قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 2 ف 7
صفحة رقم : 10721
قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> إنجلترا -> كرومول -> الثورة الاشتراكية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الكتاب الثاني: إنجلترا 1649 - 1714
الفصل السابع: كرومول 1649 - 1660
1- الثورة الاشتراكية
بعد أن أطاح البيوريتانيون (المتطهرون) برأس الملك شارك الأول، في 30 يناير 1649، واجهوا مشاكل إقامة حكومة جديدة واستعادة أمن الناس على حياتهم وممتلكاتهم، في إنجلترا التي أشاعت فيها الفوضى والاضطرابات الحرب الأهلية التي دامت سبع منين. ونادى " البرلمان المبتور " Rump. P- وهم الأعضاء الستة والخمسون النشطون الذين بقوا من البرلمان الطويل بعد " حركة تطهير برايد " (1648)- بأن لمجلس العموم السيادة والمقام الأول، وان فيه الكفاية، وألغى مجلس اللوردات (6 فبراير 1649)، كما ألغى الملكية، وعين بمثابة جهاز تنفيذ له " مجلسا للدولة " يتألف من ثلاثة لواءات وثلاثة نبلاء وثلاثة قضاة وثلاثين من أعضاء مجلس العموم، كلهم مستقلون- أي بيوريتانيون جمهوريون. وفي 19 مايو أقام مجلس العموم، بصفة رسمية، الجمهورية الإنجليزية: " ولسوف يتولى الحكم في إنجلترا منذ الآن، بوصفها جمهورية أو دولة حرة، السلطة العليا للأمة، وهم ممثلو الشعب في البرلمان، ومن يعينونهم إلى جانبهم من وزراء، لخير الشعب (1) ". ولم تكن الجمهورية ديموقراطية. لقد طالب البرلمان بإقامة أساس ديموقراطي، ولكن طرد الأعضاء الملكين أثناء الحرب، والمشيخيين (البرسبتريان) في حركة التطهير، كان كما قال كرومول، " قد شتت البرلمان وغربله واختزله إلى مجرد حفنة من الرجال(2).
أن الملاك وحدهم هم الذين كانوا ينتخبون البرلمان في الأصل، أما الآن فان مقاطعات برمتها باتت وليس لها ممثلون في " البرلمان المبتور " ولم تستند سلطة هذا البرلمان المبتور إلى الشعب بل إلى الجيش. فان الجيش وحده هو الذي استطاع أن يحميه من الثوار الملكيين في إنجلترا، والثوار الكاثوليك في إيرلندة، والثوار المشيخين في إسكتلندة، والثوار المتطرفين في الجيش نفسه.
ولمواجهة نفقات الحكومة ومتأخرات رواتب الجند اشتط هذا البرلمان في فرض الضرائب قدر ما فعل الملك الراحل. واقترح مصادرة أملاك كل من حمل السلاح دفاعا عن شارل، ولكنه في معظم الحالات ارتضى تسوية الأمر بحل وسط، هو تقاضى غرامة تعادل جزءا يتراوح بين العشر والنصف من القيمة الأساسية للضيعة. من اجل هذا عمد كثير من صغار النبلاء الذين عانوا الفقر والعوز في إنجلترا إلى الهجرة إلى أمريكا حيث كونوا أسرات أرستقراطية، مثل آل: وشنطن، وآل راندولف، وآل ماديسون وآل لي . واعدم بعض زعماء الملكين، وأودع بعضهم السجن. ومع ذلك بقيت حركة الملكيين تقض مضاجع الحكومة، لان روح التعاطف مع الملكية سيطرت على الشعب، فان إعدام الملك حوله من جابي ضرائب إلي شهيد. وبعد عشرة أيام من موت شارل ظهر كتاب عنوانه " صورة ملكية " لمؤلفه القسيس المشيخي جون جودن، ولكنه يوهم بأنه أفكار ومشاعر شارل كما دونها هو بيده قبل موته بزمن وجيز. وربما صيغ بعض هذا الكتاب من مذكرات تركها الملك (3). ومهما يكن من أمره، فان الصورة التي عرضها الكتاب هي صورة حاكم طيب القلب كان في واقع الأمر يدافع عن إنجلترا ضد طغيان أقلية حاكمة (أوليجاركية) غليظة القلب لا ترحم. وطبع الكتاب ستا وثلاثين مرة وترجم إلى خمس لغات في سنة واحدة، ولم تفلح الضجة التي أثارها كتاب ملتون " تحطيم الصور المقدسة " (1649) في محو اثر كتاب جون جودن هذا، واسهم الكتاب في إثارة الرأي العام ضد الحكومة الجديدة. وشجع وكلاء الملكيين الذين شرعوا لفورهم في كل مقاطعة في إنجلترا يهيجون الشعور العام لإعادة أسرة ستيوارت. وقابل مجلس الدولة هذه الحركة ببث العيون والأرصاد على أوسع نطاق، والإسراع في القبض على الزعماء الذين يحتمل انهم كانوا يقومون بتنظيم ثورة.
وفي الناحية الأخرى كانت هناك أقلية من الأهالي وقس كبير من الجيش، يطالبون بديموقراطية شاملة بكل ما في الكلمة من معنى. كما طالب بعضهم بديموقراطية اشتراكية. وأمطرت السماء نشرات متطرفة. واصدر الكولونيل جون للبيرن وحده مائة منها. ولم يكن ملتون في تلك الحقبة شاعرا بل مؤلف نشرات وكتيبات. وهاجم للبيرن كرومول على انه طاغية مرتد منافق. وشكا أحد الكتاب من" انك قلما تحدثت إلى كرومول في أي موضوع ألا وضع يده على صدره ورفع عينيه وقال اللهم فاشهد. انه سوف يبكي ويصرخ ويبدي الندم، حتى وهو يسدد إليك ضربة تصيب من مقتلا (4). " وفي إحدى النشرات تساءل كاتب أخر: " كان يحكمنا من قبل الملك واللوردات والنواب، أما الآن فيتولى الحكم فينا قائد الجيش والمحكمة العسكرية والنواب، فقل لنا بربك، ما هو الفرق ؟ " (5) وأحست الحكومة الجديدة بأنها مضطرة إلى تشديد الرقابة على الصحف والمنابر. وفي أبريل 1649 قبض على للبيرن وثلاثة آخرين لإصدارهم نشرتين تصفان إنجلترا وهي " مكبلة في أغلال جديدة ". وهاج الجيش مطالبا بالإفراج عنهم. وتوعد نساؤهم كرومول بالويل والثبور إذا مس المعتقلون بأذى. وأرسل للبيرن من سجنه إلى طابع نشراته، متحديا، أنها ما بالخيانة العظمى " موجها ضد كرومول وابرتون ". وفي أكتوبر قدم الكتاب الأربعة إلى المحاكمة في قضية أثارت اهتمام الرأي العام وشدت الآلاف من الناس إلى المحكمة. وتحدى للبيرن القضاة، وطالب بعرض القضية على هيئة المحلفين. فلما صدر الحكم ببراءة الكتاب الأربعة جميعهم انطلقت من الجمع الحاشد صيحة مدوية جماعية، يعتقد انه لم يسمع مثلها قط في دار البلدية، استمرت نحو نصف ساعة بلا انقطاع، حتى على الشحوب وجوه القضاة من شدة الفزع (6) وظل للبيرن لمدة عامين بطل الجيش. ونفى في 1652 ثم عاد في 1653 فقبض عليه ثانية، ثم برئ (أغسطس 1653)، ولكنه ظل مع ذلك سجينا. وفي 1655 افرج عنه وقضى نحبه 1657، وهو في الثالثة والأربعين من العمر.
وذهب بعض "أنصار المساواة" (حزب نشأ في البرلمان الطويل 1647 يدعو إلى إزالة الفوارق بين الناس) إلى ابعد مما ذهب إليه للبيرن والديمقراطية، فدعوا إلى توزيع السلع توزيعا اقرب إلى المساواة. انهم تساءلوا: لم يكون هناك أغنياء وفقراء؟ لماذا يتضور بعض الناس جوعا على حين يحتكر الأغنياء الأرض؟. وفي أبريل 1649 ظهر " نبي " يدعى وليم افرارد Everard، وقاد أربعة من الرجال إلى تل سان جورج في سرى، ووضعوا أيديهم على بعض الأرض غير المشغولة، وفلحوها، ونثروا فيها البذور، ودعوا الناس إليها. فانضم إليهم ثلاثون آخرون من جماعة "الحفارين" (وهو اسم أطلق عليهم). وانهم- كما جاء في تقرير إلى مجلس الدولة، ليهددون الجيران بأنهم سيحملون الجماعة كلها على القدوم وشيكا إلى التلال للعمل فيها(7). "ولما سبق افرارد للمثول أمام نقيب الجيش سير توماس هيرفاكس، أوضح له أن اتباعه قد اعتزموا احترام الأملاك الخاصة، "وأنهم لن يقربوا ألا الأراضي العامة غير المفلوحة ليعملوا فيها حتى تؤتى ثمارها، "وأنهم يأملون" في أن يحين فجأة الوقت الذي يأتي فيه كل الناس طائعين مختارين وينزلون عن أراضيهم وضياعهم ويذعنون لجماعة الأخيار هذه(8)". فما كان من هير فاكس ألا أن أخلى سبيل الرجال على انهم أفراد متعصبون لا يخشى منهم أي أذى. وتابع أحدهم- وهو جيرارد ونستانلى- الحركة ببيان أصدره في 26 أبريل 1649، تحت عنوان "لواء نصير المساواة الصادق يتقدم إلى الأمام": "في البدء جعل العقل (الخالق العظيم) الأرض ملكاً عاماً مشتركاً للحيوان والإنسان "، ولكن الإنسان فيما بعد عميت بصيرته فأصبح عبدا اكثر خضوعا لبنى جنسه من خضوع حيوانات الحقل لشخصه هو، وجرى التصرف في الأرض بالبيع والشراء، وأحاطها الحكام بالحواجز والأسياج، وبقيت في حوزة فئة قليلة من الناس. وكل ملاك الأرض لصوص ولن تنقطع الجريمة والكراهية والبغضاء ما لم تسترد الملكية العامة المشتركة (9). وفي " قانون الحرية " (1652) توسل ونستانلى إلى الجمهورية أن تقيم مجتمعا لا يوجد فيه بيع ولا شراء، ولا محامون، ولا أغنياء ولا فقراء، يجبر فيه الجميع على العمل حتى سن الأربعين، وبعد ذلك يعفون من الكدح. ويباح حق الانتخاب لكل البالغين من الذكور، ويكون الزواج أجراء مدنيا، والطلاق حراً مباحاً(10). وتخلى " الحفارون " عن مشروعهم، ولكن دعايتهم نفذت إلى عقول الفقراء الإنجليز، وربما عبرت القنال إلى فرنسا، وعبرت المحيط إلى أمريكا.
أن كرومول نفسه، وهو من ملاك الأرض، وهو الشديد الخبرة بطبيعة الانسان، لم يثق في هذه المثل العليا في الملكية العامة، بل لم يثق حتى في حق الاقتراع للبالغين. وفي فترة الفوضى التي لا معدي عنها، عقب قلب أية حكومة، تدعو الحاجة إلى شيء من سلطة مركزة في بعض الأيدي، وقد تمثلت في كرومول، وأن كثير ممن أوغر صدورهم منه إعدام الملك، رحبوا لبعض الوقت بدكتاتورية بدت البديل الوحيد للانحلال الاقتصادي والسياسي بل أن الجيش نفسه، حين ترامت إليه أنباء الثورة المضادة التي تدبر في إيرلندة واسكتلندة، غمره الفرح إذ أيقن أن يد كرومول الحديدية على أتم استعداد لقيادته ضد العصاة والثوار الذين لم يسعوا وراء " يوتوبيا " أو دنيا مثالية ديمقراطية، بل وراء عودة ملكية تثأر وتنتقم.
2- ثورة إيرلندة
في إيرلندة وحد رد الفعل ضد الثورة الكبرى، بشكل عابر، بين البروتستانت في إقليم (The Pale) في شرق إيرلندة حول دبلن والكاثوليك فيه وفيما وراءه. فقد حدث حتى قبل إعدام شارل الأول، أن وقع إرل اورموند جيمس بتلر، بوصفه نائب الحاكم في إيرلندة، معاهدة مع اتحاد الكاثوليك في كلكنى Kilkenny (17 يناير 1649) وافقوا بمقتضاها، وفي مقابل الحركة الدينية وبرلمان إيرلندي مستقل، على تزويده بخمسة عشر ألفاً من المشاة وخمسمائة من الجياد. وبعث أورموند برسالة إلى أمير ويلز، الذي اعترف أورموند لفوره بأنه شارل الثاني، بدعوة فيها للقدوم إلى إيرلندة ليقود جيشاً مشتركاً من البروتستانت والكاثوليك. وآثر شارل الذهاب إلى إسكتلندة، ولكن كرومول اعتزم أن يواجه تهديدات إيرلندة أولا.
وحين حط كرومول رحاله في إيرلندة في اغسطس، كانت القوات الموالية للجمهورية قد هزمت بالفعل أورموند في رانميز، وتراجع هو مع ما تبقى من قواته (2300 جندي) إلى مدينة دروجيدا المحصنة، الواقعة على نهر بوين. فحاصرها كرومول بعشرة آلاف جندي واقتحمها واستولى عليها عنوة (10 سبتمبر 1649) وأمر بقتل من بقى حاميتها على قيد الحياة (11). ولم يفلت من المذبحة بعض المدنيين، وقتل كل قسيس في المدينة (12)، حتى بلغ عدد ضحايا المذبحة المنتصرة نحو 2300. واشترك كرومول في شرف النصر مع الله: "أرجو أن تنسب القلوب الطاهرة هذا المجد إلى الله الذي يرجع أليه الفضل في هذه الرحمة حقاً(13) "وتمنى"
أن تساعد هذه المحنة كثيرا على حقن الدماء بفضل كرم الله(14)". وأنا لنشاركه رجاءه المخلص في أن تضع مثل هذه الضربة الواحدة من الإرهاب حدا للثورة، وتنقذ حياة الكثيرين من الجانبين.
ولكن الحرب استمرت ثلاثة أعوام آخر، فان كرومول تقدم من دروجيدا لحصار وكسفورد، واستولى عليها، ولقي 1500 من المدافعين عنها ومن سكانها مصرعهم. وقال كرومول " ان الله، بشيء من عناية إلهية غير متوقعة، في عدله القويم، قد انزل بهم حكما عادلا.... حيث كفروا بدمائهم عن أعمال القسوة الوحشية التي اقترفوها ضد حياة الكثيرين من البروتستانت المساكين(15) ". ولكن سياسة المذابح أخفقت فان مدينتي دنكانون وووترفورد تحدتا حصار كرمول. واستسلمت كلكنى لمجرد أنها تلقت شروطا كانت مرفوضة في أي مكان آخر، وتم الاستيلاء على كلونمل ولكن بعد فقد آلفي رجل. وما أن ترامى إلى كرومول نبأ وصول شار الثاني إلى إسكتلندة حتى ترك مواصلة الحرب في إيرلندة لصهره هنري ايرتون، وابحر هو إلى إنجلترا (24 مايو 1650).
وكان ايرتون قائداً قديراً، ولكنه مات بالطاعون في 26 نوفمبر 1651. ونبذت سياسة المذابح، وصدر العفو عن الثوار، وبمقتضى معاهدة كلنكنى (12 مايو 1652) استسلموا جميعاً تقريبا، شريطة السماح لهم بالهجرة دون عائق. وفي 12 أغسطس صدر " قانون التسوية في إيرلندة"، الذي ينص على مصادرة كل ممتلكات الايرلنديين أو بعضها - أيا كان مذهبهم - ممن يعجزون عن أثباب أنهم كانوا موالين للجمهورية، وبهذه الطريقة انتقلت ملكية نحو مليونين وخمسمائة ألف فدان (أيكر) من أراضى أيرلندة إلى جنود أو مدنيين إنجليز أو ايرلنديين كانوا يناصرون كرومول في إيرلندة. وبهذا انتقل ثلثا ارض إيرلندة إلى أيدي الإنجليز (16). وانضمت مقاطعات كلدار ودبلن وكارلو وكلو ووكفورد لتشكل"pale" أو إقليماً إنجليزياً جديداً في إيرلندة، وبذلت محاولات لإقصاء كل ملاك الأرض الايرلنديين أياً كانوا، ثم المواطنين الإيرلنديين عن هذه المقاطعات. وجردت آلاف الأسر الايرلندية من أملاكها، وأعطوا مهلة نهايتها أول مارس 1655 ليجدوا لأنفسهم وطنا آخر. وشحن المئات منهم على ظهور السفن إلى بربادوس، (جزر الهند الغربية) أو أماكن أخرى بتهمة التشرد.
وقد يسير وليم ربتى انه من بين سكان إيرلندة البالغ عددهم 000ر466ر1 في1641، كان فد هلك حتى 1652 نحو000ر616 بسبب الحرب أو الموت جوعا أو الطاعون، وقال أحد الضباط الإنجليز: في بعض المقاطعات "قد يسير المرء عشرين أو ثلاثين ميل دون أن يجد مخلوقا على قيد الحياة، إنسانا أو حيواناً أو طائراً" وقال آخر: " أن الشمس لم تشرق قط على أمة أشد تعاسة من هذه(17) ". وحرم المذهب الكاثوليكي بحكم القانون وصدرت الأوامر إلى رجال الدين الكاثوليك بمغادرة إيرلندة في بحر عشرين يوما، وكان الموت عقوبة من يخفى أياً منهم، وفرضت عقوبات صارمة على التخلف عن حضور الطقوس البروتستانتية يوم الأحد. ومنح القضاة والحكام سلطة جمع أطفال الكاثوليك وإرسالهم إلى إنجلترا لتلقي أصول المذهب البروتستانتي(18). أن كل الوحشية التي لقيها البروتستانت على يد الكاثوليك في فرنسا بين 1680-1890، صبها البروتستانت على رؤوس الكاثوليك في إيرلندة بين 1650-1660. وأصبحت الكثلكة جزءا لا يتجزأ من الروح الوطنية الايرلندية، لان الكنيسة والشعب قذف بهما في بحران من المعاناة والشقاء. وعلقت هذه السنين المريرة بذا كرة إيرلندة وكأنها تراث من البغضاء لا يفنى.
3- ثورة اسكتلندة
صعق الاسكتلنديون بإعدام شارل الأول الذي كانوا هم أنفسهم قد أسلموه إلى البرلمان الانجليزي، وعاد إلى ذاكرتهم فجأة أن والده كان اسكتلنديا. ورأوا في "تطهير برايد" الذي اخرج المشيخيين ( البرسبتريانز: كنيسة بروتستانتية يدير شؤونها شيوخ منتخبون يتمتعون جميعا بمنزلة متساوية ) من البرلمان الطويل، نقضا "للعصبة المقدسة والميثاق المقدس" الذي اقسم فيه ذلك البرلمان يمين الإخلاص لإسكتلندة والمذهب المشيخي، وأوجسوا خيفة من أن يحاول البيوريتانيون المنتصرون فرض مذهبهم البروتستانتي على إسكتلندة كما فرضوه على إنجلترا. وفي 5 فبراير 1649، أي بعد مضي اقل من أسبوع على إعدام شارل الأول، نادى البرلمان الاسكتلندي (مجلس الطبقات) بابنه شارل الثاني، الذي كان آنذاك في الأراضي الوطيئة، ليكون الملك الشرعي على بريطانيا العظمى وفرنسا وأيرلندة.
وقبل أن يجيز الاسكتلنديون لشارل الثاني الدخول إلى إسكتلندة طلبوا أليه أن يوقع الميثاق الوطني وعهد العصبة المقدسة والميثاق المقدس، ويقسم يمين الحفاظ على المذهب المشيخي او أقامته كل أرجاء ملكه وفي بيته. على إن شارل الذي كان يدين بالفعل بمزيج من الكاثوليكية والتشكك، لم يكن يروقه مذهب المشيخية، في الوقت الذي كان يتوق فيه أيما توق إلى العرش، فوقع على كره منه، كل هذه المطالب في "بريدا " في أول مايو 1650. وقاد مونتروز، أنبل الاسكتلنديين في ذاك العصر - قوة صغيرة من جزر أوركى إلى إسكتلندة، أملا في أن يجمع لشارل جيشا مستقلا عن الميثاقين المشيخيين، ولكنه هزم وأسر وأعدم شنقا (11 مايو 1650). وفي 23 يونية حط شارل رحاله في اسكتلندة، وهو يتلهف على أن يكون على رأس جيش يغزو به الجمهورية البيوريتانية التي أطاحت برأس أبيه، وقبل أن يهب الاسكتلنديون لنجدته، استحثوه على إصدار بيان يرغب فيه " أن يركع في ذل وخشوع أمام الله تكفيرا عن معارضة أبيه للعصبة المقدسة والميثاق المقدس، ومن اجل خطيئة أمه بسبب عقيدتها الوثنية (أي اعتناقها الكثلكة)(19). "وللتكفير عن خطيئات شارل الأول والثاني فرض رجال الكنيسة الاسكتلندية على الجيش والشعب صوما جاداً رهيباً، وأكدوا للجيش انه لن يقهر(20)، لان الملك الشاب قد أرضى السماء. وتحت إلحاح القساوسة طهر الجيش من الضباط الذين وضعوا ولاءهم للملك فوق ولائهم للميثاق والكنيسة الاسكتلندية، وبهذه الطريقة طرد ثمانون من اقدر القواد.
واقترح كرومول على البرلمان الإنجليزي غزو إسكتلندة في الحال، دون انتظار هجوم من جانبها. واعتزل فيرفاكس آنذاك القيادة العليا لجيوش الجمهورية، وكان قد رفض الاشتراك في محاكمة شارل الاول، وعين كرومول خلفا له، فنظم قواته بعزيمته وعجلته المعهودتين، وعبر إلى إسكتلندة (22 يولية 1650)، على رأس 16 آلف رجل. وفي 3 اغطس أرسل إلى لجنة الجمعية العامة للكنيسة الاسكتلندية رسالة زاخرة بالشجاعة والثبات والقدرة على الاحتمال: "هل كل ما تقولون يلتئم التئاما لا شبهة فيه مع كلمة الله؟ أتوسل إليكم، بحق أحشاء المسيح، أن تفكروا في أنكم قد تكونون مخطئين(21)". وفي دنبار (3 سبتمبر) أوقع بالجيوش الاسكتلندية الرئيسية هزيمة منكرة واسر عشرة آلاف رجل، وسرعان ما استولى على إدنبرة وليث. وانهارت مكانة الوعاظ الاسكتلنديين، وتبدد زعمهم بأنهم معصومون من الخطأ. واستدعى الضباط المطرودون على عجل، وتوج شارل الثاني رسميا في "سكون Scone". أما كرومول فقد انتابه المرض في ادنبره، وتوقف القتال بضعة شهور.
ثم تقدم الجيش الاسكتلندي بعد إعادة تنظيمه، وعلى رأسه شارل، إلى إنجلترا، أملا في أن ينضم إلى لواء الشرعية والحق، كل الملكيين والمشيخيين المخلصين. فتعقبهم كرومول، حيث كان يحشد أثناء مروره بالمدن الإنجليزية كل قوات الطوارئ، والمواطنين الصالحين للجندية، وفي ووستر، في 3 سبتمبر 1651، دارت رحى المعركة التي أبقت على الجمهورية، وحكمت على شارل بأن يلوذ بالمنفى مرة أخرى. وفيها، بفضل الاستراتيجية الفائقة البسالة، استطاعت قوات كرومول الأقل عددا، أن تهزم ثلاثين ألفا من الاسكتلنديين. وكان شارل شجاعا ولكنه لم يكن قائدا. انه بذل أقصى الجهد في أن يستحث ويلم شعث جنوده الذين اختل نظامهم، ولكن يبدو انهم ذعروا وارتعدوا فزعا من سمعة كرومول محاربا لم يخسر قط معركة، فألقى كثير منهم السلاح ولاذ بالفرار. وتوسل شارل إلى ضباطه أن يطلقوا عليه الرصاص فأبوا. واقتاده نفر من اشد اتباعه إخلاصا إلى مكان آمن مؤقت في مقر أحد الملكيين. وهناك تجرد من شعر رأسه إلى حد كبير، وغير لون يديه ووجهه واستبدل بملابسه ثياب أحد العمال، وبدأ مسيرة طويلة، على ظهر جواد، وعلى قدميه، متسللا من مخبأ إلى مخبأ. ينام تحت سطوح المنازل أو في الحظائر والغابات. ونام مرة في إحدى أشجار " رويال اوك " في بوسكوبل، على حين كان جنود الجمهورية يفتشون عنه تحتها. وكثيرا ما عرفه الناس، ولكنهم لم يغدروا به أو يكشفوا أمره. وبعد أربعين يوما من الفرار، وجد هو ومرافقوه، في شورهام في سسكس، قارباً ارتضى ربانه، مخاطراً بحياته، أن ينقلهم إلى فرنسا (15 أكتوبر).
وعهد كرومول إلى القائد جورج مونك بالضرب على أيدي الثوار الاسكتلنديين بصفة نهائية، وتم هذا في فبراير 1652. وأخضعت إسكتلندة لإنجلترا، وحل برلمانها المستقل، ولكن أجيز لها إرسال ثلاثين نائبا عنها إلى برلمان لندن. وعوقبت الكنيسة الاسكتلندية بحظر انعقاد جمعياتها العامة، وإقرار التسامح الديني مع كل الشيع البروتستانتية المسالمة. ومن الناحية الاقتصادية أفادت إسكتلندة من الحرية الجديدة في الاتجار مع إنجلترا. أما من الناحية السياحية فقد ظلت ترقب عودة أسرة ستيوارت وتدعو الله أن يحقق هذا الرجاء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
4- أوليفر حاكما مطلقاً
عاد كرومول إلى إنجلترا منتصرا انتصارا يكلله التواضع. وأذ رأى الجموع التي احتشدت لتشهد مقدمه، فقد جال بخاطرة أن جمهورا اكبر من هذا كان يمكن أن يحتشد ليشهد مصرعه على حبل المشنقة (22). ومنحه البرلمان الألمبتور راتباً سنوياً قدره أربعة آلاف جنية، وخصص له قصرا كان يوما ملكيا في هامبتون كورت. واعتقد البرلمان انه سيقنع بالبقاء في منصب القيادة العامة. كما اقترح أجراء انتخابات جديدة، لزيادة عدد أعضائه إلى 400، على أن يحتفظ الأعضاء الحاليون بمقاعدهم دون الدخول في الانتخابات الجديدة، وكان عليهم أن يحددوا شروط حق الانتخاب وصحة الأصوات. وحمى البرلمان نفسه ضد حملات النقد بالحد من حرية الصحافة والخطابة بشكل صارم: "لن يسمح باسم حرية الخطابة أو حرية الوعظ، بأي شئ يعكر صفو الحكومة أو يسئ إلى كرامتها(23) ". وحرم رجال الكنيسة الأنجليكانية الرسمية من أرزاقهم وحكم بمصادرة ثلثي ممتلكات من يعتنقون المذهب الكاثوليكي، بصفة غرامة. وقدمت الجوائز لمن يقبضون على القساوسة الكاثوليك(24).
أن كرومول، على الرغم من بطئه في اتخاذ قرار، كان حازماً متأهباً لسرعة التصرف إذا اعتزم أمرا. وقد احتمل في صبر نافد المناقشات التي أفسدت السياسة في البرلمان وعوقت الإدارة. انه اتفق مع شارل الأول على أن تكون السلطة التنفيذية متميزة ومستقلة عن السلطة التشريعية.
ثم بدأ يتساءل: ألم يكن خيرا وبركة أن يكون كرومول ملكا. ولمح بهذه الفكرة ( ديسمبر 1652 ) إلى صديقه هوايتاوك الذي فقد صداقته باعتراضه عليها(25). وفي صبيحة يوم 20 أبريل 1653، عندما علم أن البرلمان المبتور كان على وشك أن ينصب نفسه سيداً غير منتخب على البرلمان الجديد، جمع حفنة من الجنود اتخذوا مواقعهم على باب مجلس العموم، ودخل هو أليه، وإلى جانبه اللواء توماس هاريسون، وأصغى لبعض الوقت إلى المناقشة في صمت رهيب. وعندما بدا اخذ الأصوات على موضوع البحث، نهض كرومول، وتحدث أول الأمر في اعتدال، وما لبث حتى تحدث في عنف، فنعى على البرلمان المبتور أن يكون أوليجاركية (أقلية حاكمة) تخلد نفسها بنفسها، لا تصلح لحكم إنجلترا. ثم صاح: " أيها السكارى" متجهاً إلى عضو بعينه، ثم صرخ في عضو آخر "أيها الداعر الفاجر" "أنتم لستم برلماناً. أقول أنكم لستم برلماناً, ولسوف أضع حداً لاجتماعاتكم". ثم التفت إلى هاريسون وأمره: "استدع الجنود، استدعهم إلى هنا". ودخل الجنود إلى القاعة. وأمرهم كرومول بإخلائها، وغادرها الأعضاء محتجين قائلين:
"ليس هذا من الأمانة في شيء". ووضعت الأقفال على القاعة الخالية، وفي اليوم التالي وجد معلقا عليها لافتة" بيت للإيجار، غير مؤثث الآن(26). ثم ذهب كرومول بصحبة اثنين من القواد إلى حيث يجتمع مجلس الدولة، وقال لأعضائه "إذا كنتم تجتمعون الآن بصفتكم الشخصية فلا بأس، ولا يزعجنكم أحد - أما إذا كنتم مجتمعين كمجلس للدولة، فلا مكان لكم هنا... وأرجو أن تعلموا أن البرلمان قد حل(27)". وهكذا كانت النهاية المخزية المزرية للبرلمان الطويل الذي كان قد اجتمع في وستمنستر، بكامل هيئته أو بشكله المبتور، منذ 1640، والذي كان قد حول دستور إنجلترا وحكومتها. ولم يعد هناك الآن دستور، بل جيش وملك غير ذي لقب أو ملك غير متوج.
وكان الشعب بصفة عامة فرحاً بالتخلص من برلمان قد جر إنجلترا إلى حافة الهاوية. وعلى حد قول كرومول، لم يكن هناك "مجرد نباح كلب، ولا تذمر ظاهر لحله(28)". وتقبل البيوريتانيون الغيورون المتحمسون حل البرلمان على انه إفساح الطريق "للملكية الخامسة " أي مجيء المسيح المنتظر وحكمه وتشجع الملكيون وتهامسوا بأن كرومول سوف يستدعى الآن شارل الثاني، ويقنع هو بدوقية أو بمنصب نائب الملك في إيرلندة. ولكن أوليفر لم يكن بالرجل الذي يرتضى أن يكون رهن مشيئته رجل آخر. فأصدر توجيهاته إلى معاونيه العسكريين أن يختاروا - بصفة أساسية من المجامع البيوريتانية في إنجلترا - 140 رجلا، من بينهم خمسة من إسكتلندة وستة من ايرلندة، ليجتمعوا على هيئة "برلمان معين ". ولما انعقد هذا البرلمان في هويتهول في 4 يوليه 1653 اعترف كرومول بأن الجيش هو الذي اختارهم، ولكنه رحب بهم باعتبار انهم يبدأون فترة يحكم فيها القديسون حكماً صحيحاً تحت رياسة يسوع المسيح (29)، واقترح أن يخولهم السلطة العليا، ويكل إليهم مهمة وضع دستور جديد - وظل هذا البرلمان طيلة خمسة اشهر يبذل أقصى الجهد في إنجاز هذه المهمة، ولكنه ضل الطريق في متاهات المناقشة، الطويلة. وانشق الأعضاء على أنفسهم، يأسا وعجزا، في موضوعات الدين والتسامح الديني. وأطلق ظرفاء لندن عليه اسم "برلمان باربيون"، نسبة إلى أحد أعضائه Barebone، وهو احد القديسين في "الملكية الخامسة" سالفة الذكر. وضاق الجيش ذرعا بهؤلاء الأعضاء، كما ضاق من قبل ذرعا بمن طردهم في أبريل. وعرض الضباط - وهم يمثلون دور أنطونيو - على كرومول أن ينصب نفسه ملكاً، وتردد قيصر واعترض في رفق، ولكن ثمانين من أعضاء البرلمان، بإيحاء محدد من الجيش، أعلنوا إلى كرومول في 12 ديسمبر أن الجمعية الجديدة لم تصل إلى اتفاق، وأنها تقترع على حلها. وعرضت " وثيقة حكومية " أعدها زعماء الجيش، على كرومول أن يكون "حامي جمهورية إنجلترا وإسكتلندة وإيرلندة"، وأن ينتخب برلمان جديد على أساس نصاب من الثروة يخول حق الاقتراع، مع استبعاد الملكيين والكاثوليك، وان تكون السلطة التنفيذية في يد مجلس من ثمانية من المدنيين وسبعة من ضباط الجيش، يختارون لمدى الحياة، على ان يعمل هذا المجلس بمثابة هيئة استشارية " لحامي حمى الجمهورية " وللبرلمان كليهما. ووافق كرومول ووقع هذه الوثيقة، وهي "أول وآخر دستور إنجليزي مسطور(30) "، وفي 16 ديسمبر 1653 أقسم اليمين بوصفه "حامي الحمى". وبذلك انتهت الجمهورية، وبدأت الحماية - اسمان لأوليفر كرومول.
هل كان كرومول طاغية مستبداً ؟ من الواضح انه استساغ السيطرة والسلطان. ولكن تلك نزعة عامة، وهي أمر طبيعي إلى ابعد حد في الموهبة الواعية. لقد فكر من قبل في تنصيب نفسه ملكا، وتأسيس أسرة ملكية جديدة(31). ويبدو انه كان مخلصاً حين عرض أن ينزل عن سلطته "للبرلمان المعين". ولكن عجز هذا البرلمان أقنعه بأن سلطته التنفيذية هو نفسه هي آنذاك البديل الوحيد عن الفوضى فإذا تخلى هو، فقد كان يبدو انه ليس ثمة رجل آخر يحظى بتأييد كاف للمحافظة على النظام. واستنكر المتطرفون في الجيش هذه " الحماية " باعتبارها مجرد "ملكية أخرى". واتهموا كرومول بأنه "وغد منافق كذاب" وتوعدوه "بمصير أسوا من المصير الذي لقيه الطاغية السابق(32)". وأرسل كرومول بعض هؤلاء المتمردين إلى السجن "برج لندن" ومن بينهم اللواء هاريسون الذي تولى قيادة الجنود عند طرد أعضاء البرلمان المبتور. أن خوف كرومول على سلامته هو نفسه أدى به شيئا فشيئا إلى المزيد من الاستبداد، لأنه أدرك أن نصف الأمة كان يمكن أن يهلل لقتله. انه أحس، مثل سائر الحكام، بالحاجة إلى إحاطة نفسه بمظاهر الفخامة والوقار التي تثير الرهبة في النفوس، فانتقل إلى قصر هويتهول (1654) وأعاد تأثيثه بأفخر الرياش، واتخذ لشخصه كل الجلال وكل العظمة الملكية(32). ولكن مما لا ريب فيه ان كثيرا من هذه المظاهر كان لابد أن يخلق انطباعاً قوياً في نفس السفراء، ويثير الفزع في نفوس الأهالي.
وفيما يتعلق كرومول الخاصة، فانه كان رجلا غير ميال إلى المظاهر والأبهة، يعيش عيشة طابعها البساطة والإخلاص مع أمه وزوجته وأولاده. وأحبته أمه حباً ممزوجاً بالخوف عليه، ترتعد فرقاً على حياته لكل طلقة نسمعها، وعند وفاتها في الثالثة والتسعين (1654) قالت: " ولدي العزيز أني أترك قلبي معك (34) ". انه هو نفسه، في أواسط الخمسينات من عمره، كان يدب أليه الهرم بسرعة، أن ما واجهه من أزمة تلو أزمة كان يهد من أعصابه التي قيل أنها حديدية. أن حملات إيرلندة وإسكتلندة زادت الحمى على داء النقرس، ولم يمر عليه يوم دون نصب او قلق ورسم له المصور إلى في 1650 لوحة مشهورة. وان كل إنسان ليعرف تحذير كرومول للمصور حيث قال له: " مستر للى، بودي أن تستغل كل ما أوتيت من مهارة في رسم صورة حقيقية مثل شخص تماما، ولا تتملقني على الإطلاق، بل يجب أن تبرز هذه الخشونة والبثور والنتوءات وكل شىء، والا، فلن أنقدك فلسا واحدا (35) ". وقبض للي أجره، ورسم "حامى الحمى" في صورة مصقولة إلى حد بعيد، ومع ذلك ابرز الوجه الصارم القوي، والإرادة الحديدية كما أبرز روحاً عصبية متوترة إلى حد الانفجار. ووجه النقد إلى كرومول من أجل البساطة الكئيبة في لباسه العادي - سترة وبذلة بسيطتان سوداوان -، ولكنه كان في المناسبات الرسمية يرتدي سترة موشاة بالذهب. انه بين الناس كان يحتفظ بوقار لا اثر فيه للتكلف أو التظاهر، ولكن في حياته الخاصة كان ينصرف إلى ألوان التسلية والدعاية والمزاح، بل إلى مزحات عملية وهزل ماجن طارئ(36).
واحب الموسيقى وعزف على الأرغن عزفا جيداً(37). وأوضح أنه كان، حسب ما يبديه، مخلصا في ورعه وتقواه(38)، ولكنه كثيرا ما استخدم اسم الله (لا عبثاً) لتدعيم أهدافه، إلى حد اتهمه معه الكثيرون بالنفاق. ويحتمل انه كان ثمة بعض الرياء في تقواه العلنية، وقليل منه في تقواه الخاصة، مما شهد به كل من عرفوه. وكانت رسائله وخطه نصف مواعظ، ولا نزاع في انه اعتبر، بكل طيب خاطر أن الله هو ساعده الأيمن ... ولم تكن أخلاقياته الخاصة تشوبها شائبة، على حين أن أخلاقياته العامة لم تكن تفضل أخلاقيات الحكام الاخرين، فاستخدم الخداع أو القوة حيثما رآهما ضروريين لأهدافه الكبرى. إن أحداً لم يوفق بعد بين المسيحية والحكم.
أن كرومول الناحية الفنية، لم يكن حاكما مطلقا. فانه تنفيذا لوثيقة الحكومة " التي أسلفنا ذكرها شكل " مجلس الدولة " وأنتخب برلماناً. "وعلى الرغم من كل مساعي حامي الحمى والجيش لضمان عودة النواب الذين تميزوا بالكياسة ولين العريكة، ضم مجلس العموم الذي اجتمع في 3 سبتمبر 1654 بعض الجمهوريين المزعجين، بل كذلك بعض الملكيين وثار النزاع حول من يسيطر على الجيش: حامي الحمى أو البرلمان. واقترح البرلمان إنقاص عدد الجنود وعطياتهم، فتمردوا وحرضوا كرومول على حله (22 يناير 1655). والواقع إن حكومة إنجلترا أصبحت دكتاتورية عسكرية منذ طهر برايد البرلمان في 1648.
وسيق كرومول آنذاك إلى الحكم طبق للأحكام العرفية وحدها دون سواها، وفي صيف 1655 قسم إنجلترا إلى خمسة أقسام عسكرية. ووضع على رأس كل منها هيئة من الجند يرأسها ضابط برتبة لواء وللوفاء بنفقات هذه التجهيزات فرض ضريبة قدرها 10% على ضياع الملكيين. واحتج الناس، وانتشر النقد والتمرد، وسمعت أصوات تنادي بعودة شارل الثاني. وأجاب كرومول على هذا كله بتشديد الرقابة والتوسع في أعمال التجسس والاعتقالات التعسفية وإجراءات قاعة النجم التي أغفلت المحلفين وقانونية الاعتقال. وكان "سير هاري فين Vane" من الثوريين السابقين الذين اقتيدوا إلى السجن. إن الثورات تأكل آباءها.
ولما كان كرومول في حاجة إلى مزيد من المال اكثر مما استطاع تحصيله عن طريق ما فرض من ضرائب أخرى مباشرة، فانه دعا برلماناً آخر. ولما التأم عقده في 17 سبتمبر 1656، وضع مجلس الدولة على باب مجلس العموم بعضاً من ضباط الجيش، ومنع دخول 103 من الأعضاء الذين انتخبوا انتخاباً صحيحاً، ولكن يشتبه في إن لهم ميولا جمهورية أو ملكية أو مشيخية أو كاثوليكية. فقدم الأعضاء المبعدون احتجاجا استنكروا فيه إبعادهم بأنه انتهاك صارخ لإرادة ناخبيهم التي عبروا عنها، ودمغوا بأشد النفاق "تصرف الطاغية واستخدامه اسم الله والدين والصوم والصلوات الشكلية ليستر قتام الحقيقة الواقعة ومرارتها(40)". ومن بين الأعضاء البالغ عددهم 352 الذين اجتازوا تمحيص المجلس ودقته كان هناك 175 عضو أمن رجال الجيش أو من المعينين أو من أقرباء كرومول. وفي 31 مارس 1657 قدم البرلمان المختزل المنقوص الخاضع المذعن إلى "حامى الحمى" توسلا ونصيحة متواضعين يطلب إليه فيها أن يتخذ لنفسه لقب "ملك". ولكنه كان يشم رائحة المعارضة من جانب الجيش لهذا العمل، فأبى. ولكن ثمة حل وسط أعطاه الحق في تعيين خلفه "حامي الحمى" وفي يناير 1658 وافق إعادة الأعضاء المبعدين إلى مقاعدهم في مجلس العموم. وفي نفس الوقت اختار تسعة من النبلاء و61 من العامة ليشكلوا المجلس الثاني (مجلس اللوردات). ورفض كثير من ضباط الجيش تأييد هذه الحركة. وعندما عقدوا اتفاقا مع الجمهوريين في مجلس العموم للحد من سلطات المجلس الثاني، غضب كرومول غضباً شديداً واقتحم قصر وستمنستر وطرد البرلمان (في فبراير 1657). وآنذاك من الوجهة القانونية، ومن حيث الأمر الواقع، انتهت الجمهورية الإنجليزية وأعيدت الملكية. وكأن التاريخ بهذا قد ضرب مثلا جديدا للتعاقب التهكمي الساخر الذي ذكره افلاطون، وهو تعاقب الملكية، فالأرستقراطية، فالديموقراطية، فالدكتاتورية، فالملكية(41).
5- ذروة البيوريتانية
لقد انطوى انتصار البيوريتانية على ثورة دينية. وتحطمت الكنيسة الإنجليزية في 1634 بالغاء الحكومة الأسقفية في الكنيسة، وصادر مذهب البروتستانتية المشيخية (البرسبتريان) حيث كان يحكم مجامع الكنيسة قساوسة يوجههم مجلس (سنودس) في كل قسم، وتخضع مجالس السنودس هذه للجمعية العمومية - نقول أن مذهب الكنيسة المشيخية هذا جعل المذهب الرسمي للدولة في 1646، ولكن سيطرة مذهب المشيخية انتهت بعد عامين اثنين، حين طهر " برايد " البرلمان من اتباع هذا المذهب. وبدا لبعض الوقت إن الديانة يجدر تركها حرة طليقة من أية رقابة أو إعانة مالية من جانب الدولة. ولكن كرومول (الذي حدث انه اتفق في كل شيء تقريبا مع الملك الذي كان قد أودى بحياته) آمن بأن كنيسة معانة من قبل الدولة أمر لا غنى عنه من اجل التربية والتعليم والأخلاق. وفي 1654 شكل "لجنة من الفاحصين" لتختبر صلاحية رجال الدين للتعيين في رتب كنيسية والحصول على رواتب. ولم يكن أهلاً لذلك سوى المستقلين (البيوريتانيين) وأنصار التعميد والبرسبتريانز. وأجيز لكل أبرشية أن تختار بين التنظيم المشيخي او نظام الكنيسة المستقلة - وفيه يحكم كل مجمع نفسه. واختار البيوريتانوين نظام الكنيسة المستقلة. أما التنظيم المشيخي الذي ساد في اسكتلندة، فقد اقتصر في إنجلترا إلى حد بعيد، على لندن ولنكشير. أما رجال الدين الأنجليكانيون. الذين بلغوا يوماً حداً كبيراً من القوة، فقد حرموا من رواتبهم، وباتوا يخدمون اتباعهم أي يقومون لهم بالمراسم في أماكن خفية، مثل الكهنة الكاثوليك. وفي 1657 اعتقل جون أفلين بسبب حضوره الصلوات الأنجليكانية (42). وكانت الكاثوليكية لا تزال خروجا على القانون. وأعدم قسيسان شنقاً (1650 - 1654) بتهمة "تضليل الشعب"، وفي 1657 أصدر برلمان البيوريتانيين، بموافقة كرومول، قانونا يقضي بمصادرة ثلثي ممتلكات أي فرد جاوز السادسة عشرة، لم يتنصل من الكاثوليكية ويبرأ منها(43). وفي 1650 كانت العقيدة الدينية قد أصبحت أساساً لوضع اجتماعي طبقي: فكان الفقراء يتحيزون للمذاهب المعارضة - أنصار العماد، الكويكرز، أصحاب فكرة الملكية الخامسة، وغيرها، أو الكاثوليك. أما الطبقات الوسطى فكانت البيوريتانية غالبة فيها. على حين أن الأرستقراطية ومعظم ذوي الحسب والنسب (ملاك الأرض الذين لا ألقاب لهم) كانوا يشايعون الكنيسة الأنجليكانية التي لم تعد الدولة تعترف بها.
وانعكس التعصب الديني رأساً على عقب، اكثر مما تناقص أو خفت حدته. ذلك انه بدلا من اضطهاد الأنجليكانيين للكاثوليك المنشقين والبيورينانيين الذين تعالت صيحاتهم من قبل طلبا للتسامح، باتوا الآن يضطهدون الكاثوليك والمنشقين والأنجليكانيين. وحرموا استعمال "كتاب الصلوات العامة" ولو سراً في المنازل. وقصر برلمان البيوريتانيين التسامح على أولئك البريطانيين الذين ارتضوا التثليث وإصلاح الديني والكتاب المقدس باعتباره كلمة الله، كما ارتضوا نبذ الأساقفة. أما اتباع سوسينوس أو التوحيديون فلم يشملهم التسامح بناء على ذلك. وفرضت عقوبات صارمة على أي نقد يوجه إلى العقيدة أو الطقوس الكلفنية (44). وكان كرومول اكثر تسامحا من برلماناته، فتغاضى عن بعض الصلوات الانجليكانية، ورخص لجماعة صغيرة من اليهود بالإقامة في لندن، بل وبناء معبد لهم، واتهمه اثنان من الوعاظ من أنصار عدم تجديد العماد بأنه "وحش سفر الرؤيا" (النبي الكذاب)، ولكنه احتمل هجومهما صابراً(45).
واستخدم نفوذه في وقف اضطهاد الهيجونوت في فرنسا وأتباع والدونى بيد مونت. ولكنه عندما طالبه مازاران، في مقابل ذلك، بمزيد في التسامح مع الكاثوليك في إنجلترا، تذرع بعجزة عن الحد من حماسة البيوريتانيين(46).
ومن الجائز القول بأن الدين لعب دورا هاما وتغلغل في الحياة اليومية عند اليهود وحدهم، كما فعل عند البيوريتانيين. والحق أن البيوريتانية اتفقت مع اليهود في كل شيء تقريبا، فيما عدا ألوهية المسيح. وشجعت معرفة القراءة والكتابة حتى يقبل الجميع على قراءة الكتاب المقدس. وكان ثمة ولع شديد بالتوراة (العهد القديم) لأنه يقدم نموذجا لمجتمع تسيطر عليه الديانة. وكان الشغل الشاغل في الحياة هو الخلاص من نار جهنم. والشيطان موجود حقا وفي كل مكان. وبنعمة الله وحدها يمكن لفئة قليلة مختارة أن تفوز بالخلاص وتضمن كلام البيوريتانيين وأقوالهم عبارات من الكتاب المقدس ومجازاته. واشرق في عقولهم التفكير في الله وفي المسيح أو تجلياتهما لهم، وملأتهم خشية ورهبة ولكن لم يفكروا قط في السيدة مريم. واتسمت ملابسهم بالبساطة والكآبة، وخلت من أية زينة أو زخرف، كما اتسم كلامهم بالوقار والرزانة مع البطئ. وكان منتظر منهم أن ينأوا بأنفسهم عن اللهو والدنس واللذة الحسية. وكانت المسارح قد أغلقت في 1642 بسبب الحرب، فظلت مغلقة حتى 1656 بسبب شجب البيوريتانز واستنكارهم لها. وحرم سباق الخيل ومصارعة الديكة ومباريات المصارعة، ومطاردة الدببة أو الثيران، إلى حد ان الضباط ( الكولونيل ) البيوريتاني نيوسن قتل كل الدببة في لندن ليتأكد أنها لن تطارد بعد الآن(47). واقتلعت كل أعمدة مايو (كانت تزدان بالأشرطة والزهور وتقام في أول مايو). وكان الجمال شبهة، واحترموا النساء بوصفهن زوجات مخلصات وأمهات صالحات، وفيما عدا ذلك لم يتمتعن يحسن السمعة لدى البيويتانيين لأنهن مصدر غواية واغراء، وانهن سبب طرد الإنسان من الجنة. ونقروا من الموسيقى، ماعدا في التراتيل الدينية.
وقضوا على الفن في الكنائس ولم يسمحوا بإخراج جديد منه، اللهم إلا بعض اللوحات الممتازة من عمل صمويل كوبر، وبيتر للى، وكان هولنديا.
وربما كانت محاولة البيوريتانز تقنين الأخلاق أجل عمل منذ شريعة موسى. واعترفوا بصلاحية الزواج المدني، وأبيح الطلاق، لكن الزنى كان جريمة عقوبتها الإعدام. على إنه بعد تنفيذ حكم الإعدام مرتين عقاباً على هذه الجريمة، لم يكن المحلفون يحكمون بالإدانة. وكانت عقوبة الأيمان تتدرج وفقا للسلم الاجتماعي، فكان اليمين يكلف الدوق ضعف ما يكلف البارون، وثلاثة امثال ما يكلف الذي لا يحمل لقبا، وعشرة امثال ما يدفع الرجل العادي، بصفة غرامة، ودفع رجل واحد الغرامة لأنه قال: "الله شهيد علي(48)". وكان الأربعاء يوم صوم إجباري عن اللحم حتى ولو وقع فيه عيد الميلاد المجيد. وكان من حق الجنود اقتحام البيوت للتأكد من صوم الأهالي. ولم يكن مسموحا بفتح الحوانيت يوم الاحد، كذلك كانت الألعاب والرياضة والأعمال الدنيوية محظورة فيه. ولم يسمح فيه بأية رحلة أو سفر يمكن اجتنابه، كما كان محظورا "التسكع أو المشي الدنس لا هدف(49)". وعلى الرغم من عودة الملكية وما صحبها من انتكاس في الأخلاق، ظل يوم الأحد قاسيا متزمتا حتى أيامنا هذه.
ان كثيرا من هذه المحرمات القانونية أو الاجتماعية أثبت أنه أقسى مما تحتمل الطبيعة البشرية، وقيل أن نسبة كبيرة من السكان لجأت إلى النفاق، فكانوا يفترقون الآثام كما هي العادة، ويجرون وراء المال والنساء والسلطة ، ولكن دائما تعروهم الكآبة ويخرجون أصواتا من أنوفهم وتنساب من أفواههم العبارات الدينية. ومع ذلك يبدو أن عددا كبيرا من البيوريتانيين التزموا بإنجليهم في إخلاص وشجاعة. ولسوف نرى ألفين من الوعاظ البيوريتانيين بعد عودة الملكية يؤثرون العوز والفاقة على التخلي على مبادئهم. إن نظام البيوريتانية ضيق العقل ولكنه قوى الإرادة والخلق. أنه ساعد الأنجليز على حكم أنفسهم. وإذا كان الفزع من نار جهنم والطقوس البيوريتانية قد أشاعت في البيت الكآبة والظلمة. فان حياة الأسرة عند عامة الناس قد أسبغ عليها نظام ونقاوة بقيتا بعد الانحلال الذي تميزت به صفوة المجتمع في عهد شارل الثاني.
وجملة القول أن النظام البيوريتاني ربما أحدث إصلاحا خلقيا جددته ودعمته حركة المنهجية في القرن الثامن عشر (الميثودية حركة إصلاح ديني قادها تشارلز وجون ويزلي في أكسفورد 1792 لإحياء كنيسة إنجلترا) - وإليه يرجع أكبر الفضل في الأخلاقيات العالية نسبيا التي تتميز بها الأمة البريطانية اليوم.
6- الكويكرز
تألقت في الكريكرز كل فضائل البيوريتانيين، وهم فرع منهم، ولو أخفاها لبعض الوقت الخيال الجامح والتعصب الأعمى. وكانت خشية الله والخوف من الشيطان قويين جدا فبهم إلى حد يصيب أجسامهم برعدة. وقال واحد منهم هو روبرت باركلي 1679. أن قوة الله سوف تقتحم الاجتماع الشامل، ومن ثم سوف يكون هناك جهد باطني، حين يحاول كل فرد أن يقهر قوى الشر في النفوس، إلى حد أنه بأعمال هاتين القوتين المتعارضتين، وكأنهما تياران متضادان، بجهد الإنسان وكأنه في يوم المعركة، ومن هذا يكون اهتزاز الجسم وحركته في معظم الناس إن لم يكن كلهم وهي هزات وحركات، تنتهي بعد أن تسود قوة الحق، من الوخزات والأنات، بصوت رخيم من الشكر والحمد. ومن هنا أطلق اسم الكويكرز، أي المهتزين علينا، وكان هذا من باب اللوم والتأنيب والسخرية في بداية الأمر(50).
وتفسير مؤسس الطائفة جورج فوكس يختلف اختلافاً يسيراً عن هذا إن القاضي بنت دن دربي هو أول من أطلق علينا هذا الاسم، لأننا كنا نأمرهم بالاهتزاز عند ذكر كلمة الله. وهذا كان في 1650(51) أما الاسم الذي أطلقوه هم أنفسهم على طائفتهم فكان "أنصار الحق". وبعد ذلك أكثر تواضعا، فقالوا "مجتمع الأصحاب".
وواضح أنهم كانوا في بداية الأمر بيوريتانيين، مع اقتناع شديد بصفة خاصة بأن ترددهم بين الفضيلة والخطيئة لم يكن إلا صراعا، في عقولهم وأجسامهم، بين قوتين روحيتين، قوة الخير وقوة الشر، تحاول كل منهما أن تسيطر عليهم هنا، وإلى مالا نهاية. إنهم تقبلوا المبادئ الأساسية عند البيوريتانيين: نزول الأسفار المقدسة عن طريق الوحي الالهي، خطيئة آدم وحواء، كون الإنسان خطاء بطبيعته، موت المسيح بن الله لتخليص البشر، إمكان نزول الروح القدس من السماء لتنوير نفس الإنسان وتشريفها. أن إدراك هذا "النور الباطن"، والإحساس به والترحيب بإرشاده وتوجهيه، كان جوهر الدين عند الكويكرز. وإذا نهج الإنسان سنن ذاك "النور" لم تعد به حاجة إلى واعظ أو كنيسة. فان إذا "النور" أسمى من العقل البشري، بل من الكتاب المقدس نفسه، لأنه صوت مباشر من عند الله إلى النفس.
لم يتلق جورج فوكس من التعليم إلا أيسره ولكن "مذكراته" التي دبجها من الآثار الأدبية في الانجليزية، التي تكشف عن القوة الأدبية في الكلام غير الأدبي، إذا كان بسيطا جادا مخلصا وكان جورج ابن أحد النساجين، والتحق للعمل بمصنع أحذية، ثم ترك سيده وأقرباؤه، "بأمر من الله" وبدأ في سن الثالثة والعشرين (1647)، الوعظ المتجول الذي لم يتوقف إلا بوفاته (1691). وفي سنيه الأولى حيرته وأقضت مضجعه المغربات فراح يلتمس النصح والمشورة لدى رجال الدين، فأشار عليه أحدهم بالدواء وفصد الدم، وأوصاه آخر بالتدخين وتلاوة الترانيم الدينية(52). وفقد جورج ثقته بالقساوسة، ولكنه وجد السلوى والعزاء حيثما فتح الكتاب المقدس.
غالبا ما حملت الكتاب المقدس وقصدت لآخذ مكاني في إحدى الأشجار المجوفة في مكان منعزل حتى يرخى الليل سدوله، وكثيراً ما سرت في الليل محزونا وحدي، لأني كنت رجلا مثقلاً بالأحزان في أيام أعمال الله الأولى في نفسي .. ثم وجهني الله إلى الطريق، ويسر لي إدراك حبه، وهو حب خالد لا نهاية له، يفوق كل معرفة تتيسر للناس في حالتهم الطبيعية أو يمكنهم الحصول عليها من صفحات من التاريخ أو من بطون الكتب (53).
وسرعان ما أحس بأن الحب الإلهي قد اختاره ليبشر الجميع بالنور الباطن ويعظهم. وفي اجتماع الأنصار العماد في لبسترشير "حل الله عقدة لساني فأعلنت لهم جميعا الحقيقة الخالدة، وظللتهم جميعا قوة الله (54) "وذاع عنه أنه يتمتع "بروح بصيرة"، ومن ثم جاء الناس أفواجا ليستمعوا إليه. "حلت قوة الله وكان لها إيحاءات وإلهامات وتنبؤات عظيمة(55)". بينما كنت أسير في الحقول قال لي الله: اسمك مكتوب في سجل الحياة لدى المسيح، الذي وجد قبل خلق العالم(56). أي أن جورج قر الآن عينا بما وقر في نفسه من أنه بين القلة التي اختارها الله قبل الخليقة، لتتلقى نعمته ورحمته وبركته الأبدية. وأحس آنذاك أنه مساو لأي إنسان. ومنعه زهوه بهذا الاصطفاء الإلهي من "أن أخلع قبعتي لأي من كان: حقيراً أو أميراً، وأنتم في حاجة إلى، أيها الرجال والنساء، دون اعتبار لغني أو فقير، وعظيم أو حقير(57)".
وإذا اقتنع بأن الدين الحق لا يوجد في الكنائس بل في القلب المستنيرة، فإنه دلف إلى كنيسة في نوتنجهام وقاطع الموعظة صائحا بأن الاختبار الحق ليس في الأشعار المقدسة بل في "النور الباطن". وقبض عليه في 1649، ولكن عمدة البلدة أطلق سراحه، وصارت زوجة هذه العمدة من أول المعتنقين. وأستأنف فوكس جولاته التبشيرية ودخل كنيسة أخرى وهناك كما قال "دفعت لأعلن الحق للكاهن والناس، ولكنهم انهالوا علي "في غضب شديد وطرحوني على الأرض. وضربوني ضربا مبرحاً وآذوني إيذاء شديدا بأيدهم وكتبهم المقدسة وعصيهم" فاعتقل مرة ثانية، وأخلى الحاكم سبيله، ولكن الأهالي قذفوه بالحجارة إلى الخارج البلدة(58). وفي دربي تحدث مهاجما الكنائس والأسرار المقدسة على أنها تقرب لإغناء فيه إلى الله. فحكم عليه بالإقامة في الإصلاحية لمدة ستة شهور (1650)، وعرضوا عليه إخلاء سبيله شريطة الالتحاق بخدمة الجيش، فكان جوابه مهاجمة فكرة الحرب. عند ذلك أودعه سجانوه معتقلا قذرا كريه الرائحة غائرا في الأرض، ليس فيه فراش، مع ثلاثين من المجرمين، "حيت قضيت قرابة نصف عام(59). ومن سجنه كتب إلى القضاة وبالحكام معترضا على عقوبة الإعدام. وربما ساعدت شفاعته على إنقاذ امرأة شابة محكوم عليها بالإعدام بتهمة السرقة من حبل المشنقة.
وبعد عام قضاه في السجن استأنف التجوال لنشر تعاليمه. وفي ويكفيلد حول جيمس نايلر، وفي بفرلي دخل كنيسة، وجلس منصتا حتى انتهت الموعظة ثم سأل الواعظ: هل لم يشعر بالخجل "حين يتقاضى ثلاثمائة جنيه سنويا ليبشر بالأسفار المقدسة(60)؟ "وفي بلدة أخرى دعاء القسيس لإلقاء عظة في الكنيسة فأبى، ولكنه تحدث في فنائها إلى جمع من الناس.
أعلنت إلى الناس أني لم أحضر لأعترض سبيل معابدهم الوثنية ولا قساوستهم، ولا عشورهم ... ولا احتفالاتهم وتقاليدهم اليهودية الوثنية لأني أنكرت هذا كله. وقلت لهم أن هذا المكان ليس أكثر قدسية من أي مكان آخر .. لذلك نصحت الناس أن ينبذوا كل هذه الأشياء، وأرشدهم إلى روح الله ونعمته فيهم أنفسهم، وإلى نور المسيح في قلوبهم(61).
وفي سوورثمور في يوركشير حول إلى مذهبه مرجريت فل، ثم زوجها القاضي توماس فل، وأصبحت دارهما، قاعة سوورثمور، أول مركز أساسي لاجتماع الكويكرز، وهو إلى يومنا هذا مزار يحج إليه الأصحاب.
وليس علينا أن نتبع قصة فوكس إلى أبعد من هذا. وكانت أساليبه فجة غير ناضجة ولكنه عوض بما تذرع به من صبر وجلد في ملاقاة سلسلة الإعتقالات والصدمات العنيفة، وهاجمه البيوريتانيون والمشيخيون والأنجليكانيون، لأنه نبذ الأسرار المقدسة والكنائس والقساوسة. وأرسل الحكام الكويكرز إلى السجون، لا لأنهم انتهكوا حرمة العبادات العامة وأغروا الجنود بالكف عن الاشتراك في الحرب، فحسب، بل كذلك لأنهم رفضوا تأدية يمين الولاء للحكومة. واحتج الكويكرز بأن اليمين أيا كانت عمل غير أخلاقي، ويكفي القول (بنعم) أو (لا). وتعاطف كرومول مع الكويكرز، واجتمع مع فوكس في لقاء ودي (1654) وقال له عند انصرافه: "تعال إلي ثانية أننا، أنت وأنا، لو اجتمعنا ساعة من نهار، لاقترب الواحد منا من الآخر"(62). في 1657 أصدر (حامي الحمى) توجيهاته بالإفراج عن المسجونين من الكويكرز، كما أصدر تعليماته إلى القضاة بأن يعاملوا هؤلاء الوعاظ الذين لا كنائس لهم على انهم (أشخاص واقعون تحت تأثير وهم شديد)(63). إن أسوأ اضطهاد وأشده هو ما أصاب شيعه جيمس تايلر الذي بلغ به الأيمان بنظرية النور الباطن، حد الاعتقاد أو الادعاء بأنه هو المسيح مجسدا من جديد، وأنبه فوكس على هذا ولكن بعض أتباعه المخلصين الغيورين عبدوهن وأكدت إحدى النسوة أنه أعادها إلى الحياة بعد أن ظلت يومين في عداد الموتى: وعندما ركب تايلر إلى بريستول، ألقت النسوة بأوشحتهن أمام جواده وأنشدن: "مقدس، مقدس، مقدس رب القربان المقدس" وقبض عليه بتهمة التجديف. ولما سألوه عن دعاواه أو الدعاوى التي نسبوها إليه، لم يكن جوابه سوى جواب المسيح "أنت قلت" وعرض البرلمان إذ ذاك، وكان البيوريتانيون يسيطرون عليه لقضية تايلر (1656) وظل أحد عشر ويما يناقش موضوع إعدامه. وسقط القرار بأغلبية 96 ضد 82 صوتا. ولكن سادت روح تنادي بحل وسط إنساني فحكم عليه يقف ساعتين كاملتين وعنقه في آلة التعذيب (المشهرة)، ويجلد 130 جلدة، وتدمغ جبهته بالحرف الأول من لفظة مجدف (B في الإنجليزية)، وأن يثقب لسانه بقضيب من الحديد المحمي، واحتمل هذه الفظائع بشجاعة. وحياه أتباعه على أنه شهيد، وقبلوا جراحه وامتصوها واحتجزوه وحيدا في معتقل لا قلم ولا ورق ولا تدفئة ولا ضوء فيه وانهارت روحه المعنوي يوما بعد يوم، فاعترف بأنه غرر به، فأفرج عنه في 1659، وقضى نحبه فقيرا معدما في 1660(64).
ولقد تميز الكويكرز بما بدا لبعض معاصريهم بأنه أشياء غريبة تثير المتاعب. إنهم لم يجيزوا أي أثر للزخرف والتبرج في ملابسهم. وأبوا أن يخلعوا قبعاتهم لأي إنسان مهما كانت مكانته، حتى في الكنيسة أو القصر أو المحكمة. ولم يخاطبوا أي فرد بغير ضمير المفرد (أنت) بدلا من ضمير الجمع (أنتم) الذي يوحي أصلا بالتشريف والتكريم. ونبذوا الأسماء الوثنية لأيام الأسبوع وشهور السنة، فكانوا يقولون على سبيل المثال: "اليوم الأول من الشهر السادس" وأقاموا الصلوات في العراء أو بين الجدران بنفس السهولة واليسر وطيب النفس، وكان كل فرد من المصلين يدعى ليخبر بما أوحي به إليه الروح القدس أن يقول، ثم يروج الجميع بعد ذلك في صمت رهيب يكلله الجلال والوقار، وكأنما هذا الصمت عقار مهدئ مسكن بعد نوبة الحماس والغيرة - وهو صمت يعني في أساسه عندهم "إحساس بروح خيرة في أعماقهم". ورخص للنساء في الصلاة الزوجية فوق أي لوم أو أية شائبة. وحد تكاثرهم ما تواضعوا عليه من الزواج بعضهم من بعض، وعلى الرغم من ذلك بلغ عدد الكويكرز في 1660 في إنجلترا ستين ألف "صاحب" إن ما اشتهروا من أمانة وكياسة وجد وبعد عن الإسراف، ارتفع بهم من المراتب الوضيعة التي ظهروا فيها أول ما ظهروا إلى القبعات الوسطى التي ينتسب معظمهم الآن إليها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
7- الموت والضرائب
أن الطبقات الوسطى هي التي تمتعت بأعظم الازدهار، في عهد كرومول وفوق كل شيء انصرف التجار إلى التجارة الخارجية، وضم البرلمان آنذاك أفراد يمثلون المصالح الاقتصادية أو يمتلكونها. ومن أجلهم قضى قانون الملاحة الصادر في 1651 بنقل الواردات من المستعمرات إلى بريطانيا على مراكب إنجليزية - ومن الواضح أن هذا إجراء إلى الهولنديين وراودت كرومول في بعض الأحيان فكرة التحالف مع المقاطعات المتحدة ابتغاء حماية البروتستانتية وتعزيزها، ولكن تجار لندن آثروا الربح على التقوى والورع. وسرعان ما وجد كرومول نفسه (1652) متورطا في الحرب الهولندية الأولى. وكانت النتائج مشجعة كما رأينا.
واستعرت حمى الإمبريالية بنمو البحرية. وأوحت ذكرى هو كنز ودريك إلى التجار وإلى كرومول نفسه بإمكان كسر شوكة الأسبان وسيطرتهم في الأمريكتين، واستيلاء إنجلترا على تجارة الرقيق الرابحة وتوجيه المعادن النفيسة من الدنيا الجديدة إلى لندن، وفوق ذلك كله، كما أوضح كرومول، فان غزو جزر الهند الغربية يمكن المبشرين والوعاظ الإنجليز من تحويل هذه الجزر من الكاثوليكية إلى البروتستانتية (65).
وفي 5 أغسطس 1654 بعث كرومول إلى فيليب الرابع ملك أسبانيا بتوكيدات الصداقة بينهما. وفي 6 أكتوبر أرسل إلى البحر المتوسط أسطولا بقيادة بليك. وفي ديسمبر أتبعه بأسطول آخر تحت إمرة وليم بن (والد أحد أعضاء الكويكرز) وروبرت فينابل، للاستيلاء على جزيرة خسبانيولا (إحدى جزر الهند الغربية) من أسبانيا وأخفقت هذه المحاولة الأخيرة، ولكن بن استولى على جمايكا لإنجلترا (1655).
وفي 30 نوفمبر 1655 وقع كرومول ومازاران "وكلاهما يخضع الدين للسياسة" تحالفاً إنجليزياً فرنسياً ضد أسبانيا. إن الحرب التي كانت أسبانيا قد استمرت تشنها على فرنسا بعد معاهدة وستفاليا 1648 كانت قد شغلت هاتين الدولتين أيما شغل عن التدخل في شأن كرومول واستيلائه على مقاليد الحكم في إنجلترا، أما الآن فإنها هيأت لسياسته الخارجية نجاحا رائعا، وإن كان عابرا. وتربص بليك لوقت غير قصير، لأسطول الفضة القادم من أمريكا، حتى عثر عليه في ميناء سانتا كروز في جزر كاناري، ودمره عن آخره (20 أبريل 1657). وأخذ الجنود الإنجليز زمام المبادرة في هزيمة الجيش الأسباني في معركته تلال الدونز (بالقرب من دنكرك) في 4 يونيه 1658. ولما انتهت الحرب بصلح البرانس (1659) تخلت فرنسا عن دنكرك لإنجلترا، وبدا كرومول وكأنه عوض عن فقدان ماري تيودور لثغر كالية قبل ذلك بقرن من الزمان. أنه فكر في أن يقضي على اسم الإنجليز من العظمة ما كان للرومان من قبل، وكان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هدفه، فقد أصبح لإنجلترا السيادة على البحار، ومن ثم كانت المسألة مسألة وقت حتى تسيطر على أمريكا الشمالية، وتمد حكمها وسلطانها في آسيا. ونظرت أوربا كلها بعين الفزع الى البيوريتاني الذي كان يسبح الله ولكنه ابتنى بحرية، وألقى المواعظ ولكنه كسب معركة، والذي أسس الإمبراطورية البريطانية بالقوة العسكرية وهو يردد اسم المسيح. أن الرؤوس التي تعلوها التيجان، والتي حسبته محدث نعمة دعيا مغرورا، بدأت الآن تخطب وده وتلتمس التحالف معه دون أن تعير اللاهوت اهتماما.
ولكن جون ثورلو سكرتير مجلس الدولة أنذر كرومول بأنه كان من الخطأ أن يساعد فرنسا ضد أسبانيا، لأن فرنسا آخذة في الصعود على حين أن أسبانيا كانت آيلة للاضمحلال، وأن سياسة إنجلترا في تدعيم توازن القوى في القارة، إن لم تتطلب مساعدة أسبانيا، تقتضي يقينا عدم مساعدة فرنسا. والآن 1659 كان لفرنسا السيادة في البر، وكان الطريق أمامها مفتوحا للتوسع في الأراضي الوطيئة وفرانش كونتية واللورين. وكم من رجل إنجليزي كان يجود بحياته لوقف أطماع لويس الرابع عشر العدوانية. وفي نفس الوقت ازدهرت أحوال أمراء التجارة بسبب الحروب، وأعيد في 1657 تنظيم شركة الهند الشرقية بوصفها مشروعا برأس مال مشترك، "وأقرضت" كرومول ستين ألف جنيه، حتى تتجنب تدقيق الحكومة في فحص شئونها(66). وكانت هذه الشركة الآن من أقوى العوامل في اقتصاد إنجلترا وفي سياستها. وواجهت الحكومات نفقات الحرب برفع الضرائب إلى حد لم تبلغه في عهد شارل الأول وشارل الثاني. وباعت معظم أراضي التاج وأراضي الكنيسة الإنجليكانية، وضياع كثير من الملكيين، ونصف أراضي إيرلندة، وبرغم ذلك كله بلغ متوسط العجز السنوي 450 ألف جنيه بعد 1654. ولم ينتفع المواطن العادي إلا قليلا. وطرحت جانبا كل الأهداف التي ناضلت من أجلها الثورة الكبرى فيما بين 1642-1649. ولم يقل فظاعة عن ذي قبل فرض الضرائب دون موافقة البرلمان، والاعتقال غير القانوني، والمحاكمة دون محلفين، وبات حكم الجيش وحكم القوة دون تستر أشد إزعاجا وظلما عن ذي قبل، مذ أضفوا عليه مسحة من الدين. وأضحى حكم كرومول بغيضا ليس له مثيل، لا من قبل، ولا من بعد(67).
وكانت إنجلترا ترقب موت حامي الحمى بصبر نافذ. وكم من مؤامرة دبرت لاغتياله، وكان عليه دوما أن يأخذ حذره، وزاد الآن عدد حرسه إلى 160 رجلاً، واستخدم ضابط متطرف سابق (برتبة مقدم) يدعى سكسبي Sexby، أحد السفاحين لقتله. وكشفت المؤامرة (يناير 1657) واعتقل السفاح ومات في السجن. وفي شهر مايو نشر سكسبي كتيبا بعنوان "قتل ليس بقتل"، كان دعوة صريحة للإطاحة برأس كرومول، وعثر على سكسبي ومات هو أيضا في السجن، ودبرت المؤامرات في الجيش وفي دوائر الملكيين، حيث ازداد أملهم بشكل جنوني في عودة أسرة ستيوارت إلى الحكم. واعتنقت ابنة كرومول الكبرى، زوجة اللواء المتطرف شارل فليتوود المبادئ الجمهورية، ونعت على والدها دكتاتوريته(68).
وحطمت الهموم والمخاوف وفقدان الأهل والولد روح الرجل الحديدي. إنه مثل كثير ممن بلغوا ذروة السيطرة والسلطان، استشعر الأسف أحيانا لأنه تخلى عن حياة الدعة والهدوء في أيامه الأولى يوم كان من مالكي الأرض في الريف. "إني أقول، وأشهد الله على ما أقول" لو أني عشت في ظل تعريشة ورعيت قطيعا من الغنم، لكان خيرا من أن أتولى حكومة مثل هذه (69)" وفي أغسطس 1658 ماتت إليزابث أحب بناته إليه، بعد مرض طويل أليم، وبعد تشييع جنازتها بفترة وجيزة لزم كرومول فراشه وقد انتابه حمى متقطعة، وربما أفاد الكينين في شفائه، ولكن طبيبه أبى أن يستخدمه لأنه علاج حديث أتى به الجزويت الوثنيون إلى أوربا(70). وبدا أن كرومول أبل من مرضه، وتحدث في جرأة وشجاعة إلى زوجته قائلا: "لا تظني أني سأفارق الحياة، أني واثق من عكس هذا (71)". وطلب إليه أن يعين من يخلفه فأجاب "ريتشارد" أي ابنه الأكبر. وفي الثاني من سبتمبر أصيب بنكسة، وأحس باقتراب منيته. ودعا الله أن يغفر له خطاياه ويحفظ البيوريتانيين. وبعد ظهر اليوم التالي فارق الحياة. وكتب السكرتير ثورلو: "لقد صعد إلى السماء مضمخاً بدموع شعبه، على أجنحة صلوات القديسين ودعواتهم(72)" ولما وصلت أنباء موت كرومول إلى أمستردام "أضيئت المدينة أيما إضاءة، وكأنما طلقت من عقالها، ومضى الأطفال في القنوات هاتفين متهللين فرحا لموت الشيطان(73).
8- طريق العودة 1658-1660
لم يمتلك الشيطان نفس ريتشارد بن كرومول. كما أنه لم يكن لديه من الصلابة والإرادة الحديدية ما يمكن أن يقيد به إنجلترا في الأغلال التي صنعتها القوة والتقوى. وكان ريتشارد يشارك أخته، رقة العقل مما جعلها ينظر أن في فزع خفي إلى سياسة الخدم والحديد التي انتهجها والدهما. لقد جثا ريتشارد من قبل على ركبتيه أمام أبيه، ضارعاً إليه أن يبقى على حياة شارل الأول. وطيلة عهد الجمهورية والحماية، عاش في هدوء وسلام في الريف على الضيعة التي حصل عليها بالزواج ولم يسكن به من طموح في أن يصبح في 4 سبتمبر 1658، بناء على وصية والده، "حامي الحمى" إنجلترا ووصفته لوسي هتشنسون بأنه "وديع مهذب فاضل، ولكنه فلاح بطبيعته، ولم تكن تليق له العظمة (74)".
وأفلتت الآن، في جرأة أكثر، كل العناصر التي كان أوليفر قد كبح جماحها، عندما أدركت وهن نسيج ريتشارد. من ذلك أن الجيش الذي كره فيه خلفيته المدنية، والذي رغب في أن يحتفظ بالسلطة التي كانت على عهد والده عسكرية بشكل صريح، نقول إن هذا الجيش ألتمس منه أن يتخلى عن إدارة الجيش إلى فليتوود، فأبى، ولكنه هدأ من روع زوج أخته بتعيينه قائدا. ولما كانت الخزانة خاوية مثقلة بالديون، فإنه دعا برلمانا اجتمع في 27 يناير 1959، وراجت الشائعات بأنه يدبر عودة أسرة ستيورات إلى العرش. فجاء ضباط الجيش تتبعهم زمر من الجنود إلى ريتشارد وطلبوا إليه فض البرلمان، فأرسل إلى حرسه ليتولوا حمايته فتجاهلوا أوامره. واستسلم ريتشارد للقوة ووقع أمرا بحل البرلمان (22 أبريل)، وأصبح الآن تحت رحمة الجيش. ودعا الجمهوريون المتحمسون في الجيش يتزعمهم اللواء جون لمبرت، أعضاء البرلمان الطويل الباقين على قيد الحياة للاجتماع من جديد، وممارسة السلطة التي كانت لهم، كما كانت للبرلمان المبتور، حتى مجيء كرومول، وطرده إياهم بمعونة الجمهوريين المتحمسين في الجيش 1653. والتأم عقد هذا البرلمان المبتور الجديد في وستمنستر في مايو 1659. ولكن ريتشارد الذي لقي من السياسة نصيباً، أرسل استقالته إلى هذا البرلمان في 25 مايو. واعتزل الحياة العامة، وفي 1660 آوى إلى فرنسا حيث عاش في عزلة تحت اسم مستعار هو جون كلارك. وعاد إلى إنجلترا في 1680، حيث وافته منيته في 1712 وهو في السادسة والثمانين من العمر.
وكتب أحد الملكيين في 3 يونية 1659 يقول: "أن الفوضى كانت تعتبر كمالا، إذا قيست إلى نظامنا الراهن وحكومتنا الحاضرة(75) واستمر الصراع على السلطة بين الجيش والبرلمان، ولكن قطاعاته المقيمة في إسكتلندة وإيرلندة أيدت البرلمان. وكان ثمة حزب ملكي قوى في البرلمان الذي كانت غالبيته من الجمهوريين. وفي 13 أكتوبر حشد لمبرت جنوده عند مدخل قصر وستمنستر وطرد البرلمان، وأعلن أن الجيش سيتولى مقاليد الحكومة. وبدأ أن تعاقب الأحداث التي بدأت بحركة برايد في التطهير، سوف تتكرر مع كرومول آخر هو لمبرت.
وفال ملتون عن "انقلاب" لمبرت "أنه عمل أبعد ما يكون عن الشرعية، ومن أشد الأعمال خزيا وعارا .. إني لأخشى أن أكون واحدا في مجتمع همجي متبربر ... وإلا فكيف يجرؤ جيش مأجور أن يخضع لسلطانه هو السلطة العليا التي أقامته، على هذا النحو(76) "ولكن الشاعر كان عاجزا لا حول له ولا قوة. أن القوة الوحيدة في بريطانيا، التي كان في مقدورها أن تقف في وجه الدكتاتورية العسكرية هي جيش آخر، أو العشرة آلاف جندي الذي خصصهم البرلمان من قبل للجنرال جورج مونك لإقرار سيادته في إسكتلندة. ولسنا ندري إذا كانت ثمة أطماع شخصية خفية وراء اعتزام مونك تحدى الجيش في لندن ومقاومة اغتصابه السلطة. فأعلن مونك: "أن الضمير والشرف يقضيان على بأن أحرر إنجلترا من حكومة السيف التي كبلتها في أغلال العبودية التي لا تحتمل". وأثار بيانه الحماسة والحمية في عناصر مختلفة معارضة للحكم العسكري. ورفض الأهالي دفع الضرائب وأعلن الجيش في أيرلندة والأسطول وصبيان الحرفيين، انضمامهم إلى البرلمان. ورفض صرافو لندن أن يدفعوا للقادة المغتصبين القروض التي اعتمدوا عليها في دفع الرواتب للجند. وأحست الآن طبقات التجار والصناع الذين كانوا قد أقروا من قبل خلع شارل الأول، أن الفوضى التي تنتشر ويتفاقم خطرها، تهدد الحياة الاقتصادية في إنجلترا، وبدءوا يعجبون ويتساءلون: هل من المستطاع استعادة الاستقرار السياسي أو الاقتصادي دون ملك، تهدئ شرعية مركزة من روع الناس، وتوفر الضرائب وتسكن العاصفة؟ وفي 5 ديسمبر قاد مونك قواته إلى إنجلترا. وأرسل قادة الجيش قوات لاعتراض طريقه، ولكنها رفضت القتال ضد مونك، وسلم الضباط المغتصبون بالهزيمة وأعادوا البرلمان، واستسلموا له، وصاروا تحت رحمته (14 ديسمبر).
وكان عدد أعضاء البرلمان المنتصر 36 عضوا، ولا يزال يميل إلى النظام الجمهوري. وكان من أول القرارات التي اتخذها، قرار يتطلب من الأعضاء الحاضرين وممن ينضمون إليهم في المستقبل، أن يتعهدوا بالتخلي عن أسرة ستيورات. كما رفض هذا البرلمان عودة المشيخيين الذين بقوا على قيد الحياة من أعضاء البرلمان المبتور السابق، على أساس أنهم يحبذون عودة شارل الثاني. وازدرى الناس هذا البرلمان على أنه مجرد أحياء لبركان مبتور لا يمثل إنجلترا، وعبروا من مشاعر الاحتقار "بشواء ردف البقرة" على هيئة تمثال يلقى به في النيران الكثيرة المشتعلة في الهواء الطلق، حتى بلغ عدد هذه الحرائق 31 في شارع واحد في لندن. وأما الجنرال مونك الذي كان جيشه قد وصل إلى لندن في 3 فبراير 1660 فقد أنذر البرلمان القائم بأنه إذا لم يدع إلى انتخابات جديدة موسعة، ويحل نفسه في موعد غايته 6 مايو، فإنه - أي مونك - لن يتولى حمايته بعد ذلك. كما أشار على البرلمان بإعادة الأعضاء المشيخين الذين سبق إبعادهم، ففعل. وأعاد مجلس العموم الموسع (ازداد عدد أعضائه) إقرار مذهب المشيخية (البرسبتريانز) في إنجلترا، وأصدر الدعوة إلى انتخابات جديدة، وأعلن حل نفسه. وعند ذلك كانت النهاية الرسمية الشرعية للبرلمان الطويل (16 مارس 1660).
وفي اليوم نفسه محا أحد العمال؛ أو لطخ بالطلاء، عبارات "أخرج أيها الطاغية، هذا آخر ملك، التي كانت الجمهورية قد علقتها في "بورصة لندن". ثم ألقى العامل بقبعته وهتف "فليبارك الله الملك شارل الثاني" وعندئذ، كما يروى، "انضم كل من كان في المكان يهتفون بأصوات مدوية (78). وفي اليوم التالي التقى مونك سراً برسول شارل، سيرجون جرينفل، الذي أسرع في الذهاب إلى بروكسل يحمل رسالة مونك إلى الملك غير ذي العرش.
9- ويعود الملك 1660
منذ غادر شارل الثاني إنجلترا في 1650 هاربا لاقى في هربه عنتا ومشقة، عاش متشردا قلقاً في القارة. واستقبلته أمه هنريتا ماريا في باريس، ولكن الفرنسيون كانوا قد أفقروها. وقضى شارل وحاشيته بعض الوقت في أشد العوز، عالة على الإعانات، حتى أن مستشاره المخلص، فيما بعد، إدوراد هايد كان يعيش على وجبة واحدة في اليوم. أما شارل نفسه الذي لم يكن لديه ما يسد الرمق في البيت، فكان يتناول الطعام في الحانات معظم الأحوال نسيئة، على حساب تطلعاته. ولما عاد لويس الرابع عشر إلى أيام الوفرة والرخاء أجرى شارل معاشاً سنوياً قدره ستة آلاف فرنك، ومن ثم بدأ شارل يستمتع بحياة رغدة طليقة إلى أبعد حد، حتى يدخل السرور على قلب أمه.
وتعلم في أيام باريس هذه كيف يحب أخته هنريتا آن أعمق حب وأخلصه وجهدت الأم والأخت كلتاهما في ضمه إلى الكاثوليكية، كما أن الكاثوليك الإنجليز المهاجرين إلى فرنسا لم يألوا جهداً في تذكيره، حتى لا ينسى ما فعلوه من قبل لنصرة أبيه. ووعده مبعوثو المهاجرين المشيخين بالمساعدة على عودته إذا ارتضى حماية مذهبهم. واستمع لكلا الجانبين في لطف وكياسة، ولكنه عبر عن تصميمه على التزام مذهب الكنيسة الأنجليكانية الذي قاسى أبوه من أجله ما قاسى(79)، وربما نزع به الجدل الذي حاصروه به، إلى الشك في الدين كله. ولكن يبدو أن العبادة الكاثوليكية التي رآها حوله في فرنسا، كان لها أثر قوى عليه، وبات سراً مكتوما في حاشيته الصغيرة أنه لو أطلقت يداه لانحاز إلى الكنيسة الكاثوليكية (80) وفي 1651 كتب إلى البابا إنوسنت العاشر يعده بأنه لو عاد إلى عرش إنجلترا فلسوف يبطل كل القوانين التي صدرت ضد الكاثوليك. ولم يجب البابا بشيء. ولكن جماعة الجزويت أبلغوا شارل أن الفاتيكيان لا يمكن أن يؤيد أميرا هرطيقاً(81).
وعندما شرع مازاران في التفاوض لعقد تحالف مع كرومول أقنع شارل مستشاروه بمغادرة فرنسا. ووافق الكاردينال مازاران على الاستمرار في صرف المعاش لشارل، فانتقل إلى كولون ومنها إلى بروكسل. وهناك في 26 مارس 1660 حمل إليه جرينفيل رسالة مونك: إذا وعد شارل بعفو عام، باستثناء مالا يزيد عن أربعة أشخاص، ومنح، حرية الفكر، وثبت الملاك الحاليين للممتلكات المصادرة، فإن مونك يلتزم بمساعدته. وفي نفس الوقت، حيث أن إنجلترا مازالت في حرب مع أسبانيا، فيحسن بشارل أن يترك الأراضي الوطيئة الأسبانية. "فانتقل شارل إلى بريدا في إقليم برامانت الهولندي، وهناك في 14 أبريل وقع اتفاقا قبل فيه شروط مونك من حيث المبدأ، تاركا التفاصيل الدقيقة للبرلمان الجديد.
وجاءت الانتخابات بمجلس عموم ذي أغلبية ساحقة من الملكيين، واتخذ اثنان وأربعون من صغار النبلاء مقاعدهم في مجلس اللوردات الجديد وفي أول مايو تليت في المجلسين كليهما الرسائل التي حملها جرينفيل من شارل وفي "إعلان بريدا" قدم الملك الشاب عفوا عاما فيما عدا الأفراد الذين يستثنيهم البرلمان فيما بعد"، وترك للبرلمان تسوية موضوع الأملاك المصادرة ووعد "بألا يزعج شخصاً أو يستدعيه لمساءلته لخلاف في الرأي في أمور العقيدة، وألا يعكر صفو الأمن في المملكة". ثم أضاف بياناً حكيما أعده له المستشار هايد:
- أنــا نؤكد لكم، تحت كلمتنا الملكية أن بعض أسلافنــا
- كانوا يقدرون البرلمان أكثر مما نقـدره نحن. وإنا لنؤمن
- بأن هذه كله جزء حيوي مـن دستور المملكة، ضروري
- لحكومتها، إلى حد أننا ندرك تمـام الإدراك أنه ليس ثمة
- شعب أو أمير يمكن أن يحيا حياة سعيدة إلى درجة مقبولة
- بدونه، ولسوف ننظر دوما إلى نصائحهم على أنها أفضل
- تراث منهم، ولسوف نكون معتزين بمآثرهم مهتمين بالمحافظة
- عليها وحمايتها، قدر اعتزازنا واهتمامنا بأقرب شيء إلى
- أنفسهم، وألزم شيء لصيانتنا والحفاظ علينا.
وسر البرلمان لهذا، وفي 8 مايو نادى بشارل الثاني ملكا على إنجلترا، مؤرخا لقبه من يوم وفاة والده، غير مستند في ذلك إلى أي قرار برلماني، بل إلى حق المولد الوراثي. كما أقر إرسال مبلغ خمسين ألفا من الجنيهات إلى شارل مع دعوته إلى القدوم فوراً لاعتلاء عرشه.
وابتهجت إنجلترا كلها تقريبا بانتهاء عقدين من السنين سادهما العنف، بعودة النظام دون إراقة قطرة من الدماء. ودقت النواقيس في طول البلاد وعرضها. وفي لندن جثا الناس في الشوارع وشربوا نخب الملك(82). وهللت كل الرؤوس المتوجة في أوربا لانتصار الشرعية، حتى المقاطعات المتحدة، وهي جمهورية بشكل قوي، كرمت شارل طوال رحلته من بريدا إلى لاهاي، وقدمت له الجمعية التشريعية التي كانت قد تجاهلته حتى الآن، مبلغ ثلاثين ألف جنيه لنفقاته، عربونا للنيات الطيبة في المستقبل. وجاء إلى لاهاي أسطول إنجليزي ترفرف عليه الأعلام مزدانة بالحروف الأولى من "الملك شارل" وحمله إلى إنجلترا في 23 مايو.
وفي 25 مايو وصل الأسطول إلى دوفر، وإحتشد على الشاطئ عشرون ألفا لاستقبال الملك. ولما اقتربت السفينة من الشاطئ سجد الجميع، كما سجد الملك عندما وطئت قدماه الأرض، شكرا لله. وكتب فولتير: "أنبأني العجائز الذين كانوا هناك أن معظم العيون أغرورقت بالدموع". وربما لم يحدث من قبل مشهد مؤثر إلى هذا الحد(83). وعلى طول الطريق الذي احتشدت فيه الجموع السعيدة على مسافات قريبة، ركب شارل ومرافقوه، تتبعهم مئات الناس، إلى كنتربرى، ثم روشستر ومنها إلى لندن. وهناك خرج (120 ألفاً للترحيب به، حتى الجيش الذي حارب ضده، انضم الآن إلى قوات مونك، في هذا العرض. وانتظره أعضاء مجلسي البرلمان في قصر هويتهول. وقال رئيس مجلس اللوردات: "أيها الملك المهيب، أنت مناط رغبة ثلاث ممالك، وقوة لمختلف طبقات الشعب وسند لها، في تخفيف الانفعالات والآلام، وتسوية الخلافات .... واستعادة شرف هذه الأمم المنهار(84)". وتقبل شارل كل هذه التحية والإطراء في لطف وتملكه شعور خاص ، وعندما آوى إلى شيء من الراحة بعد أن أرهقه الانتصار، قال لأحد أصدقائه: "لا بد أنه كان من الخطأ أني لم أحضر من قبل، فإني لم ألتق بفرد واحد لم يحتج بأنه كان دوما راغبا في عودتي(85)".