قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 4 ف 18

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 11231

قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> البحث العلمي -> دولية العلم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثامن عشر: البحث العلمي 1648-1715

1- دولية العلم

كان مزاج أوربا يتغير في بطء-سواء كان التغيير خيراً أو شراً-من الإيمان بالخوارق إلى النزعة العلمانية، ومن اللاهوت، ومن آمال الجنة ومخاوف الجحيم التي خطط توسيع المعرفة وتحسين حياة البشر. فأما الطبقات العليا التي واصلت أساليب حياتها الأبيقورية فلم تعترض كثيراً على إيمان ديني كانت تاره مفيداً للجماهير الشقية التي حرمت فردوس الحسب والنسب، ولكن كان هناك نفر، حتى من بين هذه القلة المميزة، ممن تلهوا بالعلم، ووازنوا المعادلات، وأحرقوا أصابعهم أو نشقوا بأنوفهم في المختبرات، أو تفرسوا بدهشة في النجوم المتكاثرة. ففي باريس مثلاً تزاحمت سيدات المجتمع العصريات على محاضرات ليميري في الكيمياء، وعلى شروح دوفرنية في التشريح، ودعا كونديه ليميري إلى صالونه الخاص جداً، وعين لويس الرابع عشر دوفرنيه ليساعد على تعليم الأمير الوارث للعرش. وفي إنجلترا كان لتشارلز الثاني "مختبر كيميائي" خاص به، وحاول البارونات، والأساقفة، والمحامون القيام بالتجارب، وأقبلت الخليلات الأنيقات في مركباتهن ليشهدن عجائب المغناطيسية، وهوى ايفلين الفيزياء، وأراد إنشاء معهد للبحث العلمي، ووجد بيبيس وقتاً-وسط شغله بالمراكب والنساء-لاستعمال المكرسكوب، ومضخة الهواء وسكين التشريح، وأصبح رئيساً للجمعية الملكية. وتخلفت الجامعات عن الشعب في هذا الاهتمام الجديد، ولكن الأكاديميات الخاصة التقطته. ويلوح أن البادئ كان "أكاديمية أسرار الطبيعة" بنابلي (1560)، ثم أكاديمية "دي لنتشي" بروما (1603) التي كان جاليليو ينتمي إليها، ثم أكاديمية "ديل تشيمنتو"، التي أنشأها تلميذاه تفياني وتوريتشيللي في فلورنسة (1657). وقد كرس هذا المعهد بحكم اسمه للتجارب، واتخذ الشك الديكارتي منطلقاً له، فلا شيء يجب التسليم به بالإيمان، ولا بد من بحث كل مشكلة دون نظر إلى أي ملة أو فلسفة موجودة(1). ولم يعمر بعض هذه الأكاديميات طويلاً، ولكنها كانت تترك خلفاء لها بعد موتها. وأنشئت الأكاديميات في شفينفورت (1652)، وألتدورف (1672)، وأوبسالا (1710)، وفي 1700، وبعد ثلاثين سنة قضاها ليبنتز في الإلحاح، خرجت أكاديمية برلين إلى النور، كذلك يرجع الفضل إلى ليبنتز في إنشاء أكاديمية سانت بطرسبورج (1724).

وتطورت "أكاديمية العلوم" في فرنسا من اجتماعات (1631-38) مرسين، وروبرفال، وديزارج، وغيرهم من العلماء في بيت والد بسكال في باريس، أو في صومعة مرسين. وقد صاغت برنامجاً "للعمل على تحسين علوم الآداب، والبحث عموماً عن كل ما يمكن أن يجلب المنفعة أو الراحة للنوع الإنساني"، كذلك قررت أن "تحرر العالم من كل الأخطاء الشائعة التي انطلى زيفها على الناس منذ زمن طويل" ولكنها نصحت أعضاءها بأن يجتنبوا الخوض في الدين أو السياسة(2). وفي 1666 ظفرت الأكاديمية بمرسوم ملكي، وبحجرة في المكتبة الملكية، وفي فرساي ترى إلى اليوم لوحة كبيرة بريشة تيستيلان يقدم فيها لويس الرابع عشر هذا المرسوم لجماعة يرأسها كرستيان هويجنز وكلود بيرو. وكان كل عضو من أعضائها الواحد والعشرين يتلقى من الحكومة راتباً سنوياً، فضلاً عن مبلغ يغطي النفقات، وقد أصبحت الأكاديمية من الناحية الفعلية مصلحة من مصالح الدولة. وكان لويس يخص الفلكيين بعطفه. فدعا كاسيني من إيطاليا، ورويمير من الدنمرك، وهويجنز من هولندا، وشاد مرصداً فخماً. وحين التهمت النيران المكتبة الثمينة التي يقتنيها هيفيليوس الدانزجي، والذي تفرد بدراساته للقمر، نفحه الملك بعطاء سخي ليعوض خسارته(3). وقد نسب لابلاس الفضل للأكاديمية في معظم ما أحرزت فرنسا من تقدم علمي، ولكن اعتمادها على ملك وثيق التحالف مع الكنيسة كان ضاراً بتقدم العلم الفرنسي(4)، بينما مضي الإنجليز في هذا الطريق قدماً.

ومن سمات إنجلترا أن أكاديمياتها العلمية كانت مؤسسات أهلية لا تدين للحكومة إلا بفضل عارض، يقول جون واليس أنه حوالي عام 1645، تعرف في لندن إلى "نفر من فضلاء القوم، المحبين للاستطلاع في الفلسفة الطبيعية وغيرها من فروع العلم الإنساني، لا سيما... الفلسفة التجريبية(5)". واتفقوا على الاجتماع مرة كل أسبوع لمناقشة الرياضة، والفلك، والمغنطيسية، والملاحة، والفيزياء، والميكانيكا، والكيمياء، والدورة الدموية، وغير ذلك من الموضوعات. وقد استوحت هذه "الكلية غير المنظورة"-كما كانت تسمى آنئذ-"بيت سليمان" الواردة في كتاب بيكون "آطلانطيس الجديدة" فلما انتقل واليس إلى أكسفورد أستاذاً للرياضة، انقسمت الجمعية قسمين، يجتمع أحدهما في مسكن روبرت بويل بالجامعة، والآخر في كلية جريشام بلندن، وكان رون وايفلين من أول الأعضاء هناك. وقطع هذه الاجتماعات اللندنية ما وقع من اضطراب سياسي بين موت كرمويل وعودة الملكية، ولكن سرعان ما استؤنفت عقب تولي تشارلز الثاني العرش، وفي 15 يوليو 1662 منح الملك "جمعية لندن الملكية لترقية المعرفة الطبيعية" براءة رسمية. وكان "الزملاء الأصليون" البالغ عددهم ثمانية وتسعين لا يشملون علماء من أمثال بويل وهوك فحسب، بل شعراء كدرايدن ووالر، ورن المعماري، وايفلين، وأربعة عشر نبيلاً، وعدة أساقفة. وفيما بين عامي 1663 و1686 ضم إليها نحو ثلاثمائة زميل إضافي. ولم يكن هناك فوارق طبقية تقسمهم، فكان الأدواق والعامة سواسية في هذا المشروع، وأعفى الأعضاء الفقراء من رسوم العضوية(6). وفي 1673 صرح ليبنتز، الذي سمح له بالعضوية، بأن الجمعية الملكية أعظم الهيئات الفكرية احتراماً في أوربا. وفي تاريخ باكر (1667) نشر توماس سبرات كتابه الممتاز "تاريخ الجمعية الملكية" وقد تأثر هو أيضاً، بالأنسام البيكونية التي كانت تهب على إنجلترا، وذلك برغم ترقيته أسقفاً لروتشستر. وشكا بعض اللاهوتيين من أن المعهد الجديد سيقوض الاحترام للجامعات والكنيسة الرسمية، ولكن اعتدال الجمعية وحذرها لم يلبثا أن هدءاً من معرضة رجال الكنيسة وروحت تجاربها الغريبة عن الحاشية والملك، الذي ضحك حين سمع أنها تزن الهواء وتفكر في الطيران الميكانيكي. وقد هجاها سويفت في قصة "رحلات جليفرز" وسماها أكاديمية لاجادو العظمى، وجعل أعضاءها يضعون الخطط لاستنباط ضوء الشمس من الخيار، ولبناء البيوت ابتداء من الأسقف فما فوق، وذكر صموئيل بطلر، مؤلف "هوديبراس" كيف أن نادياً من العلماء هاج وماج لاكتشافه فيلاً في القمر، ثم تبين أنه فأر في تلسكوبهم(8). ولكن رعاية الجمعية الملكية هي صاحبة الفضل في تحسين ايفلين للزراعة الإنجليزية، وإرساء السير وليم بتي علم الإحصاء، وتقدم العلم والطب الإنجليزيين بخطى تجاوزت كل ما عرف في فرنسا أو ألمانيا المعاصرتين، وإنشاء علم الكيمياء تقريباً، وإحداث راي ثورة في علم النبات، وودوارد في الجيولوجيا، ونيوتين في الفلك. وأجرت الجمعية آلاف التجارب في الكيمياء والفيزياء، وكانت تتسلم جثث المجرمين الذين أعدموا وتشرحها وتدرسها، وأصبحت مستودعاً للتقارير الطبية تتلقاها من الأطباء في جميع أرجاء البلاد، وجمعت تقارير التطورات التكنولوجية، وكانت على صلة بالبحث العلمي في خارج إنجلترا. وسفه تأكيدها على العمليات الطبيعية والناموس الطبيعي الخرافة واضطهاد السحر.

وفي عام 1665 بدأ سكرتيرها هنري أولدنبرج إصدار مجلة "الأعمال الفلسفية للجمعية الملكية" التي استمرت إلى يومنا هذا. وقد طلبت وتلقت المقالات من خارج البلاد. وكانت من أوائل طابعي اكتشافات مالبيحي وليوفنهويك. أما أولدنبرج هذا فقد وفد على إنجلترا في 1653 ليفاوض في إبرام معاهدة تجارية لوطنه بريمن، فبقي بها، وأصبح صديقاً لملتن، وهوبز، ونيوتين، وبويل، وراسل بنشاط العلماء والفلاسفة في جميع أنحاء العالم. وقال أن أعضاء الجمعية الملكية "يمتحنون الكون كله(9)"، وكتب لسبينوزا يقول: "إننا على ثقة من أن أشكال الأشياء وصفاتها يمكن تعليلها أفضل تعليل بأصول الميكانيكا، وأن كل آثار الطبيعة تحدثها الحركة والشكل، والنسيج، والارتباطات المختلفة لهذه كلها، وأنه لا حاجة بنا لأن نلجأ إلى الأشكال التي لا تفسير لها أو الصفحات السحرية ملاذاً من الجهل(10)".

وبفضل هذه "الأعمال الفلسفية" الإنجليزية و"مجلة العلماء" الفرنسية، و"الجورنالي دي لتيراتي" الإيطالية، و"الأكتا ايروديتورم" الألمانية استطاع العلماء والدارسون الأوربيون أن يتغلبوا على الحدود القومية، ويكونوا على اتصال بأعمال بعضهم البعض وكشوفهم، ويؤلفوا جيشاً متحداً يزحف في مغامرة خلاقة هائلة. وكانوا وهم عاكفون بمنأى عن الأنظار في مكاتبهم، ومختبراتهم، وبعثاتهم، متجاهلين أو منتصرين على جلبة السياسة، وزحف الجيوش، وطنين العقائد الدينية، وضباب الخرافة، وعملاء الرقابة المدنية أو الكنسية المتطفلين-كانوا وسط هذا كله يكبون على النصوص، وأنابيب الاختبار، والمكرسكوبات، ويخلطون المواد الكيميائية في فضول، ويقيسون القوى والأحجام، ويضعون المعادلات والرسوم البيانية، ويتفحصون أسرار الخلية، وينبشون طبقات الأرض، ويرسمون حركات النجوم، حتى بدت حركات المادة وكأنها تنتظم في قانون، وبدت ضخامة الكون الهائلة وكأنها تتمثل للذهن البشري المذهل. ففي فرنسا كان فيرما، وبسكال، وروبرفال، وماريوت، وبيرو، وفروع بأكملها من آل كاسيني وفي سويسرا كان آل برنويي، وفي ألمانيا كان جويريكي، وليبنتز، وتشرنهاوس، وفارنهايت، وفي هولندا كان هويجنز وليوفنهويك، وفي إيطاليا كان فيفياني وتورب تشيللي، وفي الدنمرك كان ستينو، وفي إسكتلندة كان جيمس وديفد جريجوري، وفي إنجلترا كان واليس، ولستر، وبويل، وهوك، وفلامستيد، وهالي، ونيوتن: هؤلاء كلهم وغيرهم كثيرون، كانوا في هذه الحقبة القصيرة من تاريخ أوربا من 1648 إلى 1715، يكدون فرادي وجماعات منعزلين ومتعاونين، ليبنوا يوماً فيوماً، وليلة فليلة، صرح الرياضة، والفلك، والجيولوجيا، والجغرافيا، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والتشريح، والفسيولوجيا-هذه العلوم التي قدر لها أن تحدث ثورة مصيرية في النفس الحديثة، أما أولدنبرج، الذي أحس دولية العلم هذه، ولم يخطر بباله قط أن القومية قد تجعل العلم نفسه أداة حزبية ومدمرة، فقد رأى في هذا التعاون الملهم بشيراً بحياة أفضل. وكتب لهويجنز يقول "أرجو أن يأتي الوقت الذي تتعانق فيه كل الأمم، حتى المتخلفة في الحضارة، عناق الرفاق الأعزاء، وأن تتضافر قواها الفكرية والمادية لإقصاء الجهل، وتغليب الفلسفة الصحيحة النافعة(11)". وما زال هذا رجاء العالم إلى اليوم.


2- الرياضيات

بدأت الدولية الجديدة بشحذ أدواتها. فطور بسكال وهوك وجويريكي البارومتر، واستطلعت مضخة جويريكي الهوائية إمكان إحداث الفراغ، وصنع جريجوري ونيوتن وغيرهما تلسكوبات أفضل من تلسكوبات كبلر وجليليو، واخترع نيوتن آلة السدس، وحسن هوك الميكروسكوب المركب، الذي أحدث انقلاباً في دراسة الخلية، وأصبح الترمومتر أوثق وأدق على يد جويريكي وأمونتونز، وفي عام 1714 أعطاه فارنهايت شكله الإنجليزي-الأمريكي باستخدامه الزئبق بدلاً من الكحول وسيطاً متمدداً، وقسم مقياسه عند الصفر، و32 درجة و96 درجة (التي افترض أنها حرارة جسم الإنسان الطبيعية). أما أعظم الأدوات قاطبة فكانت الرياضيات، لأنها أضفت على التجربة شكلاً كمياً ومعياراً، ومكنتها بمئات الطرق من التنبؤ بالمستقبل بل السيطرة عليه. قال بويل "إن الطبيعة تلعب دور الرياضي" وضاف ليبنتز "أن العلم الطبيعي ليس إلا الرياضة التطبيقية(12)". ويشيد مؤرخو الرياضيات بالقرن السابع عشر لأنه كان وافر الثمر في ميدانهم على الأخص، فهو قرن ديكارت، ونابيير، وكافالييري، وفيرما، وبسكال، ونيوتن، وليبنتز، وديزارج. وكانت السيدات المعطرات بالنبالة يختلفن إلى محاضرات الرياضة، وقالت "صحيفة العلماء" مازحة أن بعضهن جعلن تربيع الدائرة الجواز الوحيد لرضائهن(13)، ولعل هذا أن يفسر جهود هوبز الملحة في حل تلك المعضلة المحيرة.

وأنجب بيير دفيرما النظرية الحديثة للأعداد (دراسة أنواعها، وخصائصها، وعلاقاتها) وتخيل الهندسة التحليلية مستقلاً عن ديكارت-وربما قبله، واخترع حساب الاحتمالات مستقلاً عن بسكال، وسبق نيوتن وليبنتز إلى حساب التفاضل. ومع ذلك عاش مغموراً بعض الشيء في عضويته ببرلمان تولوز، ولم يدل بإسهاماته في الرياضة إلا في خطابات لأصدقائه-لم تنشر إلا سنة 1679، بعد موته بأربعة عشر عاماً. وفي أحد هذه الخطابات نستشف انتشاءه بالرياضة. "لقد عثرت على عدد كبير جداً من النظريات الجميلة جداً(14)" وكان يطرب لكل حيلة جديدة أو انتظام مدهش في الأعداد. وقد تحدى رياضي العالم "أن يقسموا المكعب إلى مكعبين، وربع القوة إلى ربعي القوة"، الخ، وكتب يقول "لقد اكتشفت برهاناً عجيباً حقاً لما يعرف الآن بـ "آخر نظريات فيرما"، ولكن لا برهانه ولا أي برهان قاطع عليها قد وجد إلى الآن. وفي عام 1908 أوصى أستاذ ألماني بمائة ألف مارك لأول شخص يبرهن على فرض فيرما، ولم يطالب أحد إلى الآن بالجائزة، وربما ثبط همته هبوط قيمة المارك.

وكان كرستيان هويجنز أبرز علماء هذا العصر، باستثناء عالم واحد فقط، فكان التالي مباشرة لنيوتن. وكان أبوه قسطنطين هويجنز من ألمع شعراء هولندا وساستها. ولد كرستيان في 1629، وبدأ في الثانية والعشرين نشر الأبحاث الرياضية. وما لبثت كشوفه في الفلك والفيزياء أن أذاعت شهرته في أوربا، فانتخب زميلاً للجمعية الملكية بلندن في 1663، وفي 1665 دعاه كولبير للانضمام إلى أكاديمية العلوم بباريس، فانتقل إلى العاصمة الفرنسية، وتلقى معاشاً سخياً، ومكث بها حتى 1681، ثم عاد إلى هولندة لضيقه بالحياة في ظل ملك تحول مضطهداً للبروتستنت. وكان تراسله بست لغات مع ديكارت، وروبرفال، وميرسين، وبسكال، ونيوتن، وبويل، وكثير غيرهم، دليلاً على الوحدة المتزايدة التي تربط الأخوة العلمية. قال "إن العالم وطني، والنهوض بالعلم الديني(15)". ومن عجائب زمانه عقله السليم في جسمه السقيم-فقد كان جسمه عليلاً أبداً، وعقله خلاقاً حتى موته في السادسة والستين. وكان إنتاجه في الرياضة أقل جزء في إنجازاته، ومع ذلك فإن الهندسة، واللوغارتيمات، وحساب التفاضل والتكامل-كلها أفادت من جهوده. وفي 1673 أثبت "قانون المربعات العكسية" (أي أن جذب الأجسام بعضها لبعض يتناسب تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بينها) وهو القانون الذي أصبح بالغ الأهمية لفلك نيوتن.

وكان نيوتن الآن بالطبع أسطع نجم تكبد سماء العلم البريطاني، وهو جدير بأن نفرد له فصلاً خاصاً، ولكن كان لنجمه أقمار توابع. ومنهم صديقه جون واليس، القسيس الأنجليكاني، الذي أصبح أستاذاً "سافيلياً" للهندسة في أكسفورد عام 1649 وهو في الثالثة والثلاثين، وشغل ذلك الكرسي أربعة وخمسين عاماً. وقد صرف النحو والمنطق واللاهوت قلمه عن العلم، ومع ذلك فإنه كتب بحوثاً ذات أثر في الرياضة والميكانيكا، والسمعيات والفلك، والمد والجزر، والنبات والفسيولوجيا، والجيولوجيا، والموسيقى، ولم يعوزه سوى بعض الحب والحرب لتكتمل شخصيته. ورسالته "في تاريخ الجبر وممارسته" (1673) لم تسهم بأفكار أصيلة في ذلك العلم فحسب، بل كانت أول محاولة جدية في إنجلترا لكتابة تاريخ الرياضة. وقد ابتهج معاصروه بالجدل الطويل بينه وبين هوبز حول حساب تربيع الدائرة، وانتصر واليس، ولكن الفيلسوف العجوز واصل الكفاح إلى نهاية سنيه الواحدة والتسعين. ويذكر التاريخ واليس على الأخص بكتابه "حساب اللانهائيات" (1655) الذي طبق طريقة كافالييري في اللامنقسمات على حساب تربيع المنحنيات، وبهذا مهد لحساب التفاضل المتناهي الصغر.

أما كلمة calculus فكانت تعني أصلاً أجراً صغيراً استعمله الرومان القدامى في العد، ولكن لا يستطيع تعريف حساب التفاضل على وجه الصحيح الآن غير الراسخين فيه . وقد لمحه أرخميدس من بعيد، واقترب منه كبلر، واكتشفه فيرما ولكنه لم ينشر كشوفه، وحمل كافالييري وتوريتشيللي في إيطاليا، وبسكال وروبرفال في فرنسا، وجون واليس وإسحاق بارو في إنجلترا، وجيمس وديفد جريجوري في إسكتلندة-هؤلاء كلهم حملوا لبنات للبناء في تعاون القارة المدهش هذا. وأوصل نيوتن وليبنتز العمل إلى التمام. واقترح لفظة calculus على ليبنتز رجل يدعى يوهان برنويي أحد أفراد أسرة تفردت بوراثة النبوغ الاجتماعية تفرد آل باخ، وبروجل وكوبرين. وكان نيقولاوس برنويي (1623-1708) كأسلافه تاجراً. وارتقى الحساب التجاري عند ولده يعقوب برنويي الأول (1654-1705) إلى أشكال أرقى من الحساب. واتخذ يعقوب هذا شعاراً له القول المأثور "أنني أدرس النجوم مخالفاً إرادة أبي"، فهو الفلك، وأسهم في الهندسة التحليلية، وحسن حساب التغييرات، وأصبح أستاذاً للرياضيين في جامعة بازل. وقد آتت دراساته للمنحنيات الكتينية (وهي المنحنيات التي ترسم بسلسلة منتظمة معلقة بين نقطتين)-هذه الدراسات آتت أكلها في فترة لاحقة في تصميم الكباري المعلقة وخطوط النقل العالية الفولت. واتخذ أخوه يوهان (1667، 1748) الطب مهنته-مخالفاً خطط أبيه هو أيضاً-ثم الرياضة، وخلف يعقوب أستاذاً في بازل، وأسهم في الفيزياء، والبصريات، والكيمياء والفلك، ونظرية المد والجزر، ورياضة القلوع، وابتكر حساب التفاضل الأسي، وأنشأ أول نظام لحساب التكامل، وأدخل استعمال كلمة integral بهذا المعنى. ونال أخ آخر لهما يدعى نيقولاوس الأول (1662-1716) درجة الدكتوراه في الفلسفة وهو بعد في السادسة عشرة، وفي القانون وهو في العشرين، ودرس القانون في برن والرياضة في سانت بطرسبورج. وسنلتقي بستة رياضيين آخرين من آل برنولي في القرن الثامن عشر، وكان منهم اثنان آخران في القرن التاسع عشر، وهنا كفت البطاريات البرنويية من عملها.

ومن مآثر هذا العصر إرساء الإحصاء علماً أو ما يشبه العلم. ذلك أن خردجيا يدعى جرونت كان يتسلى بجمع سجلات الدفن المحفوظة بأبرشيات لندن ودراستها. وكانت هذه السجلات تذكر عادة السبب المتناقل لموت الميت، مثل "مات جوعاً في الشارع" و "أعدم وعصر حتى الموت" و "داء الملك" (الخنازيري) و "مات جوعاً عند مرضعته" و "قتلوا أنفسهم(16)" وفي 1662 نشر جرونت كتاباً سماه "ملاحظات طبيعية وسياسية... على سجلات الوفيات"، والكتاب بداية علم الإحصاء الحديث، وقد خلص من جداوله إلى أن ستة وثلاثين في المائة من الأطفال يموتون قبل بلوغهم السادسة، وأربعة وعشرين في المائة في العشر السنوات التالية، وخمسة عشر في المائة في العشر التالية. الخ(17)، وتبدو نسبة الوفيات في الأطفال مغالى فيها كثيراً هنا، ولكنها تومئ إلى جهد الحب في ملاحقة ملاك الموت. قال جرونت "من الوفيات العديدة ما يحمل نسبة ثابتة إلى جملة المدفونين، وأعني الوفاة بالأمراض المزمنة، والأمراض التي يعظم تعرض المدينة لها، كالسل، والاستسقاء، واليرقان، الخ(18)"، ومعنى هذا أن أمراضاً معينة، وظواهر اجتماعية أخرى، وإن تعذر التنبؤ بها في الأفراد، إلا أنها يمكن حسابها مسبقاً بدقة نسبية في الجماعات الكبيرة وهذا المبدأ الذي صاغه جرونت هنا أصح أساساً للتنبؤ الإحصائي. وقد لاحظ أن وقائع الدفن في لندن في سنوات كثيرة فاقت وقائع العماد، وانتهى إلى أن لندن تتميز بوفرة احتمالات الموت، كالموت من هموم العمل، و "الدخان، والروائح العفنة، والهواء الفاسد" و "الإفراط في الطعام" ولكن بما أن سكان لندن كانوا يتزايدون رغم هذا، فإن جرونت عزا الزيادة إلى وفود المهاجرين من الريف والمدن الصغيرة-وقدر سكان العاصمة في عام 1662 بنحو 384.000 نسمة.

وطبق السر وليم بتي، صديق جرونت، الإحصاء على السياسة. وهنا أيضاً مثال آخر على تعدد في القدرات يستحيل العثور عليه اليوم في فرد واحد، فإن بتي بعد أن تلقى العلم في كان، وأوترخت، وليدن، وأمستردام، وباريس، درس التشريح في أكسفورد، والموسيقى في كلية جريشام بلندن، وجمع ثروة ونال لقب الفروسية باشتغاله طبيباً للجيش الملكي بإيرلندة . وفي 1676 ألف كتاباً هو العمدة الثاني في علم الإحصاء الإنجليزي، وهو "الحساب السياسي" فالسياسة في رأي بتي لا يمكن أن تصبح علماً أو كالعلم إلا إذا بنت استنتاجاتها على قياسات كمية. لذلك طالب بتعداد دوري يسجل الميلاد، والجنس، والحالة الزوجية، والألقاب، والمهنة، والدين، الخ. لكل شخص يسكن إنجلترا. واعتماداً على قوائم الوفيات، وعدد البيوت، وزيادة المواليد على الوفيات سنوياً، قدر أن سكان لندن في 1682 يبلغون 696.000، وسكان باريس 488.000، وسكان أمستردام 187.000، وسكان روما 125.000. ورأى بتي ما رأى جوفاني بوتيرو في 1589 وتوماس مالثوس في 1798، وهو أن عدد السكان ينحو إلى الزيادة بأسرع من موارد الرزق، وأن هذا يفضي إلى أن الحرب، وأنه لن تحل سنة 3682 حتى تكتظ الأرض الصالحة للسكنى بأهلها اكتظاظاً خطراً، إذ يعيش شخص في كل فدانين.

وأفادت شركات التأمين من الإحصاء فحولت عملها فناً وعلماً أخذاً في حسابهما كل شيء إلا التضخم. ومن واقع تقارير الوفيات في برسلاو أعد أدموند هالي (1693) جدولاً بالوفيات المتوقعة في جميع الأعمار من عمر سنة إلى أربع وثمانين، وعلى أساس الجدول حسب احتمالات وفاة الأفراد في سن معينة خلال السنة الشمسية، واستخرج السعر المنطقي لبوليصة التأمين. وانتفعت أولى شركات التأمين على الحياة التي أسست بلندن في القرن الثامن عشر بجداول هالي، وأحالت الرياضة ذهباً.


3- الفلك

أخضعت النجوم للعلم في عشرات الأقطار. ففي إيطاليا اكتشف الفلكي اليسوعي ريتشولي (1650) أول نجم مزدوج-أي نجم يبدو للعين المجردة واحداً ولكنه يرى بالتلسكوب نجمين واضح أنهما يدوران الواحد حول الآخر. وفي دنزج بني يوهان هيفيليوس مرصداً في بيته، وصنع آلاته الخاصة، وصنف 1.564 نجماً، واكتشف أربعة مذنبات، ورصد مرور المشتري، ولاحظ ترجحات القمر، (وهي التناوبات الدورية في رؤية أجزائه)، ورسم سطحه، وسمى عدداً من تضاريسه بأسماء ما زالت تظهر على خرائط القمر إلى رومنا هذا. فلما أذاع على راصدي النجوم في أوربا أن في استطاعته تمييز مواقع النجوم باستعمال "ديوبتر" (رصد يستعمل عدسة واحدة أو منشوراً واحداً) بنفس الدقة التي يميز بها هذه المواقع باستعمال تلسكوب مركب، تحدى روبرت هوك دعواه هذه، وسافر هالي من لندن إلى دنزج ليحقق الأمر، ثم قرر أن هيفيليوس صادق(21).

ووفر لويس الرابع عشر المال لبناء وتجهيز مرصد في باريس (1667-72) بعد أن تبين أهمية الفلك للملاحة. ومن ذلك المركز قاد جان بيكار البعثات أو أرسلها لدراسة السماء من نقط مختلفة على الأرض. وذهب إلى أورانيبورج ليلاحظ الموقع المضبوط الذي رسم منه تيكو براهي خريطته المشهورة للنجوم، واستطاع بمختلف الرصود التي امتدت من باريس إلى أميان أن يقيس درجة طولية بدقة عظيمة (لا تختلف إلا بضع ياردات على الرقم الحالي وهو 69.5 ميلاً) حتى أنه من المعتقد أن نيوتن استخدم نتائج بيكار ليقدر كتلة الأرض ويتحقق من نظرية الجاذبية. وبأرصاد مماثلة حسب بيكار القطر الاستوائي للأرض فكان 7.801 ميلاً-وهو تقدير غير بعيد من تقديرنا الحالي وهو 7.913(22). وقد يسرت هذه الكشوف للمراكب في عرض البحر أن تحدد مواقعها بدقة لم يسبق لها نظير. وهكذا حفز توسع أوربا التجاري وتطورها الصناعي الثورة العلمية وانتفعا بها.

وعملاً باقتراح من بيكار دعا لويس الرابع عشر إلى فرنسا الفلكي الإيطالي جوفاني دومنيكو كاسيني، الذي ذاع صيته في أوربا بفضل اكتشافه شكل المشتري الكرواني، ودوران المشتري والمريخ الدوري. فلما وصل إلى باريس (1669) استقبله الملك كأنه أمير من أمراء العلم(23). وفي 1672 أوفد، هو وبيكار، جان ريشيه إلى كايين بأمريكا الجنوبية ليرصد المريخ في أقصى "مواجهة" له مع الشمس وقرب من الأرض، ورصد كاسيني نفس المواجهة من باريس. وقد أعطت المقارنة بين هذين الرصدين الآتيين من نقطتين منفصلتين قيماً جديدة وأكثر دقة لاختلاف منظر المريخ والشمس وبعدهما عن الأرض، وكشفت عن أبعاد في المجموعة الشمسية أعظم مما قدر من قبل. وبما أن الفلكيين تبينوا أن بندولاً في كايين يبطئ عن نظيره في باريس، فقد انتهوا إلى أن الجاذبية قرب الاستواء أخف منها في العروض العليا، وأوحى هذا بأن الأرض ليست دائرة كاملة، ورأى كاسيني أنها تفلطحت عند خط الاستواء، ورأى نيوتن أنها تفلطحت عند القطبين، وأيد المزيد من البحث رأى نيوتن، واكتشف كاسيني أثناء ذلك أربعة أقمار جديدة لزحل (ساتورن)، وانقسام حلقة زحل إلى قسمين (وهو الانقسام الذي يطلق عليه اسم كاسيني الآن). وبعد موته عام 1712 خلفه في مرصد باريس ابنه جاك، الذي قاس قوس الزوال كمن دنكرك إلى بربنيان، ونشر أول جداول لأقمار زحل.

وقد أسهم كرستيان هويجنز في لهاي إسهامات هامة في الفلك قبل أن ينضم إلى فريق العلماء العالمي في باريس. فوفق هو وأخوه قسطنطين إلى طريقة جديدة لشحذ العدسات وصقلها، واستعان بها في تركيب تلسكوبات أقوى وأصفى من أي تلسكوبات عرفت من قبل، وبفضلها اكتشف (1655) القمر السادس لزحل، وحلقة هذا الكوكب الغامضة. وبعد عام قام بأول تحديد للمنطقة اللامعة (التي تحمل اسمه الآن (في سديم أوريون وكشف عن الطابع المتعدد لنجمه النووي.

أما أعظم منافس لفلكيي باريس فهو الفريق الممتاز تجمع أكثره حول هالي ونيوتن في إنجلترا. وقد قدم جيمس جريجوري الأدنبري المعونة من بعيد بتصميمه أول تلسكوب عاكس (1663)-أي التلسكوب الذي تركز فيه أشعة الضوء المنبعثة من الجسم بوساطة مرآة منحنية بدلاً من العدسة، وقد حسنه نيوتن في 1668. وفي 1675 وجه جول فلامستيد وآخرون إلى تشارلز الثاني مذكرة يلتمسون فيها تمويل بناء مرصد قومي، حتى تهتدي السفن الإنجليزية التي تمخر عباب البحر بطرق أفضل لحساب خطوط الطول. ودبر الملك المال للبناء، الذي شيد في بلدة جرينيتش قرب القسم الجنوبي الشرقي من لندن، واستعمل هذا نقطة لطول الصفر والزمن القياسي. وقدم تشارلز لفلامستيد راتباً صغيراً على عمله مديراً، ولكنه لم يقدم مالاً تدفع منه رواتب مساعديه أو ثمن الآلات، أما فلامستيد، الهزيل العليل، فقد بذل حياته لذلك المرصد. فقبل تلاميذ يعلمهم، واشترى الآلات من جيبه الخاص، وتلقى المال هدية من أصدقائه، وعكف في صبر على رسم الخرائط للسماء كما ترى من جرينيتش. وقبل أن يموت (1719) كان قد أتم أوسع وأدق قائمة نجوم عرفت من قبل، وقد أدخلت تحسينات كثيرة على القائمة التي تركها تيكوبراهي لكبلر في 1601. وكان فلامستيد يشقى بالافتقار إلى المساعدين، ويضطر للقيام نفسه بأعداد الأوراق التي تترك عادة للمساعدين، فأغضب هالي ونيوتن بتعطيله حساب نتائجه وإذاعتها، وأخيراً نشرها هالي دون إذن من فلامستيد، فثار الفلكي العليل ثورة عارمة هزت النجوم في أفلاكها.

ومع ذلك فإن أدموند هالي كان أعظم أفراد الفريق تهذيباً. كان تلميذاً متحمساً لدراسة السماء، فنشر في العشرين بحثاً عن أفلاك الكواكب، وفي تلك السنة (1676) خرج في رحلة ليتبين كيف تبدو السماء من نصف الكرة الجنوبي. ومن جزيرة القديسة هيلانة رسم خرائط تبين مسلك 341 نجماً. وعشية عيد ميلاده الحادي والعشرين قام بأول رصد كامل لعبور عطارد. فلما عاد إلى إنجلترا انتخب زميلاً بالكلية الملكية وهو لم يجاوز الثانية والعشرين. وقد تبين عبقرية نيوتن، ومول الطبعة الأولى من كتابه "المبادئ" الغالي النفقة، وقد له بتقريظ في شعر لاتيني رائع آخره بيت يقول "غير مسموح بأي بشر فان بأن يقترب من الآلهة"(24). وحقق هالي النص اليوناني لكتاب أبللونيوس البرجاوي "المخاريط"، وتعلم العربية ليترجم الأحداث اليونانية المخطوطة في العربية دون سواها. وقد سجل اسمه في قبة السماء بنبوءة من أنجح النبوءات في التاريخ. وكان بوريللي قد مهد لها الطريق باكتشافه الشكل القطعي المكافئ لمسالك المذنبات (1665). فلما ظهر مذنب في 1682 وجد هالي في مسلكه نظائر مع مذنبات سجلت في 1456، و1531، و1607، وقد لاحظ أن هذا الظهور حدث في فترات من نحو خمسة وسبعين عاماً، وتنبأ بظهور آخر في 1758. ولم يفسح له في الأجل ليرى تحقيق نبوءته، ولكن حين عاد المذنب إلى الظهور أطلق عليه اسمه، وأضاف إلى مكانة العلم المتزايدة. وكان الرأي في المذنبات حتى أخريات القرن السابع عشر أنها من فعل الله مباشرة، وإنذار للنوع الإنساني بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولكن مقالات بيل وفونتنيل، ونبوءة هالي، قضت على هذه الخرافة. وطابق هالي بين مذنب آخر شوهد في 1680 ومذنب شوهد في السنة التي مات فيها المسيح، وتتبع تكرار ظهوره كل 575 سنة، ومن هذا الانتظام الدوري حسب فلكه وسرعته حول الشمس. وتعقيباً على هذه الحسابات، خلص نيوتن إلى أن "أجسام المذنبات صلبة، متماسكة، ثابتة، متينة، كأجسام الكواكب" وأنها ليست "أبخرة، أو دخاناً من الأرض، والشمس، والكواكب، وغيرها(25)" . وفي 1691 حيل بين هالي والكرسي السافيلي للفلك بأكسفورد للظن بأنه مادي النزعة(26). وفي 1698، بتكليف من وليم الثالث، أبحر موغلا في الأطلنطي الجنوبي، ودرس اختلافات البوصلة، ورسم خرائط للنجوم كما ترى في القارة القطبية الجنوبية (قال فولتير: إن رحلة ملاحي سفينة جاسون (الأرجونوت، الباحثين عن الفروة الذهبية) إذا قيست بهذه الرحلة لم تكن أكثر من عبور مركب من ضفة نهر إلى أخرى)(27). وفي 1718 قرر هالي أن عدة نجوم من المفروض أنها "ثابتة" قد غيرت مواقعها منذ أيام اليونان، وأن نجماً منها وهو الشعري اليمانية Sirius، قد تغير منذ أيام براهي، وبعد أن أخذ أخطاء الرصد في حسابه، خلص إلى أن النجوم تغير مواقعها بالنسبة لبعضها البعض في فترات كبرى، وهذه "الحركات الخاصة" تقبل الآن على أنها حقيقية. وفي 1721 عين خلفاً لفلامستيد في منصب فلكي الملك، ولكن فلامستيد كان قد مات في فقر مدقع، فاستولى دائنوه على أن آلات رصده، وودد هالي أن عمله يعطل نقص الأجهزة وتناقص نشاطه، ومع ذلك بدأ وهو في الرابعة والستين يرصد ويسجل ظواهر القمر خلال دورته الكاملة ذات الثمانية عشر عاماً. ومات في 1742 وقد بلغ السادسة والثمانين، بعد أن شرب بحكم قدحاً من النبيذ مخالفاً أوامر طبيبه. فالحياة، كالنبيذ سواء بسواء، يجب ألا يسرف في تعاطيها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- الأرض

كان هالي في ولعه بالعلم قد غامر بالخوض في مجاهل الأرصاد الجوية بمقال (1697) في الرياح التجارية، وخريطة رسمت لأول مرة حركات الهواء. وقد عزا هذه الحركات لفروق في درجات حرارة الجو وضغطه، فالشمس في حركتها الظاهرية إلى الغرب تحمل الحرارة معها، لا سيما على طول مناطق العالم الاستوائية، والهواء الذي تخلخل بفعل هذه الحرارة يجتذب هواء أقل تخلخلاً من الشرق ويحدث الرياح الاستوائية السائدة التي اعتمد عليها كولمبس في إبحاره من الشرق إلى الغرب. وكان فرانسس بيكون قد أومأ إلى تفسير شبيه بهذا. وسيطوره جورج هالي في 1735 بإضافة هذا الرأي وهو أن السرعة الأكبر لدوران الأرض إلى الشرق عند خط الاستواء تحدث تدفقاً عكسياً للهواء نحو الغرب.

وقد جعل تطور البارومتر والترمومتر من الأرصاد الجوية علماً. فبارومتر جويريكي تنبأ تنبؤاً صحيحاً بعاصفة شديدة في 1660. واخترعت "مراطيب" مختلفة في القرن السادس عشر لقياس الرطوبة. واستعملت "الأكاديميا ديل تشيمنتو" إناءً مدرجاً يتلقى الرطوبة المتساقطة من خارج مخروط معدني مملوء بالثلج. ووصل هوك فرشاة حبوب، أو "لحية"-تنتفخ وتنحني مع زيادة الرطوبة في الهواء-بإبرة مؤشرة تتحرك عند انتفاخ الفرشاة. كذلك اخترع هوك مقياساً للريح، وبارومتراً ذا عجلة، وساعة جوية. وهذه الساعة التي صممها بناء على تكليف من الجمعية الملكية (1678) كانت تقيس وتسجل سرعة الريح واتجاهه، وضغط الجو ورطوبته، ودرجة حرارة الهواء، وكمية المطر، وتبين الوقت فوق ذلك. وشرعت المحطات في مختلف المدن، بعد أن سلحت بالآلات المحسنة، تسجل وتقارن بين أرصادها الآنية، كما حدث بين باريس واستوكهولم في 1649. وأرسل الدوق الأكبر فرديناند الثاني أمير توسكانيا، وراعي أكاديمية التشيمنتو، البارومترات، والترمومترات، والمراطيب، إلى راصدين مختارين في باريس، ووارسو، وانزبروك، وغيرها، ومعها تعليمات بتسجيل البيانات الرصدية يومياً، وإرسال نسخة منها إلى فلورنسة للمقارنة. وأقنع ليبتز المحطات الجوية في هانوفر وكيل بأن تحتفظ بسجلات يومية من 1679 إلى 1714.

أما هوك، الذكي الذي لم يحسم عملاً، فقد فتح عشرات من مسالك البحث المبشرة بالنجاح، ولكن افتقاره إلى المال والصبر أعجزه عن المضي فيها إلى نهايات مشهورة. فنحن نجده في كل مكان في تاريخ العلم البريطاني في النصف الثاني من القرن السابع عشر. كان ابن وزير "مات بتعليق نفسه(28)"، وأرهص بتنوع مواهبه ذلك التنوع المتذبذب، فرسم الصور، وعزف على الأرغن، وابتكر ثلاثين طريقة مختلفة للطيران، وفي أكسفورد انصرف لدراسة الكيمياء، وعمل مساعداً لروبرت بويل. وفي 1662 عين "أميناً للتجارب" في الجمعية الملكية، وفي 1665 كان أستاذاً للهندسة بكلية جريشام، وفي 1666، بعد حريق لندن الكبير، اشتغل بالعمارة وصمم عدة مبان كبيرة-كبيت مونتاجيو، وكلية الأطباء، ومستشفى بيت لحم ("بدلام"). وبعد أطول إكباب على الميكروسكوبات، نشر رائعته "ميكروجرافيا" (1665) الذي احتوى على عدد من الأفكار الموحية في علم الأحياء. وعرض نظرية في الأمواج الضوئية، وساعد نيوتن في البصريات، وكان سباقاً إلى قانون المربعات العكسية ونظرية الجاذبية. وكشف النجم الخامس في أوريون، وقام بأول محاولات ليحدد بالتلسكوب اختلاف منظر نجم ثابت. ثم عرض نظرية حركية للغازات في 1678، ووصف نظاماً للتلغراف في 1684. وكان من أوائل من استعملوا الزنبرك في ضبط الساعات، وأرسى مبدأ آلة السدس لقياس أبعاد الزاوية، وصنع اثنتي عشرة آلة علمية. وأغلب الظن أنه كان أعظم العقول أصالة في كوكبة العباقرة التي جعلت من الجمعية الملكية حيناً محدد الخطوة للعلم الأوربي، ولكن طبيعته المكتئبة العصبية حالت بينه وبين ما كان جديراً به من ثناء ومديح.

وقد كان له حتى في الجيولوجيا لحظة صدق. فقد زعم أن المتحفرات تدل على قدم الأرض والحياة قدماً يتعارض تماماً مع سفر التكوين، وتنبأ بأن تاريخ الحياة على الأرض سيحسب يوماً ما على أساس المتحفرات المختلفة في الطبقات المتعاقبة. وكان أكثر كتاب القرن السابع عشر لا يزالون يقبلون قصة الخلق الكتابية، وكافح بعضهم للتوفيق بين سفر التكوين وكشف الجيولوجيا المتفرقة. وفي مقال "نحو تاريخ طبيعي للأرض" (1695)، أعاد جون وودوارد، بعد دراسة طويلة لمجموعته الكبيرة من المتحفرات، تفسير ليوناردو دافتشي لها بأنها بقايا نباتات أو حيوانات عاشت يوماً ما على الأرض، ولكنه هو أيضاً ذهب إلى أن توزيع المتحفرات نتيجة لطوفان نوح. ثم اقترح قسيس أنجليكاني يدعى توماس بيرنيت (1680) التوفيق بين سفر التكوين والجيولوجيا بمدة "أيام" أسطورة الخليقة كما وردت في سفر التكوين إلى حقب، وتقبل الناس هذه الحيلة، ولكن حين استجمع توماس أطراف شجاعته وراح يفسر قصة آدم على أنها رمز، وجد نفسه محروماً من الترقية للمناصب الكنسية.

وكان أثناسيوس كيرشر يسوعياً تقياً وعالماً فذاً، وسنراه يلمع في ميادين عديدة. وقد رسم كتابه، عالم ما تحت الأرض "(1665) خرائط لتيارات المحيط، ورأى أن المجاري الباطنية يغذيها البحر، وعزا ثوران البراكين والعيون الساخنة لنيران باطنية، وبدا هذا تأكيداً للاعتقاد الشائع بأن الجحيم في مركز الأرض. أما بيير بيرو (1674) فقد رفض الفكرة القائلة بأن العيون والأنهار لها منابع باطنية، وقال بالرأي المقبول الآن، وهو أنها نتاج الأمطار والثلوج. وعلل مارتن لستر ثوران البراكين بأنه نتيجة سخونة الكبريت في كبريتور الحديد والانفجار المترتب على السخونة، وأظهرت التجربة أن خليطاً من برادة الحديد، والكبريت، والماء، مدفوناً في الأرض، أصبح ساخناً وشقق الأرض من فوقه، ثم تنفجر لهيباً.

أما ألمع العلماء في جيولوجية ذلك العصر فقد عرفته الدنمرك باسم نيلز ستينسن، وعرفته دولية العلم باسم نيقولاوس ستينو. ولد في كوبنهاجن، ودرس الطب فيها وفي ليدن، حيث سلك سبينوزا في زمرة أصدقائه(29). ثم هاجر إلى إيطاليا، واعتنق الكاثوليكية وأصبح طبيب البلاط لفرديناند الثاني في فلورنسة. وفي 1669 نشر مجلداً صغيراً اسمه Desolido intra solidum naturaliter contento عده أحد الطلبة "أهم وثيقة جيولوجية في ذلك القرن(30)" وكان هدفه تأكيد الرأي الجديد في المتحفرات، ولكن على سبيل التمهيد له وضع ستينو لأول مرة أسساً تشرح تطور القشرة الأرضية. وقد وجد بدراسة جيولوجية توسكانيا ست طبقات متعاقبة. وحلل تركيبها ومحتوياتها، وتكوين الجبال والأودية، وأسباب البراكين والزلازل، وشواهد المتحفرات على مستويات الأنهار والبحار التي كانت أعلى فيما سبق من الأزمنة. وكان في الشهرة التي حظي بها الكتاب، وفي الدراسات التشريحية التي قام بها ستينو، ما حمل الملك كرستيان الرابع على أن يعرض عليه كرسي التشريح في جامعة كوبنهاجن. فقبله، ولكن كاثوليكيته الغيور أحدثت شيئاً من الاحتكاك، فعاد إلى فلورنسة، وانتقل من العلم إلى الدين، واختتم حياته أسقفاً لتيتوبوليس ونائباً رسولياً لشمالي أوربا.

وكانت الجغرافيا خلال ذلك تنمو، عادة بوصفها نتاجاً جانبياً للمشروعات التبشيرية أو العسكرية أو التجارية، وقد أخلص اليسوعيين للعلم إخلاصهم للدين أو السياسة تقريباً، وكان كثير منهم ينتمون إلى جماعات علمية رحبت بتقاريرهم الجغرافية والأثنوغرافية. وقد تغلغلوا في بعثاتهم الدينية في كندا والمكسيك والبرازيل والتبت ومنغوليا والصين وجمعوا وأرسلوا الكثير من المعارف العلمية، ورسموا أفضل الخرائط للمناطق التي زاروها. وفي 1651 نشر مارتينو مارتيني "الأطلس الصيني" وهو أرقى وصف جغرافي للصين طبع إلى ذلك التاريخ، وفي 1667 أصدر أثناسيوس كيرشر كتابه الرائع "الصين المصورة". وأوفد لويس الرابع عشر علماء يسوعيين مزودين بأحدث الآلات لرسم خريطة الصين ثانية، وفي 1718 أصدروا خريطة هائلة في 120 فرخاً تغطي الصين ومنشوريا ومنغوليا والتبت، وقد ظلت مدن قرنين الأساس لكل ما تلاها من خرائط لتلك المناطق. أما أعجوبة العصر الخرائطية فهي الخريطة التي بلغ قطرها أربعة عشرين قدماً، والتي رسمها جوفاني كاسيني ومساعده بالجير على أرضية مرصد باريس (حوالي 1690)، وبينوا عليها بالضبط مواقع جميع الأماكن الهامة على الكرة الأرضية بخطوط العرض والطول.

وينتمي لهذه الفترة بعض مشاهير الرحالة. وقد ألمن من قبل بكتاب تافرنييه "ست رحلات من أوربا لآسيا" (1670) وكتاب شاردان "رحلات في فارس" (1686). كتب تافرنييه يقول "في رحلاتي الست، وأثناء سفري بطرق مختلفة، أتيح لي من الفراغ والفرص ما مكنني من مشاهدة تركيا كلها، وفارس كلها، والهند كلها... وفي المرات الثلاث الأخيرة جاوزت نهر الجنج إلى جزيرة جاوة، وهكذا قطعت في أربعين عاماً أكثر من ستين ألف فرسخ بالبر(32)". أما شاردان فقد سبق بعبارة واحدة "روح قوانين" مونتسكيو. قال: "إن مناخ كل جنس... هو دائماً السبب في ميول شعبه وعاداته(33)". وفي 1670-71 نشر فرانسوا برنيبه وصفاً لرحلاته ودراساته في الهند، وقد اتهم بأنه نفض عنه مسيحيته في الطريق(34). وغامر وليم دامبييه بالرحلة في عشرات الأقطار والبحار، وكتب "رحلة جديدة حول العالم" (1697) وأعطى إشارة البدء لديفو حين روى كيف قاد في إحدى رحلاته الأخيرة السفينة التي أنقذت ألكسندر سيلكرك من جزيرة لا يسكنها غيره (1709). ولعبت الجغرافيا دورها في الغض من اللاهوت المسيحي. فكلما تجمعت الأخبار عن القارات الأخرى لم تملك الطبقات الأوربية المتعلمة إلا العجب من اختلاف الأديان على ظهر الأرض، والتشابه بين الخرافات الدينية، ووثوق كل دين من صدق عقيدته، والمستوى الخلقي للمجتمعات الإسلامية أو البوذية، ذلك المستوى الذي أخزى من بعض الوجوه تلك الحروب الدامية وذلك التعصب القتال الذي يشين شعوباً وهبت الإيمان المسيحي. وروى البارون دلاهونتان أنه في رحلته في كندا عام 1683 لقد عنتا من جراء نقد الوطنيين اليهود للمسيحية(35)، واستشهد بيل المرة بعد المرة بعادات الصينيين أو اليابانيين وأفكارهم في نقده المعتقدات وأساليب العيش الأوربية. وأصبحت نسبية الأخلاق من البديهيات في فلسفة القرن الثامن عشر، ووصف أحد الظرفاء أسفار "جاك سيدان" الخنثي، الذي ابتهج حين وجد بلداً كل أهله لوطيون، ينظرون إلى الأوربيين الذين يشتهون الجنس الآخر نظرتهم إلى هولات فاسقة مقززة.


5- الفيزياء

كان اصطدام الفيزياء والكيمياء بالعقيدة القديمة أقل ظهوراً من اصطدام الجغرافيا والأحياء بها، لأنهما تتناولان الجوامد والسوائل والغازات التي تبدو أنها لا علاقة لها باللاهوت، ولكن تقدم العلم-حتى في ذلك المضمار المادي-كان ينشر حكم القانون ويضعف الإيمان بالمعجزات. واعتمدت دراسة الفيزياء على الحاجات التجارية والصناعية لا على الاهتمامات الفلسفية.

وبعد أن أقنع الملاحون الفلكيين برسم خرائط للسماء بدقة أكثر، عرضوا الآن المكافآت على من يضع ساعة تعين على إيجاد خط الطول رغم اضطرابات البحر. وكان في الإمكان تحديد خط الطول في البحر بمقارنة لحظة شروق الشمس أو الزوال بالزمن الذي تظهره في تلك اللحظة ساعة ضبطت على وقت جرينتش أو باريس، ولكن ما لم تكن الساعة دقيقة فإن الحساب يخطئ خطأً خطراً. وفي 1675 توصل هويجنز إلى صنع ساعة يعتمد عليها بوصل بندول بترس شاكوش مسنن، ولكن ساعة كهذه عديمة النفع في مركب يعلو ويهبط . وبعد محاولات كثيرة، ركب هويجنز ساعة بحرية ناجحة بإحلاله محل البندول ترس توازن يديره زنبركان. وكانت الفكرة من بين الاقتراحات المنيرة التي فصلها في كتاب من عيون العلم الحديث "ساعة البندول"، وقد نشره في باريس عام 1673. وبعد ثلاث سنوات اخترع هوك شاكوش الساعات الكبيرة المثبت، واستعمل الزنبرك اللولبي على ترس توازن الساعات، وشرح حركة الزنبرك على أساس مبدأ "كما يكون الشد تكون القوة" وما زال هذا يسمى قانون هوك. وأمكن الآن أن تصنع ساعات الجيب صناعة أكفأ وأرخص من ذي قبل. وقد درس هويجنز في كتاب "ساعة البندول Horologium وفي كتيب خاص قانون القوة المركزية الطاردة-ومؤداه أن كل جزيء في جسم دائر لا يقع في محور الدوران معرض لقوة طرد مركزية تزداد مع بعده عن المحور ومع سرعة الدوران. وصنع كرة من طفل تدور بسرعة، ووجد أنها تتخذ شكلاً كروانياً مفرطحاً عند طرفي المحور. وعلى مبدأ الطرد المركزي هذا فسر فرطحة المشتري عند قطبيه، وقياساً على ذلك استنتج أن الأرض أيضاً لا بد أن تكون مفرطحة فرطحة طفيفة عند القطبين.

وواصل كتاب هويجنز Tractatus de Motu Corporum ex Percussione (1703) الذي نشر بعد موته بثماني سنوات، الدراسات التي قام بها جاليليو، وديكارت، وواليس في مشكلات التصادم (impact) التي تناولت أسراراً مثيرة للفضول، من لعب البليارد إلى تصادم النجوم. فكيف تنتقل القوة من جسم متحرك إلى جسم يضربه، ولم يحل هويجنز اللغز، ولكنه قرر مبادئ أساسية:

  1. إذا كان هناك جسم ساكن وصدمه جسم مساو له، فإن هذا ينتهي إلى السكون بعد الصدمة، في حين يكتسب الجسم الذي كان في البدء ساكناً سرعة الجسم الذي صدمه.
  2. إذا اصطدم جسمان متساويان بسرعتين مختلفتين، فإنهما يتحركان بعد الصدمة بسرعتين متبادلتين.
  3. إذا تصادم جسمان فإن مجموع حاصل ضرب الكتلتين في مربعي سرعتيهما واحد قبل الصدمة وبعدها.

وقد عبرت هذه القضايا التي صاغها هويجنز في 1669 تعبيراً جزئياً عن أشمل أساس من أسس الفيزياء الحديثة، وهو عدم فناء الطاقة. على أنها كانت صادقة من الناحية المثالية أو النظرية فقط، لأنها افترضت المرونة التامة في الأجسام. ولما لم يكن في الطبيعة جسم مرن مرونة كاملة، فإن السرعة النسبية للأجسام الصادمة تتناقض حسب المادة التي تتألف منها. وقد حدد نيوتين معدل التناقض هذا في الخشب، والفلين، والصلب، والزجاج، في التعليق التمهيدي للجزء الأول من كتابه "المبادئ" (1687).

وتدفق نهر آخر من أنهار البحث العلمي من التجارب التي أجراها توريتشللي وبسكال على الضغط الجوي، فقد أعلن بسكال في 1647 أن "أي إناء مهما كان كبره، يمكن إفراغه من كل مادة معروفة في الطبيعة ومدركة بالحواس(37)" وقد ظلت الفلسفة الأوربية مئات السنين تعلن أن "الطبيعة تكره الفراغ"، وحتى الآن أخبر أستاذ باريسي بسكال أن الملائكة ذاتها لا تستطيع أن تحدث فراغاً، وقال ديكارت بازدراء أن الفراغ الوحيد الموجود هو في رأس بسكال. ولكن حدث حوالي عام 1650 أن أوتو فون جويريكي ركب في مجدبورج مضخة هوائية أحدثت فراغاً كاملاً تقريباً، حتى لقد أدهش كبار مواطنيه وأقطاب العلم بتجربة شهيرة اسمها "نصفاً كرة مجدبورج" (1654). ففي حضرة الإمبراطور فرديناند الثالث والديت الإمبراطوري في راتزيون قرب محارتين نصف كرويتين من البرونز الواحدة من الأخرى بحيث أحكم ختمها دون أن يوصلاً آلياً عند حافتيهما وضخ كل الهواء تقريباً من داخليهما الملتصقين، ثم أرى الحاضرين أن القوة المجتمعة لستة عشر حصاناً-ثمانية منها تشد في اتجاه، وثمانية في اتجاه مضاد-لا تستطيع فصل نصفي الكرة، ولكن حين فتح بحبس في أحد النصفين فأدخل الهواء، أمكن فصل المحارتين باليد.

وكان جويريكي شغوفاً بتبسيط الفيزياء للأباطرة. فاستطاع بتفريغ كرة نحاسية من الماء والهواء أن يجعلها تسقط بفرقعة عالية مفزعة، وبهذه الطريقة أوضح ضغط الهواء. ووازن بين كرتين متساويتين، وأسقط إحداهما بتفريغه الهواء من الأخرى، وهكذا أثبت أن للهواء وزناً، واعترف بأن كل الفراغات ناقصة، ولكنه أثبت أن في فراغاته الناقصة تلك تنطفئ الشعلة، وتختنق الحيوانات، وتسكت الساعة الدقاقة، وهكذا مهد للكشف عن الأوكسجين، وبين أن الهواء ناقل الصوت. واستعمل امتصاص الفراغ لضخ الماء ورفع الثقال، وأسهم في التمهيد للآلة البخارية. فلما أصبح عمدة مجدبورج آخر نشر كشوفه حتى عام 1672، ولكنه أبلغها لكاسبار شوت أستاذ الفيزياء اليسوعي بفورتزبورج، الذي طبع وصفاً لها في 1657. وهذا المطبوع هو الذي حفز بويل إلى بحوثه التي أفضت إلى قانون الضغط الجوي.

أما روبرت بويل فكان عاملاً هاماً في ازدهار العلم الإنجليزي في النصف الثاني من القرن السابع عشر. كان أبوه رتشرد بويل، ايرل كورك، قد أقتني ضيعة كبيرة في إيرلندة، ورث روبرت معظمها وهو في السابعة عشرة (1644)، وفي زياراته المتكررة للندن تعرف إلى واليس، وهوك، ورن، وغيرهم من أعضاء "الكلية غير المنظورة"، فلما افتتن بجهودهم وتطلعاتهم انتقل إلى أكسفورد وبنى بها مختبراً (1654). وكان رجلاً ذا حماسات حارة وورع لا قبل لعلم من العلوم بتدميره. فقد رفض أن يمضي في الاتصال بسبينوزا (عن طريق أولدنبورج) حين علم أن الفيلسوف يعبد "الجوهر" باعتباره الله، ولكنه وضع قدراً كبيراً من ثروته في خدمة العلم وأعان الكثيرين من أصحابه. كان طويلاً، نحيلاً، هزيلاً معتلاً أكثر الوقت، ولكنه أوقف الموت على مبعدة منه بالحمية والتقشف الصارمين، وقد وجد في مختبره "ماء نهر النسيان، ذلك الماء الذي ينسيني كل شيء إلا بهجة إجراء التجارب(38)".

وبعد أن سمع بويل بمضخة جويريكي الهوائية، صمم بمساعدة هوك (1657) "آلة هوائية" لدراسة خواص الغلاف الغازي. وبهذه الآلة وما تلاها من مضخات أثبت أن عمود الزئبق في البارومتر يسنده الضغط الجوي، وقاس بالتقريب كثافة الهواء. وزاد على تجربة جاليليو المزعومة في بيزا بإثباته أن حزمة الريش تسقط بنفس سرعة سقوط الحجر، حتى في فراغ غير كامل. وبرهن على أن الضوء لا يتأثر بالفراغ، وإذن فهو لا يستعمل الهواء كما يستعمله الصوت وسيطاً لانتقاله، وأيد برهان جويريكي على أن الهواء لا غنى عنه للحياة "فحين أغمي على فأر في الحجرة المفرغة، أوقف التجربة وأنعشه بإدخال الهواء). ونحن نرى دولية العلم في تحركها حين نعلم أن جويريكي حفزته جهود بويل ليصمم مضخة هوائية أفضل ويستأنف دراساته العلمية، وأن هويجنز، بعد زيارته لبويل عام 1661، أغرى بصنع آلات شبيهة والقيام باختبارات مماثلة.

ومضى بويل في أبحاثه الخلاقة في الانكسار، والبلورات، والأوزان النوعية، والهيدروستاتيكا، والحرارة. وتوج إسهاماته في الفيزياء بصياغة القانون الذي يحمل اسمه: وهو أن ضغط الهواء أو أي غاز يتناسب تناسباً عكسياً مع حجمه-أو أن ضغط الغاز مضروباً في حجمه يكون ثابتاً عند درجة حرارة ثابتة. وقد أذاع هذا المبدأ أول مرة في 1662، وفي سماحة وكرم نسب الفضل فيه إلى تلميذه وتشرد تاونلي. وكان هوك قد توصل إلى الصيغة ذاتها في 1660 بتجارب مستقلة، ولكنه لم يذعها إلا في 1665. وتوصل قس فرنسي يدعى ادمي ماريوت في نحو الوقت الذي توصل فيه بويل إلى نتيجة مماثلة، وهي "أن الهواء ينضغط حسب الثقل الواقع عليه"، ونشر هذا في 1676، واسمه لا اسم بويل هو المرتبط في القارة بقانون الضغط الجوي. وأياً كان صاحب الفضل في القانون، فإنه كان من أسلاف الآلة البخارية والثورة الصناعية.

وتابع بويل وهوك رأي بيكون في أن "الحرارة حركة تمدد لا في الجسم كله بشكل منتظم، بل في أجزائه الصغرى(39)". وقد وصف هوك الحرارة بأنها "خاصية تنشأ في جسم ما من حركة أجزائه أو هيجانها"، وميز بينها وبين النار واللهب، اللذين نسبهما إلى فعل الهواء في الأجسام المحماة. قال "كل الأجسام لها درجة ما من الحرارة فيها" وذلك لأن "أجزاء جميع الأجسام وإن لم تكن شديدة الصلابة إلا أنها تتذبذب قطعاً(40)"، أما البرودة فليست إلا مفهوماً سلبياً. وسلي ماريوت أصحابه حين أراهم أن "البرودة" يمكن أن تحترق، فبلوح مقعر من الثلج ركز ضوء الشمس على البارود فانفجر. وقد أذاب الكونت ايرنفريد فالتر فون تشيرنهاوس، صديق سبينوزا، الخزف الصيني والريالات الفضية بتركيزه ضوء الشمس عليها.

وفي فيزياء الصوت برهن إنجليزيان-هما وليم نوبل وتوماس بيجوت-كل على حدة (نحو 1673) على أن أجزاء مختلفة من الوتر، لا الوتر كله فحسب، قد تتذبذب بنغمات توافقية، تجاوباً مع وتر قريب ومتصل، ينقر أو يضرب أو يثني. وقد اقترح ديكارت هذا على ميوسين، وعملاً بهذه الفكرة توصل جوزف سوفير، مستقلاً إلى نتائج شبيهة بما توصل إليه الإنجليزيان (1700)، ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن سوفير، الذي كان أول من استعمل كلمة acoustics "السمعيات"، كان أصم وأبكم منذ ولادته(41). وفي 1711 اخترع جون شور الشوكة الرنانة. وقام بوريللي، وففياني، وبيكار، وكاسيني، وهويجنز، وفلامستيد، وبويل، وهالي، ونيوتن، بمحاولات في هذه الفترة لإيجاد سرعة الصوت. وكان أقرب تقدير لتقديرنا الحالي هو تقدير بويل، الذي قرر أنها تبلغ 1.126 قدماً في الثانية. وقرر وليم ديرام (1708) أن هذه المعرفة يمكن الانتفاع بها في حساب بعد العاصفة بملاحظة الفترة بين وميض البرق والصاعقة.

ولعل النصف الثاني من القرن السابع عشر أزهى فترة في تاريخ فيزياء الضوء، فأولاً، ما هذا الضوء؟ لقد غامر هوك، وهو المستعد دائماً للتنقيب عن الصعوبات، برأي يزعم أن الضوء "ليس إلا حركة خاصة لأجزاء الجسم المضيء(42)"-أي أن الضوء لا يختلف عن الحرارة إلا في الحركة الأسرع التي تتحركها الجزيئات المكونة للجسم. ثانياً، ما مدى سرعة تحركه؟ لقد افترض العلماء إلى ذلك الحين أن سرعة الضوء غير محدودة، وحتى هوك المغامر قال أنها على أية حال أكبر من أن تقاس. وفي 1675 برهن فلكي دنمركي يدعى أولاوس رويمر، استقدمه بيكار إلى باريس، على سرعة الضوء المحدودة، إذا لاحظ أن فترة خسوف أقرب التوابع إلى قلب المشتري تتفاوت حسب اقتراب الأرض أو ابتعادها من ذلك الكوكب. وقد أثبت بحسابات مبنية على زمن دورة التابع وقطر فلك الأرض، أن التفاوت في زمن الخسوف الملحوظ راجع إلى الزمن الذي يستغرقه الضوء من التابع ليقطع فلك الأرض، وعلى هذا الأساس الهزيل حسب سرعة الضوء بنحو 120.000 ميل في الثانية (وتقديرنا الحالي يبلغ 186.000 ميل).

ولكن كيف ينتقل الضوء؟ أيتحرك في خطوط مستقيمة، إذا كان الأمر كذلك فكيف يدور حول الزوايا؟ لقد اكتشف فرنانشسكو جريمالدي، الأستاذ اليسوعي ببولونيا، (1665) ظاهرة الانحراف وسماها-وهي أن أشعة الضوء المارة من ثقب صغير إلى حجرة مظلمة تنشر على الحائط المواجه باتساع أكبر مما تنتجه الخطوط المستقيمة من المصدر إلى الحائط، وأن أشعة الضوء تنحرف انحرافاً طفيفاً عن الخط المستقيم حين تمر بأطراف جسم معتم، وقد أفضت هذه الكشوف وغيرها بجريمالدي إلى قبول الرأي الذي ألمع إليه ليوناردو دافنشي، وهو أن الضوء يتحرك في موجات متسعة. ووافق هوك، ولكن هويجنز هو الذي أثبت نظرية الموجات التي ما زالت شائعة بين الفيزيائيين. وفي كتاب آخر من عيون العلم الحديثة يدعى "رسالة في الضوء" (1690) أورد هويجنز النتائج التي توصل إليها من دراسة بدأت قبل اثنتي عشرة سنة: وهي أن الضوء تنقله مادة افتراضية سماها "الأثير" (عن المرادف اليوناني للسماء)، وتصور أنها تتألف من أجسام صغيرة، قاسية، مرنة، تنقل الضوء في موجات دائرية متعاقبة تنشر خارجة من المصدر المضيء. وعلى هذه النظرية أسس قوانين الانعكاس، والانكسار المزدوج، وعزا للحركة المغلفة للأمواج قدرة الضوء على الحركة حول الأركان والأجسام المعتمة، وفسر الشفافية بأن افترض أن جزيئات الأثير من الدقة بحيث تستطيع أن تسافر حول الجزيئات التي تؤلف السوائل والجوامد الشفافة وبينها. ولكنه اعترف بعجزه عن تعليل الاستقطاب، وهذا من أسباب رفض نيوتن لفرض الموجات وتفضيله نظرية الجريئات الضوئية.

ولم يحرز القرن السابع عشر غير تقدم كتواضع في دراسة الكهرباء بعد العمل الذي قام به جلبرت وكيرشر في ميدان المغناطيسية، وكابيو في التنافر الكهربي. وقد درس هالي تأثير المغنطيسية الأرضية في إبر البوصلة، وكان أول من تبين الصلة بين مغنطيسية الأرض والفجر الكاذب، aurora borealis (1692). ووصف جويريكي في 1672 بعض تجاربه في كهرباء الاحتكاك. فالكرة من الكبريت، بعد أن أديرت على يده، جذبت الورق، والريش، وغيرهما من الأجسام الخفيفة، وحملتها معها في دورانها، وقد ربط بين هذا وبين حركة الأرض إذ تحمل معها الأجسام التي على سطحها أو بقربه. وتحقق من التنافر الكهربي إذا أثبتت أن الريشة إذا وضعت بين الكرة المكهربة وأرضية الحجرة تقفز إلى أعلى وأسفل من الواحدة إلى الأخرى. وكان رائداً في دراسة التوصيل، إذ برهن على أن الشحنة الكهربية تستطيع أن تسافر على خيط من الكتان، وأن الأجسام يمكن أن تتكهرب بتقريبها من الكرة المكهربة. وقد ابتكر فرانسس هوكسبي، عضو الجمعية الملكية (1705-9) طريقة أفضل لتوليد الكهرباء بإدارته كرة زجاجية مفرغة دوراناً سريعاً، ثم وضعها على يده، وقد انبعث من الاحتكاكات شر طوله بوصة أحدث ضوءاً يكفي للقراءة. وشبه إنجليزي آخر يدعى وول، صوت وضوء شرر مماثل أحدثه، بالرعد والبرق (1708). وعقد نيوتن نفس المقارنة في 1716، وأكد فرانكلن العلاقة في 1749. وهكذا نرى الكون الهائل المستغلق، سنة بعد سنة، وعقلاً بعد عقل، يفضي بنتفه مغرية من سره المكنون.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

6- الكيمياء

شهد هذا القرن الرائع علم الكيمياء يتطور من تجارب الخيمياء وأوهامها. وكانت الصناعة منذ زمن تجمع المعرفة الكيميائية عن طريق عمليات صهر الحديد، ودبغ الجلود، ومزج الأصباغ، وتخمير الجعة، ولكن فحص المواد في تركيبها، واتحادها، وتحولها، كان في أغلبه متروكاً للمشتغلين بالخيمياء الباحثين عن الذهب، أو للصيادلة المجهزين للعقاقير. أو للفلاسفة-من ديموقريطس إلى ديكارت-الحائرين في تركيب المادة. وقد حاول اندرياس ليبافيوس في 1597، وجان فان هيلمونت في 1640، الدخول إلى علم الكيمياء، ولكن كلا الرجلين شارك الخيميائيين أملهم في تحويل المعادن "الخسيسة" ذهباً. وقام بويل نفسه بتجارب بهذا الهدف. ففي 1689 حصل على إلغاء لقانون إنجليزي قديم ضد "تكثير الذهب والفضة(43)"، وعند وفاته (1691) خلف لمنفذي وصيته كمية من التراب الأحمر وتعليمات بمحاولة تحويلها إلى ذهب(44). والآن وقد أصبح تحويل المعادن "كلشيها" للكيمياء، فإن في وسعنا أن نشيد بالعلم الذي انطوت عليه الخيمياء بما ندين اللهفة على الذهب ونخيفها.

وكانت أعظم لطمة وجهت إلى الخيمياء هي نشر كتاب بويل "الكيميائي الشكاك" (1661) وهو أول كتاب من عيون تاريخ الكيمياء. وقد اعتذر فيه عن "السماح" لبحثه هذا "بأن يذاع وهو مبتور ناقص على هذا النحو(45)". ولكنه-وهو يعاني من علل كثيرة-عديم الثقة في أنه سيعمر طويلاً. على أن مما يعزيه "أن يلحظ أن الكيمياء بدأت أخيراً تحظى بما هي جديرة به حقاً من رعاية العلماء الذين كانوا من قبل يحتقرونها(46)". ووصف كيمياءه بأنها شكاكة لأن من رأيه رفض جميع التفسيرات الغيبية والخصائص السحرية لأنها "محراب الجهل" وهو مصمم على الاعتماد على "التجارب لا الأقيسة المنطقية(47)". وقد هجر ذلك التقسيم التقليدي للمادة إلى العناصر الأربعة، الهواء، والنار، والماء، والتراب: وقال إن هذه مركبات لا عناصر، أما العناصر الحقيقية فهي على الأصح "أجسام معينة بدائية وبسيطة، أو غير مختلطة إطلاقاً، ولأنها ليست مؤلفة من أي أجسام أخرى أو من بعضها البعض" فهي المكونات لجميع المركبات، ويمكن أن تحلل إليها كل المركبات. ولم يقصد أن العناصر هي المكونات النهائية للمادة، فهذه العناصر الطبيعية المتناهية الصغر هي في رأيه جزيئات دقيقة لا ترى بالعين المجردة، مختلفة شكلاً وحجماً، كذرات لوكيبوس. ومن تنوع هذه الجزيئات وتحركها، ومن اتحادها في "كريات"، تنشأ كل الأجسام، وكل صفاتها وأحوالها، كاللون، والمغنطيسية، والحرارة، والنار، وذلك بطرق وقوانين ميكانيكية خالصة. وقد استهوت النار العلماء استهواءها للحالمين عند المدافئ. فما الذي يجعل المادة تحترق؟ وما تفسير هذه الألسنة الدائمة التغير من اللهب الجميل، العاتي، الرهيب؟ في سنة 1669 رد كيميائي ألمانييدعى يوهان بيشير كل "العناصر" إلى عنصرين-الماء والتراب، وسمى شكلاً من أشكال التراب، "التراب الزيتي"، الذي اعتقد بوجوده في جميع الأجسام القابلة للاشتعال، وهذا هو الذي يحترق. وفي القرن الثامن عشر سنرى جيورج شتال-الذي اتبع هذا الرأي الخاطئ-ينحرف بالكيمياء عشرات السنين بنظرية مماثلة هي نظرية اللاهوب Phlogiston. على أن بويل سلك مسلكاً آخر. فقد لاحظ أن مواد محترقة مختلفة تكف عن الاحتراق في الفراغ، فاستنتج أن "في الهواء جوهراً حيوياً صغيراً... يعين على إنعاش حيويتنا واسترجاعها(48)". وتقدم معاصره الأصغر جون مايوو، وكان هو أيضاً ينتمي للجمعية الملكية، (1547) صوب نظريتنا الحالية عن النار بأن افترض أن من بين مكونات الهواء مادة تتحد بالمعادن حين تتكلس (تتأكسد)، واعتقد أن مادة مماثلة تدخل أجسامنا فتغير الدم الوريدي إلى دم شرياني. وكان لا بد أن تنقضي مائة عام قبل أن يكتشف شيل وبريستلي الأوكسجين نهائياً.

وحوالي عام 1670 اكتشف كيميائي ألماني يدعى هينيج براند أن في استطاعته أن يحصل من بول الإنسان على مادة كيميائية تتوهج في الظلام دون تعريض تمهيدي للضوء. وعرض كيميائي من درسدن يدعى كرافت هذا النتاج الجديد أمام تشارلز الثاني بلندن في 1677. ولم يستطع بويل أن يستخلص من كرافت المتكتم إلا الاعتراف بأن المادة المضيئة "شيء ينتمي إلى جسم الإنسان(49)". وكان في الإشارة ما يكفي، فسرعان ما حصل بويل على كميته من الفوسفور، وأثبت بسلسلة من التجارب كل ما نعرفه إلى الآن عن توهج ذلك العنصر. وكان النتاج الجديد يكلف المشترين ست جنيهات (315 دولاراً؟) للأوقية رغم وفرة مصدره.


7- التكنولوجيا

كانت الصناعة-إلى القرن التاسع عشر-تحفز العلم أكثر مما يحفز العلم الصناعة، وكانت المخترعات إلى القرن العشرين تخترع في المختبر أقل مما تخترع في المتجر أو الحقل. ولعل العمليتين سارتا جنباً إلى جنب في أهم الحالات جميعاً، وهي تطوير الآلة البخارية وقد صنع هيرو الاسكندري، في القرن الثالث الميلادي أو قبله، عدة آلات بخارية، ولكنها على قدر علمنا كانت تستعمل لعباً أو عجائب تسلي الجماهير أكثر منها أجهزة تحل محل الطاقة البشرية. وفي أوائل القرن السادس عشر وصف ليوناردو دافنتشي بندقية تستطيع بضغط البخار أن تدفع مسماراً حديدياً مسافة ألف ومائتي ياردة، ولكن مخطوطاته العلمية لم تنشر إلا عام 1880. وقد ترجمت بعض كتابات هيرو اليونانية إلى اللاتينية في 1757، وإلى الإيطالية في 1589.

وذكر جيروم كاردان (1550) وجامباتستا ديللا بورتا (1601) أن في الإمكان إحداث فراغ بتكثيف البخار، ووصف بورتا آلة لاستخدام ضغط البخار لرفع عمود الماء. ومثل هذه الاستخدامات للبخار المتمدد اقترحها سالومون دكاوس بباريس في 1615 وبرانكا بروما في 1630. وحصل ديفد رامسي من تشارلز الأول ملك إنجلترا على براءة بآلات "لرفع الماء من الحفر المنخفضة بالنار... وتشغيل أي نوع من المصانع على المياه الساكنة بالحركة المستمرة، دون مساعدة من الرياح أو الأثقال أو الخيل(50)". وفي 1663 حصل إدوارد سومرست، مركيز ورستر، من البرلمان على احتكار مدته تسعة وتسعون عاماً لـ "أعجب عمل في العالم كله"-وهو "آلة تتحكم في الماء" ترفع الماء لارتفاع أربعين قدماً(51)، وبهذه الآلة أراد أن يشغل المصانع المائية لجزء كبير من لندن، ولكنه مات قبل أن ينفذ خطته. وحوالي 1675 اخترع صموئيل مورلاند، كبير ميكانيكية تشارلز الثاني، المضخة الكابسة، وفي 1685 نشر أول وصف دقيق لقوة تمدد البخار. وفي 1680 صنع هوبجنز أول آلة غازية باسطوانة ومكبس تدار بالقوة الممدة للبارود المتفجر.

وذهب دنيبابان، المساعد الفرنسي لهويجنز، إلى إنجلترا واشتغل مع بويل، ونشر عام 1681 وصفاً لـ "مهتضمة digester"-وهي حلة ضغط لتطرية العظم بماء يغلي في إناء مقفل. ولكي يمنع انفجار الإناء وصل بقمته أنبوبة مكن أن تفتح إذا بلغ الضغط نقطة معينة، وقد لعب "صمام الأمن" الأول هذا دوراً منقذاً في تطوير الآلة البخارية. وزاد بابان على ذلك بأن ثبت أن قوة البخار يمكن نقلها غازياً بأنبوبة من مكان لآخر. ولما انتقل إلى ماربورج بألمانيا عرض (1690) أول آلة استعمل فيها تكثيف البخار، الذي يحدث فراغاً، لدفع مكبس. وقد ألمع إلى قدرات هذه الآلة على قذف القنابل، ورفع المياه من المناجم، ودفع المراكب بعجلات تغديف، وفي 1707 (أي قبل قرن بالضبط من إبحار سفينة فولتون "كليرمون" مصعدة على نهر هدسون) استخدم آلته البخارية في تسيير زورق بدولاب تغديف على نهر فولدا بكاسل(52). ولكن الزورق تحطم، وثبط الحكام الألمان تطوير القوة المكنية لاطمئنانهم إلى الأوضاع الراهنة آنئذ، وربما لخوفهم من انتشار البطالة.

وعرض توماس سافوي على مجلس البحرية بإنجلترا جهازاً مماثلاً حوالي عام 1700، ولكن الجهاز رفض بهذا التعليق-فيما روى-"أي شأن للمتطفلين الذين لا صلة لهم بنا بتصميم أو اختراع أشياء لنا؟(54)" وقدم سافوي عرضاً لاختراعه على نهر التايمز، ولكن البحرية رفضته ثانية. وفي 1698 سجل أول آلة بخارية استعملت فعلاً في ضخ الماء من المناجم. وفي 1699 منح براءة خولت له لمدة أربعة عشر عاماً "احتكار استعمال اختراع جديد... لرفع الماء وإحداث الحركة بقوة النار الضاغطة، سيكون ذا فائدة كبرى في نزاح المناجم، وتوفير المياه للمدن، وتشغيل المصانع بجميع أنواعها(55)" على أنه تبين أن آلات سافوي غالية وخطرة. فقد كان لها صنابير للقياس ولكن لم يكن لها صمامات أمن، وكانت عرضة لانفجارات الغلايات، ومع أنها استخدمت في بعض المناجم لنزح الماء منها، إلا أن أصحاب المناجم عادوا سريعاً إلى استخدام الخيل في هذه المهمة.

عند هذه النقطة من القصة نلتقي مرة أخرى بروبرت هوك. ويروي معاصر موثوق بروايته أنه حوالي 1702 كان يتبادل الرسائل مع تاجر حديد وحداد يدعى توماس نيوكومن حول إمكان استخدام مبدأ المضخة الهوائية في إحداث القوة المكنية. كتب يقول "إذا استطعت أن تحدث فراغاً سريعاً تحت اسطوانتك الثانية انتهى عملك(56)" ويلوح أن نيوكومن كما يجري تجارب على آلة بخارية، هنا اتصل العلم والصناعة اتصالاً مرئياً. ولكن هوك كان شكاكاً، فتخلى عن التجربة، وفاتته فرصة مرة أخرى. وانضم نيوكومن إلى سمكري يدعى جون كولي في صنع آلة بخارية (1712)-بذراع متذبذب، ومكبس، وصمام أمن-يمكن الركون إليها في القيام بعمل شاق دون خطر الانفجار، وبقدرة كاملة على التحكم الذاتي. واستمر نيوكومن حتى وفاته (1729) في تحسين آلته، ولكن في وسعنا أن نؤرخ-من براءة سافوي في 1699، وآلة نيوكومن في 1712-، بداية الثورة الصناعية التي ستغير في القرنين التاليين وجه الدنيا وهواءها.


8- الأحياء

مدت جماعة الباحثين الممتازة التي صنعت مجد الجمعية الملكية أبحاثها إلى علوم الحياة. فأوضح هوك بالتجربة ما قرره من قبل السر كينيلم ديجبي-ذلك "المشعوذ الكبير" كما دعاه ايفلين(52): وهو أن النباتات تحتاج إلى الهواء لتحيا. فعرض بذرة خس في التربة في العراء، وفي نفس الوقت بذرة مماثلة في تربة مماثلة في حجرة مفرغة، ونمت البذرة الأولى بوصة ونصفاً في ثمانية أيام، أما الثانية فلم تنم على الإطلاق. ووجد هوك بين جزء الهواء المستعمل في الاحتراق وبين الجزء المستعمل في تنفس النبات والحيوان، ووصف هذا الجزء المستهلك بأنه نتري الطبيعة (1665). وأوضح أن الحيوانات التي توقف تنفسها مكن الإبقاء على حياتها بنفخ الهواء في رئاتها بمنفاخ. واكتشف البناء الخلوي للنسيج الحي، واخترع لفظ "الخلية cell" لدلالة على مركباته العضوية. ورأى أعضاء الجمعية من خلال مكرسكوبه في ابتهاج خلايا الفلين الذي قدر هوك أن البوصة المكعبة منه تحوي 1.200.000.000 خلية. ودرس هستولوجيا (علم الأنسجة) الحشرات والنباتات، وعر رسوماً طريفة لها في كتابه "ميكروجرافيا"ز لقد وقف هوك دائماً قاب قوسين أو أدنى من جاليليو ونيوتن.

وأسهم عضو آخر في الجمعية هو جون راي في إضفاء الشكل الحديث على علم النبات. وكان ابن حداد، ولكنه شق طريقه إلى كمبردج، وأصبح زميلاً لكلية ترنتي، ورسم قساً أنجليكانياً. وقد أخلص للدين والعلم على السواء، شأنه في ذلك شأن بويل. واستقال من زمالته لأنه أبى التوقيع على "قانون التوافق" (1662) الذي يتعهد موقعه بعدم مقاومة تشارلز الثاني، وانطلق من تلميذه فرانسس ويلاجبي في رحلة يجوبان فيها أوربا لجميع البيانات اللازمة لوصف منظم لمملكتي الحيوان والنبات. واضطلع يلاجبي بعلم الحيوان، ولكنه مات بعد أن أكمل الفصول الخاصة بالطيور والأسماك. وفي 1670 أصدر راي "Catalogus Plantarum Angliae قائمة بنبات إنجلترا" أصبحت إطار علم النبات الإنجليزي. واقترح راي "طريقة جديدة لتقسيم النبات"-مستعيناً في ذلك بما وضعه يواقيم يونجيوس في 1678 من مصطلحات محسنة وتصنيف منقح، فقسم كل الزهريات إلى ثنائية الفلقة dicotyledons وأحادية الفلقة monocotyledons حسب ورقيتها أو ورقتها الجنبية المرافقة للبذور. وأكمل مهمته الكبرى في رائعة من روائع العلم الحديث، هي كتابة الضخم ذو المجلدات الثلاثة "Historia Generalis Palantarum تاريخ النبات العام" (1682-1704)، الذي وصف 18.625 نوعاً من أنواع النبات. وكان راي أول من استعمل كلمة "نوع species" بمعناها البيولوجي، وهو مجموعة من الكائنات الحية مشتقة من والدين مماثلين وقادرة على توليد نوعها. وهذا التعريف، مضافاً إليه ما أتى به لينايوس بعد ذلك من تصنيف (1751)، هيأ للجدل حول أصل الأنواع وقابليتها للتغير، وفي غضون ذلك نشر وحقق مخطوطات ويلاجبي عن علم الأسماك ichthylogy وعلم الطيور ornithology وأضاف موجزاً منهجياً عن ذوات الأربع (1693) فأتاح لعلم الحيوان الحديث أول تصنيف علمي حقيقي للحيوان(58). لقد كان النظام أول القوانين عند راي.

وقد تبين علماء النبات، حتى في العصور القديمة، أن بعض النباتات يجوز أن توصف بأنها مؤنثة لأنها تحمل ثمراً، وبعضها مذكرة لأنها لا تثمر، ولاحظ تيوفراستوس في القرن الثالث قبل المسيح أن نخلة البلح لا تثمر إلا إذا هز فوقها طلع الذكر، ولكن هذه الأفكار كانت قد نسيت تقريباً. وفي 1682 أضاف نحميا جرو عضو الجمعية الملكية سحراً جديداً للزهور بتأكيد جنسانية النباتات تأكيداً قاطعاً. ذلك أنه في دراسته نسيج النبات تحت المكروسكوب، لاحظ المسام التي في السطح الأعلى للأوراق، وألمح إلى أن الأوراق أعضاء التنفس. ووصف الأزهار بأنها أعضاء التناسل، فالمدفة Pistil مؤنثة، والسداة stamen مذكر، واللقاح Pollen بزرة. وافترض خطأ أن جميع النباتات خنثوية hermaphrodites، تجمع بنيتي الذكر والأنثى في كائن حي واحد. وفي 1691 أثبت ردولف كاميراريوس، أستاذ النبات في توبنجن، بشكل قاطع جنسانية النباتات (sexuality) إذ أثبت أنها لا تثمر بعد إزالة المئبر anther وهو جزء السداه المحتوي على اللقاح. وفي نفس اليوم (7 ديسمبر 1671) الذي تلقت فيه الجمعية الملكية اللندنية أول مقالات جرو "بداية تشريح الخضر"، تلقت أيضاً مخطوطاً من مارتشيللو ملبيجي البولوني، نشرته (1675) باسم لاتيني Anatomes Plantarum Idea، وكان استعمال اللاتينية ما زال ييسر دولية العلم. وقد اقتسم مالبيجي مع جرو شرف إرساء دعائم هستولوجيا النبات، ولكن إسهامه الكبير كان في علم الحيوان. وفي 1676 أثبت ماريوت-بتحليله الكيميائي لمخلفات النباتات والتربة التي نمت فيها-أنها تتشرب العناصر الغذائية في الماء الذي تمتصه من التربة. ولم يتبين ماريوت، ولا جرو، ولا مالبيجي، قدرة النباتات على أن تأخذ غذاءها من الهواء، ولكن عمليتي التغذية والتناسل اللتين اكتشفتا الآن كانتا تقدماً هائلاً على تعليل أرسطو الغامض لنمو النباتات بما لـ "النفس النباتية" من تطلعات إلى التمدد. وفي عام 1668 أصيبت فكرة قديمة شائعة بأن صدمة من صدمات عديدة، حين نشر فرانشسكو ريدي الاريتسوي كتابه "تجارب في توالد الحشرات"-وهي تجارب تنحو إلى نفي التولد الذاتي abiogenesis وهو التولد التلقائي للكائنات الحية من المادة غير الحية. فإلى النصف الثاني من القرن السابع عشر كانت الفكرة التي آمن بها الجميع تقريباً (فيما عدا استثناءً بارزاً هو وليم هارفي) هي أن في الإمكان توالد الحيوانات والنباتات الدقيقة في القذر أو الوحل، لا سيما في اللحم المتحلل، وهذه الفكرة تكمن وراء عبارة شكسبير "الشمس التي تولد الدود في الكلاب الميتة(59)". وقد أثبت ريدي أن الدود لا يتكون على اللحم المحمي من الحشرات، بل على اللحم المكشوف. وقد صاغ النتيجة التي خلص إليها في عبارته "Omne vivum ex ovo" كل حي يخرج من بيضة أو بزرة". ولما اكتشفت الأوليات (البرزويات Protozoa)، انبعثت حجج القائلين بالتولد التلقائي من جديد، وقد رد عليهم سباللانزاني في 1767، ثم باستير في 1861. كان الكشف عن تلك الكائنات ذات الخلية الواحدة التي سميت فيما بعد بالبروتوزوا أهم إسهام أسهم به هذا العصر في علم الحيوان. وكان انطون فان ليوفينهويك هولندياً من ديلفت، ولكنه أنهى-عن طريق الجمعية الملكية بلندن-النتائج العلمية التي توصل إليها خلال أربعين سنة من سني عمره الواحدة والتسعين. كان سليل أسرة من صناع الجعة الأثرياء، فاستطاع أن يقنع بوظائف أتاحت له من الفراغ أكثر مما أعطته من راتب، وانقطع لدراسة عالم الحياة الجديد كما كشف عنه المكروسكوب، بإصرار من افتتن بهذا العلم. وكان يملك 247 مكروسكوباً، صنع معظمها بنفسه، وكان مختبره يتألق بعدسات بلغت 419، ربما شحذ بعضها سبينوزا، الذي ولد في نفس سنة مولده (1632) وفي نفسه وطنه. وقد حرص بطرس الأكبر وهو بديلفت في 1698 على أن يحدق في الكائنات خلال مكروسكوبات ليوفينهويك. فلما وجه هذا العالم (1675) أحدها لدراسة بعض ماء المطر الذي سقط في قدر قبل أيام، راعه أن يرى "حيوانات صغيرة بدت لي أصغر عشرة آلاف مرة من تلك التي وصفها المسيو سوامردام والتي سماها براغيث الماء أو قمل الماء، والتي يمكن أن ترى في الماء بالعين المجردة(60)"، ثم وصف كائناً نعرفه الآن باسم الجيبون الناقوسي (Vorticella) bell animalecule. ويلوح أن هذا كان أول وصفه للبروتوزون. وفي 1683 اكتشف ليوفينهويك كائنات أصغر حتى من تلك-وهي البكتريا. وجدها أولاً على أسنانه، وقال مستدركاً "مع أنني أحافظ عادة على نظافة أسناني التامة"، وأذهل بعض جيرانه حين فحص بصاقهم وأراهم تحت المكروسكوب "عدداً عظيماً من المخلوقات الحية" فيه(61). وفي 1677 اكتشف البزيرات المنوية في ماء الذكر: وتعجب من إسراف الطبيعة في جهاز الإنسان: فقد قدر هناك ألف بزيرة في كمية صغيرة من منى الرجل، وحسب أن هناك 150 بليوناً من البزيرات في لقاح سمكة واحدة من سمك الكود-وهو ما يزيد عشرة أضعاف على عدد السكان الذين يحتويهم العالم لو كانت كل أقاليمه غاصة بالسكان كالأراضي المنخفضة.

وكان جان سوامردام أصغر من ليوفينهوك بخمس سنوات، ولكنه سبقه إلى القبر بثلاث وأربعين سنة. كان رجلاً ذا جرأة، ورغبات مشبوبة، وعلل، وأهداف متقلبة، كف عن جهوده العلمية في السادسة والثلاثين، وأفنى عمره وهو في الثالثة والأربعين (1680). نذر خادماً للدين، ولكنه هجر اللاهوت إلى الطب. فلما نال درجة الطب انقطع للتشريح. وقد أولع بالنحل، لا سيما بأمعائه، وكان ينفق نهاره في تشريحه، وليله في كتابة التقارير ورسم الرسوم عن كشوفه. فلما فرغ من بحثه القيم في النحل (1673) انهار بدنياً، وما لبث أن طلق العلم لأنه مطلب مسرف في الدنيوية، وعاد إلى الدين. وبعد موته بسبع وخمسين سنة جمعت مخطوطاته ونشرت باسم Biblia Naturae (كتاب الطبيعة المقدس). وقد احتوى الكتاب في تفصيل دقيق غاية الدقة على وصف لحياة اثنتي عشرة حشرة نموذجية، منها ذبابة مايو ونحلة العسل، ودراسات مكروسكوبية للحبار squid والحلزون، والبطلينوس clam والضفدعة. كذلك وردت في الكتاب أوصاف للتجارب التي أثبت بها سوامردام أن العضلات في الأنسجة المقطوعة من جسم حيوان يمكن جعلها تتقلص بإثارة العصب الرابط. وقد رفض نظرية التولد التلقائي كما رفضها ريدي، وزاد بأن بين أن اللحم المتحلل لا يحدث الكائنات الدقيقة، بل أن هذه الكائنات هي التي تحدث التحلل في المادة العضوية. وقد أسس سوامردام في حياته القصيرة علم الحشرات الحديث، وأرسى لنفسه مكانة رجل من أدق الملاحظين في تاريخ العلم. ورجوعه من العلم إلى الدين تشخيص لتردد الإنسان الحديث بين بحث عن الحقيقة يسخر من الأمل، وانتكاس إلى الآمال التي تجفل من الحقيقة.


9- التشريح والفسيولوجيا

أسلم جسم الإنسان بعد إخضاعه للمكروسكوب بعض أسراره الدفينة لجيش العلم الزاحف. ففي عام 1651 تتبع جان باكيه سير الأوعية اللبنية، وفي 1653 كشف أولوف روربيك، وموطنه أوبسالا، الجهاز اللنفاوي، ووصف هذا الجهاز توماس مارتولين، وموطنه كوبنهاجن، وفي 1664 اكتشف سوامردام الصمامات اللنفاوية وفي ذلك العام أوضح صديقه رينيه دجراف وظيفة البنكرياس والصفراء وعملهما. وفي 1661 اكتشف صديق آخر هو نيقولاوس ستينو قناة (لا تزال تحمل اسمه) هي قناة الغدة النكفية، ويعد سنة القنوات الدمعية للعين، وخص جراف بدراسته تشريح الخصيتين والمبايض، وفي 1672 وصف لأول مرة تلك الأكياس حاملة البيض التي أطلق عليها هالر تكريماً له حويصلات جراف. وترك بارتولين بطاقته على جسمين بيضاويين ملاصقين للمهبل، واكتشف وليم كوبر (الطبيب لا الشاعر) في 1702 الغدد التي تفرغ إفرازها في مجرى البول وأطلق عليها اسمه. كذلك ترك فرنشسكوس سيلفيوس توقيعه على شق في المخ (1663) (وكان المعلم المحبوب لجراف، وسوامردام، وستينو، وويليس في ليدن). ونشر توماس ويليس، أحد مؤسسي الجمعية الملكية، في عام 1664 كتابه Cerebri Anatome" تشريح المخ" الذي كان أكمل وصف للجهاز العصبي إلى ذلك التاريخ، ولا تزال تحمل اسمه "دائرة ويليس"، وهي شبكة سداسية من الشرايين في قاع المخ.

أما ألمع مشرحي العصر فهو مارتشيللو مالبيجي، الذي ولد قرب بولونيا في 1628 ونال درجته الطبية منها، وبعد أن عمل أستاذاً عدة سنوات في بيزا ومسينا عاد إلى بولونيا، ودرس الطب في جامعتها خمسة وعشرين عاماً. وبعد أن اشتغل بالتشريح المكروسكوبي للنبات، ركز عدساته على دودة القز، وسجل كشوفه في دراسة ممتازة. وفي هذا البحث أوشك أن يفقد بصره، ومع ذلك كتب يقول "خلال قيامي بهذه البحوث تكشف أمام عيني الكثير جداً من معجزات الطبيعة حتى استشعرت لذة باطنية لا قدرة لقلمي على وصفها(62)". ولا بد أن قد خالجه ما خالج الشاعر الإنجليزي كيتس وهو يطالع لأول وهلة ترجمة تشابن لهوميروس، حين رأى (1661) في رئتي الضفدعة كيف ينتقل الدم من الشرايين إلى الأوردة في أوعية سماها "الشعيرات" لدقتها المتناهية، وقد وجد شبكة من هذه الشعيرات حيثما تحول الدم الشرياني إلى دم وريدي، وكذا وضح الجهاز الدوري لأول مرة أثناء دورته.

على أن هذا لم يكن سوى جزء من إسهامات مالبيجي في التشريح، وإن كان أهم أجزائها. فقد كان أول من أثبت أن حلمات اللسان أعضاء للتذوق، وألو من ميز الكرات الحمراء في الدم (ولكنه ظنها خطأ كريات من الشحم)، وأول من وصف بدقة الدورتين العصبية والدموية في الجنين، وأول من وصف هستولوجيا قشرة المخ والحبل الشوكي، وأول من أتاح الوصول إلى نظرية عملية للتنفس بوصفه الدقيق للبناء الحويصلي للرئتين. واسمه منتشر بحق على أجسادنا في "الحزم المالبيجية" أو حلقات من الشعريات، في الكلى، وفي "الكريات المالبيجية" في الطحال، وفي "الطبقة المالبيجية" في الجلد. وكثير من كشوفه وتفسيراه تحداه معاصروه، ولكنه دافع عن نفسه بقوة، وانتصر في معاركه وإن كلف هذا النصر أعصابه عنتاً. وقد أرسل إلى الجمعية الملكية بلندن تقريراً عن جهوده، وكشوفه، وجدلياته، وكأنه كان يعرض هذه كلها على محكمة العلم العليا في جيله، ونشرت الجمعية هذا التقرير سيرة ذاتية بقلمه. وفي 1691 عين طبيباً خاصاً للبابا إنوسنت الثاني عشر، ولكنه توفي عام 1694 من إصابة بالفالج، وكشف للشعيرات من المعالم في تاريخ التشريح، وعمله في جملته أرسى دعائم علم الهستولوجيا.

وإذ تقدم البحث في التشريح أماط اللثام عن أوجه شبه كثيرة جداً بين أعضاء الإنسان والحيوان، حتى لقد اقترب بعض الطلاب من نظرية التطور. ففي عام 1699 نشر إدوارد يزون (الذي أطلق اسمه على الغدد الدهنية للبشرة) كتاباً عن "اورنج-اوتان، إنسان الغابة". وقد قارن بين تشريح الإنسان وتشريح النسناس، ورأى أن الشمبانزي وسط بينهما. ولم يمنع علم الأحياء من أن يسبق داروين في القرن السابع عشر غير الخوف من إحداث زلزال لاهوتي.

وانتقلت الأبحاث من التشريح والبنية إلى الفسيولوجيا والوظيفة. وكان التنفس إلى عام 1660 يفسر بأنه عملية تبريد، أما الآن فقد شبهه أصحاب التجارب العلمية بالاحتراق. فبرهن هوك على أن سر التنفس هو تعرض الدم الوريدي للهواء النظيف في الرئتين. وأثبت عضو آخر في الجمعية الملكية هو رتشرد لوور (1669) أن الدم الوريدي يمكن تحويله إلى دم شرياني بالتهوية، وأن الدم الشرياني يتحول وريدياً إذا منع باستمرار من الاتصال بالهواء. ورأى أن أهم عامل في التهوية هو "روح نتري" في الهواء. وجرياً على هذه المبادرات وصف جون مايو، صديق لوور هذا العالم النشيط بأنه "جزيئات نترية-هوائية" وفي التنفس تمتص الجزيئات النترية-في رأيه-من الهواء إلى الدم، ومن هنا كان الهواء في الزفير أخف وزناً وأقل حجماً منه في الشهيق. والحرارة الحيوانية سببها اتحاد الجزيئات النترية بالعناصر القابلة للاحتراق في الدم، والحرارة المتزايدة عقب الرياضة تنشأ من فائض الممتص من الجزيئات النترية بسبب التنفس الزائد. يقول مايو أن هذه الجزيئات النترية تلعب دوراً رئيسياً في حياة الحيوان والنبات.

وقد أفضي تفسير العمليات الحيوية إلى جدل من أبقى ما وعاه تاريخ العلم الحديث. ذلك أنه كلما أوغلت الفسيولوجيا بمزيد من الفضول في تشريح الإنسان، بدا أن الوظيفة تلو الوظيفة من وظائف الجسم تخضع لتفسير آلي بلغة الفيزياء والكيمياء. فلاح أن التنفس اتحاد بين التمدد، والتهوية، والانقباض، وأن وظائف اللعاب، والصفراء، والعصارة البنكرياسية، كيميائية لا خفاء فيها، وأن جان ألفونسو بوريللي قد استكمل (1679) التحليل الآلي للحركة العضلية. واعتنق ستينو، الكاثوليكي الغيور، الرأي الآلي في العمليات الفسيولوجية، ورفض عبارات جالينوس الغامضة من أمثال "الأرواح الحيوانية" لأنه "مجرد ألفاظ لا تعني شيئاً". وبدا الآن مفهوم ديكارت للجسم على أنه آلة مبرراً كل التبرير.

ومع ذلك أحس معظم العلماء أن تلك الأجهزة البدنية ما هي إلا أدوات لمبدأ حيوي يتجاوز التحليل بلغة الكيمياء والفسيولوجيا. فعزا فرانسس جليسون، أحد مؤسسي الجمعية الملكية، للمادة الحية كلها "تهيجية" تتميز بها-وهي استهداف للإثارة-قال أنها لا توجد في المادة غير الحية. وكما أن نيوتن، بعد أن رد الكون إلى الآلية، عزا إلى الله الدفع المبدئي لآلة العالم، فكذلك افترض بوريللي في جسم الإنسان نفساً هي المصدر لكل حركة حيوانية، وذلك بعد أن فسر العمليات العضلية تفسيراً آلياً(63). ورأى كلود بيرو، المعماري والطبيب، (1680) أن الأفعال الفسيولوجية التي تبدو الآن آلية كانت من قبل إرادية، تهتدي بإرشاد نفس، ولكنها أصبحت آلية بفعل التكرار الكثير، وذلك أشبه بتكون العادات، بل ربما كان القلب ذاته خاضعاً لتحكم الإرادة فيما مضى(64). وزعم جيورج شتال (1702) أن التغيرات الكيميائية في النسيج الحي تختلف عن تلك التي ترى في المختبرات، لأن التغيرات الكيميائية-في زعمه-التي تعرو الحيوانات الحية تحكمها "حساسية حيوانية "anima sensitiva تنتشر في جميع أجزاء الجسم. والنفس كما يقول شتال تدير كل وظيفة فسيولوجية، حتى الهضم والتنفس، وهي تبني كل عضو، بل الجسم كله، بوصفه أداة للرغبة(65). وخيل له أن الأمراض طرق تحاول بها النفس التخلص من عائق يعوق عملياتها، وسبق نظرية "سيكوسوماتية" (أي جسدية نفسها من نظريات القرن العشرين بالقول بأن اضطرابات "النفس الحساسة" قد تحدث عللاً بدنية(66).

وظلت المفاهيم الحيوية، بشكل أو بآخر، تحتل مكان الصدارة في العلم حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ثم استسلمت فترة أمام المكانة الصاعدة للفيزياء الميكانيكية،ثم بعثت من جديد، في ثوب أدبي فتان، في كتاب برجسون "التطور الخلاق" (1906). وسيمضي الجدل إلى ما شاء الله حتى يقيض للجزء أن يفهم الكل.

10- الطب

جاء أقوى دافع لعلوم الأحياء من حاجات الطب. لقد كان علم النبات، قبل راي، أداة الصيدلة. وكانت الصحة "الخير الأعظم"، وتوسل الرجال والنساء والأطفال إليها بالصلوات، والنجوم، والملوك، والضفادع، والعلم. يقول أوبري(67) أن أحد الأطباء كان قبل أن يصف الدواء للمريض يمضي إلى مخدعه ليصلي حتى "تقرنت ركبتاه" في النهاية من كثرة الصلوات وكان التنجيم لا يزال يتدخل في الطب. فقد نصح الجراح القائم على علاج لويس الرابع عشر بألا يحجم الملك إلا في ربعي القمر الأول والأخير "حتى تكون الأمزجة قد تراجعت في هذا الوقت إلى مركز الجسم"(68). وفي رأي ديفو أن المال الذي أنفق على المشعوذين كان كفيلاً بالوفاء بالدين القومي(69). وقد سافر فلامستيد، فلكي الملك، أميالاً لكي يربت ظهره المشعوذ المشهور فالنتين جريتراكس، الذي زعم بكل بساطة أنه يشفى من الداء الخنازيري، وربما كان فلامستيد واحداً من 100.000 لمسهم تشارلز الثاني ليشفيهم من هذا الداء الخنازيري (scorfula) المسمى "داء الملك King's evil" (وهو سل الغدد اللنفاوية وبخاصة في العنق). وفي سنة واحدة (1682) لمس هذا الحاكم اللطيف 8.500 مريض مصاب بهذا المرض، وفي 1684 بلغ التزاحم للوصول إليه حداً ديس معه ستة من المرضى تحت الأقدام حتى ماتوا. ورفض وليم الثالث أن يواصل التمثيلية. وقال حين حاصر جمع قصره "إنها خرافة غبية، فأعطوا هؤلاء المساكين بعض النقود واصرفوهم". وفي مناسبة أخرى حين كثر الإلحاح عليه ليضع يده على مريض أذعن قائلاً "وهبك الله صحة أفضل وعقلاً أرجح". وقد اتهمه الشعب بالكفر(70).

وتضافرت عيوب هناية الأفراد بصحتهم ونقائص النظافة الصحية العامة مع ذكاء المرض القادر على التكيف. ونشر البغاء الزهري في المدن والمعسكرات. وقد استشرى بصفة خاصة بين الممثلين والممثلات، كما نستنتج منقصة مستورة في مدام دسفنييه عن "مثل اعتزم الزواج برغم أنه يعاني من مرض خطير معين، فقال له أحد أصحابه: ويحك ألا تستطيع الانتظار حتى تشفى؟ إنك ستجر البلاء علينا جميعاً(71)"، وقد مثل القائد الفرنسي فاندوم في البلاط الملكي بغير أنف، لأنه أعطها قرباناً لبكتريا الزهري(72). وكان السرطان يمضي في طريقه قدماً، وتصف لنا مدام دموتفيل سرطان الثدي(73) وقد وصفت الحمى الصفراء أول مرة عام 1694. وانتشر الجدري على الأخص انتشاراً واسعاً في إنجلترا، ولم يكن هناك علاج معروف له، وقد ماتت به الملكة ماري، وابن ملبرة. وابتليت أقطار بأسرها بالأوبئة لا سيما وباء الملاريا. وذكر توماس ويليس أن إنجلترا كلها تقريباً كانت في 1657 أشبه بمستشفى يعالج حمى الملاريا(74). واجتاح الطاعون لندن في 1665(75). وقتل في فيينا سنة 1679 100.000 أل و83.000 في براغ سنة 1681. وازدادت الأمراض المهنية بانتشار الصناعة، وفي 1700 أصدر برناردينو راماتزيني، أستاذ الطب في جامعة بادوا، رسالة ممتازة، De morbis artificum عن الضرر الذي يصيب النقاشين من المواد الكيميائية في طلائهم، والعاملين في الزجاج المعشق من الانتيمون، والبنائين وعمال المناجم من السل، والخزافين من الدوار، والطباعين من أمراض العيون، والأطباء من الزئبق الذي يستعملونه.

وكان تقدم علم الطب بطيئاً في جو الجهل والفقر. وعطل المهنة شره الأطباء للمال، فكان بعض الأطباء الذين قاموا بعلاجات ناجحة يرفضون الكشف لغيرهم من الأطباء عن العلاج الذي استخدموه(76). على أن الأطباء من أعضاء الجمعية الملكية ارتفعوا فوق هذا الشره، وأشركوا زملاءهم بحماسة في كشوفهم. وكان هناك الآن مدارس طبية جيدة وفي مقدمتها مدارس ليدن، وبولونيا، ومونبلييه، وعلى العموم كان الحصول على درجة من معهد معترف به شرطاً لممارسة الطب قانونياً في غربي أوربا. واستمر مدرسو الطب على انقسامهم إلى مدرستين من مدارس العلاج. فدافع بوريللي عن طريقة العلاج الطبي (iartophysical) ورأى تناول الأمراض على أنها اضطرابات في آلية الجسم. أما سيلفيوس، الذي طور حجج باراسيلسوس وهيلمونت فقد دافع عن الطريقة الكيميائية (iatrochemical)-وهي طريقة استعمال العقاقير لمقاومة الاضطرابات في "أمزجة" الجسم، ومعظمها في رأيه راجع لزيادة في الحموضة. وكان أنفع من هذه النظريات العامة تلك الكشوف في أسباب أمراض معينة، فوصف سيلفيوس مثلاً لأول مرة الدرينات في الرئتين، وعزا هذه الأورام المرضية إلى السل.

ومن أهم كشوف هذا العصر الجهد الذي قام به ذلك اليسوعي الممتاز، أثناسيوس كيرشر الفولداوي، وكان رياضياً، وفيزيائياً، ومستشرقاً، وموسيقياً، وطبيباً، ويبدو أنه أول من استخدم المكروسكوب في فحص المرض(77). وبهذه الوسيلة وجد أن دم ضحايا الطاعون يحتوي على "ديدان" لا حصر لها لا ترى بالعين المجردة. ورأى حيوانات مماثلة في المادة المتعفنة، وعزا التعفن وكثيراً من الأمراض لنشاطها. وكتب تقريراً عن كشوفه في "البحث في الأمراض الوبائية "Scrutinium Pestis (روما 1658) بين بعبارات صريحة واضحة لأول مرة ما لم يذكره فراكاستورو إلا تلميحاً في 1546-وهو النظرية القائلة بأن انتقال الكائنات الحية الضارة من شخص أو حيوان إلى آخر هو سبب المرض المعدي(78).

وتخلف العلاج الطبي عن البحث الطبي، لأن الذين نبغوا في البحث جنحوا إلى تأليف طبقة متميزة عن ممارسي الطب، وكان الاتصال بين الفريقين ناقصاً. وكانت بعض علاجات العصور الوسطى ما زالت توصف للمرضى. وقد سجل أوبري نجاحاً جاء في غير محله. قال "إن امرأة حاولت أن تسمم زوجها (وكان مريضاً بالاستسقاء) بسلق ضفدعة في حسائه، الأمر الذي شفاه من مرضه، وكان هذا هو الظرف الذي عثر فيه على الدواء(79)" ودخلت بعض العقاقير الجديدة الفارماكوبيا في النصف الثاني من القرن السابع عشر: عرق الذهب ipecacuanha والكسكارة، والنعناع... ووصف الأطباء الهونديون الشاي دواء لكل الأدواء تقريباً ترويجاً للتجارة الهولندية(80).

وكان اثنان من الهولنديين أعظم معلمي الطب في هذا العصر، وهما سيلفيوس وبويرهافي، وكلاهما في ليدن. وقد علم هيرمان بويرهافي الكيمياء، والفيزياء، والنبات أيضاً، وأقبل عليه الطلاب من شمالي أوربا كلها، وقد رفع مقام الطب الأكلينيكي باصطحابه تلاميذه الأكثر نضجاً في جولاته اليومية على أسرة المستشفى، وتعليمهم بالملاحظة المباشرة والعلاج النوعي لكل حالة بمفردها. وقد ترجمت مؤلفاته إلى كل اللغات الأوربية الكبرى، وحتى إلى التركية، وطبقت شهرته الآفاق حتى بلغت الصين ذاتها.

ووجد الطب الاكلينيكي في إنجلترا أبرع ممثل له في توماس سيدنهام. قضى في أكسفورد فترتين تفصلهما فترات خدمة في الجيش، ثم استقر في لندن ممارساً عاماً. وانتهى بالقليل من النظريات والكثير من الخبرة إلى فلسفته في المرض، الذي عرفته بأنه "جهد من الطبيعة التي تكافح بكل قوتها لترد إلى المريض عافيته بالتخلص من المادة المرضية(81)". وميز بين الأعراض "الجوهرية" التي تحدها المادة الدخيلة، والأعراض "العرضية" التي تحدثها مقاومة الجسم لها، فالحمى مثلاً ليست مرضاً بل حيلة يتوسل بها الكائن الحي للدفاع عن نفسه. ومشكلة الطبيب أن يعين عملة الدفاع هذه. ومن ثم فقد امتدح سيدنهام أبقراط لأن "أبا الطب":

"لم يتطلب من فن الطب أكثر معاونة الطبيعة إذا وهنت، وكبحها إذا ازداد عنف هودها... ذلك أن هذا المراقب الحكيم وجد أن الطبيعة وحدها هي التي تنهي اختلال الصحة، وتعمل على الشفاء مستعينة بعقاقير بسيطة، وأحياناً دون عقاقير على الإطلاق(82)". وبراعة سيدنهام في أنه تبين أن لكل مرض كبير صوراً مختلفة، وكان يدرس كل حالة بتاريخها الأكلينيكي ليشخص نوع المرض الذي تنطوي عليه، ويوائم بين العلاج والاختلافات النوعية للمرض. ولهذا نراه يميز الحمى القرمزية عن الحصبة ويعطيها اسمها الحالي. وكان معروفاً بين الأطباء بلقب "أبقراط الإنجليزي" لأنه أخضع النظرية للملاحظة، والأفكار العامة للحالات الخاصة، والعقاقير للعلاجات الطبيعية. وقد ظل كتابه Processus Integri طوال قرن من الزمان المرشد للممارس الإنجليزي في العلاج.

وواصلت الجراحة نضالها لتحظى بالاعتراف بها علماً محترماً. ووجد أكفأ ممثليها أنفسهم بين نارين، عداء الأطباء وحسد الحلاقين-الذين ما زالوا يجرون بعض الجراحات الصغيرة، ومنها جراحة الأسنان. ولم يستطع جي باتان، عميد كلية الطب بجامعة باريس، أن يغتفر للجراحين اتخاذهم زي الأطباء ومسلكهم، ورمى الجراحين جميعاً بأنهم "سلالة من الحمقى، والمغرورين، اللئام، المسرفين، الذين يطلقون شواربهم ويلوحون بأمواسهم(83)". ولكن في عام 1686 أجرى الجراح فيلكس جراحة ناجحة على ناسور لويس الرابع عشر، وسر الملك سروراً عظيماً فنفح فيلكس بخمسة عشر ألف جنيه ذهبي، وخلع عليه ضيعة في الريف ولقب النبالة. ورفعت هذه الترقية من مكانة الجراحين الاجتماعية في فرنسا. وفي 1699 صدر قانون جعل الجراحة فناً من الفنون الحرة، وبدأ ممثلوها يحتلون مكاناً مرموقاً في المجتمع الفرنسي. وقد وصف فولتير الجراحة بأنها "أنفع الفنون قاطبة" وأنها "الفن الذي بز فيه الفرنسيون سائر أمم الأرض(84)". على أن الجراحة الإنجليزية كان لها في هذا العصر مفخرتان على الأقل. ففي 1662 قام ج. د. ميجر بحق الإنسان أول حقنة وريدية ناجحة، وفي 1665-67 نجح رتشرد لوور في نقل الدم من حيوان إلى أوردة حيوان آخر. وقد سجل بيبيس هذا في يوميته(85). ويستفاد من جريدة القيل والقال تلك أن الجراحات كانت تجري عادة بمخدر ضعيف أو دون مخدر، فلما أجريت لبيبيس جراحة لإزالة حصاة في مثانته لم يعط كلوروفورما ولا مطهرات، واكتفى بإعطائه "جرعة مهدئة(86)".

واستمر الناس يهجون الطبيب كما يهجونه في كل جيل. فقد ساءهم منه أتعابه، وفخامة مظهره في عباءته وشعره المستعار وقبعته المخروطية، وغرور حديثه، وأخطاؤه القتالة أحياناً. وروى بويل أن كثيرين كانوا يخشون الطبيب أكثر مما يخشون المرض(87). وكانت سخريات موليير بالمهنة العظيمة في أكثرها مزاحاً لطيفاً من رجل كان حريصاً رغم ذلك على الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع طبيبه. وبقى-بعد أن رشقت السهام كلها-أن القرن السابع عشر شهد تقدماً مشكوراً في علم الطب بفضل عشرات الكشوف في التشريح، والفسيولوجيا، والكيمياء، وأن التبادل الدولي للمعرفة الطبية كان في ازدياد، وأن كبار الأساتذة كانوا يبعثون تلاميذهم الأكفاء إلى جميع أرجاء أوربا الغربية، وأن الجراحة كانت تحسن طرقها وترفع مكانتها، وأن الأخصائيين كانوا يزدادون معرفة ومهارة، وأن مزيداًُ من التدابير كان يتخذ للنهوض بالصحة العامة. وشرعت الحكومات البلدية القوانين التي تكفل النظافة الصحية. وفي 1656، حين ظهر الطاعون في روما، حتم المونسنيور جاستالدي، المأمور البابوي للصحة، تنظيف الشوارع والمجاري، وتفتيش السقايات بانتظام، وتوفير الإمكانات العامة لتطهير الملابس، وتقديم الشهادات الصحية من جميع الأشخاص الذين يدخلون المدينة(88)، وبازدياد الثروة بنى الناس بيوتاً أمتن تستطيع أن تبعد الفئران إلى مسافة محترمة فتقلل من انتشار الطاعون. وقد يسرت إمدادات أفضل من المياه-وهي أول ضرورات الحضارة-النظافة للأجسام الراغبة فيها. وأخذ التحضر يصبح-بدنياً-في متناول مزيد من الناس.


11- النتائج

كان القرن السابع عشر في جملته إحدى القمم في تاريخ العلم. أنظر إليه في سلمه الصاعد، ابتداءً من بيكون يدعو الناس للكفاح في سبيل ترقية المعرفة، وديكارت يزاوج بين الجبر والهندسة، مروراً بتحسين التلسكوبات، والمكروسكوبات، والبارومترات، والترمومترات والمضخات الهوائية والعلوم الرياضية، وبقوانين كبلر الكوكبية، وقبة جاليليو السماوية المتعاظمة، ورسم هارفي لخريطة الدم، ونصفي كرة جيوريكي المحكمتين، وكيمياء بويل الشكاكة، وفيزياء هويجنز المتعددة الصور، ومحاولات هوك الكثيرة الأشكال، وتنبؤات هالي الكونية، ثم انتهاء بحساب ليبنتز التفاضلي التنوتي ونسق نيوتن الكوني، انظر إلى كل أولئك واسأل: أي قرن سابق أنجز مآثر هذا القرن؟ يقول ألفريد فورت هوايتهيد أن الذهن الحديث "يعيش إلى اليوم على ذخيرة الأفكار المتجمعة التي وفرتها له عبقرية القرن السابع عشر "في العلم، والأدب، والفلسفة".

وانتشر تأثير العلم في أقواس متسعة. أثر في الصناعة بتوفيره الفيزياء والكيمياء اللتين كفلتا المغامرات الجديدة في التكنولوجيا. وفي التعليم ألزم بتخفيف التركيز على العلوم الإنسانية-على الأدب، والتاريخ، والفلسفة، لأن تطوير الصناعة والتجارة والملاحة تطلب المعرفة والأذهان العملية. وأحس الأدب ذاته التأثير الجديد: فسعى العالم وراء النظام والدقة والوضوح أوحى بفضائل مماثلة في الشعر والنثر، وانسجم مع الأسلوب الكلاسيكي الذي يمثله موليير وبوالو وراسين، كما يمثله أديسون وسويفت وبوب. واشترطت الجماعية الملكية-كما يقول مؤرخها-على أعضائها، أسلوباً في الحديث طبيعياً عادياً، محكماً. يقرب كل الأشياء قدر الإمكان من الوضوح الرياضي".

وتأثرت الفلسفة والدين بانتصارات الرياضة والفيزياء، التي حددت للمذنبات ميقاتاً ووضعت للنجوم قوانين. وتقبل ديكارت وسبينوزا الهندسة مثلاً أعلى للفلسفة والعرض. ولم يعد بعد ذلك من حاجة لأن يفترض في الكون شيء غير المادة والحركة. ورأى ديكارت العالم كله آلة، باستثناء العقل البشري والإلهي، وتحدى هوبز هذا الاستثناء، وصاغ مادية يكون حتى الدين فيها أداة للدولة تستعين بها على تسيير الآلات البشرية. ولاح أن علوم الفيزياء والكيمياء والفلك الجديدة "تكشف عن كون يعمل طبقاً لقوانين لا تتغير، وهو كون لا يسمح بمعجزات، وإذن فلا يستجيب لصلوات، وإذن فلا يحتاج لإله. وربما جاز الإبقاء عليه ليعطي آلة العالم دفعة مبدئية، ولكنه بعد هذا له أن ينسحب ليكون رباً أبيقورياً-لوكريتياً، لا يعبأ بالعالم ولا بالناس. وروي أن هالي أكد لصديق لباركلي أن "عقائد المسيحية" أصبحت الآن "لا يمكن تصورها". على أن بويل رأى في كشوف العلم دليلاً جديداً على وجود الله. وكتب يقول "أن العالم يسلك وكأن الكون يشيع فيه كله كائن ذكي". وأضاف في عبارة تعيد بسكال إلى الذاكرة "إن أنفس الإنسان كائن أنبل وأثمن من العالم المادي بأسره". ولما مات خلف مالاً ينفق منه على محاضرات تظهر صدق المسيحية إزاء "مشهوري الكفار، وهم الملحدون، والقائلون بوجود آلهة، والوثنيون واليهود، والمسلمون" وأضاف شرطاً هو أن المحاضرات يجب ألا تخوض في المجادلات الناشبة بين المسيحيين(93). ووافق علماء كثيرون على رأي بويل، وشارك كثير من المسيحيين المؤمنين في الإشادة بالعلم. كتب داريدن في ختام القرن يقول "في هذه السنين المائة الأخيرة كشف لنا القناع عن طبيعة جديدة تقريباً-ارتكب من الأخطاء، وأجرى من التجارب المفيدة، وأميط اللثام عن أسراراً رفيعة في البصريات، والطب، والتشريح، والفلك-أكثر مما حدث في جميع تلك العصور الخرفة الساذجة، ابتداءً أرسطو إلى يومنا هذا(94)"، وتلك مبالغة مفرطة ولكنها ذات دلالة، تكشف لنا عن اقتناع "المحدثين" بأنهم كسبوا معركة الكتب ضد "القدامى" على أية حال لم يملك الناس إلا أن يروا أن العلوم تزيد المعرفة الإنسانية، بينما الأديان تصطرع والساسة يقتتلون. وسما العلم الآن إلى مقام جديد من الشرف بين مغامرات الإنسان، لا بل أن هذا العهد لم يؤذن بالنهاية إلا والناس يرحبون بالعلم بشيراً بمجيء المجتمع المثالي ومخلصاً للنوع الإنساني. كتب فونتنيل في 1702 يقول "إن تطبيق العلم على الطبيعة سينمو بإطراد في مداه وقوته، وسنمضي قدماً من عجيبة إلى عجيبة. وسوف يأتي اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان أن يطير بأجنحة تحفظه في الهواء، وسينمو هذا الفن... حتى نستطيع يوماً أن نظيراًَ إله القمر(95)". لقد كان كل شيء يتقدم، إلا الإنسان.