قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 1 ف 2

من معرفة المصادر
صفحة رقم : 11639   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> مقدمة


الكتاب الأول



إنجلترة



1714- 1756



الفصل الثاني



الشعب



1714-1756


كانت إنجلترا التي وجدها فولتير أمة تتمتع بربع قرن من السلام النسبي عقب جيل من انتصاراتها الغالية على فرنسا، أمة غدت الآن سيدة البحار، وإذن فسيدة التجارة، وإذن فسيدة المال، ممسكة برافعة القوى وميزانها فوق حكومات القارة، منتصرة في كبرياء على أسرة من الاستيوارتيين حاولت أن تفرض عليها الكثلكة، وعلى ملوك هانوفريين كانوا خداماً لجيب البرلمان المنتفخ. تلك هي إنجلترا التي أحرزت قبل ذلك التفوق العالمي في العلم بفضل نيوتن، وأنجبت لوك الثائر دون عمد منه، والتي كانت تقوض المسيحية بالربوبية، والتي ستحل الشاعر الكسندر "بوب" (= بابا) محل بابوات روما أجمعين، والتي سترقب بعد قليل في قلق عمليات ديفد هيوم العقلية المدمرة. إنها إنجلترا التي أحبها الفنان هوجارت وشجبها بقوة في محفوراته، إنجلترا التي وجد فيها هندل وطناً وجمهوراً مستمعاً، وحجب فيها ضوء كل موسيقار من آل باخ إذ غدا أعظم "مايسترو" أنجبه العصر. ثم هنا، في هذه "القلعة التي ابتنتها الطبيعة لنفسها ضد الغارات.. هذه البقعة المباركة.. في إنجلترا هذه(1)"- بدأت الثورة الصناعية تغير وتبدل كل شيء إلا الإنسان.



 صفحة رقم : 11640   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


1- التمهيد للثورة الصناعية



أ - المؤيدون


رسم ديفو، بعد أن جاب أرجاء إنجلترا في 1722، صورة مفعمة بمشاعر الوطنية لـ "أكثر بلاد الدنيا ازدهاراً وثراءً"، صورة الحقول الخضراء والمحاصيل الوفيرة، والمراعي تهيم فيها الخراف الذهبية الفراء، والعشب النضر الغزير يتحول أبقاراً سماناً، والفلاحين يضجون في ألعابهم الريفية، وكبار الملاك في الريف ينظمون شئون



 صفحة رقم : 11641   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


الفلاحين، والنبلاء ينظمون شئون الملاك، وكبار حكام الأقاليم يتولون القضاء ويقرون النظام في القرى، ثم هي إلى ذلك بلد يلوذ به بين الحين والحين الشعراء والفلاسفة(2). إن تجار الكلام ينزعون إلى تصوير الريف بصورة مثالية إذا أعفوا من مضايقات هذا الريف، وملله، وحشراته، وكده وكدحه. لقد كانت الحياة الريفية في إنجلترا سنة 1715 شديدة الشبه بما كانته منذ ألف سنة. كل قرية- بل كل بيت تقريباً- وحدة مكتفية بذاتها، تزرع طعامها، وتصنع ثيابها، وتقطع أخشابها للبناء والوقود من الغابات المجاورة. وكل أسرة تخبز خبزها، وتصيد غزلانها، وتملح لحومها، وتصنع زبدها وهلامها وجبنها، وتغزل وتنسج وتخيط وتدبغ الجلد وترقع الأحذية، وتصنع أكثر آنيتها وأدواتها وآلاتها. وهكذا وجد الأب والأم والأبناء والتعبير عن ذواتهم لا في حقول الصيف فحسب، بل في أمسيات الشتاء الطويلة أيضاً، وكان البيت مركزاً للصناعة والزراعة على السواء. فالزوجة هي الخبير المكرم بفنون كثيرة، من تمريض الزوج وتربية نحو اثني عشر طفلاً، إلى حياكة الفساتين وصنع الجعة. وهي تحفظ وتصرف الأدوية المنزلية، وتعني بالحديقة والخنازير والطيور. والزواج هو اتحاد بين رفيقين متعاونين والأسرة كائن حي اقتصادي كما أنها كائن حي اجتماعي، وبهذا توافر لها مبرر قوي وأساس مكين لوحدتها وتكاثرها واستمرارها. ولو قد ترك الفلاحون أحراراً في الإبقاء على أساليبهم القديمة في الحقول لقنعوا بما في بيوتهم من حيوية منوعة. لقد تذكروا أياماً كان مالك الأرض فيها يسمح لهم، أو لأسلافهم، بأن يطلقوا قطعانهم لترعى في حقول المنطقة المشاعة، وبأن يصطادوا السمك كما يشاءون في غدرانها، وأن يقطعوا الخشب في غاباتها، أما الآن، واثر عملية بدئ بها في القرن السادس عشر، فقد سور الملاك معظم الأراضي المشاعة، ووجد الفلاحون عنها في العيش على قدر دخولهم. صحيح أنه لم يكن هناك أثر لرق الأرض، ولا لضرائب إقطاع رسمية، ولكن الملاك المغامرين وتجار المدن الذين استثمروا مالهم في الأرض كانوا يزرعون على نطاق أوسع، برأسمال أكبر، وبأدوات أفضل، ومهارة



 صفحة رقم : 11642   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


أعظم، وأسواق أوسع مما أتيح لصغار الزراع الذين يزرعون مساحاتهم الضيقة. وقد قدر جريجوري كنج أنه كان بإنجلترا في 1688 نحو 180.000 من هؤلاء الملاك الأحرار. وذكر فولتير حوالي 1730 أن "في إنجلترا عدداً كبيراً من الفلاحين ممن تبلغ قيمة ملكية الواحد منهم 200.000 فرنك، ولا يأنفون من أن يواصلوا فلاحة الأرض التي أغنتهم، والتي يعيشون فيها أحراراً"، ولكن ربما كان قوله هذا من قبيل الدعاية، حفزاً لهمم الفرنسيين، أياً كان الأمر، فإنه بحلول سنة 1750 كان عدد الملاك الأحرار قد تناقص(3). فالملاك السمان يشترون المساحات العجاف، والبيت الصغير وما حوله من أرض، المقصود به إعالة الأسرة أو الأسواق المحلية، يخلي مكانه لمزارع أكبر قادرة على الإفادة من الوسائل والآلات المحسنة. والمزارع يصبح مستأجراً أو "يداً" أجيرة، أضف إلى ذلك أن نظام الفلاحة الذي ساد إنجلترا عام 1715 قسم أرض القرية إلى مناطق مختلفة حسب خصوبتها وسهولة الوصول إليها، وتسلم كل مزارع شريطاً أو أكثر في النواحي المنفصلة، وكان التعاون ضروريا، وأحبطت المبادرة الفردية، وتخلف الإنتاج. وكانت حجة مسوري الأراضي أن التشغيل الواسع النطاق تحت ملكية موحدة من شأنه أن يزيد الإنتاج الزراعي، وييسر رعي الأغنام، ويتيح ناتجاً مربحاً من الصوف، ولا ريب أنهم كانوا على حق. وأغمض التقدم الاقتصادي عيناً واحدة على الأقل عما أصاب الناس من اضطراب شديد في حياتهم نتيجة الارتحال والانتقال. وتركز التقدم في التكنولوجيا الزراعية على المزارع الموسعة. فاستصلح حافز الكسب الأراضي البور وزرعها، ودرب العمال على كفاية أعظم، وشجع اختراع الآلات والوسائل الجديدة وحفز إجراء التجارب على تربية الحيوان، ودعم الجهد المبذول في صرف المستنقعات والحد من تعرية التربة وتطهير الغابات. وأضيف بين عامي 1696 و1795 نحو مليوني فدان إلى المساحة المزروعة في إنجلترا وويلز. وفي 1730 أدخل تشارلز تاونشند النظام الرباعي لدورة المحاصيل بدلاً من الخطة المسرفة التي كان يترك بمقتضاها ثلث الأرض بوراً كل سنة؛ فزرع القمح أو الشوفان في السنة الأولى، والشعير أو الشوفان في الثانية، والبرسيم والجاودار والنباتات العلفية واللفت الأصفر والكرنب في



 صفحة رقم : 11643   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


الثالثة، واللفت في الرابعة. ثم جاء بالأغنام لتأكل اللفت أو تدوس عليه فتدفعه داخل الأرض بينما يخصب روثها التربة، وبذلك أعدت الأرض لمحصول وفير من القمح في السنة الثانية. وسخر منه جيرانه، وأطلقوا عليه لقباً هو "تيرنب تاونشند" (أي تاونشند اللفت)، إلى أن حملهم على تقليده زيادة في محاصيله بلغت 30%. وإذ كان تاونشند فيكونتا، فقد حذا حذوه نفر آخر من الطبقة الأرستقراطية في تحسين أرضهم، وشاع بين أشراف الإنجليز أن يهتم الواحد منهم اهتماماً شخصياً بالزراعة، وانتقل حيث الضياع من الصيد والكلاب إلى اللفت والسماد(4). وكان جثرو تل محامياً، اعتلت صحته فعاد مزرعة أبيه، واستهوت ذهنه المرهف معجزة النماء وأرباح الزرع، ولكن صدمه ما رأي من طرق الفلاحة المسرفة،- فالمزارعون ينثرون تسعة أو عشرة أرطال من البذار على الفدان بإهمال شديد يترك "ثلثي الأرض خالية من الزرع، في تكتظ البذار في الباقي اكتظاظاً يمنع الزرع من أن يزكو(5)". ودرس أساليب الزراعة أثناء رحلاته في فرنسا وإيطاليا، فلما عاد إلى وطنه اشترى مزرعة، وأذهل جيرانه بمخترعات ضاعفت من الإنتاج. وقد بدأ (حوالي 1730) بصنع محراث ذي أربعة قواطع يقتلع الحشائش ويدفنها في التربة بدلاً من مجرد إزاحتها جانباً. ولكن أكثر مخترعاته حسماً (حوالي 1733) كان آلة حفر تجرها الخيل، تنثر الحب خلال أنابيب مسننة على مسافات وأعماق معينة في خطين متوازيين، ثم تغطي الحب بمسحاة متصلة بالحفار. ووفرت الآلة الحب والعمال، وأتاحت زرع التربة المحصورة بين الخطين المبذورين وتهويتها وريها وتنقيتها من الحشائش. وقد شارك هذا التغير في بذر الحب، الذي يبدو تافهاً، وتحسين المحراث، في أحداث ما سمي بعد ذلك بالثورة الزراعية، التي يمكن أن تقاس نتائجها (حتى مع أخذ التضخم في حسابنا) بارتفاع قيمة الأراضي التي استخدمت فيها الوسائل الجديدة عشر أضعاف خلال القرن الثامن عشر. ومكنت الزيادة في إنتاجية التربة المزارع من أن تطعم المزيد من الصناع في المدن، وأتاحت ذلك العدد النامي من سكان المدن، الذي لولاه لاستحالت الثورة الصناعية.



 صفحة رقم : 11644   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


على أنه لا الفلاحون ولا عمال المدن كان لهم نصيب من الثروة النامية. فالملاك الفلاحون أمكن ضغطهم والتخلص منهم بالمنافسة الواسعة النطاق، والعمال الفلاحون تقاضوا من الأجور البخسة القدر الضئيل الذي أكرههم خوف التعطل على قبوله. فلنستمع إلى ما يقوله العلامة الرفيع المقام تريفيليان: "كان الثمن الاجتماعي الذي دفع النظير الكسب الاقتصادي هو تناقص عدد الزراع المستقلين، وازدياد عدد العمال الذين لا يملكون أرضاً، وكان هذا إلى حد كبير شراً لا بد منه، ولو وزع الربح الزائد الذي حققته دنيا الزراعة توزيعاً عادلاً لخف الضرر. ولكن بينما ارتفع إيجار المالك، وعشور القسيس، وأرباح المزارع المالك والوسيط ارتفاعاً سريعاً، فإن فاعل الحق، الذي حرم حقوقه الصغيرة في الأرض المشاع وحقوق أسرته بتشغيلها في الصناعة إلى جانب الزراعة، لم يجز الجزاء الواجب بأجر أعلى، وكثيراً ما انحدر في المقاطعات الجنوبية إلى درك التبعية والفاقة(6)". ومما خفف إلى حد ما من التركز الطبيعي للثروة دفع الضرائب والإحسان المنتظم. ذلك أن أغنياء الإنجليز، بعكس النبلاء الفرنسيين كانوا يدفعون النصيب الأكبر من الضرائب التي أعالت الحكومة. فقد ألزمت "قوانين إعانة الفقراء" التي بدأت في 1536 كل أبرشية بإنقاذ الأشخاص الذين في خطر الموت جوعاً. وكان المتعطلون من القادرين صحياً يرسلون إلى الإصلاحيات، والعجزة إلى الملاجئ، والأطفال يشغلون صبياناً لمن يرغبون في إيوائهم وإطعامهم لقاء خدماتهم. وكانت نفقات هذا النظام تؤدي من ضريبة تفرض على أسر الأبرشية. وقد ذكرت لجنة برلمانية في تقرير لها أنه لم يبق على قيد الحياة من جميع الأطفال المولودين من الإصلاحيات، أو الذين استقبلتهم في حداثة سنهم، في الأعوام 1763- 65، إلا سبعة في المائة في 1766(7). حقاً لقد كان قرناً قاسياً.


ب - الصناعة


عطل البيت الريفي المكتفي بذاته تخصص العمل والثورة الصناعية



 صفحة رقم : 11645   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


سواء كان هذا التعطيل خيراً أو شراً. فلم يمول الرجل حديث العهد برأس المال مصنعاً ما دام في قدرته أن يجعل مائة أسرة تغزل وتنسج له تحت أسقفهم ووفق نظام المنافسة الأوتوماتي؟ لقد أنتجت هذه الصناعة البيتية في قسم "وست رايدنج" بيوركشير 100.000 قطعة قماش للسوق في 1740، و140.000 قطعة في 1750، وغلى عام 1856 لم يرد من المصانع سوى نصف إنتاج الصوف، أما النصف الثاني فظل يرد من البيوت(8). على أن تلك البيوت الشاغية بالحركة كانت في الواقع مصانع وليدة، فرب البيت يدعو الخدم والغرباء ليشاركوا في العمل، والحجرات الإضافية تجهز بدواليب الغزل وأنوال النسيج. فلما ازداد حجم تلك العمليات البيتية واتسعت السوق بفضل الطرق المحسنة والسيطرة على البحار، خلقت الصناعات البيتية ذاتها الطلب على آلات أفضل وكانت الاختراعات الأولى أدوات أكثر منها مكناً. وكان في الإمكان تركيبها في المنزل، مثل مكوك "كي" الطائر، ولم يحل نظام المصنع محل الصناعة المنزلية إلا حين صنع المخترعون آلات تتطلب القوة الميكانيكية. وكان الانتقال تدريجياً، فقد اقتضى قرناً تقريباً (1730- 1830)، وربما كانت كلمة "ثورة" لفظاً أعنف مما يحتمله تغيير بطيء كهذا. ولم يكن الانتقاض على الماضي حاداً بالدرجة التي أوحت بها في الماضي النزعة الروائية في كتابة التاريخ، فالصناعة قديمة قدم الحضارة، وقد تقدم الاختراع بسرعة متزايدة منذ القرن الثالث عشر، وكانت المصانع في فلورنسة على عهد دانتي كثيرة كثرة الشعراء، والرأسماليون في هولندا أيام رمبرانت كثيرين كثرة المصورين. ولكن التغيير الصناعي الذي طرأ في القرنين الأخيرين (1760- 1960) إذا نظرنا إليه في مراحله المتصاعدة، من البخار إلى الكهرباء إلى النفط إلى الإلكترونيات والطاقة الذرية، بالقياس إلى معدل التغيير الاقتصادي في أوربا قبل كولمبس- هذا التغيير يشكل ثورة حقيقية لم تغير الزراعة والنقل والمواصلات والصناعة فحسب تغييراً أساسياً، بل غيرت كذلك السياسية والعادات والأخلاق والدين والفلسفة والفن. وقد تضافرت عوامل عديدة على فرض التغيير الصناعي. فالحروب التي أعقبت سقوط وزارة ولبول (1742) حثت على زيادة سرعة



 صفحة رقم : 11646   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


الإنتاج والتوزيع. ونمو السكان نتيجة لازدياد موارد الطعام أتاح سوقاً داخلية متضخمة للزراعة والصناعة، وشجع على صنع آلات أحسن وشق طرق أفضل. وقد تطلبت الآلات المهارات، مما أفضي إلى تخصص وتقسيم للعمل نهضاً بالقوة الإنتاجية. وقد جلب الهيجونوت وغيرهم من المهاجرين إلى إنجلترا ما استنقذوه من مدخراتهم كما جلبوا إليها حرفهم، ومخترع أول آلة للنسيج (1738) كان سليلاً للهيجونوت. وكان لتقرير البرلمان تعريفات جمركية حامية (كقانون الكاليكوت- أي الشيت- الصادر في 1721، والذي حرم استعمال الشيت المطبوع المستورد) الفضل في الحد من المنافسة الأجنبية، وإتاحة السيطرة الكاملة لصناعة النسيج الإنجليزية على السوق الداخلية، في حين أعان نفوذ التجار المتزايد في التشريع على توسيع الاقتصاد البريطاني. وشجعت التقاليد البيورتانية- التي ستدعمها بعد قليل حركة المثوديين- فضائل الجد والإقدام والاقتصاد في الطبقات الوسطى والدنيا وتراكم رأس المال، وأجيز الإثراء، وبدا أن الله اختص البورجوازية بنعمته. وأتاح تطوير التعدين في الوقت ذاته موارد متزايدة من الفحم وقوداً للصناعة. وكان الخشب إلى ذلك الحين هو الوقود الأهم للبيوت والمتاجر، ولكن الغابات كانت تتضاءل حتى أوشكت على الانقراض، فمن بين تسع وستين غابة كبيرة عرفتها إنجلترا الوسيطة، اختفت خمس وستون بحلول القرن الثامن عشر(9). واقتضى الحال استيراد الخشب من إسكندناوة أو أمريكا، وكان يكلف أكثر فأكثر، وظهر الطلب على وقود أرخص. ولكن تعدين الفحم كان لا يزال عملية بدائية، وكانت المناجم ضحلة، والتهوية رديئة، والميثان وغاز الكربون يخنقان المعدّنين، وظلت مشكلة ضخ المياه من المناجم بلا حل حتى جاءت آلات سافري ونيكومن البخارية. والواقع أن هذه المشكلة كانت أكبر حافز لتطوير هذه الآلات. على إنتاج الفحم تصاعد وانتشر رغم هذه الصعوبات، فما وافى عام 1750 حتى كان الفحم الذي يشعل في البيوت والمصانع يحجب سماء لندن(10). كانت أهمية الفحم للثورة الصناعية تكمن بوجه خاص في استعماله



 صفحة رقم : 11647   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


لتنقية خام الحديد ليصبح حديداً أقوى وأصفى وأطوع بفصل الفلز عن المواد المعدنية العالقة به. والتنقية استلزمت الصهر، الذي استلزم درجة عالية من الحرارة؛ وكانت هذه الحرارة منذ القرن الرابع عشر تنتج بإشعال الفحم النباتي (وهو الخشب المتفحم) في أفران عالية تسلط عليها تيارات قوية من الهواء؛ ولكن الفحم النباتي أصبح الآن أغلى ثمناً بسبب تناقص موارد الخشب. وفي 1612 أشار سيمون ستورتفانت باستخدام الفحم الحجري وقوداً صاهراً. وزعم "دَ د" دَ دلي (أي الفاشل) في 1619 أنه خفض تكاليف صهر الحديد بهذه الوسائل إلى النصف، ولكن منافسيه الذين استخدموا الفحم النباتي تضافروا لإقصائه عن هذه الصناعة. وأخيراً (حوالي 1709) وفق أبراهام داربي الأول، الذي استوطن كولبروكديل حيث الفحم كثير، في صهر خام الحديد بنجاح وبتكاليف قليلة، وذلك بتسخينه فحم الكوك- أي الفحم المحرق بقدر يكفي لتخليصه من عناصره الطيارة. أما الكوك فكان معروفاً منذ عام 1590. وطور أبراهام داربي الثاني استعمال الفحم أو الكوك في الصهر، وحسن الأفران العالية بمنفاخ يشغله دولاب مائي، وسرعان ما استطاع أن يفوق في مبيعاته كل أصحاب مصانع الحديد في إنجلترا وفي 1728 أنشئ أول مصنع إنجليزي للحديد لتمرير الحديد بين سلسلة من الأسطوانات تضغطه لإخراج الأشكال المطلوبة. وفي 1740 اخترع بنيامين هنتسمان طريقة البوتقة التي كان ينتج بها الصلب العالي الرتبة بتسخين المعدن وتنقيته في قدور من الفخار. هذه التطورات في المزاوجة بين الفحم والحديد هي التي يسرت اختراع آلات الثورة الصناعية.


جـ - الاختراع


لم يشهد النصف الأول من القرن الثامن عشر زيادة لافتة للأنظار في سرعة الاختراع بالقياس إلى القرنين السابقين، وقد نحتاج إلى نصف مجلد لتعدد الاختراعات التي ورثها هذا العصر من سابقه. مثال ذلك أن الساعة الكبيرة، التي لا غنى عنها في العلم والصناعة والملاحة، أبلغت مرتبة الكمال تقريباً في القرن السابع عشر، وبحلول عام 1758 وصلت إلى درجة من الدقة (لا يعدو الانحراف فيها دقيقة كل ستمائة



 صفحة رقم : 11648   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


يوم) لم تتجاوز إلا في 1877(11). وكان العمال أنفسهم يثبطون المخترعات، وإن كانوا في كثير من الأحيان مصدرها، خشية أن تهددهم بالتعطل التكنولوجي، وهكذا فرض عداء العمال هجر أول منشرة خشب إنجليزية(1663)، ولم تجدد المحاولة بنجاح إلا سنة 1767. وزادت الطرق الرديئة من تعطيل الاختراع الصناعي، ولم يكن هناك كبير حافز على زيادة الإنتاج ما دامت صعوبات النقل تفوق توسيع السوق. على أن النقل البحري كان آخذاً في التحسن، وكانت المستعمرات، التي غلبتها الزراعة، تتهافت على طلب المنتجات المصنوعة، هنا وجد حافز متزايد على الاختراع. وقد أعان عليه دافع الربح، ومنح البرلمان حقوق امتياز تمتد أربع عشرة سنة. وجاء حافز آخر من المنافسة الأجنبية في تجارة الصادر، فحثت منسوجات الهند، التي أنتجتها عمال مهرة منخفضوا الأجور أصحاب المصانع الإنجليز على الاقتصاد في الإنتاج باستعمال الأجهزة المكنية المحسنة. فصناعة النسيج إذن هي التي افتتح الاختراع في ميدانها ذلك التغيير العظيم. كان "المكوك الطائر" الذي ابتكره جون كي (1733) أول اختراع بارز في إنتاج المنسوجات، ولنا أن نعتبر هذا التاريخ بداية للثورة الصناعية فمن قبله كان عرض القماش المراد نسجه محدوداً بطول ذراعي النساج باستثناءات صغيرة- إذ كان عليه أن يقذف بالمكوك (وهو الأداة التي تمرر خيوط اللحام خلال خيوط السدى) من أحد جانبي النول بيد، ويلقفه باليد الأخرى في الجانب المقابل. ورتب كي جهازاً من العجلات، والمطارق، والعصي، يتيح لدقة حادة باليد أن تجعل المكوك يمرق من أحد الجانبين إلى وقفة أوتوماتيكية عند أي عرض محدد سلفاً، مما ينجم عنه وفر كبير في الوقت. فلما حاول تركيب اختراعه في مصنع بكولتشستر اتهمه النساجون بأنه يحاول حرمانهم من قوتهم القومي. ففر غلى ليدز (1738) وعرض اختراعه المسجل على أصحاب مصانع القماش لقاء رسم، فأخذوا اختراعه، ولكنهم قبضوا عنه إتاوته، فرفع أمره إلى القضاء، واستنزفت مصاريف التقاضي كل ماله. فذهب إلى وطنه في بري، ولكن الأهالي هاجوا عليه هناك (1753)، ونهبوا بيته، وهددوه بالقتل. غير أن امرأة رحبت بآلته في حماسة وصاحت قائلة بلهجتها العامية "حسناً، حسناً،



 صفحة رقم : 11649   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


أن أعمال الله عجيبة، ولكن حيل الإنسان تغلبه تعالى في النهاية(12)" وجد كي قبولاً أكثر من فرنسا، التي تبنت حكومتها اختراعه وكافأته بمعاش. ولم يتغلب المكوك الطائر على كل معارضة ويعم استعماله إلا عام 1760. وعطل صناعة النسيج أن النساجين كانوا يستطيعون نسج الخيوط بأسرع مما يستطيع الغزالون غزلها وإمدادهم بها. وكان الغزل إلى سنة 1738 غزلاً يدوياً، على دواليب ما زالت تجمل البيوت التي تمجد الماضي. في ذلك العام سجل لويس بول، وهو ابن مهاجر هيجونوتي، آلة غزل يبدو أنها مبنية على أسس اقترحها جون فيات، وهي مجموعة من البكر تسحب للخارج حبال القطن أو الصوف المشدودة لتصبح خيوطاً بأي رفع مطلوب، وتغزلها على مغازل، وذلك كله بأقل جهد. وباع بول وفيات براءة الاختراع إلى أدوارد كيف، صديق الدكتور جونسون، وأقام كيف خمس آلات بمصنع نورثامبتن في 1742- وهو الأول في سلسلة طويلة من مصانع الغزل في إنجلترا القديمة والجديدة. أما وقد تيسر الآن الحديد لصنع الآلات القوية، وتطلبت الأحوال الاقتصادية الإنتاج الواسع النطاق، فقد بقيت مشكلة العثور على قوة ميكانيكية يستعاض بها، بثمن رخيص، عن عضلات الرجال وصبر النساء. وأقدم الحلول استخدم القوة المائية. ففي مائة قطر كان الدولاب المائي العظيم، الذي يدور على مهل مع جريان للأنهار، يسير منذ زمن سحيق المضخات، والمنافيخ، والبكر، والمطارق، لا بل الآلات الحديدية الثقيلة منذ عام 1500. وظل المصدر الأهم للطاقة الميكانيكية خلال القرن الثامن عشر. وقد عاش إلى القرن العشرين، وما التركيبات الهيدروليكية في زماننا سوى قوة مائية حولت إلى كهرباء قابلة للنقل. ولا يمكن الركون إلى القوة المحركة للرياح بهذا القدر، ولم ينتفع بها إلا انتفاعاً قليلاً نسبياً في بلاد الجنوب الهادئة الريح، ولكن في العروض الشمالية سخرت التيارات الهوائية في إدارة طواحين هواء توجه "قلوعها" إلى "عين الريح" بونش في أسفلها يدار باليد. وقد بلغت هذه الآلة الثقيلة، التي لا يركن إليها، أوجهاً في الأقاليم المتحدة في القرن الثامن عشر، ثم بدأت اضمحلالها الرائع.



 صفحة رقم : 11650   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


وكان المخترعون خلال ذلك يجاهدون ليبلغوا بالآلة البخارية درجة الكفاءة المجزية. وكانت قد قطعت قبل ذلك شوطاً طويلاً، من أبواب ولعب "هيرو" التي يشغلها البخار في القرن الثالث الميلادي، مرورا بجيروم كاردان (1550)، وجامباتستا ديللابورتا (1601)، وسالومون دي كاوس (1615)، وجوفاني برانكا (1629)، ومركيز ورستر (1663)، وصموئيل مورلاند (1675) وكرستيان هويجنز (1680)، ودني بابان (1681)، وتوماس سافري (1698)، إلى آلة توماس نيوكومن البخارية في 1712؛ تلك قصة رويت ألف مرة. وهنا أيضاً، أي في عام 1712، يمكن أن يبدأ تاريخ الثورة الصناعية، لأن آلة نيوكومن "النارية" كانت مجهزة بمكبس، وذراع متذبذب، وصمام أمن، واستخدمت بنجاح في نزح الماء في المناجم العميقة. وقد ظلت النموذج الأساسي للطلمبات مدى ثلاثة أرباع القرن.


د - رأس المال والعمال


حين ازدادت الآلات حجماً وتكلفة، وتطلب تشغيلها القوة الميكانيكية، وجد نفر من المغامرين أنه أربح لهم أن يستبدلوا بالصناعة في البيوت مصانع تجمع الرجال والنساء في أبنية يحسن اختيار مواقعها قرب أنهار توفر الطاقة والنقل معاً. والمصانع، كما سلف، لم تكن بدعاً، فقد كان منها مئات في إنجلترا اليزابيث وفرنسة كولبير. غير أن "نظام" المصانع- إذا عرفناه بأنه اقتصاد صناعي يتم فيه الإنتاج بصفة رئيسية في مصانع- لم يكد يوجد في أي مكان قبل القرن التاسع عشر. ولكن بعد اختراعات كي وبول بدأت مصانع المنسوجات تقوم بالمزيد من الغزل والنسيج الذي كان يتم في البيوت، وفي 1717 أنشأ توماس لوم في داربي مصنع نسيج طوله 660 قدماً، يشغل ثلاثمائة عامل يقومون على 26.000 دولاب. وسرعان ما قامت منشآت مماثلة الضخامة في ستوكبورت، وليك، وبرمنجهام، وليومنستر، ونرثامتن. وشراء الآلات وإيواؤها، والحصول على الخامات، واستئجار العمال والإدارة، ونقل النتائج وتسويقه، كل هذا يتطلب رأس المال. كذلك كان الرأسمالي- مقدم رأس المال أو مديره- ظاهرة قديمة، ولكن بزيادة الطلب على رأس المال ازدادت الأهمية الاقتصادية والقوة السياسية



 صفحة رقم : 11651   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


للرجال الراغبين في المخاطرة بتقديمه. وقاومت الطوائف الحرفية، التي كانت من الناحية النظرية لا تزال تحكم معظم الصناعة الأوربية، التنظيم الرأسمالي للإنتاج والتوزيع. ولكن نظام الطوائف الحرفية بنى عليها الحرف اليدوية لا الآلات، وقد هيئ لتلبية الحاجات المحلية لا السوق القومية فضلاً عن السوق الدولية، ولم يستطع تلبية المطالب المتزايدة للجيوش، والمدن، والمستعمرات، وقد عوقه الولاء للوسائل والقواعد التقليدية، وأخذ ينحدر إلى درك "الشلل" من معلمي الحرف الذين يستغلون الصبيان وعمال اليومية. وكان الرأسمالي أقدر على تنظيم الإنتاج الكبير والتوزيع البعيد؛ فلقد كان عليماً بذلك الفن البالغ الرهافة، فن جعل المال يلد المال؛ وظاهره برلمان تواق لأن تمون الكفاية الصناعية التجارة المترامية والحروب. وبانتشار المصانع والرأسمالية تغيرت علاقة العامل بعمله. فلم يعد يملك أدوات حرفية، ولا يحدّد ساعات كده وظروفه. ولم يكن له غير نصيب صغير في تقرير معدّل أجوره أو نوعية ناتجة. ولم يعد حانوته مدخلاً إلى بيته، ولا صناعته جزءاً من حياته الأسرية. ولم يعد عمله ذلك التشكيل الفخور لأداة في جميع مراحلها، بل أصبح بحكم تقسيم العمل- الذي سيعجب آدم سمث كثيراً- التكرار اللا شخصي، الممل، لجزء من عملية لم يعد ناتجها المصقول يعبر عن حذقه وتفننه؛ إنه لم يعد صانعاً ماهراً، بل "يداً" أجيرة. وقد حدد أجره جوع رجال ينافسون النساء والأطفال على العمالة. فإذا كان عاملاً في منجم فمتوسط أجره شلن وستة بنسات في اليوم، وإذا كان فاعلاً في البناء تقاضي شلنين، وسمكرياً ثلاثة شلنات، وقد اختلفت هذه المعادلات اختلافاً يسيراً بين عامي 1700 و1770(13). وكان النساج يتقاضي حوالي سنة 1750 ستة شلنات في الأسبوع، والنساجة خمسة شلنات وستة بنسات، والطفل شلنين وستة بنسات. أما النساء الغزالات فمن شلنين إلى خمسة في الأسبوع، وأما البنات من السادسة إلى الثانية عشرة فشلن ونصف(14). على أن الأسعار كانت منخفضة، وظلت ثابتة حتى 1760(15). وكان يضاف إلى هذه الأجور أحياناً علاوة للخبز والجعة أثناء العمل، وكان معظم عمال المناجم يعطون الفحم مجاناً.



 صفحة رقم : 11652   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


وكانت حجة أصحاب العمل أن عمالهم لا يستحقون أكثر من هذه الأجور، لأنهم أدمنوا الكسل والسكر والاستهتار والفجور. وزعم أحدهم (1739) أن السبيل الوحيد لجعل العمال عيوفين مجدّين "أن تفرض عليهم ضرورة الكد طوال الوقت الذي يستطيعون اقتطاعه من الراحة والنوم ليحصلوا على الضروريات العادية للحياة(16)". وقال كاتب في 1714 "ليس للفقراء ما يحفزهم للخدمة النافعة سوى الحاجة، وهذه حال من الحكمة تخفيفها، ولكن من الحماقة شفاؤها(17)" أما يوم العمل العادي فيمتد من إحدى عشرة ساعة إلى ثلاث عشرة، ستة أيام في الأسبوع، ويهوّن من طول هذه الفترة ساعة ونصف لتناول الوجبات، ولكن المتباطئين بلا مبرر في تناولها يفقدون ربع أجر اليوم(18). وشكا أصحاب العمل من أن عمالهم يتوقفون عن العمل ليختلفوا إلى المهرجانات، أو مباريات الملاكمة التكسبية، أو مشاهد الشنق، أو الاحتفالات بأعياد القديسين الشفعاء. ورغبة في حماية أنفسهم من هذه المخالفات وأشباهها كان أصحاب العمل يحبون أن يكون لديهم رصيد من العمال المتعطلين في المنطقة، يستطيعون أن يعتمدوا عليه في الطوارئ أو أوقات الطلب المتزايد(19). فإذا كسدت الأحوال كان في الإمكان تسريح العمال وتركهم ليعيشوا على قروض من التجار المحليين. ونشأت في المدن ببطء برولتاريا تابعة. وكانت تجمعات الطبقة العاملة محظورة بمقتضى قانون قديم أصدره أدوارد السادس، فجدد البرلمان هذا الحظر في 1720. ولكن عمال اليومية مضوا في تنظيم أنفسهم، ولجئوا إلى البرلمان لتحسين أجورهم، وأصبحت اتحادات هؤلاء العمال- لا الطوائف الحرفية- هي الرائدة لحركة النقابات العمالية التي تشكلت في إنجلترا في نهاية القرن الثامن عشر. وفي 1756، بناءً على التماس من عمال النسيج في جلوسترشير، أمر مجلس العموم قضاة الصلح بالمحافظة على الحد الأدنى القانوني للأجر، ويمنع تخفيض الأجور في الصناعة، ولكن هذا المر سحب بعد عام، واتخذ البرلمان سياسة ترك تحديد الأجور للعرض والطلب على العمل(20). لقد بدأ عهد "المشروع الحر" وسياسة "عدم التدخل Laissez- Faire".



 صفحة رقم : 11653   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية



هـ - النقل والتجارة


توقف نمو الاقتصاد على التحسينات في المواصلات والنقل. وكانت إنجلترا تتمتع بميزة ساحلها البحري وأنهارها، وكان نصف السكان يعيشون على أبعاد معقولة من البحر، ويستطيعون استخدامه في نقل السلع؛ وتغلغلت الأنهار مسافات بعيدة من الداخل، فأتاحت بذلك طرقاً مائية طبيعية. ولكن حال الطرق الإنجليزية كانت دائماً قذى في عين الحياة الإنجليزية. فتربة هذه الطرق لينة، وأخاديد صلبة يغمرها الماء، وكثير منها حولته أمطار الربيع أو الصيف إلى نهيرات أو بالوعات من الوحل كان المرور عليها عسيراً بحيث اقتضى إخراج المركبات من فوقها استخدام أعداد إضافية من الخيل والثيران، وكان على المسافرين على الأقدام أن يتحولوا إلى الحقول والغابات القريبة. ولم تتكفل الحكومة، لأغراض حربية، ببناء مجموعة من الطرق الرئيسية "صالحة لمرور الجنود والخيل والمركبات على مدار السنة(21)" (1751) إلا بعد أن قاد "الأمير تشارلي الجميل" رجاله الاسكتلنديين الثائرين وأوغل جنوباً حتى داربي في 1745، لأن حالة الطرق عرقلت مسيرة القوات الملكية الموجهة ضده. ومع ذلك ظل اللصوص يعيشون فساداً في الطرق، وكانت تكاليف النقل غالية. وكان الناس يسافرون على ظهور الخيل أو في مركباتهم الخاصة إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وكان في إمكانهم استئجار الخيل الجديدة في نقط أو مواقع على الطريق Posts في الرحلات الطويلة، وانتشرت هذه البيوت Post- houses في جميع أرجاء أوربا الغربية. ثم استخدمت كلمة "بوست" (البوسطة) للدلالة على نقل البريد، لأنه في مثل هذه النقط كان حاملو البريد يستطيعون تسليم البريد أو تسلمه وتغيير الخيل؛ وبفضل هذا النظام أمكنهم أن يقطعوا 120 ميلاً في اليوم. ومع ذلك كتب تشسترفيلد (1749) يشكو الحال "إن رسائلنا على أحسن تقدير تنقل نقلاً مضطرباً، وكثيراً ما تضيع تماماً(22)". وذهب إلى أن من "السرعة غير المألوفة" أن يستغرق خطاب مرسل من فيرونا ثمانية أيام ليصل إلى لندن. وكان أكثر السفر بالمركبات العامة يجرها جوادان أو أربعة ولها سائق وحارس



 صفحة رقم : 11654   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


مسلح خارجها، وبداخلها ستة ركاب يترنحون. وكانت المركبات تغادر لندن بجدول منتظم صباحين أو ثلاثة في الأسبوع قاصدة كبريات مدن جنوبي إنجلترا، ومعدل سرعتها سبعة أميال في الساعة، ورحلتها من لندن إلى نيوكاسل تستغرق ستة أيام. وظلت التجارة الداخلية بهذه الطرق المعوقة بدائية على نحو جدير بالتصوير. فكان تاجر الجميلة يرافق عادة جياد الحمل التي تنقل بضاعته من بلد إلى بلد، والباعة الجوالون يسرحون بسلعهم منم بيت إلى بيت. أما الحوانيت فتميز عن البيوت بعلامات أهمها اللافتات الحافلة بالألوان، وتحفظ السلع بداخلها، وليس هناك عادة "أي عرض في الفترينات". وكل متجر تقريباً متجر عام لمختلف السلع، مثال ذلك أن "الخردجي" كان يبيع الثياب، والعقاقير، والمصنوعات الحديدية، والبدال سمي باسم grocer لأنه يبيع بالجملة gross؛ فالبدال هنري كوارد مثلاً كان يبيع كل شيء من السكر إلى المسامير. وكان لكل مدينة يوم ساق يعرضه فالتجار- إذا سمح الجو- عينات من بضائعهم. ولكن المراكز الكبرى للتجارة الداخلية كانت الأسواق السنوية التي تنعقد في لندن، ولين، وبوسطن، وجينزيورو، وبفرلي، وأهم منها كلها ستوربردج. في هذه الأسواق، في أغسطس وسبتمبر من كل عام، كانت تقوم مدينة حقيقية لها حكومتها وشرطتها ومحاكمها، تتوفر فيها كل منتجات الصناعة الإنجليزية تقريباً، ويلتقي فيها رجال الصناعة من جميع أرجاء الجزيرة ليتبادلوا الحديث عن الأسعار والنوعيات والكوارث. وكانت التجارة الخارجية بسبيلها إلى التوسع لأن بريطانيا تسلطت على البحار. وزادت الصادرات إلى أكثر من مثيلها قيمة وكمية في النصف الأول من القرن، وارتفعت حمولة السفن المبحرة من الثغور الإنجليزية من 317.000 طن في عام 1700 إلى 661.000 في عام 1751 إلى 1.405.000 في عام 1787(23). وضاعفت لفربول حجمها وأرصفتها كل عشرين سنة. وأقبلت الواردات من عشرات الأقطار لتداعب أحلام الأغنياء أو بطونهم، أو تزين تسريحات كرائم السيدات بالعطور ومساحيق التجميل التي تخلب الألباب. وبلغت



 صفحة رقم : 11655   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


أرباح شركة الهند الشرقية من شراء السلع رخيصة في الهند، وبيعها غالية في أوربا، حداً أتاح لها أن تغري بالانضمام إلى مساهميها خمسة عشر دوقاً أو ايرلاً، واثنتي عشرة كونتيسة، واثنين وثمانين فارساً، وستة وعشرين قساً وطبيباً(24). ولم تنظر الطبقة الأرستقراطية في إنجلترا إلى التجارة نظرة استعلاء والازدراء كما فعلت في فرنسا، ولكنها ساعدت على تمويلها وشاركت في رخائها. وقد أبهج رجلاً من الطبقة الوسطى كفولتير أن يجد نبلاء الإنجليز يهتمون اهتماماً نشيطاً بالتجارة. قال موجهاً حديثه إلى فرنسا في 1734 "أن لولع الإنجليز بالتجارة وحده الفضل في أن بزت لندن باريس حجماً وسكاناً، وفي أن إنجلترا استطاعت أن تملك مائتي بارجة وتعين بالمال الملوك من حلفائها(25)". وأصبح كبار التجار ينافسون الأرستقراطية القديمة المالكة للأرض ثراءً وسلطاناً، فيقررون العلاقات مع الدول الأجنبية، ويثيرون ويمولون الحروب في سبيل الأسواق والموارد والطرق التجارية. وسيطر القائمون على التجارة الإنجليزية في السكر، والتبغ، والعبيد، على حياة برستول، وحكم أصحاب السفن لفربول، وساد أصحاب مناجم الفحم على نيوكاسل. وكانت ثروة السير جوسيا تشايلد التاجر صاحب 50.000 سهم في شركة الهند الشرقية، تعدل ثروة الكثير من اللوردات وحدائقه في وانستد من أشهر مشاهد إنجلترا. كتب هيوم في 1748 يقول "في معظم أقطار أوربا ترى أملاك الأسرة- أي الأملاك الوراثية- التي تميزها الألقاب والشارات التي يخلعها عليها الملك، هي أهم أسباب التمايز. أما في إنجلترا فإن الاعتبار الأكبر للثراء الراهن(26)". وحدث قدر كبير من التبادل والامتزاج بين الطبقتين العليا والوسطى، فتزوجت بنات التجار الأغنياء بأبناء النبلاء ملاك الأرض، واشترى أبناء التجار ضياعاً من الأرستقراطيين الذين افتقروا ودخل عليه القوم ميادين التجارة والقضاء والإدارة. لقد كانت الأرستقراطية تتحول إلى بلوتوقراطية (أي حكومة الأغنياء)، والمال يحل محل النسب سبيلاً شرعياً إلى السلطان.


و - المال


كان المصرفيون الأوربيون الآن يؤدون جميع الخدمات المالية



 صفحة رقم : 11656   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


تقريباً، يتسلمون الودائع، ويحمونها من الحريق والسرقة، ويرتبون المدفوعات بين المودعين بمجرد النقل من حساب الواحد إلى حساب الآخر، ويصدرون أوراق النقد التي يمكن أن يستبدل بها الذهب أو الفضة عند الطلب. وإذ لم يكن من المتوقع أن يطلب جميع حملة هذه العملة الورقية هذا الاستبدال في وقت واحد، فقد كان في استطاعة المصارف أن تصدر أوراقاً بلغت من خمسة إلى عشرة أضعاف قيمة احتياطياتها المشتركة. وأتاح تداول النقود المتكاثرة على هذا النحو رأس مال إضافياً للمشروعات التجارية، وشارك في توسيع الاقتصاد الأوربي. وحفز المصرفيون الصناعة بإقراض النقود بضمان الأرض أو المباني أو المواد، أو بمجرد التسليف على مسئولية شخص ما. ويسرت التجارة بخطابات تبادل أو ضمان مكنت رأس المال من الانتقال بمجرد نقل الوزن المصرفي حتى عبر حدود معادية. وتألفت في إنجلترا شركات محاصة كما حدث في هولندا وإيطاليا وفرنسا. ونظم مؤسسوها، الذين كانوا وقتها يسمون "أصحاب المشروعات" الاتحادات الصناعية أو التجارية، وأصدروا أسهماً، ووعدوا بدفع أرباحها، وأمكن تحويل شهادات الأسهم أو السندات من شخص إلى آخر، ولهذا الغرض أسست في لندن سوق للأوراق المالية (بورصة) في 1698. وشهد مطلع القرن الثامن عشر نمواً سريعاً في المضاربة بأسهم الشركات، وسماسرة للأوراق المالية يتلاعبون في أسعار السوق رفعاً وخفضاً. وقد وصف ديفو في 1719 واحداً من هؤلاء المتلاعبين فقال: "لو خطر للسير جوسيا تشايلد أن يشتري، فإن أول ما يفعله هو أن يكلف سماسرته بأن يتكلفوا العبوس والتهجم، ويهزوا رءوسهم، ويلمحوا بأن هناك أخباراً سيئة من الهند.. وربما باعوا فعلاً بعشرة آلاف أو ربما بعشرين ألف جنيه. وللتو ترى السوق.. وقد امتلأت بالبائعين، ولا أحد يشتري ولو بشلن، حتى تهبط الأسهم ستة، أو سبعة، أو ثمانية، أو عشرة في المائة، وأحيناً أكثر. هنا يكون لدى السمسار الخبيث طاقم آخر منهم يستخدمه.. في الشراء، ولكن في



 صفحة رقم : 11657   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


تكتم، وتحوط، حتى يشتري- بعد أن باع بعشرة آلاف جنيه بخسارة أربعة أو خمسة في المائة- أسهماً بمائة ألف جنيه، بأقل من السعر بعشرة أو اثنتي عشرة في المائة. وفي ظرف أسابيع، بعكس هذه الطريقة لا أكثر، يدفعهم جميعاً للتهافت على الشراء، فيبيعهم أسهمهم ثانية بربح يبلغ عشرة أو اثنتي عشرة في المائة(27)". ولم تكد تفتتح أسواق الأوراق المالية، حتى كان حرص الجمهور على تحقيق كسب دون عرق يثير موجات من المضاربة والانكماش. وقد جاء تضخم "فقاعة" بحر الجنوب (أي مشروعه الوهمي) في إنجلترا، ثم انهيار المشروع تالياً، في اتفاق غير عادي، لظهور وسقوط "فقاعة المسسبي" وصاحبها جون لو في فرنسا. ذلك أن الحكومة الإنجليزية، التي تأثرت بشكاوي بولنبروك، وسويفت، وغيرهما من أن الدين القومي- البالغ 52.000.000 جنيه في عام 1714- يفرض على الدولة عبئاً سنوياً مدمراً قدره 3.500.000 جنيه من الفائدة- فكرت في خطة لتحويل 31.000.000 جنيه من الدين إلى شركة بحر الجنوب. وكانت الشركة قد أسست في 1711 بمنحها احتكاراً للتجارة الإنجليزية مع المستعمرات الأسبانية في أمريكا وجزر المحيط الهادي. ودعى حملة الأوراق الحكومية ليستبدلوا بها أسهماً في الشركة. وأصبح الملك جورج الأول "محافظاً لها"، وبذلت كل الجهود لنشر الاعتقاد بأن مرسوم احتكارها يعد بأرباح عالية. وسرت العدوى من النجاح الظاهري لنظام لو في فرنسا المعاصرة إلى إنجلترا، فاعترتها حمى مضاربة مماثلة. وما مضت ستة أيام على عرض الشركة قبولها الأوراق الحكومية ثمناً لأسهمها حتى قبل الاقتراح ثلثا حملة الأوراق واشترى كثيرون غيرهم أسهماً ارتفعت في ظرف شهر واحد من 77 جنيهاً إلى 123.5 (1719). ولكي يضمن مديرو الشركة استمرار التعاون الحكومي قرروا تقديم هدايا سخية من الأسهم لأعضاء الوزارة ولاثنتين من خليلات الملك(28). وقد حذر روبرت ولبول، ولم يكن قد تولى منصب الوزارة بعد، مجلس العموم من المشروع لأنه "مضاربة... مؤذية"، وقال إن المشروع يستهدف رفع قيمة الأسهم رفعاً مفتعلاً بإثارة تهافت الناس عليها والإبقاء عليه، وبالوعد بأرباح من أموال لن تفي بالغرض، وتنبأ، في دقة عجيبة، بأن المشروع سيفشل، وأنه لو ترك



 صفحة رقم : 11658   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


ليورط جماهير الشعب لجر فشله سخطاً شاملاً وخطراً(29). وقال إنه ينبغي وضع حد ما على الأقل لارتفاع أسهم الشركة. ولكن مجلس العموم أبى الاستماع إلى تحذيره. وفي 7 أبريل 1720 وافق كلا مجلسي البرلمان على اقتراحات الشركة. وفي 12 أبريل أصدرت الشركة أسهماً جديدة بسعر 300 جنيه للسهم، فتم الاكتتاب فيها على الفور. وفي 21 أبريل أعلنت، وهي منتعشة ناضرة بفضل دفع الحكومة فائدة على الأوراق الحكومية التي أصبحت الآن ملكاً للشركة، أنها ستدفع أرباحاً صغيرة تبلغ عشرة في المائة، واستغلت الحماسة التي أثارها هذا الإعلان لطرح إصدار آخر من الأسهم بسعر 400 جنيه (23 أبريل). فلم تمض ساعات حتى تم الاكتتاب فيه. ورفع التهافت على شراء الأسهم ثمنها إلى 550 جنيهاً في 28 مايو، وإلى 890 جنيهاً في 2 يونيو، وفي يوليو بيع إصدار جديد بسعر 1.000جنيه للسهم. وتهافت المجتمع الراقي كله على الاكتتاب، الأدواق والقساوسة والسياسيون والموسيقيون والشعراء، فأصبح شارع البورصة مشهداً لمنافسة هائجة مائجة على الشراء لم ير لها نظير إلا في شارع كانكمبوا بباريس في الفترة ذاتها تقريباً؛ فلقد كشفت طبيعة البشر عن نفسها عبر الحدود. وكان الناس يعقدون صفقات الأسهم في الحانات، ومشارب القهوة، ودكاكين صانعات القبعات، وفي لك ليلة يحسب الرجال والنساء أي ثراء أصابوا، وما كان يمكن أن يصيبوا من مزيد لو أنهم اشتروا في تاريخ سابق، أو قدراً أكبر من الأسهم. وبلغت لهفة المال العام على المضاربة مبلغاً أغرى الشركة بطرح إصدارات صغيرة بلغت ستة وثمانين إصداراً. وبيعت أسهم أصدرتها شركات أنشئت لتحويل المعادن إلى فضة، ولتشييد المستشفيات للأطفال غير الشرعيين، ولاستخراج الزيت من الفجل، ولإحداث الحركة الدائمة، ولاستيراد الحمير من أسبانيا. وأعلن مؤسس عن "شركة لمواصلة مشروع عظيم النفع، ولكن أحداً لن يعرف كنهه" إلا فيما بعد، فتلقى ألف اكتتاب كل منها بجنيهين قبل أن ينتصف النهار، ثم اختفى بعد الظهر(30).



 صفحة رقم : 11659   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


وكان شطط بعض هذه "الفقاعات" الصغرى (وهو الصف الذي وصفهم بعد ذلك العهد) بداية رد الفعل ضد مشروع بحر الجنوب. وجدد ولبول وغيره تحذيراتهم وباعوا أسهمهم. وفي 11 يونيو حرم الملك جميع إصدارات الأسهم إلا للشركات التي رخص لها البرلمان بذلك. وسرعان ما انهارت المشروعات الصغرى، فهدأ فشلها من حمى المضاربة. وانتشرت شائعة بأن الحكومة الأسبانية أخذت تضيق تجارة الشركة في المستعمرات الأمريكية تضييقاً شديداً. وفي يوليو وصل نبأ بأن مشروع لو أو "فقاعة المسسبي" قد انفجرت في باريس. وباع السير جون بلاونت وغيره من مديري شركة بحر الجنوب أسهمهم سراً بربح كبير. وخلال أغسطس كله توالى هبوط الأسهم حتى إذا جاء 2 سبتمبر لم يتجاوز سعرها سبعمائة جنيه. هذا استحال التهافت على البيع ضرباً من الهلع والذعر الجماعي، فازدحمت مدخل شارع البورصة ازدحاماً خانقاً. وهبطت الأسهم إلى 570 جنيهاً، ثم إلى 400 جنيه، ثم إلى 150 جنيهاً، ثم إلى 135 جنيهاً (29 سبتمبر). وخسرت مئات الأسر الإنجليزية مدخراتها في هذا الانهيار. وسرت بين الناس قصص الإفلاس والانتحار(31). وأفلست المصارف التي كانت قد أقرضت المال بضمان شهادات أسهم شركة بحر الجنوب. وطالبت الاجتماعات العامة في جميع أرجاء إنجلترا بعقاب المديرين، ولكنها غفرت للجمهور غروره وجشعه. وعجل الملك بالعودة من هانوفر ودعا البرلمان للانعقاد. وفر أمين صندوق الشركة إلى فرنسا مصطحباً الكثير من السجلات التي كانت ستدين المديرين وفي يناير 1721 وجدت لجنة برلمانية بعد فحصها دفاتر الشركة، "صورة للظلم والفساد(32)"مذهلة حتى بمقاييس ذلك العهد، حين كان التشريع عن طريق إفساد البرلمان كأنه جزء من دستور إنجلترا. والظاهر أن المديرين كانوا قد أنفقوا 574.000 جنيه في رشوة كبار رجال الحكومة. وطالب بعض أعضاء البرلمان بعقوبات عنيفة، وأقترح أحدهم بأن يخاط المديرون المذنبون في زكيبة ويلقوا أحياء في التيمز(33). وحمى وطيس الجدل حتى تحدى الأعضاء بعضهم بعضاً للمبارزة،



 صفحة رقم : 11660   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> التمهيد للثورة الصناعية


وأصيب عضو منهم بأزمة ضغط مرتفع ومات في الغد. ودعا المديرون ووزراء الحكومة إلى المحاكمة أمام المجلس. فحكم على جون ايزلابي، وزير الخزانة، بالسجن في برج لندن، وصودرت ممتلكات المديرين- منهم إدوارد جبون، جد المؤرخ- فلم يترك لهم سوى عشرة في المائة من ثروتهم. ولوحظ أن السير جون بلاونت، الذي كان من أوائل منظمي الشركة، ومن أول من بدأوا ببيع أسهمهم، كان رجلاً "ذا مسلك غاية في التقوى" وكان "دائماً يهاجم ما يشين العصر من سرقة وفساد" ويندد بجشع الأغنياء(34). أما روبرت ولبول الذي برر الحدث تنبؤاته، فقد أشار بالاعتدال في روح الثأر الذي اتسم به رد الفعل، وخفف من انهيار الشركة بإقناع مصرف إنجلترا وشركة الهند الشرقية بامتصاص نحو 18.000.000 جنيه من الأسهم الخاسرة. وقد وجد في شركة بحر الجنوب من الاحتياطيات ما يسمح بدفع ثلاثة وثلاثين في المائة لحملة أسهمها في وقت مبكر. وجردت الشركة من امتيازاتها وسحرها، ولكنها كانت تكسب من بيع العبيد، فظلت على قيد الحياة، في حيوية هابطة حتى عام 1853.



 صفحة رقم : 11661   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> مظاهر الحياة في لندن


2- مظاهر الحياة في لندن


يقدر الإحصائيون الأجرياء سكان أوربا بنحو 100 مليون نسمة في 1650، و140 في 1750. وقد قدر فولتير في 1750 سكان فرنسا بعشرين مليوناً، وألمانيا والنمسا باثنين وعشرين، وبريطانيا العظمى وأيرلندة بعشرة، وروسيا الأوربية بعشرة، وأسبانيا والبرتغال بثمانية، وبولندة بستة، وخص كلاً من تركيا وأوربا، والسويد، والدنمرك (مضافاً إليها النرويج) والأقاليم المتحدة، بثلاثة ملايين(35). وذهب قانوني ألماني إلى أن الزيادة في سكان شمالي أوربا مردها إلى حد كبير انتقال الرهبان والراهبات من حياة العزوبة إلى الأبوة والأمومة نتيجة لحركة الإصلاح البروتستنتي، وحض على "إقامة تمثال للوثر بوصفه حافظ النوع الإنساني"(36). ولكن علينا ألا نغالي في عفة رهبان العصر الوسيط. وأغلب الظن أن زيادة



 صفحة رقم : 11662   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> مظاهر الحياة في لندن


السكان مرجعها تحسينات الزراعة والنقل التي زادت من كميات الطعام وتوزيعه، وخطوات النهوض بالصحة العامة والعلاج الطبي التي خفضت نسبة الوفيات في الأطفال والبالغين. ويبدو أن سكان إنجلترا وويلز الذين نيفوا على ثلاثة ملايين في 1500، بلغوا أربعة في 1600 وستة في 1700، وتسعة في 1800(37). وكل الزيادة تقريباً كانت من نصيب المدن التي غذت الصناعة والتجارة وتغذت منهما. وفي عام 1740 فاخرت لندن بنحو 725.000 من الأهالي، فأصبحت الآن الحفل مدن العالم بالسكان، وندد بها ديفو في 1722 لأنها "تضخمت"(38) وتلتها باريس التي بلغ سكانها 675.000 في 1750، ثم أمستردام وفينا، ونابلي، وبلرمو، وروما. وبلغ سكان لندن عشرة أضعاف سكان برستول، التي كانت ثاني أكبر المدن الإنجليزية، وثمانية عشر ضعف سكان نورتش، ثالث أكبر المدن الإنجليزية. وكانت مراكز العواصم تجمع في يدها خيوط الحياة الاقتصادية للأمة، وتحول كدّ الحقول والمناجم والمتاجر ومنتجاتها إلى أرباح المال اللطيفة الرقيقة. وأعان لندن موقعها على النمو من نمو التجارة والمستعمرات الإنجليزية. فكان في استطاعة السفن عابرة المحيط أن تبحر مصعدة في التيمز، ومع أن أرصفة الميناء (حتى 1794) لم يكن في طاقتها أن تؤويها، فإن جيشاً من عمال التفريغ والشحن والغلاظ، يستخدم أسطولاً من ثلاثمائة صندل، كان مهيأ لنقل البضائع من السفينة إلى الساحل أو غلى سفينة أخرى، وهكذا غدت لندن مركز توزيع شاغياً بالحركة لإعادة تصدير الواردات من وراء البحار إلى القارة. ولم يكن شاطئ النهر أنيقاً كما نجده الآن، فقد كان يزخر بعمال الشحن المفتولي العضل، والملاحين المتعطشين للجنس، والنساء المتحللات ملبساً وخلقاً، القذرات مظهراً ولفظاً، الساكنات الأكواخ والحانات، المنافسات للبحارة في السكر والعنف(39). أما النهر نفسه فكان عجيب المنظر، فيه خليط من السفن التي تتفاوت من قوارب الصيد الشراعية إلى البوارج الضخمة، بينما تعبر المعديات الصغيرة النهر غدواً ورواحاً. وكان الملك، وعمدة لندن، ونفر من الأعيان، يملكون "ذهبيات" أنيقة، ويستخدمونها للرحلة صعداً إلى ونزور أو غيرها من البلاد-وظل كوبري لندن حتى 1750 الطريق الوحيد لاختراق المدينة على الأقدام



 صفحة رقم : 11663   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> مظاهر الحياة في لندن


من شمالها إلى جنوبها، ولكن في ذلك العام تم بناء كوبري وستمنستر، وفي 1757 أزيل عن كوبري لندن عبء البيوت والمتاجر الذي كان يثقله. وقد أعجب الرسام البندقي أنطونيو كاناليتو، الذي زار لندن في 1746 و1751، بمشاهد الحركة التي يعج بها الماء فخلف لنا بعض الصور الشهيرة التي ترينا التيمز كما عرفه وأحبه بوب وجونسون. ولعل جونسون أحب شوارع لندن أكثر حتى من حبه لنهرها، مع أنها كانت لا تزال سيئة الإضاءة رديئة الصرف، لا ينظفها في الغالب سوى ماء المطر الهاطل عليها. وكان قد تقرر في 1684 نظام لإضاءة الشوارع يقام بمقتضاه مصباح مضاء بالشمع عند كل عاشر بيت، ولكن المصابيح لم تضاء إلا في الليالي التي يحتجب فيها القمر، وحتى منتصف الليل فقط، ومن عيد الملاك ميخائيل (29 سبتمبر) إلى عيد السيدة العذراء فقط (25 مارس). وفي 1736 وافقت سلطات المدينة على إقامة خمسة عشر ألف مصباح زيتي في أنحاء لندن كلها، تظل مضيئة من غروب الشمس إلى شروقها، وكان هذا حدثاً مشهوداً في حياة العاصمة حسن كثيراً من أمن شوارعها في الليل. كان أكثر الشوارع منذ حريق 1666 الكبير مرصوفاً بالحجارة الصغيرة المدوّرة، وظل الرصف بهذه الطريقة قاعدة متبعة إلى القرن التاسع عشر. وكانت تجري في وسط كل شارع قناة تتلقى الكثير من النفاية وتصرف المطر. ولم يكن هناك أفاريز بل صف من الشواخص حدد طريقاً للمشاة عرضه ستة أقدام. وكانت الشوارع تعج بأصوات عربات النقل، وخيول الجر، والحناطير، والمركبات الخاصة، وكلها تجرها الخيل التي تقعقع حوافرها على أحجار الرصف، كذلك كان هناك الباعة الجوالون-وكثير منهم نساء-يسرحون بعشرات الأطعمة أو الثياب، والصناع المهرة المتنقلون يعرضون إصلاح ما فسد، وسائقو العربات يتشاجرون والكلاب تنبح، والمتسولون يستجدون، ومغنو الشوارع يصيحون بالأغاني الشعبية، والأراغن تقفز بألحانها من جدار إلى جدار. وكان الناس يشكون من هذه الضوضاء ولكنهم يحبونها، فهي السبيل الذي لا غنى عنهم إلى معاشهم. ولم يعمل الناس في صمت سوى النشالين والمومسات.



 صفحة رقم : 11664   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> مظاهر الحياة في لندن


وبدأ تثبيت أرقام الشوارع على البيوت في سنة 1708. وكان أكثرها في سنة 1750 مزوداً بالمياه الجارية. وأخذت وسائل النظافة تتحسن. وكان القانون يطالب رب كل أسرة بأن يحتفظ برصيف الشارع نظيفاً أمام بيته، ولكل حي زبال ينظم جمع القمامة. أما المراحيض فكانت عادة مراحيض خارجية توضع وتستر في الحديقة أو الحوش. وكان لبعض المناطق مجار، ولكن لم يتح لندن نظام مجار عام إلا سنة 1860. أما المداخن فيطهرها منظفو المداخن، الذين يتسلقونها بضغط كيعانهم وركبهم على جدرانها الداخلية المصنوعة من الطوب أو الحجر، واستمر هذا التشويه القاسي لأجسام الأطفال حتى عام 1817. وكان شطر كبير من السكان يحشرون في أحياء فقيرة مزدحمة تلوثها القمامة والفضلات فتولد عشرات الأمراض(40). وفي حيين من أحياء لندن-هما وابنح ولايمهاوس-كان واحد من كل اثنين من السكان تقريباً يعيش عيش الكفاف، معتمداً على الإحسان، أو السرقة، أو البغاء، في الحصول على المسكن والطعام. أما الأطفال فيجرون حفاة قذرين شعثاً في الشوارع لا تسترهم غير أسمال ولا يتعلمون غير الإجرام. في هذه الشوارع الفقيرة ندر أن اهتم الرجال والنساء بالزواج فالعلاقات الجنسية حدث عابر، وسلعة تسوق دون احتفال أو قانون. ولم يكد يوجد في هذه الأحياء كنائس على الإطلاق، أما دكاكين الجعة والحانات فكثيرة. وفيها أيضاً كانت بؤر اللصوص، والنشالين، وقطاع الطرق، والقتلة المحترفين. وكان كثير من المجرمين ينتظمون في عصابات. فإذا تعرض لهم الحراس جدعوا أنوفهم. وألفت جماعة منهم يدعون "الموهوك" أن يخرجوا إلى الشوارع سكارى، ويخزوا المارة بالسيوف، ويكرهوا النساء على الوقوف على رءوسهن، ويسلموا عيون من يقاومونهم من ضحاياهم. أما لصوص العصابات الأقل ضراوة فكانوا يقنعون بكسر نوافذ الدكاكين والبيوت. ذكر سموليت في 1730 "أن اللصوص والسارقين أصبحوا الآن أشد استهتاراً وضراوة مما كانوا في أي عهد منذ عرف البشر الحضارة(41)". وفي 1744 حرر عمدة لندن وحاكمها خطاباً للملك قراراً فيه أن "عصابات شتى قوامها أعداد كبيرة من الأشخاص ذوي النزعة الشريرة، المسلحين بالهراوات، والطبنجات، والسيوف، وغيرها من الأسلحة الخطرة، يعيثون فساداً



 صفحة رقم : 11665   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> مظاهر الحياة في لندن


لا في الأزقة والممرات الخاصة فحسب، بل في الشوارع العامة وأماكن الاحتشاد العادية، ويقترفون أخطر الاعتداءات على أشخاص رعايا جلالتكم(42)". وقال هوراس ولبول في 1752: "إن المرء ليضطر إلى السفر، حتى في الظهيرة، وكأنه ماض إلى ساحة قتال(43)". وكانت العاصمة الكبرى بالطبع شيئاً أكثر كثيراً من هذه الحصيلة المتكاثرة من الفقر والجريمة، فلقد كانت إلى ذلك بلد البرلمان والقصور الملكية، ووطن ألف محام وتاجر وصحفي وشاعر روائي وفنان وموسيقى ومعلم وكاهن ورجل بلاط. ويجب ونحن ماضون في طريقنا أن نضيف غلى رؤيتنا للندن القرن الثامن عشر بيوت الطبقات المتعلمة الفخمة وأخلاقها وعاداتها، وجمهور المصلين في الكنائس، والشكاك، والعلماء، والفلاسفة، وظرفاء "المجتمع الراقي" وحسانه وعشاقه، وحدائق اللهو في فوكسهول ورينلاج، والمتنزهين في الحدائق العامة وشارع بل مل، وسباقات الزوارق والمهرجانات والذهبيات على نهر التيمز، والأحاديث المتداولة في مشارب القهوة والنوادي، ودكاكين الحرفيين، وتجار الملابس، والجواهرية، وأسباب الترويج في البيت والرياضة في الخلاء، والجموع المحتشدة في معارك الديكة، ومباريات الملاكمة التكسبية، وعروض الدمى، والمسارح، والأوبرا-عندها فقط تكون رؤيتنا للحياة اللندنية منصفة كاملة إلى حد معقول، تتيح لنا أن نحس التاريخ في كل نواحيه ينساب خلال أجساد وأرواح جيلين و700.000 نفس.



 صفحة رقم : 11666   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> المدارس


3- المدارس


كانت الحياة في إنجلترا كما في غيرها من الأقطار في هذه الحقبة تبدأ بنسبة عالية من وفيات الأطفال، يموت 59% من مجموع الأطفال المولودين بلندن قبل أن يبلغوا الخامسة، و64% قبل العاشرة(44). وكان كثير من الأطفال يلقون خارجاً عقب ولادتهم، ومن بقي من هؤلاء اللقطاء على قيد الحياة يربون على نفقة الدولة ثم يوضعون في إصلاحيات للأحداث. ونجم الكثير من التشوهات الجسمية عن إهمال المولدات والأمهات.



 صفحة رقم : 11667   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> المدارس


فإذا كان الأبوان فقيرين لم ينل الطفل حظاً من التعليم في المدرسة إطلاقاً. وكان هناك "مدارس خيرية" تقدم التعليم الأولي للجنسين ولجميع الطبقات مجاناً، ولكن حملة الملتحقين بها لم يتجاوز 28.000 في 1759، وكانت لا تقبل المنشقين عن الكنيسة الأنجليكانية، ولا تصل إلا لنسبة ضئيلة من الفلاحين، ولا تكاد تصل إلى فقراء المدن إطلاقاً. يقول حجة إنجليزي "إن الكثرة العظمى من الإنجليز كانوا يمضون إلى قبورهم دون تعليم"(45). أما في طبقة الصناع فالتلمذة الصناعية تعد خير تعليم. وأما أطفال الطبقة الوسطى فيجدون مدارس يقوم عليها عادة "رجال محطمو الأعصاب، أو مفلسون، أو مطرودون من وظائف أخرى"(46) وإلى ذلك "مدارس نسوية" تعلم فيها المعلمات المتواضعات مبادئ القراءة والكتابة والحساب والكثير من الدين للصبيان والبنات الذين يستطيع آباؤهم دفع مصروفاتهم. وفي جميع المدارس كان التركيز على تعليم الطلاب القناعة بمرتبتهم التي ولدوا فيها، وإبداء الخضوع الواجب للطبقات العليا. وكانت قلة قليلة تدخل المدارس الثانوية حيث يستطيع الصبيان أن يضيفوا شيئاً من اللاتينية واليونانية إلى مبادئ القراءة والكتابة والحساب، لقاء رسوم متواضعة تبصر المعلمين بمكانهم الوضيع في السلم الاجتماعي. وكان النظام صارماً، وساعات الدرس طويلة تمتد من السادسة إلى الحادية عشرة والنصف صباحاً، ومن الواحدة إلى الخامسة والنصف مساءً. وأجود من هذه المدارس، المدارس الخاصة، وأشهرها ايتون، ووستمنستر، وونشستر، وشروزبري، وهارو، ورجبي-حيث يستطيع الشباب من الصفوة التحضير للجامعة نظير ستة وعشرين جنيهاً أو نحوها في العام، وادخار شارات كلاسيكية يتفاخرون بها في المستقبل. وإذ كانت هذه المدارس الخاصة لا تقبل غير صبيان الكنيسة الأنجليكانية، فإن المنشقين على هذه الكنيسة-من معمدانيين، ومشيخيين، ومستقلين، وتوحيديين، وكويكريين، ومجمعيين، ومثوديين-هؤلاء أنشئوا أكاديميات لشبابهم قل التركيز فيها على الكلاسيكيات القديمة، وازداد على اللغات الحديثة،



 صفحة رقم : 11668   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> المدارس


والرياضيات، والتاريخ، والجغرافيا، والملاحة-وهو تعليم أنسب لأبناء الطبقة الوسطى. وحرم المنشقون من دخول الجامعات. وكان أكثرها طلاباً ينتمون إلى أسر موسرة، ولكن بعض الصبيان رقيقي الحال تلقوا منحاً دراسية من المحسنين أو المؤسسات الخيرية، وبعض الطلاب الذين يقومون بخدمات للجامعة لقاء مكافآت (ويسمون servtitors أو sizars) مثل نيوتن، شقوا طريقهم خلال قاعات الدرس الواعية بالفوارق الطبقية. وقد عانت أكسفورد وكمبردج من الركود في هذه الفترة بسبب النزعة المحافظة في المناهج والطرق والأفكار. وأبدت كمبردج استعداداً أكبر للتوسع في الدراسات العلمية على حساب الدراسات الكلاسيكية واللاهوت، ومع ذلك وصفها تشسترفيلد بأنها "غارقة في أحلك الظلمات". أما أكسفورد فقد تشبثت باللاهوت القديم وبأسرة ستيوارت الساقطة، ولم تسمح لملوك أسرة هانوفر الغشم بزيارتها. وقال آدم سمث، الذي كان يطلب العلم بأكسفورد في 1745، إنه لم يتعلم فيها إلا القليل، أما جبون الذي درس فيها في 1752، فقد ندّد بمدرسيها لأنهم سكيرون جهلة، وندم على السنين التي ضيعها في الجامعة. وآثر الكثير من الأسر استخدام المدرسين الخصوصيين(47). أما البنات فكن يتلقين تعليماً أولياً في مدارس القرية أو المدارس الخيرية-فيتعلمن القراءة والكتابة، والخياطة، وأشغال الإبرة، والغزل، وقليلاً من الحساب، وكثيراً من الدين. وتلقى بعضهن التعليم على يد معلمين خصوصيين، ومنهن من درس اللغات والآداب الكلاسيكية خفية كما فعلت الليدي ماري ورتلي مونتاجيو. قالت الليدي ماري "إن بنات جنسي تحظر عليهن عادة دراسات من هذا النوع، والجهل يعد مجالنا المناسب لنا، بحيث أي إسراف فيه من جانبنا يغتفر لنا أكثر مما يغتفر أقل تظاهر بمعرفة القراءة أو بالإدراك السليم... وليس في الوجود مخلوق... أشد تعرضاً للسخرية العامة من المرأة المثقفة". وكانت تميل إلى الظن بأن الرجال كانوا يبقون النساء في جهلهن ليستطيعوا إغواءهن بتكلفة أقل(48). وإذا كان لنا أن نحكم من دخول محظيات الملك، فإن النساء وفقن كل التوفيق بغير



 صفحة رقم : 11669   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> المدارس


الدراسات الكلاسيكية، ولم يكن بهن حاجة إلى شاعر كأوفيد ليعلمهن لعبة الحب.



 صفحة رقم : 11670   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الأخلاق


4- الأخلاق


لعل العلاقات السابقة على الزواج كانت بين النساء أقل شيوعاً في ذلك العهد مما هي عليه اليوم (1965)، ولكن البغاء ازدهر إلى حد لم يكد يعرف ثانية حتى يومنا هذا. وقد قدر مراقب أجنبي عدد المومسات بخمسين ألف في لندن، يوجدن في حانات المدينة، وفي الفنادق الصغيرة على الطرق، وفي حدائق المدينة، وفي المراقص العامة، وحفلات الموسيقى، والمسارح، وكن في شارع اكستر وحي ستراند يجلسن إلى النوافذ تشجيعاً للمترددين من الزبائن. وفي "دروري لين" (شارع المسارح بلندن)-كما تغنى الشاعر جون جاي في تمثيليته "تريفيا": هي التي تمشي في الليل بخطى وئيدة، لا يضم جسدها اللدن مشد قاس، وتحت المصباح تتوهج شرائطها المبهرجة، والمعطف حديث التنظيف، وسيماء المومس... وبأصوات التملق تستميل الأذن الساذجة قائلة "يا فارسي الهمام! يا فاتني! يا حبيبي! يا عزيزي!"(49). ولم تأخذ القانون بهن رحمة. فإذا أمسكت إحداهن وهي تتحرش برجل، زج بها في السجن وضربت بالسوط ووضعت في المشهرة (آلة التعذيب). وقد وصفت "مجلة جرب ستريت" في عدد 6 مايو 1731 مصير إحدى هؤلاء "المدامات" فقالت "وقفت أمس الأم نيدهام في المشهرة ببارك بليس قرب شارع سانت جيمس، ونكل بها الجمهور تنكيلاً شديداً. وقد اشتد بها الإعياء حتى استلقت بطول المشهرة، ورغم ذلك ظلوا يحصبونها بقسوة، ويظن أنها ستموت بعد يوم أو يومين(50). ولكن لم يكن يصل غلى المشهرة غير أفقر البغايا. فقد كن يتفادين القانون عادة بالرشا، أو يخرجهن صاحبهن بكفالة، وأحسّ بعض حفظة القانون-ربما لأنهم تعرفوا فيهن على "مضيفات" سابقات لهم-بعض العطف على نساء عاقبتهن القوانين على فسق الرجال.



 صفحة رقم : 11671   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الأخلاق


وأغلب الظن أنه لم يأت إلى فراش الزوجية محتفظاً بعفته عشرة من كل مائة ذكر من أهل لندن. لقد ندد القوم بالرذيلة علانية، ولكنهم احتقروا الفضيلة سراً.. وكتاب جون كليلاند المسمى "مذكرات غانية" (1749)، والذي عرف فيما بعد باسم "فاني هل"، وهو سلسلة من الأغواءات المفصلة، كان (وما زال) من أفحش كتب ذلك القرن وأكثرها شعبية. وألف بعض الرجال جماعات للاستمتاع المتبادل فيما بينهم. وروت جريدة لندن في عددي 23 و30 أبريل 1725 نبأ القبض على سبعة لوطيين، وفي 14 مايو سجلت نبأ شنق ثلاثة آخرين بتهمة اللواط، ثم أضافت "نمى إلينا أنهم (أي الشرطة) اكتشفوا عشرين بيتاً أو نادياً يجتمع فيها اللوطيون، وهم يراقبون أيضاً منتديات ليلية يلتقي فيها هؤلاء الوحوش في جمع كبير". وفي 7 يوليو روت الجريدة أدانة "روبرت هويل ويورك هورنر بفتحها بيوتاً في وستمنستر يستقبلان فيها هواة هذه الرذيلة المنكرة". وفي23 يوليو أعلنت أن: "مرجريت كلاب، التي أدينت بفتحها بيتاً سرياً يستخدمه اللوطيون... حكم عليها بوضعها في المشهرة، وبدفع غرامة قدرها تسعون ماركاً، وبالسجن سنتين"(51). وينبئنا مصدر وثيق بأن "نسبة كبيرة جداً من أهل لندن كانوا يعاشرون النساء حراماً دون زواج(52)". وكانت زيجات الحب في ازدياد، على الأقل في روايات رتشردسن وفيلدنج، ولكن معظم الزيجات كان يرتبها الآباء بعد الوزن الدقيق لمهر العروس بالقياس إلى دخل العريس الفعلي أو المنتظر. وقد حرم قانون صدر في 1753 على الأشخاص دون الحادية والعشرين الزواج بغير موافقة والديهم أو الأوصياء عليهم. ولما كان هذا القانون لا ينطبق إلا على إنجلترا، فإن كثيرين من العشاق الفارين من آبائهم كانوا يعبرون الحدود إلى إسكتلنده، حيث يتبع القساوسة في قرية جريتنا جرين قانوناً أكثر يسراً. وكان هناك مزيد من التيسيرات على العاشقين المتلهفين يوفرها رجال الدين الجشعون الذين يعقدون الزيجات السرية في الحانات أو المواخير أو العليات أو غير ذلك من الأماكن في شارع فليت أو على



 صفحة رقم : 11672   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الأخلاق


مقربة منه (وفي الشارع سجن للمدينتين). وكان في كل حانة تقريباً في تلك المنطقة كاهن من هذا النوع على استعداد لتزويج أي إنسان لقاء رسم، دون أن توجه إليه أسئلة أو يطالب بترخيص. وشاع عن أحد هؤلاء القساوسة أنه كان يعقد ستة آلاف قران في السنة. وكانت الزيجات تبرم في عاطفة مشبوبة، ثم تفسخ وقد ذابت حرارتها؛ وكان آلاف النساء يهجرن رجالهن، وكان البحارة يتزوجون وهم يقضون يوماً على البر، ويحبون، ثم يرحلون. ورغبة في القضاء على هذا المنكر أصدر البرلمان قانوناً (1753) بألا يعتبر أي زواج شرعياً، باستثناء زيجات الكويكرز أو اليهود، ما لم يعقده قسيس أنجليكاني في كنيسة أبرشية، بعد نشر إعلان بالزواج في الكنيسة على مدى ثلاثة آحاد متعاقبة؛ وكل مخالف لهذا القانون يعاقب بالنفي إلى المستعمرات. ولم يكن الطلاق مسموحاً به في إنجلترا (قبل 1857) دون الحصول على قانون خاص من البرلمان(53)، وكانت تكاليف هذا الإجراء تجعل منه ترفاً مقتصراً على الأغنياء. وفشا الفسق في جميع الطبقات إلا الوسطى، وضرب جورج الأول والثاني مثالاً في ذلك-والناس على دين ملوكهم. ففي عام 1700 كتب كونجريف يقول "كل إنسان في هذا المجتمع ولد بقرون طالعة(54)". ولم تتغير الحال إلا قليلاً في 1728، حين جعل الكاتب المسرحي "جاي" السيدة بيتشم في "أوبرا الشحاذ" تسأل زوجها عن ابنتها "بالله لم يجب أن تشذ ابنتنا بوللي عن بنات جنسها فتقصر حبها على زوجها؟.. كل الرجال لصوص في الحب، ويزداد عشقهم للمرأة إن كانت ملك رجل آخر(55)". على أنه يمكن القول عموماً بأن أخلاق النساء كانت في إنجلترا خير منها في فرنسا، وأنه في الطبقات الوسطى، التي ظلت التقاليد البيورتانية فيها قوية، أوشكت العفة أن تكون إفراطاً في الاحتشام، وقد تجد من النساء زوجات من الطراز الذي يحلم به الرجال-صبورات، مجدات، وفيات. وكان المعيار ذو الوجهين مفروضاً ومقبولاً. فكانت النساء المهذبات يسمعن الكثير من الحديث النابي ويقرأن فيلدنج وسموليت، ولكن كان ينتظر منهن أن تحمر وجوههن خفراً مغرياً، وأن يغشي عليهن في لمح البصر.



 صفحة رقم : 11673   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الأخلاق


وكان ينظر إلى المرأة في جميع الطبقات على أنها أدنى من الرجل بحكم الطبيعة وبقضاء لا سبيل إلى رده. ولقد ارتضت هذه النظرة حتى الليدي ماري المتكبرة المتمردة، ولو ساخرة كارهة: "لست أحاول الآن المطالبة بمساواة الجنسين، إذ لا شك في أن الله والطبيعة قد ألقيا بنا في مرتبة أحط، فنحن جزء أدنى من الخليقة، وعلينا إطاعة الجنس الأعلى والإذعان له، وكل امرأة تسمح لغرورها وحماقتها أن ينكرا ذلك إنما تتمرد على ناموس الخالق ونظام الطبيعة الذي لا ينازع(56)". وكانت فترة حكم البيورتان قد أنزلت المرأة عن مقامها الذي ارتقت إليه أيام اليزابيث. وحكم أحد الطلاب بأنه "حوالي عام 1750 كانت النساء في إنجلترا قد نزلن إلى مستوى منحط جديد لم يكد يفضل وضعهن في القرن الثاني عشر(57)". وتردت الفضائل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى الدرك الأسفل. فالقمار الذي قاومته الملكة آن من قبل رد إلى الخطوة الملكية بفضل جورج الأول والثاني. وكان موظف خاص يسمى "الحاجب" منوطاً بالإشراف على القمار في البلاط الملكي. وكان لعب الورق التسلية المفضلة للأغنياء والفقراء، وندر أن برئ من المراهنة، وكثيراً ما شابه الغش. ولم يكن من غير المألوف للمتبطل المتلاف من أبناء الطبقة العليا أن يكسب أو يخسر مائتي جنيه في جلسة واحدة، وقد خسر دوق ديفونشير ضيعته في لعبة واحدة؛ وكان اللورد تشسترفيلد يقامر باستهتار فيما بين المحاضرات التي يلقيها على ابنه، وأصبح القمار شهوة سيطرت على الناس أجمعين في عهد جورج الأول إلى درجة لعلها لم تضارع بعده. وفتحت ملاعب القمار في نادي هوايت، وفي تشيرنج كروس، وفي لستر فيلدز، وفي جولندز سكوير، وفي باث. وفي محفورة للمصور هوجارت سماها "رحلة الفاجر" نرى رجالاً ونساء يقامرون في نادي هوايت، ولا يعبأون بإنذار ينبئهم بأن المبنى يحترق، فلا بد من مواصلة معركة اللعبة إلى نهايتها الحاسمة . وقد



 صفحة رقم : 11674   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الأخلاق


حظر جورج القاني هذا القمار المنظم، ولكنه اعتمد يانصيب الحكومة الذي كان قد تقرر في 1569 وعمر حتى 1826. وكانت تذاكر اليانصيب تباع للجمهور بكل وسيلة من وسائل الترويج، واشتد الانفعال والتحمس لها إلى حد أغرى الخدم بسرقة سادتهم، والكتبة بسرقة أرباب عملهم، طمعاً في نصيب من الغنيمة(58). ولعل السكر كان أكثر انتشاراً من القمار. وكانت الجعة بنوعيها (البيرة والمزر ale) هي الشراب الوطني. وكان الرجل اللندني يستهلك مائة جالون منها في السنة، أو ربع جالون في اليوم، باعتبارها أسلم وألطف مذاقاً من الماء. وخلق المناخ الرطب طلباً على الروم، والبنش، والبرندي، والجن، والكورديال، والوسكي، وكان النبيذ دواء مفضلاً. وانتشرت الحانات ومخازن الخمور في كل مكان، وكان 1.350 بيتاً من بين 7.066 في أبرشية هوبورن تبيع الخمر. وأغضي ملاك الأرض-والبرلمان إذن-عن تجارة الوسكي، لأنها فتحت سوقاً إضافية لشعيرهم وقمحهم(59)، وكان ثلث الأرض المنزرعة في إنجلترا تقريباً يزرع شعيراً. وأخذ الوسكي يحل عند علية القوم محل النبيذ لأن الحروب المتكررة مع فرنسا عاقت التجارة مع بوردو وأوبورتو، وأدخل الهولنديون والألمان إلى البلاد تفضيل الخمور القوية. وهنا، كما في القمار، ضربت الحكومة المثل للشعب. فقد روي عن هارلي، رئيس وزراء المملكة آن، إنه كان يمثل بين يدي الملكة مخموراً. وكان بولنبروك يسهر أحياناً الليل كله وهو يحتسي الخمر، أما روبرت ولبول فقد علمه السكر أبوه، الذي عقد النية على ألا يراه مخموراً ابن له صاح(60). وأزعج الحكومة ولع الجماهير بشراب الجن. فقد زادت الخمور المقطرة في بريطانيا من 527.000 جالون في 1684 إلى 5.394.000 في 1735، دون ارتفاع مقابل في عدد السكان؛ لا بل أن الأطباء أنذروا الحكومة بأن شرب الجن قد زاد معدل الوفيات بسرعة في لندن؛ وعزت هيئة المحلفين الكبرى في مدلسكس الكثير من فقر العاصمة وجرائمها إلى ذلك المسكر. وعلق باعة الجن بالتجزئة لافتات تعهدوا فيها لزبائنهم بأن يسكروهم نظير بنس، وعرضوا عليهم النوم على حصر من القش مجاناً في قبو المؤونة.



 صفحة رقم : 11675   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الأخلاق


وحاول الحكام المرتاعون حظر شرب الجن بفرض الضرائب. ففرض قانون أصدره البرلمان في 1736 رسماً على الجن قدره عشرون شلناً للجالون، واشترط دفع خمسين جنيهاً في العام نظير الترخيص ببيعه. وقام الفقراء الظامئون باضطرابات عنيفة. وأفضي الحظر، كما تنبأ ولبول، إلى تهريبه وتقطيره خفية والاتجار به سراً. وارتفع عدد دكاكين بيع الجن إلى سبعة عشر ألفاً، وعدد الجالونات المقطرة إلى نيف وسبعة ملايين، واستشرت الجريمة. فتخلت الحكومة عن التجربة، وخفض رسم الرخصة إلى عشرين جنيهاً، والضريبة إلى بنس للجالون؛ واغتبط الشعب وراح يشرب ما شاء. وفي 151 أفضت سلسلة من التدابير المعتدلة الذكية (كجعل الديون الصغيرة لتجار الخمر غير قابلة للإلغاء أمام القضاء) إلى تحسين خفيف(61). وأنار الفيلسوف باركلي الموقف بتنديده بالطبقات العليا لما ضربوا لجماهير الشعب من مثل سيئ، وبإنذاره إياهم بأن "أمة تشتعل عند طرفيها لا بد أن تحترق سريعاً(62)". كذلك كان المستوى الخلقي منحطاً في ميدان المال والأعمال، فجنى بعضهم أموالاً طائلة من التهريب، والقرصنة، واقتناص العبيد أو بيعهم. وشكا الناس من تلوث مياه التيمز بالأقذار والنفايات التجارية والبشرية، ومن غش النبيذ بعصير التفاح وأرواح الحبوب، ومن خلط الخبز بالشب والجير، ومن تنضير بشرة اللحوم الكبيرة السن بالكيمياويات الخطرة على الصحة والحياة. فلما بذلت محاولات للحد من هذه الأعمال تصايح أبطال التجارة مطالبين بالحرية وبحق "كل إنسان. في العيش على طريقته دون قيد(63)". وتدخلت الحكومة في الحريات، ولكن تدخلها كان أكثره لإكراه الرجال على الخدمات العسكرية. فلما أخفقت مختلف المرغبات المالية في تزويد البحرية بالرجال، جردت الدولة (من 174 فصاعداً) "كتائب تجنيد" لاقتناص الرجال أو تخديرهم، أو لإقناعهم بالانخراط في سفن صاحب الجلالة. وكان أيسر هذه الوسائل إسكار الضحية، إذ كان في الإمكان وهو على هذه الحال أن يحمل على النزول



 صفحة رقم : 11676   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الأخلاق


عن سنة أو أكثر من حياته. ذكر الأميرال فيرنون (1746) أن هؤلاء الرجال، بعد أن يؤتى بهم إلى السفينة، كانوا في الواقع محكوماً عليهم بالموت، إذ لا يسمح لهم بتتاً بأن تطأ أقدامهم البرّ ثانية، ولكنهم ينقلون من سفينة إلى أخرى.. دون أي اعتبار للمشاق التي يتكبدونها(64)". ويقول صموئيل جونسون "لا يرضي رجل بأن يكون بحاراً إذا كان له من الحيلة ما يكفي لأن يدخل نفسه السجن.. فالسجين يحظى بمكان وطعام أحسن وبرفقة أفضل عادة(65)". وكان أكثر البحارة الذين يجندون كرهاً ضعاف الأجسام والعقول، ولكن النظام الصارم والانتقام القاسي بامتحان النار والجلد (كما هو موصوف ومبالغ فيه بلا شك في قصة سموليت "رودريك راندوم") جعلاً الباقين منهم على قيد الحياة أصعب المقاتلين في البحر مراساً وأشدهم اعتداداً بأنفسهم. وكانت القرصنة لا تزال تلقى الإغضاء عنها بوصفها ضرباً من التجارة، ولكنها أخذت تضمحل بازدياد قوة البحريات. أما تجارة العبيد فقد زكت، وتنافست السفن الإنجليزية والفرنسية والهولندية والبرتغالية على امتياز بين الزنوج الأفريقيين للمسيحيين الأمريكيين. وبمقتضى معاهدة أوترخت (1713) نقلت أسبانيا عقد "الأزينتو"، الذي تمد بمقتضاه المستعمرات الأسبانية سنوياً بـ 4.800 عبد، من فرنسا إلى إنجلترا. ومن بين 74.000 عبد نقلوا إلى أمريكا في سنة واحدة (1790) نقل الفرنسيون 20.000، والهولنديون 4.000، والدنمركيون 2.000، والبرتغاليون 10.000، والبريطانيون 38.000-وهو أكثر من نصف المجموع(66). يقول مصدر إنجليزي وثيق "إن الإنجليز وحدهم، على أقل تقدير، حملوا أكثر من مليوني زنجي إلى أمريكا في الفترة بين 1680 و1786(67)". واقتنت بعض الأسر الإنجليزية عبيداً من الزنوج للخدمة في البيوت. واشتملت الصحف على وعود بدفع مكافآت لمن يعيد العبيد الآبقين، وعرض إعلان "صبياً زنجياً يناهز الثانية عشرة.. للبيع(68)"، وكان العبيد يباعون في باريس حتى سنة 1762، وحتى البابوات كانوا يقتنون عبيداً من سفن تشغيل العبيد التركية من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر(69). وفي 1727 بدأ الكويكرز حركة لإنهاء مشاركة بريطانيا في تجارة العبيد. وناصرهم ستيل وبوب، ودعم المثوديون هذه الحرب



 صفحة رقم : 11677   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الأخلاق


الدينية، ولكن الحملة لإلغاء الرق لم تتقدم تقدماً يذكر قبل 1772. كانت الأخلاق في دنيا السياسة تعكس انتصار النزعة التجارية المتحجرة. فلم يكد عمل ينجز دون رشوة ولكل موظف تقريباً ثمنه، والمناصب تباع، والأصوات في البرلمان تشترى كالسلع سواء بسواء. وقد باع أعضاء البرلمان امتياز إعفاء رسائلهم من أجرة البريد، وباع كبار النبلاء المناصب في بيوتهم(70)، و "وضعوا العراقيل أمام محاولات الحد من شراء الترشيحات للبرلمان، أو شراء أعضاء مجلس العموم(71)". وأرسلت الدوائر الانتخابية الفاسدة أو العفنة rotten boroughs التي لا يسكنها غير حفنة من الأهالي إلى البرلمان عدداً من الممثلين يعدل العدد الذي أرسلته أقاليم تزخر بالسكان والصناعة وأرسلت "أولد سارم" التي لا يسكنها إنسان واحد، ممثلين لها، وكانت أمثال هذه الدوائر يتحكم فيها بسهولة ذوو الحسب والمال. وكان رجال الأعمال، توسلاً لنفوذ سياسي مكافئ لسلطانهم الاقتصادي، يشترون الترشيحات أو المرشحين للبرلمان بنحو 1.500 جنيه للمرشح(72). ويمكن القول على الجملة بأن نصف القرن الذي نحن بصدده كان أقسى العهود في التاريخ الإنجليزي، ومن العسير على المؤرخ أن يفسر كيف استطاعت بريطانيا أن تنهض من فساد ذلك العصر-حتى بلغت ذلك الصيت الذائع بأمانة رجال أعمالها ونزاهة حكومتها. على أنه كان هناك الكثير من لمسات العاطفة الرحيمة يتخلل انحطاط الأخلاق والسياسة. فهناك ملاجئ-وإن كانت سيئة الإدارة-للشيوخ والعجزة والفقراء؛ وهناك طوائف حرفية كان المعلمون فيها آباء رحماء على صبيانهم، وهناك أسر تؤوى الأيتام وتربيهم؛ وهناك جمعيات-تسمى "أندية الصندوق"-للمعونة المتبادلة في أيام العسرة. وضربت إنجلترا مثلاً رائعاً-هو الأول في التاريخ الحديث-للبر الدولي حين اكتتبت بمائة ألف جنيه للبرتغال، حليفتها الاقتصادية إغاثة منكوبي زلزال لشبونة الذي وقع في 1755(73)، وقد فتح في الفترة بين 1700 و1825 مائة وأربعة وخمسون مستشفى ومستوصف جدد في بريطانيا، منها أربعة في لندن في جيل واحد



 صفحة رقم : 11678   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الأخلاق


(1700-45). وكان أكثر هذه المؤسسات تموله التبرعات الخاصة. وخير ما أسس منها في النصف الأول من القرن الثامن عشر مستشفى اللقاء الذي نظمه الكابتن توماس كورام، وقد صور هوجارث هذا الكابتن عام 1740 صورة أهداها إلى المستشفى، رجلاً ممتلئ البدن، أبيض الشعر، لطيفاً، يمسك بيمناه المرسوم الملكي، وعند قدميه كرة أرضية، ذلك أن كورام جمع ثروته ضابطاً في البحرية التجارية. فلما تقاعد هاله ارتفاع نسبة وفيات الأطفال في لندن، وكثرة الأطفال الذين يلقون في العراء أو تهجرهم أمهاتهم دون مال للعناية بهم أو اسم أب يطلق عليهم، وأقنع كورام بعض نساء الطبقة العليا بتوقيع ملتمس بإنشاء مستشفى للقطاء، وحصل من جورج الثاني على مرسوم وألفي جنيه، ولقي النداء الذي ناشد فيه الناس التبرع للمستشفى سخاء غير متوقع، وتبرع هندل العظيم بأرغن وبموسيقى لحنه "المِسَيّا" التي عظمت قيمته الآن، وأدار حفلات موسيقية غلت عشرة آلاف جنيه، وفي 1739 عهد الأوصياء إلى تيودور جاكوبسن بتصميم مجموعة فسيحة من المباني والملاعب أصبحت من أروع مشاهد لندن.



 صفحة رقم : 11679   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الجريمة والعقاب


5- الجريمة والعقاب


كان أهل إنجلترا في القرن الثامن عشر سلالة صلبة تمرست بالمشاق وألفت العنف، سلالة قادرة على مغالبة كل صعب عسير إلا الموت. ومن الأمثلة على هذه الصفات أن عريفين اقتتلا بغير سلاح حتى مات كلاهما؛ وأن رقيبين تبارزا حتى أصيب كلاهما بجراح مميتة؛ وأن جندياً استأذن في الزواج من إحدى مومسات الجيش فعوقب بمائة جلدة. ثم مثل في الغد وظهره كله مثخن بالجراح أمام الضابط نفسه وأعاد الطلب، فأجيب إليه هذه المرة. وفاخر قارع طبل بأنه جلد 26.000 جلدة في الأعوام الأربعة عشر التي خدم فيها الجيش، ثم جلد أربعة آلاف أخرى في عام واحد (1727) وأفاق منها وهو مبتهج، وقيل في وصف حالته بعد قليل أنه "صحيح معافى، لا يكدره مكدر على الإطلاق(74)". وكانت العقوبات الوحشية التي وقعت علناً مشجعاً على انتشار



 صفحة رقم : 11680   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الجريمة والعقاب


الوحشية بين الشعب. مثال ذلك أن قانوناً ألغي في 1790 كان يقضي على المرأة التي تدان بخيانة وطنها أو بقتل زوجها بالحرق حية، ولكن العرف كان يبيح خنقها قبل أن تحرق(75). أما الرجال المدانون بخيانة الوطن فيجذبون من على المشنقة وهم بعد أحياء، وتخرج أمعاؤهم وتحرق أمام أعينهم، ثم تفصل رءوسهم ويقطعون أرباعاً. وعلقت المشانق في كل أحياء لندن، وكانت الأجساد تترك على كثير منها لتتغذى عليها الطير. وقد يظل الرجل مشنوقاً نصف ساعة قبل أن يموت. على أنه كان من المألوف أن تخدر بالبرندي حواس المحكوم بإعدامه، وإذا كان الجلاد عطوفاً شاد ساقيه المتدليتين ليعجل بموته. وأضفت قسوة المتفرجين والمجرمين على مناظر الشنق طابع المهرجان، فالناس يصطفون على جانبي الطريق ليشهدوا المحكوم عليهم يركبون العربات إلى تيبيرن، وتبيع الأكشاك والباعة المتجولون الجن والخبز المخلوط بالزنجبيل والجوز والتفاح للجمهور المحتشد؛ وينشد المغنون الجوالون الأغاني الشعبية دون أن يجيدوا إجادة الكابتن مكبث في "أوبرا الشحاذ". وكانت الجماهير، التي لم تتحمس قط للقوانين أو الشرطة، ترفع غلى مقام البطولة المجرمين الذين حالفهم التوفيق في مغامراتهم، أو الذين أمسكوا واجهوا المحاكمة والموت بالازدراء أو الابتسامات. فجاك شبرد، و "روب روي" (وهو روبرت ماكجريجور)، ودك تيربن، وجوناثان وايلد-هؤلاء كلهم ترعرعوا وازدهروا في هذه الفترة. أما جاك فقد وشي به جوناثان وايلد للشرطة بعد أن كان يمارس السرقة في لندن أو قربها كل يوم تقريباً، ففر، وقبض عليه من جديد، ثم فر ثانية، وقبض عليه وهو يعاقر الخمر، وشنق وهو بعد في الثانية والعشرين على مرأى جمهور من آلاف مؤلفة يتوقعون منه أن يهرب حتى وحبل المشنقة يطوق عنقه. وقد روى ديفو واينزورث قصته في روايات عادت عليهما بالربح، ورسم السير جيمس ثورنها صورته. أما تيربن فوزع النقود على المشيعين ليسيروا خلف عربته إلى المشنقة في موكب مهيب، ولكن ما أذاع صيته هو الرواية الخيالية التي كتبها اينزورث عن رحلة دك تيربن الشديدة الخطر على جواده من لندن إلى يورك. كذلك خلد كتاب فيلدنج "حياة مستر جوناثان وايلد العظيم" ذكرى هذا الوغد على مر القرون. ومعظم



 صفحة رقم : 11681   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الجريمة والعقاب


ذلك الهجو الشديد مكتوب على صورة قصص خيالية، ولكن الخيال هنا ليس أطراف من الواقع. فقد كان لجوناثان وجهان مثل جانوس، ينظم اللصوص ويدير شئونهم ويستغلهم، ويشتري بضائعهم المسروقة بالثمن الذي يفرضه، ثم يشي بهم للقضاء إذا تمرد عليه شركاؤه. وفتح في الوقت ذاته مكتباً لطيفاً يستقبل فيه ضحايا السرقات، وكان يعدهم لقاء مكافأة كبيرة بأن يرد لهم بضائعهم أو مالهم، ومن حصيلة هذا كله يحتفظ بعدة خليلات ويعيش في ترف قرابة خمسة عشر عاماً. ولكن ثراءه فاق حكمته، فقبض عليه بتهمة الاتجار في بضائع مسروقة، وشنق، فابتهج جمهور غفير بشنقه (1725). وربما كان هو المثال الذي نسج على منواله مستر بيتشم في "أوبرا الشحاذ". وساد العبث بالقانون المجتمع كله علوا وسفلاً، من النشال المهذب إلى التاجر المهرب إلى المبارز الحامل لقب النبالة. وكان هناك مئات المبارزات، جرى بعضها على قارعة الطريق، وبعضها في هايد بارك أو حدائق كنزنجتن، ولكن أكثرها في "حقل الأربعين خطوة" خلف قصر مونتاجيو (المتحف البريطاني الآن). وندر أن كانت المبارزات قتالة، لأن المسدسات كانت رديئة الصنع، وقل من الرجال من استطاع تصويبها بدقة على ثلاثين خطوة، وأغلب الظن أن كثيراً من المقاتلين حرصوا على إطلاقها فوق رأس الغريم؛ على أية حال كان الصلح يتم عادة بعد أول جرح. وكانت المبارزات غير مشروعة، ولكن يغضي عنهما بحجة أنها تشجع على التأدب في الحديث. وندر أن اعتقل مبارز إلا في الإصابات المميتة، وإذا استطاع الخصم الحي أن يثبت أنه اتبع قواعد اللعبة كان يفرج عنه بعد قضائه فترة قصيرة في السجن. وفي سنة 1751 نشر فيلدنج، وكان يومها قاضياً، "تحقيقاً في أسباب الزيادة الأخيرة في عدد اللصوص، الخ، مشفوعاً ببعض المقترحات لعلاج هذا الشر المتفاقم". ولم يعز الزيادة في أكثرها إلى الفقر بل إلى ظهور "الترف" بين الطبقات الدنيا؛ فعامة الشعب لديهم الآن من المال ما يتيح لهم ارتياد الحانات، وحدائق اللهو، والمسارح، والمراقص التنكرية، والأوبرات، وهناك يلقون بأشخاص خبروا الفجور وحذقوا



 صفحة رقم : 11682   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الجريمة والعقاب


الجريمة. أما السبب الثاني في رأي الروائي العظيم فهو الزيادة في استهلاك الجن. يقول: "إن شراب الجن هو القوت الرئيسي (إن جاز لنا أن نسميه كذلك) الأكثر من مائة ألف شخص في هذه العاصمة. وكثير من هؤلاء التعساء يترعون عدة أكواب من هذا السم خلال أربعة وعشرين ساعة، ومن سوء حظي أنني أرى وأشم أيضاً كل يوم ما يخلفه هذا من آثار رهيبة(76)". وأما السبب الثالث هو القمار، والرابع قصور القوانين، فقد ترك مهمة القبض على المجرمين لحراس أو خفراء: "يختارون من بين أنس فقراء، شيوخ، عجزة... يطلب إليهم وهم لا يحملون من السلاح غير عمود لا يكاد يقوى بعضهم على رفعه، أن يؤمنوا أشخاص رعايا صاحب الجلالة وبيوتهم من هجمات عصابات أوغاد صغار السن، شجعان، أشداء، مستهترين، مدججين بالسلاح(77)". وحتى إذا لم يرهب الحارس عنف اللصوص، فإن في الإمكان رشوته، وكذلك الضابط الذي يرفع إليه بلاغاته، وكذلك القاضي الذي يأتيه الضابط بمجرم. وكانت واجبات الشرطة في لندن موكولة إلى 1.000 ضابط، و474 معاوناً، و747 حارساً. وبين القبض والإدانة قام 2.214 محامياً بلندن بعضهم ذوو ثقافة قانونية ونزاهة معقولة، وبعضهم لم يبلغوا هذا المبلغ تماماً. قال الدكتور جونسون في رجل برح الغرفة لتوه، إنه "لا يحب أن يغتاب إنساناً، ولكنه يعتقد أن الرجل محام(78)". ولم يوافق فيلدنج على رأي كوك الذي ذهب غلى أن "حكمة جميع الحكماء في العالم، لو اجتمعوا معاً في وقت واحد، ما كانت لتعدل" فضائل الدستور الإنجليزي. ولعله كان يسلم بأن ذلك الدستور



 صفحة رقم : 11683   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الجريمة والعقاب


كما لاحظ فولتير ومونتسكبو قبيل ذلك، دبر بطريقة تدعو إلى الإعجاب حماية الفرد وممتلكاته من طغيان أي ملك، ولعله كان يثني على "الهابياس كوربس"، ومحاكمة المتهمين على يد محلفين، وعلى مدارس الحقوق العظيمة في جمعيات لندن القانونية. ولم يكن بالأمر الهين حقاً أن يحرم اعتقال أي شخص إنجليزي دون إذن قانوني، أو سجنه دون محاكمة، أو عقابه دون إدانة من محلفين من نظرائه، وألا تفرض عليه ضرائب دون موافقة البرلمان، وأن يكون في استطاعته أن يجتمع مع زملائه شريطة ألا يخل بالنظام، وأن من حقه أن يقول ما يشاء، إلا أن يكون ذلك تحريضاً، أو قذفاً، أو فحشاً، أو تجديفاً. ولكن مشرعي إنجلترا كانوا من الحرص الشديد على حماية الفرد من الدولة بحيث أخفقوا في حماية المجتمع من الفرد. لذلك كان جهاز تنفيذ القانون ينهار أمام تفشي الجريمة وتنظيمها. وكان يقوم على تنفيذ القانون العام قضاة صلح، يمكن أن تستأنف قراراتهم أمام قضاة يقضون في وستمنستر أو يسافرون ستة أشهر في السنة ليعقدوا جلسات دورية في مدن المقاطعات. وكان هؤلاء القضاة يتمتعون بمناصب مدى الحياة، ويبدون مستوى معقولاً من النزاهة. وبقيت المحاكم الكنسية على قيد الحياة وإن اقتصرت على نظر القضايا غير الجنائية التي يتهم فيها الكهنة فقط، أو الفصل في صحة الزيجات، أو تنفيذ الوصايا. وكان لمحكمة الأميرالية اختصاص على القضايا البحرية دون غيرها. وفوق هذه المحاكم كانت تقوم المحكمة العليا التي يرأسها قاضي القضاة. أما المحكمة العليا للبلاد فهي البرلمان ذاته، يحاكم مجلس العموم عامة الناس ومجلس اللوردات النبلاء. وكانت المساواة أمام القانون لا تزال ناقصة، لأن النبلاء كانوا عادة ينجون من العقاب. فقد اعدم إيرل فرز الرابع عام 1760 لقتله وكيله، ولكن حوكمت دوقة كنجتزن أمام مجلس اللوردات في 1776 وأدينت بتهمة الزواج برجلين في وقت واحد، أطلق سراحها دون عقاب سوى تغريمها الرسوم. وظلت اللاتينية لغة المحاكم حتى سنة 1730 حين حلت الإنجليزية محلها، الأمر الذي تألم له بلاكستن أشد الألم. وفي محاكمات الجنايات الكبرى (ومعظم الجنايات كانت كبرى)



 صفحة رقم : 11684   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الجريمة والعقاب


كان يسمح للمتهم بأن يوكل محامياً إذا كان ميسور الحال، وللمحامي أن يستجوب شهود الادعاء، ولكن لم يكن مسموحاً له أن يوجه خطابه إلى المحكمة، فهذا متروك للسجين، الذي كثيراً ما كان ضعف بدنه أو عقله يعجزه عن تقديم دفاعه. فإذا برئ رد إلى السجن حتى يدفع كل "البقاشيش" التي يفرضها عليه الحراس لقاء خدماتهم، وقبل أن يلغي هذا النظام في 1774 كانت هناك عدة حالات لرجال ماتوا في السجن بعد أن برئت ساحتهم. أما إذا أدين السجين فإنه يواجه قانون عقوبات من أقسى ما عرف في تاريخ القضاء. لقد كان هذا القانون يفضل ما سبقه، كما يفضل الإجراءات المتبعة في القارة الأوربية، بتحريمه التعذيب والعقاب على الدولاب، ولم يعد يجدع الأنوف أو يصلم الآذان. ولكن فيما عدا ذلك كان يتسم بكل الوحشية التي كان الإنجليز الشديدو المراس يومها يرونها ضرورية للسيطرة على جموح الإنسان الفطري. فإذا كانت العقوبة هي الجلد في ذيل عربة تجر في الشوارع، كان منفذها أحياناً يتلقى مبلغاً إضافياً، يجمع من المتفرجين، لكي يضاعف من شدة ضربات سوطه(79). وكان السجين الذي يرفض الإجابة في تهمة كبرى يطرح بحكم القانون على ظهره عارياً في حجرة مظلمة، وتوضع أثقال من الحجر أو الحديد على صدره إلى أن يعصر عصراً أو تزهق روحه(80)، على أن هذا القانون لم ينفذ بعد 1721، ثم ألغي في 1772. وطوال القرن الثامن عشر أضافت قوانين أصدرها البرلمان إلى عدد الجرائم التي يعاقب عليها القانون بالموت. ففي 1689 كان عددها خمسين، وفي 1820 ارتفع إلى 160. فالقتل، والخيانة، والتزييف وحرق الممتلكات عمداً، وهتاك العرض، واللواط، والقرصنة، والتهريب المسلح، والتزوير، وتدمير السفن أو إشعال النار فيها، والتفليس بالتدليس، وقطع الطريق، والسطو على المنازل، وسرقة أكثر من أربعين شلناً، وسرقة سلع من المتاجر تزيد قيمتها على خمسة شلنات، وتشويه الماشية أو سرقتها، وإطلاق النار على موظف الضرائب، وقطع الأشجار في شارع أو متنزه، وإحراق غيط غلال، وإرسال خطابات التهديد، وإخفاء موت زوج أو طفل، والاشتراك في



 صفحة رقم : 11685   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الجريمة والعقاب


حادث شغب، وإطلاق النار على الأرانب، وهدم بوابة طريق رئيسية والفرار من السجن، وتدنيس المقدسات-هذه كلها، وعشرات غيرها، كانت عد جرائم كبرى أيام جورج الأول والثاني والثالث. وقد عكست هذه القوانين تصميم البرلمان على حماية الملكية. وربما كانت إلى حد ما النتيجة-والسبب-لما شاع بين الناس من تمرد على القانون ووحشية ولعلها أعانت على تكوين ما يتصف به الشعب البريطاني اليوم من عادات التزام القانون. وخفف من صرامة القانون رفض القضاة أو المحلفين غير مرة أن يدينوا المتهمين، أو إبطال الاتهام لخطأ فني، أو تحديد قيمة سلعة مسروقة تحديداً تعسفياً بأقل من المبلغ الذي يجعل السرقة جناية كبرى. وفي وقت الحرب قد يصدر عفو عن المذنبين شريطة أن ينخرطوا في الجيش أو البحرية. أما عقاب الجرائم الأقل خطراً فكان السجن، أو المشهرة، أو الجلد، أو الأشغال الشاقة في الإصلاحيات، أو النفي إلى المستعمرات. وقضي قانون صادر في 1718 ببيع المسجونين المحكوم عليهم إلى متعهد يشحنهم بالمراكب على نفقته إلى ميريلاند وفرجينيا عموماً، ويبيعهم بالمزاد عادة "إلى زراع التبغ نظير قضائهم المدة المحكوم بها عليهم" وأسفر سوء حال السجناء وهم في الطريق عن نسبة عالية من الوفيات، وعن إنهاك الباقين منهم إنهاكاً يعجزهم عن العمل حيناً. وقرر أحد هؤلاء المتعهدين بأنه يخسر سبع شحنته البشرية في الرحلة المتوسطة(81). ولم يقض على هذه التجارة غير حرب الاستقلال الأمريكية. وكثيراً ما كان ترحيل المذنب يفضل على سجنه، لأن السجون كانت سيئة السمعة بسبب قسوتها وقذارتها. فقد كان السجين الجديد يكبل بمجرد دخوله بالأغلال التي تتفاوت ثقلاً بتفاوت ما يدفعه للحارس. أما فراشه فمن القش. وأما طعامه فرطل من الخبز في اليوم، إلا إذا استطاع استكماله بالهدايا من الخارج. وإذا استثنينا سجن نيوجيت، وجدنا أنه لم تبذل محاولات تذكر لتنظيف السجون. فكانت الأوساخ والجراثيم تتراكم فيها فتعدى كل سجين تقريباً بما سمي "حمى السجن"-وهي في الغالب التيفوس أو الجدري. وذهب جونسون إلى أن 25% من السجناء كانوا يموتون بـ "حميات عفنة". وبلغ نتن العفونة والمرض مبلغاً كان يحمل القضاة



 صفحة رقم : 11686   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الجريمة والعقاب


والمحلفين والشهود والمتفرجين على أن ينشقوا مراراً نشقات من الكافور أو الخل أو الأعشاب العطرية لتغلب على الرائحة الخبيثة. وفي مايو 1750 جيء بمائة سجين من نيوجيت ليحاكموا في "الأولد بيلي" وهي محكمة جنايات لندن الكبرى. وبلغ من خبث الحمى التي أفشوها أن أربعة قضاة من الستة الذين نظروا القضية ماتوا، ومات من المحلفين وصغار الموظفين أربعون، وأمرت المحكمة بعد هذا الدرس بأن يغسل جميع السجناء القادمين للمحاكمة بالخل، وأن توضع أعشاب زكية الرائحة في قفص المتهمين(82). وكان الرجل الذي يقاضي بسبب الدين، ويدان، ويعجز عن الوفاء بدينه أو لا يرغب في الفراء به، يودع مثل هذا السجن حتى يوفي الدين أو حتى يسحب دائنه الدعوى. وكان الدائن ملزماً بحكم القانون بدفع أربعة بنسات في اليوم مساهمة في إعاشة سجينه، ولكنه إذا لم يفعل لم يكن أمام المدين سبيل إلا مقاضاته-وهذا يلفه مالاً. على أنه إذا استطاع الحصول على نقود من خارج السجن كان في إمكانه رشوة الحارس وغيره ليسمحوا له بالتمتع بفراش وطعام أفضل، وبحريات أرحب، وبالائتناس بزوجته، لا بل بقضاء إجازة في المدينة بين الحين والحين. أما المدين المفلس فقد يموت جوعاً موتاً بطيئاً من ضآلة جرايته من الخبز إذا عجز عن شراء الطعام. وقد قدر صموئيل جونسون أن خمسة آلاف سجين من كل عشرين ألف مفلس يسجنون في السنة في المتوسط، يموتون من الحرمان(83). وهكذا لم تجد إنجلترا وسيلة أكثر رفقاً لحماية طبقة رجال الأعمال الصاعدة من الاقتراض المستهتر أو الإفلاس بالتدليس. وارتفعت بعض الاحتجاجات الخفيفة على صرامة قانون العقوبات. ولاحظ جونسون، الذي لم يكن بالرجل العاطفي، في 1751 خطر اعتبار هذا العدد الغفير من الجرائم جرائم كبرى فقال: "إن تسوية السرقة بالقتل... معناها التحريض على اقتراف جريمة أكبر منعاً لاكتشاف جريمة أحقر(84)". وظهرت أقوى الانتقادات لإدارة السجون في روايات فيلدنج وسموليت وفي رسوم هوجارث. وقد لطف من قسوة هذا النظام تلطيفاً متواضعاً جيمس أوجثلورب، الذي تكشف حياته العملية المنوعة النشيطة عن الجانب الأنبل لجون بول. ففي 1714 ترك الكلية وهو



 صفحة رقم : 11687   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> الجريمة والعقاب


في الثامنة عشرة لينخرط في جيش يوجين أمير سافوي، وقاتل في عدة معارك ضد الترك. فلما عاد إلى إنجلترا انتخب عضواً في البرلمان. وإذ كان له صديق سجن بسبب الدين ومات في سجنه بالجدري الذي أصابه فيه، فقد أقنع مجلس العموم بتعيين لجنة-عين على رأسها-للتحقيق في أحوال سجون لندن. وأفزع القذر والمرض والفساد والظلم الذي أماط التحقيق اللثام عنه ضمير إنجلترا لحظة. فرفت بعض الحراس الذين وجه إليهم أكثر اللوم، وخففت بعض اللوائح الجديدة من المفاسد القديمة، ولكن معظم المساوئ بقي على حاله، وكان على الإصلاح الحقيقي للسجون أن ينتظر مجيء جون هوارد والربع الأخير من القرن الثامن عشر. واتجه أوجثلورب إلى الهجرة وسيلة لتخفيف وطأة الفقر في إنجلترا. ففي 1733 أسس مستعمرة جورجيا، وعمل فترة والياً عليها، فحظر استيراد العبيد، ورحب بالمورافيين، وجون ويسلي، واللاجئين البروتستنت من النمسا. ولما عاد إلى إنجلترا والبرلمان، حصل على قانون يعفي المورافيين الإنجليز من حلف اليمين أو حمل السلاح. وأصبح الصديق الحميم لجونسون، وجولدسمث، وبيرك، وعمر إلى التاسعة والثمانين. وتوج الشاعر بوب هامته بيتين فقال فيهما "إن إنساناً يدفعه حب الخير الشديد سيطير مثل أوجثلورب من قطب إلى قطب(85)".



 صفحة رقم : 11688   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> آداب السلوك


6- آداب السلوك


ظل الرجال الذين يتنزهون في الحدائق العامة أو في بل مل-كما كانوا أيام اليزابيث أو عودة الملكية-هم الجنس الأفخم هنداماً. يرتدون-في غير العمل أو البيت-قبعات مثلثة الأركان ممالة، تزهو غالباً بالشراريب أو الأشرطة أو العقد، ويعقصون غدائرهم بـ "فيونكات" جميلة خلف العنق، أو يغطون رءوسهم بباروكة مبدرة. وكانت ستراتهم الجميلة التي تحدث حفيفاً حول ركبهم تزهو بأزرار قصد بها أن تبهر الناظر أكثر مما تربط السترة، وكانت الأكمام المصنوعة من القماش المقصب الفاخر تعلن عن ثراء لابسها أو طبقته. واجتذبت صداريهم المزوقة الأنظار بألوانها الفاقعة-الصفراء أو البرتقالية أو القرمزية أو القرنفلية أو الزرقاء-وتدلت منها دلاية ساعة من الذهب على سلسلة ذهبية.



 صفحة رقم : 11689   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> آداب السلوك


وكانت قمصانهم المصنوعة من الكتان الرفيع تغطي حواشيها بأهداب تخفي ملابس داخلية من الفانلا، وكانوا يطوقون أعناقهم في تأنق بالأربطة (الكرافتات) المصنوعة من شاش "اللون" (وهو قماش مستورد من لاون بفرنسا)، ويثبتون بنطلونات الركوب القصيرة بمشابك عند ركبهم وبثلاثة أزرار في الخصر، وثلاثة مخفاة في لسان يغطيها. أما جواربهم الطويلة فهي عادة حمراء اللون، ولكنها قد تكون من الحرير الأبيض في المحافل الرسمية. واقتضى الزر في 1730 أن تكون أحذيتهم حمراء عند الأصابع والكعب. على أن فتى العصر كان برغم هذا الجهاز كله يحس أنه عريان إذا لم يتقلد سيفاً. فلما صعدت الطبقات الوسطى في سلم المجتمع استبدلت بالسيوف العصي التي كانت تتوج عادة بمعدن نفيس وتنقش نقشاً بديعاً، ولكن بما أن الشوارع كانت لا تزال محفوفة بالخطر، فإن العصا كثيراً ما احتوت سيفاً. وكانت المظلات قد دخلت الصورة في أواخر القرن السابع عشر، ولكنها لم تعم حتى ختام الثامن عشر. واقتضى الركوب في الحدائق العامة أو خلال الصيد بالكلاب ارتداء أزياء خاصة طبعاً، وقد حاول الشبان المغالون في التأنق (وكانوا يسمون المكروني) جاهدين لفت الأنظار بالإسراف في الزينة أو التلون. وفريق آخر سمي "سلوفينز" غالوا في الظهور بعادات رثة وثياب مهملة، فنكشوا شعورهم بعناية متمردة وتركوا بنطلوناتهم دون ربطها بالمشابك، وتباهوا بالوحل على أحذيتهم، إعلاناً لاستقلالهم ودليلاً على أصالة التفكير. أما النساء فكن إذا طلعن على الناس يلبسن كما نتخيلهن في شبابنا الدهش، حين كان جسد الأنثى سراً غامضاً مبهراً عزيز الرؤية. وكانت تنوراتهن الكثيرة الوبر تنفخها عادة أطواق ترفعها في خفة من خطوة إلى خطوة وتكشف كشفاً خاطفاً عن كعوب متلألئة وأقدام رشيقة. وكانت الأطواق التي قد تتمتع تسع ياردات حول الجسم سدوداً، والمشدات تروساً، فتطلبت غزوات الحب كل حماسة الفارس ينفذ إلى الدروع ويتسلق الأسوار، وكان هذا الوضع أحفز لخيال الشعراء. وضاع بعض ما لشعر المرأة من بريق وبهاء في الطبقات المقواة التي علت فوق رأسها علواً اقتضى حمايتها من أن تحرقها الثريات. وأخفيت وجوه النساء وراء الغسولات والطلاءات ولصوق التجميل والمساحيق والحواجب



 صفحة رقم : 11690   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> آداب السلوك


المتحركة؛ وجندت كل جواهر الشرق لتزين شعورهن وآذانهن ونحورهن وأذرعتهن وثيابهن وأحذيتهن. وكانت المرأة العصرية، من قبعتها الشامخة وغدائرها المعطرة حتى حذائها الحريري المرصع بالأحجار الكريمة، تلبس لتطيح بأي تردد من جانب الذكور المحدقين بها. وفي عام 1770 كانت فنوج التبرج قد بلغت من السحر حداً حمل البرلمان في نوبة مرح على إقرار قانون قصد به حماية الجنس الطائش المتهور: "كل النساء-أياً كان عمرهن أو مقامهن أو مهنتهن أو طبقتهن، وسواء كن عذارى أو صبايا وأرامل، اللاتي يخدعن أو يغوين أو يوقعن في الزواج-ابتداء من هذا القانون وبعده-أ يذكر من رعايا صاحب الجلالة بالعطور أو الطلاء أو دهانات التجميل أو الأسنان الصناعية أو الشعر المستعار أو الصوف الأسباني أو الكورسيهات الحديدية أو الأطواق أو الأحذية العالية الكعوب الخ، يقعن تحت طائلة العقاب بمقتضى قانون الذي يطبق الآن على السحر وما أشبه من جنح، ويصبح الزواج بمجرد إدانتهن باطلاً(86)". وحاولت القوانين المنظمة للأنفاق جاهدة أن تحد من الغلو في الإنفاق على اللباس، ولكن العرف قضى على جميع البريطانيين المخلصين بارتداء ثوب جديد في عيد ميلاد الملكة كارولين، التي لبست عند تتويجها ثوباً تكلف 2.400.000 جنيه-أكثرها أحجار كريمة مستعارة. وكان البيت مكاناً يستطيع المرء فيه أن يخلع كل ملبس عسير يقتضيه الظهور، فيرتدي فيه أي شيء أو أقل القليل من الثياب. ولم تكن النوافذ معينة على الفضول لأن عددها خفضه قانون إلى خمس، وفرض على المزيد ضريبة باعتباره ترفاً. وكان داخل البيوت مظلماً كتماً لم يصمم ليساعد على التنفس. أما الإضاءة فبالشموع، وهي عادة لا تزيد على شمعة في وقت واحد لكل أسرة؛ ولكن الأغنياء كانوا ينورون غرفهم بالثريات المتألقة وبالمشاعل الزيتية. وفي قصور الموسرين كانت الجدران تجلد بخشب القرو، والسلالم تصنع من الخشب الضخم والداربزينات المتينة، والمدفآت من الرخام الفاخر، والكراسي تحشي الشعر، وتنجد بالجلد. أما الأثاث فمصمم بالطراز



 صفحة رقم : 11691   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> آداب السلوك


"الجورجي" الثقيل، تشابك فيه النقوش ويتلألأ بالتغشية بالذهب. وحوالي 1720 أدخل خشب "المجنة" من جزر الهند الغربية، وكان أصلب من أن تنفذ فيه الأدوات المستعملة آنذاك، فصنعت أدوات أحد، وسرعان ما أبدع الخشب الجديد أروع قطع الأثاث في البيوت الإنجليزية. وكانت البيوت تدفأ بحرق الفحم في المواقد والأفران المكشوفة أو حرق الخشب في مدفآت واسعة. وكان هواء لندن غائماً بالدخان. وأصبح تنظيف البيوت مهمة عسيرة ولكن لا مناص منها بسبب ما يتهددها دائماً من غبار وسناج. واعتبر الفرنسيون أعداءهم الإنجليز أحفل الشعوب بنظافة بيوتهم بعد الهولنديين. كتب نيكولا دسوسير في 1726 يقول: "لا يمضي أسبوع إلا والبيوت المعتنى بها تغسل مرتين في الأيام السبعة علواً وسفلاً، لا بل تدعك معظم المطابخ والسلالم والمداخل كل صباح. وينال الأثاث كله، خصوصاً آنية المطبخ جميعها، أعظم قدر من النظافة. وحتى المطارق الكبيرة والإقفال التي على الأبواب تدعك حتى تلمع(87)". وهذا برغم غلاء الصابون وقلة الماء. أما غرف الاستحمام فكانت ترفاً لا يستمتع به غير الأقلين، وكان أكثر الناس يستحمون بالوقوف في حوض ورش الماء على أجسادهم. وكان العامة ينفقون أكثر ساعات البيت وأوقات الصحو في المطبخ يلوذون فيه بالموقد الكبير، فيأكلون ويتجاذبون الأحاديث وأحياناً ينامون في المطبخ لأنها واسعة جداً. أما حجرات الطعام فللمناسبات الخاصة. والغداء عند جميع الطبقات يكون بعد الظهر، فهو عند الطبقات الوسطى في الساعة الثانية أو الثالثة، وعند الأغنياء في الخامسة أو السادسة، فالحال يومها هي الحال اليوم، كلما كثر مالك طال انتظارك للغداء. وكانت النساء في البيوت العصرية يبرحن القاعة إذا فرغن من الطعام، لأن الرجال يبدءون عندها الشراب والتدخين وشرب الأنخاب وقص الحكايات. وكان الغداء وافراً، ولكنه كان أول ما يتناوله بريطاني المدينة من طعام بعد الفطور وتصبيره في الحادية عشرة صباحاً. وقد أدهش الفرنسيين مقدار الطعام



 صفحة رقم : 11692   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> آداب السلوك


الذي يأكله الإنجليزي في جلسة واحدة. وكان معظم الطعام في الطبقتين العليا والوسطى من اللحم، أما الخضر فزخرف لا يؤبه به؛ والبودنج الدسم هو التحلية المفضلة والشاي شراب الجميع وإن كان ثمن الرطل منه عشرة شلنات. وكن عشاء التاسعة مساء مسك الختام لمنجزات اليوم. وكان أكثر الإنجليز يلوذون بأمان بيوتهم في الليل، ويتسلون بالحديث والشرب والشجار والقراءة والموسيقى والرقص والشطرنج والداما والبليارد والورق. قالت دوقة ملبره "بربك لا تحدثني عن الكتب فكا ما أعرف من كتب هم الرجال والورق(88)". وكان الأساقفة والقساوسة، وحتى الوعاظ المتزمتون من أتباع المذاهب المنشقة على الأنجليكانية، يلعبون الورق، وكذلك الفلاسفة، فندر أن مضى هيوم إلى فراشه دون أن يلعب دوراً من الهويست (وهو البردج الآن). وفي 1742 نسق أدموند هويل قوانين الهويست في "رسالة موجزة" وبعدها وجب أن تلعب اللعبة "وفق قوانين هويل"، وذلك حتى عام 1864. وكانت الحيوانات البيتية الأليفة ضرورة في الأسرة، ولا تقتصر على الكلاب والقطط، بل قد تجد هنا وهناك نسناساً أو اثنين(89). وكل امرأة تقريباً تربي الأزهار، ولكل بيت تقريباً حديقة. وجعلت إنجلترا من تصميم الحدائق غراماً قومياً، وهي التي أغدقت عليها الطبيعة نعمة المطر حتى ضاقت به. ففي عهد تشارلز الثاني كانت الحدائق الإنجليزية تنسج على منوال النماذج الفرنسية-لا سيما فرساي-، فتصمم الحدائق "النظامية" على خطوط هندسية، سواء المستقيمة أو المستطيلة أو نصف القطرية أو الدائرية، ويوفر لها الأفق الجميل والمنظور الرائع (وقد دخلت هذه الألفاظ الثلاثة perspective, vista, picturesque اللغة الإنجليزية في القرن السابع عشر)، والأشجار ومنابت الشجيرات، والسياجات المقلمة في خط منسق، والتماثيل الكلاسيكية الموزعة توزيعاً متناسقاً. وكانت حدائق اللهو بفوكسهول ورينلاج تصمم على هذا النحو، ونستطيع أن نجد عينة من هذا الطراز النظامي اليوم في هامتن كورت. ومع أن الطراز كان منسجماً مع أدب "العصر الأوغسطي" الكلاسيكي الجديد، فإن خير



 صفحة رقم : 11693   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> آداب السلوك


ممثلي ذلك العصر من الأدباء، وهما أديسون وبوب، تمرداً على الحديقة النظامية، وألحا بأدب في المطالبة بـ "حديقة طبيعية"، تترك على الأقل جزءاً من سخاء الطبيعة وخصبها دون تشذيب أو تهذيب، وتولد المفاجآت البهيجة باحتفاظها بشذوذات الطبيعة غير المتوقعة. وشاركت التأثيرات الصينية في هذا التمرد، فحلت هياكل الباجودا محل التماثيل في بعض الحدائق، وبنى دوق كنت في حدائقه بكيو بيتا لكونفوشيوس. وكامنت الحديقة الطبيعية انعكاساً لطومسن وكولنز العاطفيين أكثر من أديسون المحتشم وبوب المتأنق المرتب؛ وشاركت هذه الحديقة "شعراء الوجدان" في سوبرانو "رومانسي" لباص كلاسيكي. واتفق بوب وطومسن في إطراء الحدائق التي صممت على ضيعة "ستو" التي يملكها رتشرد تمبل، فيكونت كوبم. وكان تشارلز بردجمان قد بدأها على تصميم نظامي. فأعاد وليم كنت ولانسلوت "كيبابليتي" براون تشكيلها وفق نمط طبيعي، فأصبحت حديث هوادة فلاحة البساتين في إنجلترا وفرنسا، وظفرت بثناء جان جاك روسو. ومن وراء الحدائق انسابت النهيرات يجدف فيها ركاب الزوارق ويحلم عندها هواة الصيد الكسالي باقتناص السمك، والغابات يطلق فيها الرجال رصاصهم على الديوك البرية أو القطا أو الحجل أو الدجاج البري، أو يتبع فيها الصيادون ذوو الأردية القرمزية كلابهم ليلحقوا بالثعلب المحاصر في ركن أو الأرنب البري المرهق. أما البريطانيون الأقل يساراً فيتسلون بالكريكت والتنس والفايف (كرة اليد) والبولنج (الكرات الخشبية) وسباق الخيل، وقتال الديكة، وتحريش الكلاب بالدببة، ومباريات الملاكمة-بين النساء أو بين الرجال على السواء. وكان المتكسبون بالملاكمة أمثال فج وبايبر معبودي كل الطبقات، يجتذبون إلى الحلبة الحشود الكبيرة، ويتلاكمون-إلى عام 1743-بقبضاتهم عارية بغير قفازات؛ ثم أدخل استعمال قفازات الملاكمة، ولكن سنين كثيرة انقضت قبل أن يغير المتفرجون رأيهم فيها، وهي أنها ليست سوى وسيلة مخنثة لا تليق بجون بول. وكان من الملاهي التي أعلن عنها في لندن في 1729-30



 صفحة رقم : 11694   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> آداب السلوك


"ثور هائج ترشق فيه الصواريخ ويطلق حراً" في حلبة، و "كلب ترشق فيه الصواريخ من فوقه، ودب يطلق في الوقت ذاته، وقد يربط إلى ذيل الثور(90)". وفي لعبة سموها "قذف الديوك" كان ديك يربط إلى عمود، ثم يقذف بالعصي من بعيد حتى يموت. وكانت أحب مباريات الديكة إلى الشعب تلك التي تطلق فيها مجموعة منها تصل إلى ستة عشر ديكاً على مجموعة أخرى معادلة حتى يقتل كل الديكة في أحد الجانبين، ثم تقسم الديكة المنتصرة إلى معسكرين متقاتلين، يقتتلان حتى يفنى جميع الديكة في أحدهما، وهكذا دواليك حتى يموت الجميع إلا ديكاً واحداً. وكانت الأقاليم والمدن والقرى تحرش ديوكها بعضها ببعض وطنية رفيعة، وقد أطرى كاتب لطيف هذه الرياضات باعتبارها معادلاً أخلاقياً للحرب(91). وكانت كل الرياضات تقريباً تشفع بالمراهنات. أما الذين لم ترقهم هذه المناظر فكان في وسعهم أن يلتمسوا التسلية في فوكسهول أو رينلاج، ففي حدائقهما الظليلة يستطيعون لقاء شلن أن يستمتعوا بما تستشعره الجماهير من دعة وأمان شريطة أن يحرصوا على جيوبهم، هناك يستطيعون أن يرقصوا أو يشاركوا في الحفلات التنكرية، ويجلسوا تحت أغصان مضاءة بالمصابيح، أو يرشفوا الشاي ويرقبوا سيدات المجتمع وفتيان العصر ونجوم المسرح العابرين بهم، ويتطلعوا إلى الصواريخ النارية أو الألعاب البهلوانية، ويستمعوا إلى الموسيقى الشعبية، ويتناولوا الطعام في أبهة رسمية، أو يلتمسوا المغامرات في أزقة العشاق المتوارية عن الأنظار في شكر وعرفان. وفي رينلاج، تحت سقف قاعة "الروتندا" الكبرى، كانوا يستطيعون أن يرقوا بأنفسهم إلى موسيقى أسمى في وسط قوم من طبقة أوجه. كتب هوراس ولبول في 1744 يقول "في كل ليلة أذهب إلى رينلاج التي هزمت فوكسهول هزيمة ساحقة، فما من إنسان يذهب إلى غيرها، وكل الناس يذهبون هناك(92)". وكانت فوكسهول ورينلاج تغلقان أبوابهما شتاء، ولكن الأنهار قد تتجمد، وهنا تزده رياضات الشتاء. وحدث في عيد ميلاد 1739 أن تجمدت الأنهار حتى التيمز، وأبدى اللندنيون روحهم العالية بتنظيم كرنفال من الرقص والأكل على الجليد، واستمتع بعضهم بنشوة ركوب العربات على النهر من لامبث إلى كوبري لندن(93). وأخيراً كان هناك المهرجانات الكبيرة حيث يلتقي المرء



 صفحة رقم : 11695   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> آداب السلوك


بكل العالم من غير أصحاب الألقاب، ويستمتع بشتى المشاهد من صندوق الدنيا إلى الرجال الطائرين. أما آداب السلوك، فإننا إذا استثنينا بعض النساء المثقفات، وجدنا فيها الخشونة وفحش الكلام. وسيرينا المصور هوجارث حياة العامة، ولكنه لن يرينا حديثهم. فالعاهرات، والفساق، وسائقو عربات الجر، والمراكبية، والجنود والبحارة، كلهم كانوا أساتذة في اللعن وفحش القول، وقد خلد باعة السمك في بلنجزجيت (واللفظ معناه لغة السوقة) ذكرى سوقهم بذاءتهم التي لا مثيل لها. وكان الحديث في الفنادق والحانات أقل مرحاً ولكنه متحرر إلى حد البذاءة وكان الرجال حتى في بيوتهم يروعون النساء بقصصهم وسبابهم وأنخابهم. ولم تكن السيدات أنفسهن يترفعن عن الشتيمة العنيفة أو يتورعن عن القباحة المرحة. أما في مشارب القهوة والأندية فاللغة أكثر تهذيباً. وقد كتب ستيل وسويفت وفيلدنج وكوبر وجونسون عن الحديث، بوصفه فناً مهذباً. وفي وسعنا أن نتصور الرجال في اجتماعاتهم التي يحرصون على إقصاء النساء عنها، يرشفون قهوتهم أو جعتهم، ويترعون خمرهم، ويدخنون بيباتهم، ويتجادلون حول المناقشات البرلمانية، وحول شراء روبرت ولبول للأصوات، والسياسة المنكرة التي ينتهجها أولئك "الكلاب الفرنسيون" وراء المانش. وكان الضحك عميقاً في البطون، عالياً في الحناجر، رغم مناشدات الأخلاقيين أمثال شافتسبري وغيرهم ممن لا نزعة أخلاقية تميزهم مثل تشستر فيلد، بوجوب ترك الضحك للوضعاء، وبأن يخفف حتى يصل إلى مجرد الابتسامة(94). أما تعاطي النشوق أو السوط، الذي ورد ذكره أول مرة في 1589، فكان قد بات شعيرة مرعية عند الجنسين، وقد ظن القوم أن للنشوق (وهو التبغ المسحوق) قيمة دوائية كالقهوة، فالعطس الذي يحدثه يطهر المسالك الأنفية، ويشفى من الصداع، والبرد، والصمم، والخمول، ويهدئ الأعصاب، ويصلح الدماغ. ولم ير شخص، رجلاً كان أو امرأة كامل الهندام بغير علبة النشوق، وعلى تلك الحاشية الملحقة



 صفحة رقم : 11696   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> آداب السلوك


بصاحبها (أي العلبة) أفرغ الصائغ والجواهري، وصانع المينا، ورسام المنمنمات، أرق ما جاد به فنهم. وكانت مشارب القهوة الثلاثمائة في لندن مراكز للقراءة كما كانت منتديات للسمر. فقد اشتركت في الجرائد والمجلات، وأدارتها على زبائنها، ووفرت الأقلام والورق والحبر، وتسلمت الخطابات لإرسالها بالبريد، وقبلت أن تحفظ البريد المرسل إلى عناوينها. وتطورت بعض مشارب القهوة أو الكاكاو، مثل مشرب هوايت، في هذه الفترة إلى أندية خاصة يطمئن الرجال إلى أن يجدوا فيها الصحبة التي يؤثرونها على غيرها، ويستطيعون أن يلعبوا القمار بمنأى عن عيون الرقباء. وما اختتم القرن الثاني عشر حتى كان عدد الأندية مماثلاً لما كان عليه عدد مشارب القهوة في بدايته. ويبدو أن الماسون (البنائين الأحرار) بدءوا تاريخهم الإنجليزي على هيئة ناد سموه "المحفل الكبير"-نظم بلندن في 1717. وشجعت الأندية الشرب والقمار والدس السياسي، ولكنها علمت الرجال على الأقل نصف فن الحديث. أما النصف الآخر من هذا الفن فكان مفقوداً، لأن الأندية كانت خلوات للعزاب، ولم يجد الأدب الأرفع والفكاهة الأرق اللذان يتطلبهما وجود النساء ما يحفزهما هناك. فلقد كانت إنجلترا بلد الرجال، أما النساء فلم يكن لهن في حياتها الثقافية إلا حظ ضئيل، ولم يكن بها صالونات، فلما حاولت الليدي ماري مونتاجيو أن تقيم صالوناً نظر القوم إليها كأنها مخلوق غريب الأطوار لا يعرف أين مكانه(95). واستطاعت النساء في الطبقات العليا أن يستخدمن مهاراتهن في الاستقبالات، والمراقص، وحفلات الموسيقى في البلاط أو في بيوتهن. وكانت نهاية الأسبوع في بيوت الريف حدثاً جميلاً في الحياة الإنجليزية لا يكدره بعض الشيء غير تلك "البقاشيش" الكبيرة التي ينتظر الخدم أن ينفحوا بها، وكان على الضيف وهو يغادر البيت أن يغامر بالمرور وسط الأتباع، والسقاة، والخدم، والقهرمانات، والبوابين، والخادمات، والطباخين وغيرهم من الخدم والحشم يقفون في صفين عند الباب، في حين ينتظر سائق المركبة وسائس الخيل خارجاً في عبوس وتجهم. وما ذاع عن ولاء الخدم البريطانيين لسادتهم لم يكن



 صفحة رقم : 11697   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> آداب السلوك


له كبير سند من الواقع في النصف الأول من القرن الثامن عشر، فقد كانوا في كثير من الحالات عديمي المبالاة، وقحين، متمردين، لا يترددون في التنقل من بيت إلى بيت لقاء أجر أفضل. وكان كثير منهم يسرقون رب البيت وربته والضيوف إذا استطاعوا، ويشربون خمر مولاهم، وتلبس الخادمات حلي سيداتهن أو ملابسهن. وكانت قمة انتماء شخص ما إلى المجتمع العصري، بعد أن يقبل في البلاط الملكي، أن يلم بمنتجع للمياه المعدنية، يشرب فيه المياه الطبية، أو يستحم مع صفوة القوم بعيداً عن البحر المختلط. واشتهرت تنبردج بينابيعها، ولكن روادها كانوا أخلاطاً. أما عيون ابسوم فكانت تقدم لروادها الموسيقى، ورقصات المريسة، والكلاب المؤدية للألعاب، والمياه المسهلة وإن لم تجمع بعد معادنها في "أملاح ابسوم". ولم يكن الاستحمام في البحر رياضة محببة، وإن لحظ تشسترفيلد شيئاً منه في سكاربرو، ولكن في 1753 تدفقت إلى البحر موجة بشرية بفضل كتاب الدكتور رتشرد رسل "في سل الغدد وفائدة مياه البحر في أمراض الغدد"، وتفتحت قرى ساحلية مثل برايتون لتزدهر منتجعات للاستحمام، مع أنها لم تعرف من قبل غير أسر صيادي السمك المتواضعة. أما الأرستقراطيون ففضلوا مدينة باث. فهناك، وسط أرقى البريطانيين من ذوي الأسقام، يشرب الرواد-ويستحمون في مياه خبيثة الرائحة موصوفة لشفاء أوصاب من أتخموا بالغذاء الطيب. وكانت مدينة الينابيع الصغيرة قد فتحت أول غرفة ذات مضخة في 1704، وأول مسارحها في 1707، وبعد عام أول "غرف اجتماعاتها" التي نوهت بها قصص فيلدنج وسموليت. وفي 1755 اكتشف الحمام الروماني الكبير. وأعاد جون وود وابنه بناء المدينة بالطراز الكلاسيكي كما سنرى. وفي 1705، أصبح ناش "الجميل"، وكان محامياً ومقامراً، دكتاتور حياتها الاجتماعية. فحظر السيوف في أماكن اللهو العامة، ووفق في أن يجعل المبارزات-في باث-عملاً ضاراً بالسمعة. وأقنع الرجال بأن يلبسوا الأحذية المكشوفة بدلاً من الطويلة. وكان هو ذاته يلبس قبعة بيضاء هائلة، وسترة كثيرة الوشي



 صفحة رقم : 11698   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> آداب السلوك


غنية التطريز، ويركب عربة تجرها ستة خيول يتحتم أن تكون شهياء، ويعلن عن قدومه بنفير فرنسي مرح. وقد أصلح من شأن الطرق والمباني، وخطط الحدائق الجميلة، ووفر الموسيقى، وسحر الجميع إلا قلة منهم بلطفه وظرفه. وتوافد نبلاء الإنجليز على مملكته، لأنه وفر لهم موائد القمار كما وفر الحمامات، فلما سنت قوانين تحرم القمار ابتكر ألعاب حظ جديدة تتفادى القوانين. وأخيراً وفد على باث جورج الثاني، والملكة كارولين، والأمير فردريك لويس، وغدت باث حيناً بلاطاً ثانياً. ولا ريب في أن ايرل تشسترفيلد الذي كان يعشق المدينة كان مطبقاً على صفوفها ذلك الوصف الذي وصف به جميع البلاطات بقوله أنها أماكن "يجب أن تتوقع أنك ستلقى فيها بارتباطات دون صداقة، وعداوات دون ضغينة، ونبالة دون فضيلة، ومظاهر تنقَذ وحقائق تضحَى؛ آداب حسنة مشفوعة بأخلاق سيئة، وكل الرذائل والفضائل مقنعة، حتى أن كل من كان يميز بينها بعقله فقط لن يتبين الواحدة من الأخرى حين يلقاها أول مرة في البلاط(96)".



 صفحة رقم : 11699   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> تشسترفيلد


7- تشسترفيلد


فلننفق نصف ساعة مع هذا النبيل المرهف الحس. فقد تمثلت فيه خصائص أرستقراطية العصر الإنجليزية، اللهم إلا تأليفه كتاباً حسناً. ذلك أن هذا الكتاب "رسائل لولده"، الذي درج الناس على الغض من قدره، هو خزانة من الحكمة في نثر مشرق، ومرشد محكم لعادات طبقته ومثله العليا، وإعلان جذاب عن ذكاء مرهف مهذب. كان اسمه بالعماد (1694) فليب درومر ستانهوب، بن فليب ستانهوب، ايرل تشسترفيلد الثالث، والليدي اليزابث سافيل، ابنة جورج سافيل، مركيز هاليفاكس، المساير الماكر للعهود الملكية السابقة. ماتت أمه في طفولته، وأهمله أبوه، فكفلته مركيزة هاليفاكس. وحذق تعلم الكلاسيكيات واللغة الفرنسية على يد معلم خاص، فأصبحت ثقافة روما وفرنسا إبان نضجهما جزءاً من عقله. وأنفق سنة في كمبردج، ثم انطلق في 1714 في الرحلة الكبرى. وفي لاهاي قامر بمبالغ كبيرة، وفي باريس جرب عينات من النساء تجربة



 صفحة رقم : 11700   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> تشسترفيلد


الفاسق الذواقة للنساء، ومن باريس كتب (7 ديسمبر 1714) يقول: "لن أبدي لك رأيي في الفرنسيين، فكثيراً جداً ما يخالني الناس واحداً منهم، وقد حياني العديدون منهم بأسمى تحية يمكن-في اعتقادهم-أن يحيوا بها إنساناً، وهي: "سيدي، إنك على شاكلتنا تماماً" حسبي أن أقول إنني وقح، كثير الكلام، عالي الصوت، آمر ناه، أغني وأرقص أثناء سيري، وأهم من هذا كله أنني أنفق مبلغاً باهظاً على شعري، ومساحيقي، وريشي، وقفازي الأبيض(97)". فلما عاد إلى إنجلترا عين وصيفاً لمخدع أمير ويلز وقتها (الذي أصبح جورج الثاني). وكان جيمس ستانهوب، الوزير الأثير لدى جورج الأول، قريباً لفليب. وعثر له على دائرة يمثلها في البرلمان، فظل أحد عشر عاماً عضواً من أعضاء حزب الأحرار في مجلس العموم. فلما أصبح ايرل تشسترفيلد الرابع بعد موت أبيه (1726) نقل إلى مجلس اللوردات، الذي قال في وصفه فيما بعد أنه "مجلس ذوي الأمراض المستعصية". وحين أوفد إلى لاهاي سفيراً (1728) قام بمهمته خير قيام، فخلع عليه وسام ربطة ساق الفروسية وعين وكيلاً أكبر للبيت الملكي. وفي 1732 أنجبت له خليلة تدعى الآنسة بوشيه ولداً هو فليب ستانهوب، الذي وجهت إليه فيما بعد "الرسائل" التي كتبها أبوه. وبعد عام تزوج الكونتيسة ولزنجهام، ابنة جورج الأول غير الشرعية من دوقة كندال. ولعل توقع أن تأتيه بمهر ملكي، ولكنها لم تفعل، فكان زواجاً شقياً شقاءً أرستقراطياً. وكان من الجائز أن يرتقي إلى منصب أرفع لولا معارضته مشروع قانون لولبول بفرض ضريبة إنتاج على التبغ والنبيذ. وقد عاون على هزيمة القانون، وما لبث أن طرد من الحكومة (1733). وكافح ليسقط ولبول، وضيع صحته، واعتكف في القارة (1741)، وزار فولتير في بروكسل، واختلط بفونتنيل ومونتسكيو في باريس. فلما قفل إلى إنجلترا واصل سياسة المعارضة للحكومة. وقد أبهجت المقالات التي كتبها تحت اسم "جفري برودبوتوم" لصحيفة جديدة تدعى "إنجلترا القديمة" سارة، دوقة ملبره، فأوصت له بعشرين ألف جنيه. وفي 1744 فاز حزبه، حزب "البرودبوتوم" (الأحرار). وانضم



 صفحة رقم : 11701   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> تشسترفيلد


إلى بلام في الوزارة، وأوفد إلى لاهاي ليقنع الهولنديين بالانضمام إلى إنجلترا في حرب الوراثة النمساوية. فأدى المهمة بلباقة وحذق، ورقى إلى منصب نائب الملك في إيرلندة (1745) وكانت السنة الوحيدة التي قضاها في إيرلندة أنجح سني حياته. فقد أنشأ المدارس والصناعات وطهر الحكومة من الفساد والرشوة، وصرف شئون الحكم بكفاية ونزاهة. وأنهى اضطهاد الكاثوليك، ورق العديدين منهم إلى مناصب الحكومة وبلغ من اكتسابه احترام السكان الكاثوليك له أنهم حين غزل المطالب الشاب بالعرش الإنجليزي إنجلترا من إسكتلندة، وتوقعت إنجلترا ثورة في إيرلندة تنشب في الوقت ذاته، رفضوا أن يثوروا على تشسترفيلد. ورد إلى إنجلترا وزيراً (1746). ولكن أستاذ الرقة واللباقة اقترف غلطة مدمرة. ذلك أنه تودد إلى خليلة الملك لا إلى الملكة، فنجحت كارولين في تدبير سقوطه. وفي 1748 طلق الحياة العامة، وانكفأ كما قال إلى "حصاني، وكتبي، وأصحابي(98)" وعرض عليه جورج الثاني لقب الدوقية، ولكنه رفضه. وفي 1751 قاد حركة تبنى التقويم الجويجوري، وتحمل وطأة استياء الشعب من "السرقة البابوية" لأحد عشر يوماً من الشعب الإنجليزي. وفي 1755 سلط عليه جونسون ناره بمناسبة إهداء المعجم الذي ألفه، ونلقى نظرة على هذه المعركة الصاخبة في موضع لاحق. وكان خلال ذلك يكتب الرسائل لولده منذ 1737. وينم حبه لهذه الثمرة الجانبية لسفارته الأولى في هولنده على الحنان الذي أخفاه عن الجماهير خلال أكثر حياته. قال للفتى: "منذ رأت عيناك نور الحياة أصبح شغلي الشاغل، المحبب إلى نفسي، أن أكمل ما يسمح به قصور الطبيعة البشرية(99)". وقد خطط تعليم فليب، لا ليجعله مسيحياً مثالياً، بل ليعده للسياسة والدبلوماسية. وبدأ الغلام في الخامسة بخطابات عن الأساطير الكلاسيكية والتاريخ القديم. وبعد عامين راح يعزف النغمة التي لن يفتأ يلح عليها في رسائله. يقول: "في خطابي الأخير كتبت لك عن أدب المجتمع العصري،



 صفحة رقم : 11702   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> تشسترفيلد


كأولئك الذين ألفوا ارتياد القصور، وهم القطا الأنيق من النوع الإنساني. وأدبهم عفوي طبيعي، وعليك أن تميز بينه وبين تأدب الدهماء والريفيين، وهو تأدب مقيّد أو مزعج دائماً.. فالرجل المهذب يبدي رغبة دائمة في أن يسر من يتحدث إليه، ويحرص على ألا تكون تحياته مزعجة. وقل من الإنجليز من يتصفون بالأدب الكامل فهم أما خجلون وأما وقحون، في حين تجد معظم الفرنسيين طبيعيين مؤدبين في سلوكهم. وبما أنك بحكم النصف الأفضل فرنسي صغير، فإني أرجو أن تكون على الأقل "نصف" مهذب. وستكون أميز وأبرز في بلد ليس الأدب فيه فضيلة غالية(100)". وعليه فحين بلغ فليب الرابعة عشرة أرسله أبوه إلى باريس باعتبارها المدرسة التي تنتهي صقل عاداته وإن كان عليماً بأنها ستنهي فضائله أيضاً. وكان على الفتى أن يتعلم أساليب الحياة أن أراد أن ينفع حكومته. والدراسة المناسبة لرجل الدولة هي دراسة الإنسان، فبعد أن علم الوالد ولده العلوم الكلاسيكية وفنون الأدب عن طريق المعلمين الخصوصيين والرسائل، رده الايرل-الذي كان خبيراً بهذه العلوم والفنون-من الكتب إلى البشر. قال: "يا صديقي العزيز، إن قلة قليلة من المفاوضين المشهورين هم الذين برزوا بفضل علمهم... فدوق ملبره الراحل، الذي كانت كفايته مفاوضاً تعدل على الأقل كفايته قائداً حربياً، كان جاهلاً جهلاً مطبقاً بالكتب، ولكنه كان خبيراً بالرجال، في حين ظهر أن جروتيوس العلامة كان وزيراً خائباً غاية الخيبة، سواء في السويد أو في فرنسا(101)". فإذا شاء فليب أن يلتحق بالحكومة فينبغي له أولاً أن يدرس الطبقات الحاكمة، بيئتهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، وغاياتهم، ووسائطهم؛ وألا يقرأ غير أجود الأدب ليكتسب أسلوباً حسناً في الكتابة، لأن هذا أيضاً جزء من فن الحكم؛ وأن يلم بالموسيقى والفنون، ولكن، حذار أن يتطلع لأن يكون مؤلفاً أو موسيقياً(102). وينبغي له أن يدرس بعناية تاريخ الدول الأوربية الحديث، ملوكها ووزرائها، قوانينها ودساتيرها، مالياتها ودبلوماسياتها، وليقرأ ما كتبه لاروشفوكو ولابرويير



 صفحة رقم : 11703   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> تشسترفيلد


عن طبائع البشر، إنهما حقاً "كلبيان"، ولكنك لن تخطئ خطأً كبيراً، في السياسة على الأقل، إن أنت توقعت من كل إنسان أن يسعى لتحقيق مصلحته كما يراها، ولنسيء الظن بأي سياسي يتظاهر بغير هذا. ولا نتوقع من الناس أن يكونوا معقولين، بل خذ في حسابك أهواءهم. "إن أهواءنا هي خليلاتنا، أما العقل فهو الحليلة على أحسن تقدير، يُسمَع كثيراً جداً بلا ريب، ولكن نادراً ما يعبأ به(103)" تعلم أن تتملق، لأنه لا يمتنع عن الملق سوى أحكم الحكماء وأقدس القديسين، ولكن كلما صعدت وجب أن يكون تملقك أرهف وأحوط. وأدرس أنساب أهم الأسر، لأن البشر أكثر افتخاراً بأنسابهم منهم بفضائلهم(104). وتودد للنساء، أولاً لتحصل على معونتهن، فحتى الحكام الأقوياء يتأثرون بالنساء الضعيفات، لا سيما إذا لم يكن أزواجهم. أما في مسائل الجنس، فإن نصيحة تشسترفيلد لولده أضحكت الفرنسيين وروعت الإنجليز. فقد ذهب إلى أن طرفاً من العلاقات الغرامية الحرام إعداد ممتاز للزواج والنضج. واكتفى بالإصرار على أن تكون خليلات فليب نساء مهذبات، حتى يصقلنه وهن يأثمن معه. وزكى له مدام دوبان لما كانت عليه من "حسن التربية ورقة الطبع(105)" ولقن ابنه فن الإغواء. فعليه ألا يقبل أي تمنع وهو مستسلم، لأن: "أكثر النساء فضيلة لن يسوءها أن يبوح لها رجل بحبه، بل إن ذلك يشبع غرورها شريطة أن يكون بأسلوب مؤدب لطيف. فإذا استمعت إليك، وسمعت لك أن تفصح ثانية عن حبك، فثق أنك إن لم تغامر بالباقي كله سخرت منك.. فإذا لم تلق منها أذناً مصغية فحاول ثانية، وثالثة، ورابعة. وثق، إذا لم يكن المكان قد احتل من قبل، إن في الإمكان غزوه(106)". قد أفضى الايرل، الذي لم يكن محظوظاً في الزواج ولا مولعاً به، إلى ولده برأيه في النساء، وهو رأي لم يكن بالحسن جداً: "في هذا الموضوع سأفضي إليك ببعض الأسرار التي سيفيدك جداً أن تلم بها، ولكن عليك أن تحرص أشد الحرص على إخفائها وعلى ألا تبدو



 صفحة رقم : 11704   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> تشسترفيلد


ملماً بها. فاعلم إذن أن النساء ما هن إلا أطفال كبار، فيهن ثرثرة مسلية، وأحياناً ذكاء، أما من حيث التفكير الرصين والإدراك السليم، فما عرفت في حياتي امرأة أتيح لها هذان، أو فكرت أو تصرفت منطقياً ولو أربعاً وعشرين ساعة كاملة.. والرجل الفطن إنما يلهو بهن، ويلعب معهن، ويلاطفهن، ويتملقهن.. ولكنه لا يستشيرهن أبداً في الخطير من الأمور ولا يأتمنهن عليها وإن موّه عليهن كثيراً بأن يفعل الاثنين، وهو أشد ما يفخرون به في هذه الدنيا، لأنهن ولوعات بالتسلي بالتجارة (التي يفسدنها دائماً).. وليس هناك ملق يرينه فوق ما يستأهلن أو دونه، إنهن يبتلعن أبلغ الملق في شراهة، ويقبلن أقله في شكر وعرفان، وفي وسعك أن تتملق أي امرأة مطمئناً، بادئاً بقوة ذكائها ومنتهياً بذوق مروحتها الرفيع. وخير ما تتملق به النساء الجميلات والقبيحات جمالاً أو قبحاً غير منازع هو الإشادة بذكائهن(107). وقال الأيرل أن النساء في فرنسا يجب تملقهن في مثابرة وكياسة لسببين: فإن في استطاعتهن أن يقررن مصير الرجل في بلاط الملك، وأن يعلمنه لطائف الحياة وفنونها. فالنساء يحتفظن بسحرهن برشاقة الحركة والسلوك والحديث لا بجمالهن، فالجمال بغير الرشاقة لا يجتذب أي رجل، وأما الرشاقة بغير الجمال فما زالت لها القدرة على الفتنة. "إن النساء هن المهذب الأوحد لكفاية الرجال. صحيح أنهن لا يستطعن إضافة وزن لها، ولكنهن يصقلنها ويضفين عليها بريقاً(108)". وحذر الأيرل ولده من الكلام بسوء عن النساء، فهذا أمر مبتذل، سوقي، أحمق، ظالم، لأن النساء اقترفن في هذه الدنيا من الأذى أقل كثيراً مما اقترفه الرجال. ثم إنه ليس من الحكمة أبداً مهاجمة "فئات بجملتها" أو طبقات أو جماعات، "فقد يصفح الأفراد، أما الهيئات والجماعات فلا(109)". ولم يمل تشسترفيلد من تلقين ولده أصول السلوك المهذب. "فالعادات المهذبة هي الوسيط الثابت المستقر للحياة الاقتصادية، كما أن نوع السلعة هو الوسيط المقرر في دنيا التجارة. والناس يتوقعون عائداً في الحالين على السواء، وهم لا يقدمون احترامهم لإنسان فظ، أكثر مما يقرضون مالهم لإنسان مفلس(110)".



 صفحة رقم : 11705   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> تشسترفيلد


ومما يعين في هذا المجال أستاذ رقص قدير، فهو يعلمنا على الأقل كيف نقعد، أو نقوم، أو نمشي دون تبديد في الجهد والطاقة. وإذ كان الأيرل أرستقراطياً، فقد سمي السلوك المهذب "تربية طيبة"، فلقد تبين دون وعي منه، وربما محقاً، كيف يصعب على إنسان اكتساب العادات المهذبة دون أن يكون قد ربي في أسرة وتحرك في محيط لهما هذه العادات. "إن من سمات الرجل الطيب النشأة أن يتحدث إلى من هم أدنى منه دون صلف، وإلى من هم أعلى منه باحترام ويسر(111)" فعلى المرء ألا يستغل علواً في المقام جاء وليد الصدفة. "لا تستطيع أن تحسب، وأنا واثق أنك لا تحسب، أنك أرقى بحكم الطبيعة من ذلك السافواوي الذي ينظف حجرتك، أو الخادم الذي ينظف حذاءك، ولكن لك أن تغتبط، وبحق، لما حباك به الحظ دون غيرك. فاستمتع بتلك المزايا، ولكن دون إهانة أولئك الذين قضى القدر بحرمانهم منها، أو حتى الأتيان دون موجب بأي عمل قد يذكرهم بذلك الحرمان. وأقول لك عن نفسي أنني أشد حرصاً على سلوكي نحو خدمي وغيرهم ممن يدعون أدنى مني، مني نحو نظرائي، مخافة أن أتهم بتلك العاطفة القبيحة الوضيعة، وهي الرغبة في أشعار غيري بذلك الفارق الذي أوجده الحظ بيننا، ربما دون استحقاق على الإطلاق(112)". والسلوك المهذب يصدق على العقل كما يصدق على الجسم، وكلا النوعين يتأثر بعشائرنا. "هناك نوعان من الخلطاء المهذبين، الأول وهو المسمى المجتمع الراقي "beau monde"، وهم أصحاب الصدارة في قصور الملوك وفي الجوانب المرحة من الحياة، والثاني هم أولئك الذين يتميزون بكفاية خاصة، أو يتفوقون في فن أو علم خاص عظيم القدر. أما عن نفسي فقد ألفت أن أراني وأنا جالس إلى (الكاتب) أديسون أو (الشاعر) بوب في صحبة أشخاص يعلون عني علو جميع ملوك أوربا وأمرائها لو جلست إليهم(113)".



 صفحة رقم : 11706   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> تشسترفيلد


ومن الحكمة أن يسلك المرء في كلتا الصحبتين بشيء من التحفظ، فلا يسرف في الكلام ولا يغالي في الصراحة، وأن يكون "من الحذق بحيث يخفي حقيقة دون أن يكذب"، وأن يبدو صريحاً وهو متحفظ: "تظاهر بأنك مرتاب حتى حيث تكون على يقين من الأمر... وإن شئت أن تقنع غيرك فليبد عليك استعدادك للاقتناع. وأودع علمك كما تودع ساعتك جيباً خاصاً فلا تبرزه.. لمجرد الإعلان عن نفسك(114). وهم من هذا كله، احذر الحديث عن نفسك ما استطعت(115). "وأمسك عن الحديث في الدين، فلو أنك أطريته لابتسم أصحاب الثقافة والحكمة، ولو ذممته لحزن الشيوخ الناضجون. وسوف يفيدك أن تقرأ تواريخ فولتير، ولكن احترس من جماعة "الفلاسفة" الذين يهاجمون الدين. "لا يبد عليك أنك توافق على تلك الأفكار الإباحية التي تهاجم الأديان على السواء، أو أنك تشجعها أو تصفق لها، والتي هي الحديث الحقير المهلهل الذي يخوض فيه أنصاف العقلاء وصغار الفلاسفة. وحتى أولئك الذين بهم من الحمق ما يجعلهم يضحكون على نكاتهم، لهم وزعم ذلك من الحكمة ما يشككهم ويبغضهم في أخلاقهم، ذلك أننا حتى لو وضعنا الفضائل الخلقية في أسمى مكان لها، والدين في أدناه، فلا بد رغم ذلك من أن نعترف للدين بأنه ضمان إضافي على الأقل للفضيلة، وكل إنسان حصيف يؤثر الركون إلى ضمانين خيراً من ضمان واحد. لذلك فأينما اتفقوجودك في صحبة أصحاب "العقول القوية" المزعومة هذه، أو في صحبة إباحيين عديمي التروي ممن يسخرون بالدين كله إعلاناً عن ذكائهم وظرفهم، فلا تدع كلمة أو نظرة تبدر منك دليلاً على أقل استحسان لما يقولون، بل على العكس من هذا فلتفصح رزانتك الصامتة عن كرهك له، ولكن لا تخض في الموضوع واجتنب مثل هذه المجادلات العقيمة النابية(116)".



 صفحة رقم : 11707   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> تشسترفيلد


وفي 1752 تبين تشسترفيلد في التهجم على الدين أول مراحل الثورة الاجتماعية، "أتنبأ أنه قبل أن ينقضي هذا القرن لن تبلغ صناعة الملك والقسيس نصف ما بلغته من احترام إلى الآن(117)". وفي 1753، بعد ظهور "الموسوعة" المعادية لرجال الدين بعامين، كتب إلى ابنه يقول: "إن أحوال فرنسا.. .. تزداد خطورة، وفي ظني أنها ستمضي في هذا قُدماً كل يوم. فالملك محتقر... والأمة الفرنسية تفكر في أمور الدين والحكم بغير قيود، وهو ما لم تفعله قط من قبل، وقد بدأت تصبح "محايدة" في هذه الأمور؛ كذلك يفعل الموظفون، وباختصار توجد الآن في فرنسا، وتزداد كل يوم، جميع الأعراض التي صادفتها دائماً في التاريخ قبل وقوع التغييرات والثورات الكبرى في الحكم(118)". وقد كون اثنان من قرائه، بعد دراسة ممتعة لصفحات تشسترفيلد الثمانمائة، رأياً ممتازاً عن عقله، إن لم يكن عن أخلاقياته. أما معاصروه الإنجليز فكانوا لعدم قراءتهم رسائله أميل إلى أن يسلكوه، دون ترو، في زمرة الأدباء الظرفاء لا الفلاسفة. وطابت لهم ملاحظته في مجلس اللوردات حين قال "من حقنا يا سادتي اللوردات أن نشكر السماء لأن لدينا شيئاً نركن إليه خيراً من أدمغتنا(119)". ورأوه يقامر مقامرة المستهترين أو الحمقى، وعرفوا أنه لم يكن مثالاً يحتذي في العفة (وهو ما اعترف به لولده). وقد وصف جونسون الغضوب "الرسائل" بأنها تغرس في النفس "أخلاق عاهرة وسلوك معلم رقص(120)". وفي هذا الحكم، كما في الكثير جداً من أحكام هذا "الخان الأكبر" بعض القصور والتحامل، فلقد كان تشسترفيلد يعلم الفتى أخلاق جيله وطبقته، وعادات المجتمع السياسي المتأدب، وعلينا أن نتذكر أنه كان يهيئ ولده للدبلوماسية، وما من دبلوماسي يجرؤ على تطبيق المسيحية وراء حدود بلاده. غير أن الكثير من التعليم الخلقي الذي محضه فليب كان رغم هذا ممتازاً. "لقد طالما أخبرتك في رسائلي الماضية (وهو حق بكل تأكيد)



 صفحة رقم : 11708   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> تشسترفيلد


أنه ما من شيء يكسبك احترام البشر وتقديرهم غير أشد ضروب الشرف والفضيلة صرامة وتدقيقاً(121)". وأغلب الظن أن نصيحته له في أمر الخليلات كانت محاولة لصرف الفتن عن الفوضى الجنسية. لاحظ هذا التحذير "أما عن الجري وراء النساء، فإن نتائج تلك الرذيلة إنما هي فقدان المرء أنفه، والتدمير الشامل لصحته، وطعنات السلاح تصيبه في حالات غير قليلة(122)". وقد ذهب جونسون نفسه، في لحظة غافرة، إلى أن "رسائل اللورد تشسترفيلد لولده قد يخرج منها كتاب لطيف جداً، وإذا انتزعت منه الجانب اللا أخلاقي، وجب أن يوضع في يد كل شاب مهذب(123)". وربما كان في "الرسائل" قصور في غرس مبادئ الشرف واللياقة والشجاعة والوفاء. ولكن ليس صحيحاً أن تشسترفيلد حسب الثراء أو المنصب فضيلة أو حكمة. وقد امتدح ملتن، ونيوتن، ولوك أكثر كثيراً مما امتدح سياسيّ زمانه، ورأيناه ينشد صداقة خيرة كتاب عصره. وقد أوتي تقديراً حاراً للأدب الجيد، حتى ولو لم يفتنه معجم من معاجم اللغة. وقد كتب هو نفسه إنجليزية لم يبزها كاتب في النثر المعاصر له، لغة بسيطة، قوية، واضحة، فيها من الخفة والمرح القدر الذي يكفي لتعويم الفكر الذي يثقله. وقد آثر الألفاظ الأنجلو-سكسونية القصيرة المفعمة بالحيوية رغم إحاطته بالكثير من اللغات، وغزارة علمه بالكلاسيكيات. وفي رأي فولتير أن الرسائل "أفضل ما كتب إطلاقاً في التربية(124)". ووصفها سانت-بوف بأنها "كتاب غني، لا تقرأ فيه صفحة دون تحملك قراءتها على أن تتذكر ملاحظة سعيدة(125)". ولو حكمنا على عمل ما بثمراته المباشرة لقلنا أن الرسائل فشلت. ذلك أن الفتى فليب ستانهوب لم يتغلب قط على روحه البليدة، وعاداته الرثة، وأسلوبه المتثاقل، وحديثه المتردد، فبعد كل هذا الحث والحض، كما تقول فاني بيرني، "كان حظه من حسن التربية ضئيلاً كأي رجل لقيته(126)". ويبدو أن انحرافاً سببه مولد الفتى أو ظرفه أبطل فعل خمسة أرطال من التعاليم. لقد كان فليب يعاني من معوق هو أن له أباً غنياً ومكاناً مضموناً ومريحاً، فلا خوف الجوع ولا كره الخضوع حفزاه إلى الطموح والمغامرة؛ لقد افتقد الدفعة الحية للروح "vivide vis animi" كما قال له أبوه المغلوب على أمره



 صفحة رقم : 11709   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> إنجلترة -> الشعب -> تشسترفيلد


"تلك القوة التي تهمز الشباب وتثيرهم للإرضاء، والتألق، والتفوق(127)". ومن المؤثر أن نرى الأيرل المسن يغدق كل هذه النصائح الحكيمة والحب الأبوي فلا يجني غير هذه الثمرة الهزيلة. كتب لولده حين كان في الرابعة عشرة "ثق أنني سأحبك حباً جماً ما دمت تستأهله، ولكن لن أحبك لحظة واحدة بعد هذا(128)"، على أن رسالته الأخيرة لولده بعد اثنتين وعشرين عاماً فيها حرارة المحبة والتوسل(129). ولم يمض عليها شهر حتى مات فليب في باريس (1768) وهو في السادسة والثلاثين تاركاً أرملة وولدين. فلقد تزوج دون علم أبيه، ولكن تشسترفيلد غفر له، وراح الايرل الآن يكتب للزوجة الثكلى رسائل هي نماذج في المجاملة والاحترام(130). أما هو فكان في تلك الفترة كثير التردد على باث بعد أن أقعده النقرس وأصابه الصمم إلى حد محزن. "إنني أزحف في هذا المكان على أرجلي الثلاث، ولكن يعزيني عن محنتي هذه إخواني الزاحفون معي؛ إن نهاية لغز أبي الهول تقترب، وسأختم حياتي بعد قليل كما بدأتها، على أربع(131)". وقد اهتم بتربية حفيديه، ولا غرو فالأمل لا يخبو أبداً في الصدر العجوز. فلما عاد إلى ضيعته في بلاكهيث اتبع نصيحة فولتير وزرع حديقته فخوراً بشمامه وتفاحه، وقال إنه قانع بأن "يحيا حياة راكدة في صحبتهما(132)". وكتب له فولتير رسائل معزية، مذكراً إياه بأن الهضم الجيد (الذي احتفظ به الإيرل) أجلب للذة من الآذان السليمة. وقابل النهاية بمرح لم يفتر. قال عن نفسه وعن صديقه اللورد تيرولي، وكان مثله شيخاً مقعداً، (وربما كان في قوله هذا متذكر فونتنيل) "لقد كنت وتيرولي ميتين في السنتين الأخيرتين، ولكنا لا نود أن يعرف عنا هذا(133)". ومات في 24 مارس 1973 بالغاً التاسعة والسبعين، غير عالم أن رسائله التي منع نشرها قد احتفظ بها ابنه وتركها في وصيته، وأنها بعد طبعها في العام التالي ستسلكه في عداد أساطين الحكمة الدنيوية وفحول النثر الإنجليزي.