قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 3 ف 12

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 11037

قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> محيط القارة -> الصراع على البلطيق -> السويد المغامرة

الكتاب الثالث: محيط القارة 1648-1715

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثاني عشر: الصراع على البلطيق 1648-1721

1- السويد المغامرة 1648-1700

إن التاريخ شظية من البيولوجيا-إنه اللحظة البشرية في موكب الأنواع. وهو أيضاً وليد الجغرافيا-لأنه فعل الأرض والبحر والهواء، وأشكالها ونتاجها، وتأثيرها في رغبة الإنسان ومصيره. فلنتأمل هنا أيضاً تلك المواجهة بين الدول المحيطة بالبلطيق في القرن السابع عشر. فالسويد في شماله، واستونيا وليفونيا ولتوانيا في شرقه، ومن خلفها روسيا الباردة الجائعة، وفي جنوبه بروسيا الشرقية وبولنده وبروسيا الغربية وألمانيا، وفي غربه الدنمرك بموقعها الاستراتيجي على منافذ البلطيق الضيقة إلى بحر الشمال والأطلنطي. لقد كان هذا سجناً جغرافياً سيصطرع نزلاؤه على السيطرة على تلك المياه والمضايق، والشواطئ والثغور، ومسالك التجارة ودروب الهرب براً أو بحراً. هنا خلقت الجغرافيا التاريخ.

أما الدنمرك فقد لعبت الآن دوراً صغيراً في مسرحية البلطيق. ذلك أن نبلاءها الذين احتكروا الحرية لأنفسهم غلوا أيدي ملوكها وأرجلهم. وكانت قد نزلت عن سيطرتها على مضايق الاسكاجراك والكاتيجات (1645) وبقيت النرويج خاضعة لها، ولكنها في 1660 فقدت أقاليم السويد الجنوبية. وشعر فردريك الثالث (1648-70) بحاجته إلى سلطة ممركزة تتصدى للتحديات الخارجية، فأرغم النبلاء على أن ينزلوا له عن السلطة المطلقة والوراثية، مستعيناً على ذلك برجال الدين والطبقات الوسطى. وقد وجد ابنه كرستيان الخامس (1670-99) معيناً له في بيدر شوماخر، كونت جريفنفلد، الذي ظفر بثناء لويس الرابع عشر عليه وزيراً من أكفأ الوزراء في عصر الدبلوماسية الذهبي ذاك. أصلح مالية الدولة، ودفع التجارة والصناعة قدماً، وأعاد تنظيم الجيش والبحرية. واستن الكونت سياسة السلم، ولكن الملك الجديد كان تواقاً لاستعادة القوة والأقاليم التي كانت الدنمرك تملكها فيما مضي. ومن ثم ففي 1675 جدّد الحرب القديمة مع السويد، ولكنه هزم، وثبّتت من جديد سيادة السويد على اسكندناوة. وقد تعاقب على عرش السويد في تلك الحقبة طائفة ممتازة من الملوك الأشداء، وظلوا نصف قرن أعجوبة زمانهم لا ينافسهم في ذلك منافس غير لويس الرابع عشر. ولو أتيح لهم سند أكبر من الموارد لبلغوا ببلدهم من القوة والمنعة مبلغ فرنسا، ولاستطاع الشعب السويدي-بوحي من منجزات الجوستافين، والكارلين الثلاثة، ووزرائهم العظام-أن يموّل ازدهاراً ثقافياً يتناسب مع انتصاراتهم وتطلعاتهم. غير أن الحروب التي عززت قوتهم استنزفت ثروتهم، فخرجت السويد من ذلك العهد مستنزفة القوى وإن تكللت بأمجاد البطولة. وإنه لما يثير الدهشة أن تحقق أمة من الأمم هذا القدر الكبير من المنجزات في الخارج على ما بها من ضعف شديد. فسكانها لم يجاوزوا مليوناً ونصفاً، ينقسمون طبقات لم تتعلم إلى ذلك الحين أن يعيش بعضها مع البعض في سلام. وكان النبلاء يتسلطون على الملك، ويقررون لأنفسهم شراء أراضي من أملاك التاج بشروط ميسرة، والصناعة مقيدة محددة بحاجات الحرب تحديداً أعجزها عن تغذية التجارة التي أطلقت الحرب عقالها، وكانت الأملاك الخارجية عبئاً لا تبرره غير العزة القومية. إن حنكة الوزراء المخلصين وحدها هي التي دفعت عن البلاد خطر الإفلاس الذي بدا أنه ثمن المجد.

كن شارل العاشر جوستافس ابن عم كرستينا الرهيبة، ورفيق لعبها وعشاقها، وخلفها بعد أن نزلت له عن العرش في 1654. وقد درأ خطر الإفلاس بإكراه النبلاء على رد بعض الضياع الملكية التي سطوا عليها. واستطاعت الدولة بفضل هذا "الاختزال" لأملاك الإقطاعيين أن تسترد ثلاثة آلاف مسكن بأراضيها وتستعيد قدرتها على الوفاء بديونها. ورغبة في استكمال النقص في العملة الفضية والذهبية، عهد شارل إلى يوهان بالمسترو بإنشاء مصرف قومي وإصدار نقود ورقية (1656)-وهي أول ما صدر منها في أوربا. وقد حفز ازدياد تداول العملة الورقية الاقتصاد حيناً، ولكن المصرف أصدر منها فوق ما يستطيع الوفاء بع نقداً عند الطلب، فأوقفت التجربة. ونقل الملك المقدام أثناء ذلك صناعة الحديد والصلب التي اختصت بها ريجا إلى السويد، فأرسي بذلك أسس قاعدة صناعية أقوى تستند إليها سياسته العسكرية.

أما هدفه الذي جاهر به فكان توسيع رقعة ملكه. فالإمارات التي كسبها جوستافس أدولفس على أرض القارة تهدد بالثورة، والحكومة البولندية تأبى أن تعترف بشارل العاشر ملكاً على السويد، ولكن بولنده أضعفها تمرد القوزاق، وقد خفت الروسيا لنجدة القوزاق، وكان الأمل ولا ريب يراودها في شق طريق لها إلى البلطيق. ثم أن للسويد جيشاً حسن التدريب خافت أن تسرحه، وخير سبيل إلى إعاشته أن يخوض حرباً ظافرة. ورأى شارل في هذه الظروف كلها ما يزكي الهجوم على بولندة. وعارض الفلاحون ورجال الدين، فاسترضاهم بالزعم بأن مشروعه ليس إلا حرباً مقدسة لحماية حركة الإصلاح البروتستنتي وتوسيع نطاقها (1655)(1). ولكن تبين أن بولندة بلد يسهل غزوه، ويصعب إخضاعه، كانت مقاومتها في الغرب ضعيفة لما حاق بها في الشرق من خلل وما عانته من غارات العدو. ودخل شارل وارسو، وهدأ النبلاء البولنديين بوعده أن يبقى على امتيازاتهم الموروثة، وتلقى ولاء البروتستنت البولنديين، وعرض اللتوانيون أن يعترفوا بسيادته. ولما حاول فردريك وليم، "ناخب براندنبورج الأكبر" الإفادة من انهيار بولندة بالاستيلاء على بروسيا الغربية (وكانت يومها إقطاعية بولندية)، سيّر شارل جيشه غرباً بسرعة نابليونية وحاصر الناخب في عاصمته، وأرغمه على توقيع معاهدة كوينجزبيرج (يناير 1956). وأعلن الناخب ولاءه لشارل فيما يتصل ببروسيا الشرقية باعتبارها اقطاعة سويدية، ووافق على أن يؤدي للسويد نصف رسوم تلك الولاية وضرائبها، ووعد بأن يمد الجيش السوري بألف وخمسمائة مقاتل.

غير أن الخصومة الدينية التي أثارها شارل هزمته. ذلك أن البابا إسكندر السابع والإمبراطور فرديناند الثالث سخرا كل ما يملكان من نفوذ ليؤلفا حلفاً ضد السويد، لا بل إن الدنمركيين والهولنديين البروتستنت انضموا إلى الحلفاء في تصميمهم على كبح جماح الفاتح الشاب مخافة أن يعدو بعد ذلك على ممتلكاتهم أو تجارتهم. فهرع قافلاً إلى بولندة، وهزم قوة بولندية جديدة، واحتل وارسو من جديد (يوليو 1656). غير أن بولندة امتشقت الآن الحسام لقتاله بعد أن ثارت حماستها الدينية، وألفى شارل نفسه-وهو بلا صديق رغم انتصاره-وقد أحدق به الأعداء من كل حدب. وهجره ناخب براندنبورج وتعهد بتقديم العون لبولندة. أما شارل-الذي كان خبيراً بكسب المعارك فقط لا بدعم فتوحه بصلح عملي-فقد اكتسح البلاد غرباً في هجوم على الدنمرك، وعبر الكاتيجات فوق ثلاثة عشر ميلاً من الجليد (يناير 1657)، وهزم الدنمركيين، وأكره فردريك الثالث على توقيع صلح روسكيلدي (27 فبراير). وانسحبت الدنمرك كلية من شبه الجزيرة السويدية، ووافقت على أن تغلق مضيق الساوند في وجه أعداء السويد. فلما تباطأ الدنمركيون في تنفيذ هذه الشروط استأنف شارل الحرب، وحاصر كوبنهاجن. وعقد العزم الآن على خلع فردريك الثالث، وتوحيد الدنمرك والسويد والنرويج من جديد تحت تاج واحد.

ولكن القوة البحرية هزمته، ذلك أن إنجلترا والأقاليم المتحدة، وهما أعظم أمم العصر آنذاك، اتفقتا الآن-رغم ما بينهما عادة من عداء-على ألا تقبض أي دولة من الدول على مفتاح البلطيق بالهيمنة على الساوند بين الدنمرك والسويد. ففي أكتوبر اقتحمت قوة هولندية الساوند، ورفعت الحصار عن كوبنهاجن، وساقت أمامها الأسطول السويدي الصغير إلى ثغوره في أرض الوطن. وأقسم شارل أن يقاتل إلى النهاية. ولكن الشدائد التي عاناها في حملاته كانت قد فعلت فيه فعلها، فبينما كان يخطب الديت السويدي في جوتيبورج أخذته الحمى. وما لبثت أن قضي نحبه في ربيع حياته (13 فبراير 1660).

وكان ابنه شارل الحادي عشر (1600-97) لا يزال في الخامسة، فاضطلع بالحكم مجلس وصاية أنهى الحرب بصلح أوليفا ومعاهدة كوبنهاجن (مايو، يونيو 1660). ونزلت الملكية البولندية عن دعواها في تاج السويد، وثبتت تبعية ليفونيا للسويد، ونالت براندنبورج الحق الكامل في بروسيا الشرقية، واحتفظت السويد بمقاطعاتها الجنوبية (سكاني) وأقاليمها على أرض القارة (بريمن، وفيردن، وبومرانيا)، ولكنها انضمت إلى الدنمرك في ضمان حق السفن الأجنبية في دخول البلطيق. وبعد عام وقعت السويد وبولنده في كارديس صلحاً فاتراً مع قيصر الروس. واستمر الصراع على البلطيق خمسة عشر عاماً بوسائل أخرى غير الحرب. كانت هذه المعاهدات نصراً لا يستهان به للسويد، ولكن البلاد أشرفت مرة أخرى على الإفلاس. وكافح عضوان من مجلس الوصاية هما جوستاف بوندي وبير براهي للحد من النفقات الحكومية، ولكن المستشار ماجنس دي لاجاردي أضاف إلى الديون القديمة ديوناً جديدة، وأتاح للنبلاء ولأصدقائه ولنفسه جني المنافع على حساب الخزانة، وفي سبيل تلقي المعونة المالية ربط السويد بحلف مع فرنسا (1672) قبل أن ينقص لويس الرابع عشر على الأقاليم المتحدة، حليفة السويد، بأيام معدودات فقط. وما لبثت السويد أن وجدت نفسها تخوض حرباً ضد النمرك، وبراندنبورج، وهولندة. وهزمت على يد الناخب الأكبر في فيربيللن (18 يونيو 1675)، واجتاح أعداؤها أقاليمها القارية، وغزا جيش دنمركي "سكاني" من جديد ونكبت البحرية السويدية بكارثة تجاه أولاند "1 يونيو 1676).

وأنقذ السويد ملكها الشاب شارل الحادي عشر، الذي اضطلع الآن بزمام الأمر، وذلك بسلسلة من الحملات ألهمت فيها بسالته الشخصية جنوده، فدحروا الدنمركيين في لوند ولاندسكرونا. وبفضل هذين الانتصارين وتأييد لويس الرابع عشر استردت السويد كل ما فقدته. وتعاون بطل جديد من أبطال الدبلوماسية السويدية، هو الكونت يوهان جيلنشتييرنا، مع الكونت جريفنفلد-لا في الترتيب لصلح بين السويد والدنمرك فحسب، بل في إبرام حلف عسكري وتجاري بينهما. واتفقت الدولتان على عملة مشتركة، وكانت الوحدة الإسكندناوية كلها قاب قوسين أو أدنى حين قطع هذا التطور موت جيلنشتييرنا وهو في الخامسة والأربعين (1680). وحافظت الأمتان على السلام عشرين عاماً.

وكان جيلنشتييرنا قد علم الملك الشاب أن السويد لا تستطيع الإبقاء على مكانتها بين الدول العظيمة إذا مضي نبلاؤها في التهام أراضي التاج، وهو أمر يهودي بالملكية إلى ذل الفقر وبالدولة إلى درك العجز. وفي 1682 اتخذ شارل الحادي عشر خطوة حاسمة. فاستأنف بتأييد رجال الدين والفلاحين وأهل المدن، في تدقيق وشمول يحفزهما السخط "اختزال" أراضي النبلاء، أي استرداد ما فقدته الملكية من ضياعها. ثم حقق في فساد الموظفين وعاقبه، وبلغت إيرادات الدولة النقطة التي أتاحت للسويد القدرة من جديد على الاحتفاظ بممتلكاتها والاضطلاع بتبعاتها. ولم يكن شارل الحادي عشر بالملك المحبب جداً إلى شعبه، ولكنه كان ملكاً عظيماً. فلقد آثر انتصارات السلام الأقل ضجيجاً على انتصارات الحرب، وذلك رغم ما خلف في الحرب من سجل يحسده عليه الكثيرون. وقد وطد حكم الملكية المطلق، ولكن هذا النظام كان يومها البديل لإقطاعية رجعية فوضوية.

وفي هدوء هذه الهدنة الصافية ازدهرت علوم السويد وآدابها وفنونها. وبلغت العمارة السويدية أوجهاً في القصر الملكي الفخم الضخم باستوكهولم، الذي صممه (1693-97) نيقوديموس تيسين. وكان لارس يوهانسون للسويد بمثابة ليوباردي (الإيطالي) ومارلو (الإنجليزي) مجتمعين، فهو يتغنى غناءً شجياً بكراهية الإنسان، ويلقى حتفه بطعنات السلاح في شجار بحان قضي عليه وهو بعد في السادسة والثلاثين. وقد ألف جونو دالشتيرنا ملحمة شعرية ببحر دانتي سماها Kunga Skald (1697) إشادة بمآثر شارل الحادي عشر. ومات الملك في تلك السنة، بعد أن أنقذ وعمر بلداً كان يدمره من بعده ابنه الأشهر منه.

وكان هذا الابن، شارل الثاني عشر، قد بلغ الخامسة عشرة. ولما كانت خريطة أوربا يعاد رسمها آنئذ بالدم والحديد، فقد دُرّب أولاً وقبل كل شيء على فنون القتال. فهيأته ألعابه كلها للأعمال العسكرية، وتعلم الرياضيات فرعاً من العلوم الحربية، وقرأ من اللاتينية ما يكفيه لأن يستوحي من سيرة الإسكندر التي كتبها كونتوس كورتيوس طموح التفوق في السلاح إن لم يكن الطموح لغزو العالم. وإذ كان فارع القامة وسيماً، قوياً، لا يثقل بدنه درهم زائد من لحم وشحم، فقد استمتع بحياة الجندي، وتجلد لما فيها من حرمان، وهزأ بالخطر والموت، وتطلب هذه الصلابة عينها في جنده. ولم يأبه كثيراً بالنساء، فلم يتزوج قط وإن خطبت وده الكثيرات. وكان يصيد الدببة وسلاحه شوكة خشبية ثقيلة لا أكثر، ويركب خيله بسرعة طائشة، ويسبح في مياه تغطي الثلوج نصفها، ويلتذ المعارك الزائفة التي كاد هو وأصدقاؤه يلقون حتفهم فيها غير مرة. وقد رافقت بسالته العنيدة وحيويته البدنية بعض فضائل الخلق والعقل: صراحة تزدري ألاعيب الدبلوماسية، وإحساس بالشرف تشوبه لحظات شاذة من القسوة الوحشية، وعقل يلتقط لب الأمور لتوّه، ولا يطيق المداخل الملتوية في التفكير أو التدبير، وكبرياء صموت لم يغب عنها قط محتده الملكي ولم تعترف قط بالهزيمة. وآية ذلك أنه في حفلة تتويجه توج نفسه بيده على طريقة نابليون، ولم يقطع لنفسه يميناً تحدّ من سلطته، فلما تشكك أحد رجال الدين في صواب خلع السلطة المطلقة على فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة، حكم عليه شارل أولاً بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد.

كانت السويد يوم ارتقى عرشها دولة قارية كبرى، تحكم فنلندة، واينجريا، واستونيا، وليفونيا، وبومرانيا، وبريمن، وكانت تهيمن على البلطيق وتقوم سداً حائلاً بين روسيا وبين ذلك البحر. ورأت روسيا، وبولنده، وبراندنبورج، والدنمرك، في حداثة سن ملك السويد فرصة لمد حدودها دعماً لتجارتها ومواردها. وكان "العامل الهدّام" في هذا الحل الجغرافي فارساً ليفونياً يدعى يوهان فون باتكول، انخرط في سلك الجيش السويدي بوصفه من رعايا السويد، وارتقى إلى رتبة النقيب. وفي 1689 و1629 احتج بشده على "اختزال" شارل الحادي عشر لضياع النبلاء في ليفونيا، فاتهم بالخيانة، وفر غلى بولندة، ثم التمس من شارل الثاني عشر أن يعفو عنه فرفض، وفي 1689 اقترح على أوغسطس الثاني ملك بولندة وسكسونيا تأليف حلف ضد السويد من بولنده، وسكسونيا، وبراندنبورج، والدنمرك، وروسيا. ورأى أوغسطس أن الخطة جاءت في أوانها، فاتخذ الخطوة الأولى بالدخول في حلف مع ملك الدنمرك فردريك الرابع (25 سبتمبر 1699). وذهب باتكول إلى موسكو. وفي نوفمبر وقع بطرس الأكبر مع مبعوثي سكسونيا والدنمرك اتفاقاً لتقطيع أوصال السويد.


2- بولندة وسوبيسكي 1648-1699

في مستهل هذه الحقبة أثر حدثان تأثيراً عميقاً في تاريخ بولنده ففي 1652 هزم عضو واحد من أعضاء البرلمان البولندي Sejm للمرة الأولى قانوناً بممارسته حق "الفيتو المطلق"، الذي كان يسمح لأي نائب في ذلك البرلمان بإبطال قرار أية أغلبية. ذلك أن النظام في الماضي كان يشترط موافقة جميع الأقاليم قبل إقرار أي قانون، وكانت أقلية ضئيلة أحياناً تجعل التشريع مستحيلاً، ولكن فرداً من الأفراد لم يؤكد إلى ذلك الحين الحق في نقض اقتراح يقبله الباقون كلهم. وقد استطاع "الفيتو المطلق" لنائب واحد أن "ينسف" أو ينهي ثماني وأربعين دورة من الدورات الخمس والخمسين التي عقدها البرلمان بعد 1652. وقد افترضت الخطة أنه ما من أغلبية تستطيع بحق أن تطغى على أقلية مهما صغرت. ولم يكن مبعثها النظرية الشعبية بل الكبرياء الإقطاعية، إذا اعتبر كل مالك نفسه سيداً أعلى في أرضه. وأسفر هذا على أكبر قدر من الاستقلال المحلي والعقم الجماعي. ولما كان الملوك خاضعين للبرلمان، والبرلمان خاضعاً للفيتو المطلق، فقد كانت السياسة القومية المتسقة ضرباً من المحال عادة. وبعد تسع سنوات من الفيتو الأول تنبأ الملك جون كازيمير للبرلمان بنبؤة لافتة للنظر، قال: "أتمنى على الله أن يتبين نبي كذاب، ولكني أقول لكم أنكم إن لم تجدواً علاجاً لهذا الشر (أي الفيتو المطلق) فستغدو الدولة فريسة للدول الأجنبية. سوف يحاول الموسكوفيون أن يقتطعوا بالاتيناتنا الروسية ربما إلى الفستولا. وسوف يحاول البيت المالك البروسي الاستيلاء على بولنده الكبرى. وسوف تلقي النمس بثقلها على كراكوف. وسوف تؤثر كل من هذه الدول اقتسام بولندة دون الاستيلاء عليها كلها ولها هذه الحريات التي تتمتع بها اليوم"(2).

وقد تحققت هذه النبؤة بحذافيرها تقريباً.

وكانت ثورة القوزاق (انتفاضة خملنيتسكي) في أوكرانيا (1648) حدثاً لا يفوقه في أهميته التاريخية سوى هذا الفيتو. ذلك أن دمج لتوانيا مع بولنده في "اتحاد لوبلين" (1569) أخضع إقليم أوكرانيا، الذي يجري فيه نهر الدنيبر، لحكم غلب عليه العنصر البولندي، وكان أكثر سكان الإقليم من قوازق زابوروج الذين ألفوا الاستقلال وتمرسوا الحرب. وحاول النبلاء البولنديون الذين ابتاعوا الأرض في أوكرانيا أن يرسوا فيها أسس الأحوال الإقطاعية، وثبّط الكاثوليك البولنديون ممارسة تلك الحرية التي كفلها اتحاد لوبلين للعبادة الأرثوذكسية. وانبعثت ثورة من ثورات القوزاق من هذا المركب من أسباب السخط والتذمر، وتزعمها حيناً زعم حربي (هتمان) غني يدعى بوجدان شميلنيكي، وناصرها تتار القرم المسلمون. وفي 26 مايو 1648 دحر التتار والقوزاق الجيش البولندي الرئيسي في كورسون، وسرت الحماسة للثورة بين الأغنياء والفقراء على السواء.

وقد خلفت وفاة لاديسلاس الرابع في 20 مايو عرش بولندة في هذه الأثناء مثاراً لنزاع بين النبلاء استمر حتى 20 نوفمبر، حين اختارت هيئة الديت الانتخابية جون الثاني كازيمير. أما شيملنيكي فقد خشي ألا تستطيع الثورة الصمود للجيوش البولندية المعززة إلا بقبول المعونة والسيادة الأجنيستين، فاختار الاستنجاد بروسيا الأرثوذكسية. وعرض أوكرانيا على القيصر الكسيس، ورحبت الحكومة الروسية بالعرض وهي عليمة بأن معناه الحرب مع بولندة، وبمقتضى "قانون بيريياسلاف" 18 يناير 1654، انضوت أوكرانيا تحت الحكم الروسي. وكفل للإقليم الاستقلال الذاتي تحت حكم زعيم حربي ينتخبه القوزاق ويصدق على انتخابه القيصر.

وفي الحرب التي تلت ذلك بين بولندة وروسيا، حول تتار القرم الذين آثروا أوكرانيا بولندية على أوكرانيا روسية-حولوا معونتهم من القوزاق إلى البولنديين. وفي 8 أغسطس 1655 استولى الروس على فلنو، وذبحوا آلافاً من الأهالي، وأحرقوا المدينة وسووها بالتراب. وبينما كان البولنديون يدافعون عن أنفسهم على جبهتهم الشرقية، قاد شارل العاشر جيشاً سويدياً إلى غربي بولندة واستولى على وارسو (8 سبتمبر). وانهارت المقاومة البولندية. وأعلن النبلاء البولنديون، بل حتى الجيش البولندي، الخضوع للفاتح وأقسموا يمين الولاء له(3). وأرسل له كرومويل تهانئه لأن قبض على أحد قرون البابا(4)، وأكد شارل لـ "حامي الجمهورية" (كرومويل) أنه عما قليل لن يبقى في بولندة باوبوي واحد(5)، ومع ذلك وعد بالتسامح الديني في بولندة. على أن خططه أحبطها جيشه الظافر. ذلك أنه الجيش أفلت زمامه، فراح ينهب المدن ويذبح السكان ويسلب الكنائس والأديار.

وقاوم الحصار دير ياسنا جورا، القريب من تشستوتشوا، مقاومة باسلة، وأثار الذي نجاحه الذي عد من المعجزات حماسة الجماهير الدينية، وأهاب الكهنة الكاثوليك بالأمة أن تطرد الغزاة الكفار، وبادر الفلاحون إلى امتشاق الحسام، ففرت الحامية التي تركها شارل في وارسو أمام الحشد الزاحف وأعيد كازيمير إلى عاصمته (16 يونيو 1656) وانقلب التتار على روسيا، ووقعت روسيا هدنة مع بولندة مؤثرة جيرتها على جيرة السويد (1656). وأفضي موت شارل العاشر فجأة إلى صلح أوليفا (3 مايو 1660) الذي أنهى الحرب بين بولندة والسويد. وفي 1659 استؤنف الصراع مع روسيا. وبعد ثمانية أعوام من الفوضى والحملات وذبذبات الولاء القوزاقي، نالت روسيا بمقتضى صلح أندروسوفو (20 يناير 1667) سمولينسك، وكيف، وأوكرانيا شرقي الدنيير. وظلت تجزئة أوكرانيا على هذا النحو سارية حتى التقسيم الأول لبولندة (1772).

ثم اعتزل جون كازيمير عرش بولندة (1668) بعد أن أرهقته الحرب وأضناه الفيتو مطلق، واعتكف في نيفير بفرنسا، وعاش حياة هادئة بين الدرس والصلاة إلى أن مات (1672). وخاض خلفه ميخائيل فسنيوفيكي حرباً مدمرة مع العثمانيين، وبمقتضى صلح بوكزاكز (1672) اعترفت بولندة بالسياسة العثمانية على أوكرانيا الغربية، وتعهدت بأداء جزية سنوية للسلاطين تبلغ 220.000 دوكاتية. وفي تلك الحرب اكتشفت بولندة عبقرية جان سوبيسكي الحربية، فلما مات فسنيوفيكي (673)، انتخب الديت أعظم ملوك بولندة قاطبة (1674) بعد أن ضيّع وقتاً ثميناً على عاداته.

أما جان هذا-الذي يسمى الآن يوحنا الثالث-فكان يبلغ الرابعة والأربعين إذ ذاك. وقد حالفه الحظ في مولده، لأن أباه كان الحاكم العسكري لكراكو، أما أمه فكانت حفيدة القائد البولندي ستانسلاس زولكيسفكي الذي استولى على موسكو في 1610، وكان حب الحرب يسري في دم جان. وبفضل تعليمه في جامعة كراكو وأسفاره في ألمانيا والأراضي المنخفضة وإنجلترة وفرنسا، حيث قضي بباريس قرابة عام، أصبح رجلاً مثقفاً فضلاً عن بسالته ومهارته الحربيتين. وفي 1648 مات أبوه، عقب اختياره ممثلاً لبولندة في معاهدة وستفاليا. وسارع جان بالعودة إلى أرض الوطن، وانضم إلى الجيش البولندي في قتال الثوار القوزاق. ولما غزا السويديون بولنده، وفر جان كازيمير، كان سوبيسكي واحداً من الموظفين البولنديين الذي ارتضوا شارل العاشر ملكاً على بولندة، وظل يخدم عاماً في الجيش السويدي. ولكن حين ثار البولنديون على الغزاة عاد سويسكي إلى ولائه القومي، وأبلى في الدفاع عن وطنه بلاء رفعه إلى منصب القائد العام للجيوش البولندية في 1665. وفي تلك السنة تزوج المرأة الممتازة التي أصبحت نصف حياته والمشكل لسيرته.

هذه المرأة، واسمها ماريا كازيميرا، التي كان يجري في عروقها الدم الفرنسي الملكي، ولدت في نيفير عام 1641، وربيت في فرنسا وبولندة. وفي وارسو يوم كانت في الثالثة عشرة ألهب حسنها ومرحها عاطفة سوبيسكي وهو في الخامسة والعشرين. ولكن سعود الحرب ونحوسها أفصته عنها، فلما عاد وجدها زوجة لنبيل فاسق يدعى جان زامويسكي. وإذ كانت ماريا مهملة من زوجها، فقد قبلت سوبيسكي وصيفاً مرافقاً. ويبدو أنها حافظت على عهودها الزوجية، ولكنها وعدت بالزواج من سوبيسكي حالما يفسخ زواجها من زامويسكي. على أن الزوج كفاها مئونة هذا الشرط بموته. وما لبث العاشقان أن تزوجا، وأصبح غرامهما الطويل أسطورة في التاريخ البولندي. وكان الكثير من النساء البولنديات ينافسن النساء الفرنسيات في الجمع بين الجمال الكلاسيكي، والشجاعة والذكاء القريبين من شجاعة الرجال وذكائهم، والولع بصنع الملوك أو إرشادهم. وقد بدأت ماريا من يوم زواجها تخطط لكي تبوئ سوبيسكي عرش بولندة.

وكان حبها أحياناً حباً لا يقيم وزناً لصوت الضمير كما قد يكون الحب. ففي 1669 يبدو أن سوبيسكي قبل المال الفرنسي ليؤيد كردينالاً فرنسياً ضد فسنيوفيكي. وبعد انتخاب ميخائيل انضم جان إلى غيره من النبلاء في مغامرات تستهدف خلع الملك لأنه جبان لا يصلح للدفاع عن بولندة ضد العثمانيين ولا رغبة له في هذا الدفاع. وقاد بنفسه رجاله إلى انتصارات أربعة خلال عشرة أيام. وفي 11 نوفمبر 1673، وهو اليوم الذي مات فيه الملك، دحر سوبيسكي العثمانيين في خوتين ببسارابيا. وجعله هذا النصر المرشح المنطقي لعرش لا قبل الآن بدفع الأعداء المحدقين به من كل جانب إلا لأصلب القتال وأشده تصميماً. ولكي يدعم المنطق حضر إلى هيئة الديت الناخبة على رأس ستة آلاف مقاتل. ولعب المال الفرنسي دوراً في انتخابه، ولكن هذا كان يتفق وسنّة العصر تمام الاتفاق.

ولقد كان ملكاً بجسمه وروحه كما كان باسمه. وصفه الأجانب بأنه "من أكثر الرجال وسامة وأكملهم بنية" في أوربا، "له طلعة نبيلة شماء، وعينان تشعان نوراً وناراً(6)" قوي البدن، مثابر على الإنجاب، متطلع العقل متيقظه. وقد حفز حبه الطبيعي للتملك إسراف حبيبته ماريزنيكا، ولكنه كثيراً ما عوض عن بخل البرلمان الشحيح بدفع رواتب جنده من جيبه، وبيع أملاكه ليشتري لهم البنادق(7). وقد استحق كل ما أخذ، لأنه أنقذ بولندة وأوربا جميعاً.

ذلك أن سياسته الخارجية كانت بسيطة في هدفها، وهو ردّ العثمانيين إلى آسيا، أو على الأقل صد هجماتهم على معقل العالم المسيحي الغربي بفيينا. وقد عاكس جهده هذا تحالف حليفته فرنسا مع السلطان العثماني، ومحاولات الإمبراطور أن يزج به في الحروب التركية، وكان ليوبولد الأول يأمل إذا وفق في محاولاته هذه أن تطلق يد النمسا في تملك الأراضي الدانيوبية أو المجرية التي كانت كل من النمسا وبولندة تدعي الحق فيها لنفسها. وبينما كان سوبيسكي يتحسس طريقه غاضباً وسط هذه المتاهة، تاقت نفسه لحرية تخطيط السياسة وإصدار الأوامر دون أن يكون خاضعاً في كل خطوة للبرلمان والفيتو المطلق. وحسد لويس الرابع عشر والإمبراطور على سلطتهما في اتخاذ القرارات بصورة قاطعة ثم إصدار الأوامر دون إبطاء.

وعقب انتخابه اضطلع باسترداد أوكرانيا الغربية من العثمانيين الذين تقدموا الآن شمالاً حين بلغوا لفوف. وهناك، وبقوة لا تزيد على خمسة آلاف فارس، هزم عشرين ألف تركي (24 أغسطس 1675). وبمقتضى معاهدة زورافنو (17 أكتوبر 1676) أكره العثمانيين على النزول عن حقهم المزعومة في الجزية، والاعتراف بسيادة بولندة على أوكرانيا الغربية. ثم شعر بأن الفرصة مواتية لطرد القوة العثمانية من أوربا. فدعا الإمبراطور للانضمام إليه في حرب ضروس يخوضانها مع الترك، ولكن ليوبولد اعترض بأنه لا يملك تأكيداً بألا يهاجمه لويس الرابع عشر في الغرب أن أرسل جيوشه إلى الشرق، ورجا سوبيسكي فرنسا أن تعطي النمس هذا التأكيد، ولكن لويس الرابع عشر أبى(8). وتحول سوبيسكي أكثر فأكثر إلى التحالف مع النمسا. فلما حاول العملاء الفرنسيون رشوة البرلمان ضده فضح مؤامراتهم ونشر رسائلهم السرية. وفي رد الفعل التالي ضد فرنسا وقع البرلمان (1 أبريل 1683) حلفاً مع الإمبراطورية، واتفق على أن تحشده بولندة أربعين ألف مقاتل، والإمبراطورية ستين ألفاً. فإذا حاصر العثمانيون فيينا أو كراكوف، خف الحليف لنجدة حليفه بقوته كلها.

وفي يوليو زحف العثمانيون على فيينا. وفي أغسطس غادر سوبيسكي والجيش البولندي وارسو بهذا الهدف المعلن، وهو "أن يمضوا إلى الحرب المقدسة، ويردوا بعون الله الحرية القديمة لفيينا المحاصرة، فيعينوا بذلك جميع العالم المسيحي المتخاذل(9)". وبدا أن أنبل ما عرفت العصور الوسطى من فروسية قد بعث من جديد. ووصل البولنديون إلى العاصمة المحاصرة في الوقت المناسب، لأن المرض والجوع كادا يفتكان بأكثر المدافعين عنها. وقاد سوبيسكي بشخصه جيشي بولندة والإمبراطورية المجتمعين في معركة من أحسم المعارك في التاريخ الأوربي (12 سبتمبر 1683). ولقي نصف البولنديين الذين تبعوه في هذه الحرب الصليبية-وعدهم خمسة وعشرون ألفاً-حتفهم في المعركة أو في طريقه إليها.

ثم قفل بولندة مكللاً بنصر يشوبه شعور الخيبة. واستقبلته واسو فخورة به بطلاً لأوربا، ولكن الإمبراطور كان قد خيّب آماله في تزويج ابنة من أرشيدوقة النمسا. ولكي يؤمن ملكاً لابنه حاول فتح ملدافيا، وانتصر في جميع المعارك إلا معاركه مع الجو والقدر، وعاد إلىبلده صفر اليدين.

ووسط ضجيج السياسة وصخبها، وفي الفترات التي تخللت الحرب جعل من بلاطه مركز إحياء ثقافي. فلقد كان هو نفسه رجلاً واسع الإطلاع: درس جاليلو وهارفي، وديكارت وجاسندي، وقرأ بسكال، وكورنيي، وموليير. ومع أنه أيد الكنيسة الكاثوليكية باعتبار هذا التأييد سياسة للدولة، فإنه بسط الحرية الدينية والحماية على البروتستنت واليهود(10) وأحبه اليهود كما أحبوا قيصر من قبل. وكان يريد، وإن لم يستطع، أن ينقذ من الموت رجلاً من أحرار الفكر أعرب عن بعض شكوكه في وجود الله (1689)(11)، وكان هذا أول إحراق لمهرطق في تاريخ بولندة. ثم مضت بولندة في إنجاب شعرائها، ولكنها ظلت تستورد أكثر فنانيها الأفذاذ. فنظم فاكلاو بوتوكي ملحمة عن انتصار بولندة في خوتين، وكتب فسبازيان كوشوفسكي ملاحم مماثلة، ومجموعة مزامير بولندية في نثر شعري، أما أندرزي مورزيتن، فبعد أن ترحم "أمينتا" تاسو و "سيد" كورنيي، أظهر في غنائياته تأثير الشعر الفرنسي والإيطالي في بولندة. وقد شجع سوبيسكي التأثير الفرنسي، لأنه كان معجباً بكل شيء في فرنسا إلا سياستها. واستقدم المصورين والمثالين الفرنسيين والإيطاليين ليعملوا في وارسو، واستخدم المعماريين، ولا سيما الأبطاليين منهم، ليشيدوا قصور بطراز الباروك في فيلانوف، وزولكييف، ويافوروف. وبنيت الكنائس الفخمة إبان حكمه: كنيسة القديس بطرس في فلنو وكنيستا الصليب المقدس والراهبات البندكتيات في وارسو. وقبل أندرياس شلوتر من ألمانيا لحفر الزخارف للقصر المبني في فيلانوف، ولقصر كرازنسكي في العاصمة. ووسط هذه التأثيرات الغربية في الفن، غلبه التأثير الشرقي في الملبس والمظهر: العباءة الطويلة والمنطقة العريضة الزاهية الألوان، والشاربان المفتولان إلى أعلى كأنهما سيفان أحدبان.

وقد كدر صفاء شيخوخة الملك تمرد ولده يعقوب، وعناد زوجته، وفشله في جعل الملك وراثياً في أسرته. وكان الفيتو المطلق سيفاً مسلطاً فوق رأسه على الدوام. ولم يستطع أن يصلح من حال الفلاحين، لأن سادتهم سيطروا على البرلمان، ولم يستطع إكراه الأغنياء على دفع الضرائب، لأن الأغنياء كانوا هم البرلمان، ولم يستطع السيطرة على النبلاء المشاغبين، لأنهم أبوا أن يكون له جيش دائم. ومات من تبولن الدم في 17 يونيو 1696، لا كسير القلب كما زعمت الرواية، بل آسفاً على انحدار بلده الحبيب من قمة البطولة التي فعه إليها.

وتخطى الديت ابنه وباع التاج إلى فردريك أوغسطس، ناخب سكسونيا، الذي تحول في غير عناء من البروتستنتية إلى الكاثوليكية ليصبح أوغسطس الثاني ملك بولندة. وكان شخصية عجيبة في ذاته. ويسميه التاريخ أوغسطس القوي، لأنه كان الرياضي الشديد البأس في جسمه وفراشه، وقد نسيت إليه أسطورة إنجاب 354 طفلاً غير شرعي(12). وفي يناير 1699 وقع في كارلوفتز معاهدة نزلت بمقتضاها تركيا عن كل دعوى لها في أوكرانيا الغربية. فلما شعر أوغسطس بالأمان في الجنوب والشرق، استمع إلى باتكول، وربط بولندة بحلف مع الدنمرك وروسيا لاقتسام السويد.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- روسيا تتجه إلى الغرب 1645-1699

استطاع كل من المتآمرين الثلاثة أن يختلق عذراً ويدعي استفزازاً ما. فشارل العاشر ملك السويد كان قد حاصر كوبنهاجن وحاول فتح الدنمرك، وغزا بولندة واستولى على عاصمتها، وكان جوستافس أدولفس قد دعم قوة السويد في ليفونيا واينجريا دعماً أتاح له أن يتحدى روسيا أن تنزل زورقاً في البلطيق دون موافقة السويد. أما الدب الروسي الحبيس فكان يحرق الأرم لمرأى المخارج كلها مغلقة في الغرب، والمنافذ إلى البحر الأسود كلها يسدها التتار والترك. ولم يبق غير الشرق مجال لتحرك روسيا-إلى سيبيريا، وذلك يبدو الطريق إلى الشدائد والهمجية. لقد كانت أسباب الراحة ومفاتن الحياة تؤمي لروسيا أن تتجه غرباً، وكان الغرب مصمماً على أن يبقي روسيا بلداً شرقياً.

وحين اعتلى ألكسيس ميخايلوفتش رومانوف عرش القياصرة كانت روسيا لا تزال يطغى عليها طابع العصر الوسيط. فهي لم تعرف القانون الروماني، ولا إنسانية النهضة الأوربية، ولا إصلاح الحركة البروتستنتية. وفي عهد ألكسيس صيغ القانون الروسي من جديد (أولوزيني 1649) لكن هذه الصياغة لم تكن أكثر من جمع وتنسيق للقوانين القائمة المبنية على الحكم المطلق واستقامة العقيدة الدينية. فمثلاً ظل القانون يرى من الجريمة أن يتطلع إنسان إلى الهلال الجديد أو أن يلعب الشطرنج أو يغفل الذهاب إلى الكنيسة في الصوم الكبير. وهذه الجرائم وعشرات غيرها تعاقب بالجلد. وكان ألكسيس ذاته متعصباً في تدينه رغم ما في طبعه من لطف وسماحة، وكثيراً ما كان ينفق خمس ساعات كل يوم في الكنيسة، وقد انحنى في إحدى المناسبات ألفاً وخمسمائة انحناءه(13). وكان يبتهج بإطعام الشحاذين الذين يتجمعون حول قصره، ولكن كان يعاقب كل انشقاق سياسي أو ديني عقاباً صارماً، ويفرض الضرائب الباهظة على شعبه، ويسمح لاستغلال الفلاحين وفساد الحكومة أن يستشريا إلى درجة أشعلت الثورة في موسكو، ونوفجورود، وبسكوف، وأهم من ذلك بين قوزاق نهر الدون. وقد ألف قوزاقي من هؤلاء يدعى ستينكا رازين عصابة لصوص، وسلب الأغنياء وقتلهم، ونصب نفسه سيداً على استراخان وزارتسين (التي أصبحت ستالنجراد). ثم أقام جمهورية قوزاقية على الفولجا، وهدد مرة بالاستيلاء على موسكو. وانتهى أمره بأن أسر وعذّب حتى مات (1671)، ولكن الفقراء حفظوا له ذكرى عزيزة تعدهم بالانتقام من الملاك والحكومة.

على أن بعض المؤثرات العصرية سرت حتى إلى هذه البيئة الوسيطة فقد اقتضت الحروب مع بولندة اتصالات أكثر مع الغرب. وأقبل الدبلوماسيون والتجار في أعداد متزايدة من بلاد أطلق عليها الروس اسم "أوربا". وشهد نهر دوينا وثغراً ريجا وأركانجل تجارة نامية مع الدول الغربية. ودعى الفنيون الأجانب لتطوير المناجم، وتنظيم الصناعة، وصنع السلاح. ونمت مستوطنة كاملة للمهاجرين حوالي 1650 في أحد أحياء موسكو، وجلب الألمان والبولنديون مسحة من الأدب والموسيقى الغربيين إلى هذه المستوطنة، وزودوا الأسر الروسية بمدرسين خوصيين للاتينية. وكان لألكسيس نفسه أوركسترا ألماني. وقد سمح لوزيره أرتامون ماتفيف باستيراد الأثاث الغربي والعادات الفرنسية، إلى حد إباحة اختلاط النساء بالرجال في المجتمع. ولما بعث السفير الروسي لدى دوق توسكانيا الأكبر إلى ألكسيس أوصافاً للدرامات والأوبرات والباليهات الفرنسية، سمح ألكسيس في بناء مسرح في موسكو وبعض المسرحيات، لا سيما المقتبسة من الكتاب المقدس. وقد سبقت إحداها، وهي "استير"، تمثيلية راسين التي تحمل هذا الاسم بسبعة عشر عاماً. ولما شعر ألكسيس أنه أذنب باختلافه إلى هذه الحفلات التمثيلية، ذكرها لكاهن اعترافه، فأباح له هذه المتع الجديدة(14). وتزوج ماتفيف سيدة اسكتلندية تنتمي لأسرة هاملتن الشهيرة، وقد تبنيا وربيا يتيمة روسية تدعى ناتاليا نارويشكينا، وقد اتخذها ألكسيس زوجة ثانية له.

على أن مغامرات التغريب هذه أثارت د فعل وطنياً، فشجب بعض الروس الأرثوذكس دراسة اللاتينية باعتبارها شراً قد يغري الشباب بالأفكار غير الأرثوذكسية. وأحس الجيل المخضرم أن أي تغيير في العادات أو الإيمان أو الطقوس يزيح حجراً في بناء المجتمع، ويقلقل الأحجار كلها، وقد يهوى بعد حين بالبناء المزعزع كله ويحيله خراباً. وكان الدين في روسيا يعتمد على الطقوس اعتماده على العقيدة. ومع أن قدرة الجماهير على تفهم الأفكار كانت إلى ذلك الحين محدودة جداً، فقد أمكن تدريبها على الطقوس الدينية التي أعان تكرارها المنّوم على الاستقرار والسلام الاجتماعيين والنفسيين. ولكن التكرار يجب أن يكون دقيقاً حتى يحدث الأثر المنّوم، وأي تغيير في التتابع المألوف قد يحطم التعويذة المهدئة، ومن هنا كان لا بد من بقاء كل تفاصيل المراسم الدينية، وكل كلمة من كلمات الصلوات، على حالها كما كانت منذ قرون. وقد وقع خلاف من أشد الخلافات والانقسامات مرارة في التاريخ الروسي حين أدخل نيكون، بطريرك موسكو، على الطقوس بعض الإصلاحات المبنية على دراسة للممارسات والنصوص البيزنطية. فقد دله الأكليريكيون الذين درسوا اليونانية على أخطاء كثيرة في النصوص التي تستعملها الكنيسة الروسية، فأمر نيكون بمراجعة النصوص والطقوس وتنقيحها، فمثلاً تقرر أن يكتب اسم يسوع بعد ذلك Jisus بدلاً من Isus، وأن ترسم علامة على الصليب بثلاثة أصابع لا إصبعين، وأن يخفض عدد المطانيات (الركعات) في صلاة معينة من اثنتي عشرة إلى أربع، وأن تحطم الأيقونات التي يظهر فيها التأثير الإيطالي ويستبدل بها أيقونات تتبع النماذج البيزنطية. وتقرر بصفة عامة أن يطابق مطابقة أوثق بين الشعائر الروسية وأصولها البيزنطية. وقد أنزلت رتب بعض رجال الكنيسة الروس الذين أبوا قبول هذه التغييرات أو أوقع عليهم الحرم أو نفوا إلى سيبيريا. وساءت القيصر أساليب نيكون الدكتاتورية، فنفاه في 1667 إلى دير ناء. وانقسمت الكنيسة الروسية إلى حزبين، فأما الكنيسة الرسمية التي يؤيدها ألكسيس فقد قبلت الإصلاحات، وأما المخالفون (راسكولنيكي) أو قدامى المؤمنين (ستاروفيرتسي) فقد تطوروا إلى هيئة منشقة اضطهدتها الأرثوذكسية الجديدة بالنار والحديد. وقد أحرق زعيمهم أفاكوم على الخازوق (1681) بأمر القيصر فيودور. وقتل كثيرون من قدامى المؤمنين أنفسهم مؤثرين الموت على دفع الضرائب لحكومة كانت في نظرهم عدواً للمسيح. وهذه الفوضى الدينية كانت بعض التركة التي ورثها بطرس الأكبر.

ومهد موت ألكسيس (1676) لصراع عنيف بين أبنائه. فقد خلف من زوجته الأولى ماريا ميلوسلافسكي ولداً عليلاً يدعى فيودور (المولود في 1662)، وآخر أعرج نصف أعمى ونصف معتوه يدعى ايفان (المولود في 1666)، وست بنات كانت أكفأهن وأشدهن طموحاً صوفيا ألكسيفنا (المولودة في 1657). وخلف من زوجته الثانية ناتاليا نارويشكينا ولده الأشهر بطرس (المولود في 1672). وورث فيودور العرش، ولكنه مات في 1682. وأراد البويار (النبلاء الروس) أن يولوا بطرس عرش القيصرية، بوصاية أمه، لما رأوه من عجز إيفان الشديد. ولكن أخوات بطرس لأبيه كان يكرهن ناتاليا ويخشين أن يهملن تحت حكمها، حرضن جنود حامية موسكو (السترلتسي)، تتزعمهن صوفيا، على أن يغزو الكرملين ويصروا على تنصيب ايفان. وناشد ماتفيف، حاضن ناتاليا، الجند أن ينسحبوا، فانتزعوه من قبضة بطرس، وقتلوه على مرأى من الصبي ذي العشرة الأعوام، وقتلوا أخوه ناتاليا ونفراً من أنصارها، وأكرهوا البويار على قبول إيفان قيصراً، يشاركه بطرس تابعاً له، وصوفيا وصية عليه. ولعل هذه الفظائع أسهمت في إصابة بطرس بتلك التشنجات التي نغصت حياته فيما بعد، وهي على أي حال أعطته دروساً لا تنسى في العنف والوحشية.

واعتكفت ناتاليا مع بطرس في إحدى ضواحي موسكو المسماة بريوربرازينسكي. وحكمت صوفيا البلاد بكفاية. وقد استنكرت عزل النساء في مساكنهن (التيريم أي الحريم terem)، وظهرت أمام الناس سافرة، ورأست في غير خشية اجتماعات الرجال حيث راح الشيوخ يهزون رءوسهم أسفاً وحسرة على هذه الوقاحة، ولكنها كانت قد تلقت من التعليم أكثر من معظم الرجال المحيطين بها، وكانت ميالة إلى الإصلاح وإلى الأفكار الغربية، واختارت رئيساً لوزرائها، وربما عشيقاً لها، رجلاً افتتن بحياة الغرب. وكان هذا الرجل، وهو الأمير فازيلي جوليتسين، يكتب اللاتينية، ويعجب بفرنسا، ويجمل قصره بالصور وقطع نسيج جوبلان المرسومة، ويقتني مكتبة كبيرة تضم كتباً لاتينية وبولندية وألمانية. والظاهر أن قدوته وتشجيعه كان لهما الفضل في بناء ثلاثة آلاف مسكن حجري بموسكو في سنوات وصايته السبع، في حين كانت كل البيوت تشاد قبل ذلك بالخشب. ويبدو أنه كان يخطط لعتق أرقاء الأرض(15). وفي عهده ألغي الاسترقاق بسبب الدين، وكفّت الحكومة عن دفن القتلة أحياء، وألغيت عقوبة الإعدام على التفوه بعبارات التحريض. على أن جهوده في الإصلاح أودى بها فشله في قيادة الجيش، فقد أعاد تنظيمه وقاده مرتين ضد الترك، وفي الحالتين أساء إدارة تموين الجند، فعادوا مهزومين متمردين، وأعطى سخطهم بطرس الإشارة للقبض على زمام السلطة.

4- بطرس يتعلم

كان يتلقى التعليم من أمه، ومن معلميه الخصوصيين، ومن جولاته في شوارع موسكو. ولم يكن مبكر النضج، ولكنه كان تواقاً إلى العمل، طلعة، ذكياً، بهرته الآلات المجلوبة من الغرب مثل كالساعات، والأسلحة، والأدوات. وهفت نفسه إلى روسيا تنافس الغرب في فنون الصناعة والحرب. وكان يحب لعب الألعاب الحربية مع رفاقه الخشنين-كبناء القلاع، ومهاجمتها، والدفاع عنها. وحلم ببحرية روسية قبل أن يتاح لروسيا الوصول إلى بحر لا يتجمد، فبنى قوارب أكبر فأكبر، حتى اضطر إلى رحلة ثمانين ميلاً من موسكو ليجد في بيرسلافل بحيرة يستطيع أن يعوّم فيها أسطوله الصغير.

فلما اشتد عوده ازداد ضيقه بهيمنة أخت غير شقيقة، اغتصبت مع فازلي جوليتسين سلطة إيفان وسلطته. وفي 18 يوليو 1689، انضم بطرس إلى إيفان في الموكب الذي كان يحتفل كل سنة بتحرير موسكو من قبضة البولنديين. ومشت صوفيا في الموكب على غير ما قضت به التقاليد. فأمرها بطرس، وقد بلغ الآن السابعة عشرة، أن تنسحب، ولكنها أصرت على السير، فغادر المدينة غاضباً، وبحث عن حلفاء ضد الوصية. فوجدهم في "البويار" الذين لم يستطيعوا أن يروضوا أنفسهم على الرضي بحكم امرأة، وفي حامية موسكو (الستريلتسي)، التي كان رجالها على استعداد للخدع الحربية والأسلاب بعد أن صدتهم صوفيا غير مرة. وحرك بوريس جوليتسين، ابن عم الوزير، الانقلاب بإرساله رسالة مزورة إلى بطرس زعمت صوفيا أن تدبّر القبض عليه. وفر بطرس وتبعته أمه، وأخته، وزوجته التي تزوجها مؤخراً، إلى دير ترويتسكو-سرجيفسكايا، على خمسة وأربعين ميلاً من موسكو. ومن هناك أرسل الأوامر لكل كولونيل في الحامية بالذهب إلى الدير المذكور. ونهتهم صوفيا عن الذهاب، ولكن كثيرون ذهبوا. وسرعان ما أقبل زعماء الأشراف، ثم يواقيم بطريرك موسكو. واستدعى فازيلي جوليتسين، فخضع، ونفي إلى قرية قريبة من أركانجل. وقبض على نفر من مؤيدي صوفيا، وعذب بعضهم، وأعدم آخرون. وكتب بطرس لإيفان يستأذنه في تقلد زمام الحكم، فأعطى ايفان الإذن أو افترض أنه أعطاه، وأمر بطرس صوفيا أن ترحل إلى دير للراهبات، فاحتجت، وتمردت، ثم استسلمت. وهناك زودت بكل أسباب الراحة وبالخدم الكثيرين، ولكن حظر عليها أن تبرح الدير. وفي 16 أكتوبر 1689 دخل بطرس موسكو، ورحب به إيفان، فتقلد زمام السلطة العليا. واعتزل إيفان الحياة العامة في لباقة، ومات بعد سبع سنوات.

على أن بطرس لم يكن قد تهيأ بعد للحكم. فترك الحكومة لبوريس جوليتسين المتزمت الرجعي، وليواقيم، وغيرهما، وبينما أنفق هو كثيراً من وقته في المستوطنة الأجنبية. وهناك صنع أصدقاء جدداً كانوا ذوي أثر قوي في تطوره. ومن هؤلاء باتريك جوردون الاسكتلندي، المقاتل المغامر الذي كان الآن ضابطاً في الجيش الروسي وهو في الخامسة والخمسين، ومنه تعلم بطرس المزيد عن فنون الحرب. ثم فرانسوا ليفور، الذي ولد في جنيف، وكان الآن لواء في الرابعة والثلاثين. وقد ابتهج القيصر الشاب بحسن طلعته وسرعة خاطره وأساليبه اللطيفة، فكان يتناول الطعام معه مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع، الأمر الذي أفزع أهل موسكو، فهم ينظرون إلى جميع الأجانب نظرتهم إلى المهرطقين الأشرار. وقد فضل بطرس عشرة هذين الأجنبيين على عشرة الروس، لأنه رآهما أكثر تحظراً وإن لم يقلا عن الروس إسرافاً في الشراب، وقد فاقا الروس كثيراً في معارفهما الصناعية والعلمية والحربية، وكان حديثهما أرقى وملاهيهما أرفع. ولاحظ بطرس تسامحهما المتبادل في أمور الدين-فجوردون كان كاثوليكياً، وليفور بروتستنتياً-ووقف في ابتسام عراباً للأطفال الكاثوليك والبروتستنت على السواء عند جرن المعمودية. ثم تعلم من لغتي الألمان والهولنديين ما يكفي لتحقيق أهدافه.

أما أهدافه هذه فهي أن يجعل روسيا شديدة البأس في الحرب، منافسة للغرب في فنون السلم. لقد تعلم من النزيل الهولندي، البارون فون كيلر، كيف حافظ الهولنديون على ثروتهم وقوتهم في بناء السفن الجيدة. وتاقت نفسه لإيجاد منفذ إلى البحر، ولبناء أسطول بحري. ولم يكن له منفذ بحري إلا في أركانجل، التي كان يكتنفها الجليد نصف العام. ومع ذلك اتخذ طريقة إليها في 1693. واشترى سفينة حربية هولندية راسية في الميناء، فلما تغلب على خوفه من البحر وأبحر على هذه السفينة أسكرته الفرحة، وكتب إلى ليفور يقول: "ستقودها أنت، وسأخدم أنا بحاراً بسيطاً فيها(16)". وارتدى سترة قبطان هولندي، واختلط مغتبطاً بالبحارة الهولنديين في حانات الثغر. لقد كان الهواء الملح الذي هب عليه من البحر البارد نسمة منعشة من الغرب، من ذلك الإقليم، إقليم الصناعة والمنعة والعلم والفن، الذي كان يناديه في إغراء يزداد قوة يوماً بعد يوم. وكان هناك طريقان عمليان إلى الغرب: أولهما طريق البلطيق الذي تسدّه السويد وبولندة، وثانيهما طريق البحر الأسود، الذي يسدّه التتار والترك. وكان التتار والترك يسيطرون عند آزوف على مصب الدون، ويغيران المرة بعد المرة على الأراضي الموسكوفية، ويأسران الروس-أحياناً عشرين ألفاً في سنة واحدة-ليبيعوهم عبيداً في الأستانة. وفي 1659 أمر بطرس جيشه أن ينتقل من التلهي بالألعاب إلى التمرس بالحرب، وأن يزحف مخترقاً السهوب، ويبحر هابطاً الأنهار، ويهاجم آزوف. واضطلع ثلاثة قواد بالقيادة قسمة بينهم-جولوفين، وجوردون، وليفور. وعمل بطرس بتواضع مدفعياً برتية رقيب في فوج بريوبرازينسكي. وأسيأت إدارة العملية، وكان الجند سيئي التدريب، وبعد أربعة عشر أسبوعاً من التضحيات أقلع الروس عن الحصار، وعاد بطرس إلى موسكو وهو يقسم ليدربن جيشاً أفضل ويعيدون الكرة.

وبنى فورونيز أسطول ناقلات وبوارج. وفي مايو 1696 أبحر هابطاً الدون على رأس 75.000 رجل، واستأنف حصار آزوف. وفي يوليو، وبفضل بسالة قوزاق دون على الأخص، استولى الروس على المدينة. وعلى الفور أمر بطرس ببناء أسطول كبير في فورونيز ليعمل في البحر الأسود. وفي سبيل هذا الهدف فرضت الضرائب على روسيا كلها بما فيها كبار ملاك الأراضي، وجنّد العمال، وجلبت الآلات الأجنبية. وبعث خمسون من أشراف الروس على نفقتهم إلى إيطاليا، وهولندة، وإنجلترا، ليتعلموا فن بناء السفن. وفي 10 مارس 1697 تبعهم بطرس.

ولو خطر ببال روسيا أن القيصر سيمضي إلى بلاد تدنسها الهرطقة لأفزعتها الفكرة وروعتها. لذلك نظم سفارة من خمسة وخمسين نبيلاً ومائتي تابع، يرأسها ليفور، لتزور "أوربا" وتبحث عن حلفاء ضد الترك. وكان من هؤلاء المبعوثين الخمسة والخمسين صف ضابط لا يدعي إلا باسم بطرس ميخايلوف، ويستعمل ختماً عليه صورة نجار سفن وهذه العبارة "رتبتي تلميذ، وأنا في حاجة إلى معلمين(17)" فلما خرج بطرس من روسيا، لم يدقق في الاحتفاظ بهذا التنكر، فقد استضافه ناخب براندنبورج فردريك الثالث، والملك ليم الثالث في إنجلترا، والإمبراطور ليوبولد الأول في فيينا، بوصفه قيصر روسيا. ولقد صدم أهل القصور، حتى وهو يسفر عن مقامه الملكي، بجلافة سلوكه وحديثه، وبقذارته وإهماله، وبعزوفه على استعمال السكين والشوكة(18). ولكنه شق طريقه.

ولقيت السفارة المصاعب-التي لم ينسها بطرس قط-في سفرها إلى ريجا مخترقة ليفونيا السويدية. ومن هناك أسرع إلى كونيجزبيرج، حيثوقّع من الناخب معاهدة تجارة وصداقة. وفي براندنبورج درس المدفعة والتحصين على يد مهندس حربي بروسي أعطاه شهادة بتقدمه. وفي كوبنبروجي أقنعته صوفيا، ناخبة هانوفر الأرملة، وابنتها صوفيا ارلوت، ناخبة براندنبورج، هو وبطانته بالعشاء والرقص معهما. وقد وصفته الناخبة الأرملة فيما بعد بهذه العبارات:

"إن القيصر رجل فارع الطول، دقيق الملامح، رائع السمت، له ذهن شديد الحيوية، وبديهة حاضرة.. .. وليت عاداته أقل جلافة... كان كرحاً جداً، كثير الحديث، وقد كونا صداقة حميمة فيما بيننا.... أخبرنا أنه يعمل في بناء السفن، وأرانا يديه، وجعلنا نلمس المواضع القاسية التي خلفها بهما العمل... إنه رجل شديد الغرابة... طيب القلب جداً، نبيل العاطفة إلى حد عجيب... ولم يشرب حتى يثمل في حضرتنا، ولكن ما إن بارحنا المكان حتى عوض أفراد بطانته عن قصده في الشراب... وهو حساس لمفاتن الجمال... ولكني لم أجد فيه ميلاً للتودد لنساء... وفي ؟أثناء الرقص حسب الموسكوفيون عظام الحوت المصنوعة منها مشدّاتنا عظامنا، وأبدى القيصر دهشته بقوله أن للنساء الألمانيات عظاماً قاسية إلى حد رهيب(19)". ومن كوبنبروجي، أبحرت السفارة هابطة الرين إلى هولندة. وترك بطرس ونفر من أخصائه أكثر الجماعة في امستردام، ومضوا إلى زاندام، وكانت يومها مركزاً كبيراً لبناء السفن (18 أغسطس 1697). فقد سمع الكثير، حتى في روسيا، عن مهارة بناء السفن في هذه المدينة الجميلة. وتعرف في شوارعها على صانع عرفه في موسكو، اسمه جيريت كيست. وطلب إليه بطرس أن يتستّر على تنكره، واقترح أن يسكن كوخ كيست الخشبي الصغير. وهناك مكث أسبوعاً يرتدي زي عامل هولندي، وينفق نهاره في مراقبة نجاري السفن وهم يشتغلون، ويجد في ليله متسعاً لمغازلة فتاة تخدم في حانة الحي. وفي سنوات لاحقة زار جوزف الثاني ونابليون هذا الكوخ كأنه مكان مقدس، وجمّله القيصر اسكندر الأول بلوحة رخامية، وكتب شاعر هولندي على الحائط بيتاً مشهوراً: لا شيء يصغر في نظر الرجل العظيم(20)".

فلما ضاق بطرس بالجموع التي تبعته في كل خطوة بزاندام، عاد إلى أمستردام وسفارته. وهنا أيضاً أصر على التنكر، ولكنه سمى نفسه الآن "النجار بطرس الزاندامي". وأقنع شركة الهند الشرقية الهولندية بأن تسمح له بالانخراط في سلك عملها بأحواض السفن في أوستنبورج وهناك اشتغل بهمة مع عشرة من أتباعه طوال شهور أربعة، وعاونوا في بناء سفينة وإنزالها إلى الماء. ولم يسمح بأي تفرقة بينه وبين العمال الآخرين، وحمل على كتفه الأخشاب كما حملها سائرهم. وكان في الليل يدرس الهندسة ونظرية بناء السفن، وتبين مذكراته مبلغ دقة هذه الدراسات. ووجد متسعاً من الوقت لزيارة المصانع، والوؤش، ومتاحف التشريح، والحدائق النباتية، والمسارح، والمستشفيات. وقابل الطبيب وعالم النبات العظيم بويرهافي، ودرس المكروسكوبيا على ليوفينهويك، واصطحب بطانته إلى مدرج تشريح بويرهافي. ودرس الهندسة الحربية على البارون فان كويهورن، والعمارة على شينفويت، والميكانيكا على فان درهيدن. وتعلم كيف يخلع الأسنان، ولقي بعض مساعديه عنتاً من جراء حماسته في علاج الأسنان. ودخل منازل الهولنديين ليدرس حياتهم الأسرية وتنظيم بيوتهم. واشترى في الأسواق، وخالط الناس، وتعجب من حرفهم المتنوعة، وتعلم أن يصلح ملابسه ويرقع حذاءه. واحتسى الجعة والنبيذ من الهولنديين في مشاربهم. وأغلب الظن أن التاريخ لم يشهد رجلاً أشوق منه إلى تشرب الحياة وتذوقها.

وفي هذا النشاط كله لم تغب روسيا عن نظره. فوجه برسائله أعمال حكومتها النائبة عنه. واستخدم وأرسل إلى روسيا عدة قباطنة بحريين، وخمسة وثلاثين ملازماً، واثنين وسبعين مرشداً، وخمسين طبيباً، وأربعة طباخين، و345 بحاراً. وبعث إلى روسيا على عجل 260 صندوقاً من البنادق، وقماش القلوع، والبوصلات، وعظم الحوت والفلين، والمراسي، والعدد، وحتى ثماني قطع من الرخام ليشتغل عليها النحاتون الروس(21). ولكن اهتمامه كان يفتر إذا اتصل الأمر بتهذيب العادات، أو لطائف المجتمع، أو دقائق الفكر، ولم يكن لديه متسع من الوقت للميتافيزيقا أو المراقص أو الصالونات، وعلى أية حال لا ضير في أن ترجأ هذه الأشياء غير الملموسة. أما الآن فمهمته أن يدخل صنائع الغرب وعلومه العملية إلى روسيا "حتى إذا تمكنا منها تمكناً كاملاً استطعنا عند عودتنا إلى الوطن أن ننتصر على أعداء يسوع المسيح(22)" وهو يقصد الاستيلاء على الآستانة وإطلاق روسيا من سجنها لتعبر البوسفور إلى العالم.

وبعد أن قضي في هولندة أربعة شهور طلب إلى وليم الثالث الأذن له بزيارة إنجلترا، شبه متنكر أيضاً. وبعث وليم باليخت الملكي ليأتي به، ووصل بطرس إلى لندن في يناير 1698. ومع أن الوقت كان شتاء فإنه زار أرصفة الموانئ والمؤسسات البحرية، والجمعية الملكية، ودار ضرب النقود، ولعله التقى بنيوتن هناك. وقلب ايفلين بيته وهيأ أرضه بعناية في دبتفورد لبطرس وجماعته، وقد منحت الحكومة الإنجليزية السر جون بعد ذلك 350 جنيهاً ليصلح التلف الذي أحدثته الروس. وأدهش القيصر جيرانه بالذهاب إلى فراشه مبكراً، والاستيقاظ في الرابعة، والسير إلى أحواض السفن يحمل على كتفه بلطة وفي فمه "بيبة". واتخذ ممثلة كبيرة خليلة له، وقد شكت من ضآلة المال الذي نقدها إياه. وتسلم درجة الدكتوراه في القانون في أكسفورد، وحضر الخدمات البروتستنتية في لياقة توقع معها القساوسة الإنجليز أنه سيحول روسيا إلى حركة الإصلاح البروتستانتي. وحاول الأسقف بيرنت التأثير عليه، فوجده محباً للاستطلاع ولكنه لا يلتزم بموقف متميز، وخلص إلى أن القيصر "هيأته الطبيعة فيما يبدو لأنه يكون نجار سفن أكثر منه ملكاً عظيماً(23)".

وأبحر بطرس عائداً إلى أمستردام بعد أن أنفق أربعة أشهر في إنجلترا، وانضم إلى بعثته، وواصل معهم رحلته إلى فيينا مروراً بليبزج ودرسدن (26 يونيو 1698). وعبثاً حاول، طوال شهر نفد خلاله صبره، أن يضم الإمبراطور إليه في حلف ضد تركيا. وقد تلطف مع اليسوعيين الذين بدأوا يحملون بروسيا الكاثوليكية الرومانية. وبينما هو على وشك مغادرة فيينا، وصلته رسالة تنبئه بأن حامية موسكو تمردت، وأنها تهدد بالاستيلاء على موسكو وعلى مقاليد الحكم. فخف من فوره إلى روسيا، ولكن قرب كراكو وصله تأكيد بأن الثورة أخمدت. ولبث أربعة أيام في رافا مع أوغسطس الثاني ملك بولندة. وأدهشه وأبهجه أن يجد ملكاً يستطيع أن يباريه في قوة البدن، وصيد الوحوش، والإسراف في الشراب. وقد أحب أحدهما الآخر، وتعانقا، وتناقشا في أي البلدين يجب أن يكون أول ضحية لصداقتهما، السويد أم تركيا. وفي 4 سبتمبر وصل بطرس إلى موسكو بعد ثمانية عشر شهراً من رحلة عينت في رأي ماكولي "حقبة في التاريخ-لا تاريخ بلده فحسب... بل تاريخ العالم(24)". لقد اكتشفت روسيا أوربا، واكتشفت أوربا روسيا. وبدأ ليبنتز يدرس الروسية.

على أن بطرس كان لا يزال له طبع مسكوفيي القرن السابع عشر. إنه لم يغتفر قط لحامية موسكو اشتراكهم في قتل أخواله وماتفيف، وفي تمكين صوفيا من اغتصاب السلطة. ولم يكن في خططه لتنظيم جيش جديد مكان لهذا "الحرس الإمبراطوري" المثير للمتاعب. فلما نمى إليه أن صوفيا فاوضتهم من ديرها ليعيدوها إلى الحكم، وأنهم هددوا ليفور وغيرهم من أهل "المستوطنة الألمانية"، وأنهم أذاعوا الشائعات بأنه يخون ديانة روسيا في ولعه بالغرب، استحال غضبه تشنجاً يطلب الانتقام. فأمر بتعذيب نفر كبير من الحامية ليحملهم على الاعتراف بدور صوفيا في تمردهم، ولكنهم تجلدوا لأروع ضروب العذاب دون أن يحملوها أي تبعة، ومر بتعذيب أتباعها بنفس الهدف والنتيجة. وأكرهت صوفيا على أن تقطع على نفسها نذر الرهبنة، وأحكم حبسها في ديرها، حيث ماتت بعد ست سنوات. ثم أعدها ألفاً من رجال الحامية قتل بطرس منهم خمسة بيده، وأكره مساعديه على أن يقتدوا به، ولكن ليفور أبى. وما وافى عام 1705 حتى كانت حامية موسكو (السترلتسي) قد اختفت من التاريخ.

وشرع بطرس من فوره في بناء يش جديد. وكان الجيش القديم قوامه رجال الحامية، والمرتزقة الأجانب، والمجندون من الفلاحين يجمعهم الأشراف. فاستبدل بطرس هذا الخليط جيشاً دائماً عدته 210.000 مقاتل بتجنيده رجلاً من كل عشرين أسرة من أسر الفلاحين. وألبس هؤلاء الجنود سترات عسكرية "أوربية" ودربوا على تكتيك الغرب. أما مدة الخدمة لجميع الرتب فهي مدى الحياة. وفضلاً عن هذا دعا بطرس 100.000 قوزاقي للخدمة. وبنيت السفن على عجل على البحيرات، والأنهار، والبحار، فما وافى عام 1705 حتى كان للبحيرة الروسية ثمان وأربعون بارجة، وثمانمائة سفينة أصغر منها، و28.000 بحار.

كان هذا كله لا يزال في طريق التنفيذ، ناقصاً لم يكتمل بعد، حين جاء باتكول إلى موسكو واقترح أن ينضم بطرس غلى فردريك الرابع ملك الدنمرك وأوغسطس الثاني ملك بولندة ليطردوا السويد من أرض القارة وينتزعوا منها الهيمنة على البلطيق. ورأى بطرس أن كل هذه السفن التي يجري بناؤها تتوق لأن تمخر عباب البحر، وهي تؤثر البحر المتوسط الدافئ-ولكن الإمبراطورية العثمانية كانت لا تزال قوية إلى حد يفت في العضد. وكانت الآستانة عصية على الهجوم، والنمسا وفرنسا الآن صديقتين للأتراك. فعلى روسيا إذن أن تتطلع إلى الباب الآخر، وأن تلتمس لها منفذاً في الشمال. وكان من سوء التوقيت أن يحضر المبعوثون السويديون إلى موسكو قبيل ذلك ويحصلوا على موافقة بطرس على تجديد معاهدة كاردس التي تعاهدت فيها روسيا والسويد على السلام. ولكن الجغرافيا والتجارة تهزءان بالمعاهدات. ثم ألم يكن ساحل البلطيق بين نهري نيفا ونارفا-ولايتا اينجريا وكاريليا-من قبل ملكاً لروسيا، ولم يسلم للسويد في 1616 إلا لأن روسيا كانت في فترة شدتها تلك عاجزة عن المقاومة؟ فلم لا تسترد القوة ما أخذ بالقوة؟ وعلى ذلك، ففي 22 نوفمبر 1699 انضم بطرس إلى الحلف ضد السويد، واتخذ أهبته لشق طريقه إلى البلطيق. وفي 8 أغسطس 1700 أمن جبهته الجنوبية على قدر ما تستطيع معاهدة تأمينها، وذلك بإبرامه صلحاً مع تركيا. في ذلك اليوم بعينه أمر جيشه بالزحف على ليفونيا السويدية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

5- شارل الثاني عشر والحرب الكبرى 1700-1721

ونمى إلى استوكهولم نبأ غامض عن اتفاق الحلف. فالتام المجلس الملكي ليناقش إجراءات الدفاع. وكان الرأي الغالب وجوب فتح باب المفاوضات مع أحد الحلفاء لعقد صلح منفرد معه. واستمع شارل ملياً وهو صامت، ثم انتفض قائماً وقال: "أيها السادة، لقد عقدت النية على ألا أخوض حرباً ظالمة ما حييت ولكني... لن أنهي حرباً عادلة إلا بالقضاء المبرم على أعدائي(25)". ثم طلق كل لهو وترف واتصال بالنساء ومعاقرة للخمر. وكان جيشه وبحريته مستعدين، فغادر معهما استوكهولم في 24 أبريل 1700 ليبدأ واحدة من أروع السير الحربية في التاريخ. ولم يشهد عاصمة ملكه بعدها قط.

وبدأ بمهاجمة الدنمرك، فقد كان عليه أن يحمي ولايات السويد الجنوبية من هجمات الدنمرك وهو يواجه بولندة وروسيا. ثم قاد سفنه عبر مضيق الساوند-المفترض أنه لا يصلح للملاحة-بما عهد فيه من جرأة وسرعة، رغم اعتراض أميرال بحريته، ورسا على سييلاند، التي لا تبعد عن كوبنهاجن سوى أميال (4 أغسطس 1700). وسارع فردريك الرابع ملك الدنمرك غلى إبرام صلح ترافندال معه (18 أغسطس) خشية أن تسقط عاصمته، ودفع تعويضاً قدره 200.000 ريال دنمركي، وأقسم أنه لن يهاجم السويد أبداً. وفي مايو 1700 حاول أغسطس الثاني الاستيلاء على ريجا. ولكن هزمه الكونت ايريك دالبيرج، القائد السويدي البالغ من العمر خمسة وسبعين عاماً، والذي اكتسب لقب "فوبان السويد" لمهارته في فن التحصين. وتقهقر أوغسطس وناشد بطرس أن يخفف عنه بغزوه اينجريا. واستجاب بطرس بأن أمر أربعين ألف مقاتل بحصار نارفا. وأراد شارل الثاني عشر أن يساعد دالبيرج، فنقل جيشه بالبحر إلى برناو (بارنو)، على خليج ريجا، ولكنه حين وجد ذلك المقاتل منتصراً، اتجه شمالاً. واخترق المناقع والممرات الخطرة ثم ظهر فجأة في مؤخرة جيش بطرس. وأخذ القيصر على غرة، فبدا منه ما بدا جبناً معيباً، إذ ترك الجيش (الذي كان يخدم فيه ملازماً فقط)، وفرّ غلى نوفجورود وموسكو. وأغلب الظن أنه عرف عن مجنديه الغشم سينهارون في أول امتحان لهم، ولم يكن في وسعه أن يترك العدو يأسره، لأنه رأى نفسه أعظم قيمة لروسيا حياً منه ميتاً. أما الجيش الروسي، الذي بلغ أربعين ألفاً، والذي كان يقوده الأمير المجري كارل يوجين ديكروا قيادة عاجزة، فقد هزمه جنود شارل الثمانية الآلاف في موقعة نارفا (20 نوفمبر 1700)، وكانت أول نكسة في حياة بطرس بعد صباه.

وألح القواد السويديون على شارل في أن يزحف على موسكو ويجهز على بطرس. ولكن جيش شارل كان صغيراً، والشتاء حل، وكل شجاعة، حتى شجاعة هذا النابليون الشاب، لا بد أن تتردد أمام مسافات روسيا المترامية فضلاً عن مشكلة إطعام الجيش في أرض معادية. ثم (ما دامت العهود والمواثيق حبراً على ورق) هل يستطيع أن يركن إلى ملك الدنمرك، أو ملك بولندة، في ألا يغزو أحدهما السويد وجيشها الرئيسي وقائدها نائيان عن أرض الوطن؟ وبعد أن أعاد شارل تنظيم حكومة ليفونيا ودفاعها، سار جنوباً إلى بولندة، واحتل وارسو دون عناء (1720) على نحو ما فعل جده قبل سبعة وأربعين عاماً، وخلع أوغسطس، ونصب ستانيسلاس لزكزنسكي ملكاً على بولندة (1704). لقد هزم الآن كل حليف من الحلفاء، ولكن الدب الروسي لم يكد يبدأ النزال. ذلك أن بطرس لم يفق من رعبه فحسب، بل نظم جيشاً آخر وجهزه. ولكي يزوده بالمدافع أمر بأن تصهر أجراس الكنائس والأديار، وصنع ثلاثمائة مدفع، وأنشئت مدرسة لتدريب رجال المدفعية. وسرعان ما أخذت القوات المجندة الجديدة في إحراز الانتصارات، وتقدمت كتيبة مدفعية بطرس غيرها في الاستيلاء على نينسكانس، عند مصب نيفا (1703)، وهناك شرع القيصر لتوه في بناء "بطرسبرج" دون أن يدرك إلى ذلك الحين أنها ستكون عاصمة ملكه، ولكنه صمم على أن تكون أحد منافذه إلى البحر. وبينما كان شارل مشغولاً في بولندة، ظهر بطرس ثانية أمام نارفا، وكان شارل قد ترك فيها حامية ضئيلة، واقتحم الروس القلعة الكبيرة (20 أغسطس 1704)، وثأر المنتصرون لأنفسهم من فشلهم السابق بمذبحة رهيبة، وضع لها بطرس حداً في النهاية بأن قتل بيديه اثني عشر من الروس المتعطشين للدماء.

وفي بولندة بدا أن انتصار شارل كامل. فقد وقع أوغسطس المخلوع معاهدة اعترف فيها بلزكزنسكي رلكاً، وتخلى عن أحلافه ضد السويد، وأسلم لشارل الرجل الذي نظم الحلف أولاً، فحطم جسد يوهان فون باتكول على دولاب التعذيب ثم قطع رأسه (1707). ووجد بطرس نفسه وحيداً أمام هذا الإرهاب السويدي الشاب. فحاول أن يرشو الوزارة الإنجليزية لترتب له صلحاً، ولكنها رفضت أن تتدخل. ومضي عامل بر رأساً إلى ملبره، فوافق على الوساطة لقاء إمبرة في روسيا(26)، وعرض عليه بطرس كييف أو فلاديمير أو سيبيريا، وضماناً من خمسين ألف طالير في العام، و "ياقوتة ماسية لا يملك نظيرها أي ملك أوربي"(27)، ولكن هذه المفاوضات أخفقت. وتعاطف الساسة الغربيون مع شارل، واحتقروا أوغسطس، وخافوا من بطرس، وكانت حجة بعضهم أنه لو سمح لروسيا بالتوسع غرباً، فإن أوربا كلها سترتعد بعد قليل أمام فيضان سلافي(28).

وفي أول يناير 1708 عبر شارل الفستولا فوق جليد غير مأمون على رأس 44.000 مقاتل نصفهم من الفرسان. فوصل إلى جرودنو في اليوم السادس والعشرين بعد أن رحل عنها بطرس بساعتين فقط. ذلك أن رأي القيصر استقر على الدفاع بالعمق والتخريب. فأمر جيوشه بأن تتقهقر، وتستدرج شارل ليوغل داخل الفرشة الروسية أبعد فأبعد، وتحرق كل المحاصيل أثناء مسيرتها، وأمر الفلاحين بأن يخفوا قمحهم داخل الأرض أو تحت الثلوج، ويشتتوا ماشيتهم في الغابات والمستنقعات. وعهد إلى الزعيم القوزاقي ايفان مازيبا بمهمة الدفاع عن "روسيا الصغيرة" وأوكرانيا. وكان مازيبا قد نشيء وصيفاً في البلاط البولندي. وبأمر من نبيل بولندي أغوى ايفان زوجته رباط عرياناً على حصان أوكراني وحشي، وأرهب الحصان عمداً بضربات سوط وإطلاق مسدس عند أذنه (كما سيري بيرون)، واندفع الحصان خلال الإخراج والغابات إلى مسارحه الأولى، ولكن مازيبا ظل على قيد الحياة وإن تمزق لحمه وسال دمه، وارتقى حين أصبح زعيماً لقوزاق زابوروج. وتظاهر بالولاء لبطرس، ولكنه كره أوتقراطية القيصر، وترقب الفرصة للثورة. فلما سمع بأن بطرس يتقهقر وشارل يتقدم، قرر أن فرصته قد حانت. فأرسل إلى شارل يعرض عليه التعاون معه. ولعل هذا العرض هو الذي حدا بشارل إلى المضي في زحفه المتهور داخل روسيا. وبدأت سياسة "الأرض المحرقة" تؤتي ثمارها، فلم يجد السويديون غير برية متفحمة في طريقهم وأخذوا يتضورون جوعاً. وكان شارل قد اعتمد على تعزيزات انتظر وصولها من ريجا، وقد حاولت أن تصله ولكن الروس دمروها نصف تدمير في طريقها. وعلل شارل نفسه بأن مازيبا سينضم إليه بالإمداد وقوة قوزاق الدنيبر كاملة، ولكن بطرس، الذي توجس من خيانة مازيبا، جرد جيشاً بقيادة الكسندر دانيلوفتش منشيكوف ليقبض عليه، وفوجئ الزعيم قبل أن يستطيع إيقاظ فرسانه، ففر غلى شارل عند هوركي جالباً معه ألفاً وثلاثمائة رجل فقط. وزحف شارل جنوباً ليستولي على عاصمة مازيبا، واسمها باتورين، ويأخذ مؤنها، ولكن منشيكوف سبقه إليها، وأحرق المدينة وسواها بالتراب، وعين زعيماً موالياً لروسيا. واستعمل بطرس كل سلاح، فثنى القوزاق عن الانضمام إلى السويديين بمنشورات وصفت الغزاة بأنهم مهرطقون "ينكرون عقائد الدين الصحيح ويبصقون على صورة العذراء المقدسة"(29). ولم يبق شارل من الأمل إلا في أن يخف التتار والترك لنجدته انتقاماً لاستيلاء بطرس على آزوف.

ولكن أحداً لم يأت، وكان شتاء 1708-9 عدواً رهيباً للسويديين. كان شتاء قارساً جداً في كل أرجاء أوربا، فتجمد البلطيق غلى عمق سمح لعربات النقل الثقيلة أن تعبر الساوند على الجليد، وفي ألمانيا ماتت أشجار الفاكهة، وغطى الجليد الرون في فرنسا، والقنوات في البندقية. وفي أوكرانيا كست الثلوج الأرض، من أول أكتوبر إلى 5 أبريل، وسقطت الطيور نافقة أثناء طيرانها، وتجمد اللعاب في طريقه من الفم إلى الأرض، وتجمد النبيذ المسكرات فأصبحت كتلاً صلبة، واستحال إشعال الحطب في العراء، وكانت الريح ماضية كالمدى في هبوبها على السهول المنبسطة وعلى وجوه الناس. واحتمل جنود شارل في تجلد صامت بينما لقى ألفان منهم حتفهم جوعاً أو برداً. قال شاهد عيان "كنت تر بعضهم بغير أيد، وبعضهم بغير أرجل، وبعضهم بغير آذان أو أنوف، وكثيرين يزحفون في سيرهم على نحو ما تفعل ذوات الأربع(30)" وأمرهم شارل بالسير قدماً، أملاً في أنهم لن يلبثوا أن يباغتوا جيش بطرس الرئيسي في مكان ما ويظفر بروسيا كلها في نصر ساحق واحد. وكان أينما التقى بالعدو، في هولوفكزين، وسركوفا، وأوبرسيا، ينتصر بفضل التفوق في القيادة والشجاعة، على قوات كثيراً ما بلغت عشرة أضعاف قواته. ولكنه حين انتهى ذلك الشتاء، كان جيشه قد تقلص من 44.000 إلى 24.000 مقاتل.

وفي 11 مايو وصل إلى بلطاوه الواقعة على فرع من فروع الدنيبر على خمسة وثمانين ميلاً جنوب غربي خركوف. هنالك لمح شارل أخيراً جيش بطرس، وكانت عدته ثمانين ألف مقاتل. وبينما كان في إحدى جولاته الاستطلاعية أصابته رصاصة في قدمه. فلم يعبأ بالجرح. وانتزع الرصاصة في هدوء بسكينه، ولكنه حين عاد إلى معسكره أغمي عليه، فلما عجز عن قيادة جيشه بشخصه، وكل بها الجنورال كارل رينسكيول، وأمره بأن يهاجم العدو في الغد (26 يونيو). وفي بداية المعركة اكتسح السويديون كل شيء أمامهم، وهم الذين لم يخسروا قط معركة تحت إمرة شارل. ورغبة في استنفار جنوده أمر شارل أن يحمل إلى ساحة القتال على محفة، ولكن نيران العدو حطمتها من تحته. وركب بطرس إلى المقدمة رغم أنه ما زال رسمياً مجرد ملازم في الجيش، مستنهضاً همم جنده، ولكن رصاصة مرقت خلال قبعته، وثانية صدها صليب ذهبي على صدره. وأسعفته الآن سنواته التي أعد فيها المدفعية ودربها، فكانت مدافعه تطلق خمس مرات مقابل مرة يطلقها السويديون. فلما نضبت ذخيرة السويديين فتكت المدفعية الروسية بالمشاة السويديين على بكرة أبيهم، واستسلم الفرسان السويديون حين رأوا الموقف ميئوساً منه. أما شارل فقد امتطى جواداً وفر مع مازيبا وألف مقاتل عبر الدنيبر إلى أرض تركية. وفقد السويديون أربعة آلاف رجل بين قتيل وجريح، والروس 4.435 ولكنهم أسروا 18.670 فيهم قائدان وضباط كثيرون. وعامل بطرس الضباط معاملة كريمة، ولكنه استخدم الأسرى في التحصينات والأشغال العامة. وأشاد ليبتنر بإنسانيته واستنتج من ضخامة الكتائب الروسية أن الله يقف في صف الروس(31). ووافقه بطرس، وكتب يقول: "الآن بعون الله أرسيت أساسات بطرسبرج وأمنتها إلى الأبد(32)".

وكان للمعركة نتائج بعيدة المدى لا حصر لها. فقد فر لزكزنسكي إلى الألزاس، واعتلى أوغسطس الثاني عرش بولندة من جديد. واستولت روسيا على إمارات البلطيق وكل أوكرانيا. وعادت الدنمرك إلى لحلف ضد السويد، وغزت سكاني، ولكنها ردت على أعقابها. واستولى فردريك وليم ملك بروسيا على ستتين وهولشتين وجزء من بومرانيا. وارتفع شأن روسيا وازدادت عزة وكبرياء. وعرض لويس الرابع عشر التحالف مع بطرس، فرفضه هذا، ولكنه رضي أن يستقبل مبعوثا للويس.

أما شارل فإنه لم يعترف بأنه هزم هزيمة ساحقة. وأغدق الأتراك الشاكرون صنيع أي إنسان يثير القلاقل لروسيا على لاجئهم الملكي كل أسباب التكريم، باستثناء الامتيازات الملكية. في بندر (وهي اليوم تيغينا) القريبة من الدنيستر، احتفظ ببلاطه، وتلقى من السلطان أحمد الثالوث المئونة له ولآلاف وثمانمائة سويدي بقوا في خدمته. وحالما التأم جرح قدمه استأنف التمرينات العسكرية ودرب جيشه الصغير. وشاع عنه أنه اعتنق الإسلام لزهده في الخمر واختلافه غلى الصلاة العامة بانتظام. ولم يدخر وسيلة ليقنع السلطان أو الصدر الأعظم بشن الحرب على روسيا، وبهذا الأمل رفض أن تعيده إلى السويد سفن فرنسية وضعت تحت تصرفه. وبذلت محاولة لتسميمه، ولكنها كشفت في أوانها. وطالب بطرس بأن يسلم إليه مازيبا باعتباره مواطناً روسياً خائناً، ولكن شارل أبى أن يسمح بهذا، وقطع مازيبا العقدة بأن مات (1710).

إن كل انتصار يولد أعداء جدداً أو يلهب الأعداء القدامى. وقد استطاع شارل أن يقنع السلطان بأن قوة روسيا المتزايدة، التي لا يكبحها الآن كابح في الشمال، ستتحدى هيمنة الترك على البحر الأسود والبوسفور أن عاجلاً أو آجلاً. فأعلن السلطان الحرب على روسيا، وجرد عليها 200.000 مقاتل بقيادة الصدر الأعظم، وأخذ بطرس على غرة، فلم يستطع أن يحشد أكثر من 38.000 مقاتل في الجنوب ليصد هذا السيل الجارف. وخذله حلفاؤه البلغار والصرب. فلما التقى الجيشان على نهر بروت (وهو اليوم حد رومانياً الشرقي) اضطر بطرس لمنازلة الترك، لأن الإقليم المحيط به كان قد دمر. ولم يكن لديه غير مئونة يومين. وتوقع الهزيمة والموت، فأرسل تعليماته إلى موسكو لانتخاب قيصر جديد إذا تحققت مخاوفه، ثم اعتكف في خيمته ومنع أي إنسان من الدخول عليه. ولكن زوجته الثانية كاترين اتفقت مع قواده على أن الاستسلام خير من الانتحار الجماعي وواجهت غضب بطرس إذ حملت إليه خطاباً طلبت إليه التوقيع عليه، يطلب فيه إلى الصدر الأعظم شروط الصلح. ووقع بطرس يائساً. وجمعت كاترين كل مجوهراتها، واقترضت مالاً من الضباط، وبعثت بطرس شافيروف نائب المستشار، مسلحاً بـ 230.000 روبل، ليفاوض الوزير في شروط الصلح. وأخذ الوزير الروبلات والمجوهرات، وسمح لبطرس بأن يسحب جيشه وعتاده دون عائق، شريطة أن يسلم آزوف، ويجرد القلاع والسفن الروسية هناك من سلاحها ويسمح لشارل بالعودة إلى السويد في أمان، وألا يتدخل بعدها في شئون بولندة. ولم يتردد بطرس في بذل هذه الوعود (أول أغسطس 1711) وانصرف بجنوده. وأقبل شارل مستعداً لخوض المعركة، ولكنه استشاط غضباً حين وجد الصلح أمامه. فحمل السلطان على طرد الوزير المسالم وواصل جهوده لاستئناف الحرب، ولكن شافيروف، الذي حمل معه 84.900 دوكاتية، أقنع الوزير الجديد بتثبيت معاهدة بروت.

وأعيت السلطان هذا العقد، فطلب إلى شارل أن يرحل عن تركيا، ولكنه أبى. فأرسل السلطان قوة تركية عدتها اثنا عشر ألف رجل لإجلائه، واستطاع شارل بأربعين رجلاً أن يصمد لهم ثماني ساعات، قتل خلالها عشرة أتراك بشخصه، وأخيراً قهره اثنا عشر أنكشارياً (أول فبراير 1713). فنقل إلى ديموتيكا قرب أدرنه، ولكن سمح له بأن يمكث فيها عشرين شهراً بينما كان وزير جديد يفكر في مقاتلة روسيا. فلما تضاءل هذا الأمل وافق شارل على العودة للسويد. فزود بالحرس العسكريين والهاديا والأموال. وغادر ديموتيكا (20 سبتمبر 1714)، واخترق الأفلاق وترانسلفانيا والنمسا، وفي منتصف ليلة 11 نوفمبر وصل إلى بومرانيا وثغرها وحصنها ستر السوند، على ساحل البلطيق جنوب السويد مباشرة. وكانت هي وفيسمار إلى الغرب آخر القلاع السويدية على أرض القارة.

وكان إصرار شارل قبيل ذلك على حكم السويد من تركيا، ورفضه بذل أي تنازلات لبطرس، قد جرا الخراب على الإمبراطورية السويدية. ففي أول أغسطس 1714 كان جورج ناخب هانوفر قد أصبح جورج الأول ملك إنجلترا. فلما عقد العزم على استخدام قوته الجديدة في ضم بريمين وفيريدن إلى هانوفر، جمع بين بريطانيا وبين الدنمرك وبروسيا في حلف جديد ضد السويد، وعزز الأسطول الإنجليزي الأسطول الدنمركي في المضايق. ووجد شارل نفسه حبيساً في سترالسوند، في حرب مع إنجلترا، وهانوفر، والدنمرك، وسكسونيا وبروسيا، وروسيا. وظل يقاوم الحصار هناك اثني عشر شهراً بستة وثلاثين ألف مقاتل، يقود حاميته المرة بعد المرة في هجمات بطولية عقيمة. فلما حطمت مدافع المحاصرين المدينة وأسوارها، ولم يكن مفر من التسليم، قفز شارل في سفينة صغيرة، وأبحر بها وسط نيران العدو، وبلغ كارلسكرونا على ساحل السويد (12 ديسمبر 1715).

وانتظرت استوكهولم وصول بطلبها اليائس، ولكنه أبى أن يعود إليها إلا قائداً ظافراً. فأمر بتجنيد قوات جديدة حتى من الغلمان الذين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة، وصادر جميع السلع الحديدية ليبني بها أسطولاً جديداً، وفرض الضرائب على كل شيء تقريباً يستعمله شعبه حتى شعورهم المستعارة. فأذعنوا صامتين، ظناً منهم بأنه ربما قد جن، ولكنه مع ذلك عظيم. وجاهد البارون جيورج فون جورتز، كبير وزرائه الآن، ليحطم الحلف. ولاحظ أن جورج الأول مختلف مع بطرس على تقسيم الأسلاب، فحاول أن يعقد صلحاً بين السويد وروسيا، ويعين ثورة أسرة ستيوارت في إنجلترا، ولكن خططه باءت بالفشل. وما وافى خريف 1717 حتى كان شارل قد حشد جيشاً من عشرين ألف مقاتل. في تلك السنة، ثم في 1718، غزا النرويج، أملاً في أن يكسب أرضاً تعوضه ما فقد على أرض القارة. وفي ديسمبر حاصر قلعة فريدريكستين. وفي اليوم الثاني عشر رفع رأسه لحظة فوق متراس الخندق الأمامي وإذا رصاصة نرويجية تصيبه في صدغه الأيمن فترديه قتيلاً لفوره. وكان يومها في السادسة والثلاثين.

لقد مات كما عاش، مشدوداً ببسالته. كان قائداً مغواراً، كسب انتصارات لا تصدق في ظروف معاكسة جداً ولكنه عشق الحرب عشق المخمور بها، ولم يشبع من الانتصارات، وفي سبيل البحث عن انتصارات جديدة راح يدبر الحملات إلى حد أشرف على الجنون. وقد أفسدت الكبرياء كرمه وسماحته، كان يعطي كثيراً، ويطلب أكثر، ولقد عاق السلام غير مرة برفضه تنازلات ربما أنقذت إمبراطوريته وماء وجهه. ولكن التاريخ يغتفر له أخطاءه، لأنه لم يكن البادئ بـ "الحرب الشمالية العظمى"، هذه الحرب التي أبى أن يختمها إلا بالانتصار.

أما الحكومة السويدية، التي ندر أن جنحت إلى التطرف، فقد سارعت بمفاوضات الصلح. وبمقتضى معاهدتي استوكهولم (20 نوفمبر 1719 و 1 فبراير 1720) نزلت عن بريمين وفيردين لهانوفر، وعن ستيتين لبروسيا، ورفضت أول الأمر مطالب بطرس بجميع الأراضي السويدية في البلطيق الشرقي، فغزت الجيوش الروسية ثلاث مرات هذه الدولة التي استنزفت الحروب دماءها، وخربت أراضيها الساحلية ومدنها. وأخيراً. وبمقتضى معاهدة نيستاد (30 أغسطس 1721) حصلت روسيا على ليفونيا، واستونيا، واينجريا، وجزء من فنلنده. وهكذا ترك الصراع على البلطيق روسيا ظافرة، وجعل منها دولة عظمى".

أما القيصر المكدود، المكتهل، الظافر رغم ذلك، والذي وصل إلى بطرسبرج ومعه نبأ السلام، وهتاف السلام، السلام "مير! مير!" فقد حياه شعبه أباً لوطنه، وإمبراطور لأقاليم روسيا كلها، ولقبه ببطرس الأكبر.