قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 4 ف 17

من معرفة المصادر


 صفحة رقم : 11210   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> المعوقات


الكتاب الرابع



المغامرة الفكرية



1648-1715



الفصل السابع عشر



من الخرافة إلى العلم



1648-1715



1- المعوقات


كانت الطبيعة كما تصورها كل الأوربيين في القرن السابع عشر-فيما عدا قلة قليلة منهم-نتاجاً، أو ساحة قتال، لكائنات، خارقة، خيرة أو شريرة، تسكن أجسد البشر نفوساً، أو تسكن الأشجار والغابات والأنهار والرياح أرواحاً محيية، أو تدخل الكائنات الحية ملائكة أو شياطين، أو تجوب الهواء عفاريت خبيثة. وليس من هذه الأرواح ما يخضع لقانون لا يمكن خرقه، أو يمكن حسابه، فأي روح منها يستطيع أن يتدخل بطريقة معجزة في حركات الأحجار أو النجوم أو البهائم أو البشر، وكانت الأحداث التي لا تنجم بشكل مرئي عن المسلك الطبيعي أو المنتظم للأجسام أو العقول، تنسب لهذه القوى الخارقة التي تقوم بدور غامض خفي في شئون هذه الدنيا، ينذر بشيء أو ينبئ بخير أو يتنبأ بالمستقبل. وكل الأشياء الطبيعية، وكل الكواكب وسكانها، وكل الأبراج والمجرات، إن هي إلا جزر لا حول لها ولا قوة في بحر خارق للطبيعة. وقد مرت بنا ألوان من الخرافة في العصور السابقة لهذا القرن. وعمر أكثرها بعد مجيء العلم الحديث على يد كوبرنيق وفيساليوس وجاليليو، وازدهر بعضها حتى في نيوتن نفسه، لقد استمر اضمحلال التنجيم والخيمياء (الكيمياء القديمة)، ولكن المنجمين كانوا عديدين في بلاط لويس الرابع عشر(1)، وفي فيينا "كان هناك عدد هائل من المشتغلين بالخيمياء(2)" كما روت الليدي ماري ورتلي مونتاجيو في 1717. وكان البريطانيون الأشداء لا يزالون يؤمنون بالأرواح، ويتطيرون، ويدفعون ثمناً للطوالع، ويأخذون أحلامهم على أنها نبوءات، ويحسبون أيام السعود والنحوس، أما البريطانيون الأضعف منهم فيلتمسون من الملك إبراء الداء الخنازيري الذي ابتلوا به بلمسة



 صفحة رقم : 11211   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> المعوقات


منه. وقد ورد في العدد السابع من صحيفة "سبكتاتور" وصف للانقلاب الذي يحدثه في أسرة بريطانية قليل من الملح يتناثر، أو سكين وشوكة توضعان متقاطعتين على صحن، أو ثلاثة عشر شخاً يجمعون في حجرة أو جماعة (ويلاحظ عدم وجود طابق ثالث عشر في بعض فنادق القرن العشرين). وفي فرنسا أصبح جاك ايمير بطل زمانه (1692) لأنه كان يستطيع (في اعتقاد الكثيرين) بشد أملود بندق يمسكه بيده أن يكتشف قرب مجرم منه(3). وفي ألمانيا كانوا يستعملون عصا سحرية لوقف النزف وشفاء الجروح وجبر العظام(4). وفي السويد اتهم شتيرنهيلم بالسحر حين أحرق لحية فلاح بمرآة مكبرة، ولم ينقذ صاحب التجربة من الموت غير تدخل الملكة كرستينا(5). كان المتشككون في السحر يتزايد عددهم، ولكن الراجح أن المؤمنين به كانوا أكثر منهم بكثير. وكانت حاشية تشارلز الثاني لا تأبه كثيراً بأي عفاريت قد تفسد عليهم لهوهم، ولكن "الكثرة الساحقة" وأبرز المؤلفين بين رجال الدين والإنجليز، كانوا لا يزالون يؤمنون بأن البشر يستطيعون أن يتحالفوا مع الشيطان فينالوا بهذا التحالف قوي خارقة(6). وقد ذهب جوزف جلانفيل، وهو قس أنجليكاني راجح العقل قوي الأسلوب، في كتابه "خواطر فلسفية حول الساحرات والسحر" (1666) إلى أنه من العجب العجاب أن "رجالاً فيهم ذكاء وحذق في غير هذا الأمر، يتوهمون أنه ليس هناك شيء اسمه ساحرة أو شبح" ونبه قراءة إلى أن شكوكاً من هذا النوع تفضي إلى الإلحاد. كذلك رمى قسيس مشهور آخر اسمه رالف كدورث في كتابه "نظام الكون الفكري الصحيح" (1679) بالكفر كل من ينكر وجود الساحرات(7). وقد دافع أفلاطوني كمبردج، هنري مور، في كتابه "ترياق الإلحاد" (1668؟) دفاعاً حاراً عن قصة "ساحرة" تزوجت الشيطان ثلاثين عاماً، ورآه تجديفاً كبيراً أن يتشكك متشكك في قدرة الساحرات على إثارة العواصف بالتعزيم، أو ركوب الهواء على مكنسة(8). وخف اضطهاد الساحرات شيئاً فشيئاً، ولكن رجال الدين



 صفحة رقم : 11212   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> المعوقات


الاسكتلنديين تفردوا بغيرتهم المحرقة. مثال ذلك أن ست نساء في مدينة ليث عذبن بشتى ضروب التعذيب عام 1652 لحملهن على الاعتراف بالسحر، فعلقن من أباهمهن، وجلدن، ووضعت الشموع الموقدة تحت أقدامهن التي فتحت عنوة، ومات أربعة من الستة من التعذيب(9). وفي عام 1661 كان هناك أربعة عشرة محكمة تحاكم الساحرات في إسكتلندة، وفي 1664 أحرق تسع نساء معاً في ليث. واستمرت أحكام الإعدام هذه في إسكتلندة على نحو متقطع حتى 1722. وفي إنجلترا شنقت ساحرتان سنة 1664 في بوري سانت ادموندر، وأعدمت ثلاث في 1682، وعدد غير مؤكد في 1712. وقوضت الحجج التي أتى بها وير، وسبي، وهوبز، وسبينوزا، وغيرهم، شيئاً فشيئاً وهم السحر في أوساط العلمانيين المثقفين ووقف المحامون والقضاة بدرجة متزايدة في وجه اللاهوتيين، ورفضوا الاتهام أو الإدانة بالسحر. وفي 1712 قضت هيئة محلفين من الإنجليز البسطاء على جين وينهام بأنها مذنبة بالسحر، ولكن القاضي رفض الحكم عليها، فندد به رجال الدين المحليون(10)، ولكن لم يعدم أحد بتهمة السحر في إنجلترا بعد ذلك التاريخ. وفي فرنسا حصل كولبير على مرسوم من لويس الرابع عشر (1672) بمنع أحكام الإدانة بتهمة السحر(11). واحتج برلمان روان بأن هذا المنع انتهاك للأمر الوارد في التوراة، "لا تدع ساحرة تعيش" (خروج 22-18)، وأفلح بعض الحكام المحليين في حرق سبع "عرافات" في فرنسا فيما بين عامي 1680 و1700، ولكنا لا نسمع بأحكام إعدام بعد 1718. واستمر الإيمان بالسحر حتى الانتصار المؤقت الذي أحرزته العقلانية في حركة تنوير القرن الثامن عشر، وما زال موجوداً في أماكن متفرقة هنا وهناك. وتعاونت الرقابة والتعصب مع الخرافة على الحد من نمو المعرفة وانتشارها. وفي فرنسا حالت الصراعات التي احتدمت بين الملوك والبابوات، وبين الكنيسة الفرنسية والبابوية، وبين الجانسنيين واليسوعيين، وبين الكاثوليك والهيجونوت-هذه الصراعات حالت دون وحدة الرقابة. وثباتها ودقتها، وهي الرقابة التي عزلت أسبانيا في هذا العصر عن حركات العقل الأوربي. ووجد المؤلفون المهرطقون



 صفحة رقم : 11213   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> المعوقات


طرقاً للروغان من الرقباء، ولعل الذكاء الفرنسي قد شحذته ضرورة التعبير عن الأفكار بطريقة تدق على فهم موظفي الرقابة. وفي كولونيا الكاثوليكية فرض رئيس الأساقفة الناخب الرقابة على الأحاديث أو المطبوعات الدينية. وفي براندنبورج البروتستنتية أمر الناخب الأكبر برقابة دقيقة ليهدئ الصراع الديني. وفي إنجلترا واصلت الحكومة سجن المؤلفين البغيضين وحرق الكتب المهرطقة رغم صدور قانون التسامح (1689)(12). على أن تنوع الملل والنحل في الدول البروتستنتية جعل الرقابة فيها أقل جدوى منها في الدول الكاثوليكية، ولعل هذا بعض السبب في تفوق إنجلترا وهولندا في العلم والفلسفة في القرن السابع عشر. لقد اتفقت المذاهب المتنافسة على التعصب. وحاجت الكنيسة الكاثوليكية في إقناع بأنه ما دام كل المسيحيين تقريباً يقبلون الكتاب المقدس على أنه كلمة الله، وبما أن ابن الله أسس الكنيسة كما نص الكتاب، فواضح إذن أن من حقها وواجبها أن تقمع الهرطقة وانتهت المذاهب البروتستنتية إلى استنتاج مماثل وإن كان أقل تعطشاً للدماء. فما دام الكتاب كلمة الله، فكل من يحيد عن تعاليمه (حسبما تفسر رسمياً) يجب على الأقل أن يقمع، وأن يكون شاكراً لأنه لم يقتل. واعترفت معاهدة وستفاليا (1648) بمذاهب شرعية ثلاثة في ألمانيا: الكاثوليكية، واللوثرية، والكلفنية، وترك كل حاكم حراً في أن يختار أياً منها، وأن يفرضه على رعاياه. أما الدول الاسكندنافية فلم تسمح بغير اللوثرية. وأما سويسرا فأباحت لكل ولاية تقرير عقيدتها. وافتتحت فرنسا الطريق إلى التسامح بإصدارها مرسوم نانت (1598)، ثم طريق العدول عنه بإلغاء المرسوم (1685). أما إنجلترا فقد خففت بعد 1689 من القيود المفروضة على المنشقين من البروتستنت، واستمرت تفرضها على الكاثوليك، وأبادت ثلث الكاثوليك في إيرلندة. ووافق العقلاني هوبز البابوات على ضرورة عدم التسامح. ولكن التسامح كان في ازدياد. وبدأت الدراسة الناقدة للكتاب المقدس في هذا العصر تجعل الناس أحراراً في الإعجاب به أدباً والتشكك فيه علماً، وجعل تعدد المذاهب النظام الاجتماعي أعسر فأعسر بدون التسامح المتبادل. وفي "إنجلترا الجديدة" أعلن روجر وليمز



 صفحة رقم : 11214   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> المعوقات


(1644) أنها "إرادة الله وأمره" أن "تباح لجميع الناس، في جميع الأمم، أشد المعتقدات والعبادات وثنية، أو يهودية، أو تركية. أو عداء للمسيح(13)" وطالب جون ملتن بـ "النشر دون رخصة" (1644)، ودافع جريمي تيلور عن "حرية التنبؤ" (1646). وأجاز جيمس هارنجتن (1656) الحرية الديني بغير حدود فقال: "حيث تكون الحرية المدنية كاملة، فإنها تشتمل على حرية الضمير، وحيث تكون حرية الضمير كاملة... فإن للإنسان حسبما يملي عليه ضميره الحق في الممارسة الكاملة لدينه دون أن يكون ذلك عائقاً لترقيته أو توظيفه في الدولة(14)". أما في الدول التجارية مثل هولندا، وحتى في البندقية الكاثوليكية، فقد اقتضت ضرورات التجارة التسامح مع شتى أديان التجار القادمين من بلاد أجنبية. وهولندا المتحررة هي التي نشر سبينوزا فيها في "الرسالة اللاهوتية السياسية" (Tractatus theologico-Politicus) (1670) دعوة للتسامح الكامل مع الأفكار المهرطقة، وفي هولندا دافع بيل عن التسامح في كتابه "تعقيب فلسفي على الآية: ألزمهم بالدخول" (1686)، وبعد سنين من الإقامة في هولندا نشر لوك كتابه "رسائل في التسامح" (1689). وازدادت المطالبة بالحرية الفكرية عقداً بعد عقد، حتى إذا بلغ القرن السابع عشر ختامه لا نجد كنيسة تجرؤ على صنع ما صنعته الكنيسة ببرونو في 1600، أو بجاليليو في 1633 "ومع ذلك فهي تدور "Eppur si muove.



 صفحة رقم : 11215   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> التعليم


2- التعليم


كانت المعرفة تنتشر في بطء عن طريق الصحف، والمجلات، والنشرات، والكتب، والمكتبات، والمدارس، والأكاديميات، والجامعات. وأصبحت الأنباء في القرن السابع عشر سلعة تباع وتشترى، أولاً للمصرفيين، ثم للحكام، ثم لأي إنسان. وفي 1711 كان مجموع ما وزع من الصحف البريطانية اليومية أو الأسبوعية 44.000(15). وأدركت "الجورنال دي سافان" (صحيفة العلماء) التي تأسست في 1665 أن الأحداث في عالم الأدب والعلم يمكن أن تكون أيضاً أنباء، فما لبثت أن رسخت أقدامها وسيطاً دولياً بين الدارسين



 صفحة رقم : 11216   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> التعليم


والعلماء والأدباء. ولم تمض سنوات قليلة حتى ظهر لها منافسون، "الجورنالي دي ليتراتي" في روما، (1668)، و "الجورنالي فينيتو" في البندقية (1671) و "الاكتا ايروديتورم" في ليبزج (1682). وأسس بيل مجلة مشهورة بروتردام في 1684 تسمى "أنباء جمهورية الأدب"، وبعد عامين بدأ جان لكلير مجلة "المكتبة العالمية" الشهيرة، وقد احتوت هذه الدوريات على آراء من أهم ما صدر عن لوك وليبنتز. وكان تداول الكتب يزداد بسرعة. ففي 1701 كان هناك 178 من كبار تجار الكتب في باريس، منهم ستة وثلاثون طباعاً وناشراً(16). وكانت المكتبات قديمها وحديثها تجعل كنوزها ميسرة لعدد أكبر من القراء. وفي عام 1610 حصل السر توماس بودلي من "شركة الوراقين" على منحة تحصل مكتبة بودلي التي أنشأها في أكسفورد (1598) بمقتضاها على نسخة من كل كتاب ينشر في إنجلترا، وهكذا أصبحت في 1930 تملك 1.250.000 مجلد. وفي 1617 قضى مرسوم أصدره لويس الثالث عشر بأن تودع في المكتبة الملكية (القومية الآن) نسختان من كل مطبوع جديد في فرنسا. وفي 1622 أصبح مجموع كتب هذه المكتبة 6.000 مجلد، وفي 1715 زاد إلى 70.000، ومعظم الفضل في هذه الزيادة يرجع إلى غيرة كولبير، وفي 1926 بلغ 4.400.000. وأسس ناخب براندنبورج الأكبر مكتبة قومية ببرلين في 1661. وفي ذلك العام أوصى مازاران بمكتبته الثمينة التي ضمت 40.000 مجلد للويس الرابع عشر وفرنسا، وفي 1700 حول حفدة السر روبرت بروس كوتون ملكية المكتبة الكوتونية للمتحف البريطاني. وافتتح توماس تنسن عام 1695 بلندن أول مكتبة إنجليزية مفتوحة لعامة الشعب. أما التعليم فكان يجاهد لتعويض الخسائر التي تكبدها من جراء الحروب الدينية في فرنسا، والحرب الأهلية في إنجلترا، وحرب الثلاثين في ألمانيا. ولم تعد المدارس والآداب الألمانية إلى مكانتها التي بلغتها أيام لوثر، وأولريش فون هتن، وملانكتون قبل قرنين، إلا حين جاء ليسنج (1729-81). في هذه الفترة ظلت اللاتينية غير الممتازة لغة غريبة مقتصرة على القلة المتعلمة، في حين أصبحت الألمانية مجرد



 صفحة رقم : 11217   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> التعليم


أداة سوقية بعد أن بلغت عنفوانها في لوثر، ولم يرق كاتب ألماني واحد إلى مقام الشهرة الدولية خلال هذا التكفير الطويل عن جيل من حرب التقتيل بين الاخوة. أما النبلاء الألمان، الذين احتقروا الحذلقة اللاتينية للجامعات، فقد أرسلوا أبناءهم إلى "مدارس الفرسان Ritterakademien" أو كلفوا معلمين خصوصيين ليعدوا الشباب العريق النسب لما تتطلبه القصور الأميرية من واجبات ولطائف. وفي الطرف الآخر من السلم الاجتماعي نظم أوجست فرانكي، التقوى، في هاله معاهدة التي سماها Stiftungen، وهي مؤسسات خيرية هزأ منها الساخرون ووصفوها بـ "المدارس المهلهلة"، وظل طوال اثنين وثلاثين عاماً (1695-1727) يطعم فيها أبناء الفقراء ويكسوهم ويعلمهم. ولم يلبث أن أضاف إليها مدرسة أعلى توفر التعليم الثانوي لألمع فتيانه ومدرسة نظيرها لألمع فتياته. وهذه المدارس كلها كانت تخصص نصف وقتها للدين. ووجدت الروح العلمانية في ألمانيا معبراً عنها في شخص كرستيان توماسيوس. وسنشيد بذكره فيلسوفاً في موضع لاحق ، أما الآن فنراه أعظم المعلمين الألمان في جيله. فبعد أن طرد من موطنه في ليبزج لهرطقاته، رحل إلى هاله في دولة براندنبورج-بروسيا الناهضة (1690)، وأدت محاضراته هناك إلى إنشاء الجامعة، وقد أصبح أشهر أساتذتها، والمناضل الذي جعل منها أول جامعة "حديثة". وقد هزأ بالسكولاستيه، وأحل الألمانية محل اللاتينية لغة للتعليم، وأصدر مجلة ألمانية، وأدخل البرامج العلمية في المنهج، وكافح في سبيل حرية المعلمين والطلاب في التفكير. ولقبه فردريك الأكبر أبا التنوير الألماني. وجعل التعليم الأولي عاماً وإلزامياً للجنسين في دوقية فورتمبرج عام 1565، وفي الجمهورية الهولندية عام 1698، وفي دوقية فيمار في 1619، وفي إسكتلندة عام 1696، وفي فرنسا عام 1698، وفي إنجلترا عام 1876. وكان تخلف إنجلترا راجعاً إلى الانتشار الواسع للتعليم الأهلي بفضل الهيئات الدينية الخاصة، وإلى شعور الطبقات الحاكمة بأن تعليم الفقراء في النظام الاقتصادي السائد آنئذ غير ضروري بل ربما كان غير مرغوب فيه. وقد بدأت "جمعية تشجيع



 صفحة رقم : 11218   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> التعليم


المعرفة المسيحية" في 1699 تنشئ "مدارس خيرية" للأطفال الفقراء، لنشر اللاهوت والتهذيب المسيحيين بصفة خاصة، واشترط أن يكون مدرسوها كلهم أعضاء في الكنيسة الإنجليزية، وأن يحصلوا على ترخيص من الأسقف. وندد بهذا المدارس بزنارد ماندفيل، الذي أحدث ضجة في 1714 بكتابه "خرافة النحل"، وقال أنها مضيعة للمال، وأن الآباء إذا كانوا أفقر من أن يدفعوا نفقات تعليم أبنائهم "فإن من الوقاحة أن يتطلعوا إلى ما فوق قدراتهم(17)". أما في فرنسا فقد عرض على كل أبرشية أن تمول مدرسة أولية. وكان المدرس عادة علمانياً، يختاره الأسقف ويشرف عليه، وكان التعليم كاثوليكياً لا تهاون فيه. أما "المدارس الصغيرة petites (coles التي أنشأها البور-رويال فلم تصل إلا لقلة منتقاة من الصبيان. وفي 1684 أسس جان باتيست دلاسال "اخوة المدارس المسيحية"، التي عرفت بعد قليل بالاخوة المسيحيين Fr(res Chr(ti(ns. وقد جعل لاسال، ذلك القس الزاهد، الدين جوهر التعليم الذي وفره هؤلاء "الاخوة المسيحيون" مجالنا لأبناء الفقراء. وخصص للممارسات الدينية أربع ساعات في اليوم، وأضيفت القراءة والكتابة والحساب، ولكن الهدف الذي لم يغب عنهم قط كان تدريب الكاثوليك الأوفياء، وتخليص النفوس من طيش الحياة الدنيا ومن النار الأبدية. ووجد أن الجلد نافع لهذه الأغراض. وكان المعلمون يحضون على التعليم بالقدوة أكثر من المبدأ. وفي 1685 افتتح الاخوة المسيحيون مؤسسة لعلها كانت أول مؤسسة حديثة لتدريب معلمي المدارس الأولية. وظل التعليم الثانوي بفرنسا في أيدي اليسوعيين، وكان لا يزال خير تعليم في البلاد المسيحية، وغيرت كليتهم اليسوعية الواقعة وراء السوربون مباشرة اسمها إلى "كلية لويس الأكبر "Coll(ge Louis-le-Grand بعد أن حضر الملك مسرحية أخرجها هناك التلاميذ في 1674. وافتتح لويس الرابع عشر في 1686، تحت إلحاح مدام دمانتنون، في سان-سير (على ثلاثة أميال من فرساي) أول مدرسة داخلية فرنسية للبنات. وكانت الأديار توفر التعليم العالي لبنات الصفوة ممن يدفعن نفقاته، مع التركيز دائماً على الدين. وأجمعت السلطات الكاثوليكية



 صفحة رقم : 11219   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> التعليم


والبروتستنتية على أن الطبيعة البشرية تتنافر أشد التنافر مع ضوابط الحضارة بحيث لم يكن سبيل لترويضها على الفضيلة والنظام إلا سبيل مخافة الله. وما زالت محاولة تهذيب الخلق دون معونة من الدين في مرحلتها التجريبية. أما الجامعات فكانت الآن في دور الاضمحلال، وذلك باستثناء الجمهورية الهولندية، فالمذاهب الدينية المنتصرة تقوم بتطهيرها من المخالفين، والطلبة المشاغبون ينشرون فيها الفوضى، والخلافات اللاهوتية تسيطر عليها. وكانت الدرجات الجامعية في فرنسا وألمانيا تباع بالمال. ولم يكن بين أساتذتها أحد من أفذاذ فلاسفة العصر، إلا قلة من كبار العلماء، وكان هوبز، وليبنتز، وبيل، يتحدثون عن الأساتذة باحتقار لا يغتفر ضغوط الجماهير على الموظفين العموميين. وفتحت في هذه الفترة بعض الجامعات الجديدة: جامعة دويسبرج (1655)، ودرم (1675)، وكيل (1665)، ولند (1666)، وانسبروك (1673)، وهاله (1694)، وبرسلاو (1702). وكان أكثرها مؤسسات صغيرة قل أن زاد أساتذتها على العشرين وتلاميذها على الأربعمائة. وفي معظمها كان المنهج قد تجمد بمرور الزمن، واشتراطات السنية شلت حركة الطلاب والمعلمين على السواء، وقد شكا ملتن من أن الجامعات الإنجليزية "تسلب الشبان استعمال عقولهم بتعاويذ من الميتافيزيقا، والمعجزات، والتقاليد، والأسفار السخيفة". وقال أنه يشعر أنه ضيع شبابه في كمبردج محاولاً أن يهضم "وليمة حمير كلها أشواك وعليق فاسد" وغير ذلك من "الهراء السفسطائي(18)" وقد استمر قيد التقاليد هذا في أكسفورد وكمبردج إلى أن حفز مثال "الجمعية الملكية"، وأستاذية نيوتن بكلية ترنتي (1669-1702)، جامعة كمبردج على أن تفسح للعلم صدارة جريئة. وكافح الشعراء والقساوسة، والصحافيون، والفلاسفة، ليبعثوا النشاط والحيوية في التعليم. ولقد لخصنا من قبل "رسالة ملتن إلى مستر هارتلب" (1644) عن المدرسة المثالية. ولكن لم يكن لوصفاته أي تأثير في التعليم الفعلي. أما في فرنسا فكان أمتع ما كتب في هذا الباب رسالة فنيلون "في تعليم البنات" (1678). وكانت مدام دبوفلييه قد طلبت إليه أن يجمل بعض المبادئ التي يهتدي بها في



 صفحة رقم : 11220   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> التعليم


تعليم بناتها. وأكد الكاهن بالطبع تقوية الناموس الأخلاقي بالدين، ولكنه استنكر ما شاب التعليم الديري من تقشف وعزلة. وقال أنه يشعر أن أديار الراهبات "لا تهيئ للحياة في هذه الدنيا، وهي حياة تدخلها خريجة الدير وكأنها خرجت من كهف لتقابل ضوء النهار الساطع(19)" وطالب بالطرق اللينة في التعليم، فيجب أن يوائم التعليم بين نفسه وبين طبيعة الطفل وميوله وحساسيته، لا أن يخضع التلاميذ كلهم لقاعدة جامدة واحدة. فلنعلم بالطريقة التي تعلم بها الطبيعة-لا بالتجريدات، بل بهداية الطفل إلى لب الأشياء، ولتكن ألعابهم وميولهم الطبيعية وسيلة التعليم (هاهنا بيداجوجيه روسو، وتعليم القرن العشرين "التقدمي" يشرحه كاهن من كهنة القرن السابع عشر). ويريد فنيلون أن تقرأ البنات الآداب القديمة، بلغاتها الأصلية إن استطعن، وينبغي أن يتعلمن شيئاً من التاريخ، ومن القانون ما يكفي لإدارة ضيعة، ولكن لا شأن لهن بالعلم-فعلى الفتاة أن تبدي "بعض الحياء في العلم" (une pudeur sur la sciemce). لقد كان الكاهن الوسيم حساساً لمفاتن الأنثى، ولم يرد بهذه المفاتن أن تكتسي بعلم الجير، وما كان ليفهم قط غرام فولتير بمدام دوشاتليه، أستاذة الميكانيكا النيوتونية. وبعد مقال فنيلون هذا بعشر سنوات، نشر ديفو دعوته لتعليم النساء تعليماً عالياً. فالبنات الإنجليزيات في القرن السابع عشر لم تتح لهن إلا فرص ضئيلة في التعليم الثانوي، إذا استثنينا البيوت الغنية. فكان عليهن أن يعتمدن على المدرسين الخصوصيين، كما كان شأن استر جونسن مع جوناثان سويفت، أو أن يختلسن المعرفة بجهدهن الخاص كما فعلت ابنة ايفلين الأثيرة لديه. وعند ماكولي أن "نساء ذلك الجيل (1685-1715) الإنجليزيات، حتى في أرقى الطبقات، كن قطعاً أسوأ تعليماً منهن في أي فترة أخرى منذ حركة إحياء العلوم"(20). وقد قدر سويفت أنه لا تكاد توجد امرأة راقية واحدة في كل ألف لقنت القراءة أو الهجاء(21)، ولكن ذلك الكاهن المتشائم كان يزكو على المبالغات. على أي حال كان رأي ديفو أن إهمال تعليم المرأة ظلم همجي "لست أعتقد أن الله تعالى جعل النساء مخلوقات غاية في الرقة والنبل، وجملهن بهذه المفاتن... ليكن مجرد مدبرات لبيوتنا، وطاهيات، وإماء". لذلك اقترح أن يكون للبنات أكاديمية شبيهة بالمدارس الخاصة في إنجلترا، يتعلمن فيها-بالإضافة إلى الموسيقى والرقص-"اللغات،



 صفحة رقم : 11221   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> التعليم


خصوصاً الفرنسية والإيطالية، وأنا أجرؤ على تقديم اقتراح مؤذ، هو تعليم المرأة أكثر من لسان واحد". وينبغي أن يتعلمن التاريخ، ويكتسبن كل آداب الحديث ولطائفه. واختم الروائي الغزل بقوله: إن امرأة أحسنت تربيتها وتعليمها، وزودت بفضائل إضافية من المعرفة والسلوك، لهي مخلوق لا نظير له. أبدع وأرق ما في خليقة الله"، وأن "الرجل الذي كانت مثل هذه المرأة من نصيبه ليس عليه إلا أن يغتبط بها ويكون شاكراً"(22). كان كتاب جون لوك "خواطر في التعليم" (1693)(23)، إلى حد كبير، أعمق الأبحاث التي كتبت في النظرية التربوية في عصر لويس الرابع عشر وأعظمها نفوذاً، وقد كتبه المؤلف بعد أن مارس التعليم مدرساً خصوصياً عدة سنوات في أسرة ايرل شافتسبري الأول. واقترح الفيلسوف-مترسماً بإدارات مونتيني-أن يكون هدف المعلم أولاً صحة الجسد وعافيته، فالجسم السليم شرط لا غنى عند للعقل السليم. لذلك كان على تلاميذه أن يتناولوا الطعام البسيط، ويعودوا أنفسهم على اللباس القليل، والفراش القاسي، والجو البارد، والهواء الطلق، والرياضة الكثيرة، والنوم المنتظم، والامتناع عن النبيذ أو الخمر، وعلى "قليل جداً من الدواء أو لا دواء إطلاقاً". ويأتي بعد ذلك في الزمان ولكنه يتقدم عليه في الأهمية تكوين الأخلاق، فكل التعليم سواء الجسدي أو العقلي أو الخلقي يجب أن يكون تدريباً على الفضيلة. وكما أن الجسم يجب تدريبه على الصحة باحتمال المشاق، فكذلك يجب تشكيل الخلق بغرس نكران الذات في جميع الأشياء التي تتعارض مع العقل الناضج. "ينبغي أن يعود الأطفال على إخضاع رغباتهم، والاستغناء عن مشتهياتهم، حتى وهم في المهد". فضبط الشهوات أشبه بالعمود الفقري للخلق. ويجب أن يجعل هذا الضبط ساراً ما أمكن، ولكن لا بد من الإصرار عليه في مراحل التربية كلها. ولن تكفي في ذلك الأفعال الطيبة المفردة، إذ لا بد من تربية الطالب بتكرار الأفعال الطيبة لتكون "عادات" طيبة، لأن "العادات تعمل بثبات ويسر أكثر من العقل، الذي قل أن يستشار بنزاهة ونحن أحوج ما نكون إليه، وندر أن يطاع". ويتردد لوك بين أرسطو وروسو. فهو يؤثر تعليماً تحررياً على تعليم يتجاهل ميل الطفل وفرديته، وينبغي أن تجعل الدروس مشوقة، والنظام رحيماً، ولكنه يقبل الفكرة القائلة بأنه من المرغوب فيه بين



 صفحة رقم : 11222   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> التعليم


الحين والحين توقيع العقوبات البدنية على سوء السلوك المعتمد. يضاف إلى هذا "أن تعويد الأطفال في لطف على تحمل درجات الألم دون أحجام سبيل لإكساب أذهانهم الثبات وإرساء أساس للشجاعة والعزيمة في مستقبل حياتهم". وتربية العقل ينبغي أن تكون تدريباً على طرائق التفكير ومشقة الاستدلال، لا خلاصة للآداب القديمة أو تراشقاً باللغات. ويجب أن تعلم الفرنسية واللاتينية للأطفال في سن مبكرة، وبالحديث لا بالنحو. أما اليونانية والعبرية والعربية فتترك للدارسين المحترفين ويحسن أفراد وقت للجغرافيا والرياضة والفلك والتشريح، وفي مرحلة تالية للأخلاق والقانون، وأخيراً للفلسفة. "ليست مهمة التعليم أن يمكن الصغار من علم بعينه، بل أن يفتح أذهانهم ويشكلها بحيث يتيح لهم القدرة على إتقان أي علم حين يعكفون عليه في مستقبل أيامهم" وكما أن الفضيلة تعلم بالعادة فكذلك يعلم الفكر بالاستدلالات المتكررة: "ولا سبيل إلى هذا خير من الرياضة، التي أرى بناء عليه وجوب تعليمها لكل من يتاح لهم الوقت والفرصة، لا لجعلهم رياضيين بل لجعلهم مخلوقات مفكرة... فقد ولدنا لنكون-إذا شئنا-مخلوقات مفكرة، ولكن سبيلنا إلى هذا هي الممارسة والتمرين، والواقع أننا لن نتجاوز في هذا ما أوصلنا له جهدنا وعكوفنا... وقد ذكرت الرياضة وسيلة لتقر في الذهن عادة الاستدلال بدقة وتسلسل، ...، فإذا اكتسبوا طريقة الاستدلال التي توصل تلك الدراسة الذهن إليها، استطاعوا نقلها إلى ما يتاح لهم من أقسام أخرى من المعرفة(24)". وقد قصد لوك برسالته ضرباً من "التعليم المتحرر"-أي الذي يعني أساساً بالفنون والأدب والسلوك، والذي يهدف إلى إنتاج "الجنتلمان" أي الإنسان "الكريم" المولد، الذي لن يضطر أبداً لكسب قوته بعرق جبينه . ومع أن منهاجه يسمح ببعض العلوم، فإنه على العموم



 صفحة رقم : 11223   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> التعليم


يلتزم "الإنسانيات"-وهي الدراسات التي حبذها إنسانيوا النهضة الأوربية. وقد اشتمل كذلك على الرقص وركوب الخيل، والمصارعة والمثاقفة، وحتى "حرفة يدوية، بل حرفتين أو ثلاثاً"، معاوناً على الصحة والخلق، لا سبباً للرزق. أما الفنون فتعلم على سبيل الترويح لا الاحتراف، وعلى الشباب ألا يأخذ هذه الأمور مأخذ الجد الشديد، عليه أن يستمتع بالشعر، ولا ينظمه إلا للتسلية، ويجب أن يعلم الاستمتاع بالموسيقى دون أن يحاول إتقان العزف على أية آلة، فهذا يقتضيه الكثير جداً من الوقت، كما أنه يلقي بالشاب في "صحبة غريبة جداً"، وهكذا كانت رسالة لوك تجمع بين المحافظة والتحرر، فهي في استنكارها الاستغراق السكولاستي في اللغات القديمة، وتقليلها من التركيز على الدين واللاهوت، واهتمامها بالصحة والخلق، وجهدها في إعداد الشباب العريق الأصل للحياة والخدمة العامتين، كانت تومئ إلى المستقبل، وكان لها تأثير هائل في إنجلترا وأمريكا. وقد شاركت في تكوين الجانب البدني والخلقي للتربية في المدارس الخاصة "Public" الإنجليزية. فلما ترجمت الرسالة إلى الفرنسية (1695) طبعت منها خمس طبعات في خمسين سنة، وأوحت إلى روسو بالكثير من الآراء. أما تلميذ لوك، ايرل شافتسبري الثالث، الذي سنلتقي به ثانية، فلقد شرف نظريات أستاذه وخلقه.



 صفحة رقم : 11224   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> الدارسون


3- الدارسون


واصل كبار الدارسين صياغة المستقبل بإنارة الماضي، وذلك برغم ما بدأ من انشغالهم باللغات المحتضرة والمناظرات الميتة، ووجد بعضهم أنفسهم مشتبكين في صراع المسيحية من الفكر الحر. ومن صغار الأدباء والعلماء من يستحق منا لفتة إجلال عابرة. مثال ذلك شارل دوفريسن، سيد كانج، الذي أدهش معاصريه-وقد عرفوه محامياً في برلمان باريس-بإصداره (1678) قاموساً للاتينية الحديثة والوسيطة في ثلاث مجلدات، بلغت من دقة الدراسة مبلغاً يجعلها إلى اليوم الحجة في بابها. أما بيير أوويه فقد اكتشف وحقق مخطوطة هامة لأوريجانوس، وتعلم السريانية والعربية، والكيمياء، وأجرى ثمانمائة تشريح، وكتب الشعر والقصة، واشترك



 صفحة رقم : 11225   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> الدارسون


مع مدام داسييه العالمة في نشر الطبعة "الدلفية" الشهيرة ذات الستين مجلداً للآداب اللاتينية، وذلك لتعليم الدوفان (ولي العهد)، وقد عين رئيساً لأساقفة آفرانش، وحين مات خلف مكتبته التي هي الآن جزء ثمين من المكتبة القومية. وواصل أتباع بولاند من اليسوعيين نشر موسوعتهم المئينية Acta Sanctorum (أعمال القديسين) وفي باريس، وتحت قيادة جان مابيون، صنف مجمع سان-مور البندكتي (1668-1702) تاريخاً من عشرين مجلداً للقديسين البندكتيين، وألقوا بهذا الضوء إلهام على حوليات فرنسا الوسيطة وآدابها. وأعطى مابيون نفسه شكلاً جديداً للطريقة القديمة لكتابة اللاتينية بمؤلفه De Re diplomatica (1681)، الذي لم يكن كتيباً في الدبلوماسية بل رسالة في تاريخ المراسيم والمخطوطات القديمة وطبيعتها وحجيتها. كتب مابيون بعد أن أتم جزءاً من أجزائه الضخمة، "ليت الله لا يؤاخذني على أنني أنفقت هذه السنين الطوال في دراسة أعمال القديسين، دون أن أشابههم إلا قليلاً"(25). أما عملاق التبحر في الدراسات القديمة في هذا العصر فكان رتشرد بنتلي-الناظر الصارم لكلية ترنتي (بكمبردج) طوال اثنين وأربعين عاماً. فلقد أفنى شبابه في استيعاب المكتبة البولدية، وكان وهو بعد في التاسعة والعشرين من أكبر علماء أوربا تفقها في الآداب اليونانية واللاتينية والعبرية وآثارها. وفي ذلك العام (1691) نشر رسالة في مائة صفحة Epistola ad Millium موجهة إلى "جون مل" سابق، بلغ من دقتها وعمقها العلميين أنها أذاعت صيته في طول أوربا وعرضها. واختبر في الثلاثين ليلقى أول سلسلة من المحاضرات التي دبر لها المال ووضع لها الاسم في وصية الكيميائي الورع روبرت بويل. وقد استجاب بتقديم الحجج القوية على أن النظام الكوني الذي كشف سره في كتاب نيوتن "المبادئ" (Principia) الحديث الصدور يثبت وجود الله. وكان هذا عزاءً عظيماً لنيوتن الذي اتهم من قبل بالإلحاد. وعين بنتلي في وظيفة الأمين الملكي للمكتبة، وأعطى مسكناً في قصر سانت جيمس. وهناك كان يلتقي مراراً بنيوتن، وايفلين، ورن، ومن قلعته تلك خاص معركة من أشهر معارك العلم البريطاني. أما المعركة فنجمت عن مشاركة الإنجليز في الجدل القائم حول



 صفحة رقم : 11226   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> الدارسون


مزايا الأدب القديم تجاه الجديد. بدأ السر وليم تمبل المعركة بمقالته "في العلم القديم والجديد" (1690) التي دافع فيها عن القديم. ولعل بنتلي كان مثنياً على المقالة لولا إشادتها بفالاريس مثالاً على علو كعب اليونان في الأدب. أما فالاريس هذا فكان دكتاتوراً حكم أجراجاس (أجريجنتو) في صقلية اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد. وقد وصفه التاريخ أو وصفته الأساطير بأنه كان يشوي أعداءه في بطن ثور نحاسي، ولكن التاريخ كرمه راعياً للأدب، وقد انحدر إلينا عبر القرون 148 خطايا قيل أنها بقلمه. ونشر هذه الخطابات عام 1695 طالب في كلية كرايست تشيرس بأكسفورد يدعى تشارلز بويل. وطالب وليمة وتون إلى بنتلي الفصل في حجية الخطابات، إذ كان يعد طبعة ثانية (1697) لكتابه "تأملات في العلم القديم والحديث" الذي عارض فيه تمبل. ورد بنتلي بأن نسبتها إلى فالاريس خطأ وأنها كتبت في القرن الثاني للميلاد، ثم أشار عرضاً إلى بعض الهفوات في طبعة تشارلز بويل، ونشر بويل ومعلموه دفاعاً حاراً عن صحة نسبة الخطابات لفالاريس. ودخل جوناثان سويفت، سكرتير تمبل، المعركة في صف أستاذه بأن هزأ ببنتلي في كتابه "معركة الكتب". وظاهر رأي الأدباء العام بويل، وحزن أصحاب بنتلي على ما بدا من انهيار سمعته. ولكن رده عليهم جدير بأن نتذكره: "إن أحداً من الناس لم تخسف سمعته إلا بيده"(26). وفي 1699 أصدر كتاباً مطولاً عنوانه "رسالة في خطابات فالاريس". ولم يثبت الكتاب صواب رأيه فحسب، بل ألقى من الضوء على تطور اللغة اليونانية ما جعل دنيا العلم والأدب تشيد به علامة جديراً بأن يقف على قدم المساواة مع كازويون وسلاماسيوس سكاليجر. وقال بنتلي أنه حتى أسلوب الخطابات ينم على القرن الذي كتبت فيه، وأضاف: "كل لغة حية لا تكف عن الحركة والتغيير، شأنها في ذلك شأن أجسام الكائنات الحية التي تفرز العرق، فبعض الألفاظ تذبل وتصبح مهجورة، وغيرها يدخل اللغة ويزداد استعماله شيئاً فشيئاً، أو قد تحول ذات الكلمة إلى معنى ومفهوم جديدين، يحدثان بمضي الزمن من التغيير الملحوظ في جو اللغة وملامحهما ما يحدثه الزمن في خطوط الوجه وسحنته. وكل الناس يحسون هذا في لغاتهم القومية، حيث



 صفحة رقم : 11227   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> الدارسون


الاستعمال الدائم يجعل من كل إنسان ناقداً، فأي إنجليزي لا يأنس في نفسه، من مجرد صياغة الأسلوب وزيه، القدرة على التمييز بين الإنشاء الإنجليزي الجديد وإنشاء قديم انقضى عليه مائة عام؟ ومثل هذه الفروق الواقعية المحسوسة موجودة في عهود اللغة اليونانية العديدة... ولكن القلة القليلة هي التي أتيح لها من التفقه والمرانة على تلك اللغة ما يبلغها تلك الرهافة في الذوق"(27). هاهنا أديب قادر على كتابة الإنجليزية قدرته على قراءة اليونانية. وفي 1699 رقى بنتلي إلى نظارة كلية ترنتي بكمبردج بإجماع الأساقفة الستة الذين عينهم وليم الثالث لترشيح من يشغل الوظيفة الشاغرة. فأحكم ضبط الطلبة، وأصلح المنهج، وبنى مختبراً للكيمياء ومرصداً للفلك. ولكنه نفر هيئة التدريس والآداب بالكلية بغطرسته وعتوه وولعه بالمال، حتى لقد حكم برفته مرتين، ولكنه ناضل للرجوع إلى وظيفته، واحتفظ بها إلى النهاية. ونشر خلال ذلك عدداً كبيراً من الدراسات اليونانية واللاتينية، وشجع ومول الطبعة الثانية من كتاب نيوتن "المبادئ" وهدم أنطوني كولنز في كتابه "ملاحظات على مقال حديث في الفكر الحر" (1713)، وغامر في تهور بالخروج من ميدانه، بأنه علق على قصيدة ملتن "الفردوس المفقود" بتصحيحات متقعرة لنحو ملتن ونصه. وجلب على نفسه عداء الشاعر ألكسندر بوب إذ قال في ترجمة بوب للألياذة "قصيدة جميلة يا مستر بوب، ولكن يجب ألا تسميها هومر". روى بنتلي أن "الشبل المنذر بالشر" لم يصفح عنه قط. وهزأ بوب في "ملحمة المغفلين" The Dunciad (ابريل 1742) ببيتين من الشعر قال فيهما: "المعلق الجبار، الذي سفهت تحقيقاته المضنية هوراس، وحقرت قوافي ملتن"(28). وفي يوليو مات بنتلي بعد أن اصطلح عليه بوب وذات الجنب. لقد كان أعظم وأثقل أديب أنجبته إنجلترا. وفي هذه الأثناء مد إنجليزي آخر يدعى توماس ستانلي آفاق



 صفحة رقم : 11228   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> الدارسون


الذهن البريطاني بأول كتاب إنجليزي في "تاريخ الفلسفة" (1655-62)، وأدهش قراءه بتخصيص آخر مجلداته الأربعة للفلسفة الكلدية (العربية). لقد أخذ العلم يجرؤ على تجاوز روما القديمة واليونان إلى الشرق الأدنى والأوسط، وكان لهذه الجرأة نتائج مزعجة. فاكتشف إدورد بوكوك وحقق أربع ترجمات سريانية لرسائل العهد الجديد (1630)، وأنشأت أكسفورد لأجله أول كرسي للغة العبرية فيها، وفتحت محاضراته فيها عيون الإنجليز على الحضارة الإسلامية. أما في فرنسا فإن الموسوعة التي أفنى فيها بارتلمي دير بيلو عمره، وهي "المكتبة الشرقية" الضخمة (1697)-التي وضع لها عنواناً فرعياً هو "قاموس عالمي شامل بصفة عامة لكل ما يتصل بمعرفة.... الشرق"-هذه المكتبة كانت كشفاً عن التاريخ والعلم العربيين، ولعبت دوراً في توسيع الأفاق الفكرية توسيعاً حطم كل القيود في حركة تنوير القرن الثامن عشر. وتعجب الطلاب من ذلك الغني في شعر العرب وتاريخهم وفلسفتهم، وعلومهم، ولاحظوا كيف حافظ العرب على علم اليونان وفلسفتهم في الوقت الذي طواهما فيه النسيان إبان عصور غربي أوربا المظلمة، وعرفوا أن محمداً لم يكن مجرد دجال أفاك بل كان حاكماً ذكياً وسياسياً أريباً، وحيرهم ألا يجدوا في العالم المسيحي جرائم أكثر ولا فضائل أقل مما في العالم المسيحي. وأصبحت نسبية الأخلاق واللاهوت خميرة مذيبة في الذهن المسيحية. وكان من أثر الدراسات للتاريخ الشرقي-بما فيه المصري والصيني-تقويض الحساب اليهودي الذي أرخ خلق العالم بسنة 3761 قبل الميلاد، والحساب الذي وضعه جيمس أشر، رئيس الأساقفة الأنجليكاني لأرما-بإيرلندة-(1650) وقرر فيه أن الخلق حدث "في بداية الليلة السابقة ليوم الاثنين 23 أكتوبر 4004 ق. م(29) وكان سبينوزا-كما سنرى بعد قليل-يستهل (1670) حركة "النقد الأعلى) للكتاب المقدس-أي دراسته بوصفه إنتاجاً بشرياً، غنياً في العظمة والسمو، وفي الأخطاء والسخافات. وقد جلب أعلم ناقد الكتاب المقدس في القرن السابع عشر على رأسه غضب بوسويه وسخطه في محاولته الرد على سبينوزا، لأنه سلم في النهاية بالكثير مما زعمه الفيلسوف. وهذا الناقد، واسمه ريشار



 صفحة رقم : 11229   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> الدارسون


سيمون، وأبوه كان حداداً، التحق بالمصلى في باريس، ورسم قسيساً (1670) وكتب في ذلك العام نشرة دافع فيها عن يهود متز الذين اتهموا بقتل طفل مسيحي. وفي 1678، بعد سنوات من البحث شملت دراسات مع عدة أحبار اليهود، أعد العدة لنشر كتابه "تاريخ نقدي للعهد القديم". ورأي، في الطريق، أن يفند حجج سبينوزا ضد الوحي الإلهي للأسفار المقدسة. فسلم بأن أسفار العهد القديم ليست تماماً من عمل المؤلفين الذين نسبت لهم، وأنه لا يمكن أن يكون موسى قد كتب الأسفار الخمسة كلها (التي ورد فيها وصف لموت موسى)، وأن أسفار الكتاب عراها التغيير الكثير عن صورتها الأصلية بأقلام الكتبة والناشرين الذين نقلوها إلى الخلف. وناضل سيمون للاحتفاظ بسلامة عقيدته وبرخصة طبع كتابه، فزعم أن هؤلاء المراجعين كانوا هم أيضاً يعملون بالوحي الإلهي، ولكنه اعترف بأن جميع نسخ العهد القديم الموجودة شوهتها التكرارات والتناقضات والإلتباسات وغيرها من الصعوبات بحيث لا تتيح إلا أساساً واهياً للاهوت عقائدي. ورأى أن يهاجم البروتستنت بهذه النقطة، فقال أن إيمانهم بالوحي الشفوي للأسفار المقدسة يتركهم عاجزين أمام النقد النصي في حين يستطيع الكاثوليكي الموالي لكنيسته أن ينجو من أذى هذه الدراسة الناقدة بقبوله التفسير الذي وضعته كنيسة روما للنص. واختتم سيمون بالقول أن الوحي الإلهي للكتاب المقدس لا يصدق على أي حال إلا على أمور الإيمان. ووافق رئيس المصلى على نشر كتاب سيمون. وبينما كانت أصوله في المطبعة وقعت بعض صفحات تجارب الطبع في يد أرنو "الكبير" رجل البور-رويال، فروعه ما قرأ. واطلع بوسويه على التجارب، فندد هذا على الفور بالكتاب باعتباره "نسيجاً من الكفريات ومعقلاً للإلحاد... سيهدم سلطان الأسفار القانونية(30)" وناشد بوسويه السلطات الزمنية أن تمنع نشر الكتاب. فصادرت الطبعة بأكملها، وقوامها ألف وثلاثمائة نسخة، وعجنتها عجناً واعتكف سيمون خوريا مغموراً في نورمنديه، ولكنه وجد السبل لطبع مخطوطته في روتردام (1685) وبعد أربع سنوات نشر كتابه "تاريخ نقدي للعهد الجديد" وأراد أن يتوج جهوده بترجمة جديدة للكتاب المقدس، وفرغ من ترجمة



 صفحة رقم : 11230   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> من الخرافة إلى العلم -> الدارسون


العهد الجديد، ولكن بوسويه الذي أفزعته الحرية التي تناول بها سميون النص المقدس أقنع المستشار بمصادرة الكتاب (1703). وتخلى سيمون عن مشروعه، وأحرق أوراقه، ومات (1712). وأثارت ترجمته للعهد الجديد أربعين اعتراضاً تفند هذه الترجمة وتبين عصمته. على أنها ما زالت هي وكتاب سبينوزا "رسالة لاهوتية سياسية" من المعالم في الدراسة الحديث للكتاب المقدس. وقد حذر ليبنتز-بعد أن قرأ هذه الأبحاث النقدية الأولى-من هذا أن الاتجاه في التحقيق لو استمر سيدمر المسيحية(3). ولم يحن الوقت بعد للقول هل كان مصيباً أم مخطئاً في زعمه هذا.