قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ف 1

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 11580

قصة الحضارة -> عصر فولتير -> فرنسا الوصايا -> فولتير الشاب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الأول: فرنسا الوصاية 1715-1723

فولتير الشاب 1694-1715

لم يكن اسمه بعد فولتير، بل كان حتى إطلاق سراحه من الباستيل في 1718 يدعى فرانسوا ماري آرويه. وقد ولد بباريس في 21 نوفمبر 1694، وأصبح خلاصتها المصفاة حتى 1778. أما الرجل الذي يفترض أنه أبوه، واسمه فرانسوا آرويه، فكان محمياً ميسور الحال، عرف الشاعر بوالو والغانية نينون دلانكلو، وكتب وصيتهما، وعرف المسرحي بيير كورني، ووصفه بأنه "أثقل من لقي من الناس ظلاً(1)". وأما أمه، ماري مارجريت دومار، فكان يجري في عروقها قدر طفيف من الدم النبيل، وكانت ابنه موظف في "البرلمان" وأخت المراقب العام للحرس الملكي، ومن طريقهما استطاعت الوصول إلى بلاط لويس الرابع عشر. وقد جعلت حيويتهما وذكاؤها المرح من بيتها صالوناً صغيراً. وذهب فولتير إلى أنها ملكت كل ما وهبت أسرته من ذكاء، كما ملك أبوه كل ما أوتيت من دراية مالية، وقد استوعب الابن الموهبتين جميعاً فيما ورثه. وماتت أمه في الأربعين وهو لم يجاوز السابعة. وكان أكبر أبنائها الخمسة أرمان، الذي كان غيوراً على لاهوت الجانسنيين حريصاً على ميراث الأسرة. أما أصغر الأبناء فرانسوا ماري، فكان معتلاً في عامه الأول، حتى أن أحداً لم يصدق أن ستكتب له الحياة. وقد ظل حتى الرابعة والثمانين يتوقع موته المبكر ويذيعه على الناس.

وكان من بين أصدقاء الأسرة عدة "آباء" abb(s وهو لقب كان يخلع على أي كنسي علماني، سواء كان قسيساً مرسوماً أو لم يكن. وقد أصبح كثير من هؤلاء الآباء رجال دنيا لا دين، لمعوا في المجتمع رغم تمسكهم برداء الكهنوت، ومنهم من ألفوا المشاركة المسافرة في مجالس خلت من الوقار، ومنهم من عاش كما يشتهي متستراً وإن حافظ على مظهر لقبه. مثال ذلك الأبيه دشاتو نوف، آخر عشاق نينون دلانكلو وأول معلم لفولتير. وكان رجلاً واسع الثقافة، رحب الأفق، وقد أشرب تلميذه وثنية نينون وارتيابه مونتيني. وفي رواية قديمة مشكوك فيها أنه قدم للصبي ملحمة هازلة تدعى "الملحمة الموسوية" كانت تتداول في مخطوطات سرية، ومؤداها أن الدين، إذا استثنينا الإيمان بكائن أعظم، ليس إلا ذريعة يتذرع بها الحكام لإخضاع المحكومين وإرهابهم(2).

بدأ تعليم فولتير حين اصطحبه معلمه "الأبيه" في زيارة لنينون، وكانت الغانية الشهيرة يومها (1704) في الرابعة والثمانين. ووجدها فرانسوا "يابسة كالمومياء" ولكنها ما زالت فياضة برقة المرأة وعطفها. وقد تذكر في تاريخ لاحق صنيعها فقال "لقد طاب لها أن تذكرني في وصيتها، فتركت لي ألفي فرنك لأشترى بها كتباً(13)". وماتت بعد ذلك بقليل. ورغبة في موازنة هذا الغذاء ألحق الصبي وهو في العاشرة طالباً مقيماً بكلية لوي-لجران اليسوعية على شاطئ باريس الأيسر، التي اشتهرت بأنها أفضل مدرسة في فرنسا. وكانت تضم بين تلاميذها الألفين من أبناء الأشراف كل من أطاق أن يتعلم، وفي السنوات السبع التي أنفقها فولتير في مدرسته صنع الكثير من الأصدقاء الأرستقراطيين الذين احتفظ طوال حياته بالألفة الطبيعية معهم. وقد تلقى تدريبات حسناً في الدراسات الكلاسيكية، والأدب، ولا سيما المسرحية، ومثل في مسرحيات عرضت هناك، وكتب هو نفسه تمثيلية وهو بعد في الثانية عشرة. وكان متقدماً في دراسته، وظفر بجوائز كثيرة وأبهج معلميه وأفزعهم. فلقد أعرب عن عدم إيمانه بالجحيم، وسمى السماء "عنبر نوم الدنيا الكبير(4)". وتنبأ أحد معلميه في حزن بأن هذا الفكر الصغير سيحمل لواء الربوبية الفرنسية-أي الدين الذي يرفض كل لاهوت تقريباً فيما عدا الأيمان بالله. على أنهم احتملوه بما عهد فيهم من صبر وأناة، وبادلهم هذا الصنيع باحتفاظه-طوال هرطقاته كلها-باحترام وعرفان بالجميل دافئين لليسوعيين الذين راضوا عقله على الوضوح ودربوه على النظام كتب وهو في الثانية والخمسين يقول: "تلقيت العام سبع سنين على يد رجال بذلوا جهود مضنية لم ينالوا عليها جزاء ليربوا عقول الشباب وأخلاقهم... ولقد أشربوني ميلاً إلى الأدب، وعواطف ستكون عزاء لي إلى نهاية عمري. وما من شيء سيمحو من قلبي ذكرى الأب بوريه، الذي هو عزيز بالمثل على كل من أخذوا عنه العلم. فإن أحداً من المعلمين لم يحبب تلاميذه في الدرس والفضيلة كما فعل ذلك الأب... وقد أسعدني الحظ بتلقي العلم على أكثر من أب يسوعي جملته أخلاق الأب بوريه.. فما الذي رأيته خلال السنين السبع التي قضيتها مع اليسوعيين؟ أكثر ضروب الحياة جداً وقصداً وتنظيماً، أوقاتهم كلها قسمة بين رعاية يبذلونها لنا وممارسات لمهنتهم الشاقة. وأني لأستشهد بالآلاف الذين علموهم كما علموني وليس بين هؤلاء فرد يكذبني(5)". وبعد أن تخرج فرانسوا نوى أن يجعل الأدب مهنته، ولكن أباه أصر على أن يدرس القانون، محذراً أياه من احتراف الأدب الذي هو كلمة المرور السحرية إلى الفقر والعوز. وظل فرانسوا ثلاث سنين "يدرس قوانين تيودوسيوس وجستنيان سبيلاً لمعرفة مهنة المحاماة الباريسية" على حد قوله. وقد كره "كثرة الأشياء عديمة الجدوى التي أرادوا أن يشحنوا بها ذهني؛ إن شعاري هو: التركيز على صميم الموضوع(6)". وبدلاً من أن يستغرق في مجموعات القوانين والسوابق القانونية، سعى لصحبة جماعة من شكاك الأبيقوريين كانوا يجتمعون في التأميل-وهو بناء تخلف من دير قديم لفرسان الهيكل (الداوية) في باريس. وكان أمامهم فيليب دفاندوم، كبير رؤساء أديار فرنسا، صاحب الموارد الكنسية الضخمة والإيمان الديني الهزيل، ومعه الآباء سيرفيان، ودبوسي، ودشوليو، ومركيز دلافار، وأمير كونتي، وغيرهم من الأعيان الذين يتمتعون بدخل ميسر وحياة مرحة... وكان الأبيه دشوليو يجهر بأن الخمر والنساء أطيب النعم التي جادت بها على الإنسان طبيعة حكيمة خيرة(7). وقد لائم فولتير بين نفسه وبين هذا النظام دون عناء، وصدم أباه بالسهر خارج البيت مع أمثال هؤلاء السمار المعربدين حتى العاشرة مساءً، وكانت تعد يومها ساعة متأخرة تأخيراً منكراً.

وعين فولتير ملحقاً للسفير الفرنسي بلاهاي (1713)، ربما بناءً على طلب الأب. ويعرف العالم كله كيف وقع الفتى البالغ الحساسية في غرام أوليمب دنواييه، وكيف لاحقها بأشعاره، وقطع لها العهد بعبادتها إلى الأبد. كتب لها يقول: "لم يوجد حب يعدل حبي، لأنه لم يوجد إنسان أجدر بالحب منك(8)". وأبلغ السفير آرويه الأب بأن فرانسوا لم يخلق للدبلوماسية. فاستدعى ولده إلى وطنه، وحرمه من ميراثه،وهدد بنفيه على مركب إلى جزر الهند الغربية. وكتب فرانسوا من باريس إلى "بامبيت" بأنه قاتل نفسه إن لم تبادر بالحضور إليه. وإذ كانت أعقل منه بسنتين اثنتين، وبجنس واحد، فقد ردت عليه بأن من الخير له أن يصالح أباه، ويصبح محامياً فالحاً. وصفح عنه أبوه شريطة أن يدخل مكتب محام ويقيم معه، فوافق. أما بامبيت فتزوجت كونتا. ويبدو أنها كانت آخر مغامرات فولتير الغرامية. لقد كان إنساناً مرهف الشعور كأي شاعر، كله أعصاب وحساسية، ولكنه لم يكن عارم الشهوة، وسوف يقع بعد ذلك في غرام مشهور، ولكنه لن يكون تجاذباً بين جسدين بقدر ما هو تآلف بين عقلين. لقد فاضت طاقته من خلال قلمه. كتب إلى المركيزة ديمور وهو لم يجاوز الخامسة والعشرين يقول "إن الصداقة أثمن ألف مرة من الحب. ويخيل إليَّ أنني لم أخلق قط للغرام. فأنني أجد في الحب شيئاً سخيفاً نوعاً ما.. وقد قررت أن أطلقه إلى الأبد(9)". وفي أول سبتمبر 1715 مات لويس الرابع عشر، فتنفست أوربا البروتستنتية وفرنسا الكاثوليكية الصعداء. لقد كان موته خاتمة مُلك ونهاية عصر: مُلك اتصل اثنتين وسبعين سنة، وعصر-عصر القرن العظيم-بدأ بأمجاد الانتصارات الحربية، وبهاء الروائع الأدبية، وفخامة فن الباروك، وانتهى بانحلال الفنون والآداب، وإرهاق الشعب وإفقاره، وهزيمة فرنسا وإذلالها. وتطلع الجميع في أمل وشك إلى الحكومة التي ستخلف الملك المهيب الذي راح غير مبكى عليه.


الصراع على الوصاية 1715

كان هناك ملك جديد، هو لويس الخامس عشر، ابن حفيد لويس الرابع عشر، ولكنه لم يكن قد جاوز الخامسة. مات جده، وأبوه، وأمه، وأخوته، وأخواته، وأخيراً جد أبيه. فمن يكون وصياً عليه؟

لقد سبق وليان للعهد الملك الشمس إلى الموت: ابنه لويس الذي مات في 1711، وحفيده دوق برجنديا الذي مات في 1712. وقبل حفيد آخر باسم فيليب الخامس ملكاً على أسبانيا، شريطة تنازله عن جميع حقوقه في عرش فرنسا، وبقي على قيد الحياة بعد موت الملك الشيخ ابنان غير شرعيين، وكان قد اعترف ببنوتهما شرعاً، وأصدر مرسوماً بأن يرثا تاجه في حالة عدم وجود أمراء يجري في عروقهم الدم الملكي. أما أكبرهما وهو لوي أوجست، دوق مين، البالغ آنئذ الخامسة والأربعين، فكان رجلاً هزيل الجسم لطيف المعشر زادت قدمه المشوهة من حيائه وجبنه، ولعله كان يقنع بما تتيح له ضيعته الكائنة بضاحية سو (خارج باريس مباشرة)، والتي بلغ ثمنها 900.000 جنيه، من ترف ودعة، لولا أن زوجته الطموح كانت تحثه على أن ينافس غيره من الساعين للوصاية إلى العرش. ذلك أن دوقة مين لم تنس قط أنها حفيدة كونديه الكبير، فاحتفظت في سو ببلاط أشبه ببلاطات الملوك، بسطت في رعايتها على الفنانين والشعراء (ومنهم فولتير)، وأحاطت نفسها بحاشية مرحة وفية تمهيداً للملك وسبيلاً للوثب إليه، وكان لها مفاتنها، امرأة لا عيب في جسمها ولا شائبة في هندامها، شديدة القصر والنحافة حتى ليخالها الناظر صبية، ذكية ماهرة، تلقت تعليماً كلاسيكياً طيباً، وأوتين بديهة حاضرة وحيوية لا تعيا وأن أعيت غيرها. وكانت واثقة أن زوجها سيكون وصياً رائعاً ما دام خاضعاً لسلطانها. وبلغت بإلحاحها من إقناع القوى المحيطة بالملك المحتضر مبلغاً كفى لاستخلاص وصية منه (12 أغسطس 1715) تركت لدوق مين الأشراف على شخص الصبي لويس، وتعليمه، وعلى جنود القصر، ومنحته كرسياً في مجلس الوصاية. ولكن ملحقاً للوصية (25 أغسطس) عن فيليب الثاني، دوق أورليان، رئيساً للمجلس.

وأما فيليب هذا فكان ابن فيليب الأول (المسيو) الأخ الخنثوي للملك الشيخ من زوجته ثانية-هي شارلوت إليزابث أميرة البالاتين الخشنة الواقعية النزعة. وكان تعليم الفتى قد نيط بأب ديني تصفه "مذكرات" سان-سيمون، كما تصفه "المذكرات السرية لفترة الوصاية" "لدكلو" بأنه "بالوعة نتنة" من الرذائل. فلقد كان جيوم دبوا هذا ابناً لصيدلاني إقليمي، بذل جهداً كثيراً في الدرس، وكسب قوته بالاشتغال مدرساً خصوصياً، وتزوج، ثم ترك زوجته برضاها ليلتحق بكلية سان-ميشيل بباريس، حيث كان يدفع نفقات تعليمه بأداء الأعمال الحقيرة بهمة لا تفتر. فلما تخرج قبل وظيفة مساعد لسان-لوران، ضابط بيت "المسيو" وجز شعر أسه ليترهب، ورسم كاهناً صغيراً، ناسياً فيما يبدو زوجته. فلما مات سان-لوران عين دبوا مدرساً خصوصياً للوصي المستقبل. يقول دكلو-الذي قل أن توخى النزاهة وعدم التحامل "أن الأبيه أحس أن تلميذه سيحتقره عما قليل ما لم يفسد أخلاقه، فلم يدخر وسعاً في تحقيق هذا الهدف، وأفلح في هذا فوق ما دبر لسوء الحظ(10)". أما سان-سيمون الذي كان يكره الموهبة المجردة من عراقة الأصل، فكان يجد متعة في وصف دبوا، قال فيه:

"رجل قصير القامة، حقير الهيئة، ذابل الوجه، مخلوع القلب، يلبس باروكة صفراء باهتة، له وجه عرسة يضيئه بعض الذكاء. لقد كان-في كلمتين مألوفتين-وغدا أصيلاً. اصطرعت في داخله دون هوادة كل الرذائل لتظفر بالسيادة، حتى ملأ ذهنه الضجيج المتصل-آلهته الحرص والفجور والطمع، ووسائله الغدر والملق والتذلل، ودينه الفسوق المطلق، ورأيه الذي كان به كأنه المبدأ العظيم هو أن الاستقامة والأمانة من الأوهام التي يتجمل بها الناس دون أن يكون لها وجود... كان فيه ذكاء، وعلم ودراية بشئون الدنيا، ورغبة شديدة في إرضاء الناس والتودد إليهم، ولكن هذا كله أفسدته رائحة كذب وزيف انبعثت رغم إرادته من مسام جسده كلها... شرير... خائن، عاق، خبير بأخبث الخبائث، صفيق أشد الصفاقة حين يكشف أمره. يشتهي كل شيء، ويحسد كل شيء، ويود أن يظفر بكل شيء(11)".

وكان سان-سيمون وثيق الصلة بأسرة فيليب، وعلينا ألا نتعجل في تكذيبه، ولكن لا بد أن نضيف أن هذا الأبيه كان دارساً كفئاً، ومساعداً قديراً، ودبلوماسياً حكيماً موفقاً، وأن فيليب لخبرته بالرجل ظل وفياً له إلى النهاية.

أما التلميذ، الذي ربما كان نسبه من ناحية الأب قد أفسده، فقد تلقف تعليمات أستاذه وبزها عقلاً ورذيلة. أبهج معلمه بذاكرته القوية، وفطنته العقلية، وذكائه الثاقب، وفهمه وتذوق للأدب والفن. وأتاه دبوا بفونتنيل ليعلمه أصول العلوم، وبهومبيرج ليعلمه أصول الكيمياء، وسيكون لفيليب فيما بعد مختبره الخاص كما كان لتشارلز الثاني ملك إنجلترا ولفولتير في سيريه، وسيلتمس في التجارب الكيميائية بعض الراحة من حياة الزنا والفجور. وكان يرسم صوراً لا بأس بها، ويعزف على القيثارة، ويحفر الرسوم للكتب، ويجمع التحف جمع ذواقة خبير ولم يتعمق واحداً من هذه الميادين، فقد اهتماماته شديدة التنوع، وملاهيه تستأثر بوقته. وكان بريئاً كل البراءة من الإيمان الديني، وحتى أمام الناس "تظاهر باستهتار مخز بالدين(12)" وفي هذا، كما في إباحته الجنسية، كان رمزاً وحافزاً لبلده وللقرن الذي عاش فيه.

لقد كان كأكثرنا خليطاً مضطرباً من الشخصيات. يكذب في يسر وفي ابتهاج خبيث عند الحاجة أو للنزوة الطارئة، وينفق ملايين الفرنكات المنتزعة من شعب مملق على ملاهيه وهواياته الشخصية؛ على أنه كان جواداً عطوفاً، بشوشاً متسامحاً، "بطبيعته طيب القلب عطوف، رءوف (كما قال سان-سيمون(13)) أكثر وفاء لأصدقائه منه لخليلاته. وكان يثمل بالشراب كأن السكر شعيرة يؤديها كل ليلة قبل أن يمضي إلى فراشه(14). فإذا وبخته أمه أجابها "من السادسة صباحاً حتى الليل يفرض على العمل الطويل المضني، ولولا أني ألهو بعد ذلك لما أطقته، ولمت كمداً(15)".

وربما كان له من إجهاض حبه الأول عذر في إسرافه في الجنس. ذلك أنه شغف حباً بالآنسة سيري، وكانت وصيفة شرف لأمه، عريقة المولد. فراح ينظم لها القوافي، ويغني لها، ويزورها مرتين في اليوم، وأراد أن يتزوجها. ولكن لويس الرابع عشر عبس، وزكى له ابنته غير الشرعية، دوقة بلوا، تزكية قوية. وأطاع فيليب (1692)، ولكنه واصل تعلقه الشديد بالآنسة سيري حتى ولدت له ابناً. فنفاها الملك الغاضب من باريس. وبعث لها فيليب بالمال الكثير، ولكنه حاول أن يكون وفياً لزوجته، دون أن يوفق في ذلك طويلاً. ومنحته ابنة، هي دوقة بيري المستقبلة، التي أصبحت أغلى حب له وأمر مأساة في حياته. وبعد موت أبيه (1701) خلفه فيليب على لقب الدوقية وثروة الأسرة، دون أن يلتزم بشيء، إلا أن يستمتع بحياته في السلم ويخاطر بها في الحرب. وكان قد قاتل قبل ذلك ببسالة ضد الحلف الأعظم (1692-97)، وأصابته من جراء ذلك جراح كبيرة. ثم نال الآن مزيداً من الامتياز ببسالته المستهترة في حرب الوراثة الأسبانية (1702-13). فلما نجا من الموت كافأ نفسه بوليمة من البغايا. وكان في آثامه كلها، وفي غير استهتاره الديني، يحتفظ بلطف في السلوك وتهذيب وأدب في الحديث يذكر الناس بشباب "الملك الشمس" الحالم.

ولم يخطر ببال فيليب أن من حقه أن يطالب بالوصاية على العرش إلا بعد أن أزيح جميع الورثة المباشرين من الطريق، أما بالموت وأما بالمعاهدة. واتهمته الشائعات بأنه سمم أمراء البيت المالك ليخلو له الطريق إلى الملك، ولكن الأجيال التالية وافقت لويس الرابع عشر على رفضه هذه الفرية. وبدأت عدة جماعات ترى فيه شراً أهون من دوق مين ودوقتها. فالبروتستانت الفرنسيون الذين قبلوا اعتناق الكاثوليكية تحت الإكراه بالتهديد تمنوا ارتقائه إلى منصب الوصي لما توسموا فيه من ميل ملحوظ إلى التسامح. كذلك الجانسنيون الذين قاسوا من الاضطهاد الملكي والمراسيم البابوية، وكذلك أصحاب "العقول القوية" أو أحرار الفكر الذين أبهجتهم فكرة حكم رجل حر الفكر لفرنسا، وكذلك جمهور باريس الذي سئم صرامة الملك المتوفى وتزمته الذي جاء متأخراً، وكذلك جورج الأول ملك إنجلترا، الذي عرض على فيليب المعونة المالية فرفضها، وأهم من هؤلاء جميعاً أن "نبلاء السيف"- أي الأسر النبيلة التي أنزلت عن سلطانها القديم بأمر ريشليو ولويس الرابع عشر ليصبح أفرادها طفيليات تعيش عالة على البلاط-هذه الأسر راودها الأمل بأنها عن طريق فيليب ستثأر لنفسها من الإهانة الملكية، إهانة الخضوع للأبناء غير الشرعيين في الحكم، وللتجار في الإدارة. وحث سان-سيمون فيليب على التخلي عن تبطله وفجوره، وعلى الكفاح في سبيل حقه في الوصاية، وكان هو نفسه واحداً من أكبر النبلاء مقاماً.

وأما فيليب فكان يحب اللهو أكثر من السلطة، ولعله كان يؤثر أن يترك وشأنه. أما وقد راح أصحابه يحضونه، فقد همز همته لتفور فورة قصيرة، فاشترى هو-أو هم-تأييد جنود القصر الملكي (تحت بصر دوق مين)، وكسبوا كبار السياسيين والعسكريين بوعدهم بالوظائف، واسترضوا البرلمان بآمال رد امتيازاته السابقة. وفي 2 سبتمبر 1715-غداة موت لويس الرابع عشر-دعا فيليب برلمان باريس، وقادة النبلاء، وكبار موظفي الدولة، للاجتماع في قصر العدالة. وذهب دوق مين مؤملاً الظفر بمنصب الوصي، ولكن جسارة دوق أورلين، وكذبه، وفصاحته، كلها غلبته في هذه اللعبة. قال فيليب في معرض بذل الوعود "لن يكون لي هدف غير التخفيف من آلام الشعب، وتوطيد النظام الحسن من جديد في مالية الدولة، والمحافظة على السلام في الوطن وفي الخارج، وإعادة الوحدة والهدوء إلى الكنيسة، وسيعينني على هذا اعتراضات هذا المحفل الجليل الحكيمة، وهأنذا ألتمسها سلفاً(16)". أي أنه عرض أن يرد للبرلمان "حق الاعتراض" (على المراسيم الملكية) الذي أنكره الملك السابق وأغفله. وتحقق النصر لهذه الحركة البارعة، وبايع البرلمان فيليب بالإجماع تقريباً وصياً على العرش وأعطاه الإشراف الكامل على مجلس الوصاية. واحتج دوق مين بأن هذه الترتيبات تخالف وصية الملك الراحل، وأنه والحالة هذه لا يمكن أن يظل بعد ذلك مسئولاً عن شخص الملك الصبي، وأنه مضطر إلى طلب إعفائه من ذلك الواجب. فأخذه فيليب والبرلمان عند كلمته، وانكفأ مين ساخطاً عاجزاً إلى ضيعته في سو، وإلى تقريعات زوجته العنيفة. وأصبح فيليب أورليان وصياً على عرش فرنسا ثمانية أعوام، وكان يومها في الثانية والأربعين.

ازدهار ثم انهيار 1716-1720

كانت مهمته الأولى إعادة النظام والاستقرار الماليين إلى الدولة. لقد ورث حكومة مفلسة، بلغ دينها 2.400.000.000 جنيه، أضيف إليه دين قصير الأجل بلغ 590 مليون جنيه على شكل "سندات على الدولة"-وهي كمبيالات ملكية تتداولها الأمة، ولم تكد تساوي آنئذ ثلث قيمتها الأسمية. وكان صافي إيرادات الحكومة عام 1715 لا يتجاوز 69 مليون جنيه، ومصروفاتها 147 مليوناً. وكان أكثر الدخل المنتظر في 1716 قد أنفق مقدماً(17).

وأشار سان-سيمون بأن تشهر الحكومة إفلاسها. ولكن الدوق أدريان موريس دنواي احتج. ووفق الوصي بين الرأيين بإجراءات اقتصاد وإصلاح معتدلة. فخفض الجيش إلى 25.000 مقاتل، وأعفى الجنود المسرحون من الضرائب ست سنوات، وأعفى آباء الأطفال الثمانية إعفاءً دائماً. وخفضت ضرائب "التاي"، والجاييل، والرءوس، وغيرها من الضرائب. وندد بالفساد الذي استشرى في جميعها، وعولج بعض هذا الفساد، ورفت مئات من شاغلي الوظائف الحكومية الزائدين عن الحاجة-ومنهم 2.400 في باريس وحدها. وأنشئت "غرفة عدالة" (مارس 1716) دعى للمثول أمامها كل الماليين، والتجار، وأصحاب مصانع الذخيرة، وغيرهم ممن اشتبه في أنهم غشوا الحكومة. وهنا أقام نواي، الذي ألف الإجراءات العسكرية، حكم إرهاب حقيقياً، فوعد بالرأفة كل من يكشف عن زملائه من المذنبين، ووعد المبلغون بخمس المبالغ التي تسترد بفضل مساعدتهم. وشرعت عقوبة الإعدام لكل من يعوق عمل المبلغين، وتقررت مصادرة الأملاك والحكم بالتشغيل على سفن الأسرى والعبيد مدى الحياة عقاباً لمن يدلون بشهادة زور عن وضعهم المالي. وشنق بعض من حكم عليهم، ووضع البعض الآخر في المشهرات أمام جمهور مبتهج، وانتحر بعض رجال المال بعد أن يئسوا من تبرئة أنفسهم. على أن النتائج لم تكن متناسبة مع هذه الوسائل. ذلك أن أكثر المذنبين اشتروا الإعفاء من الفحص أو الإدانة برشوة موظفي الغرفة، أو أصدقاء الوصي، أو خليلاته. وتفاقم الفساد حتى بلغ حداً كان أفراد الحاشية يسعون فيه إلى الرشوة بدلاً من أن يعرضها المذنبون عليهم، من ذلك أن أحد رجال المال حكم عليه بغرامة قدرها 1.200.000 فرنك، فوعده أحد رجال البلاط برفع الغرامة لقاء مبلغ 300.000 جنيه. قال له رجل المال "سيدي الكونت العزيز، لقد تأخرت كثيراً، لأني أبرمت للتو اتفاقاً مماثلاً مع زوجتك لقاء نصف هذا المبلغ(18)". وأعلن المرسوم الذي ألغى غرفة العدالة (مارس 1717)، في صراحة ندر أن تتحلى بها الحكومات، أن "الفساد استشرى حتى وصلت عدواه إلى جميع الطبقات تقريباً، بحيث لا يمكن توقيع العقوبات العادلة على مثل هذا العدد الغفير من المذنبين دون الإخلال الخطر بالتجارة والنظام العام والدولة". وكان صافي ربح الحكومة حين انتهى التحقيق نحو سبعين مليون فرنك(19).

فلما خاب أمل الوصي في هذه النتائج، استمع إلى رجل اسكتلندي ممتاز اقترح عليه نظاماً جديداً للمالية. واسم الرجل جون لو، وقد ولد لمصرفي من أدنبرة في 1671، ودرس علم المصارف في لندن، وشهد افتتاح بنك إنجلترا في 1694، واشترك في مبارزة بسبب الحب، وقتل غريمه، ثم فر إلى القارة يحمل على رأسه حكماً بالإعدام. وكان وسيماً، بشوشاً، مولعاً بالعلوم الرياضية، ضارب بنجاح في سوق النقد الأجنبي، وأعانته قدرته على حساب ارتباطات أوراق اللعب وتذكرها على كسب قوته في مختلف الأقطار. وقد راقب الطرق التي تعمل بها المصارف في أمستردام، وهامبورج، والبندقية، وجنوة. وفي أمستردام على الأخص أخذ بسحر نظام الائتمان، الذي أتاح للمصرف أن يصدر أوراقاً نقدية بأضعاف القيمة الذهبية لرصيده، بحيث شغل عشرة جولدنات بغطاء جولدن واحد، وبهذه الطريقة حفز الأنشطة الصناعية والتجارية، ويسرها، وضاعفها. ورأى هناك كيف يمكن، في مصرف يثق به رجال الأعمال، إجراء المعاملات بمجرد نقل الأرصدة المصرفية، دون عناء حمل الفضة أو الذهب أو مبادلتهما. وساءل نفسه: لم لا يمكن إنشاء مصرف قومي ونظام ائتمان كهذين في فرنسا؟ وراح يفكر في وضع "نظامه"-وهو الاسم الذي أطلق عليه بعد ذلك.

وكان محور فكرته زيادة توظيف الناس والمواد بإصدار أوراق النقد، بضمان الحكومة، لمثلي قيمة الاحتياطيات القومية من الفضة والذهب والأرض، ويخفض معدل الفائدة ، تشجيعاً لرجال الأعمال على اقتراض المال للمشروعات والطرق الجديدة في الصناعة والتجارة. وبهذه الطريقة تخلق النقود الأعمال، وتزيد الأعمال من التوظيف والإنتاج، وتزداد الإيرادات والاحتياطيات القومية، ويتيسر إصدار المزيد من النقود، ويتصاعد الخير والنفع. ولو أمكن إقناع الشعب-عن طريق المدفوعات من الفوائد-بإيداع مدخراته في مصرف قومي بدلاً من اختزان المعدنين النفيسين، لأضيفت هذه المدخرات إلى الاحتياطيات، وأصدر المزيد من العملة، وهكذا يشغل المال العاطل، ويزداد رخاء البلاد.

وفي عام 1708 شرح لو أفكاره للحكومة الفرنسية، فرفضها لويس الرابع عشر. فلما أصبح فيليب أورليان وصياً، عرض لو أن ينقذ بنظامه هذا مالية فرنسا المفلسة. وتساءل: لم تنفرد فرنسا، وأسبانيا، والبرتغال، دون سائر دول أوربا الكبرى بخلوها إلى ذلك الحين من المصارف القومية؟ ولم تردت فرنسا في مهاوي الركود الاقتصادي برغم ما تميزت به تربتها من خصب وأهلها من ذكاء؟ ووافق فيليب على السماح له بأن يؤسس "مصرفاً عاماً" (1716) على أن يكون هذا مشروعاً أهلياً. وقبل المصرف الودائع، ودفع الفوائد، وأقرض القروض، وأصدر أوراق نقد-من فئات عشرة ومائة وألف فرنك-سرعان ما أصبحت وسيطاً مفضلاً في المبادلة بفضل قيمتها الثابتة، المربوطة بوزن ثابت من الفضة. وكانت هذه الأوراق النقدية أول نقود ورقية قانونية، وهكذا وضع مصرف لو، وفروعه الإقليمية، أول طرق الائتمان المنتظمة في فرنسا. وفي أبريل 1717 تقرر قبول أوراق المصرف سداداً للضرائب.

وفي سبتمبر تقدم لو إلى مرحلة من أفكاره أشد مغامرة. ذلك أنه حصل من الوصي على امتاز شركة جديدة سماها "شركة الغرب" لاستغلال حوض المسسبي بأكمله، وكان يومها خاضعاً لفرنسا. وباع للجمهور 200.000 سهم في شركة الغرب هذه سعر السهم منها 500 جنيه، وكان الثمن عالياً، ولكن يجوز دفع ثلاثة أرباعه سندات حكومية بقيمتها الاسمية، التي بلغت ثلاثة أمثال قيمتها الفعلية. وبادر الجمهور إلى شراء الأسهم كلها مغتبطاً بهذه الفرصة التي أتاحت له أن يستبدل بالأوراق المنخفضة القيمة أسهماً في مشروع يرجى من ورائه الربح. وأصدر لو-في تفاؤل متزايد-تعليماته لمصرفه بأن يشتري الاحتكار الملكي للتبغ، وجميع الشركات الفرنسية التي تشتغل بالتجارة الخارجية، ثم ضم هذه الشركات إلى شركة الغرب فألف منها "شركة جزر الهند" التي ستحتكر كل التجارة الخارجية. وبدا لبعض رجال الأعمال أن الاشتراكية في التجارة الخارجية نذير بالاشتراكية في الإنتاج والتوزيع الداخليين، فبدأت تختمر حركة معارضة للو. وفي 4 ديسمبر 1718 أعيد تأسيس مصرف لو باسم "المصرف الملكي"، واعترف بأوراقه أوراقاً نقدية قانونية، وأعطى الإشراف الكامل تقريباً على مالية الأمة. وأصدر لو إصداراً جديداً من الأسهم في شركة الهند بسعر السهم منها 550 جنيهاً. وسرعان ما تم الاكتتاب. وزاد توقع الناس للأرباح المرتفعة في تقديرهم لقيمة الأسهم، فتبادلوها بأسعار مطردة الزيادة في موجة مضاربة، حتى طلبت بسعر 5.000 جنيه، أي بتسعة أو عشرة أمثال قيمتها الاسمية. وتصادف أن مرت بباريس في 1718 الليدي ماري ورتلي مونتاجيو، فابتسمت لرؤية فرنسا تترك التصرف في حياتها الاقتصادية لرجل بريطاني. وسمح لو نفسه لخياله بأن يشطح متجاوزاً صواب حكمه. فلم يكتف المصرف الملكي الجديد بتسلم دار سك النقود وكل جبايات الضرائب، بل تلقى الدين القومي بإعطائه حصة في شركة جزر الهند نظير كل قيمة اسمية قدرها 5.000 جنيه في تعهدات الحكومة، وخيل إليه أن رأس المال العاطل سيصبح بهذه الطريقة عاملاً في مشروعاته المنوعة. ثم عرض قدرة المصرف على الوفاء بديونه لمزيد من الخطر بإعطائه منحة للوصي قدرها 2400 سهم.

وظلت ثقة الناس به كاملة برغم هذه المغامرات الطائشة، واشتدت حماستهم للشركة، وزايد المشترون بأسعار أعلى وأعلى على أسهمها. وزاد المزيفون هذه الضجة بإنزال شهادات أسهم مزيفة إلى السوق. وظل شارع كانكمبوا، الضيق القذر، الذي اختار "النظام" فيه مكانه، مدى عامين المركز المالي الرئيسي لباريس (أشبه بوول ستريت في نيويورك). وتجمع فيه المشترون والبائعون من جميع الطبقات، والدوقات والمومسات، والباريسيون والريفيون والأجانب، في أعداد مطردة وانفعال اشتد يوماً بعد يوم. ومات البعض تحت الأقدام وسط الزحام، أو داستهم مركبات النبلاء. وكان المريشال الشيخ "دفيلار" يمر بالمكان راكباً، فتوقف ليحاضر الجمع المحتشد عن جشعه المفرط. وكانت الأكشاك الصغيرة المقامة في هذا الزقاق تغل كل شهر إيجاراً أكثر مما تغله البيوت في عشرين عاماً. وشكا السكان من شدة الضجيج الذي لا يحتمل. ومع ذلك لم يتوقف المشترون عن المزايدة بأصوات مرتفعة، وكان سعر السهم يزداد كل يوم تقريباً، بل أحياناً كل ساعة، فبيع بعض الأسهم في نهاية عام 1719 بمبلغ 12.000 جنيه، وبلغت القيمة السوقية لكل الأسهم المعروضة آنئذ ثمانين ضعف قيمة كل الذهب والفضة المعروفين في فرنسا(20). وإذ كان المطلوب دفعه من ثمن السهم لا يتجاوز العشرة في المائة من قيمته الاسمية، فإن نقل الأسهم من مالك لآخر كان سريعاً، وحقق البعض ثروات في يوم واحد. فكسب مصرف 100 مليون جنيه، وخادم في فندق ثلاثين مليوناً(21). وسمع الناس لأول مرة كلمة "المليونير(22)".

وكان لو رجل الساعة. ففي 1720 عين مراقباً عاماً للمالية. وكان أساطين النبلاء والنبيلات يذرعن حجرة انتظاره ملتمسين نصحه في شئون المال أو تأييده في دسائس البلاط. وقد كتب فولتير مستعيداً ذكرى ذلك العهد فقال "رأيته يعيني يخترق أبهاء الباليه-رويال ومن ورائه الأدواق والأشراف-ومارشيلات فرسا، وأساقفة الكنيسة(23)". وقبلت إحدى الدوقات يده في تذلل.

بيد أنه لم يبد عليه أن انتصار أفكاره الظاهرة أفسده، أو أن استفحال سلطانه الشخصي أطغاه، والواقع أنه ربع للقيمة المفرطة التي أوصل جشع الجمهور أسهم الشركة إليها(24). ولم يستغل مركزه ليثرى. وقد صرح سان-سيمون، الذي كان يعارض هذا "النظام" بقوله:

"لم يكن في طبعه جشع ولا لؤم. فلقد كان رجلاً رقيقاً طيباً محترماً، لم تفسده زيادة الثقة وكثرة المال، ولم يكن في مسلكه، ولا في بطانته، ولا في مائدة طعامه، ولا في أثاثه، ما يصدم الناس. وقد احتمل بصبر وثبات عجيبين كل المضايقات التي سببتها عملياته، حتى إذا قارب النهاية.. .. أصبح سريع الغضب حاد الطبع".

ولكن بعض النبلاء لم يرضوا عنه لأنه أجنبي وبروتستنتي، ولاحظوا أنه هو وزوجته والإنجليزية لم يكونا متزوجين زواجاً شرعياً رغم ما بدا من إخلاصهما الواحد لصاحبه. ورغبة منه في التخفيف من هذا العداء، قبل المواطنة الفرنسية والمذهب الكاثوليكي الروماني.

واستعمل سلطانه مهمازاً يحفز به رضاء وطنه الثاني، فخفض الضرائب، وأنهى النظام السقيم الفاسد الذي كانت الوكالات الأهلية تتبعه في جميع الضرائب، وأظهر نحو جماهير الشعب عطفاً لم يعهد في رجال المال. وقسم ضياعاً كبيرة ملكاً للكنيسة أو النقابات ليزرعها الفلاحون، لا بل اقترح عقب تعيينه مراقباً عاماً إلزام الكنيسة ببيع جميع الأملاك التي اقتنتها بعد عام 1600-أعني نصف جميع ممتلكاتها الفرنسية(25)-وسبق طورجو بإلغائه الرسوم المفروضة على نقل الأغذية والسلع داخل فرنسا، ونظم بناء الطرق والكباري والقنوات أو ترميمها، واستقدم مهرة الصناع من الخارج ليؤسسوا صناعات جديدة، وشجع التوسع الصناعي بتخفيضه نسبة الفائدة على القروض، وزادت المشروعات الفرنسية ستين في المائة في مدى العامين (1719-20) اللذين بلغ فيهما قمة سلطته، وأحيا البحرية التجارية وضاعفها بالتوسع في التجارة مع آسيا وأفريقيا، وأمريكا، وكانت السفن الفرنسية التي تحمل التجارة الخارجية، تبلغ ست عشرة في مارس 1719، فأصبحت 300 في يونيو 1720، وعادت التجارة الخارجية الفرنسية في عهد لو إلى الأوج الذي أدركته تحت كولبير. وأقنع النبلاء الفرنسيين بتمويل إنتاج البن والتبغ في لويزيانا، ومول هو نفسه تطوير منطقة نهر أركنساس. وفي 1718 أسست نيو أورليانز، واتخذت لها اسماً من اسم أسرة الوصي.

على أن المشروع الأمريكي لم يكتب له التوفيق رغم جهود لو وفيليب المتعددة النواحي. فلقد كان شطر كبير من وادي المسسبي لا يزال برية لم تفتح، وعرض لو مهور العرائس و450 فداناً على الأسر المهاجرة إلى الوادي. فلما تبين أن الهجرة أقل إغراء من المضاربة، رحل المسجونون والمتشردون والبغايا في لويزيانا، ودفع الشبان والشابات (أمثال مانون ليسكو في رواية بروست) إلى هذه المغامرة بالحيلة أو القوة. وكان هؤلاء الضحايا يطعمون أسوأ الطعام حتى مات كثير منهم في الطريق. وأوقفت مراسيم مايو 1720 هذا الإكراه الهمجي. أما في المستعمرة ذاتها فإن التجهيز الرديء، والإدارة السيئة، والتمرد كلها عوقت النهوض بالاقتصاد، وجعلت أرباح "شركة المسسبي" (كما سماها الناس) أقل كثيراً مما افترضه المضاربون. واتضح أن آمال استخراج الذهب أو الأحجار الكريمة من أرض المستعمرة وهم في وهم، رغم أن لو نفسه راوده هذا الحلم.

ولا بد أن نبأ هذه الصعوبات قد وصل إلى فرنسا. وحكم أذكى المضاربين أن أسهم الشركة قد بلغت قمتها، أما غيرهم ممن لم يلقوا عن هؤلاء جشعاً وإن افتقروا إلى المعلومات أو الحكم الصائب، فقد حل بهم الخراب لأنهم تأخروا في بيع أسهمهم. وفي ديسمبر 1719 أصبح التهافت والتنافس على البيع أكثر مما كان على الشراء. ففي بحر شهر واحد باع الدوق بوربون أسهماً بعشرين مليون جنيه، وأمير كونديه بأربعة عشر مليوناً، وتطلب الأمر تخصيص ثلاث عربات لحمل الذهب الذي لم يجرؤ لو على الامتناع عن دفعه ثمناً لأوراقه النقدية وأسهم الشركة(26). وأفرغ مضارب بروسي ما يملكه منها، ثم مضي بثلاثين مليوناً من الجنيهات ذهباً. وصرف غير هؤلاء ثمن أسهمهم ليشتروا أرضاً أو بيوتاً أو حلياً أو أشياء أخرى مما تستند قيمته على أساس مكين من حاجة البشر وغرورهم. أما المليون الذين عاقبتهم غرفة العدالة فقد انتقموا لأنفسهم بصرف ثمن أوراقهم وإرسال الذهب خارج فرنسا. وحاول لو أن يقف تدفق الذهب من الخزانة، فحصل من الوصي على مراسيم تحرم على الشعب تملك المعادن النفيسة أو الاتجار فيها أو تصديرها، وتحتم تسليم كل الذهب والفضة مما تزيد قيمته على خمسمائة فرنك إلى المصرف الملكي. وخول لمندوبي المصرف أن يدخلوا البيوت ويفتشوا عن المعدن النفيس المخبوء، ومثل هذا العدوان على حرمة البيوت لم يجرؤ عليه أحد قط حتى لويس الرابع عشر. يقول سان-سيمون "لقد أخفى الكثيرون أموالهم في تكتم شديد حتى أنهم-بعد أن ماتوا دون الإفضاء بمكمن كنوزهم الصغيرة-ظلت هذه مدفونة وضاعت على ورثتهم(27)".

فلما واصل سعر الأسهم هبوطه حاول لو أن يدعمه بعرضه 9.000 جنيه (بأوراق النقد) ثمناً للسهم، ولكن الزيادة المطردة في أوراق النقد خفضت من قيمتها ورفعت من سعر البضائع. فلم يحل مايو 1720 حتى كانت الأسعار قد ارتفعت مائة في المائة، والأجور خمسة وسبعين في المائة بالمقارنة بسنة 1716، وفي يوليو كان زوج الجوارب الحريرية الطويلة يباع بأربعين جنيهاً. وبدأ الذعر من التضخم، فاندفع الناس إلى تغيير أوراق النقد وشهادات الأسهم والبضائع، فجمع دوق دلافورس المقادير الكبيرة من الشموع، وكدس المريشال ديستري كميات ضخمة من البن والكاكاو. ولكي يحد لو من هذا الهروب من النقود إلى السلع، أعلن (21 مايو) تخفيض 50% في القيمة الرسمية لأوراق النقد وأسهم الشركة. وكان هذا خطأً كبيراً-ربما كان السبب فيه ضغط الوصي المرتاع على لو، وكان هو ذاته يشعر بالضغط عليه من خصوم لو من النبلاء والكهنة(28)، وحاول فيليب تخفيف الأزمة برد كل أسهمه في الشركة إلى المصرف(29).

ومع ذلك استمرت موجة البيع. ففي يوليو اضطر المصرف إلى وقف الدفع على أية ورقة نقدية تزيد على عشرة فرنكات وحاصر حملة الأوراق المصرف. وطالبوا في صخب وضجيج برد قيمة أوراقهم ذهباً أو فضة. وفي باريس اشتد تزاحم القوم حتى ديست عشر نساء تحت الأقدام وسط الفوضى، وحملت بعد ذلك ثلاث من جثثهن في موكب غاضب تحت نوافذ الوصي. واعتبر الشعب لو مسئولاً عن جميع الصعوبات مع أن مضاربتهم المجنونة هي التي سببت انهيار "النظام". وحاول بعضهم القبض عليه وقتله، فلما فشلت المحاولات هشمت مركبته تهشيماً في فناء الباليه-رويال-وأعربت حوادث الشغب المتكررة عن شعور الشعب بأنه كان ضحية الخدع المالية، وبأن الطبقات العليا كسبت على حساب جمهرة الأمة. وشارك البرلمان في الحملات على لو، فنفى فيليب البرلمان إلى بونتواز (20 يوليو)، ودافع الشعب عن البرلمان.

وفي أغسطس هبطت أسهم شركة المسسبي إلى 2.000 جنيه بعد أن بلغت في أوج ارتفاعها 12.000 جنيه، أما الأوراق النقدية فهبطت إلى عشرة في المائة من قيمتها الأصلية. وفي أكتوبر تسرب نبأ-سري من فم إلى فم-بأن الوصي سحب من المصرف الملكي أبان ازدهاره أوراقاً بلغت قيمتها الاسمية ثلاث بلايين من الفرنكات، أنفق أكثرها على الهدايا السخية للأصدقاء والمحظيات وحوالي هذا التاريخ هرب أحد صيارفة المصرف إلى بروسيا حاملاً كمية ضخمة من الذهب. فهبطت أسهم شركة المسسبي إلى 200 جنيه. وفي ديسمبر ألغى الوصي المصرف، وطرد لو، وأعاد البرلمان. وفي الرابع عشر من أكتوبر غادر لو فرنسا مع ابنه. وكان قد وظف ثروته في شركة جزر الهند الخاسرة، وشارك مصير معظم حملة الأسهم، ولم يكن قد أودع مالاً في الخارج، فلم يأخذ الآن معه سوى ألفي جنيه وبعض الجواهر غير القيمة. وفي بروكسل تلقى من بطرس الأكبر دعوة بالحضور إلى روسيا والاضطلاع بشئون ماليتها، فرفض، واعتكف في البندقية، حيث لحقت به زوجته وابنته، وعاش مغموراً فقيراً، وهناك مات في 1729.

لقد كانت المبادئ التي أقام عليها مصرفه سليمة نظرياً، ولولا جشع المضاربين المفرط وإسراف الوصي لجعلت فرنسا قادرة على الوفاء بالتزاماتها ولحققت لها الرخاء. وحين فحصت حسابات لو الخاصة وجدت سليمة لا غبار عليها. وترك الاقتصاد الفرنسي مؤقتاً خرباً في ظاهر الأمر، فحملة الأسهم والأوراق النقدية يطالبون بدفع قيمتها والدفع مستحيل، وتداول النقود أصابه الشلل تقريباً، والصناعة محجمة، والتجارة الخارجية أصابها الركود، والأسعار فوق طاقة الشعب. ودعا الوصي أخوان "باريس" ليشيعوا شيئاً من النظام وسط هذه الفوضى. فطلبوا جميع أوراق النقد وعوضوا فئاتها المنوعة بحقوق على الدخل القومي، بخسارة على أصحابها تفاوتت من ستة عشر إلى خمسة وتسعين في المائة، أما الجمهور الذي استنفد سورة غضبه فقد أذعن لهذا الإفلاس العملي في صبر واحتمال.

على أن شيئاً بقي بعد هذا الانهيار. فالزراعة أفادت من ارتفاع قيمة محاصيلها وهبوط العملة. وأفاقت الصناعة سريعاً لأنها وجدت حافزاً من انخفاض الفائدة وارتفاع الأسعار، وظهرت المشاريع الجديدة في كل مكان. وانتفعت التجارة الداخلية من خفض الرسوم الداخلية، واستأنفت التجارة الخارجية توسعها فيما وراء البحار بعد انحسار الفوضى. وخرجت الطبقات الوسطى سليمة كبيرة-وسعيها وراء الكسب كالعهد بها طبيعي وضروري. وتضاعف عدد الماليين وازدادوا قوة على قوة. وكسب النبلاء لأنهم دفعوا ديونهم بعملة أرخص، ولكنهم ظهروا بمظهر مخز لأنهم أبدوا وسط حمى المضاربة شهوة ملحة للكسب لا تقل افتضاحاً عنها في أي طبقة. وظلت الوصاية ملوثة بالنكول عن التزاماتها المالية وبترفها الموصول وسط الخراب الشامل. وقال ناقد مجهول الاسم في معرض الشكوى من الحال "لا بد من انقضاء قرون حتى يمكن استئصال الشر الذي يسأل عنه لو، لأنه عود الناس الدعة والترف، وجعلهم غير قانعين بحالهم، ورفع ثمن الطعام والعمل اليدوي، وجعل جميع طبقات التجار تتطلع إلى أرباح باهظة(30)" ولكن تلك الروح التجارية ذاتها حفزت اقتصاد فرنسا وفكرها، رغم هبوطها بالجو الأخلاقي للمجتمع الفرنسي. فما حل عام 1722 حتى انتعش الاقتصاد الفرنسي بقدر أتاح للوصي على العرش أن يعود، باطمئنان ضمير الحاكم، إلى أساليبه المعهودة من الحكم العطوف، والفجور الفاضح.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الوصي

لقد نبهته أمه الألمانية إلى ضرورة الحد من لطفه مع الناس، فقالت له "إن العطف خير من القسوة، ولكن العدالة تقوم بالعقاب كما تقوم بالثواب، ومن المؤكد أن من لا يجبر الفرنسيين على خشيته سيخشاهم بعد قليل، لأنهم يحتقرون من لا يخيفونهم(31)". أما فليب، الذي شكله مونتيني، فكان يعجب بالحرية الإنجليزية، ويتكلم بتفاؤل على حكمه رعية لا تطيعه طاعة عمياء، بل تكون من الذكاء بحيث تدعه يشرح لها الدواعي التي تبرر قوانينه. ورمز لروح نظامه بتركه فرساي وسكنى الباليه-رويال، في قلب باريس ومعمعائها.

وكان يكره مراسم حياة البلاط والإعلان عنها، فترك ذلك كله وراء ظهره. ورغبة في المزيد من التيسير والخلوة رتب ألا يسكن الملك الصبي فرساي بل القصر الريفي في ضاحية فانسين. وبدلاً من أن يدس له فليب السم كما أرجفت الشائعات، عامله أرق معاملة، وأبدى نحوه كل الخضوع الواجب له، واحتفظ لويس الخامس عشر طوال حياته بذكرى شاكرة للرعاية التي أغدقها عليه الوصي(32).

بعد أن دفن لويس الرابع عشر بيومين أمر فيليب بالإفراج عن جميع المسجونين في الباستيل فيما عدا أولئك الذين عرف عنهم ارتكابهم جرائم خطيرة ضد المجتمع. وكانت مئات من هؤلاء الرجال قد سجنوا بمقتضى أوامر القبض المختومة lettres de cachet التي أصدرها الملك الراحل، وأكثرهم جانسنيون لم تكن تهمتهم سوى الانشقاق الديني، ومنهم من طال العهد بهم في السجن حتى لم يعرف أحد، حتى ولا هم أنفسهم، السبب في سجنهم. مثال ذلك أن رجلاً قبض عليه قبل خمسة وثلاثين عاماً لم يحاكم قط أو ينبأ بسبب سجنه، فلما أفرج عنه وهو شيخ وجد نفسه حائراً مذهولاً، فهو لا يعرف إنساناً في باريس، ولا يملك فلساً واحداً، وعليه فقد التمس أن يبقى في الباستيل إلى آخر عمره، وأجيب إلى ملتمسه.

ونفى من باريس ميشيل لوتلييه، كاهن الملك الذي تعقب الجانسنيين من قبل. ونصح الوصي على العرش الحزبيين المتخاصمين في الكنيسة بأن يهدئا من خلافاتهما. وأغضي عن البروتستنت المتسترين، وعين عدداً منهم في وظائف إدارية. وأراد أن يجدد مرسوم نانت السمح، ولكن اليسوعيين والجانسنيين اتحدا في التنديد بمثل هذا التسامح، كذلك ثناه عن ذلك وزيره دوبوا الذي كان يحتال للظفر بقبعة الكردينالية(33). "ولم ينل البروتستنت الإنصاف الذي أنكره عليهم الحزبان المتنافسان في الكنيسة إلا بفضل الفلسفة(34)" فلقد كان الوصي فولتيرياً قبل فولتير. ولم يكن له عقيدة دينية واضحة، وكان على عهد لويس الرابع عشر التقى ومونتسكيو، بنشر كتب لو صدرت قبل بضع سنوات لحرم تداولها في فرنسا لما تنطوي عليه من تهديد للإيمان المسيحي.

وكان فيليب-من الناحية السياسية-حاكماً متحرراً مستنيراً حتى حين زج بفولتير في السجن. وكان يفسر قوانينه للشعب بعبارات بلغت من الاعتدال والإخلاص مبلغاً حداً بميشليه إلى أن يرى فيها أرهاصاً بجمعية 1789 التأسيسية(36). وامتلأت مكاتب الحكومة بالرجال الأكفاء دون نظر إلى عدائهم للوصي ذاته، فعين رجل كان قد هدده بالاغتيال رئيساً لمجلس المالية(37)، أما فيليب، الذي كان بطبعته أبيقورياً-فكان يظل رواقياً حتى الخامسة مساءً، يقول سان-سيمون أنه كان إلى تلك الساعة "ينصرف بكليته إلى أعمال الدولة، واستقبال الوزراء والمجالس الخ. ولا يتناول طعامه أبداً خلال ذلك النهار، بل يكتفي بتناول الكاكاو بين الثانية والثالثة، حين يسمح للجميع بدخول غرفته... وقد أبهجت الناس جداً ألفته وسهولة الوصول إليه، ولكنهم أساءوا استعمالهما(38)". وكان فليب أورليان، دون سلائل هنري الرابع جميعاً، أي جميع البوربون، في رأي فولتير "أشبههم بذلك الملك في شجاعته، وطيبة قلبه، وصراحته، ومرحه، وبشاشته، وسهولة الوصول إليه، مع فهم أكثر تهذيباً وصقلاً(39)". وكان يربك السفراء والمستشارين بمعارفه الواسعة، وفكره الثاقب، وحكمه الصائب(40). ولكنه شارك الفلاسفة ضعفهم-وهو القدرة والرغبة في رؤية جوانب كثيرة جداً للموضوع الواحد، بحيث يضيع الوقت في النقاش ويؤجل العمل الحاسم.

ولم يكن على سماحته يطيق أي اختزال للسلطة الملكية التقليدية. فلما رفض البرلمان-الذي أراد استخدام حق الاعتراض الذي وعده به- أن يسجل بعض مراسيمه (أي أن يعتبرها ضمن قوانين البلاد المعترف بها)، دعاه (25 أغسطس 1718) إلى "سرير عدالة" مشهور- وهي جلسة يمارس فيها الملك وهو جالس على "سرير" القضاء سلطته في الإلزام بتسجيل مرسول ملكي. ومضي القضاة البالغ عددهم 153، وقورين مهيين في عباءاتهم القرمزية، إلى التويلري سيراً على الأقدام. وإتباعاً لتعليمات فليب، أمرهم الملك الصبي بتسجيل مراسيم الوصي، ففعلوا. وانتهز فرصة مواصلة دوق ودوقة مين معارضته سواء في المجلس الملكي أو بالتآمر عليه، فحرم أبناء الملك وحفدته غير الشرعيين من وضعهم كأمراء من الدم الملكي. ورد الأدواق الشرعيون إلى سابق ترتيبهم وحقوقهم، الأمر الذي أبهج الدوق سان- سيمون، الذي رأس في هذه الخطوة أعظم إنجاز للوصاية، وكانت أسمى اللحظات في "مذكراته".

على أن دوقة مين لم تقبل الهزيمة. فمولت بعض الظرفاء الذين راحوا يخزون الوصي بأهاجيهم اللاذعة. واحتمل هذه السهام بصبر القديس سبستيان، اللهم إلا "الفليبيات" وأهاجي "الأشياء التي شاهدتها" المنسوبة لفولتير. وفي ديسمبر 1718 اشتركت الدوقة في مؤامرة مع كيلامار، السفير الأسباني، وألبيروني رئيس الوزراء الأسباني، والكردينال ملشيور دبولنياك، للإطاحة بالوصي وتنصيب فليب الخامس الأسباني ملكاً على فرنسا، على أن يكون الدوق مين كبير وزرائه. وكشف أمر المؤامرة، وطرد السفير، وزج بالدوق والدوقة في سجنين منفصلين، وأفرج عنهما في 1721. وادعى الدوق أنه يجهل أمر المؤامرة. وعادت الدوقة إلى بلاطها ومؤامرتها في سو.

في وسط هذه المضايقات، وفي نطاق التقاليد وعلى قدر ما سمح به خلقه الشخصي، قام فليب ببعض الإصلاحات المعتدلة. فشق في حكمه القصير من الطرق أكثر مما شق في نصف القرن الذي حكمه لويس الرابع عشر. ووفر ملايين الفرنكات بتركه قصري مارلي وفرساي، واحتفاظه بحاشية متواضعة العدد. وقد بقي الكثير من ابتكارات "لو" ممثلاً في جباية للضرائب أشد قصراً وأكثر رحمة، وفي طرد الجباة المتهمين بالفساد أو التبديد. وفكر فليب في ضريبة دخل تصاعدية: وجربها في نورمندية، وفي باريس، وفي لاروشيل، ولكنها أبطلت بموته المبكر. وقد جاهد ليبقي فرنسا بنجوة من الحرب، فسرح آلاف الجند، ووطنهم في الأراضي غير المزروعة. وأسكن الباقين في ثكنات بدلاً من أن يسكنهم في بيوت الشعب. وبنظرة سمحة فتح أبواب جامعة باريس والمكتبة لجميع الطلبة المؤهلين دون أجر، ودفعت الدولة مصروفات تعليمهم(41). وأعان بمال الدولة الأكاديمية الملكية للعلوم، والأكاديمية الملكية للمأثورات والآداب البحتة، والأكاديمية الملكية للعمارة، ومول نشر المؤلفات العلمية، وأنشأ في اللوفر أكاديمية للفنون الميكانيكية نهوضاً بالاختراع والفنون الصناعية(42). وأجرى المعاشات على الفنانين والعلماء والأدباء، وهيأ لهم غرفاً في القصور الملكية، وكان يحب أن يتكلم مع هؤلاء الرجال على مهنهم المختلفة. ولم تؤت تدابيره وإصلاحاته ثمارها كاملة من جراء كبوس الدين وانهيار ثورة لو المالية من جهة، وعيوب الوصي البدنية والخلقية من جهة أخرى.

ومن أفجع المآسي في تاريخ فرنسا أن هذا الرجل الذي وهب الكثير من فضائل الذهن والقلب لوثه وأضعفه فجور طبقته وفسق جيله. فهذا الابن الذي أنجب أب منحرفاً جنسياً، ورباه رجل فاجر من رجال الكنيسة، شب وهو يكاد أن يكون عاجزاً عن كبح جماح شهوة الجنس التي انغمس فيها. أقول دكلوا "كان يمكن أن تكون له فضائل إذا كانت الفضائل ميسورة لإنسان بغير مبادئ(43)". وإذ كان قد أكره على الزواج من ابنة غير شرعية للويس الرابع عشر، وافتقد الحب أو السلوى في زوجته، فإنه أولع بالسكر الكثير، وبمعاشرة الخليلات في إسراف لم يعدله فيه حاكم خارج حريم السلاطين. واختار أصدقاءه من بين المعربدين الذين كان يصفهم بكلمة nou(s (أي الفاسقين)، والذين كانوا ينفقون الثروات على الفجور، ويؤثثون بيوتهم بالفن الغالي ويزودونها بالمثيرات الجنسية(44). وكان فليب يلحق بأصحابه في الباليه-رويال، أو في فللته في سان-كلو، ومعظمهم من شباب الأشراف، وفيهم أيضاً بعض الإنجليز المثقفين أمثال اللوردين ستير وستانهوب-في حفلات عشاء صغيرة تختلط فيها النساء المثقفات كمدام دوديفان بالممثلات ومغنيات الأوبرا، والخليلات، في توفير إثارة الأنثى لذكاء الرجل. يقول سان-سيمون، ربما في شيء من التلوين المنافق:

"في هذه الحفلات كانت تعرض أخلاق كل إنسان، الوزراء وأصحاب الحظوة كغيرهم سواء بسواء، بحرية هي الإباحة المطلقة: غزليات البلاط والمدينة في الماضي والحاضر، وكل قديم من القصص والخصومات والفكاهات والسخافات ينبش من مكامنه، ولم يعف من هذا النبش أحد، وكان الدوق أورليان يدلي برأيه كالباقين؟. ولكن نادراً جداً ما كانت هذه الأحاديث تؤثر فيه أقل تأثير. وكان هؤلاء الأصحاب يسكرون ما شاء لهم السكر، ويلهبون أنفسهم، ويتكلمون بأقذر الأشياء دون تحرج، ويتنافسون في التفوه بأفحش العبارات، حتى إذا فرغوا من أحداث الكثير من الضجيج وثملوا بالخمر، مضوا إلى فراشهم ليعاودوا اللعبة ذاتها في الغد(45)".

وقد أفحصت روح فليب القلقة المنزوعة الجذور عن نفسها في قصر تسلط محظياته عليه، فندر أن سيطرت عليه أحداهن أكثر من شهر، ولكن المبعدات منهن كن يترقبن الفرصة حتى يعود دورهن مرة أخرى. وكان خدمه الخصوصيون، وحتى أصدقاؤه، يجلبون له العشيقات الجديدات في غير توقف. فنساء الطبقة العليا، كالكونتيسة بارابير، والنساء المغامرات كمدام تنسان، والمغنيات والراقصات من الأوبرا، والموديلات البارعات الجمال كمدام سابران (التي أثار "سمتها الرائع" و "وجهها الذي لا يدانيه في الحسن وجه في العالم" حتى مشاعر رجل فاضل كسان-سيمون)-هؤلاء كلهن وهبن أنفسهن للوصي لقاء برهة من السلطان، أو لقاء الرواتب أو الإعانات أو المجوهرات، وكان يغدق العطايا عليهن من دخله الخاص أو من الخزانة التي على شفا الإفلاس. على أنه برغم إهماله لم يسمح قط لهؤلاء النسوة بأن ينتزعن من أسرار الدولة، أو أن يناقشن شئونها، فلما حاولت ذلك مدام سابران جعلها تنظر إلى صورتها في المرآة ثم سألها، "أيمكن للإنسان أن يتحدث حديثاً جاداً إلى مثل هذا الوجه الجميل؟ إنني لا أحب ذلك أبداً(46)". وما لبث سلطانها عليه أن زال.

هذا العربيد ذاته كان يحب أمه، فيزورها مرتين كل يوم، ويحتمل توبيخها الحزين في حلم. ومع أنه لم يحب زوجته، فإنه بذل لها العناية والمجاملة، ووجد الوقت لينجب منها خمسة أطفال. وكان يحب أبناءه، وحزن حين لجأت صغرى بناته للدير، ولم يمر به يوم دون أن يزور في قصر اللكسمبورج كبرى بناته، التي كانت حياتها فضيحة محزنة تكاد تعدل فضيحة حياته هو.

ذلك أن زواجها بشارل، دوق بيري، سرعان ما غدا تأرجحاً بين الحرب والهدنة. فبعد أن أمسكته متلبساً بين أحضان امرأة، وافقت على أن ترضى عن خياناته شريطة أن يغض عن خياناتها، ويضيف تاريخ إخباري معاصر أنهما "تعهدا" بأن يحمي الواحد صاحبه(47)"

هذه الحفيدة-حفيدة "المسيو"، "اللوطي"-وسليلة أسرة بافارية ورثت الجنون في دمها، وجدت أن ثبات الذهن واستقرار الخلق أمر يفوق طاقتها، وزاد وعيها بعيوبها وأخطائها من حدة طبعاعات أرعب كل من كان لهم صلة بحياتها. وقد استغلت نبالة أصلها استغلالاً كاملاً، فكانت تركب عربتها مخترقة باريس كأنها ملكة، وتحتفظ في اللكسمبورج بقصر مترف يخدمها فيه أحياناً ثمانمائة خادم(48). فلما مات زوجها (1714) راحت تستضيف سلسلة من العشاق. وصدمت كل إنسان بسكرها وفجورها، ولغتها النابية، وعجبها وغطرستها، وكانت تختلف عليها نوبات من التقوى، ومن الهجمات الشكاكة على الدين. ويبدو أنها لم تحب إنساناً قط محبتها لأبيها، وأنه لم يحب إنساناً قط محبته لها. ولقد شاركته ذكاءه، ورهافة حسه وظرفه كما شاركته خلقه، وكان حسنها في شبابها يضارع حسن أجمل خليلاته. واتهمتهما شائعات باريس-التي لا قلب لها ولا حرمة-بسفاح القربى، لا بل زادت بأنه اقترف هذه الخطيئة مع بناته الثلاث جميعاً(49). وأغلب الظن أن بعض هذه الشائعات أطلقتها "شلة" مدام مين(50). وقد رفضها سان-سيمون، وهو أقرب الناس إلى الموقف، لأنها افتراءات قاسية وضيعة. أما فليب ذاته فلم يعبأ بنفيها. وخلوه التام من الغيرة من عشاق ابنته (151)، وعدم غيرتها من خليلاته(52)، لا يكادان يتفقان وطبيعة الحب المستأثرة(53).

ولم يقو على فصلها عن أبيها سوى رجل واحد-هو الكبتن ريون الضابط بحرس قصرها، الذي سلبت فحولته لبها حتى خضعت له خضوع الإماء. ففي 1719 حبست نفسها في اللكسمبورج مع بعض أتباعها، وولدت ابنة للكبتن. ثم ما لبثت أن تزوجته سراً. وتوسلت إلى أبيها أن يأذن لها بإعلان هذا الزواج، فرفض، فانقلب حبها له غيظاً مجنوناً. ومرضت، وأهملت نفسها، فأصابتها حمى أنذرت بالخطر، وماتت وهي في الرابعة والعشرين اثر مسها أعطاها إياه طبيبها (21 يوليو 1719). وقد كشف تشريح جثتها عن تشوهات في مخها. ولم يرض أي أسقف بالصلاة عليها في جنازتها، وكان فليب شاكراً أعمق الشكر حين سمح رهبان سان-دني بإيداع جثمانها في المدافن الملكية في كنيسة ديرهم. أما الأم فقد اغتبطت بموت ابنتها، وأما الأب فقد دفن نفسه في فراغ السلطة.

5- المجتمع في عهد الوصاية

كان ازدياد الثروة في فرنسا في الفترة بين صدور مرسوم نانت (1598) وإلغائه (1685)، وانتشار حياة الحضر، واضمحلال العقيدة الدينية عقب الحروب الدينية والخلافات الجانسنية-كان هذا كله قد جر على طبقة الأشراف تحللاً في الأخلاق رمز له لويس الرابع عشر في شباب حكمه. وكان زواج الملك من مدام دمانتينون (1685)، واهتداؤه إلى القناعة بامرأة واحدة وإلى حياة الفضيلة، وما أحدثته الكوارث الحربية من تأثير منبه، كان أولئك أكره بلاطه على أن يغير على الأقل من سلوكه الخارجي، وكانت إصلاحات الأكليروس الذاتية قد أوقفت ضعف الكنيسة جيلاً، وفرض أحرار الفكر الرقابة على مؤلفاتهم، وستر الأبيقوريون لهوهم الصاخب عن أنظار الناس. ولكن حين جاء بعد الملك الصارم التائب هذا الوصي الشاك الإباحي المتسامح، تداعت هذه الضوابط، وتفجر غيظ الغرائز المكبوتة في موجة من الزندقة والاستغراق في اللذات شبيهة بالفورة الشهوانية التي أصابت المجتمع الإنجليزي عند عودة الملكية عقب جيل من تسلط البيورتان (1642-60). وأصبح التحلل من الأخلاق شارة التحرر ورقي الثقافة، وغدا الفجور نوعاً من "الاتيكيت(54)".

كانت المسيحية آخذة في الاضمحلال قبل أن تهاجمها "الموسوعة" بزمن طويل، لا بل قبل أن يصوب إليها فولتير أول سهام قلمه. ففي 1717 شكا دبوي من كثرة الماديين في باريس(55)، وقال ماسيون في 1718 "يكاد الكفر اليوم يضفي على أصحابه مظهر التميز والفخار، أنه فضيلة توصل إلى العظماء... وتجلب للمغمورين شرف الألفة بأمير الشعب(56)" وقد كتبت أم ذلك الأمير قبيل موتها في 1722 تقول "لست أعتقد أن في باريس، سواء بين رجال الدين أو الدنيا، مائة شخص يدينون بإيمان مسيحي صادق ويؤمنون حقيقة بمخلصنا، وهذا يجعلني أرتعد فرقاً(57)" وقل من أفراد الجيل الأصغر من فكر في التحول عن الكاثوليكية إلى البروتستنتية، فقد تحولوا إلى الإلحاد، الذي كان أسلم لهم. وكان مقهى بروكوب، ومقهى جرادو، شأنهما شأن التامبل، ملتقيات للمفكرين الملحدين. وإذا كان المروق عن الدين قد شارك في إطلاق الاستهتار الخلقي في الطبقة العليا، فإن الفقر تعاون مع جموح الناس الطبيعي على أحداث الفوضى الخلقية بين دهماء باريس. وقد حسب العالم لاكروا أن "الأشخاص الخطرين، والمتسولين، والمتشردين، واللصوص، والنصابين من شتى الأنواع، ربما ألفوا سدس مجموع الشعب(58)". ولنا أن نفترض أن الزنا كان يلطف من عناء الكدح بين فقراء المدن، شأنه بين أغنيائها. وأفرخت الجريمة في شتى أشكالها، من النشالين في باريس إلى قطاع الطريق العام. حقاً كان لباريس شرطة منظمة، ولكنها لم تستطع ملاحقة الجريمة، وكان رجالها أحياناً يقنعون بشطر من الغنيمة(59). وفي 1721 نجحت وزارة الحرب على الأقل في القبض على كارتوتن، قاطع الطريق الفرنسي الأشهر (قريع جاك شبرد الإنجليزي) وحاصرت خمسمائة من رجال عصابته التي جعلت السفر خطراً حتى على الملوك ولم يبق على الاستقرار الخلقي للحياة الفرنسية غير طبقة الفلاحين والطبقات الوسطى. أما في طبقة الأشراف بباريس، وبين أعيان المدن الطليقين، ومدمني الأدب أو الفن، ورجال المال ورؤساء الدين ذوي الخليلات، فقد بدا أن المبادئ الأخلاقية باتت نسياً منسياً، ولم تذكر المسيحية إلا ساعة يلتقي فيها الناس في الكنائس أيام الآحاد. فإذا وفدت الزوجات على باريس أو فرساي تركن وراء ظهورهن ذلك المعيار الخلقي المنافق، الذي حاول أن يحمي ميراث الأملاك بجعل خيانة الزوجة لزوجها جريمة أخط كثيراً من خيانة الزوج لزوجته، هناك كانت الزوجة التي تقصر وصالها على زوجها تعد من الطراز القديم، وهناك نافست النساء الرجال في ربط الروابط وفكها. وكان الزواج يقبل للحفاظ على الأسرة، وأملاكها، واسمها، أما بعد هذا فلا يطالب عرف العصر والطبقة لا الزوج ولا الزوجة بالوفاء(60). لقد كان الزواج في العصور الوسطى يعتمد عليه في أن يقود إلى الحب، أما الآن فنادراً ما كان الزواج يقود إلى الحب أو الحب إلى الزواج، وحتى في الزنا لم يكن هناك كبير ادعاء للحب. على أن العهد لم يخل من زوجين وفيين يتألقان كأنهما استثناء جريء للقاعدة وسط هذا الحشد الفاسق، مثال ذلك دوق ودوقة سان-سيمون، وكونت وكونتيسة تولوز، ومسيو ومدام لون، ومسيو ومدام بونشارتران، ومسيو ومدام بيل-ايل. وتحولت الكثيرات من الزوجات المستهترات إلى جدات هادئات مثاليات وأنكفأ بعضهن، بعد أن بليت مفاتنهن من كثرة التداول، إلى أديرة مريحة حيث يفرغن لأعمال البر ويعلمن الحكمة للراهبات. ومن أجرأ نساء عصر الوصاية كلورين الكساندرين دتنسان، التي أطلقت فجأة من الدير وهي في الثانية والثلاثين إلى سلسلة متلاحقة من العلاقات الغرامية. وكان لها أعذارها: فأبوها زير نساء موفق ورئيس برلمان جرينويل، وأمها لعوب طائشة، وكلودين ذاتها كانت واعية بجمالها الذي يتلهف على أن يباع. وكانت أختها الأكبر منها، مدام دجروليه، لا تقل عنها كثيراً في فوضى علاقاتها الغرامية، وقد قالت في اعترافها على فراش الموت حين بلغت السابعة والثمانين معللة مسلكها "كنت شابة، وكنت جميلة، وكان الرجال يقولون لي ذلك فأصدقهم، وعليكم أن تحزروا الباقي بعد هذا(61)". ورسم أخو كلودين الأكبر منها قسيساً، وشق طريقه إلى قبعة الكردينالية وإلى منصب رئيس أساقفة ليون متوسلاً إلى هدفه بالعديد من النساء، أما الأب فأدخل كلودين ديراً في منفلوري ليوفر مهرها. هنالك ظلت متبرمة ستة عشر عاماً في حياة تقوى فرضت عليها كرهاً. وفي 1713، حين بلغت الثانية والثلاثين، هربت واختبأت في حجرة الشفالييه ديتوش، وهو ضابط في المدفعية، أصبحت بمعونته (1717) أم الفيلسوف دالمبير. على أنها لم تتوقع انبعاث "الموسوعة" من هذا الوليد، فتركته على سلم كنيسة سان-جاك-لرون بباريس. وانتقلت إلى ماتيو برايور واللورد بولنبروك ومارك رينيه دفواييه دارجنسون، وبعد أن جلست إلى مثال ينحت لها تمثالاً عارياً(62) فيما روى ارتمت بين أحضان الوصي نفسه. وكان مقامها هناك قصيراً، وقد حاولت أن تحوّل قبلاتها إلى وظيفة كهنوتية ذات إيراد لأخيها المحبوب، وأجاب فليب أنه لا يحب الغواني اللاتي يتحدثن في شئون العمل



 صفحة رقم : 11610   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> فرنسا الوصايا -> المجتمع في عهد الوصاية


في الفراش(63)، وأمر بأن توصد أبوابه في وجهها. ثم نهضت من كبوتها تلك وغزت قلب دبوا. وسنلتقي بها مرة أخرى. وفي وسط هذا التقلب الأخلاقي السريع واصلت بعض نساء باريس تلك الفضيلة الفرسية الميزة، فضيلة الجمع بين أصحاب الألقاب، والذكاء، والجمال، في الصالونات. وكان أكثر المجتمعات تهذيباً في العاصمة يلتئم شمله في مبنى الأوتيل دصلي الرائع العمارة، هناك كان يحضر الساسة والماليون والشعراء-فونتنيل في ستيناته الصامتة، وفولتير في عشريناته المندفعة. وكانت جماعة أكثر جذلاً تجتمع في الأوتيل دبويون، الذي خلده لساج في لحظة غضب، ذلك أنه دعى هناك ليقرأ مسرحيته "توكاريه"، فوصل متأخراً، فوبخته الدوقة في خيلاء قائلة "لقد ضيعت علينا ساعة"، فأجاب "سأجعلكم تكسبون ضعفي هذا الوقت" ثم غادر المنزل(64). وقد مر بنا من قبل صالون مدام دمين في سو، وكانت مرجريت جان كوردييه دلونيه، التي ستصبح البارونة دستال فيما بعد، تخدم الدوقة وصيفة شرف، وقد كتبت "مذكرات" بارعة (نشرت في 1755) تصف المهازل، والنزوات، والمهرجانات الليلية، والحفلات التنكرية التي لم تترك مكاناً يذكر للأحاديث التي تخللت "ملاهي سو". ولكن الحديث كان يغلب على الصالون الذي أدارته آن تيريز دكورسيل، ماركيزة دلامبير، في الأوتيل دنفير (وتشغله اليوم المكتبة الأهلية). وقد واصلت هذه المرأة الغنية الصارمة، خلال عصر الوصاية الصاخب، تلك العادات الرزينة الجليلة التي سادت سنوات لويس الرابع عشر الأخيرة. فلم تشجع لعب الورق، ولا الشطرنج، ولا حتى الموسيقى، بل كانت بجملتها نصيراً للفكر. وقد أولعت، كالمركيزة دشاتليه، بالعلم والفلسفة، وكانت أحياناً (كما يقول فولتير) تتكلم فوق ما يفقهه رأسها، ولكن الرأس كان جميلاً يحمل لقباً نبيلاً، ويحرك مشاعر أي ميتافيزيقي، وكانت في كل ثلاثاء تستضيف العلماء والنبلاء، وفي كل أربعاء الكتاب والفنانين والأدباء ومنهم فونتنيل ومونتسكيو وماريفو. وفي اجتماعاتها تلك كان العلماء يلقون المحاضرات والمؤلفون يقرءون ما يزمعون إصداره من كتب، والشهرة الأدبية



 صفحة رقم : 11611   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> فرنسا الوصايا -> المجتمع في عهد الوصاية


تكتسب، ومن "ندوة العقل" تلك، قامت هذه المضيفة الكريمة الطموح بنحو عشرين حملة ناجحة لإدخال من بسطت عليهم حمايتها في عضوية الأكاديمية الفرنسية. لقد كانت واحدة من مئات النساء المهذبات، المثقفات، المتحضرات، اللائي يجعلن تاريخ فرنسا أكثر القصص فتنة في العالم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

6- فاتّو والفنون

عكست ثورة في الفن ذلك التغيير الذي طرأ على السياسة والأخلاق فبعد أن انهارت سياسة لويس الرابع عشر الإمبريالية في حرب الوراثة الأسبانية (1702-13)، تحولت روح فرسا من دماء المجد الحربي إلى مباهج السلام. فلم يجد مزاج العصر حاجة لكنائس الجديدة، بل وجد الحاجة أكثر للقصور المدنية كالأوتيل ماتينيون وقصر بوربون (1721-22). وإذا استثنينا هذه العمائر الضخمة، وجدنا أن المساكن والحجرات أصبحت الآن أصغر حجماً، وحليتها أكثر رقة وصقلاً. وبدأ الباروك يتحول إلى الروكوك ، أي أن طراز الأشكال غير المنتظمة والحلية الكثيرة غلبت عليه أناقة تكاد تكون هشة، تصل إلى حد الخيال الجامع العابث الذي لا يمكن التنبؤ به. وأصبح الولع بالصقل البديع، والألوان الزاهية، وتطويرات التصميم المدهشة، طابعاً لطراز الوصاية. وتلاشت الطرز الكلاسيكية تحت فرحة الثنايا الأنيقة، وأخفيت الأركان، ونقشت الحلي والقوالب المعمارية في إسراف. وهجر النحت فخامة فرساي الأولمبية إلى صور أصغر، صور الحركة الرشيقة والإغراء العاطفي. وتجنب الأثاث الزوايا القائمة والخطوط المستقيمة، واستهدف الراحة أكثر من الوقار. فظهر الآن مقعد الشخصين ذو المسندين، وهو المقعد المصمم للصديقين والحبيبين اللذين يكرهان عاطف البعد. وأرسي شارل كرسان كبيران نجاري الوصي، طراز أثاث عصر الوصاية بما حوى من مقاعد، وموائد، ومكاتب وخزائن ذات أدراج ومرايا، تسطع بتطعيم الصدف وتشرق بالجمال المتّعمد.

ولقد رمز فليب ذاته، في شخصه وعاداته وميوله، إلى الانتقال إلى الركوك. فحين نقل الحكومة من فرساي إلى باريس أنزل الفن من وقار لويس الرابع عشر الكلاسيكي غلى روح العاصمة الأكثر خفة، ووجه ثروة الطبقة البرجوازية إلى رعاية الفن. وكان راعياً للفن بحكم منصبه وبتفرده في هذا المضمار، فهو غني بثروته أصلاً، سخي في البذل للفنانين. ولم يكن يسيغ الفخامة أو الضخامة، ولا مواضيع التصوير التقليدية-مواضيع الدين أو الأساطير أو التاريخ، بل الروائع الصغيرة ذات الصنعة المتقنة التي تغري الأصابع وتفتح العيون، أمثال علب الحلي المرصعة بالجواهر، والآنية الفضية، والطاسات الذهبية، والخزفيات الصينية الغريبة الأشكال، ورسوم النساء الفاتنات اللاتي يلبسهن روبنز أو تتزاينو رداء الطبيعة أو يرفلن في أرواب فيرونيزي الفاخرة. وقد فتح أبواب مجموعته الخاصة في الباليه-رويال على مصاريعها لجميع الزوار المسئولين، ولولا خليلاته اللاتي يطلبن وينلن ما يطلبن منها لضارعت مجموعته أفضل نظائرها. ووفد الفنانون على قاعاته للدرس والنسخ، وذهب فليب إلى مراسمهم لينظر ويتعلم. تحدث إلى كبير مصوريه، شارل أنطوان كوابيل، في أدب وتواضع تميز بهما فقال: "إنني يا سيدي لسعيد وفخور بأن أتلقى نصيحتك وأنتفع بدروسك(65)". ولولا ما عانى من ظمأ للجمال وتذوق عات له لكان رجلاً رفيع التحضر.

وأفصحت روح العصر عن نفسها بأجلى بيان في التصوير. فقد نبذ الفنانون أمثال فاتو، وباتير، ولانكريه، وليموان، القواعد التي وضعها لبرون في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بعد أن حررهم الوصي ورعاتهم الجدد. واستجابوا عن طيب خاطر للطلب على الصور التي تعكس فهم الوصي للجمال والمتعة، وحسن نساء عهد الوصاية الفياض بالحيوية والمرح، والألوان الدافئة لأثاث الوصاية وسجفها، والحفلات المرحة في غابة بولونيا، والألعاب والتنكريات في قصر سو، والأخلاق المتراخية التي اتسم بها الممثلون والممثلات ومغنيات الأوبرا والراقصات. وحلّت الأساطير الوثنية محل قصص القديسين القاتمة المتجهمة، وسمحت الأشكال العجيبة المستوردة من الصين، أو تركيا، أو فارس، أو الهند، للعقل الذي أطلق من عقاله بأن يجوب في حرية خلال أحلام غريبة ودخيلة، وأخذت الرعويات الحالمة مكان "التواريخ" البطولية، وحلت صور أشخاص المشترين محل صور مآثر الملوك وجلائل أعمالهم.

وواصل بعض الرسامين الذين اشتهروا في عصر لويس الرابع ازدهارهم في عصر الوصاية، ومنهم أنطوان كوابيل، فبعد أن زخرف فرساي بالطراز نفسه الذي زين به القصر القديم، رسم في الباليه-رويال نساء في أثواب طويلة فضفاضة ساحرة. أما نيكولا دلارجليير، الذي كان يبلغ التاسعة والخمسين عند موت الملك العظيم، فقد واصل الرسم ثلاثين سنة أخرى، وصورته معلقة في اللوفر الذي لا تنصب صوره، وهو يبدو في خيلائه وفي باروكته، بصحبة زوجته وابنته. وراح الكساندر فرانسوا ديبورت، الذي مات عام 1743 وهو في الثامنة والثمانين، يرسم الآن مشاهد طبيعية عريضة، كلوحة "منظر الايل دفرانس" المحفوظة بمتحف كومبيين. وزخرف فرانسوا لموان، الذي انتحر في التاسعة والأربعين (1737)، كنيسة سان-سوليبيس بروح الخشوع والورع، ثم أشاع الدفء في صالون هرقول بفرساي بأجساد شهوانية سيقلدها بوشيه من بعده. وأدخل كلود جيو، مصمم مناظر المسرح وملابسه، ونقاش المناظر الطبيعية واللوحات المسرحية، أسلوب "المهرجانات الريفية" الذي يرتبط عندنا بتلميذه أنطوان فاتو.

وأنطون هذا فلمنكي، ولد لصانع بلاط في فالنسيين (1684)، وشكلته أول الأمر التأثيرات الفلمنكية-صور روبنز، وأوستاد، وتنييه، وتعليم مصور محلي يدعى جاك جيران. فلما مات جيران (1702) يمم فاتو شطر باريس وهو لا يملك شروى نقير. وكسب قوته بمساعدة رسام للمناظر، ثم بالعمل في مصنع ينتج بالجملة لوحات صغيرة وصوراً دينية. وكان أجره ثلاث فرنكات في الأسبوع مضافاً إليها من الطعام ما يمسك رمقه يفضي لأصابته بالسل. ولكن حمى أخرى كانت تعتمل في صدره وتكويه كياً-وتلك هي الجوع للعظمة والشهرة. فكرس أمسياته وعطلاته لرسم الأشخاص والأماكن من الطبيعة. واستهوى أحد هذه الرسوم التخطيطية جيو، الذي كان يرسم لوحات لمسرح الكوميدي-ايتاليين، فدعا فاتو للانضمام إليه. وجاء أنطوان، ووقع في غرام الممثلين، فرسم أحداثاً من حياتهم البطولية، وغرامياتهم المتقبلة الطائشة، وألعابهم ونزهاتهم الخلوية، وفزعهم الأكبر حين قصرتهم مدام دمانتنون على البانتوميم (التمثيل الإيمائي) بعد أن ساءها هجاؤهم. والتقط فاتو ما في قلقهم وعدم استقرارها من أسي، والتعبيرات المضحكة المرتسمة على وجوههم، وطيات ثيابهم الغريبة، ثم أضفى على هذه الصور نسيجاً ذا ومض لعله أثار بعض الغيرة في نفس جيو. على أية حال تشاجر الأستاذ والتلميذ وافترقا، وانتقل أنطوان إلى مرسم كلود أودران في اللكسمبورج. وهناك درس في رهبة صور روبنز التي مجد بها ماري مديتشي، ووجد في الحدائق مناظر من الشجر والغيوم فتنت قله أو ريشته.

تلك كانت سنوات مرة يساق فيها الغلمان الفرنسيون على عجل إلى المعركة تلو المعركة في حرب الوراثة الأسبانية الطويلة. وكان يقدم لتضحيتهم على هذا النحو بما ينبغي من العروض الوطنية وحفلات الوداع المثيرة للأسي. وقد وصفها فاتو في لوحته؟ "رحيل الجنود" برقة في الشعور والأسلوب جعلت أودران هو الآخر يوجس من تفوق فاتو عليه. ودخل أنطوان مسابقة نظمتها الأكاديمية الملكية للتصوير والنحت في 1709 أملاً في نيل "جائزة روما". فلم ينل الجائزة الثانية، ولكن الأكاديمية ألحقته عضواً بها في 1712. وبعد جهود صغيرة كثيرة بلغ قمة مجده بلوحته "الأبحار إلى جزيرة سيتير (1717)" وهي اليوم من أروع كنوز اللوفر. وصفقت لها باريس كلها، وعينه الوصي المغتبط مصوراً رسمياً للملك، وكلفته الدوقة بيري بزخرفة قصرها الريفي "لاموييت". وراح يعمل كالمحموم، وكأنه أدرك أن لن يفسح له في الأجل سوى أربع سنين آخر. وقدّم أنطوان كروزا، منافس فليب ذاته في رعاية الفن، إلى فاتو المأكل والمسكن في قصره المترف. هناك درس أنطوان المصور "أصغر الأنطوانين سناً) أروع مجموعة جمعها مواطن إلى ذلك الحين. ورسم لكروزا أربع لوحات زخرفية، سماها "الفصول". وسرعان ما ذاق ذرعاً بالترف، فراح يتنقل من مكان إلى مكان، حتى إلى لندن (1719)، ولكن غبار الفحم والضباب رداه إلى باريس، حيث سكن فترة مع تاجر التحف جرسان. ورسم له أنطوان في ثمانية أصباح جانبي لافتة ظهر فيها باريسيون عصريون يفحصون صوراً في حانوت، وفوق النزعة الواقعية العرضية ألقت طيات رقيقة لثوب امرأة ذلك الضوء الواهن الذي تميز به فاتو. وكان سعال سله يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فاتخذ بيتاً في نوجن، قرب فانسين، معللاً نفسه بأن هواء الريف سيعينه على البرء. وهناك، بين أحضان جيرسان والكنيسة، مات (18 يوليو 1721) غير متجاوز السابعة والثلاثين.

وقد سرت عدوى مرضه الطويل إلى خلقه وفنه. وكان، وهو الرجل النحيل الممروض العصبي الحييّ، السريع الإعياء، النادر الابتسام، القليل المرح-يقصي حزنه على فنه، فصور الحياة كما رأتها أحلامه وأمانيه-مشهداً عريضاً من الممثلين المرحين والنساء اللدنات، وأغنية للفرح الملهوف. وإذ كان أضعف من أن يجري وراء شهوات الحس، فإنه احتفظ وسط إباحية عهد الوصاية بلياقة في الخلق انعكست في مزاج إنتاجه. صحيح إنه رسم بعض النسوة العاريات، ولكنهن خلون من إغراء اللحم، وفيما عدا هؤلاء كانت نساؤه يرتدين ثياباً مشرقة تخطر في خفة وحذر خلال دهاليز الحب. وتنقلت فرشاته بين تقلبات الممثلين، ومراسم الغزل، ومشاكل الجو. فأضفى على شخص "غير المكترث(66)" أغلى وأشف ما استطاع تخيله من ثياب. وصور "الكوميديين الفرنسيين(67)" في مشهد درامي، والتقط صورة الممثل الإيطالي جوزيبي باليتي في دور المهرج جيل(68)، غارقاً في التفكير مرتدياً سراويل بيضاء. وفاجأ "عازف جيتار(69)" في لحظة اكتئاب غرامي، ورأى "حفلة موسيقية(70)" مسحورة بعزف العود. وقد وضع شخصياته أمام خلفيات حالمة، من نوافير عابثة، وأشجار متمايلة، وغيوم سابحة، يتخللها هنا وهناك تمثال وثني يردد به صدى بوسان، كما نلحظ في "مهرجان الحب(71)" أو "الفراديس السعيدة(71)" كان يحب النساء على بعد متهيب، بكل أشواق رجل أوهن من أن يلتمس ودهن، وقد انفعل بأعطافهن الدافئة أقل من انفعاله ببهاء شعورهن وانسياب أثوابهن المتموج. فألقى على ثيابهن كل سحر ألوانه، وكان يعرف أن المرأة باتت بفضل هذا اللباس هذا السر الغامض الذي بعث نصف ذكاء العالم، وشعره، وإعجابه الشديد، فضلاً عن إنجابه النوع الإنساني.

ومن ثم سكب روحه في أشهر صورة قاطبة، وهي "الإبحار إلى جزيرة سيتير" وفيها نساء رشيقات استسلمن لإثارة الرجال فركبن السفينة مع عشاقهن إلى جزيرة صغيرة قيل أن لفينوس فيها معبداً، وأنها طلعت هناك من البحر وهي تقطر جمالاً. هنا يكاد الرجال يكسفون النساء في بهاء ملبسهم، ولكن الشيء الذي فتن الأكاديمية في اللوحة هو جلال الأشجار المتدلي، والقمة الثلجية للجزيرة البعيدة تصبغها الشمس، والغيوم الملامسة لها. وقد أحب فاتو هذا الموضوع الدقيق حباً أغراه برسمه في ثلاثة مناظر متنوعة-واستجابت باريس باختيارها فاتو ليحمل راية عصر الوصاية، ويحيي مباهج الحياة في نظام حكم سيموت حالما يسلخ شبابه. وغدا بلقبه الرسمي "مصور الأعياد المرحة"، رسام العشاق من أهل المدن يتنزهون نزهات حالمة في ريف هادئ مطمئن، ويمزجون بين "ايروس" (إله الحب) و "بان" (إله المراعي والغابات) في الدين الوحيد الذي دان به العهد. على أن نسمة اكتئاب تهب على هذه المشاهد التي توهم بخلو البال، فهؤلاء الفتيات الناعمات الطيعات ما كان يمكن أن يصبحن بهذه الرقة لولا أنهن خبرن شيئاً من الألم، أو ربما لم يساورهن الظن في قصر برهة الهيام بهن. تلك هي ميزة فاتو-الترجمة المرهفة للحظات الكمال التي لا بد أن تنقضي.

وعاجله الموت قبل أن ينعم بشهرته. وبعد موته اكتشف الخبراء رسومه القلمية والطباشيرية، وفضلها بعضهم على لوحاته الزيتية، لأن الطباشير أو القلم بلغ هنا دقة في تفصيل الأيدي والشعر، ورهافة تمييز في رسم العيون والوقفة والمروحة المعابثة لم تكشف عنها قط ألوان الزيت كل الكشف(73). وأغرمت نساء باريس غراماً شديداً بأنفسهن كما رأيناها في أشوق الفنان الميت. وألبست "دنيا المجتمع الراقي" نفسها بأسلوب فاتو (ألا فاتو)، ومشت واتكأت بأسلوب فاتو، وزينت مخادعها وصالوناتها كما زينت هذه في أشكال خياله وألوانه. ودخل طراز فاتو في تصميم الأثاث، وفي حدات الزخرفة الريفية و "أرابسك" الركوك الرشيق. وتلقف الفنانون أمثال لانكريه وباتير تخصص فاتو، وصورا المهرجانات الريفية، وأحاديث الغزل، وحفلات الموسيقى في المنتزهات وحفلات الرقص على الخضرة، والمكاشفات بين العشاق بخلود الحب. أن نصف تصوير فرنسا خلال المائة السنة التالية كان ذكرى لفاتو. وقد استمر تأثيره حتى بوشيه، ثم فراجونار، ثم ديلاكروا، ثم مينوار، ووجد التأثريون في أسلوبه إرهاصات موحية بنظرياتهم في الضوء والظل والمزاج. لقد كان كما قال جونكور المفتون به "الشاعر العظيم للقرن الثامن عشر(74)".

المؤلفون

زكا الأدب في ظل أخلاقيات عصر الوصاية الهينة اللينة وما ساده من تسامح، ووجدت الهرطقة موطئاً لقدمها لم تجل عنه قط بعدها. وأفاقت المسارح والأوبرا من عبسات الملك الراحل ومدام دمانتنون، وكان فليب، أو بعض أهل بيته، يختلفون كل مساء تقريباً إلى الأوبرا، أو الأوبرا-الهزلية، أو "المسرح الفرنسي، أو مسرح الإيطاليين. واحتفل المسرح الفرنسي بتمثيليات كورنيي، وراسين، وموليير، ولكنه فتح أبوابه لتمثيليات جديدة كمسرحية فولتير "أوديب"، التي سمع فيها صوت عصر جديد متمرد.

ونحن إذا استثنينا فولتير وجدنا أعظم كتاب هذا العصر محافظين شكلوا في ظل الملك العظيم. فكان ألان-رينيه لساج المولود عام 1668، ينتمي روحاً وأسلوباً للقرن السابع عشر وإن عاش حتى 1747. وفد على باريس بعد أن تلقى العلم على يد اليسوعيين في فان، فدرس فيها القانون-وكانت خليلته تدفع له نفقات تعليمه(75). وبعد أن قضي في خدمة جاب للضرائب فترة بغضته في رجال المال، تكفّل بإعالة زوجته وأبنائه بتأليف الكتب، ولعله كان يموت جوعاً لولا أن رئيساً دينيا عطوفاً أجرى عليه معاشاً قدره ستمائة جنيه في السنة. وقد ترجم بعض التمثيليات عن الأسبانية، والتتمة التي كتبتها أفيلانيدا لرواية "دون كخوته". ثم استوحى قصة "الشيطان الأعرج" لفيليت دي جويفارا، فوفق كل التوفيق في قصته "الشيطان الأعرج" (1707) التي صورت شيطاناً مؤذياً يدعى اسمودوس، يحط على قمة جبل في باريس، ويرفع أسقف البيوت كما يشاء بعصاه السحرية، ويكشف لصاحبه عن الحياة الخاصة والغراميات المحرمة للقطان الغافلين. والحصيلة فضح مرح لمكائد البشر القذرة، ونفاقهم، ورذائلهم، وحيلهم. فترى مثلاً سيدة تفاجأ بزوجها في الفراش مع خادمه الخاص فتحل الكثير من المشاكل جملة بصياحها بأن الخادم يعتدي على عفافها، ويقتل الزوج الخادم، وتنقذ السيدة عرضها وحياتها، والموتى لا يتكلمون. واندفع كل إنسان تقريباً لشراء الكتاب أو استعارته، وقد أبهجه أن يرى افتضاح غيره من الناس. كتبت مجلة فردان في عدد ديسمبر 1707 تقول "أن سيدين من رجال الحاشية اقتتلا بالسيوف في دكان باربان للحصول على آخر نسخة من الطبعة الثانية(76)". وقد وجد سانت-بوف شبه خلاص للعهد في ملاحظة قالها أسمودوس عن شيطان من أخوانه تشاجر معه "لقد تعانقنا، ومن وقتها ونحن خصمان لدودان(77)".

وبعد عامين كاد لساج يسمو إلى مستوى موليير بهزلية تهجو رجال المال. وقد نمى إلى بعض هؤلاء نبأ "توركاريه" هذه سلفاً فحاولوا منع تمثيلها، وقد صورتهم قصة-ولعلها أسطورة-وهم يعرضون على المؤلف 100.000 فرنك ليسحب المسرحية(78)، وأمر الدوفان، ابن لويس الرابع عشر، بإخراجها. وتوركاريه هذا مقاول وتاجر ومراب يحيا حياة الترف وسط الفاقة التي جرّتها الحرب. وهو لا يسخو إلا على خليلته التي تبتز ماله بنفس المثابرة التي يبتز بها الناس. يقول الخادم فرونتان "عجباً لمسار حياة البشر. نحن نلتقط مغناجاً، والمغتاح تلتهم رجال أعمال، ورجل الأعمال ينهب غيره، وهذا كله يؤلف أمتع سلسلة من الخدع الدنيئة يمكن تخليلها(79)".

وربما كان الهجاء هنا ظالماً مرهقاً بشهوة الانتقام. وقد وفق لساج، في أشهر روايات القرن الثامن عشر الفرنسية، في رسم شخصية أكثر تعقيداً، وبموضوعية أكبر. وروايته هذه "مغامرات جيل بلاس دي سانتللاني" التي نسج فيها أيضاً على منوال الروايات الأسبانية، تتحرك-بأسلوب روايات التشرد-خلال عالم من اللصوصية، ونوبات السكر، وخطف الناس، وإغواء الناس، والسياسة-عالم الذكاء فيه هو الفضيلة العظمى، والنجاح يغتفر كل شيء. و "جيل" هذا يستهل حياته فتى بريئاً، رقيقاً، مثالياً، محباً للناس، ولكنه ساذج، ثرثار، مغرور. يقبض عليه اللصوص، فينضم إلى عصابتهم ويتعلم حيلهم وأساليبهم، ويشق طريقه إلى البلاط الأسباني، ويخدم دوق ليرما مساعداً وقواداً. يقول "قبل أن التحق بالقصر كانت طبيعتي مترفقة عطوفاً، ولكن رقة القلب ضعف يعدونه هناك صفة عتيقة، لذلك أصبح قلبي أقسى من أي صخر. فهنا مدرسة ممتازة لتصحيح الأحاسيس الرومانسية للصداقة(80)". ويولي ظهره لأبويه ويرفض أن يعينهما. ويتعثر حظه، فيودع السجن، ويعتزم إصلاح ذاته، ثم يفرج عنه، فينزوي في الريف، ويتزوج، ويحاول أن يكون مواطناً صالحاً. ولكنه يجد هذا عبئاً لا يطاق، فيعود إلى القصر وناموسه، ويخلع عليه لقب الفروسية، ويتزوج ثانية، ويدهش لفضيلة زوجته ولسعادته بأطفالها "الذين أومن مخلصاً بأنني أبوهم(81)".

وأصبحت "جيل بلاس" أحب الروايات للقراء الفرنسيين، إلى أن تحدّت "بؤساء" هوجو (1862) ضخامتها وتفوقها. وأحب لساج كتابه حباً جعله يواصل العمل فيه عشرين سنة فظهر المجلدان الأولان في 1715، الثالث في 1724، والرابع في 1735، وكان آخر مجلداته لا يقل جودة عن أولها. وقد استعان على معاشه في شيخوخته بكتابة هزليات صغيرة لمسرح شعبي يدعى "مسرح السوق" وفي 1738 أصدر رواية أخرى تسمى "أعزب سلمنقة"، وأطال الكتاب بسرقات صغيرة لم يعترف بها، وهي عادة درج عليها كتاب ذلك العصر وكان قد أصبح تقريباً في الأربعين، ولكن كان في قدرته أن يسمع ببوق، فيا له من رجل محظوظ يستطيع أن يصم أذنيه حين يشاء كما نغمض أعيننا. وقرب نهاية حياته القدرة على استعمال مواهبه العقلية "إلا في منتصف النهار" بحيث "بدا أن ذهنه يشرق ويغرب مع الشمس(82)"، كما قال أصدقاؤه. ومات عام 1747 شيخاً في الثمانين.

وقصة لساج "جيل بلاس" تجد اليوم قراء أقل مما تجده "مذكرات" لوي دروفروا، دوق سان-سيمون. وما من إنسان يحب هذا الدوق الآن، لأنه يفتقد قدرة الرجل المتواضع على إخفاء غروره. فهو لم ينس قط أنه كان واحداً من "أدواق ونبلاء" فرنسا، الذين لا يبزهم فخامة غير أعضاء الأسرة المالكة ذاتها، ولم يغتفر قط للويس الرابع عشر الرابع عشر تفضيله كفاية البرجوازيين على عجز الإشراف في إدارة الحكومة، ولا رفعه الأبناء والحفدة الملكيين غير الشرعيين فوق "الأدواق والنبلاء" في مراسم البلاط وولاية العرش. يقول لنا في أول سبتمبر 1715:

"نمى إليَّ نبأ موت الملك حيث استيقظت. فذهبت من فوري لتقديم احترامي للملك الجديد.. ومن هناك ذهبت إلى دوق أورليان، وذكرته بوعد قطعه على نفسه، وهو أن يسمح للأدواق بأن يحتفظوا بقبعاتهم على رءوسهم حين يطلب إليهم التصويت(83)".

وقد أخلص في حب الوصي، وخدمه في مجلس الدولة، ونصحه بالاعتدال في أمر خليلاته، وواساه في أحزانه وهزائمه. وإذ كان على كثب من الأحداث مدى خمسين عاماً، فقد بدأ تسجيلها في 1694-من زاوية طبقته-منذ مولده عام 1675 إلى وفاة الوصي عام 1723. أما هو فقد مد في أجله إلى عام 1755، حتى أدرك عهداً لا يوافق طبيعته. وقد حكمت عليه المركيزة كريكي بأنه "غراب مريض هرم، يحرقه الحسد ويأكله الغرور(84)". ولكنها كانت تكتب مذكرات مثله، ولم تطق تشبثه بالحياة.

فأما الدوق الثرثار فكان دائماً متحيزاً، وكثيراً ما كان ظالماً في أحكامه، ومرات مهملاً في التاريخ(85)، وأحياناً غير دقيق الرواية عن وعي(86)، كان يتجاهل كل شيء إلا السياسة، ويتوه بين الحين والحين في ثرثرة لا غناء فيها عن الأرستقراطية، ولكن مجلداته العشرين سجلّ مفصّل نفيس لكاتب ذي عين لماحة ثاقبة وقلم سيال، فهي تمكننا من أن نرى مدام دمانتنون، فنيلون، وفليب أورليان، وسان-سيمون، رؤية ناصعة نابضة بالحياة، وسان-سيمون يقرب في هذا من بوريين إذ يتيح لنا رؤية نابليون. ورغبة في إطلاق العنان لتحيزه، حاول أن يخفي مذكرته، ومنع نشرها قبل أن ينقضي قرن على موته، ولم يصل منها شيء للمطبعة حتى عام 1781، وكثير منها لم يصلها قبل عام 1830. ومن بين جميع المذكرات التي تنير لنا تاريخ فرنسا تقف هذه المذكرات على القمة دون منازع.

الكردينال العجيب

لو صدقنا سان-سيمون لكانت سيرة جيوم دبوا النقيض لأعظم مبادئ شبابنا إلهاماً. فقد جمع كل رذيلة، وحقق كل نجاح إلا "نجاح الاحترام". فلنستمع مرة أخرى إلى سان-سيمون يقول في زميله عضو المجلس: "كان ذكاؤه من النوع العادي جداً، ومعارفه من أكثر المعارف شيوعاً، وكفايته صفراً، مظهره مظهر العرسة، مظهر الرجال المتحذلق، حديثه ثقيل، متقطع، غامض أبداً، زيفه مكتوب على قسمات وجهه،... ما من شيء في رأيه جدير بالتقديس... يجهر باحتقاره للإيمان، والعهود، والشرف، والاستقامة، والصدق، ويلذه أن يهزأ بهذه الأشياء كلها، تستوي فيه الشهوة والطمع.. .. وإلى هذا كله كان ناعماً، ذليلاً، ليناً، منافقاً، كاذباً في إعجابه، يتخذ كل لبوس بيسر كثير... حكمه معوج برغم إرادته... ومن عجب أنه لم يستطع، وفيه هذه النقائض، أن يغوي من الناس إنساناً إلا دوق أورليان، الذي أوتي نصيباً موفوراً من الذكاء واتزان العقل، ووهب الكثير من الإدراك الواضح السريع لأخلاق الناس(87)". وكان هذا خليقاً بأن يؤدي المؤلف القاسي إلى التشكك في صواب غيرته. على أننا يحب أن نعترف بأن دكلو يتفق مع سان-سيمون(88).

كان دبوا في عامه الستين حين قلدته الوصاية السلطة، متهدماً بعض الشيء بعد أن أصيب بعدة أمراض تناسلية(89)، ولكنه كان قادراً على الترفيه عن مدام دتنسان حين وقعت من أحضان فليب. على أية حال لا بد أن أوتي شيئاً من الفطنة العقلية، لأنه أدار الشئون الخارجية إدارة لا بأس بها. وقد أخذ رشوة ضخمة من بريطانيا ليصنع ما ظنه خيراً لفرنسا. ذلك أن حزب الأحرار في إنجلترا، والإمبراطور شارل السادس في النمسا، كانا يتآمران للتنكر لمعاهدة أوترخت واستئناف الحرب ضد فرنسا. وكان فليب الخامس يتحرق شوقاً لعرش فرنسا غير قانع بعرش أسبانيا، وخيل إليه أن إبرام اتفاق مع إنجلترا سيزيح العقبات عن طريقه. فلو أن إنجلترا، وأسبانيا، والنمسا والأراضي المنخفضة النمساوية (بلجيكا) اتحدت في حلف أعظم جديد. لطوقت فرنسا بالأعداء من جديد، ولأبطلت كل سياسات ريشليو ولويس الرابع عشر وانتصاراتهما. ومنعاً لمثل هذا الاتحاد أبرم دبوا وفليب اتفاقاً مع إنجلترا والأقاليم المتحدة (هولندا) في 4 يناير 1717. وكان هذا الاتفاق نعمة لفرنسا، ولتوازن القوي الأوربي، ولبريطانيا؛ فلو أن فرنسا وأسبانيا تملك عليهما ملك واحد لتحدي أسطولهما الموحد سيطرة إنجلترا على البحار. كذلك كان نعمة للملكية الهانوفرية الجديدة غير الآمنة في إنجلترا، لأن فرنسا تعهدت الآن بألا تبذل مزيداً من العون للمطالبين الاستيوارتيين بالتاج الإنجليزي.

وغُلبت الحكومة الأسبانية على أمرها، ولم ترقها هذه الهزيمة فاشترك البيروني، وزيرها الحاكم، في مؤامرة كيلامار ودوقة مين للإطاحة بالوصي وجعل فليب الخامس ملكاً على فرنسا. واكتشف دبوا المؤامرة، وأقنع الوصي على كره منه بأن يحذو حذو إنجلترا في إعلانها الحرب على أسبانيا (1718). وأنهت معاهدة لاهاي (1720) هذا الصراع. ورغبة في دعم السلام رتب دبوا زواج ابنة الملك فليب بلويس الخامس عشر، وبنات الوصي بأبناء فليب. وعقدت الزيجات على جزيرة بيداسو الواقعة على الحدود (9 يناير 1722) واحتفل بها في حفل لإحراق المهرطقين(90). ولما كانت الأميرة الأسبانية ماريا آنا فكتوريا لا تتجاوز الثالثة من عمرها، فلا بد أن ينقضي زمن قبل أن ينجب منها لويس الخامس عشر وريثاً للعرش، فإذا حدث أن مات الملك الصبي خلال هذه الفترة، فإن الوصي يصبح ملكاً على فرنسا، ويصبح دبوا وزيره الدائم. وتسلق بدهاء خطوة فخطوة. ففي 1720 عُين رئيس أساقفة على كمبري، وبمفارقة مضحكة من مفارقات التاريخ طلب ملك بروتستنتي هو جورج الأول، إلى الوصي الشاك أن يقنع البابا بأن يخلع على دبوا هذا الكرسي الرياسي الشهير، الذي شرفه قبل ذلك فنيلون، وشارك أساقفة فرنسا بما فيهم التقي الورع ماسيون في الاحتفالات التي أضفت هذا الشرف على رجل كان يرى فيه الكثير من الفرنسيين جماع الرذائل. أما دبوا فأحس بأنه لم يكافأ بما يكفي جزاء على خدماته لفرنسا، واستخدم المال الفرنسي ليُجلِس على عرش البابوية مرشحاً تعهد بأن يبعث إليه بقبعة حمراء (أي قبعة الكردينال). وأوفى إنوسنت الثالث عشر بوعده وهو آسف، وأصبح رئيس الأساقفة الكردينال دبوا (16 يوليو 1721). وبعد سنة عين وزيراً أول للملكة براتب قدره 100.000 جنيه. وإذا كان يتقاضى إيراداً قدره 120.000 جنيه من منصب رئيس الأساقفة، و204.000 من سبعة أديرة، و100.000 من نظارته على البريد، ومعاشاً إنجليزياً قدّره سيمون بمبلغ 960.000، فقد بلغ إيراده السنوي الآن نحو 1.500.000 جنيه(91). ولم يكن له من هم إلا خوفه من أن ترفض زوجته-التي كانت لا تزال على قيد الحياة-ما يبعثه إليها من الرشا، وتكشف عن وجودها، وتبطل بذلك مناصبه الكنسية(92).

ولكن الزمن أدركه. ففي 5 فبراير 1723 بلغ لويس الخامس عشر سن الرشد وانتهى عهد الوصاية. وحين كان الملك لا يتجاوز الثالثة عشرة، وكان ينعم بالعيش في فرساي، طلب إلى فليب أن يواصل حكمه للمملكة، وظل دبوا أكبر مساعدي فليب. ولكن حدث في أول أغسطس أن انفجرت مثانة الكردينال، ومات فجأة وهو مثقل بأمواله. واضطلع فليب بالإدارة، ولكن فسحة أجله هو أيضاً انتهت. ذلك أنه بعد أن أتخم بالنساء، وتخدّر بإدمان السكر، وكف بصره، وفقد حتى عاداته المهذبة، تقبل في نصف وعي، ازدراء الناس لذلك النظام الذي بدأ في جو شامل من الود والارتياح، وقارب نهايته في انحدار رسمي واحتقار شعبي. وأنذره الأطباء بأن أسلوب حياته سيقضي عليه، ولكنه لم يكترث، فلقد أترع بخمر الحياة حتى الثمالة، ومات بنوبة فالج في 2 ديسمبر 1723، وتلقفته ذراعاً خليلته مؤقتاً. وكان يومها في التاسعة والأربعين. على أن فليب أورليان لا يقع من نفوسنا موقع الرجل الشرير برغم تعدد آثامه. فرذائله رذائل الجسد لا النفس: كان متلافاً سكيراً فاسقاً، ولكنه لم يكن أنانياً، ولا قاسياً، ولا خسيساً، بل كان رحيماً، شجاعاً، لطيفاً. كسب مملكة بمقامرة، وتركها بقلب خلي ويد مبسوطة. وقد أتاح له ثراؤه كل الفرص، ولم تتح له سلطته أي انضباط. أنه لمنظر محزن حقاً-منظر رجل لامع الذكاء، سمح الرأي، يكافح لإصلاح ما أفسده في فرنسا تعصّب الملك العظيم، ثم يترك الأهداف السامية تغرق في سكر لا معنى له، ويضيّع الحب في دوامة من الفسق. كانت فترة الوصاية، من الناحية الأخلاقية، أشد الفترات خزياً وعاراً في تاريخ فرنسا. فالدين الذي كان نافعاً في القرى جلب على نفسه العار في القمة لأنه شرّف رجالاً من أمثال دبوا وتنسان، ففقد بذلك احترام الفكر الذي أطلق عقاله، وقد حظي الذهن الفرنسي بحرية نسبية، ولكنه لم يستخدمها لنشر الذكاء الرحيم المتسامح بقدر ما استخدمها لإطلاق الغرائز البشرية من ضوابط الهيمنة الاجتماعية التي تتطلبها الحضارة، ونسيت الإرتيابية فلسفة أبيقور، وانصرفت إلى اللذات الأبيقورية (أي الحسية). ولقد كانت الحكومة فاسدة، ولكنها حفظت السلام فترة كفت للسماح لفرنسا بأن تفيق من عهد مدمر، عهد الفخامة والحرب. وقد انهار "نظام" لو وانتهى بالإفلاس، ولكنه أعطى الاقتصاد الفرنسي حافزاً قوياً. وشهدت تلك السنوات الثمان انتشار التعليم المجاني، وتحرر الأدب والفن من الوصاية والسيطرة الملكيتين؛ لقد كانت سنوات "الإبحار إلى سيتيرا"، و "جيل بلاس" و "أوديب" و "رسائل موتسكيو الفارسية". ولقد زجت الوصاية بفولتير في السجن، ولكنها أعطته من الحرية والتسامح ما لن يعرفه أبداً في فرنسا حتى في ساعة انتصاره وموته.


فولتير والباستيل 1517 - 1526

في مذكرات سان-سيمون فقرة مميزة تصف شاباً محدثاً أثار ضجيجاً كثيراً أيام الوصاية:

"نفى آرويه، وهو ابن موّثق كنا نعامله أنا وأبي حتى توفي.. إلى تل في ذلك الحين (1716) لنظمه أبياتاً من الشعر فيها هجو شديد ووقاحة بالغة. وما كنت لألهو بتدوين هذا الحدث التافه لولا أن آرويه هذا، الذي أصبح شاعراً وأكاديمياً كبيراً باسم فولتير، قد أصبح كذلك.. .. شخصية في دولة الأب، لا بل بلغ شيئاً من الأهمية بين بعض الناس(93)". هذا الشاب المحدث، الذي بلغ الآن الحادية والعشرين، وصف نفسه بأنه "نحيل، طويل، لا لحم فيه ولا أرداف(94)" ولعله سبب هذا العيب كان يثب من مضيف (أو مضيفة) إلى آخر، ويجد الترحيب حتى في الدوائر العليا، بفضل شعره المتألق وذكائه الحاضر، يتشرب الهرطقة وينشرها، ويمثل دور زير النساء. وإذ لمع في قصر سو على الأخص، فإنه أثلج صدر دوقة مين بهجوه للوصي. وكان فليب قد اختزال إلى النصف خيوط المرابط الملكية، فعلق آرويه على هذا بأنه كان خيراً له أن يطرد نصف الحمير الذين يزحمون بلاط سموّه. وأسوأ من ذلك أنه فيما يبدو أذاع أبياتاً عن أخلاق دوقة بيري (ابنة الوصي) وأنكر فولتير أنه كاتبها، ولكن الأبيات نشر بعد ذلك في "أعماله" وقد واصل خطة الإنكار هذه إلى قرب ختام حياته، باعتبارها حماية مغتفرة من رقابة مصلته على أصحاب الأقلام. أما الوصي فكان في وسعه أن يغتفر الهجائيات اللاذعة الموجهة لشخصه، لأنها كثيراً ما كانت كاذبة، ولكنه كان يجرح جرحاً عميقاً من السخريات الموجهة لابنته، لأنها كانت صادقة في أغلبها. وعليه ففي 5 مايو 1716 أصدر أمراً "بإرسال السيد آرويه الابن إلى تل"-وهي مدينة على ثلاثمائة ميل جنوب باريس، اشتهرت بمدابغها الكريهة الرائحة، ولم تكن قد اشتهرت بعد بالنسيج الرقيق "التل" الذي نسب إليها في تاريخ لاحق. وأقنع الأب آرويه الوصي بأن يغير المنفى من تل إلى صلى-سير-لوار، على مائة ميل من العاصمة. وذهب إليها آرويه، واستقبله هناك الدوق صاحب لقب صلى آنئذ، سليل الوزير الأكبر لهنري الرابع، ضيفاً في بيته.

وقد استمتع هناك بكل شيء إلا الحرية. وما لبث أن وجه شعراً "رسالة للدوق أورليان" يؤكد فيه براءته ويلتمس إطلاق سراحه. واستجاب الوصي، وما وافى ختام العام حتى كان قد عاد إلى باريس وراح يتنقل في أرجائها تنقل الطائر وينظم الشعر، في بذاءة حيناً وفي سطحية في كثير من الأحيان، وفي ذكاء دائماً-حتى نسب إليه كل هجو بارع يسري على موائد المقاهي دون معرفة كاتبه. وفي مطلع عام 1717 ظهر هجاء لاذع جداً، بدأت كل جملة فيه بكلمة "رأيت Jai vu" مثال ذلك:

"رأيت الباستيل وألف سجن آخر مملوءة بمواطنين شجعان ورعايا أوفياء. رأيت الناس أشقياء يرسفون في عبودية قاسية. رأيت الجند يهلكون جوعاً، وعطشاً... وسخطاً، رأيت شيطاناً في زي امرأة... يحكم المملكة... رأيت البور-رويال وقد هدم... رأيت -وهذا ينتظم كل ما رأيت-يسوعياً يعبد... رأيت كل هذه الشرور، وأنا لم أجاوز العشرين بعد(95)". وواضح أن هذه الأبيات كانت تعرض بلويس الرابع عشر ومدام دمانتنون، ولا بد أن كاتبها عدو جانسني لليسوعيين لا شاك مستهتر لا يزال يحتفظ ببعض الحب في قلبه لجماعة اليسوعيين. أما الكاتب الحقيقي فهو أ. ل. لبورن، الذي التمس بعد ذلك الصفح من فولتير لأنه تركه يتحمل تبعة كتاباتها(96). ولكن السن المتقولين امتدحت آرويه على القصيدة، وألحت عليه الجماعات الأدبية في إلقائها، ولم يصدق أحد إنكاره تأليفها (إلا صاحبها). واتهمته الشائعات التي نقلت إلى الوصي بكتابة عبارة لاتينية-وبحق فيما يبدو-فضلاً عن قصيدة "رأيت" المذكورة، ومطلعها Puero regnante.. .. يقول كاتبها ما ترجمته "صبي (لويس الخامس عشر) يملك، ورجل مشهور بتسميم خصومه وغشيان المحارم يحكم،.. .. وثقة الشعب تنتهك (إفلاس مصرف لو).. .. والبلاد يضحي بها طمعاً في تاج، وميراث-يعجل ميقاته بخسه، وفرنسا على شفا الدمار(97)". وفي 16 مايو 1717 أمر خطاب ملكي مختوم بأن "يقبض على السيد آرويه ويودع الباستيل". وفوجئ الشاعر في مسكنه، ولم يسمح له بأن يأخذ غير الثياب التي يرتديها.

ولم يتسع وقته لوداع خليلته آنذاك، واسمها سوزان دليفريه، واتخذ صديقه لفيفر دجنونفيل مكانه على صدرها، واغتفر لها آرويه خيانتهما في تفلسف-"علينا أن نحتمل هذه التواقه(98)" وبعد سنوات مات لفيفر فنظم فولتير في ذكراه أبياتاً تبين موهبة الثائر الشاب في قرض الشعر الجميل، والعواطف الرقيقة التي كانت دائماً أعمق في نفسه من الشكوك: "إنه يتذكرك، أنت والجميلة إيجيري (سوزان) في أيام حياتنا الحلوة، حين كنا ثلاثتنا يحب بعضنا بعضاً. فالفكر والطيش، والحب، وسحر الأخطاء الرقيقة، كل أولئك ربط بين قلوبنا الثلاثة. ألا ما كان أسعدنا، إذا لم يقو على تكدير صفونا حتى الفقر، رفيق السعادة الحزين. كنا شباباً، مرحين، قنوعين، خالين من الهموم، لا يشغلنا التفكير في المستقبل، رغباتنا كلها تحدّها مباهجنا الراهنة-فأي حاجة بنا بعد هذا لثراء لا غناء فيه؟ لقد كنا نملك شيئاً أفضل منه جداً، كنا نملك السعادة(99)". وتزوجت سوزان رجلاً غنياً يدعى المركيز جوفرينه، وأبت أن تدخل فولتير بيتها حين أتى لزيارتها. وعزى نفسه بهذه الفكرة، وهي أن "كل الماسات واللآلئ التي تزينها الآن لا تعدل قبلة من قبلاتها في الأيام الخالية(100)". ولم يرها ثانية حتى عاد إلى باريس بعد إحدى وخمسين سنة ليموت، عندها أصر وهو في الثالثة والثمانين على زيارة المركيزة الأرملة، وكانت قد بلغت الرابعة والثمانين. لقد كان يسكن فولتير هذا شيطان، ولكن كان يسكنه أيضاً أرق قلب في الوجود. على أنه لم يجد الباستيل سجناً لا يطاق. فقد سمح له بأن يرسل في طلب الكتب، والأثاث، والثياب الداخلية، وطاقية النوم، والعطر، وأن يدفع ثمن هذا كله، وكثيراً ما كان يتناول طعامه مع مأمور السجن ويلعب البليارد والبولنج مع السجناء والحراس، وقد كتب فيه ملحمة "الهنريادة". لقد كانت الألياذة من الكتب التي أرسل في طلبها، وساءل نفسه: لم لا ينافس هومر؟ ولم تقصر الملاحم على الأساطير؟ إن في التاريخ الحي رجلاً هو هنري الرابع، إنسان مرح، جسور، بطل ، فاسق، متسامح، كريم، فلم لا تصلح تلك الحياة المغامرة الفاجعة لشعر الملاحم؟ ولم يكن مسموحاً للسجين بورق الكتابة لأنه قد يستحيل في يده سلاحاً فتاكاً، لذلك كتب النصف الأول من ملحمته بين سطور الكتب المطبوعة. وأفرج عنه في 11 أبريل 1718، ولكنه منع من البقاء في باريس ومن شاتينه القريبة من سو كتب إلى الوصي رسائل يلتمس فيها الصفح، ولانت قناة الوصي ثانية، وفي 12 أكتوبر أصدر إذناً "للسيد آرويه دفولتير بالمجيء إلى باريس حين يشاء(101)".

ولكن متى وكيف جاءه هذا الاسم الجديد؟ الظاهر أن هذا كان حوالي فترة سجنه في الباستيل، فنحن نلقاه أول مرة في المرسوم الذي ذكرناه آنفاً. وظن بعضهم(102) إنه جناس تصحيفي anagram أي تغيير في ترتيب أحرف كلمة Arovet L(e) J(eune) باعتبار الـ U هي حرف V والـ I هي حرف J-أما المركيزة دكريكي(103) فردته إلى كلمة "فوتير"، وهي مزرعة صغيرة على مقربة من باريس ورثها فولتير عن أحد أبناء عمومته، ولم يرث معها أي حقوق سيادية، ولكن آرويه، كبلزاك، اتخذ الإضافة التي يلحقها السادة بأسمائهم "de" بحق العبقرية، ووقع-كما في إهداء تمثيليته الأولى-بهذا الاسم "آرويه دفولتير") ولكنه عما قليل لن يحتاج لغير اسم واحد للدلالة على نفسه في أي بلد في أوربا. وكانت تلك التمثيلية-أوديب-حدثاً في تاريخ فرنسا الأدبي. لقد كانت وقاحة صارخة من فتى في الرابعة والعشرين ألا يكتفي بتحدي كورنيي، الذي أخرج تمثيلية "أوديب" في 1659، بل يتحدى سوفوكليس أيضاً، الذي ظهرت مسرحيته "أوديب ملكاً" في 330 ق. م. أضف إلى ذلك أن قصة فولتير كانت قصة سفاح للمحارم، يمكن أن تحمل على محمل التعريض بالعلاقات بين الوصي وابنته-وهي بالضبط التهمة التي سجن بسببها آرويه. وقد فسرتها هذا التفسير دوقة مين واغتبطت بها، وكان الشاعر قد فكر في تمثيليته أثناء وجوده في قصرها. وطلب فولتير بجرأته المألوفة إلى الوصي أن يأذن له بإهدائه التمثيلية، وتردد الوصي، ولكنه أذن بإهدائها لأمه. وأعلن أن حفلة الافتتاح ستكون في 18 نوفمبر 1718. وتكون حزبان من رواد مسارح باريس-أنصار الوصي، وأنصار دوقة مين، وتوقع الناس أن مباراة الفريقين في صيحات الاستهجان وهتاف الاستحسان ستجعل من التمثيل مهزلة صاخبة. ولكن المؤلف الذكي كان قد ضمن مسرحيته أبياتاً تسر أحد الفريقين، وأخرى تسر الفريق الآخر. فأرضت الفريق المناصر للوصي فقرة تصف كيف طرد الملك لايوس حرس القصر الغالي النفقة (كما فعل فليب)، وأرضى اليسوعيين أن يروا كيف أحسن تلميذهم الإفادة من المسرحيات التي كانوا يخرجونها في كلية لوي-لجران؛ أما أحرار الفكر فقد صفقوا بحماسة لبيتين من الشعر ورداً في المشهد الأول من الفصل الرابع، بيتين سيصبحان الأنشودة التي تتردد في حياة فولتير. "ليس كهنتنا ما يحسبه جمهور غافل، فسذاجتنا هي التي تصنع علمهم كله" وصفق كل فريق بدوره، وفي النهايات ظفرت المسرحية باستحسان الجميع. وتقول رواية قديمة أن والد فولتير ذهب وهو على وشك الموت ليشهد التمثيلية في أولى ليالي عرضها، وكان لا يزال يتميز سخطاً على ولده الحقير السيئ السمعة، ولكنه بكى اعتزازاً بروعة الشعر وانتصار التمثيلية. وحققت أوديب فترة عرض لم يسبق لها مثيل، بلغت خمسة وأربعين يوماً. وأطراها حتى فونتنيل المكتهل، ابن أخت كورنيي، وأن أبدى لفولتير أن بعض أبياتها "بالغة الشدة تضطرم ناراً". وأجاب الفتى المندفع بتورية فظة: "لكي أهذب نفسي سأقرأ رعوياتك(104)" وأصرت باريس على أن ترى في أوديب (المذنب بغشيان المحارم) شخص الوصي، وفي جوكستا شخص ابنته. وتصدت دوقة بري (ابنة الوصي) للشائعات بشجاعة، فحضرت التمثيلية عدة ليال. أما الوصي فأمر بإخراجها في مسرح قصره، ورحب بالمؤلف في بلاطه.

وبعد بضعة أشهر نشر شاعر أفاك، لم يعلن عن اسمه، قصائد سماها "Les Philiooigues الفليبيات"، وهي هجائيات اتهمت فليب بأنه يبيت تسميم الملك الصبي واغتصاب العرش. واشتبه الكثيرون في فولتير مؤلفاً للقصائد، فأكد براءته، ولكنه كان قد كذب في حالات كهذه كذباً صارخاً فلم يصدقه الآن أحد إلا المؤلف. وبرأه فليب لعدم كفاية الأدلة على التهمة، واكتفى بنصحه بأن يغيب حيناً عن نعيم باريس. فعاد إلى شاتو صلى (مايو 1719). وبعد سنة سمح له بالعودة إلى العاصمة، وهناك ظل فتى الأرستقراطية المدلل فترة من الزمان. وإذ كان مؤمناً بأن المال حجر الفلاسفة، فقد استخدم ذكاءه الحاد في فهم مشكلات المالية وحيلها. وسعى لمصادقة المصرفيين، وأجيز بمكافأة سخية للمعونة التي قدمها لأخوان باريس "للحصول على عقود بتوريد مؤن وذخائر للجيش(105)". وكان بطلنا من استغلاليي الحرب. وظل بعيداً عن "نظام" لو، واستثمر ثروته بحكمة، وأقرض النقود بالربا. وفي 1722 مات أبوه، واحتكم فولتير إلى القضاء في أمر الوراثة وثابر على دعواه بعزيمة ماضية، ففاز بوراثة دخل سنوي قدره 4.250فرنكاً. وفي تلك السنة ذاتها أجرى عليه الوصي معاشاً قدره 2.000 جنيه، وغدا الآن رجلاً موسراً. وعما قليل سيصبح مليونيراً، وعلينا ألا نفكر فيه ثائراً، إلا فيما يتصل بالدين. وقد أعن على تربيته وتهذيبه سقوط مسرحيته الثانية-آرتمير-(15 فبراير 1720). فجرى من مقصورته إلى خشية المسرح وناقش النظارة في مزايا المسرحية، وصفقوا لخطابه ولكنهم ظلوا على استنكارهم لها، وبعد أن مثلت ثماني مرات سحبها من المسرح، وفي تاريخ لاحق من تلك السنة قرأ قسماً من "الهنريادة" على نفر في اجتماع، ووجه إليها بعض النقد، وبحركة فرجيلية ألقى بالمخطوطة في النار، وخطف اينو الأوراق من اللهب، وشبه نفسه بأوغسطس وهو يستنقذ إنيادة فرجيل، وقال أن فولتير مدين له الآن بملحمة و "طوقي كم لطيفين(106)". واستعاد الشاعر كبرياءه في غير مشقة حين استمع الوصي نفسه إلى قراءة من القصيدة. وكان حيثما ذهب يقرأ جزء منها. وفي 1723 زار اللورد بولنبروك وزوجته الفرنسية في فللتهما، لاسورس قرب أورليان، فأكدا له أن ملحمته تبز "جميع الأعمال الشعرية التي صدرت في فرنسا(107)". وتظاهر بأنه يشك في صدق هذا الزعم. وتبادل خلال ذلك الفلسفات مع ذلك الشال النبيل، وسمع بالربوبيين الذين يكدرون صفو المسيحية في بريطانيا. وخامرته الظنون بأن إنجلترا سبقت فرنسا في العلم والفلسفة. ولكنه كان قد انتهى إلى هرطقات بولنبروك قبل أن يلتقي به أو يقرأ للربوبيين الإنجليز. وفي 1722 قبل دعوة من الكونتيسة ماري دروبلموند بأن يصحبها إلى الأراضي المنخفضة. وكانت أرملة في الثامنة والثلاثين، من نساء الفكر، ولكنها جميلة، وقد قبل دعوتها وهو في الثامنة والعشرين. وفي بروكسل التقى بشاعر منافس يدعى جان باتيست روسو، أثنى على "أوديب" ولكنه وبخ فولتير على استهتاره الديني.


أما فولتير، الذي قلّما كان يطيق النقد، فقد علق على قصيدة لروسو عنوانها "قصيدة غنائية للأجيال القادمة" بقوله "أتعلم يا سيدي أنني لا أعتقد أن هذه القصيدة ستصل أبداً إلى من وجهت إليهم؟(108)" وقد ظلا ينهش أحدهما الآخر حتى وفاة روسو. وبينما كان فولتير وكونتيسته يواصلان رحلتهما إلى هولندا كشفت له عن شكوكها الدينية، وسألته عن آرائه. وإذ كان فولتير جياشاً بالشعر، فقد رد بقصيدة شهيرة سماها "رسالة إلى أوراني" لم تنشر إلا سنة 1732، ولم يعترف بها فولتير إلا بعد أربعين سنة. وكل شاب مسيحي مرهف الحس سيتبين فيها مرحلة في تطوره. يقول فولتير "إذن أنت تودين أيتها الجميلة أوراني (اسم لأفروديت) وقد بعثت بأمرك في هيئة لوكريتيوس جديد، أن أمزق أمام عينيك بيد جريئة القناع عن الخرافات، وأن أعرض عليك ذلك المشهد الخطر، مشهد الأكاذيب المقدسة التي تزخر بها الأرض، وأن تعلمك فلسفتي ازدراء أهوال القبر ومخاوف الحياة الآخرة". ويسير الشاعر بـ "خطى ملؤها الاحترام". فيقول "إني أريد أن أحب الله، وألتمس فيه أبي"، ولكن أي نوع من الإله يقمه لنا اللاهوت المسيحي؟ "طاغية ينبغي أن نكرهه. خلق البشر "على صورته" ليجعلهم حقراء، وأعطانا قلوباً آثمة ليكون له حق عقابنا. جعلنا نحب اللذة لكي يعذبنا بآلام رهيبة... أبدية". وما أن خلقنا حتى فكر في إهلاكنا. فأمر المياه بأن تغرق الأرض. وأرسل ابنه ليفكر عن خطايانا، لقد مات المسيح، ولكنه مات عبثاً فيما يبدو، إذ يقال لنا أننا ما زلنا ملوثين بجريمة آدم وحواء، وابن الله الذي يمتدح كثيراً على رحمته، يمثل لنا وكأنه ينتظر بروح الثأر أن يقذف بأكثرنا إلى الجحيم، بما فينا أناس لا حصر لهم لم يسمعوا به قط "لست أتبين في هذه الصورة المخزية الإله الذي على أن أعبده، وسأشينه بمثل هذه الإهانة والولاء". ومع ذلك ترى الشاعر يحس النبل والإلهام الحي في الفكرة المسيحية عن المخلص: "انظري إلى المسيح، القوي المجيد.. يدوس الموت تحت قدميه الظافرتين، ويخرج منتصراً من أبواب الجحيم. إن مثله مقدس، وفضيلته إلهية. ويعزى سراً تلك القلوب التي يضيئها بنوره، وفي أفدح الكوارث يهبها العون، وإذا كان قد أقام تعليمه على وهم وخداع، فإن من النعم أن نخدع معه". وفي الختام يدعو الشارع أوراني أن تستقر على رأيي في الدين واثقة كل الثقة بأن الله "الذي وضع الدين الطبيعي في قلبك، لن يسوءه العقل البسيط الصريح. ثقي أن نفس الإنسان البار ثمينة أمام عرشه، في كل زمان ومكان. ثقي أن الراهب البوذي المتواضع، والولي المسلم المعطف، يجدان نعمة في عينيه أكثر مما يجده جانسني (قدري) صارم، أو بابا يلوث الطمع روحه". ولما عاد فولتير إلى باريس أقام في الأوتيل دبيرنيير بشارع بون وطريق فولتير الحالي (1723). وفي نوفمبر ذهب إلى اجتماع للأعيان في الشاتودميزون (على تسعة أميال من باريس)، حيث كانت أعظم ممثلات العصر آدريين لكوفرير ستقرأ تمثيليته الجديدة "ماريان" ولكن قبل أن يحل موعد الحفل أصيب بالجدري، وكان في تلك الأيام يفتك بنسبة عالية من ضحاياه. وكتب وصيته، واعترف، وراح ينتظر الموت. وهرب الضيوف الآخرون، ولكن المركيز دميزون استدعى الكتور جريفيه من باريس "وبدلاً من المنبهات التي تعطى عادة في هذا المرض، جعلني أشرب مائتي باينت من عصر الليمون(109)" ولعله كان لهذه الأكواب المائتين الفضل في "إنقاذ حياتي". ولم يتماثل للشفاء إلا بعد شهور كثيرة، والواقع أنه بعد هذا كان يعالج نفسه علاج عليل عاجز، يمرض تلك الحياة المتقطعة التي يحياها ذلك البدن الهش الذي فرض عليه أن يؤوي نار صاحبه الأكلة. وفي 1724 بدأ تداول ملحمة الهنريادة سراً بين الصفوة المثقفة. لقد كانت إذاعة سياسية على مستوي ملحمي. واتخذت الملحمة مذبحة القديس برتلميو نصاً لها، وتتبعت الجراثم الدينية خلال العصور؛ الأمهات يقدمن أبناءهن محرقات على مذابح الإله ملخ، وأغا ممنون يتهيأ لتقديم ابنته قرباناً للآلهة التماساً لقليل من الريح، والمسيحيون يضطهدهم الرومان، والمهرطقون يضطهدهم المسيحيون، والمتعصبون "يدعون الرب وهم يذبحون اخوتهم"؛ والأتقياء يوحي إليهم قتل الملوك الفرنسيين. وأشادت القصيدة باليزابيث لتقديمها المعونة لهنري نافار، ووصفت معركة أفريه، وشفقة هنري، وعشقه لجابرييل ديستريه، وحصاره لباريس، وامتدحت تحوله للكاثوليكية، ولكنها انتقدت للبابوية لأنها "قوة لا ترحم المغلوبين، ويلين جانبها للغالبين، على استعداد للغفران أو الإدانة حسبما تمليه المصلحة". وكان فولتير يأمل أن تقبل الهنريادة ملحمة قومية لفرنسا، ولكن الكاثوليكية كانت أعز على مواطنيه من أن تجعلهم يستقبلون القصيدة ملحمة لروحهم. ثم أن أخطاءها كانت تثب إلى العين الدارسة. فالتقليدات الواضحة لهومر وفرجيل-في مشاهد القتال، وفي زيارة البطل للجحيم، وفي إدخال التجريدات المجسدة في الحركة على غرار الآلهة الهومرية-كل أولئك ضحى بمفاتن الابتكار والأصالة، ومع أن الأسلوب كان أسلوب النثر الجيد، فقد افتقد أخيلة الشعر المنيرة. أما المؤلف، الذي أسكره مداد المطبعة، فلم يخامره ظن في هذا. فكتب إلى تييريو يقول "إن شعر الملاحم موطن قوتي، وإلا كنت واهماً جداً(110)" ولقد كان واهماً جداً. ومع ذلك بدأ أن المديح الذي ظفر به يبرر افتخاره بملحمته. فقد صرح ناقد فرنسي بأنها تسمو على الأنيادة، وذهب فردريك الأكبر إلى "أن أي إنسان تحرر من الهوى سيفضل الهنريادة على قصيدة هومر(111)". ونفدت الطبعة الأولى سريعاً، ونشرت طبعة منتحلة في هولندا وصدرت إلى فرنسا، وحظر البوليس الكتاب، ولكن جميع الناس اشتروه. وترجم إلى سبع لغات، وسنراه يحدث ضجة في إنجلترا. وقد لعب دوراً في إحياء شعبية هنري الرابع. وجعل فرنسا تخجل من حروبها الدينية، وتنقذ النظريات اللاهوتية التي أشعلت في الناس نيران هذه القسوة الضارية.

واستمتع الآن فولتير حيناً بالشهرة والمال دون أن يكدرهما مكدر. فقد اعترف به الناس أعظم شاعر حي في فرنسا، واستقبل في بلاط لويس الخامس عشر، وبكت الملكة من تمثيلياته، ونفحته بألف وخمسمائة جنيه من جيبها الخاص (1725). وكتب أكثر من عشرة خطابات يشكو حياته عضواً في الحاشية ويفاخر بهذه الحياة. وراح يتحدث في ألفة طبيعية من النبلاء، سواء منهم الشريف والخسيس. ولا شك أنه أسرف في الحديث، وهذا أيسر شيء في الوجود. وحدث ذات ليلة وهو في الأوبرا (ديسمبر 1725) أن الشفالييه دروهان-شابو سمعه يسترسل في الحديث في بهو الانتظار فسأله في خيلاء شديدة "مسيو فولتير، مسيو آرويه-ما اسمك؟" ولا علم لنا بم أجاب الشاعر. وبعد يومين التقيا في الكوميدي-فرانسيز، وأعاد روهان سؤاله. ويختلف الرواة في الجواب الذي أجابه به فولتير، قالت رواية أنه أجاب "إنسان لا يتجرجر وراء اسم عظيم، بل يعرف أن يشرف الاسم الذي يحمله(112)"، وتقول رواية أخرى أنه أجابه "إن اسمي يبدأ بي، واسمك ينتهي بك(113)". ورفع السيد النبيل عصاه ليضربه، وأتى الشاعر بحركته ليستهل سيفه. وكانت آدريين لكوفرير تشهد المعركة، وكان لها ن حضور البديهة ما جعلها تقع مغشية عليها ، وتهادن الخصمان. وفي 4 فبراير كان فولتير يتغدى في بيت الدوق صلي، وإذا رسالة تنبئه أن باب القصر من يريد أن يراه، فذهب، وإذا ستة فتاك ينقضون عليه ويضربونه في شيء من الترفق. وحذرهم روهان الذي كان يدير العملية من مركبته قائلاً "لا تضربوا رأسه، فعسى أن يخرج منه شيء صالح(114)". واندفع فولتير عائداً إلى البيت، وطلب إلى صلي أن يعينه على اتخاذ إجراء قانوني ضد روهان. ولكن صلي أبى. فاعتكف الشاعر في ضاحية أخذ يتدرب فيها على المثاقفة. ثم ظهر في فرساي، مصمماً على المطالبة بـ "ترضية" من الشفالييه. وكان القانون يعد المبارزة جريمة كبرى. وصدر أمر ملكي للشرطة بأن تراقبه، ورفض روهان لقاءه. في تلك الليلة قبضت الشرطة على الشاعر، مما أراح كل من له صلة بالأمر، ووجد فولتير نفسه نزيل الباستيل ثانية. وقال القائد العام لشرطة باريس في تقريره "إن أسرة السجين أثنت بالإجماع... على حكمة الأمر بمنع الشاب من ارتكاب حماقة جديدة(115)" وكتب فولتير للسلطات يدافع عن مسلكه، وعرض أن ينفي نفسه في إنجلترا مختاراً إذا أفرج عنه. وقد عومل كما عومل من قبل. فوفرت له كل أسباب الراحة والرعاية.

وقبل اقتراحه، وأفرج عنه بعد خمسة عشر يوماً، ولكن حارساً أمر أن يوصله إلى كاليه. وأعطاه أعضاء الحكومة خطابات تعريف وتوصية لبعض الإنجليز البارزين، وواصلت الملكة دفع معاشه. وفي كاليه استضافه أصدقاؤه ريثما يقلع المركب التالي. وفي 10 مايو ركب البحر، مسلحاً بالكتب لدراسة الإنجليزية، راغباً في رؤية البلد الذي سمع أن الناس والعقول فيه أحرار. فلنر ماذا وجد فيه.