسة" مرشده الروحي. تقول يومياته أنه من هذا الكتاب "فاض النور على نفسي بقوة حتى ظهر كل شيء في صورة جديدة(47)".

وفي 1735 دعا الجنرال أوجثلورب جون وتشارلز ليرافقاه مبعوثين دينيين إلى جورجيا. وإذ كان أبوهما قد مات فإنهما التمسا مشورة أمهما. فقال لهما "لو كان لي عشرون ولداً لأبهجني أن إلى يُدعَوا إلى مثل هذا، حتى ولو لم أرهم بعد ذلك أبداً(48)". فليت شعري أني لنا نحن المجردين من التقوى أي نفهم هذه التقوى؟ وأرجئت جلسات "النادي المقدس" إلى أجل غير مسمى، وفي 14 أكتوبر أبحر جون وتشارلز و "مثوديان" آخران على السفينة سيموندز" قاصدين سافانا. وفي السفينة أثرت فيهم التقوى المرحة التي آنسوها في بعض "الأخوة المورافيين" الذين قدموا من ألمانيا ليستوطنوا أمريكا، فلما هاجمت عاصفة هوجاء المركب الصغير لم يبد على المورافيين أثر لخوف، وقارعوا رياح العاصفة بترانيمهم القوية، وأحس الوسليان أن هذا إيمان يفوق إيمانهما قوة.

فلما بلغا جورجيا (5 فبراير 1736) اتخذا منصبين مختلفين، فأصبح تشارلز سكرتيراً للحاكم أوجثلورب، وجون راعياً للجالية الجديدة، ومرسلاً بين الحين والحين للهنود الحمر المجاورين. وأثنى أول الأمر على الهنود لشوقهم إلى تقبل الإنجيل، ولكنه وصفهم بعد عامين بأنهم "شرهون، لصوص، مراءون، كذابون، قتلة لآبائهم، قتلة لأمهاتهم، قتلة لأبنائهم"، وقيل إنه "لم يوفق مع الهنود(49)". أما السكان البيض، الذين كانوا يضمون مئات من المجرمين المنفيين، فقد أنكروا لهجته الأكسفوردية وروحه الآمرة الناهية وإصراره على أدق قواعد الطقوس والنظام. ففي العماد اشترط التغطيس الكامل ثلاث مرات، فإذا اعترض والد رفض أن يعمد الطفل. وإذ كان لا يزال "كنسياً طقسياً من النوع الشديد التزمت(50)". فإنه أقصي عن تناول القربان رجلاً كريماً اعترف بأنه من المنشقين، وأبى أن يقرأ صلاة الجنازة على مستعمر لم ينكر مذهبه المنشق قبل موته، وحرم على النساء من رعيته أن يلبسن الملابس الغالية أو الحلي الذهبية، وأقنع الحاكم أن يحرم صيد السمك وقنص الحيوان في يوم الأحد-وهو اليوم الوحيد الذي كان يتاح فيه لرعيته فراغ من الوقت للصيد أو القنص. وقد افتتن بصوفيا هوبكي، ابنة أخت كبير قضاة سافانا البالغة من العمر ثمانية عشر ربيعاً. ولكن أصحابه المورافيين لم يرضوا عنها. فلما سئمت تردده تزوجت رجلاً يعى ولكنسون. وحين تقدمت لتناول القربان أبى أن يناولها السر بحجة أنها لم تتناول سوى ثلاث مرات في الشهور الثلاثة الأخيرة، وأنها أهملت أن تطلب إلى راعيها إذاعة إعلان زواجها. فرفع زوجها عليه الدعوى لتشهيره بخلق زوجته، وأدانت المحكمة سلوك وسلي خطيباً وخدماته كاهناً، فرفض الاعتراف بحقها في محاكمته، وتفاقم عداء الشعب له، ففر غلى تشارلزتن واستقل سفينة إلى إنجلترا (22 ديسمبر 1737).

وفي لندن استأنف تقشفاته أملاً في أن ترد إليه ثقته بنفسه، ولكن بيتر بولر، وكان واعظاً مورافياً في طريقه إلى أمريكا، أكد له أن إيمانه ما زال ناقصاً، وأنه مهما كانت فضائله كاملة وتقواه وطقسيته حارتين، فسيظل في حالة الهلاك الأبدي، حتى يدرك-بومضة إلهية من الإشراق واليقين، مختلفة كل الاختلاف عن أي عملية استدلال عقلي-أن المسيح قد مات لأجله هو، وأنه كفر عن خطاياه هو؛ فبعد هذا التغير دون سواه يكون الإنسان في مأمن من ارتكاب الخطايا وعلى ثقة من الخلاص. وقد خلد وسلي في يوميته ذلك "اليهود المشهود" 24 مايو 1738 الذي وافته فيه هدايته النهائية، قال:

"ذهبت في المساء على مضض شديد إلى جمعية في شارع أولدرزجيت، حيث كان أحدهم يقرأ مقدمة لوثر لرسالة بولس إلى أهل رومية. وفي نحو التاسعة إلا ربعاً، بينما كان يصف التغيير الذي يحدثه الله في القلب بالإيمان بالمسيح، شعرت بقلبي يدفأ على نحو عجيب. شعرت بأنني فعلاً أثق بالمسيح، والمسيح وحده، للخلاص، وأعطيت تأكيداً بأنه نزع خطاياي، خطاياي أنا، وخلصني من ناموس الخطية والموت. وبدأت أصلي بكل ما أوتيت من قوة لأجل أولئك الذين أساءوا إليَّ واضطهدوني أشد من غيرهم. ثم شهدت علانية لجميع الحاضرين بما شعرت به الآن في قلبي لأول مرة(51)".

ويمكن القول بإيجاز أنه لخص تطور المسيحية من الخلاص بالإيمان والأعمال، إلى الخلاص بالإيمان وحده (لوثر)، إلى الخلاص بإشراق شخصي وإلهي (الكويكرز). وعبر وسلي البحر إلى ألمانيا في صيف 1738 وهو عارف بصنيع بولر، وأنفق عدة أسابيع في هرنوت، القرية السكسونية التي أنشئت فيها مستعمرة للاخوة المورافيين على ضياع كونت زنزندورف.

وكان تشارلز وسلي خلال ذلك قد جاز بتغيير مماثل عند عودته إلى إنجلترا، وبدأ بطريقته الأكثر رقة في وعظ المسجونين في نيوجيت والوعظ من كل منبر يسمح له بارتقائه، وأهم حتى من هذا أن شخصية لا يبزها قوة غير شخصية جون وسلي كانت في طريقها إلى الصدارة في الحركة المثودية، وهي شخصية جورج هوايتفيلد. وقد ولد لصاحب نزل بجلوستر في 1714. وعمل سنة أو أكثر ساقي خمر لضيوف أبيه. ثم شق طريقه إلى كلية بومبروك بأكسفورد، وكان من الرعيل الأول في "النادي المقدس". وتبع الوسليين إلى جورجيا في 1738 ولكنه عاد إلى إنجلترا في خريف ذلك العام ليرسم قسيساً أنجليكانياً. وإذ كان غير قانع بالفرصة المتاحة له في المنابر، تواقاً لأن يبث الهام إيمانه في جماهير الشعب، فقد بدأ في فبراير 1739، في الخلاء قرب برستل، وعظ عمال مناجم الفحم الذين ندر أن جرءوا على دخول كنيسة أو اهتموا بدخولها. وكان في صوته من الوضوح والقوة ما مكنه من الوصول إلى أسماع عشرين ألف مستمع، وأثرت مقدرته الخطابية المشبوبة في هؤلاء الرجال المتحجرين، المرهقين، تأثيراً جعله يرى (كما قال) "المسارب البيضاء التي أحدثتها دموعهم التي هطلت بغزارة على خدودهم السوداء(52)" وأثارت خيال إنجلترا سمعة الواعظ الجديد، وأخبار عظاته في الهواء الطلق. فكانت الحشود الهائلة تتجمع أينما ذهب لتستمع إليه.

ولم يكن وعظه بالشيء الذي ينسي. فهو لم يدع لنفسه تبحراً في العلم، ولكنه ادعى أنه يتكلم كلاماً حميماً مع الله(53). ويقول وسلي أن لغته كانت تميل إلى "الحلاوة والحب" وأنه يستعمل فيها بعض الأخيلة المذهلة؛ من ذلك أنه كان يقول عن المسيح أنه "كالمشوي بغضب الأب، ومن ثم يوصف بحق بأنه حمل الله(54)". وكما فعل بت في البرلمان كذلك فعل هوايتفيلد في الحقول، إذ استعان في خطبه بفنون التمثيل، فكان في قدرته أن يبكي في التو والساعة بكاء من الواضح أنه اقترن بعاطفة صادقة؛ وكان في قدرته أن يشعر سامعيه بالإحساس بالخطيئة، ورهبة الجحيم، ومحبة المسيح، إحساساً قوياً فورياً. وقد اعترف بقوته الخطباء أمثال بولنبروك وتشسترفيلد، والشكاك أمثال فرانكلين وهيوم، والممثلون أمثال جاريك. وإذ كان يلقى الترحيب أينما حل، فإنه جعل إنجلترا، وويلز، وإسكتلندة، وإيرلندة، وأمريكا، أبرشيته. فعبر المحيط إلى أمريكا ثلاث عشرة مرة، واخترق إسكتلندة اثنتي عشرة مرة. ولم يكن غريباً عليه أن يعظ أربعين ساعة في الأسبوع. فما بلغ الخمسين حتى حل به الإرهاق، وخفض برنامجه بعد فوات الوقت إلى "الحد الدقيق المسموح به"-أي أنه اكتفى بالوعظ مرة واحدة كل يوم من أيام الأسبوع، وثلاث مرات فقط يوم الأحد. وفي 1769 قام بزيارته السابعة للمستعمرات، ومات في نيوبريبورت بولاية مساتشوستس في العام التالي.

وحين عاد جون وسلي من هيرنوت، لم يستطع أن يوافق تماماً على طريقة هوايتفيلد الخطابية، وتردد في الاقتداء به في الخطابة في الخلاء. قال: "إذ كنت طوال حياتي (إلى عهد قريب جداً) شديد التمسك بكل قواعد اللياقة والنظام،... فقد كان المفروض أن أرى في تخليص النفوس شيئاً يكاد يبلغ مبلغ الخطيئة إذا لم يتم في الكنيسة(55)". على أنه تغلب على نفوره هذا، وحمل رسالته إلى الحقول والشوارع، "وسلمت بأن أكون أكثر نزولاً إلى العامة في الخلاء" (أبريل 1739). وكانت خطابته أقل حرارة من خطابة هوايتفيلد، ولغته لغة العالم والجنتلمان، ولكنه هو أيضاً خاطب عواطف سامعيه، وجعل الحياة اليومية لبسطاء الناس تبدو كأنها جزء من مسرحية هائلة، نبيلة، نفوسهم فيها ساحة معركة بين الشيطان والمسيح، فتحركوا في عالم من العجائب والمعجزات، وسمعوا فيه (أي في وسلي)-كما زعم-صوت الله. وبينما ألف هوايتفيلد أن يعظ الجميع ثم ينصرف عنه، راح وسلي ينظم أتباعه في "جماعات صغيرة" في المدينة تلو المدينة، ويرشدهم إلى الثبات والاستمرار. وكانت اجتماعاتهم أحياء للقاءات المحبة التي استنها المسيحيون الأولون-أعياد من الفرحة الدينية ومحبة الجماعة، يعترف بعضهم لبعض بخطاياهم، ويخضعون لفحص حياتهم الخلقية، ويشتركون في الصلاة وترتيل التراتيل الورعة. وكان جون قد ألف أو ترجم بعض الترانيم المؤثرة، وكان تشارلز قد بدأ مجموعة تراتيله الضخمة. وفي 1740 كتب تشارلز أشهر ترانيمه الرائعة الكثيرة "يسوع يا حبيب روحي".

في هذه الجماعات المتحمسة درب جون وسلي وعاظاً علمانيين حملوا البشارة الجديدة إلى حيث لا يستطيع القادة البقاء. فقد انتشر هؤلاء "المساعدون"-دون رسامة، ودون أي أبرشيات محددة، بمنبر أو بغير منبر-في أرجاء إنجلترا، وإسكتلندة، وويلز، وأوصلوا مخاوف وآمال اللاهوت البروتستنتي للطبقات العاملة، وحضروا لزيارات الإنعاشية التي سيقوم بها وسلي وهوايتفيلد. وكان وسلي نفسه يسافر-إلى أقصى أركان إنجلترا راكباً جواداً أو مركبة أو رجلاً-وكثيراً ما كان يقطع ستين ميلاً في اليوم، وبلغ متوسط ما قطعه أربعة آلاف ميل في السنة على مدى أربعين عاماً. وكان يعظ في كل فرصة. في السجون للمسجونين، وفي المركبات لرفاقه الركاب، وفي الفنادق للمسافرين، وفي السفن العابرة البحر إلى إيرلندة أو من ثغر إلى ثغر. وفي ايبويرت، حين منع من الوقوف على منبر أبيه، وعظ في فناء الكنيسة واقفاً فوق قبر أبيه.

فماذا كان يعظ؟ العقيدة البيورتانية أساساً، تلك التي خيل إلى الناس أن الفوضى الخلقية التي صاحبت عودة الملكة الاستيوارتية عصفت بها عصفاً مميتاً. لقد رفض الجبرية (التي قبلها هوايتفليد)، وأصر على ما دان به الجناح الأرمنيوسي من الكنيسة الرسمية، وهو أن للإنسان من حرية الإرادة ما يكفيه لتقرير ما يختاره أو يرفضه من النعمة الإلهية. ورفض كل لجوء إلى العقل، وأحس أن الدين يصل إلى أبعد مما يصل إليه المنطق الذي صنعه الإنسان، وأنه يعتمد على الوحي الإلهي والاقتناع الباطن، ولكنه ابتعد عن الصوفية بحجة أنها تترك كل شيء لله ولا تحفز الإنسان إلى التقوى النشيطة. وشارك طبقته وزمانه معظم خرافاتهما: فكان يؤمن بالأشباح، وبالأصل الشيطاني للأصوات الغريبة، وبحقيقة السحر وإجرامه؛ وقال إن التخلي عن الإيمان بوجود السحر معناه التخلي عن الإيمان بالكتاب المقدس. ولم يساوره شك في المعجزات، وذهب إلى أنها تحدث كل يوم بين أتباعه. فكان الصداع، أو الورم المؤلم، أو الفتق الشديد، أو الساق المكسورة، تشفى بصلواته أو صلوات الجماعة المثودية؛ وحكى عن فتاة كاثوليكية كانت تفقد بصرها كلما قرأت كتاب القداس الكاثوليكي، ولكنها تستعيده دائماً حين تقرأ العهد الجديد. وقد قبل روايات النساء اللاتي زعمن أنهن رأين الملائكة أو المسيح أو الجنة أو النار، وسجل في يوميته عدداً من الحالات التي عوقب فيها خصوم المثودية بعقوبات خارقة(56).

وقد بلغ وعظه من الحيوية مبلغاً أفضى بالكثيرين من جمهوره إلى الهستريا والتشنجات. وتنبئنا اليومية عن خطاة غلبهم الألم البدني بعد سماعه فراحوا يتقلبون على الأرض من فرط العذاب، بينما ركع مؤمنون آخرون إلى جوارهم وصلوا لخلاصهم من مس الشيطان(57). ويصف وسلي اجتماعاً في شارع بلدوين بلندن في 1739 فنقول: "لم يكد صوتي يسمع وسط أنين البعض وصراخ الآخرين.. وساء كويكريا واقفاً يتفرج... أن يسقط هو نفسه على الأرض كأنه المصعوق. وكان الكرب الذي يعانيه رهيباً حتى لمن يشهده. وقد تضرعنا إلى الله ألا يؤاخذه بالحماقة والجهل، وسرعان ما رفع رأسه وصاح "الآن أعرف أنك نبي من أنبياء الرب(58)". ويصف شاهد عيان نقل عنه وسلي اجتماعاً للمثوديين بفارتن في 1759 كما يلي:

"كان بعضهم يصرخون، وبعضهم يجأرون... وأكثر ما سمع كان شهيقاً عالياً كذلك الذي يصدر عن قوم نصف مخنوقين يلهثون طلباً للحياة؛ أن الصيحات كلها تقريباً كانت كصيحات مخلوقات آدمية تعالج سكرات الموت الأليم. وكان الكثيرون يبكون دون ضجيج، وغيرهم سقطوا كالأموات... ووقفت على مقعد كما فعل شاب في المقعد المقابل، وكان ريفياً قوياً نضراً صحيح البدن، ولكن حين بدا أنه لم يخطر له شيء آخر خر على الأرض في عنف لا يتصوره الإنسان.. وسمعت خبط أقدامه يكاد يحطم الألواح الخشبية وهو راقد يتشنج تشنجات شديدة في أسفل المقعد... وأكثر الذين وضع الله عليهم يده احمرت وجوههم احمراراً شديداً أو كادت تسود.. وسقط وراءه على الجدار رجل غريب حسن الهندام كان يقف أمامي، ثم خر على ركبتيه وهو يعصر يديه ويهدر كالثور.. ثم قام وراح يخبط الحائط حتى أمسك به مستر كبلنج ورجل آخر. وصرخ قائلاً "أواه ماذا أصنع، ماذا أصنع؟ أواه، ليت لي قطرة واحدة من دم المسيح! "وبينما كان يتكلم حرر الله روحه، فعلم أن خطاياه مُحيت، وبدا أن نشوة الفرح التي غمرته أعظم من أن تحتملها الطبيعة البشرية(59)".

ولعل هذه التفجرات الهستيرية سببتها أحوال أثرت في الضحايا قبل الاجتماع المثودي، فجاءت كعظة عن نار الجحيم وكانت مجرد تتويج لذروة لا يمكن السيطرة عليها. أما وسلي فقد فسر هذه التشنجات بأنها مس شيطاني أعقبه شفاء إلهي. وذهب إلى أنها أحياناً لم تأت بإصلاح دائم للسلوك أو الخلق، ولكنه أحس بأنها في كثير من الحالات طهرت النفس من الخطيئة وافتتحت حياة جديدة.

وقد حققت المثودية أعظم نجاح لها بين الفقراء. فقد كان الوعاظ أنفسهم رجالاً ذوي ثقافة متواضعة، بسطاء في مشاعرهم وحديثهم، ولم يقم حاجز طبقي أو ثقافي بينهم وبين جمهورهم. وقد حملوا رسالتهم، رسالة الخطيئة والتوبة، إلى الفلاحين وعمال المناجم والمجرمين؛ ومع أنهم بشروا بإيمان قام على الخوف أكثر مما قام على المحبة، فإنهم أعطوا غير المتعلمين ناموساً أخلاقياً شارك بنصيب في رد اعتبار الأخلاق إلى إنجلترا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. هذه الأخلاق البيورتانية هي التي انتقض عليها عصرنا انتقاضاً متطرفاً. لقد كان وسلي عدواً لكل ألوان الترفيه تقريباً. صحيح أنه سمع بلعب الورق، ولكنه رأى إن من الإثم الذهاب إلى المهرجانات، ولبس الحلي أو الملابس الغالية، والاختلاف إلى المسرح أو المرقص. ولم يخصص أي وقت للعب في المدرسة التي أنشأها في كنجزوود، لأن "من يلعب وهو طفل سوف يلعب وهو رجل(60)". ولكن الأخلاق البيورتانية انسجمت مع الخلق الإنجليزي، واستطاع أن يتحملها الرجال الأشداء والنساء الصبورات، وقد منحت الطبقات العامة الإنجليزية إحساساً فخوراً بالاختيار سندها في الفقر وجعلها عدواً لأي ثورة تتشكك في المسيحية. وأحس المحافظون بعد حين بعرفان الجميل لوسلي لأنه أنقذ الفقراء البريطانيين من الربوبية والإلحاد، وحوّل تطلعاتهم من الثورة الاجتماعية إلى الخلاص الفردي، ومن عالم مثالي على هذه الأرض إلى فردوس بعد الممات(61).

وكان وسلي نفسه يميل إلى المحافظة في السياسة. وقد تقدم طبقته في المطالعة ببعض الإصلاحات التي طال تأخرها: فندد بنظام "الدوائر العفنة"، وبتفاوت التمثيل النيابي في البرلمان، وبفساد السياسة الإنجليزية الصارخ، وبوحشية الرق، وبأهوال السجون البريطانية. ولكنه تقبل الهيكل الطبقي للمجتمع باعتباره طبيعياً وعادلاً، وعارض أي انفراج في القوانين الموجهة ضد الكاثوليك، وكانت ميوله كلها مع جورج الثالث في ثورة المستعمرات الأمريكية.

وقد ظل أنجليكانياً بالعقيدة، ولكنه رفض الرأي الأنجليكاني القائل بأن رسامة القسيس لا تكون قانونية إلا على يد أسقف في سلسلة الأساقفة الرسوليين؛ ورسم هو بنفسه قساوسة لإسكتلندة وأمريكا. وحين قال "إن العالم أبرشيتي(62)" كان يقصد أنه سيعظ حيثما شاء، دون إذن أو تعيين أسقفي، وإلى هذا الحد كان انشقاقه على الكنيسة الرسمية. ولكنه حض أتباعه على حضور الخدمات الأنجليكانية، وتجنب الاجتماعات والعقائد المنشقة على هذه الكنيسة، والامتناع عن مخاصمة الأكليروس الأنجليكاني. وفتحت أول الأمر بعض المنابر الأنجليكانية للقساوسة المثوديين، ولكن اتخذ وعاظ وسلي العلمانيون لأنفسهم حق منازلة القربان، وارتدت العقيدة المثودية إلى توكيد العصر الوسيط على الجحيم والانشغال البيورتاني بالخطيئة، سحب الكهنة الأنجليكانيون تأييدهم، تماماً كما انسحب ارزم مع لوثر، وآنروا تطوراً منظماً، وأقصوا المثوديين عن المنابر الأنجليكانية. وكان الاضطهاد الذي ابتلى به المذهب الجديد على يد الكنيسة الرسمية أقل كثيراً من ذلك الذي جاءه من العامة البسطاء الذين لم يطيقوا الطرق الجديدة في التبشير بالأفكار القديمة. ففي المدينة بعد المدينة هوجم وعاظ الهواء الطلق-كما سيهاجم نظراؤهم اللاحقون الذين سيبشرون بإنجيل اجتماعي جديد-من غوغاء أسعدهم أن يكونوا قساة دون خوف ولا لوم. ففي مونموت ضُرب واعظ علماني على رأسه بصخرة فمات من الضربة. وفي ودنزبري حطم جَمْع بيوت المثوديين، وآذى نساءهم، وضرب رجالهم. فلما ظهر وسلي طالب الجميع بدمه، وصفق للذين ضربوه بالهراوات، وصلى هو بصوت عال، فأطلق الجمع سراحه. وفي بولتن أغار جمع غاضب على البيت الذي كان يعظ فيه، وواصل هو عظته إلى النهاية وسط وابل من الحجارة والبلاط الأبيض. وفي ديفيزيه صوبت طلمبة مائية على مسكن تشارلز وسلي، وأطلقت الكلاب البولدوج على أتباعه. وفي اكستر رُجم هوايتفيلد حتى كاد يلقى حتفه. وفي هوكستن دُفع ثور بمهماز إلى محفل مثودي، وفي بنسفورد سِيق عجل هاجه تحريش الكلاب به إلى المائدة التي كان جون وسلي يعظ عندها. وراقت شجاعة الوعاظ الخلق الإنجليزي، وأكسبتهم التسامح والتأييد.

كان وسلي رجلاً قصير القامة، طوله خمسة أقدام وثلاث بوصات، ووزنه 128 رطلاً. وكان في شيخوخته يقع من نفوس ناظريه وقعاً طيباً بشعره الأبيض، ولكنه كان من قبل في كهولته يسترعي الاهتمام بقسماته الدقيقة المتقشفة وعينيه المسيطرتين. وكان من القضايا المسلمة عنده أنه خلق ليَحكُم؛ ووضعه نشاطه العصبي وقوته الذهنية في مكان الزعامة بحكم الطبيعة، واشتطت به أحياناً ثقته بنفسه ثقة لا يتشكك فيها إلى اعتداء بالنفس، رأى فيه أسقف مثودي "غطرسة" شديدة(63). ولم يكن بالرجل الذي يسهل الانسجام معه، لأنه كان يفكر ويتحرك بسرعة لا يستطيع الآخرون أن يجاروه فيها. وتزوج في 1751، بعد أن أحب كما نحب كلنا الممرضة التي اعتنت به في مرضه. وسافرت معه زوجته في جولاته المحمومة طوال عامين، ثم انهارت صحتها وأعصابها فتركته كما يقفز إنسان من فوق ظهر حصان جموح. وكان يعزو الفضل في صحته وحيويته لرحلاته المتصلة راكباً أو راجلاً، وقد نضيف أن الخطابة رياضة تُهوّي الرئتين. وفي 1735 أصبح نباتياً، وبعد عام قرر هو صديق له أن يعيشا على الخبز القفار دون غيره، وأن "يجربا إمكان الحياة بلون واحد من الطعام كما هي ممكنة بمختلف ألوانه... ولم نكن أشد قوة وعافية منا حين لم نذق طعاماً آخر(64)"، ولكنهما سرعان ما انتكسا إلى التنويع في الطعام.

ماذا كانت نتائج الوعظ المثودي؟ في جيل واحد أصبح الدين، الذي لاح من قبل أنه يموت من أثر الوقار الأنجليكاني والشكوك الربوبية عنصراً مدّوياً في الحياة الإنجليزية، لا يعلو عليه إلا السياسة والحرب. فلما مات وسلي (1791) كان أتباعه يعدون 79.000 في إنجلترا، 40.000 في أمريكا الشمالية، وفي 1957 كان هناك 2.250.0000 مثودي في بريطانيا العظمى، و12.000.000 في الولايات المتحدة و40.000.000 في العالم(65). وفضلاً عن تكاثر أتباع المذهب كان له تأثير في المذاهب الأخرى؛ مثال ذلك ما حدث في الكنيسة الأنجليكانية التي رفضت المثودية، إذ بعثت المثل المثودية العليا الحركة "الإنجيلية" في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ولعلها دخلت في حركة أكسفورد في القرن التاسع عشر. أما من الناحية السياسية فإن النتائج كانت استسلاماً محافظاً بين الطبقات العاملة حتى 1848. وأما من الناحية الخلقية فإن المثودية حسنت السلوك الشخصي والحياة العائلية بين الفقراء وشاركت في تقليل الفساد الانتخابي والرسمي، وأخزت الكثيرين من طبقة السادة فأقلعوا عن الطيش والرذيلة، وهيأت لنفور الإنجليز من تجارة الرقيق. وأما من الناحية الثقافية فإن الحركة كانت سلبية. لقد أعطت الشعب ترانيم مقدسة، ولكنها واصلت العداء البيورتاني للفن. وأما من الناحية الفكرية فإنها كانت خطوة إلى الوراء فقد أرست عقيدتها على الخوف، وشعائرها على العاطفة، وأدانت العقل بوصفه فخاً للإنسان. وفي الصراع الكبير بين الإيمان والعقل علقت كل آمالها على الإيمان، ولم تضع أي ثقة في تقدم المعرفة والعلم، وتجاهلت أو احتقرت "التنوير" الذي أخذ يشعل النار في فرنسا. وشعرت أن هدف الحياة ومعناها الوحيد هو الهروب من الهلاك الأبدي، وأن الشيء الوحيد المطلوب لهذه الغاية هو الإيمان بالموت الفادي الذي ماته المسيح.

وفي يناير 1790، حين بلغ وسلي السادسة والثمانين، كتب في يوميته يقول "بتّ الآن شيخاً متهدماً من رأسي إلى قدمي. عيناي معتمتان، ويمناي تهتز بشدة، وفمي ساخن جاف كل صباح، وتنتابني حمى طويلة كل يوم تقريباً. ولكني بفضل الله لا أخفف من جهدي. ففي استطاعتي أن أعظ وأكتب إلى الآن(66)". وبعد شهرين بدأ جولة خطابية اتصلت خمسة أشهر وجابت به أرجاء إنجلترا وإسكتلندة. وقضى نحبه في العام التالي (2 مارس 1791). ولو حكمنا على عظمة الأفراد بمدى تأثيرهم لقلنا أنه-باستثناء بت-كان أعظم الإنجليز في زمانه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

5- في النحل والبشر

هناك شخصيتان أقل شأناً توقفاننا في طريقنا إلى ديفد هيوم. أولهما برنارد ماندفيل، وكان طبيباً لندنيا من أصل فرنسي ومولد هولندي، نشر في 1705 كراسة في عشر صفحات تباع بست بنسات، مكتوبة بشعر مرح عنوانها "الخلية المتذمرة". وموضوعها مفارقة مؤداها أن رخاء الخلية راجع إلى رذائل أفرادها من النحل-إلى جشعها الأناني ونشوتها التناسلية ومشاكستها الجماعية. وبتطبيق هذا التناقض على الخلية الإنسانية، ذهب الطبيب الخبيث إلى أن ثروة الدولة وقوتها لا تعتمدان على فضائل مواطنيها بل على الرذائل التي يندد بها الأخلاقيون المتذمرون بحماقة. فلنتصور ما يحدث لو كفت فجأة كل ضروب حب التملك والغرور والخيانة والمشاغبة-لو لم يأكل الرجال والنساء من الطعام إلا بقدر ما يحتاجون إليه، ولم يلبسوا من الثياب إلا ما يقيم القر والحر، ولم يغشوا أو يؤذوا بعضهم بعضاً، ولم يتشاجروا، وأدوا ديونهم دائماً، واحتقروا أسباب الترف، وكانوا أوفياء لأزواجهم. لو حدث هذا لتوقف المجتمع كله فجأة، فترى المحامين يتضورون جوعاً، والقضاة يتركون بغير قضايا أو رشا، والأطباء يذوون لانعدام المرضى، وزراع الكروم يفلسون، والحانات تغلق أبوابها لانعدام شاربي الخمر، وملايين الصناع المهرة الذين ينتجون الغريب من الأطعمة أو الحلي أو الملابس أو البيوت يتعطلون؛ ولن يرغب أحد في أن يكون جندياً؛ وما يلبث المجتمع أن يقهر ويستعبد.

وعطل تأثير الخلية المتذمرة صياغتها في شعر هزلي محطم الوزن، وغاظ هذا الطبيب المغرور، الجشع، المشاغب، فأعاد إصدارها في 1714، وثالثة في 1723، باسم "خرافة النحل" موسعاً إياها المرة بعد المرة بالمقدمات، والملاحظات، والتعليقات التي بلغت بالصفحات العشر مجلدين. وأصغت إنجلترة وفرنسا هذه المرة، لأن هذه الملاحق كانت ن أقذع ما كتب من تحليلات للطبيعة البشرية.

واتخذ ماندفيل من ايرل شافتسبري الثالث هدفاً رئيسياً لكتابه بكل معنى الهدف. ذلك أن الأيرل كان قد فسر الطبيعة البشرية ببلاغة متفائلة، فافترض في الإنسان "إحساساً باطنياً بالصواب والخطأ... فطرياً فيناً كالمحبة الفطرية، وهو مبدأ أول في كياننا". ورد ماندفيل على بأنه هراء بديع؛ فالطبيعة البشرية قبل التربية والتدريب الخلقي لا تميز بين الفضيلة والرذيلة، إنما تحكم المصالح الذاتية دون غيرها. وقد وافق اللاهوتيون على أن الإنسان بطبيعته "شرير" (متمرد على القانون)، ولكنه بدلاً من أن يهدد الناس بالجحيم، هنأهم على الملائمة البارعة بين رذيلة الفرد وخير المجتمع. فالبغاء السري مثلاً يحمي العفة العامة، والنهم للإنتاج والخدمات يحفز الاختراع، ويدعم الصناعة والتجارة؛ والثروات الكبيرة تتيح البر بالناس والفن الضخم. وبينما بشر اللاهوتيون بالتقشف، دافع ماندفيل عن الترف، وحجته أن الرغبة في الكماليات (وهي أن شيء خلاف الضروريات المجردة للحياة) هي أصل الصناعة والحضارة؛ فلو أزلنا الترف كله عدنا همجاً. وبينما يُفترض في الأخلاقيين أن يدينوا الحرب قال ماندفيل أن الأمم عاشت بفضل قدرتها على شن الحرب، لأن معظم الدول وحوش ضارية.

ولم ير في الطبيعة أي فضيلة. فالخير والشر كلمتان تصدقان على الأفعال الاجتماعية أو المعادية لمصلحة المجتمع في الإنسان، أما الطبيعة نفسها فلا تأبه بكلماتنا أو عظاتنا، وهي تحدد الفضيلة بأنها أي صفة تعين على البقاء؛ وعالم الطبيعة في عباراتنا المتحيزة مسرح للجشع والشهوة والقسوة والقتل والتبديد الذي لا معنى له. ومع ذلك فمن ذلك الصراع الرهيب، كما يقول ماندفيل، طور الإنسان اللغة والنظام الاجتماعي والنواميس الأخلاقية أدوات للتماسك الاجتماعي وبقاء المجتمع. والثناء واللوم لا تبررهما الطبيعة، ولكنهما مبرران باعتبارهما وسائل نستعين بها-لأنها تروق غرور الإنسان وخوفه وكبرياءه،-على أن نشجع في غيرنا ألواناً من العلم مفيدة لنا أو للجماعة.

ومعظم الذين سمعوا بماندفيل رموه بالنزعة المادية الكلبية، ولكن فولتير اتفق معه على نفع الكماليات، وصفق فيزوقراطيو فرنسا القائلون بسياسة "عدم التدخل" لرأبه في أن عدم التدخل في طمع الإنسان كفيل بأن يجعل عجلات الصناعة تدور. وأغلب الظن أن الطبيب الكثير النزوات كان مسلماً بأن فارقته هذه، "الرذائل الخاصة هي فضائل عامة" كانت إلى حد كبير لعباً بألفاظ فضفاضة التعريف. إن "الرذائل" كحب الاقتناء، والعشق الجنسي، والمشاغبة، والكبرياء، كانت يوماً ما "فضائل" في الصراع البدائي للبقاء. ولم تصبح رذائل إلا حين مورست في المجتمع ممارسة تجاوزت الخير الاجتماعي؛ وقد أصبحت منافع عامة بفضل التحكم فيها بالتعليم، والرأي العام، والدين، والقانون.

وشتان بين فرانسس هتشسن وبين هذا الطبيب المفتري. وقد ولد هتشسن في إيرلندة لقس مشيخي، ثم انحرف عن جادة أبيه وفتح معهداً خاصاً في دبلن. وإذ كان شديد الوعي بالتزامه بأن يجعل من المتوحشين الصغار مواطنين، فقد كتب من معهده "تحقيقاً في الخير والشر الأخلاقيين" (1725) عرّف فيه المواطن الصالح بأنه ذلك الذي يعزّز الخير العام، ووصف فيه الخير العام (بعبارة سبقت بحذافيرها صيغة بنتام في مذهب المنفعة) فقال إنه "أعظم سعادة لأكبر عدد من الناس(69)" فلما رقي إلى كرسي الفلسفة الأخلاقية في جامعة جلاسجو، أزعج المشيخيين بدفاعه عن حق الفرد في إصدار حكمه على الأشياء، وعن مشروعية اللذة، وعن "الفنون الإبداعية كالموسيقى والنحت والتصوير، وحتى الملاهي الرجولية"(70)، ولم يشارك ماندفيل فكرته المتشائمة عن الطبيعة البشرية. وقد سلم بأخطاء الناس وذنوبهم، وبشهواتهم الجامحة وجرائمهم العنيفة، "ولكن الجانب الأكبر من حياتهم يستخدم في القيام بمهام من المودة الطبيعية، أو الصداقة، أو حب الذات البريء، أو حب الوطن". ثم أضاف تحذيراً نافعاً للمؤرخين فقال:

"إن الناس ميالون إلى إطلاق العنان لخيالاتهم في أمر جميع ما سمعوا عنه أو قرءوا في التاريخ من سرقات، وقرصنات، وجرائم قتل، وأيمان كاذبة، وتزويرات، ومذابح، واغتيالات، فيستنتجون من هذا كله أن النوع الإنساني كله شرير جداً، وكأن دار القضاء هي المكان الصحيح لتقييم أخلاق البشر، أو المستشفى لتقييم ملاءمة المناخ للصحة. أفلا يجدر بهم أن يروا أن عدد المواطنين والمزارعين الشرفاء يفوق كثيراً عدد كل أنواع المجرمين في أي دولة... وأن ندرة الجرائم بالقياس إلى الأفعال البريئة أو الخيرة هي التي تلفت انتباهنا لها، وتبعث على تسجيلها في التاريخ، في حين تغفل أفعال شريفة سمحة مألوفة، تفوقها بما لا يقاس، لا لشيء إلا أنها عادية جداً؛ وما أشبه هذا بخطر جسيم واحد، أو شهر يقضي في المرض، فيصبح قصة تتردد كثيراً، خلال حياة طويلة من الصحة والسلامة".

ذلك عقل سليم!

6- ديفيد هيوم 1711 - 1776

أ- الفيلسوف الشاب

كان هتشسن جزءاً متواضعاً من حركة "التنوير الاسكتلندي"، أما هيوم فكان ألمع كواكبها. وهو يروي لنا في ترجمته الذاتية البسيطة، ذات الصفحات الست، أنه ولد بأدنبرة في 26 أبريل 1711، "لأسرة طيبة أباً وأما، فأسرة أبي فرع من إيرل Home أو Hume وكانت أمي ابنة السر ديفد فوكنر عميد كلية الحقوق". ومات الأب في 1712، تاركاً ممتلكاته لشقيق ديفد الأكبر، جون هيوم، ولديفد دخلاً يبلغ ثمانين جنيهاً في السنة- يكفي لمعيشة متقشفة. أما الأسرة التي كانت كلها تدين بالمذهب المشيخي، فقد أشربت الصبي اللاهوت الكلفني اشراباً قوياً تخلّف على شكل الحتمية في فلسفة ديفد. كان في بكرة كل أحد يختلف إلى صلاة في الكنيسة تتصل ثلاث ساعات، منها ساعتان من الوعظ؛ ثم يعود عشية كل أحد إلى الكنيسة ساعة؛ يضاف إلى هذا صلوات الصباح في البيت(72). ولم يكن مندوحة من أن ينتقض ديفد على هذا كله بالانحراف إلى الهرطقة ما دام فيه ذرة من صلابة الخلق.

وحين بلغ الثانية عشرة دخل جامعة أدنبرة. ثم تركها بعد ثلاث سنوات دون درجة، عازماً على أن يفرغ بكليته للأدب والفلسفة. وفي السادسة عشرة كتب إلى صديق يلوم نفسه. "لأن سلامي العقلي لا تدعمه الفلسفة دعماً يكفي للثبات للطمات القدر. فعظمة النفس وسموها هذا لا سبيل إليه إلا في الدرس والتأمل.. .. فاسمح لي بأن أتكلم هكذا كفيلسوف، فذلك موضوع أطيل التفكر فيه ولا يعييني الحديث فيه اليوم كله(73)".

وسرعان ما تبخر إيمانه الديني:

"وجدت ضرباً من جرأة الطبع يتملكني، وهي جرأة لا تميل إلى الخضوع لأي سلطة في هذين الموضوعيين (الفلسفة والأدب)... فلما ناهزت الثامنة عشرة بدا كأنه قد انفتح أمامي مشهد جديد من الفكرة، أطربني منتهى الطرب، وحملني بحماسة الشباب الطبيعية على أن أنبذ كل لذة أو شغل آخر لأعكف عليه العكوف كله(74)".

وقال في فترة لاحقة أنه "لم يشعر بأي إيمان بالدين منذ بدأ قراءة لوك وكلارك(75)". فما أن بلغ السابعة عشرة حتى كان قد خطط لرسالة في الفلسفة.

وألح عليه أقرباؤه في أن الفلسفة وثمانين جنيهاً في العام لن يتيحاً له سوى عيش ضنك، وأن عليه أن يقنع بضرورة التكسب. فهل في استطاعته أن يدرس القانون؟ وحاول ذلك طوال ثلاث سنوات مؤلمة (1726- 29). وانهارت صحته، وأوشكت روحه أيضاً أن تنهار، وفقد اهتمامه بالأفكار فترة. "رأيت دراسة القانون شيئاً يثير في "الغثيان"(76)، فطلقها، وعاد إلى الفلسفة، ربما بانحراف واحد. ففي أواخر فبراير 1734 رحل عن أدنبرة إلى لندن "لأبذل محاولة هزيلة جداً لولوج مجال من الحياة أكثر نشاطاً(77)". وفي 5 مارس مثلت آجنس جلبريث أمام القس جورج هيوم (عم ديفد) واعترفت بأنها حبلى. فلما جيء بها أمام جلسة لمجلس الكنيسة المشيخية صرحت بأن "المستر ديفد هيوم... هو أبو الطفل" وارتاب المجلس في صدقها فأحالها إلى الاجتماع التالي للمجلس المشيخي المحلي؛ وأمام هذا المجلس في 25 يونيو، كررت التهمة. وقد جاء في محضر مجلس تشيرنسايد:

"إن رئيس الجلسة... ناشدها أن تقول الصدق وتعترف هل أذنب معها شخص آخر... وبعد أن نظر المجلس في الأمر، وأحيط أعضاؤه علماً بأن ديفد هيوم المذكور خرج من المملكة، أحالوها إلى دائرة مجلس تشيرنسايد امتثالاً لقواعد الكنيسة(78)".

وهذا يتطلب مثولها في المسرح أمام الكنيسة وعرضها في المشهرة ثلاثة آحاد. وفي 1739 أدينت آجنيس مرة أخرى بالزنا.

ومضي هيوم إلى برستل بعد أن توقف في لندن، واشتغل في مكتب تاجر "ولم تمض عليّ شهور حتى وجدت ذلك الجو لا يلائمني إطلاقاً" فعبر البحر إلى فرنسا، حيث المعيشة أرخص منها في إنجلترا. ومكث فترة في رانس، ثم رحل إلى لافليش (على نحو 150 ميلاً جنوب غربي باريس)، لأن كلية اليسوعيين فيها كانت تملك مكتبة كبيرة، واتصل الاسكتلندي المدبّر اتصالاً ودياً بالكهنة فسمحوا له باستعمال كتبهم. وقد وصفه أحد الآباء في نظرة لاحقة بأنه "كان شديد الاعتداد بنفسه.... في روحه حيوية أكثر مما فيها من التماسك وفي خياله توقد أكثر مما فيه من العمق، وقلبه أشد انغماساً في الأشياء المادية والعجب الروحي من أن يتغلغل إلى الخفايا المقدسة للحقائق الإلهية(79)".

وفي ظل اليسوعيين ألف هيوم أول جزئين من رائعته الشكوكية "رسالة في الطبيعة البشرية". وفي سبتمبر 1737، عاد إلى إنجلترا مثقلاً بمخطوطته. وقد لقي عنتاً مع الناشرين، لأنه كتب في ديسمبر إلى هنري هيوم يقول: "إنني الآن أجب كتابي، أي اقتطع منه أجزاءه الممتازة، محاولاً أن أقلل ما استطعت من إيذائه لشعور الناس(80)". وكان أهم ما حذف منه "مناقشات حول المعجزات فنحاها لاستعمالها في أوقات أسلم. أما الباقي، الذي ضمن أنه يدق على أفهام المتشبثين بالقديم، فقد نشره جون نون اللندني غفلاً من اسم المؤلف في مجلدين في يناير 1739. وباع هيوم المجلدين إجمالاً بخمسين جنيهاً واثنتي عشرة نسخة- وهي صفقة ليست خاسرة جداً بالنسبة لكتاب في المنطق ونظرية المعرفة بقلم شاب مغمور في السابعة والعشرين. على أنه كان قمم من قمم الفلسفة الحديثة.

ب- الغض من شأن العقل

كشف "الإعلان" الذي تصدّر الكتاب عن ثقة هيوم في قدراته. فقد قال فيه أنه يستهدف دراسة الطبيعة البشرية من حيث الفهم والانفعالات، ثم في مجلد ثالث قادم من حيث الأخلاق والسياسة. وشرع في تحليل "الانطباع" (الإحساس)، والإدراك الحسي، والذاكرة، والخيال، والفكر، والعقل، والاعتقاد. وهذا البحث في كيفية وصولنا إلى أن "نعرف" بحث أساسي، لأن صحة العلم والفلسفة والدين والتاريخ تتوقف على طبيعة المعرفة، وأصلها، وإمكان وثوقنا بها. وهو فرع من الدراسة عسير، لأنه يتناول الأفكار المجردة لا الأشياء المحسة، والفكر آخر شيء يحاول الفكر أن يفهمه.

وبدأ هيوم بقبوله تجريبية لوك نقطة انطلاق لبحثه، فكل الأفكار مستقاة في النهاية من التجربة بطريق الانطباعات. وهذا أما أحاسيس خارجية كالضوء والصوت والحرارة والضغط والروائح والذوق؛ وأما داخلية كالخدر والجوع واللذة والألم. والإدراك الحسي إحساس مفسر؛ "فالضوضاء" إحساس، ولكن "نقرة على الباب" إدراك حسي (وهيوم ليس دقيقاً أو ثابتاً دائماً في استعماله هذين المصطلحين). والمولود أعمى أو أصم ليس لديه "فكرة" عن الضوء أو الصوت، لأنه لم يكن لديه إحساس بأحدهما. وفكرتا المكان والزمان نابعتان من التجربة، فالأولى "فكرة نقاط مرئية أو محسوسة موزعة بنظام معين"، والثانية إدراك التعاقب في انطباعاتنا(81) ولا تختلف الأفكار عن الانطباعات إلا في ضعف "القوة والحيوية التي تقع بهما على الذهن(82)". والاعتقاد "ليس إلا فهماً أكثر حيوية وحدة لأي فكرة... إنه شيء يشعر به الذهن، يميز أفكار الحكم عن خرافات الخيال(83)".

ويبدو أن هيوم في تعريفاته هذه يرى في "الذهن" كياناً أو أداة حقيقة تمارس الانطباعات أو الأفكار، أو تمتلكها، أو تتذكرها، أو تحكم عليها. على أنه إذ يمضي في البحث ينكر وجود أي ذهن ملحق بالحالات النفسية- الإحساس، أو الإدراك الحسي، أو الفكرة، أو الشعور، أو الرغبة التي تشغل الوعي في لحظة بعينها يقول:

"إن ما نسميه "الذهن" لي إلا كومة أو مجموعة من مختلف الإدراكات الحسية توحدت معاً بشتى الارتباطات، ويفترض فيها- وإن كان الفرض خطأ- أنها وهبت غاية البساطة والتطابق... أما أنا فإنني حين أتغلغل فيما أسميه "نفسي" أعثر دائماً على إدراك حسي معين أو آخر، للحرارة أو البرودة، للضوء أو الظل، للحب أو الكره، للألم أو اللذة. ولا أستطيع إطلاقاً أن ألحظ شيئاً غير الإدراك الحسي. فإذا زالت عني إدراكاتي الحسية أي فترة، كما يحدث بالنوم العميق، فإنني طوال هذه الفترة أكون عادم الحس "بنفسي"، ويمكن القول حقاً إنني غير موجود. وإذا زالت إدراكاتي الحسية كلها بالموت، فعجزت عن التفكير والشعور والإبصار والحب والكره بعد تحلل جسمي، فإنني أمحق محقاً، ولست أتصور ما يلزم بعد ذلك لجعلي عدما في عدم... وإذا ضربنا صفحاً عن بعض الميتافيزيقيين.. فقد أجرؤ على التأكيد بأن باقي البشر ليسوا سوى حزمة أو مجموعة من مختلف الإدراكات الحسية التي يعقب بعضها بعضاً بسرعة فائقة، والتي تتدفق تدفقاً دائماً... وهذه الإدراكات الحسية المتعاقبة... تشكل الذهن(84)".

وهكذا بضرة واحدة من هذا الفتى المتهور سقطت ثلاث فلسفات: الفلسفة المادية، لأننا (كما أثبت باركلي) لا ندرك "المادة" أبداً، ولا نعرف غير عالمنا العقلي عالم الأفكار والمشاعر؛ والفلسفة الروحانية، لأننا لا ندرك أبداً "روحاً" ملحقة بمشاعرنا وأفكارنا الخاصة؛ وفلسفة الخلود، لأنه ليس هناك "ذهن" يبقى حياً بعد الحالات الذهنية العابرة. وكان باركلي قد هدم المادية برده المادة ذهناً، فضاعف هيوم التدمير برده الذهن أفكاراً. فلا "المادة" ولا "الذهن" موجودان. لا لوم على ظرفاء العصر أذن أن "يرفضوا الفيلسوفين جميعاً بهذه العبارة" No matter, never mind (وفيها تورية، لا يهم (لا مادة)، لا بأس (ولا ذهن)).

وحرية الإرادة في هذه النظرة المدمرة مستحيلة، فليس هناك ذهن يختار بين الأفكار أو الاستجابات، وتعاقب الحالات النفسية يقرره ترتيب الأحاسيس، وترابط الأفكار، وتناوب الرغبات؛ إن "الإرادة" ليست سوى فكرة تنساب فتصبح حركة، والهوية الشخصية هي شعور الاستمرار حين تستحضر حالة نفسية حالات سابقة وتربط بينها بفكرة العلة.

ولكن العلة أيضاً ليست سوى فكرة؛ فليس في قدرتنا أن نثبت أنها واقع موضوعي. فإذا أدركنا أن: أ (اللهب مثلاً) تعقبه بانتظام ب (الحرارة)، استنتجنا أن أ كانت العلة في ب، ولكن كل ما لاحظناه هو تعاقب الأحداث، لا عملية علية، فليس في استطاعتنا أن نعرف أن ب ستعقب أ دائماً. "كل استدلالاتنا العقلية المتصلة بالسبب والنتيجة لا مصدر لها غير العادة(58)". وليست "قوانين الطبيعة" التي نتحدث عنها إلا تعاقبات مألوفة في تجربتنا؛ لا روابط ثابتة وضرورية في الأحداث، ولا ضمان أنها ستصدق غداً. فالعلم إذن تراكم للاحتمالات المعرضة للتغيير دون إنذار. والميتافيزيقيا مستحيلة إذا زعمت أنها نسق من الحقائق حول واقع مطلق، لأنه لا سبيل إلى معرفة "الأسباب" الكامنة وراء النتائج، ولا "المادة" الكامنة وراء الأحاسيس، ولا "الذهن" الذي يقال أنه كامن وراء الأفكار. وما دمنا نبني إيماننا بالله على سلسلة من الأسباب والنتائج يفترض أنها ترتد إلى "محرك أول لا يتحرك"، فإن علينا أن نتخلى عن تلك السفسطة الأرسطاطالية. إن الأشياء كلها تتدفق، وما اليقينية إلا حلم من الأحلام.

وبعد أن ينشر هيوم الدمار من حوله بسيف عقله البتار، يتوقف لحظة تواضع فيقول "حين أتأمل القصور الفطري في حكمي، تقل ثقتي بآرائي عنها حين أتأمل الأشياء التي أتناولها بالاستدلال(86)" فهو يعلم مثلنا أن اليقينية ليست ضرورية للحياة، ولا للدين، ولا حتى للعلم؛ وإن درجة كبيرة من الاحتمال تكفي لعبور شارع أو بناء كتدرائية أو لتخليص نفوسنا. ويسلم في تذييل للكتاب بأنه قد يكون هناك رغم ذلك نفس وراء الأفكار، وواقع وراء الأحاسيس، وعلاقة علية وراء التعاقبات المتصلة. وهو ثابت على موقفه نظرياً "لم يسعدني الحظ إلى الآن بأن اكتشف أي أخطاء جسيمة في الاستدلالات المعروضة في المجلدين السابقين(87)". ولكنه يتعرف في لطف أنه، عملياً، يتخلى عن شكوكيته حالما يضع قلمه.

"لو سئلت هل أوافق مخلصاً على هذه الحجة الذي بذلت هذا الجهد في إقرارها، وهل أنا حقاً واحد من هؤلاء الشكاك الذين يذهبون إلى أن كل الأشياء غير يقينية... لأجبت... أنني لا أنا لا أي شخص آخر دان بهذا الرأي في أي وقت بإخلاص وثبات(88)... إنني أتناول غذائي، وألعب النرد، وأتحدث وأسمر مع أصحابي، فإذا عددت بعد ثلاثة أربع ساعات من الترويح إلى هذه التأملات، بدت لي باردة مفتعلة سخيفة جداً بحيث لا أستطيع أن أجد في صميم نفسي ما يدفعني لمزيد من الإيغال فيها(89)... وهكذا يواصل الشاك استدلاله العقلي واعتقاده، وأن أكد أنه لا يستطيع الدفاع عن استدلاله العقلي بالعقل؛ وعلى هذه القاعدة نفسها يجب أن يوافق على مبدأ وجود الجسد وأن عجز عن الادعاء بأي حجج من الفلسفة بأنه أثبت صحته(90)".

وأخيراً يتنكر هيوم للجدل العقلي باعتباره هادياً للحياة ويضع ثقته في الإيمان الحيواني، في الاعتقاد القائم على العرف بأن الواقع عقلاني تتخلله العلية. وحين يؤكد هيوم أن "الاعتقاد هو على الأصح فعل من أفعال الجانب الحساس لا الجانب العارف من طبائعنا(91)" فإنه- وقد بلغ السابعة والعشرين من عمره- يلقى بجان جاك روسو، ذي الستة والعشرين، في الشباب والنظرية، كما قدر له أن يلتقي به بعد ذلك في الصداقة والمأساة. ولم يقتصر أبرع المجادلين العقليين في عصر العقل على اتهام المبدأ العلي للعقل، بل أنه فتح باباً لرد الفعل الرومانسي الذي سينزل العقل عن عرشه ويجعل من الوجدان إلهاً له.

و"الكتاب" والمجلد الثاني من "الرسالة" يواصل إنزال العقل عن عرشه. فنرى هيوم يرفض محاولات الفلاسفة بناء مبدأ أخلاقي على تحكم العقل في العاطفة. وهو يعني بكلمة العاطفة الرغبة الوجدانية. "لكي أثبت مغالطة هذه الفلسفة بأكملها، سأحاول أن أثبت أولاً أن العقل وحده لا يمكن أن يكون دافعاً لأي فعل من أفعال الإرادة؛ ثانياً إنه لا يستطيع إطلاقاً معارضة العاطفة في اتجاه (ضد قوة) الإرادة(92)". "فلا شيء يستطيع مقاومة أو تعطيل دافع العاطفة إلا عاطفة مضادة" (أهذا صدى لسبينوزا؟). ويضيف هيوم إمعاناً منه في ترويع المتشبثين بالقديم "إن العقل عبد، وينبغي أن يكون عبداً، للعواطف (الأداة المنيرة والمنسقة للرغبات) ولا يمكن أن يزعم لنفسه أي وظيفة أخرى سوى خدمتها وطاعتها(93)".

ثم يمضي إلى تحليل دقيق للعواطف- وأهمها الحب، والكره، والعطف، والغضب، والطمع، والحسد، والكبرياء. "إن العلاقة التي تُحدث في الكثير الغالب عاطفة الكبرياء هي علاقة الملكية(94)". وكل العواطف تقوم على اللذة والألم، وتميزاتنا الأخلاقية تنبع في النهاية من هذا المنبع الخفي ذاته "إننا نميل إلى إطلاق اسم الفضيلة على أي صفة في الآخرين تعطينا اللذة لأنها تعين على نفعنا، وإلى إطلاق اسم الرذيلة على أي صفة بشرية تعطينا الألم(95)". وحتى مفاهيم الجمال والقبح مشتقة من اللذة والألم. يقول:

"لو تأملنا جميع الفروض التي وضعت... لتفسير الفرق بين الجمال والقبح، لوجدناها كلها تنحل إلى هذا، وهو أن الجمال نظام وتركيب للأجزاء، مهيأ لإعطاء اللذة والرضي للنفس، أما بسبب التكوين الفطري لطبائعنا (كما نرى في جمال الجسم البشري) أو بسبب العرف (كما نرى في الإعجاب بنحافة القوام في النساء) أو بسبب النزوة العارضة (كما نرى في إضفاء الكمال على أوهام الرغبة المعاقة)... فاللذة والألم إذن ليسا مرافقين ضروريين فحسب للجمال والقبح، ولكنهما يكوّنان جوهرهما ذاته،... وما الجمال إلا شكل يحدث اللذة، كما أن القبح بناء للأجزاء يحدث الألم(96)".

والحب بين الجنسين يتركب من هذا الإحساس بالجمال، مضافاً إليه "الرغبة الجسمية في التناسل ورقة ومودة سمحتان(97)".

وفي مارس 1739 عاد هيوم إلى أدنبرة. وراح يقلب الدوريات في لهفة بحثاً عن نقد لمجلديه، وعانى من نتائج تقليبها. قال "لم تلق محاولة أدبية قط حظاً أعثر مما لقيت "رسالتي في الطبيعة البشرية" فلقد ولدت ميتة من المطبعة، ولم تحظ حتى بإثارة دمدمة سخط بين المتعصبين(98)" ولكنه حين كتب هذا في شيخوخته كان قد نسي، ربما بسبب الرغبة في نسيان الذكريات الكريهة، أن عدة مقالات نقدية ظهرت خلال سنة بعد نشر كتابه. وقد شكت كلها تقريباً من أنه عسير الفهم، وأن المؤلف سمح لشبابه بالإعلان عن ذاته بتكرار الإشارة إلى نفسه وإلى الجدة الخطيرة التي تنطوي عليها أفكاره. قال ناقد نموذجي من أعدائه: "إن ما يؤذي القارئ أشد الأذى هو تلك الثقة التي يسوق بها مفارقاته.. فما عهدنا شاكاً أشد من هذا قطعاً بآرائه... وأمثال لوك وكلارك ليسوا في الغالب في نظره سوى مجادلين تافهين سطحيين بالقياس إليه(99)".

وأعد هيوم للمطبعة، في عزيمة صادقة رغم حزنه، المجلد الثالث من رسالته، المحتوي على الكتاب الثالث "في الأخلاق". وقد ظهر في 5نوفمبر 1740. وساء تحليله للفضيلة العقلانيين بقدر ما ساء اللاهوتيين. فهو يزعم أن قواعد الفضيلة ليست إلهامات خارقة، ولكنها أيضاً ليست استنتاجات خلص إليها العقل، وذلك- كما يكرر هيوم القول "لأن العقل ليس له تأثير على عواطفنا أو أفعالنا(100)". وحسنا الخلقي ليس مصدره السماء بل التعاطف- شعور الزمالة مع إخواننا من البشر، وهذا الشعور جزء من الغريزة الاجتماعية التي بها نلتمس الارتباط بالغير لخشيتنا من العزلة. "إن أول حالة وموقف للإنسان يمكن أن يوصفا بحق بأنهما اجتماعيان"؛ و "الحالة الطبيعية" التي عاش فيها الناس دون تنظيم اجتماعي "يجب اعتبارها حديث خرافة(101)"، فالمجتمع قديم قدم الإنسان. وإذ كان الناس أعضاء في جماعة، فإنهم سرعان ما تعلموا أن يمتدحوا التصرفات النافعة للجماعة، ويذموا الضارة بها. ثم إن مبدأ التعاطف جعلهم يميلون إلى تقبل أو محاكاة الآراء التي سمعوها من حولهم؛ وبهذه الطريقة اكتسبوا معايير وعادات الثناء واللوم، وطبقوا هذه الأحكام بوعي أو بلا وعي على سلوكهم. هذا في رأي هيوم أصل الضمير، لا صوت الله (كما سيتصور روسو وكانت). ويقول هيوم إن قانون التعاطف هذا، قانون التجاذب الجماعي، هو عام ومنير في العالم الأخلاقي شأن قانون الجاذبية في الكون المادي، ثم يختم بهذه العبارة "وهكذا يحدوني على الجملة الأمل بأنه لا ينقصنا شيء للبرهان الصحيح على هذا النسق من الأخلاق(102)".

وكان المجلد الثالث أقل لفتاً للأنظار حتى من المجلدين السابقين. وظلت بقايا النسخ الألف والمائة، وهي مجموع نسخ الطبع الأولى للرسالة، إلى سنة 1756، مكدسة على رفوف الناشر، ولم يعش هيوم ليرى طبعة ثانية من كتابه.


جـ- الأخلاق والمعجزات

كان واضحاً أنه لا يستطيع كسب قوته بقلمه. وفي 1744 بذل محاولة فاشلة للوصول إلى كرسي الأستاذية بجامعة ادنبره. ولا شك أنه قبل في شيء من الإحساس بالهوان (أبريل 1745) وظيفة معلم خاص لمركيز أنانديل الصغير لقاء راتب قدره 300 جنيه في العام. أما المركيز فقد اختلط عقله، وتبين هيوم أنهم يتوقعون منه أن يكون حارساً لمجنون؛ ونشبت المشاجرات، فطرد (أبريل 1746) واضطر إلى رفع دعوى مطالباً براتيه. ثم اشتغل سنة (1746- 47) سكرتيراً للجنرال جيمس سانت كلير، وكان يتقاضى راتباً طيباً، ويتناول طعاماً طيباً. وفي يوليو 1747 عاد هيوم إلى أدنبرة وهو يملك ويزن من الجنيهات أكثر كثيراً منه حين غادرها. وفي 1748 أعاد الجنرال استخدامه سكرتيراً وياوراً في بعثة إلى تورين، واكنسي ديفد الآن سترة قرمزية متوهجة.

وأعجب جيمس كولفيلد (إيرل تشارلمونت فيما بعد) وكان يومها طالباً بتورين، بذكاء هيوم وخلقه، ولكن أفزعته سمنته. قال:

"إن سحنته حيرت علم الفراسة وأعيت قدراته... في الكشف عن أقل أثر لمواهبه العقلية في ملامح وجهه التي تخلو من المعنى. كان وجهه عريضاً سميناً، وفمه واسعاً، بغير أي تعبير غير تعبير البلاهة... وكانت بدانة جسمه كله أجدر بأن توحي للناظر بفكره العمدة آكل الترسة، لا الفيلسوف المهذب(103)".

ويدعى كولفيلد هذا أنه رأى هيوم (وهو في السابعة والثلاثين) جاثياً على ركبتيه أمام كونتيسة متزوجة (في الرابعة والعشرين)، يبثها غرامه ويعاني عذاب الحب المحتقر؛ أما السيدة فرفضت أن تبادله هذا الغرام قائلة إنه ليس إلا "عملية طبيعية في نسقك الفلسفي". ويقول المصدر نفسه أن هيوم أصيب بالحمى وحاول الانتحار لولا أن منعه الخدم، ويروي اسكتلندي آخر أن هيوم "تناول القربان الأخير" أثناء مرضه على يد كاهن كاثوليكي. وقيل إن هيوم اعتذر عن مطارحة الغرام وعن تناول القربان الأخير قائلاً "إن نظام دماغي كان مختلاً، وكنت مجنوناً لأي نزيل لمستشفى المجاذيب(104)" وفي ديسمبر 1748 عاد إلى لندن وفرغ للفلسفة بعد أن بلغت ثروته ألف جنيه.

واعتزم أن يجدد أذناً مصغية من جديد لأفكار "الرسالة"، فنشر في 1748 "تحقيقاً عن الفهم البشري"، وفي 1751 "تحقيقاً عن مبادئ الأخلاق". وفي "إعلان" قدم به لطبعه لهذين التحقيقين صدرت بعد وفاته (1773) تنكر للرسالة باعتبارها "عملاً صبيانياً" ورجا أن "تعتبر المقالات التالية وحدها هي المحتوية على آرائه ومبادئه الفلسفية(105)". أما تلاميذ هيوم فقد وجدوا عموماً في أعمال هيوم الأولى من الدسم أكثر مما وجدوا في أعماله الأخيرة، فهذه تغطي الأرض نفسها ربما بأسلوب أقل عدواناً وقطعاً، ولكنها تخلص إلى النتائج ذاتها.

وبعد أن أعاد هيوم تحليله الشكي للعقل قدم القسم العاشر من التحقيق الأول، وهو مقالة "في المعجزات" الذي رفض الناشر من قبل أن يطبعه ضمن الرسالة. واستهله باعتداده العادي بنفسه، "إني أغبط نفسي على أنني عثرت على حجة... إذا صدقت كانت للعقلاء والمثقفين رادعاً دائماً لكل ضروب الوهم الخرافي وستكون إذن نافعة أبد الدهر". ثم يطلق أشهر فقراته فيقول:

"ما من شهادة تكفي لإثبات معجزة، إلا إذا كانت الشهادة من يكون فيه كذبها أكثر إعجازاً من الواقعة التي تحاول إثباتها... فإذا أنبأني إنسان بأنه رأى ميتاً يبعث، سألت نفسي للتو أيهما أكثر احتمالاً، أن يكون هذا الشخص خادعاً ومخدوعاً، أو أن الواقعة التي يرويها وقعت فعلاً. فأوازن بين المعجزتين، وطبقاً لرجحان إحداهما... أرفض المعجزة الأكبر. ولن تجد في التاريخ كله معجزة شهد عليهما عدد كاف من الناس، أوتوا من صادق الإدراك والتعليم والثقافة ما يؤمننا أي انخداع قد ينخدعون به، ومن النزاهة التي لا ريب فيها ما يرفعهم فوق أي شبهات من أي قصد في خديعة غيرهم، ومن الثقة وحسن السمعة في أعين البشر ما يجعلهم يخسرون الكثير إذا ضبطوا متلبسين بأي كذبة؛ ويشهدون في الوقت نفسه على وقائع وقعت علانية، وفي جزء مشهور من العالم، مما يجعل الضبط أمراً لا يمكن تجنبه؛ وهذه الظروف كلها لازمة لإعطائنا الثقة الكاملة في الشهادة البشر.

"إن القانون الذي نهتدي به عادة في استدلالاتنا العقلية هو أن الأشياء التي لا خبرة لنا بها تشبه تلك التي لنا بها خبرة؛ وأن ما وجدناه أكثر الأشياء عادية هو دائماً أكثرها احتمالاً؛ وأنه حيث يكون هناك تعارض في الحجج ينبغي لنا أن نفضل تلك القائمة على أكبر عدد من الملاحظات الماضية.. وأنها لقرينه قوية ضد جميع العلاقات الخارجة والإعجازية ما يلاحظ من أنها تكثر على الأخص بين الأمم الجاهلة والهمجية،... ومن الغريب أن مثل هذه العجائب لا تحدث أبداً في أيامنا. ولكن لا غرابة... في أن يكذب الناس في جميع العصور(106)".

واسترسل هيوم في ادعاء عقبات أخرى في طريق الإيمان المسيحي: حياد الطبيعة الهادئ إزاء الإنسان ومنافسيه على الأرض؛ وتنوع الشرور المتكاثر في الحياة والتاريخ؛ ومسئولية الله الواضحة عن خطيئة آدم، وعن جميع الخطايا، في عالم لا يمكن أن يقع فيه شيء- طبقاً لفرض المسيحي- إلا برضي الله. ودرءاً لتهمة الكفر عنه، أجرى هيوم على لسان "صديق يحب المفارقات الشكية" "لا أستطيع أبداً الموافقة" على مبادئه، دفاعاً عن تخيل أبيقور أن الآلهة موجودة ولكنها لا تعبأ بالبشر. ويتساءل الصديق لم لا يمكن أن يتفق الدين والفلسفة على ألا يزعج أحدهما الآخر كما اتفقا- فيما يظن- في الحضارة الهلنستية: "بعد أن انتهى الفزَع الأول الذي نجم عن مفارقات ومبادئ الفلاسفة الجديدة، يبدو أن هؤلاء المعلمين عاشوا طوال العصور القديمة في انسجام عظيم من الخرافة المقررة، وقسموا البشر قسمة عادلة بينهما: فالقسم الأول يدعى لنفسه جميع العلماء والحكماء، والثاني جميع السوقة والأميين(107)". فيا له من أسلوب للمهادنة!

وفي 1749 عاد هيوم إلى إسكتلندة ليعيش مع أخيه وأخته في ضيعتهما بناينويلز. وبعد عامين تزوج جون هيوم، وانتقل ديفيد إلى أدنبرة، وأرسل إلى المطبعة الآن "التحقيق في مبادئ الأخلاق" الذي أما أن يحل محل المجلد الثالث من الرسالة، وأكد من جديد أن الحس الأخلاقي مشتق ن التعاطف أو المشاعر الاجتماعية؛ ورفض ما ذهب إليه سقراط من أن الفضيلة والذكاء شيء واحد؛ واستنكر استنكاراً قاطعاً فكرة لأرشفوكو القائلة بأن الأفعال "الغيرية" مدفوعة أنانياً بأمل اللذة الحاصلة من التقدير الاجتماعي الذي يتوقع أن تحظى به. فاللذة التي نستشعرها في مثل هذه الأفعال، في رأي هيوم، ليست سبباً لها بل مرافقاً ونتيجة لها؛ أما الأفعال ذاتها فهي عملية من عمليات غرائزنا الاجتماعية(108).

ولكن أبرز ملامح هذا التحقيق الثاني هو تفصيله لمبدأ منفعة أخلاقي. فبعد هتشسن بثلاثة وعشرين عاماً، وقبل بنتام بثمانية وثلاثين، عرف هيوم الفضيلة بأنها "كل صفة في العقل نافعة أو لذيذة للشخص نفسه أو لغيره(109)". وعلى هذا الأساس برر الذات الصحية للحياة باعتبارها نافعة للفرد، والمعيار المزدوج للفضيلة باعتباره نافعاً للمجتمع. يقول:

"إن طفولة الإنسان الطويلة العاجزة تقتضي تضافر الوالدين للإبقاء على حياة صغارهما، وهذا التضافر يحتاج إلى فضيلة العفة أو الوفاء للفراش الزوجي.. والخيانة من هذا النوع أشد أذى في المرأة منها في الرجل. ومن ثم كانت قوانين العفة أشد صرامة على أحد الجنسين منها على الآخر(110)". وقد كتب المؤلف المفتون بكتابه عن هذا التحقيق في مبادئ الأخلاق يقول: "في رأيي (أنا الذي ينبغي ألا أكون حكماً في هذا الموضوع) أنه من بين جميع مؤلفاتي.. .. أفضلها بما لا يقاس" وأضاف "لقد ولد غير ملحوظ ولا مرموق في هذه الدنيا(111)".


د- الداروينية والمسيحية

وفي 1751 ألف "حوارات في الدين الطبيعي". وهو أشد ما أخرج مزاجه الشيطاني تخريباً وعدواناً على المقدسات. هنا يتحدث ثلاثة أشخاص، ديميا الذي يدافع عن السنية، وكليانثيس الربوبي، وفيلو الذي هو هيوم لا يخطئه النظر. ويزعم ديميا أنه ما لم نفترض وجود عقل أعلى وراء ظواهر الطبيعة فإن العالم يصبح غير مفهوم إلى حد لا يطاق، ولكنه يسلم أن إلهه غير مفهوم بتاتاً للعقل البشري(112). ويلوم كليانثيس ديميا على محاولته تفسير غير المفهوم بغير المفهوم، ويؤثر أن يثبت وجود الله بأدلة القصد في الطبيعة. أما فيلو فيسخر من الحجتين، ويزعم أن العقل لا يمكن أبداً أن يفسر العالم أو يثبت وجود الله. "فأي امتياز خاص تمتاز به حركة الدماغ الصغيرة هذه التي نسميها الفكر، حتى يتحتم علينا أن نجعلها نموذجاً للكون كله؟(113)". وأما عن القصد، فإن تكييف الأعضاء لتلائم الأغراض ربما لم ينشأ عن إرشاد إلهي، بل عن تجارب الطبيعة، البطيئة المتخبطة، خلال آلاف السنين(114). (هنا نجد "الانتخاب الطبيعي" بعد 1.800 سنة من لوكرينيوس، وقبل 108 سنة من داروين). وحتى لو سلمنا بالقصد فوق الطبيعي، فإن قصور التكييفات وعيوبها، وآلاف الآلام في دنيا الإنسان والحيوان، تكشف لنا- على أحسن الفروض- عن إله محدود القدرات والذكاء، أو إله غير مكترث للبشر بتاتاً. "فحياة الإنسان في النهاية ليست أعظم أهمية للكون عن حياة المحارة(115)" يقول:

"يخيل للمرء أن هذا الإنتاج الفخم لم يتلق آخر اللمسات من خالقه، فكل جزء فيه ناقص الصقل جداً، والخطوط التي نُفذ بها غاية في الخشونة. فالرياح مثلاً تساعد الناس على الملاحة، ولكن وما أكثر أن تصبح مؤذية حين تنقلب زوابع وأعاصير! والأمطار ضرورية لتغذية جميع نباتات الأرض وحيواناتها، ولكن ما أكثر ما تكون شحيحة وما أكثر ما تكون مسرفة!... ليس في الكون شيء كثير النفع إلا انقلب المرة بعد المرة مؤذياً لإفراطه أو قصوره، ثم أن الطبيعة لم تتخذ حيطتها بالدقة المطلوبة من جميع ألوان الخلل أو الفوضى(116)".

وأسوأ من هذا أن الأمر لا يقتصر على وجود الخلل وسط النظام (إذا نظرنا إلى العالم على أنه مخطط)، بل إن في وسط الحياة الزاخرة صراعاً عقيماً على الدوام مع الموت.

"إن حرباً لا يخمد لها أوار تستعر بين جميع الكائنات الحية. فالضرورة، والجوع، والعوز- تحفز الأقوياء والشجعان، والخوف، والقلق، والرعب، تقلق الضعفاء والعاجزين. وأول مدخل للوليد إلى الحياة فيه ألم مبرح له ولأمه المسكينة، والضعف والعجز والضيق رفقاء كل مرحلة من مراحل تلك الحياة، ثم يختم آخر الأمر بالعذاب والرعب.. لاحظ أيضاً.. حيل الطبيعة العجيبة، لتكدر حياة كل كائن حي.. .. تأمل ذلك الجيش العرمرم من الحشرات التي تتربى على جسم كل حيوان، أو تغرز حمتها فيه وهي تطير من حوله... فكل حيوان يحدق به أعداء يسعون على الدوام إلى إشقائه وتدميره.. ولإنسان ألد خصوم الإنسان. فالقهر، والظلم، والاحتقار والإهانة، والعنف، والإغواء، والحرب، والافتراء، والغدر، والتزييف؛ بهذه يعذب الناس بعضهم بعضاً(117).

"انظر إلى هذا الكون نظرة محيطة. يا لها من وفرة هائلة في الكائنات، الحية المنظمة، الحساسة النشيطة! إنك لتعجب بهذا التنوع الضخم وهذه الخصوبة الهائلة. ولكن افحص بتدقيق أكثر هذه الكائنات الحية... ما أشد عداءها وتدميرها بعضها لبعض!... والكل لا يمثل سوى فكرة الطبيعة العمياء، التي تزخر بمبدأ محي عظيم، ويتدفق من حجرها دون تمييز أو رعاية أبوية أطفالها الشائهون المجهضون(118)".

وتوحي الأدلة المتضاربة على الخير والشر في العالم إلى فيلو بثنائية الآلهة المتنافسين أو تعددهم، بعضهم "أخيار" وبعضهم "أشرار"، وربما كانوا مختلفي الجنس. وهو يلمع في خبث إلى أن العالم:

"لم يكن سوى المحاولة الفجة الأولى لإله طفل أقلع عنها بعد ذلك خجلاً من إنجازه الأعرج.. أو أنه نتاج الشيخوخة والخرف في إله طعن في السن، وبعد موته واصل العالم مسيرته مغامراً، مدفوعاً بالدفعة والقوة الفعالة الأولى التي تلقاها منه(119)".

ولعل العالم كما أكد البراهمة "نشأ عن عنكبوت لا نهائي غزل خيوطه المعقدة كلها من أمعائه... فلم لا يغزل نسق منظم من البطن كما يغزل من الدماغ؟(120)". فتكون الخليقة والحالة هذه أنسالاً. أو ربما "كان العالم حيواناً والإله روح العالم التي تحركه وتتحرك به(121)".

وبعد هذا المزاح كله يعود فيلو إلى القصد، فيسلم بأن "علة النظام أو علله في الكون فيها على الأرجح بعض الشبه بالذكاء الإنساني(122)". ثم يعتذر عن آرائه المخزية عن الكون:

"يجب أن أعترف أنني أقل حذراً في موضوع الدين الطبيعي مني في أي موضوع آخر... وأنك على الأخص يا كليانثيس، أنت الذي أعيش معه في علاقة حميمة بغير قيود، تدرك أنني رغم تحور حديثي، وحبي للحجج الغريبة، فليس هناك من طبع ذهنه بإحساس بالدين أعمق من إحساسي، أو من يعبد الكاهن الإلهي عبادة أعمق إذ يكتشف في نفسه أنه يناقش أساليب الطبيعة وحيلها التي لا يمكن تفسيرها. فالقصد، أو النية، أو التخطيط، يسترعي في كل مكان نظر أشد المفكرين غفلة وغباء، وما من رجل يمكن أن يتجمد في المذاهب الفلسفة السخيفة تجمداً يجعله يرفض هذا القصد على طول الخط(123)".

على أن أصحاب هيوم ناشدوه ألا ينشر الحوارات رغم هذا العرض بالمصالحة. فأذعن، وحبس المخطوطة في مكتبه، فلم تر النور إلا في عام 179، بعد موته بثلاث سنوات. ولكن افتتانه بالدين أغراه بالعودة إلى الموضوع، وفي 1757 نشر "أربع مقالات" تناولت إحداها "تاريخاً طبيعياً للدين". وسحب مقالين آخرين بناء على إلحاح ناشره، وقد طبعا حين كان أبعد من أن يناله خوف أو لوم؛ وأحد المقالين عن الخلود، والآخر تبرير للانتحار حين يصبح الشخص عبئاً على إخوانه.

ومقال "التاريخ الطبيعي للدين" هذا يجمع بين اهتمام هيوم القديم بالدين، واهتمامه الجديد بالتاريخ. فقد فات مرحلة الهجوم على المعتقدات القديمة إلى مرحلة التساؤل عن كيفية توصل الإنسان إلى اعتناقها. ولكنه لا يميل إلى البحث الصابر المستأني، حتى بين المواد الشحيحة المتاحة آنئذ عن الأصول الاجتماعية، بل يؤثر أن يتناول المشكلة بالتحليل السيكولوجي والاستنباط العقلي. فعقل الإنسان البدائي فسر العلية كلها قياساً على إرادته وسلوكه، فوراء أعمال الطبيعة وأشكالها- كالأنهار والمحيطات والجبال والعواصف والأوبئة والعجائب الخ- تصور هذا الإنسان أعمالاً إرادية يقوم بها أشخاص مختفون ذوو قدرة خارقة؛ ومن هنا كان الشرك أول ضروب الإيمان الديني. وإذ كانت قوى أو أحداث كثيرة مؤذية للإنسان، فقد كان لخوف نصيب موفور في أساطيره وعباداته، فجسد هذه القوى الشريرة والشياطين وحاول أن يسترضيها. ولعل الإله لذي آمن به كلفن كان شيطاناً قاسياً، خبيثاً، مستبداً، صعب الإرضاء (وهذه إشارة خبيثة من هيوم)(124). وإذ تصور الإنسان الآلهة الخيرة على شكل البشر- إلا من حيث القوة والدوام، فإنه افترض أنها تمنح العون والراحة بقاء الهدايا والزلفى، ومن ثم كانت طقوس القرابين، والضحايا، والعبادة، وصلاة التضرع. وبازدياد التنظيم الاجتماعي حجماً واتساعاً، وبخضوع الحكام المحليين لملوك أعظم، موت دنيا اللاهوت بتغيير مشابه، فعزا الإنسان في الخيال إلى الآلهة نظاماً هرمياً تسوده الطاعة، وانبعث التوحيد من الشرك، وبينما كانت الجماهير لا تزال تجثو للآلهة أو القديسين المحليين، عبد المثقفون زيوس، أو جوبتر، أو الله.

ولسوء الحظ أصبح الدين أكثر تعصباً كلما غدا أكثر توحيداً. فالشرك سمح بألوان كثيرة من العقيدة الدينية، أما التوحيد فقد طالب بالتماثل. وانتشر الاضطهاد، وغدت الصيحة المطالبة بالعقيدة السنية "أعنف العواطف الإنسانية وأعتاها جميعاً(125)". وأكرهت الفلسفة على أن تكون خادماً لإيمان الجماهير ومدافعاً عنه بعد أن كانت مطلقة نسبياً بين القدامى باعتبارها دين الصفوة. وفي هذه العقائد التوحيدية- اليهودية والمسيحية والإسلام- فصل الاستحقاق و "الخلاص" أكثر فأكثر عن الفضيلة، وربط بحفظ الشعائر والإيمان الأعمى. وترتب على هذا أن المتعلمين أصبحوا أما شهداء وأما منافقين، وبما أنهم قلّما اختاروا الاستشهاد، فإن حياة البشر لوثها النفاق وعدم الإخلاص.

على أن هيوم كان يغضي عن قدر من النفاق، وذلك في نوباته الأقل ولعاً بالقتال. مثال ذلك أنه حين استشاره قسيس شاب فقد إيمانه أيبقى في الكنيسة ويقبل وظائفها، أجاب ديفد، ابق:

"إن الوظائف المدنية الصالحة للمثقفين نادرة... ومن المغالاة في احترام العامة ونزعاتهم الخرافية أن يعتز المرء بإخلاصه معهم. فهل حدث مرة أن التزم إنسان بشرفه بأن يقول الصدق للأطفال أو المجانين؟... والوظيفة الكنسية إنما تضيف القليل إلى الخداع أو قل التظاهر- البريء- الذي يبدونه يستحيل على المرء أن يشق طريقه في هذه الدنيا(126)".


هـ- الشيوعية والديمقراطية

اتجه هيوم في أخريات عمره أكثر فأكثر إلى السياسة والتاريخ بعد أن أعياه الجدل حول مسائل يقررها الوجدان- في رأيه أكثر مما يقررها العقل. ففي 1752 نشر "أحاديث سياسية". وقد أدهشته إقبال القراء عليها. وأبهج إنجلترا أن تنسي نزعته لاهوته المدمرة في النزعة المحافظة لسياسته. كان يتعاطف بعض الشيء مع التطلعات إلى مساواة شيوعية:

"لا بد في الحق من الاعتراف بأن الطبيعة سخت على الإنسان سخاء يتيح لكل فرد أن يتمتع بجميع ضروريات الحياة، بل أكثر كمالياتها، لو أن عطاياها كلها قسمت بالقسط بين الأنواع، وحسنت بالفن والصناعة،.. كذلك لا بد من الاعتراف بأننا أينما خرجنا على هذه المساواة سلبنا من الفقراء رضي أكثر مما نضيف إلى الأغنياء، وبأن الإشباع الطفيف لغرور طائش في فرد واحد، كثيراً ما كلف أكثر مما يكلفه الخبز لكثير من الأسر بل الأقاليم".

ولكنه أحس أن الطبيعة البشرية تجعل حلم المدينة الفاضلة التي تسودها المساواة ضرباً من المحال:

"إن المؤرخين ينبئوننا، لا بل الفطرة السلمية تنبئنا، بأن هذه الأفكار عن المساواة "التامة" مهما بدت قيمة إلا أنها في صميمها "غير ممكنة عملياً"، وألا لألحقت أشد الأذى بالمجتمع الإنساني. فلو أنك سوبت تسوية كاملة بين الملكيات، لحطمت درجات الناس ومراتبهم المختلفة من حيث الصنعة والعناية والجد تلك المساواة فوراً. أو لو فرضت الرقابة على هذه الفضائل... لأحتجت إلى أكثر محاكم التفتيش صرامة لمراقبة أي ضرب من عدم مساواة بمجرد ظهوره، وأشد السلطات القضائية صرامة لعقابه وإصلاحه.. .. فمثل هذا السلطان المفرط لا بد أن ينحدر سريعاً إلى درك الطغيان(127)".

ونالت الديمقراطية من هيوم، كما نالت الشيوعية، رفضه المتعاطف. فالمبدأ في رأيه "مبدأ... نبيل في ذاته... ولكن تكذبه كل التجارب، أن الناس هم الأصل في كل ضروب الحكم العادل(128)". ورفض النظرية (التي سيحييها روسو بعد قليل) القائلة بأن الحكومة نشأت أصلاً من "تعاقد اجتماعي" بين الناس، أو بين الشعب والحاكم، لأنها نظرية صبيانية:

"فكل الحكومات الموجودة الآن تقريباً، أو التي خلفت لنا أي سجل في التاريخ، أسست أصلاً إما على الاغتصاب، أو على الغزو، أو عليهما جميعاً، دون أن تزعم بأنها حظيت بموافقة الشعب، أو بخضوعه الاختياري. وأغلب الظن أن أول سيطرة الإنسان على الجماهير بدأت في حالة الحرب.. .. وكان من أثر استمرار تلك الحالة طويلاً... وهو أمر مألوف لدى القبائل المتوحشة، أن الشعب تعود الخضوع(129)".

وهكذا أصبحت الملكية أكثر أشكال الحكم انتشاراً، ودواماً، وأذن فأكثرها عملية على الأرجح. "إن الأمير الوراثي، والنبلاء دون أتباعهم، والشعب الذي يصوت بواسطة ممثليه، يؤلفون خير ملكية، وأرستقراطية، وديمقراطية(130)".

وبالإضافة إلى تفنيد هيوم لروسو سلفاً، استخدم أسلوبه "الأديسوني" لينبذ سلفاً نظرية مونتسكيو التي تزعم أن مناخ البلد يقرر طبع أهله. كتب يقول في "مقالات أخلاقية وسياسية" ظهرت طبعته الثانية في آن واحد تقريباً (1748) مع "روح القوانين": "أما عن الأسباب الطبيعية فإني أميل إلى الشك في مفعولها في هذا المجال. كذلك لا أظن أن الناس يدينون بأي شيء في طبعهم أو نبوغهم للهواء أو الغذاء أو المناخ(131)". فالخلق القومي يترتب على الحدود القومية لا المناطق المناخية، وأهم ما يقرره هو القوانين والحكومة وهيكل المجتمع وأعمال السكان ومحاكاة الجيران أو الرؤساء.

في ظل هذه العوامل المختلفة المحلية تكون الطبيعة البشرية أساساً طبيعة واحدة في كل زمان ومكان؛ فالدوافع والغرائز ذاتها، التي تفرضها دواعي البقاء، تنتج أساساً، في جميع العصور والأقطار، الأفعال والنتائج ذاتها.

"فالطموح والجشع ومحبة الذات والغرور والصداقة والكرم وروح الجماعة- هذه العواطف، المختلطة بدرجات متفاوتة، والموزعة بين أفراد المجتمع، كانت منذ أن وجدت الدنيا وما زالت مصدر جميع الأفعال والمشروعات التي لوحظت بين بني البشر. أتريد أن تعرف عواطف اليونان والرومان وميولهم وسير حياتهم؟ إذن فادرس جيداً طبائع الفرنسيين والإنجليز وأفعالهم، فلن تخطئ كثيراً أن طبقت على الأولين معظم الملاحظات التي لاحظتها على الآخرين- فالبشر شيديو التشابه في كل زمان ومكان حتى إن التاريخ لا يضيف إلى علمنا جديداً أو غريباً في هذا الباب. وأهم فائدة له أن يكشف عن المبادئ الثابتة والعامة للطبيعة البشرية بعرضه البشر في شتى الظروف والمواقف، ويمدنا بالمواد التي نكون منها ملاحظاتنا ونحيط منها علماً بالمنابع المنتظمة لأفعال البشر وسلوكهم. فهذه السجلات للحروب والدسائس والأحزاب والثورات هي مجموعات كبيرة من التجارب يستعين بها فيلسوف السياسة أو الأخلاق على تحديد مبادئ علمه (132)".

وقد أضاف هيوم إضافات قيمة للفكر الاقتصادي في كتابيه "أحاديث سياسية" و "مقالات ورسائل في موضوعات مختلفة" (1753). ذلك أنه رفض رأي الفيزوقراطيين الفرنسيين القائل بأن جميع الضرائب تقع في النهاية على الأرض. وذهب إلى أنها تقع في النهاية على العمل، لأن "كل شيء في العالم يشترى بالعمل(133)" (وهو هنا مردد صدى لوك). وحتى قبل أن تتشكل الثورة الصناعية تنبأ بأن العمال "سيرفعون أجورهم بالتكتل"، وندد بتمويل المصروفات والمشروعات الحكومية بالضرائب المرتفعة والإصدارات المتكررة للسندات، وتنبأ بأن مثل هذه الإجراءات الضريبية ستجر "الحكومات الحرة" إلى "حالة العبودية التي ترزخ تحتها جميع الأمم المحيطة بنا"(134). والنقود ليست هي الثروة، وسك مقادير تزيد على متطلبات التجارة منها إنما يرفع الأسعار ويعرقل التجارة الخارجية. والنظرية "المركنتلية" الخاطئة التي ما زالت تحمل الدول الأوربية على التركيز على الصادرات، ومنع الواردات، وتجميع الذهب، ستحرم أوربا من المنافع الدولية الناشئة عن قدرة كل أمة على إنتاج سلع نوعية بفضل التربة والمناخ والمهارات الخاصة بأدنى تكلفة وأعلى جودة. ثم جرؤ على أن يصلي:

"لا بوصفي إنساناً فحسب، بل أحد الرعايا البريطانيين،.. لأجل التجارة المزدهرة لألمانيا، وأسبانيا، وإيطاليا، بل وفرنسا ذاتها. وإني على الأقل واثق أن بريطانيا العظمى وهذه الأمم جميعاً سيزيد ازدهارها لو أن ملوكها ووزراءها اعتنقوا هذه الآراء السمحة الخيرة نحو بعضهم البعض... فازدياد الثروة والتجارة في أي أمة لا يؤذي وإنما على العكس من ذلك يدعم عادة ثروة وتجارة جيرانها جميعاً(135)".

هذه الأفكار، التي ربما كانت متأثرة بمذهب "عدم التدخل" الذي نادى به الفيزيوقراطيون، أثرت بدورها في آدم سمث، صديق هيوم، ولعبت دوراً في تطوير سياسة بريطانية تقول بحرية التجارة، وهي تجد تحقيقها في أوربا الغربية في عصرنا هذا.


و- التاريخ

في 1752 بعد حملة شنها عليه الحزب السني الذي اتهمه بأنه زنديق وقح، انتخب هيوم أميناً لمكتبة كلية المحامين بأدنبرة. وكان المنصب كبير المعنى في نظره رغم تواضع راتبه الذي لم يزد على أربعين جنيهاً في العام، لأنه جعله السيد المتصرف في ثلاثين ألف مجلد. وبفضل وجود هذه المكتبة في متناوله استطاع أن يؤلف كتابه "تاريخ إنجلترا". وكان في عام 1748 قد اعترف إلى صديق له بهذه الكلمات "لقد طالما نويت أن أؤلف كتاب تاريخ في سني حياتي الأكثر نضجاً(136)". وكان يسمى التاريخ "الخليلة العظمى للحكمة(137)"، ويؤمل أن يجدد فيه أسباب نهوض الأمم وسقوطها، يضاف إلى هذا:

"أن نرى النوع الإنساني كله يمر بنا وكأنه في عرض أمامنا. بادياً على سجيته، دون أي من هذه الاستخفاءات التي طالما شوشت حكم المتفرجين على هؤلاء الناس أثناء حياتهم- فأي مشهد آخر يمكن أن تتصوره بهذا البهاء والتنويع والتشويق؟ وأي متعة للحواس أو الخيال يمكن أن تقارن به؟(138)".

إن مظاهر القرن الثامن عشر أنه أنجب في جيل واحد ثلاثة من أعظم مؤرخي العالم؛ ڤولتير، وهيوم، وجبون، وكلهم مؤسس في الفلسفة، محاول أن يعيد تفسير التاريخ بلغة غير اللاهوت، وفي أعرض منظور للمعرفة حشده زمانه. ولم يملّ جبون من الثناء على هيوم والإقرار بفضل تأثيره، وكان يقدر إطراء هيوم للمجلد الأول ممن "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" (1776) فوق كل إطراء آخر. فهل كان هيوم بدوره مديناً بالكثير لفولتير؟ كان قد توصل إلى فلسفته وصاغها كباحث مدين للربوبيين الإنجليز لا للشكاك الفرنسيين. "والرسالة في الطبيعة البشرية" سبقت كل الأعمال الكبرى التي كتبها فولتير وديدرو ومونتسكيو. ولكن ربما كان كتاب هيوم "تاريخ إنجلترا" (1754- 62) مديناً بشيء لكتاب فولتير "عصر لويس الرابع عشر" (1751)، وحتى لكتاب "مقال في العرف" الذي طبعت أجزاء منه في 1745 و1755. هؤلاء المؤرخون الثلاثة كلهم أجمعوا على فضح الخرافة، ورفض التفسيرات الخارقة، والتوحيد بين التقدم وتطور المعرفة والعادات والفنون.

وكتب هيوم تاريخه إلى الخلف. فغطى مجلده الأول الصادر في (1754) عهدي جيمس الأول وتشارلز الأول- السنوات 1603- 49، والثاني (الصادر في 1756) امتد من 1649 إلى 1688، والثالث والرابع (الصادران في 1759) من 1485 إلى 1603، والخامس والسادس (الصادران في 1761) من غزو يوليوس قيصر لإنجلترا إلى ارتقاء هنري السابع العرش في 1485.

وقد أدهشه عنف النقد الذي هوجم به المجلد الأول. كان يؤمن بأن تسلط حزب الأحرار على إنجلترا منذ استقدموا وليم الثالث في 1688، وخوفهم من الثورتين الأستيوارتيتين الناشبتين في 1715 و1745، قد لوثا كتابة التاريخ الرسمي الإنجليزي بالعداء لأسرة ستيوارت، ثم زعم أنه بريء من النزعات المضادة. "رأيتني المؤرخ الوحيد الذي أهمل في وقت واحد الحكومة والمصلحة والسلطة الراهنة من جهة، وصيحة التحيز الجماهيري من جهة أخرى(136)". ولكنه نسي أنه اسكتلندي، وأن إسكتلندة ما زالت تبكي سراً أميرها الجميل تشارلي، وأن الاسكتلنديين، وأغلب الظن أن هيوم لم يشذ عنهم، لم يغفروا قط لإنجلترا قتلها تشارلز الأول نصف الاسكتلندي، واستقدامها أولاً رجلاً هولندياً، ثم آخر ألمانياً، لحكم إنجلترا وإسكتلندة وويلز. فبينما نراه يسلم بأن تشارلز الأول جاوز حدود الامتيازات الملكية واستحق أن يخلع، نجده بصور البرلمان متجاوزاً بالمثل حقه، ومذنباً بالمثل في أمر الحرب الأهلية. ولقد سلم بحق لامة في خلع الملك الصالح، ولكنه تمنى لو أن أحداً لم يدفع هذا الحق قط إلى نهايته، وخاف من "هياج الشعب وظلمه" وأحس أن إعدام تشارلز "الرجل المعتدل الكريم النفس" قد زعزع بشكل خطر عادات الشعب في احترام الحكومة. واحتقر البيورتان لأنهم "منافقون متظاهرون بالتقوى "لوثوا" لغتهم "برطانه" غامضة و "ووشوا آثامهم بالصلوات(140)". وحكم على فترة الكومونولث (جمهورية كرومويل) بأنها فترة تقوى قاتلة، وطغيان عسكري، وفوضى اجتماعية، لم تبرأ البلاد منها إلا بعودة أسرة ستيوارت إلى العرش. وقد ذهب فولتير في عرضه لتاريخ هيوم إلى أنه منصف تمام الإنصاف:ا

"إن المستر هيوم... غير متحيز للبرلمان ولا للملكية، ولا هو أنجليكاني ولا مشيخي، إنما هو رجل منصف لا أكثر. فلقد طالما حرم جنون الحزبية إنجلترا من المؤرخ النزيه كما حرمها من الحكومة الصالحة. فما كتبه محافظ كان يرفضه الأحرار، الذين يكذبهم المحافظون بدورهم... ولكننا نجد في المؤرخ الجديد ذهناً يسمو فوق مظانه، يتحدث عن مواطن الضعف وعن الأخطاء الجسمية وأفعال القسوة حيث الطبيب عن الأوبئة(141)".

أما النقاد البريطانيون فلم يوافقوا فولتير. فهو لم يأخذوا على هيوم إنه قل أن رجع إلى المصادر الأصلية، بل (كما ذكر فيما بعد) "هوجم بصيحة واحدة كلها لوم واستنكار، بل بغض وكراهية. فالإنجليز، والاسكتلنديون، والإيرلنديون، والأحرار، والمحافظون، ورجال الكنيسة الأنجليكانية وأتباع المذاهب المنشقة، وأحرار الفكر المتدينون، والوطنيون والحاشية- كل أولئك أجمعوا على السخط على الرجل الذي جرؤ على أن يذرف دمعة كريمة على مصير تشارلز الأول وايرل سترافورد. وبعد أن همدت السورة الأولى لغضبتهم، كان أشد خزياً ما بدأ من أن الكتاب طوى في زوايا النسيان. وقد أخبرني المستر ملر أنه لم يبع خلال اثني عشر شهراً إلا خمسة وأربعين نسخة منه(142)".

وقد فت هذا في عضده حتى لقد حدثته نفسه حيناً بأن يرحل كما رحل في شبابه إلى مدينة من مدن الأقاليم في فرنسا، حيث يستطيع العيش باسم منتحل. ولكن فرنسا وإنجلترا كانتا تقتتلان، وقد أوشك المجلد الثاني على نهايته، فاعتزم أن يواصل العمل. وازداد تحيزه بسبب ما لقي من معارضة، ففي تنقيحه للمجلد الأول أدخل "نيفا ومائة تغيير". ولكنه يقول بكل البهجة الخبيثة التي يستشعرها عفريت ضخم "جعلتها كلها في صف المحافظين(143)" ومع ذلك بيع من المجلدات التالية عدد لا بأس به، ورحب به المحافظون الآن محامياً شديد المرس، وسلم بعض الأحرار بسحر أسلوبه البسيط، الواضح، البتار، الصريح، الذي سبق أحياناً وقار جبون الحصيف. فوصفه للصراع المثير بين هنري الثاني وتوماس أبيكيت يضارع رواية جبون لاستيلاء العثمانيين على القسطنطينية. ورفع تأثير المجلدات الستة المتراكم صيت هيوم إلى ذروته. وفي 1762 ذهب بوزويل في تقديره له إلى أنه "أعظم الكتاب في بريطانيا(144)"- ولكن بوزويل كان اسكتلندياً. وفي 1764 صرح فولتير في تواضع بأن الكتاب "ربما كان أفضل تاريخ كتب في أي لغة إطلاقاً(145)" وقد زاحه جبون وماكولي إلى الظل، ووازن ماكولي تحيزه بتحيز معادل، ولا ينصحنا المؤرخون بقراءة كتاب هيوم اليوم، لأن تسجيله للوقائع قد طرأت عليه تحسينات منذ أمد بعيد، ولكن قارئاً بدأ قراءته باعتباره واجباً فوجده فيه الإنارة والمتعة.


ز- الفيلسوف العجوز

في 1755 بدأت حركة يقودها بعض رجال الدين الاسكتلنديين لاتهام هيوم أمام مجمع الكنيسة العامة بتهمة الزندقة، وكان "التنوير الاسكتلندي" قد أنجب حركة متحررة بين شباب القساوسة، فاستطاعوا أن يحولوا دون أي إدانة علنية للفيلسوف- المؤرخ؛ ولكن الهجمات الكنيسة اتصلت هذه، ولدغته لدغات جعلته يعود إلى التفكير في الفرار. وواتته فرصته حين دعاه ايرل هرتفورد (1763) ليكون نائب سكرتير له في سفارة لفرنسا، وحصل له على معاش قدره 200 جنيه مدى الحياة.

وكان منذ أمد بعيد معجباً بالفكر الفرنسي، وقد تأثر بالرعيل الأول من كتاب "التنوير"الفرنسي، وراسل مونتسكيو وفولتير. وكانت أعماله تحظى في فرنسا بثناء يفوق كثيراً ما حظيت به في إنجلترا. وعشقته الكونتيسة دبوفليه من قراءة كتبه، وكتبت له تتملقه، وجاءت لندن إلى لتراه، فأفلت منها. ولكن حين وصل باريس بسطت عليه رعايتها، وجعلته بطل صالونها، وناضلت لتوقظ صدره عاطفة الرجولة، ولكنه وجدته أثبت وأرسي من أن تجرفه رياح الغرام. وكان يدعى للمآدب في الاجتماع تلو الاجتماع. قالت مدام دبينيه "لاتكتمل بدونه". وفتحت له الأرستقراطية ذراعيها، ورفت من حوله عظيمات النساء- حتى بومبادور العليلة. وكتب يقول: "إني واثق أن لويس الرابع عشر لم يكابد قط في أي ثلاثة أسابيع من حياته مثل هذا التملق الكثير". والتقى بطورجو ودالمبير ودولباخ وديدرو، ودعاه فولتير من عرشه النائي في فرنيه "يا قديسي ديفد". وأدهش ايرل هرتفورد أن يجد الناس يسعون وراء سكرتيره وينحنون له أكثر كثيراً مما يفعلون معه. ولكن هوراس ولبول غاظه هذا كله، وسخر بعض "الفلاسفة" من بدانة هيوم غيرة منه. وفي إحدى الحفلات بعد أن دخل هيوم عقب دالمبير بآية من الإنجيل الرابع (يوحنا) "والكلمة صار جسداً" وقيل إن إحدى السيدات المعجبات بهيوم ردت عنها على الملاحظة بحضور بديهة عجيب "والكلمة صار محبوباً(146)". لا عجب أن يكتب هيوم، الذي ناكده خصومه في أدنبرة، وكرهون في لندن، "إن الحياة في باريس تبعث على الرضي الحقيقي لوفرة مجتمع الأشخاص المعقولين الأذكياء المهذبين، الذين تزخر بهم المدينة(147)".

وفي نوفمبر 1965 أقبل سفير بريطاني جديد، فأنهى استخدام هيوم فعاد إلى أدنبرة، ولكن في 1767 قبل وظيفة وكيل في وزارة الخارجية بلندن. في هذه الفترة أتى بروسو إلى إنجلترا، فخلق له متاعب مشهورة، ولا بد من إرجاء هذه القصة الآن. وفي أغسطس 1769، حين بلغ الثانية والخمسين، عاد نهائياً إلى أدنبرة، وقد غدا الآن "غنياً جداً (لأنني كنت أملك دخلاً قدره ألف جنيه في العام) صحيح البدن، أتوقع- رغم أني طعنت في السن بعض الشيء- أن استمتع طويلاً بالراحة، وأن أرى شهرتي في اتساع(148)".

وأصبح بيته في شارع سانت ديفد صالوناً يجتمع فيه من حوله آدم سمث ووليم روبرتسن وغيرهما من مشاهير الاسكتلنديين كأنه ملكهم المعترف به. ولم يحبوه لرجاحة ذهنه فحسب، فقد رأوا أنه رغم استدلالات العقلية المحطمة للمقدسات، محدث ظريف بشوش معتدل في الجدل متسامح مع الآراء المعارضة، لا يسمح للخلاف في الأفكار بالانتقاص من حرارة صداقاته. ويبدو أنه (كمونتيني وفولتير) كان يضع الصداقة فوق الحب. "إن الصداقة بهجة الحياة الإنسانية الكبرى(149)". ومع ذلك كان محبوباً من النساء، ربما لأنه لم يكن متزوجاً. وكان الضيف الأثير في بيوت كثيرة، وإذا كانت سمنته تتلف المقاعد(150)، فإن خفة روحه عوضت عن ثقل بدنه، وقد اقترح ضريبة على السمنة، ولكنه توقع أن "بعض القساوسة قد يدعون أن الكنيسة في خطر"، وكان يبارك ذكرى يوليوس قيصر لأنه آثر السمان من الرجال- قال آدم سمث: "كنت على الجملة أعده دائماً.. أقرب ما تسمح به طبيعة الضعف البشري من فكرة عن الرجل الكامل الحكمة والفضيلة(151)".

وإذا لم يكن بد من البحث عن نقائص في هذا الخلق الذي بلغ غاية اللطف، أو عن بقعة معتمة في هذا الذهن الألمعي، فإن أكبر أخطائه التي يصعب اغتفارها له هي إشاراته إلى "الفرض البشع" الذي افترضه سبينوزا "الكافر"(152)، وهي إشارات لا بد أن الهدف منها كان تغيير لون جلده ليحمي نفسه. ولقد كانت سيكولوجية هيوم أكثر سيكولوجيات زمانه نفاذاً، ولكنها لم تعلل تماماً الإحساس بالهوية الشخصية؛ فإن حالة نفسية ما لا تستدعي حالة نفسية أخرى فحسب، بل قد تستدعيها باعتبارها حالتي "أنا"، وإحلال "التتابع المنتظم" محل "العلة" لا يتطلب سوى تغيير في العبارة؛ و "التتابع المنتظم" كاف للعلم والفلسفة؛ وكتابه "تاريخ إنجلترا" لا يفتأ يحاول تفسير الأحداث بالأسباب(153)". وإن شكوكيه تخلى عنها صاحبه صراحة في الحياة العملية، لا بد أن تكون خاطئة من حيث نظريتها، لأن الممارسة هي المحك النهائي للنظرية. ومن الغريب أن هيوم مع ردّه العلة إلى العرف، والفضيلة إلى شعور التعاطف، لم يعط وزناً يذكر للعرف والشعور في تفسيره للدين، وأبدى أقل التعاطف مع وظائف الدين الملحة في التاريخ. وكان عديم الإحساس بتعزيات الإيمان، والراحة التي كان يمسح بها على النفوس المقشعرة أمام سر الوجود وضخامته، أو وحشة الزن، أو حتمية الهزة القاسية. لقد كان نجاح وسلي رد التاريخ على هيوم.

على أننا برغم هذه الاعتراضات التافهة نعود إلى الإقرار بما اتسم به ذهن هيوم النفاذ من رهافة بتارة. لقد كان هو وحده "التنوير للجزر البريطانية، ونحن إذا استثنينا مجال الرؤية السياسية، وجدنا أن أثر هيوم أساساً كان في بريطانيا معادلاً لأثر نيف وعشرة فلاسفة في فرنسا.. ومع أنه كان يشعر بالتأثير الفرنسي شعوراً عميقاً، فإنه توصل إلى أفكار التنوير، وكان بعض لطماته البالغة الشدة قبل أن يجرد "الفلاسفة"- بل فولتير- مخالبهم على "العار" l'inf(me، لقد كانوا مدينين له بقدر دينه لهم. كتب إليه ديدرو يقول: "إني أحييك، إني أحبك، إني أجلك(154)" وفي إنجلترا أنهى مذهب الربوبية بتحديه قدرة العقل لا إلى أسوار العقيدة القديمة فحسب، بل إلى قلعته الحصينة. وكان جبون سليل هيوم في الفلسفة، وتلميذه الذي بزه في التاريخ. وفي ألمانيا أيقظ كتابه "تحقيق في الفهم البشري" كانت من "سباته الدجماطيقي" بما بدا من تقويضه لكل العلم والميتافيزيقا واللاهوت عن طريق تشككه في موضوعية العلة. وبعد أن قرأ كانت مخطوطة الترجمة التي قام بها هامان لكتاب "الحوارات حول الدين الطبيعي "أدمج في إعداده النهائي لكتابه "نقد العقل الخاص" (1781) انتقادات هيوم للحجة القائمة على القصد، واعتبر هذه الانتقادات مستعصية على الرد(155).

وقد كتب هيوم يقول "أتمنى أن يكون حظي- لأجلي ولأجل أصدقائي جميعاً- أن أقف دون عتبة الشيخوخة فلا أوغل في ذلك الإقليم الكئيب(156). واستجاب له الحظ. تقول ترجمته الذاتية:

"في ربيع 1775 أصبت باضطراب في أمعائي لم يفزعني في لأول وهلة، ولكنه أصبح بعد ذلك، كما خشيت، قتالاً لا شفاء منه. وإني الآن أعلق أملي على الانحلال السريع. لقد عانيت ألماً طفيفاً جداً من اضطرابي هذا، وأعجب من ذلك أنني برغم التدهور الشديد الذي ألم ببدني، لم أعان قط ولو للحظة واحدة أي هبوط في معنوياتي، بحيث لو طلب إلى أن أسمي فترة حياتي التي أوثر أن أعيشها من جديد فربما أغربت بأي أسمى هذه الفترة الأخيرة. فعندي الحماسة ذاتها التي ألفتها في الدرس، والمرح في صحبة الإخوان، ثم أنني أحسب أن الرجل إذا مات وهو في الخامسة والستين إنما يوفر على نفسه بضع سنين من العلل والإسقام(157)".

وائتمر عليه الإسهال، ذلك الانتقام الأثير إلى الآلهة من عظماء البشر، مع النزيف الداخلي، فهبطا بوزنه سبعين رطلاً في عام واحد (1775). وكتب إلى الكونتيسة بوفليه يقول "إني أرى الموت يدنو شيئاً فشيئاً دون أن أشعر بقلق أو أسى. أحييك بكثير من الود والاحترام لآخر مرة(158)" وذهب لاستشفاء بالمياه المعدنية في باث، فلم تجد فتيلاً في التهاب المعي الغليظ المقرح المزمن. ولكن ذهنه ظل هادئاً صافياً.

وعاد إلى أدنبرة في 4 يوليو واستعد للموت "بالسرعة التي يشتهيها أعدائي إن كان لي أعداء، واليسر والبشاشة اللذين يتمناهما لي أصدقائي(159)" فلما قرأ في كتاب لوكان "حوارات الموتى" مختلف الأعذار التي تذرعيها المحتضرون لشارون حتى لا يستقلوا تجاربه من فورهم ليعبر بهم نهر الجحيم إلى الأبدية، لاحظ أنه لا يستطيع أن يجد عذراً مناسب حالته إلا بأنه قد يكون متوسلاً "قليلاً من الصبر أي شارون الطيب. لقد كنت أحاول فتح عيون الجماهير. فلو عشت بضع سنين أخر لطبت نفساً بأن أرى سقوط بعض مذاهب الخرافة السائدة". ولكن شارون أجاب "أيها الوغد المتلكئ، لن يحدث هذا ولو بعد مئات السنين. أتتوهم أنني مانحك فسحة طوال هذه السنين؟ فادخل الزورق إذن من فورك".

أما بوزويل، الملحاح الوقح، فقد أصر على توجيه هذا السؤال إلى الرجل المحتضر- أيؤمن الآن بحياة آخرة؟ وأجاب هيوم "إنه لوهم غير معقول للغاية أن نعيش إلى الأبد". وثابر بوزويل على إلحاحه قائلاً "ولكن من المؤكد أن فكرة الحياة المستقبلة تسر النفس؟" وأجاب هيوم "أبداً، إنها فكرة كئيبة جداً". وأقلبت النساء ورجونه أن يؤمن، فصرفهن عن الموضوع بمزاحه(161).

ومات في هدوء، "بغير ألم كثير" (كما قال طبيبه) في 27 أغسطس 1776. ومشي ف جنازته جمع غفير برغم هطول المطر الغزير. وسمع صوت يقول "كان كافراً"، وأجاب صوت آخر "لا يهم، فلقد كان رجلاً أميناً(162)".