قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 1 ف 5
صفحة رقم : 10631
قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> أوج الكلاسيكية في الأدب الفرنسي -> جو الكلاسيكية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الخامِس: أوج الكلاسيكية في الأدب الفرنسي 1643 - 1715
جو الكلاسيكية
لم يكن أوج الأدب الكلاسيكي الفرنسي مواكباً تماماً لعصر لويس الرابع عشر، بل جاء إبان وزارة مازاران وفي الربيع المشرق لهذا العصر (1661-67)، قبل أن ينحي مارس (إله الحرب) ربات الفنون إلى المؤخرة. أما أول حافز للتفجر الأدبي فقد انبعث من تشجيع ريشليو للدراما والشعر، وجاء الثاني من الانتصارات الحربية التي حققها الفرنسيون في روكروا (1643) ولنز (1648)، وأنساب الثالث من انتصارات فرنسا الدبلوماسية في معاهدتي وستفاليا (1648) والبرانس (1659)، وأتى الرابع من اختلاط الأدباء بالنبلاء والمثقفات من النساء في الصالونات، والحافز الأخير فقط هو الرعاية التي حظي بها الأدب من الملك والحاشية. وكثير من روائع العهد-كرسائل بسكال (1656) وخواطره، وطرطوف موليير (1664) ومسرحية وليمة التمثال الحجري (1665) ومبغض الشر (1666)، وأمثال لاروشفوكو (1665) وهجائيات بوالو (1667) وأندروماك راسين (1667)-هذه كلها كتبت قبل 1667 بأقلام رجال نموا وترعرعوا أيام ريشليو ومازاران. ومع ذلك كان لويس أسخى راعٍ للأدب عرفه التاريخ كله. فما مضت سنتان على تسلمه مقاليد الحكم (1662-63)-أي قبل هذه الآثار الأدبية كلها باستثناء اثنين منها-حتى طلب إلى كولبير وغيره أن يكلفوا أشخاصاً أكفاء بوضع قائمة بأسماء المؤلفين والأدباء والعلماء من أي بلد ممن يستحقون أن تقدم إليهم يد المعونة. ومن هذه القوائم تلقى خمسة وأربعون فرنسياً وخمسة عشر أجنبياً معاشات ملكية(1). وأدهش الأديبين الهولنديين هاينسيوس وفوسيوس، والفيزيائي الهولندي كرستيان هويجنس، والرياضي الفلورنسي فيفياني، كثيراً غيرهم من الأجانب، أن يتلقوا رسائل من كولبير تنبئهم بقرار الملك الفرنسي أن يمنحهم معاشات إذا وافقت حكوماتهم. وبلغ بعض هذه المعاشات ثلاثة آلاف من الجنيهات في العام. فعاش بوالو عميد الشعر الرسمي، على معاشاته كأنه إقطاعي كبير، وترك لورثته 286.000 فرنك نقداً، وتلقى راسين 145.000 فرنك طوال عشر سنين بوصفه المؤرخ الملكي(2). ولعل المعاشات الدولية كان بعض الدافع إليها الرغبة في كسب أرباب الأقلام خارج فرنسا، أما الهبات في الداخل فهدفها إخضاع الفكر، كما أخضعت الصناعة والفن للتنسيق والإشراف الحكوميين. وتحقق هذا الهدف، فأخضع النشر كله لرقابة الدولة، وأذعن الذهن الفرنسي للإشراف الملكي على تعبيره المطبوع، باستثناء مقاومة متفرقة ضئيلة. يضاف إلى هذا أن الملك اقتنع بأن هذه الأقلام المأجورة ستتغنى بمديحه نثراً وشعراً وتخلف للتاريخ صورة مشرقة له. وقد بذلوا في هذا قصاراهم.
ولم يكتف لويس بصرف المعاشات للأدباء، بل إنه حماهم واحترمهم، ورفع مقامهم الاجتماعي، ورحب بهم في القصور. وقال مرة لبوالو "تذكر أنني سأفرد لك دائماً نصف ساعة من وقتي(3)". وربما كان ذوقه الأدبي مسرف الانحياز إلى الخصائص الكلاسيكية، خصائص النظام، والوقار، وجمال الشكل؛ ولكن هذه الفضائل لم تكن في رأيه معينة على توطيد الحكم فحسب بل على إضفاء النبل على فرنسا. وكان من بعض الوجوه متقدماً على شعبه وبلاطه في أحكامه الأدبية. وقد رأيناه يحمي موليير من غدر النبلاء ورجال الدين، وسنراه يشجع أشد شطحات راسين.
وعملاً باقتراح آخر من كولبير، وترسماً لخطى ريشليو مرة أخرى، أعلن لويس أنه الراعي الشخصي للأكاديمية الفرنسية؛ ورفعها إلى مرتبة المؤسسات الحكومية الكبرى، ووفر لها الأموال الكافية، وهيأ لها مكاناً في اللوفر. وأصبح كولبير نفسه عضواً فيها. ولما أمر عضو، كان إقطاعياً كبيراً في الوقت ذاته، بأن يوضع له مقعد وثير في الأكاديمية، أرسل كوليير في طلب تسعة وثلاثين مقعداً على شاكلته حفاظاً على المساواة في الكرامة قبل الفوارق الطبقية، وهكذا أصبحت "المقاعد الأربعون" مرادفاً للأكاديمية الفرنسية، وفي 1663 نظمت أكاديمية فرعية للنقوش والرسائل لتسجيل أحداث العهد. واستوثق كوليير من أن "الخالدين الأربعين" يكسبون رواتبهم بالانتظام في الحضور وبالجهد في تصنيف القاموس.وكان مشروع هذا القاموس الذي بدأ في 1638 يتقدم في بطء شديد، حتى استطاع بواروبير أن يعبر أبجدياً عن أمنيته في طول العمر، "لقد أنفقوا ستة شهور وهم مشغولون بحرف F، فليت قدري يمهلني حتى حرف G(4)".
كانت خطة القاموس معقدة شديدة التفصيل، فقد رأت تتبع كل كلمة مسموح بها طوال التاريخ استعمالاتها وهجاءاتها، ويشفع هذا بالكثير من الشواهد التوضيحية، وهكذا انقضت ست وخمسون سنة بين بدء مشروع، ونشر القاموس لأول مرة (1694). ولقد أسرف في فحص لغة الشعب، والمهن، والفنون، وشذب رابليه، وآميو، ومونتيني، ورفض مئات التعبيرات التي تعين على الحديث الحي. فذات المنطق، والدقة والوضوح الذي جعل من الهندسة المثل الأعلى لعلم القرن السابع عشر وفلسفته، وذات السلطان والانضباط اللذان هيمن بهما كولبير على الاقتصاد ولبرون على الفنون، وذات الوقار والتأنق اللذان سيطرا على بلاط الملك، وذات التشبث الكلاسيكي بالقواعد الذي شكل أسلوب بوسويه، وفينيلون، ولاروشفوكو، وراسين، وبوالو-كل أولئك أملى قاموس الأكاديمية.
ولقد نقح وأعيد نشره دورياً، وكافح للاحتفاظ بالنظام في جسم نام حي، وهاجمت قلعته الكلاسيكية المرة بع المرة، وكثيراً ما اقتحمتها، أخطاء الشعب، ومصطلحات العلوم، ورطانة الحرفيين، وعامية الشوارع؛ والقاموس، شأنه شأن التاريخ والحكومة، مزاج من القوى بين ثقل الكثرة وقوة القلة. وقد خسرت اللغة شيئاً من حيث الحيوية، وكسبت الكثير من حيث النقاء، والدقة، والأناقة، والمكانة. أنها لم تنجب شكسبيراً هائجاً مائجاً، ولكنها أصبحت أعظم لغات أوربا احتراماً، وغدت أداة الدبلوماسية، ولسان الأرستقراطيات. وظلت أوربا قرناً وأكثر تهفو إلى أن تكون فرنسية.
تذييل لكورني 1643 - 1684
بلغت اللغة أوجها في السهولة المرنة التي أتسم بها حوار موليير، وفي بلاغة كورنيي الطنانة، وفي تأنق راسين الشجي. أما كورنيي فكان يبدو في ربيع أدبه-وهو في السابعة والثلاثين-حين اعتلى لويس العرس. وقد بدأ العهد بملهاة "الكذاب" التي رفعت نبرة الملهاة الفرنسية كما رفعت "السيد" نبرة المأساة. ثم راح يدفع إلى المسرح بالمآسي كل عام تقريباً بعد ذلك، رودوجون (1644)، وتيودور (1645)، وهيراقليوس (1646) ودن سانشو الأراجوني (1649) واندروميد (1650) ونيكوميد (1651) وبرتاريت (1652). ولقي بعض هذه التمثيليات استقبالاً حسناً، ولكن حين تعاقبت كل منها سريعاً خلف سابقتها، وضح أن كورنيي يتعجل الإنتاج، وأن عصارة عبقريته آخذة في النضوب. وضاع ولعه بتصوير النبالة وسط بحر من الجدل، وهزمت بلاغته ذاتها باستمرارها دون توقف. قال موليير "إن لصديقي كورني رفيقاً يلهمه أروع شعر في الدنيا. ولكن يحدث أن يتركه رفيقه ليرعى شؤونه، وعندها يتعثر شر تعثر(5)." وقد لقيت "بارتاريت" من سوء الاستقبال ما حمل كورنيي على أن يعتزل المسرح ست سنوات (1653-59)، وتناول نقاده في سلسلة من "الفحوص"، وفي ثلاث أحاديث عن الشعر المسرحي. وقد دلت هذه الأحاديث على صعود موهبته النقدية بهبوط ملكته الشعرية، وأصبحت ينبوعاً للنقد الأدبي الحديث، واتخذها درايدن نماذج حين دافع عن شعره المتوسط الجودة في نثر رائع.
وفي 1659 ردت كورنيي إلى خشبة المسرح لفتة تلقاها من فوكيه. وظفرت مسرحيته "أوديب" ببعض الاستحسان عقب ثناء الملك الشاب عليها، ولكن المسرحيات التي تلتها-سرتوريوس (1662)، وسوفونيسب (1663)، وأوتون (1664)، وآجيسيلاس (1666) وأتيلا (1667)-هذه كلها كانت قاصرة قصوراً لم يستطع فونتنبيل إزاءه أن يصدق أن كاتبها هو كونيي؛ وقال بوالو في بيت ساخر: "بعد أجيسيلاس، وا أسفاه! ولكن بعد أتيلا، قف!" وزادت مدام هنرييتا الطين بلة، مع أنها كانت عادة آية العطف والرقة، حين دعت كلاً من كونيي وراسين، بعلم من كل، إلى أن يكتب تمثيلية في ذات الموضوع-وهو بيرنيس، الأميرة اليهودية التي وقع في حبها تيطس الإمبراطور القادم. ومثلت بيرنيس التي ألفها راسين فيالأوتيل دبورجون في 21 نوفمبر 1670 بعد خمسة أشهر تقريباً من موت هنرييتا، ولقيت نجاحاً كاملاً. أما مسرحية كونيي "تيطس وبرينيس" فقد مثلتها فرقة موليير بعد ذلك بأسبوع، ولم تلق غير استقبال فاتر: وحطم فشلها روح كونيي. وجرب حظه ثانية بمسرحيتي "بولشيري" (1672) وسورينا (1674)، ولكن الفشل كان نصيبهما أيضاً. وأنفق كورنيي بعد ذلك السنين العشر التي بقيت له من أجله في تقوى هادئة مكتئبة.
وكان متلافاً، مات فقيراً برغم ما أجرى عليه لويس الرابع عشر من معاش وما نفحه به من هبات، وقد قطع معاشه دون قصد أربع سنوات، فلجأ كونيي إلى كولبير، فأمر برده إليه، ولكنه انقطع ثانية بعد موت كولبير. فلما نمى الأمر إلى بوالو أعلم به لويس الرابع عشر، وعرض أن ينزل عن معاشه لكورنيي. ولكن الملك بادر بإرسال مائتي جنيه للشاعر العجوز، الذي مات بعدها بقليل (1684) بالغاً الثامنة والسبعين وأبنه في الأكاديمية الفرنسية مزاحمه الذي كان قد خلفه، ورفع المسرحية والشعر الفرنسيين إلى ذروة تاريخهما، والتأبين ما زال مذكوراً لما حوى من سماحة وبلاغة.
راسين 1639 - 1699
ولد مثل موليير في أسرة متوسطة. وكان أبوه مراقباً لاحتكار الدولة للملح في لافيرتي-ميلون، على نحو خمسين ميلاً شمال شرقي باريس، وكانت أمه ابنة محام في فيلييه-كوتريه. وقد ماتت عام 1641 وجان لم يبلغ الثانية بعد؛ وبعد سنة مات أبوه، فكفل الصبي جده لأبيه. وكان في الأسرة نزوع قوي إلى الجانسنية، فقد التحقت جدة وعمة لراسين بأخوات البو-رويال، وأرسل جان نفسه حين ناهز السادسة عشرة إلى "المدرسة الصغيرة" التي يديرها "المتوحدون" وقد تلقى عنهم تعليماً مركزاً في الدين واليونانية-وهما مؤثران قدر لهما أن يسيطرا الواحد بعد الآخر على حياته. واستهوته تمثيليات سوفوكليس ويوريبيديس فترجم بعضها بنفسه. ثم تعلم شيئاً من الفلسفة ومزيداً من الثقافة الكلاسيكية في كلية آركور بباريس، وأكتشف المفاتن الخفية للأنوثة الشابة، الجديد منها والمستعمل. وعاش عامين على شاطئ الجزانز أوجستان مع ابن عمه نيكولا فيتار، الذي كان يتردد بين البور-رويال والمسرح. واستمع راسين إلى عدة تمثيليات، وكتب تمثيلية، وعرضها على موليير. ولم تكن من الجودة بحيث تستحق الإخراج، ولكن موليير نفحه بمائة جنيه ذهبي، وشجعه على أن يعيد الكرة. واستقر رأي راسين على اتخاذ الأدب حرفة له. وهال هذا الجنون أقرباءه، وراعهم ما نمى إليهم من أنباء غرامياته، فأرسلوه إلى أوزيس بجنوبي فرنسا (1659) مساعداً لعم له كان كاهنا لكتدارئية، فوعده بوظيفة كنسية ذات وقف إن هو درس اللاهوت ورسم قساً. أما الشاعر الشاب، الذي ما زال باطنه يضطرم بنار باريس، فقد طل عاماً يسدل على هذه النار عباءة سوداء، وقرأ القديس توما الأكويني-وقليلاً من أريوستو ويوريبيديس بجانبه. وكتب الآن إلى لفونتين يقول:
"كل النساء رائعات...لحم غض طري، ولكن بما أن أول شيء قيل لي هو أن آخذ حذري، فلست أريد أن أقول المزيد عنهن. أضف إلى ذلك أنه سيكون امتهاناً لبيت كاهن ذي وقف أعيش فيه أن أخوض في حديث طويل عن هذا الموضوع، "بيتي بيت الصلاة يدعى"...لقد قيل لي "كن أعمى" فإذا لم أستطع أن أكون ذلك كلية، فإني أستطيع على الأقل أن أكون أبكم...لأن على المرء أن يكون راهباً مع الرهبان، كما كنت ذئباً معك من ذئاب قطيعك(6)". ولقي الكاهن شدائد وأصبحت الوظيفة الكهنوتية الموعودة أملاً بعيداً وتبين راسين أنه لا يملك موهبة القسوسة. فبدل ثوبه، وطوى كتاب "خلاصة اللاهوت" وعاد إلى باريس (1663). فلما أبلغها نشر نشيداً أتاه بمائة جنيه من جيب الملك. واقترح عليه موليير موضوعاً حوله راسين إلى تمثيليته الثانية "طيبة" (التيباييد). وأخرجها موليير في 20 يونيو 1664، ولكنه اضطر لسحبها بعد أربعة عروض. على أنها أحدثت من الضجة ما يكفي لسماعها في البور-رويال-دوشان. وأرسلت إليه عمته من هناك رسالة تستحق أن نوردها باعتبارها جزءاً من دراما تعدل في بلاغتها وتأثيرها في النفس أي شيء كتبه راسين:
"حين نمى إلى أنك تنوي الحضور إلينا طلبت إلى أمنا الإذن لي برؤيتك...ولكنني سمعت مؤخراً خبراً أثار فيّ أشجاناً عميقة. وإني أكتب إليك في مرارة قلبي، وأذرف الدمع الذي أرجو أن أكسبه غزيراً أمام الله لأنال منه خلاصه الذي أتوق إليه أشد مما أتوق لأي شيء آخر في العالم. فقد علمت بالأسف أنك تخالط أكثر من أي وقت مضى معشراً اسمهم بحق رجس عن كل من له أي نصيب من تقوى، لأنهم محرومون من دخول الكنيسة، أو تناول الأسرار المقدسة...فانظر الآن يا ابن أخي إلى أي حال صرت، لأنك لابد عليم بما أشعر به نحوك من حنان، وبأنه لم يكن لي من سؤال إلا أن تتبع الله في وظيفة شريفة. لذلك أتوسل إليك يا ابن أخي العزيز أن ترحم نفسك، وتفحص قلبك، وتتأمل بجد أي هوة ترديت فيها. أنني لأرجو ألا يكون صحيحاً ما أنبئت به، ولكن إذا كان سوء طالعك قد بلغ مبلغاً يحملك على مواصلة تجارة تشينك أما الله والناس، فعليك ألا تفكر في المجيء لرؤيتنا، لأنك تفهم جيداً أنني لن أستطيع في هذه الحالة أن أكلمك لعلمي بأنك في حالة مؤسفة جداً، مناقضة كل المناقضة للمسيحية. ولن أكف في الوقت نفسه عن التضرع لله ليرحمك، فيرحمني إياك، لأن خلاصك عزيز جداً(7)".
فهاهنا عالم شديد الاختلاف عن ذلك الذي تسجله صفحاتنا عادة-عالم من الإيمان العميق بالعقيدة المسيحية، والولاء المحب لدستورها الأخلاقي. ونحن لا نملك غير التعاطف مع امرأة استطاعت أن تكتب بمثل هذا الإخلاص في العاطفة، ولم تخل من العذر لرأيها في المسيحية الفرنسية كما كانت في شبابها. ولم تبلغ عبارة نيكول العلنية التالية هذا المبلغ من الرقة والحنو، وكان قد علم راسين في البور-رويال: "كل الناس يعرفون أن هذا السيد قد كتب..تمثيليات للمسرح...وهذه المهنة في نظر ذوي العقول الراجحة ليست في ذاتها مهنة شريفة جداً، ولكن إذا نظرنا إليها في ضوء الدين المسيحي وتعليم المسيح كانت في الحق مهنة رهيبة. فالروائيون تجار سموم يقتلون نفوس الناس لا أجسادهم(8)".
وأجاب كل من كورنيي وموليير وراسين على هذا الاتهام على حده، وكان في جواب راسين من العنف الغضب مل جعله يندم عليه أشد الندم في سنوات لاحقة.
وتلا خصامه مع البور-رويال خصام مع موليير بعد قليل. ففي ديسمبر 1665 قدمت فرقة موليير تمثيلية راسين الثالثة "الإسكندر"، وكان موليير كريماً كعادته، فهو عليم بأن راسين لم يعجب به ممثلاً تراجيدياً، وأن المؤلف الشاب يهيم بأجمل ممثلاته وإن لم تكن أكفأهن، لذلك أخرج نفسه والمرأتين بيجار من شخصيات المسرحية، وأعطى الدور النسائي الأول لتريز دبارك، ولم يظن بمال على الإخراج. وقد لقيت استقبالاً حسناً، ولكن راسين لم يرض عن التمثيل. فرتب حفلة خاصة مثلت الفرقة الملكية فيها المسرحية، وحمله سروره بهذا التمثيل على سحبها من موليير وإعطائها لهذه الفرقة المنافسة. وأقنع الآنسة دبارك التي أصبحت عشيقته بأن تترك فرقة موليير وتنضم إلى الفرقة الأقدم، وعرضت المسرحية في مكانها الجديد بالأوتيل دبورجون ثلاثين مرة في أكثر قليلاً من شهرين. ولم تكن من روائع راسين، ولكنها وطدت مكانته خلفاً لكورنيي، وأكسبته صداقة الناقد بوالو المرشدة. فحين قال له راسين مفاخراً "إنني أنظم شعري في يسر مدهش "أجابه بوالو" أريد أن أعلمك كيف تنظمه في عسر(9)". ومنذ ذلك الحين علم الناقد العظيم الشاعر قواعد الفن الكلاسيكي.
ولا علم لنا بمدى العصر الذي نظم به راسين "أندروماك"؛ على أية حال بلغ فيها أوج قوته المسرحية وأسلوبه الشعري. وهو يذكر في إهدائه المسرحية إلى مدام هنرييتا أنه قرأها عليها، وأنها بكت. ومع ذلك فهي مسرحية رعب لا مسرحية عاطفة، وفيها كل الكارثة المحتومة التي نتوقعها في إسخيلوس أو سوفوكليس. والحبكة شبكة معقدة من العلاقات الغرامية. فأوريست يحب هرميون، التي تحب بيروس، الذي يحب أندروماك، التي تحب هكتور، الذي مات. وقد منح بيروس بن أخيل ثلاث جوائز لما أبلى في انتصار اليونان على طروادة: منح أبيروس مملكة له، وأندروماك (أرملة هكتور) أسيرة له، وهرميون (ابنة منيلاوس وهيلانه) زوجة له. أما أندروماك فلا تزال شابة وجميلة، وإن لم تكف عن البكاء، وهي لا تحيا إلا لتذكر زوجها النبيل، وتخاف على طفلهما أستياناكس، الذي ينقذه راسين-بانحراف مسرحي عن القاعدة-م الموت الذي كان نصيبه في يوريبيديس ليستعمله هنا أداة في يد القدر. ويفد أوريست- بن كلينمنسترا وقاتلها- على إبيروس مبعوثاً من اليونان ليطلب إلى بيروس تسليم استياناكس وموته باعتباره المنتقم المحتمل لطروادة في المستقبل. ويرفض بيروس الاقتراح في فقرة تمتنع موسيقاها على الترجمة. يقول ما معناه:
"إنهم يخشون أن تولد طروادة بهكتور من جديد، وأن ابنه قد ينتزع مني الحياة التي حفظتها عليه. سيدي، إن الإفراط في التدبر يجر إفراطاً في الحذر. إنني لا أستطيع أن أبصر المكاره من هذا البعد الكبير. وأنا أفكر فيما كانت عليه هذه المدينة (طروادة) فيما مضى، جبارة في حضوتها، شديدة الخصوبة في أبطالها، سيدة على آسيا. ثم أتأمل في النهاية ما صارت إليه وما انتهى إليه حظها-فلا أرى غير أبراج غطاها الرماد، ونهر صبغت مياهه الدماء. وحقول هجرت، وطفل مقيد بالأغلال، ولست أظن أن طروادة تقوى على الثأر وهي على هذه الحال. آه، لو كان ابن هكتور قد قدر عليه الموت، فلم أبقينا عليه عاماً كاملاً؟ ألم نكن قادرين على تقديمه قرباناً على صدر يريام؟ كان يجب أن يسحق تحت مئات القتلى في طروادة؛ يومها كان كل شيء مباحاً، وعبثاً كانت تحتج الشيخوخة والطفولة بضعفهما في الدفاع عن نفسيهما، فالنصر والقدرة، وهما أشد منا قسوة، حرضانا على القتل وأفقدانا التمييز في ضرباتنا. إن غضبي على المغلوبين جاوز حد الصرامة، ولكن أيجب أن تبقى قسوتي بعد غضبي؟ أينبغي أن أغتسل متلبثاً في دم طفل برغم ما يتملكني من شفقة عليه؟ لا يا سيدي، فليبحث اليونان عن فريسة أخرى، وليلاحقوا ما بقي من طروادة في غير هذا المكان. لقد بلغت نهاية الشوط في عدائي. إن أبيروس ستنقذ ما أبقت عليه طروادة"(10).
هنا مأخذ واحد، ذلك أن بيروس، وربما راسين، لا يدركان مبلغ ما تدين به شفقة الفاتح لغرامه بأم الطفل-إلى حد عرضه الزواج منها (مع أنه كان يستطيع أن يتخذها جارية له)، واتخاذه أستياناكس ولداً ووريثاً له. ولكنها ترفضه، فهي لا تستطيع أن تنسى هكتور، الذي قتله أبو بيروس. وهو يهدد بأن يسلم الطفل لليونان، فيروعها تهديده، وترضى بالزواج منه، ولكن هرميون-وهي في تصور راسين لها تضارع الليدي مكبث قوة-، تشتعل غضباً لأنها نبذت، فيه تعتزم قتل بيروس رغم أنها لا تزال تحبه، وتقبل ما يعرضه أوريست من حب وولاء، شريطة أن يقتل بيروس. فيوافق كارهاً. وفي كل خطوة وكل شخص من شخوص هذه المسرحية صراع في الدوافع يرقى إلى أدق العقد النفسية المعروفة في الأدب. ويقتحم الجند اليونان الهيكل ويقتلون بيروس عند المذبح الذي يتبادل فيه عهود الزواج مع أندروماك. وتحتقر هرمون أوريست، وتجري إلى المذبح، وتغمد مدية في جسد بيروس الميت، ثم تطعن نفسها وتموت. هذه أعظم مسرحيات راسين، وهي خليقة بأن تثبت للمقارنة مع شكسبير أو يوريبيديس: حبكة متينة البناء، وشخوص كشف عنها في عمق، ومشاعر مدروسة في كل تعقيدها وحدتها ، وشعر فيه من الروعة والتناغم ما لم تسمعه فرنسا منذ رونسار.
واعترف الناس بأندروماك للتو رائعة من روائع الأدب، فوطدت مقام راسين خليفة لكورنيي وربما متفوقاً عليه. ودخل الآن أسعد عقد في عمره، متنقلاً من نصر إلى نصر، بل متحدياً موليير بملهاة من قلمه. والملهاة، واسمها "المتخاصمون"، وهي تقليد ساخر (برلسك) للمحامين الجشعين، وشهود الزور، والقضاة الفاسدين-هذه الملهاة كانت صدى لتجربة راسين مع القانون. ذلك أنه التمس رهنا على دخل دير وحصل عليه؛ ولكن راهباً نازعه دعواه، وتلا ذلك دعوى قضائية امتد بها الأجل حتى ضاق بها راسين ذرعاً فتخلى عنها وثأر لنفسه بكتابة المسرحية. ولم تسر النظارة في أول عرض لها، ولكن حين مثلت في البلاط ضحك لويس الرابع عشر من قلبه على نكتها ضحكاً جعل الجمهور يغر رأيه، وأدت هذه الملهاة المتوسطة الجودة في ملء جيب راسين.
على أن نغمة صغيرة قطعت هناءه. ذلك أن خليلته دبارك ماتت في ظروف غامضة-سنفصلها في موضع لاحق-في 11 ديسمبر سنة 1668. وبعد أن توقف فترة مناسبة اتخذ ممثلة أخرى تدعى ماري شانمسليه. وكان لها زوج يقظ وصوت ساحر، وتحاشى راسين الأول واستسلم للآخر. واتصل هذا الغرام من برينيس حتى فيدر، وبعد ذلك انتزعها الكونت دكليرمون-تونر من جذورها (D(racin(e أي من راسين) كما قال أحد الظرفاء. ومسرحية راسين "بريتانيكوس" (1669) في رأيه أكثر أعماله اتقاناً، وكثيراً ما تفضل على اندروماك، شأنها شأن "فيدر" و"اتالي".
على أن القارئ العصري لن يلتذها في أغلب الظن مهما كان غارقاً في تاكيتوس ففيها أجربين السليطة، وبريتانيكوس الشكاء وبوروس المتخبط، ونارسيس القذر، ونيرون الممتلئ شراً-فما من شخص هنا يظهر لنا تعقيداً أو تطوراً، أو يبدي لنا أثراً من نبل خليق بأن يخفف في موضع ما من أي مأساة جديرة بقلم شاعر.
وكما أن بريتانيكوس فتشت عن قصتها في "قاعة الفظائع" التي ذكرها تاسيتوس، فكذلك أخذت برينيس (1670) قصة غرام إمبراطور عن سطر موجز لسويتون يقول فيه "فأرسل لتوه كارهاً برينيس الكارهة من المدينة(12)" وتفصيل المسرحية أن تيطس الذي كان يحاصر أورشليم (70م) كان قد أغرم بالأميرة اليهودية. ومع أنها تزوجت من قبل ثلاث مرات، إلا أنها تتبعه إلى روما خليلة له، ولكنه حين يرث العرش يدرك أن الإمبراطورية لن تسمح بملكة أجنبية، فيصرفها بعبارات ملكية متدفقة تتميز بالإدراك السليم. وقد حفلت المسرحية بالعاطفة الحارة وحظيت برضاء الجمهور والملك، الذي لابد قد استشف بسرور بلاطه وانتصاراته في وصف برينيس لعظمة الإمبراطور الشاب: "أرأيت بهاء هذه الليلة؟ ألا تمتلئ عيناك بعظمتها وأبهتها؟ هذه المشاعل، وهذا الحطب، وهذا الليل ذو اللهب المقدس، وهاتيك النسور، وتلك الشعارات، وهذا الجمع من الناس، وهذا الجيش، وذلك الحشد من الملوك، هؤلاء القناصل، وهذا السناتور-أولئك الذين قبسوا نورهم الساطع من حبيبي، وهذا الأرجوان والذهب الذي يزداد تألقاً بمجده، وهذا الغار الذي مازال شاهداً على انتصاره، وهذه العيون التي نراها قادمة من كل فج لتلتقي فيه وحدة نظراتها الملهوفة؛ هذه الطلعة الجليلة، وهذه الحضرة الحلوة. وحق السماء! بأي إجلال وبأي رضى تؤكد له كل القلوب سراً ثقتها به! تكلم: أيستطيع إنسان أن يراه دون أن يخطر له كما يخطر لي، أنه لو كان القدر قضى بأن يولد مغموراً لتبين فيه العالم سيده بمجرد النظر إليه".
أمن العجب إذن أن نرى رأسين، وهو على هذا الحذق في الزلفى، ينال الحظوة السريعة عند الملك؟ ونمر في احترام ببعض مسرحياته الأقل شأناً، وكلها ما يزال يحتل خشبة المسرح الفرنسي: بايريد (1672)، وتردات (1673) التي فضلها لويس على كل مسرحياته، وإفجيني (1674)، التي وضعها فولتير في صف واحد مع أتالي باعتبارها من أروع ما كتب من الشعر(14). وقد عرضت أجيني أول مرة في حدائق فرساي على ضوء الشمعدانات البلورية المعلقة في أشجار البرتقال والرمان، وعزف العازفون على الكمان وانعطفت قلوب نصف النخبة المتفرجة، وتقدم راسين ليشكر النظارة على أغلى تصفيق لقيه في حياته. وحين أخرجت في باريس امتد عرضها أربعين مرة في شهور ثلاثة. وكان قد انتخب أثناء ذلك عضواً في الأكاديمية الفرنسية (1673). وبدا أن سعادته قد اكتملت. على أن السعادة لم تكتب إلى الآن للشعراء، إلا أن يكون الجمال فرحة لا تنتهي، والثناء لا يقطعه صوت ناشز. قال راسين لابنه "لقد طالما أبهجني جداً ذلك الاستحسان الذي قوبلت به، ولكن أقل لوم ناقد...كان يسبب لي دائماً من الضيق قدراً أكبر من كل السرور الذي يدخله على المديح(15)". فهو لم يكن شديد الحساسية فحسب، كما لم يكن بد من أن يكون، بل ضيق الخلق، يرد على كل كلمة نابية. وفي ذروة نجاحه وجد نصف باريس تنتقده، لا بل تعمل على إسقاطه. كان كورنبي قد عمر فوق ما ينبغي، ولكن مريديه تذكروا ما اتسمت به مآسيه الأولى من نبرة بطولية وموضوعات ملحمية، وما شاع في بلاغته من نبل، وذلك المستوى السامي الذي رفع إليه دواعي الشرف والدولة، فوق أهواء القلب. واتهموا راسين بتلويث المأساة بعواطف نصف مجنونة تنفعل بها مخلوقات خسيسة، وبإدخال مغازلات حب القصور إلى المسرح، وإغراقه بدموع بطلاته، فصمموا على إسقاطه.
فلما عرف أنه يكتب "فيدر" أقنع فريقاً من خصومه نيكولا برادون بأن يكتب مسرحية منافسة في الموضوع نفسه. وكان للمسرحيتين نفس العنوان في الأصل-فيدر وهيبوليت-وانبثقتا من أسطورة رواها يوربيديس من قبل بما عهد فيه من قصد كلاسيكي في العاطفة. ففيدر، زوجة تسيوس، وتولع ولعاً شديداً بهيبوليت بن ثيسيوس من زوجة سابقة، ولكنها تجده بارد العاطفة نحو النساء فتشنق نفسها بعد أن تترك خطاباً اتهمته فيه بمحاولة الاعتداء على عفافها انتقاماً منه، ونفى ثيسيوس ابنه البريء، الذي لم يلبث أن قتل وهو يسوق الخيل على شواطئ تروزين. ولكن راسين غير ترتيب الأحداث، فجعل فيدر تتجرع السم بعد سماعها بموت هبوليت. ومثلت مسرحية راسين في الأوتيل دبورجون في أول يناير سنة 1677، ومثلت مسرحية برادون بعد يومين على مسرح جينيجو. ولقيت التمثيليتان نجاحاً متكافئاً إلى حين، ولكن تمثيلية برادون طواها النسيان، في حين تمثيلية راسن عادة رائعته الكبرى؛ ودور فيدر تصبوا إلى تمثيله كل الممثلات الفرنسيات، كما يستهوي دور هاملت المثلين التراجيديين في المسرح الإنجليزي) . ولقد بارى راسين الرومانسيين مع أنه المثل المحتذى في الأسلوب الكلاسيكي، في عاطفية غرام فيدر، وجعل هبوليت يتحرق شوقاً للأميرة أريسيا (وهذا مناقض الأسطورة). وتعلم فيدر بنبأ هذا الغرام، ويعطينا راسين في تفصيل منفعل دراسة للمرأة إذا ازدريت. وهو يخفف من هذه التحليقات الرومانسية بوصف قوي لخيل هيوليت المذعورة وهي تجره حتى يلقى حتفه.
وفي المقدمة التي يصدر بها راسين تمثيليته فيدر (إذ بدأ يشتد فيه الحافز الديني كلما ضعف الحافز الجنسي) يلوح بغصن الزيتون للبور-رويال فيقول:
"لست أجرؤ على أن أؤكد لنفسي أن هذه...خير مآسي...ولكني وأثق أنني لم أكتب مأساة عرضت فيها الفضيلة في ضوء أفضل. فأتفه الذنوب تعاقب هنا عقاباً صارماً، ومجرد التفكير في الجريمة ينظر إليه هنا نظرة الاستهجان التي ينظر بها إلى الجريمة ذاتها، وعثرات الحب ينظر إليها هنا كأنها عثرات حقيقية، والعواطف المشبوبة لا تعرض على الأنظار إلا لترى الخلل التي هي السبب فيه، والرذيلة مصورة في المسرحية كلها بألوان تتيح لنا أن نراها ونكره شكلها الشائه. وتلك هي الغاية الصحيحة التي ينبغي أن يستهدفها كل من يعمل لجمهور الشعب. ولعل هذه أن تكون وسيلة المصلحة بين الدراما المأساوية، وكثيرين من الأشخاص المعروفين بتقواهم وتعاليمهم، والذين أدانوها مؤخراً، ولكنهم سيحكمون عليها حكماً أكثر عطفاً لوعني المؤلفون بتعليم جمهوره النظارة عنايتهم بالترفيه عنهم، ولو ترسموا في هذا التعليم القصد الصحيح من المأساة(17)". ورحب آرنو، المعروف بتقواه وتعاليمه، بهذه النغمة الجديدة، وأعلن رضاءه عن فيدر. ولعل راسين وهو يكتب المقدمة، وقد بلغ الثامنة والثلاثين، كان يتطلع إلى حياة من الاستقرار يسكن فيها إلى امرأة واحدة بدل النساء الكثيرات. ففي أول يونيو سنة 1677 تزوج زوجة أقنه بمهر كبير. وقد أكتشف ما في الحياة العائلية من أسباب الراحة، ووجد من البهجة في ابنه البكر أكثر مما وجد في أكثر مسرحياته توفيقاً. وكانت غيرة مزاحميه ودسائسهم قد نفرته من المسرح، فألقى جانباً الخطط والمذكرات التي كان قد أعدها لأربع مسرحيات، واقتصر طوال اثني عشر عاماً على كتابة الشعر والنثر بين الحين والحين؛ لا سيما تأليف تاريخ للبور-رويال طابعه التبجيل والولاء البنوي.
ونغص عليه هذا الهدوء المثالي حادث مؤسف أليم. ذلك أن المحكمة الخاصة التي كانت تحقيق عام 1679 في تهم التسميم الموجهة ضد كاتيرين مونفوازان استلمت منها اتهاماً لراسين بأنه سمم خليلته تريز دبارك. وأدلت "لفوازان" بتفاصيل الاتهام ولكن لم يكن هناك ما يعززه. وإذ كانت واثقة من أنه سيحكم عليها بالإعدام، فأنها لن تكن تخسر شيئاً باتهام غيرها زوراً، وقد لوحظ أن إحدى زبائنها وصديقاتها هي الكونتيسة سواسون، وكانت عضواً في العصبة التي قاومت راسين في "غرام فيدر(18)". ومع ذلك كتب لوفوا في أول يناير سنة 1680 إلى المفوض بازان دبيزون يقول "إن الأمر الملكي بالقبض على السيد راسين سيرسل إليك حالما تطلبه" ولكن حين تقدم التحقيق وبدا أنه سيورط مدام دمونتسبان، أمر الملك بحضر نشر سجل المحاكمة، ولم يتخذ أي إجراء ضد راسين(19). وأظهر لويس ثقته المستمرة في الكاتب المسرحي. ففي سنة 1664 رتب له معاشاً؛ وفي سنة 1674 خلع عليه وظيفة شرفية تغل له 2.400 جنيه في العام في إدارة المالية؛ وفي سنة 1670 عين راسين وبوالو مؤرخين رسميين للبلاط؛ وفي سنة 1690 أصبح الشاعر موظفاً دائماً في معية الملك، فأتته الوظيفة بمود إضافي قدره ألفان من الجنيهات. وفي سنة 1696 بلغ من الثراء مبلغاً أتاح له شراء وظيفة سكرتير الملك.
وقد أعان أداؤه النشيط لواجباته مؤرخاً ملكياً على سحبه من المسرح. وكان يرافق الملك في حملاته ليسجل الأحداث تسجيلاً أدق. وفيما عدا ذلك كان يلزم داره شاغلاً نفسه بتربية ولديه وبناته الخمس، وكان يود أحياناً، وسط صخبهم وضجيجهم، لو أنه كان راهباً. وما كان ليكتب أي مسرحية أخرى لولا أن مدام دمانتون لجأت إليه في أن يكتب مسرحية دينية بريئة من كل ما يتصل بالغرام، تمثلها الفتيات اللائى جمعتهن في أكاديمية سان-سير. وكانت أندروماك قد مثلت هناك من قبل، ولكن دمانتون الفاضلة لاحظت أن الفتيات استمتعن بالفقرات الغرامية الحارة. ورغبة في ردهن إلى التقوى كتب راسين مسرحيته "إستير".
ولم يكن قد اقتبس موضوعاً من الكتاب المقدس من قبل، ولكنه درس الكتاب أربعين سنة، وأحاط بكل التاريخ المعقد المدون في العهد القديم. وقام هو نفسه بتدريب الفتيات على أدوارهن، وتبرع الملك بمائة ألف فرنك لتوفير الملابس الفارسية المطلوبة. فلما أخرجت (25 يناير سنة 1689) كان لويس أحد الرجال القليلين الذين شهدوها بين النظارة. وأشتد الطلب على مشاهدتها، من الكهنة أولاً، ثم من الحاشية، وعرضتها أكاديمية سان-سير اثنتي عشرة مرة أخرى. ولم تصل إستير إلى جماهير المتفرجين إلا سنة 1721 بعد موت الملك بست سنين؛ وعندها (بعد أن فقد الدين الرعاية الملكية) لم تلقَ إلا نجاحاً متوسطاً.
وفي 5 يناير 1691 أخرجت سان-سير أحدث مسرحيات راسين وهي "أتالي". وأتاليا هي الملكة الشريرة التي ظلت سنوات تقود يهوداً كثيرين إلى عبادة البعل الوثنية، حتى عزلتها ثورة قام بها الكهان(20) وجعل راسين من القصة مسرحية لا يشعر بقوتها غير أولئك الذين يشهدونها وهم على علم بقصة الكتاب المقدس، يدفئ صدورهم الإيمان اليهودي أو المسيحي الأصيل، أما غيرهم فسيجدون أحاديثها الطويلة وروحها القاتمة مثبطة لهم. وقد بدا أن التمثيلية صفقت لطرد الهيجوتوت وانتصار الكهنوت الكاثوليكي، ولكنها من جهة أخرى حوت-في إنذار رئيس الكهنة للملك الشاب جود-تنديداً قوياً بالحكم المطلق:
"وقد نشئت بعيداً عن العرش لم تشعر بفتنته السامة، إنك لا تعرف الانتشاء بالسلطان المطلق، وسحر المتملقين الجبناء. عما قليل سيقولون لك إن أقدس القوانين...ينبغي أن تطيع الملك، وأنه لا ضابط للملك غير مشيئته، وأنه يجب أن يضحي بكل شيء في سبيل مجده الأعلى...وا أسفاه! لقد ظللوا أحكم الملوك(21)".
وقد ظفرت هذه الأبيات بالاستحسان الكثير إبان القرن الثامن عشر، ولعلها حدت بفولتير وغيره(23) إلى اعتبار أتالي أعظم الدرامات الفرنسية. على أن الأبيات التالية لهذه توحي بأن رئيس الكهنة إنما كان يحاج دفاعاً عن خضوع الملوك للكهنة. أما لويس، الذي بز الآن راسين في تقواه وورعه، فلم يرَ بالتمثيلية بأساً. وواصل استقبال راسين في القصر رغم ما عرف عن الشاعر من تعاطف مع البور-رويال. ولكن في سنة 1698 حجب الملك رضاءه. ذلك أن راسين، بناء على طلب مدام دمانتون، وضع بياناً بألوان العذاب الذي ابتلى بها الشعب الفرنسي في أواخر الحكم. وفاجئها الملك وهي تقرأ الوثيقة، وأخذها منها، وانتزع منها اسم كاتبها، وأخذته سورة الغضب وقال "ألكونه شاعراً فحلاً يحسب أنه يعرف كل شيء! ألا أنه شاعر كبير يريد أن يكون وزيراً لأيضاً!" أما مانتنون فقد أكدت لراسين وهي تفيض في الاعتذار له أن الزوبعة ستمر سريعاً. ولقد مرت؛ وما لبث راسين أن عاد إلى البلاط واستقبل استقبالاً كريماً، وإن بدا له أقل حرارة من ذي قبل.
أما الذي قتل الشاعر فلم يكن نظرة فاترة من الملك بل خراجاً من الكبد. وقد أجريت له جراحة، وخف ألمه فترة، ولكنه لم يكن واهماً حين قال: لقد أرسل الموت إلى كشف حسابه(26) وجاء بوالو، وهو يشكو المرض، ليلازم صديقه العليل. وقال راسين "إني مغتبط لأنه سمح لي أن أموت قبلك(27)" وكتب وصية بسيطة كان أهم فقرة فيها هذا الرجاء إلى البور-رويال: "أود أن تحمل جثتي إلى البور-رويال-دي-شان، وأن تدفن في مقبرته..إنني بكل تواضع ألتمس من الأم الرئيسة والراهبات أن يمنحنني هذا الشرف، وإن كنت عليماً بأنني لا أستحقه، سواء لما شاب حياتي الماضية من مخازٍ، أو لتقصيري في الإفادة من ذلك التعليم من ذلك التعليم الممتاز الذي تلقيته من قبل في ذلك الدير، وما رأيت فيه من مثل رائعة في التقوى والتوبة ...ولكن كلما ازدادت حاجتي لصلوات هذه الجماعة العظيمة الورع(28)".
ومات في 21 إبريل سنة 1699 وقد بلغ التاسعة والخمسين. وأجرى الملك معاشاً على أرملته وأبناءه حتى مات أخرهم. وتضع فرنسا راسين في صف أعظم شعرائها، لأنه هو وكورنيي يمثلان أرقى ما وصلت إليه الدراما الكلاسيكية الحديثة من تطور. ولقد تقبل-بناء على حض والو-تفسيراً دقيقاً للوحدات الثلاث: فبلغ بذلك تركيزاً لا يبارى للوجدان والقوة من خلال عمل واحد يقع في مكان واحد ويكمل في يوم واحد. وقد تجنب تطفل الحبكات الثانوية-وكل مزج بين المأساة والملهاة، وأخرج العامة من مآسيه، ولم يتناول عادة غير الأمراء والأميرات والملوك والملكات. وقد نقى لغته من كل الألفاظ التي قد تعد نابية في الصالونات أو البلاط، أو تكون محل استنكار في الأكاديمية الفرنسية. وشكا من أنه لا يجرؤ على أن يورد في تمثيلياته عملية مبتذلة كعملية تناول الطعام، وإن حفل بها شعر "هوميروس" وكان الهدف هو بلوغ أسلوب يعكس في الأدب حديث الأرستقراطية الفرنسية وعاداتها. وقد حدت هذه القيود من مجال راسين. وكانت كل درامة من دراناته قبل إستير، على شاكلة سابقاتها-وفي كل منها كانت العواطف واحدة.
على أن راسن شارف الرومانسية في طابع للشاعر التي عبر عنها وفي حدتها، وذلك رغم الفكرة الكلاسيكية، فكرة العقل يطغى على الحياة ويضبط العاطفة والحديث. وبينما نجد العاطفة في كورنبي تؤكد على الشرف، والوطنية، والنبالة، نجدها في راسين تتركز إلى حد كبير حول الحب أو العاطفة المشبوبة؛ ونح نحس فيه تأثير رومانسيات دورفيه، ومدام دسكوديري، ومدام دلافاييت. وكان سوفوكليس أكثر من يعجب بهم من المسرحيين قاطبة، ولكنه يذكرنا أكثر بيوربيديس، الذي تحول فيه قصد سوفوكليس وجلال عبارته بين الحين والحين إلى إفراط في الحماسة والوجدان. وفي هاملت أو مكبث إلى القصد في الحديث أكثر مما في أندرو ماك أو فيدر. وقد أعرب راسين صراحة عن رأيه في أن "أول قاعدة" للدراما "هي أن تسر وأن تمس القلب(30)" وقد فعل هذا بتعامله مع القلب، وباختياره شخوصه الرئيسيين من بين أفراد-كانوا عادة من النساء-مرهفي العاطفة، وتحويله تمثيلياته إلى سيكلوجية العاطفة. وقد وافق على الحظر الكلاسيكسي للحركة العنيفة على المسرح، ومن ثم أخذ نفسه بالتعبير عن العاطفة بالكلام فقط. وألقى هذا عبئاً ثقيلاً على أسلوبه، فأصبحت المسرحية سلسلة من الخطب، وكان استرساله في الأبيات الإسكندرية المتتابعة-وهي ذات المقاطع الاثني عشر والقوافي المزدوجة-هذا الاسترسال أشرف بشعره على الرتابة المملة؛ فنحن نفتقد في راسين وكورنبي ما يطالعنا في الشعر الإليزابيثي المرسل من مرونة، وطبيعية، وتنوع لا آخر له. وياله من جهد عبقري ذلك الذي اقتضاه رفع هذا الشكل الضيق من تماثله الممل، بقوة الأسلوب وجماله! أن راسين وكورنبي ينبغ ألا يقرأ، بل يجب أن يسمعا، وحبذا أن يكون ذلك ليلاً في فناء الأنفاليد أو اللوفر. والمفاضلة بين راسين وكورنبي هواية قديمة لدى الفرنسيين. أما مدام دسفينييه، فأنها بعد أن شهدت "بايزيد" وقبل أن تمثل-إفجيني أو فيدر-انحازت إلى كورنبي بحماستها المألوفة. وقد تنبأت في تهور، ولكن ربما بحق، بأن: "راسين لن يستطيع أبداً أن يتجاوز..أندروماك...فتمثيلياته مكتوبة للآنسة شانمسلييه..وسوف يتضح حين يكبر، ويكف عن الحب، هل أخطأت الحكم أم أصبت. إذن فليعش صديقنا كورنبي طويلاً، ولنغتفر له الأبيات الرديئة التي نصادفها في شعره من أجل تلك الفقرات الإلهية التي كثيراً ما ننتشي بها"...
وهذا على العموم رأي كل ذي ذوق سليم(31). ولكن فولتير الذي اضطلع بنشر أعمال كورنبي والتعليق عليها، صدم الأكاديمية الفرنسية بنقده لأخطاء المسرحي الكبير وفجاجاته ولغته الطنانة. كتب يقول "أعترف أنني بنشر كورنبي أصبحت من عباد راسين(32)" وقد أقر الزمن بهذه الأخطاء، وأغتفرها لرجل لم يحظ بما حظى به راسين من ميزة المجيء بعد كورنبي. فالارتفاع بالدراما الفرنسية من مستةاها السابق إلى مكانة "السيد" "وبوليوكت" كان إنجازاً شق من بلوغ النشوات المشبوبة والجمال المنغوم الذي نجده في "أندروماك" "وفيدر". إن كورنبي وراسين هما الموضوعان الذكر والأنثى في شعر القرن العظيم-التعبير القوي عن الشرف والحب..وعلينا أن نأخذهما معاً إن أردنا أن نحس باتساع الدراما الكلاسيكية الفرنسية وقوتها، تماماً كما يجب أن نأخذ ميكلانجلو ورفائيل معاُ إن أردنا أن نحكم على النهضة الإيطالية؛ أو بتهوفن وموتسارت إن أردنا أن نفهم الموسيقى الألمانية في ختام القرن الثامن عشر. قال ديفد هيوم، وكان اسكتلندياً حكيماً، ضليعاً في لغة الفرنسيين وآدابهم، "في المسرح تفوق الفرنسيون حتى على اليونان، الذين تفوقوا كثيراً على الإنجليز(32)" وذلك حكم كان خليقاً بأن يدهش راسين ذاته، الذي عبد سوفوكليس باعتباره الكمال مجسماً، وإن جرؤ على منافسة يوربديس. وفي هذا نجح، وهو ما يستحق عليه الثناء حقاً. فلقد احتفظ بالدراما الحديثة على مستوى لم يبلغه سوى شكسبير وكورنبي، ولا يدنو منه إنسان بعد ذلك سوى جوته.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لافونتين 1621 - 1695
في ذلك العصر، عصر الخصومات الأدبية الصارخة، يطيب للمرء أن يسمع بتلك الصداقة المشهورة، نصف الأسطورية، بين بوالو، وموليير، وراسين، ولافونتين-"شلة" الأصدقاء الأربعة. أما جان دلافونتين فكان العضو المغمور بين الجماعة. ولد كأضحابه لأسرة متوسطة؛ ولا غرور فالأرستقراطية في شغل بفن الحياة عن الفن. وكان مسقط رأسه شاتو-تييري في شمبانيا، وابوه المدير المحلي للمياه والغابات، لذلك شب جزءاً حساساً من الطبيعة المحيطة به، وعشق الحقول، والغابات، والأشجار، والأنهار، وكل ساكنيها، وتعلم عادات العشرات من أنواع الحيوان، وتكهن في تعاطف بغاياتها، وهمومها، وأفكارها، فكان كل ما عليه أن يفعله وهو يكتب أن يجري الكلام على ألسنه هؤلاء الفلاسفة متعددي الأرجل، وأصبح "إيزوبا" آخر مذاباً بقصصه الخرافية في ذاكرة الملايين.
وكانت نية أبويه أن يعداه للكهانة، ولكن لم يكن به ميل للخوارق. وحاول أن يمارس القانون، ولكنه وجد الشعر أيسر فهماً. وتزوج فتاة غنية (1647) وأنجب منها ولداً. ثم اتفق مع زوجته على الانفصال (1658) وذهب إلى باريس، وأبهج فوكيه، وتلقى من ذلك المختلس اللطيف معاشاً قدره ألف جنيه، شريطة أن يتحفه بأشعاره أربع دفعات في السنة. فلما سقط فوكيه وجه لافونتين إلى الملك التماساً شجاعاً يرجوه فيه الصفح عن رجل المال. وكانت النتيجة أنه لم يصطل قط بعدها في شمس الملك. فلما جرد من معاشه ولم يكن لديه أي فكرة عن كسب قوته، آوته وأطعمته الدوقة دبوين التي التقينا بها من قبل في صفوف الفرونديات. وأصدر وهو مستظل بجناحها (1664) أول كتاب في "حكاياته" وهو مجموعة من الأقاصيص الشعرية، مكشوفة على الطريقة البوكاشية، ولكنها مروية في بساطة ساحرة ما لبثت أن جعلت نصف فرنسا، حتى العذارى الخجولات، يقرأنها . وبعد قليل أسكنته مارجريت اللورينية، دوقة أورليان الأرملة؛ قصر اللكسمبورج بوصفه وصيفاً لها. وهناك كتب مزيداً من حكاياته، ومن هناك دفع إلى المطبعة بالكتب الستة الأولى من قصصه الخرافية (1668). وقد زعم أنها صياغة جديدة لخرافات إيزورب أو فيدروس، وكذلك كان بعضها، وبعضها أخذ عن قصص الهند الأسطورية Bidpoi وبعضها من خرافات فرنسا، ولكن أكثرها خلق من جديد في ذلك الغدير الذي يتدفق في ذهن لافونتين وشعره. وكانت أول قصة خرافية تلخيصاً غير مقصود لحياته الخالية الطروب:
"بعد أن أنفقت الجرادة الصيف كله غناء، ألفت نفسها حين أقبل الشتاء مملقة لا تملك ذبابة ضئيلة ولا دودة حقيرة، فمضت تشكو جوعها لجارتها النملة وتسألها إن أقرضتها شيئاً من الحب تقتات به حتى يقبل الموسم الجديد. وقالت "سأرد لك ديني قبل الحصاد، وأقسم على ذلك بدين الحيوان ومصلحته ومبدئه". أما النملة فلم تكن ممن يقرضون، وهذا أقل عيوبها. لذلك قالت للسائلة "وماذا كنت تفعلين في الصيف؟"
"كنت أغني ليل نهار لكل وافد، فلا يسؤك هذا". "كنت تغنين: يسعدني أن أسمع هذا. عليك إذن أن ترقصي الآن". كان لافونتين أحكم من ديكارت، الذي ظن أن كل الحيوانات كائنات آلية لا تفكر، فقد أحبها الشاعر، وأحس بتفكيرها، ووجد فيها كلها دروس الفلسفة العلمية. وافتتنت فرنسا بتلقي الحكمة في جرعات سهلة الهضم كهذه. وأصبح كاتب هذه الخرافات أكثر المؤلفين قراء في بلاده. واتفق النقاد مرة في حياتهم مع الشعب، وأثنوا عليه فيمن أثنوا، ذلك أنه برغم بساطته الخالصة كان عليماً بالفرنسية في لونها الريفي ورائحتها الترابية، وقد خلع على شعره من الرشاقة الطيعة، وطرق التعبير الحلوة، والصورة الحية المحكمة، ما جعل كل البروجوازيين مدعى النبل في فرنسا يغتبطون لأن حيواناتهم، بل حشراتهم، تنطق بالشعر طوال الوقت. قال فونتين "إني استخدم الحيوانات لتعليم الناس".
وفي 1673 ماتت مرجريت اللورينية وألفى الشاعر نفسه غارقاً في الديون، وهو الذي كان يغني في غير تدبر للمستقبل، ولم يحسن التصرف في الأجور المتواضعة التي أتت بها كتبه. على أنه كان أكثر حظاً من جرادته، لأن مدام دلاسابليير، المرأة المثقفة العطوف، آوته وأطعمته ورعته بحدب الأم الرءوم في بيتها بشارع سانت-أوثورية، وهناك عاش قناعة هادئة إلى أن ماتت في 1693. يقول إن وقته كان قسمة بين شطرين: أولهما ينام فيه، والآخر لا يعمل فيه شيئاً. ووصفه لابرويبر بأنه رجل يستطيع أن ينطق الحيوان والشجر بكلام رشيق أنيق، ولكنه هو نفسه كان "متبلداً، ثقيلاً"، غبياً في الحديث. على أن هناك روايات مناقضة زعمت أن في وسعه أن يكون محدثاً مرحاً إذا وجد آذاناً تلائم مزاجه(38). وقد أذاعت شرود ذهنه عشرات النوادر، الأسطورية إلى حد كبير. من ذلك أنه قال مرة معتذراً عن وصوله إلى العشاء متأخراً "عدت لتوي من جنازة نملة، وقد سرت وراء الموكب حتى المقبرة، ثم رافقت الأسرة في رجوعها للبيت". وقد قاوم لويس الرابع عشر انتخابه عضواً في الأكاديمية بحجة أن حياة الشاعر وحكاياته لم تكن بالمثل الذي يحتذى، ثم لانت قناته في النهاية (1684)، وقال أن لافونتين وعد بأن يصلح من سلوكه. ولكن الشاعر الهرم لم يعرف فرقاً بين الفضيلة والخطيئة، إنما عرف الفرق بين الطبيعي وغير الطبيعي، فقد تعلم أخلاقياته في الغابات. وكان كموليير لا يشعر بأي انجذاب للبور-رويال، هؤلاء "المجادلون البارعون" كما وصفهم، الذين "تبدو لي دروسهم باعثة على الغم بعض الشيء" وانضم حيناً إلى "شلة" أحرار الفكر في "التامبل"، ولكن حين أصيب بنقطة كادت توقعه على الطريق، لاح له أن قد آن الأوان ليصلح ما بينه وبين الكنيسة، ومع ذلك فقد تساءل "أكان القديس أوغسطين حكيماً حكمة رابليه؟" ومات في 1695 وقد بلغ الرابعة والسبعين. وكانت ممرضته على ثقة من خلاصه الأبدي، لأنه على حد قولها "كان فيه من البساطة ما يجعل الله يتردد في الحكم عليه بالهلاك".
بوالو 1636 - 1711
في اللقاءات التي جمعت الأصدقاء الأربعة في شارع فيو كولومبييه كان نيقولا بوالو المسيطر عادة على الحديث، وهو الذي وضع قواعد الأدب والأخلاق بكل سلطان الدكتور حونسون وثقته في حانة "رأس التركي" بحي سوهو. وكان كجونسون محدثاً أهم منه مؤلفاً؛ وخير أعماله شعر وسط، ولكن أحكامه كان لها في ميدان الأدب أثر أبقى مما كان لأحكام لويس الرابع عشر في السياسة. وقد أعانت صداقته وتقريظه الناقد لموليير وراسين على التغلب على مكائد الجماعات المعادية لهما.
كان الطفل الرابع عشر لكاتب برلمان باريس. وإذ كان منذور للكهانة فقد درس اللاهوت في السوربون. ولكنه تمرد، ودرس القانون وكان على وشك الاشتغال بالمحاماة حين مات أبوه (1657)، مخلفاً له ميراثاً يكفيه وهو يقرض الشعر. وأنفق عشر سنين يشحذ قلمه، ثم راح يصدر أحكامه على زملائه في اثنتي عشرة أهجية (1666 وما بعدها). ذلك أن هذا الحشد الرهيب من النظامين الجياع روعه، فهاجمه كأنه جيش من الجراد، وسمى بعضهم بأسمائهم، فخلق له أعداء بقوافيه. وجر على رأسه أيضاً سخط النساء بسخريته من القصص الرومانسية التي كانت السيدتان سكوديري ولافاييت تضيعان بهما ورق فرنسا ووقتها. وقد امتدح القدامى، وامتدح منبين المحدثين ماليرب وراكان، وموليير وراسين. قال "أحسبه من حقنا أن نسمي الشعر الرديء رديئاً دون أن نؤذي الضمير أو الدولة، وأن يكون لنا مطلق الحق أن نستشعر الضجر من قراءة كتاب غبي". على أن هذه الأهاجي تضجرنا هي الأخرى لأن هدفها قد تحقق: فالشعراء الذين أدانتهم هدموا هدماً لم يبقِ على أثر لهم في ذاكرتنا أو في اهتمامنا؛ يضاف إلى هذا أن أصحاب العقول الغضة منا، ولا سيما إذا كنا مؤلفين، يؤثرون النقاد الذين يرشدوننا إلى الطيب على أولئك الذين يسخرون من الخبيث.
وبعد أن ذهب بوالو في أهاجيه مذهب جوفينال الصارم، خفف من غلوانه بالتزام مذهب هوراس الأكثر اعتدالاً، ووصل إلى أسلوب ألين في سلسلة من الرسائل (1669-95). وهذه الرسائل الشعرية هي التي أغرت لويس بدعوته إلى البلاط. وسأله الملك ما أفضل شعره في ظنه. أما بوالو الذي كان يترقب فرصته الكبرى فلم يقرأ شيئاً من شعره المنشور، ولكنه تلا بعض شعره بمدح الملك العظيم، وكان أبياتاً لم تطبع بعد قال عنها إنها أقل شعره رداءه. وأجازه لويس بمعاش قدره ألفان من الجنيهات، وأصبح شخصاً "مرضياً عنه" في البلاط. قال لويس "أحب بوالو لأنه سوط تأديب ضروري نصلته على ذوق كتاب الدرجة الثاني السقيم(46)". وكما أن لويس ساند موليير في حملته على المتعصبين. كذلك لم يفه بأي احتجاج حين نشر بوالو ملحمة ساخرة سماها "لوتران" (1674)، هزأ فيها برجال الكنيسة الغافلين النهمين. وفي 1677 عبن الشاعر الهجاء مؤرخاً رسمياً مع راسين، وفي 1684 قبل نهائياً في الأكاديمية بأمر صريح من الملك، ورغم احتجاجات أولئك الذين سلخ جلودهم.
أما القصيدة التي طفت به فوق دوامات الزمن فهي "فن الشعر" (1674) التي ضارعت في تأثيرها النموذج الذي نسجت على منواله، وهو كتاب هوراس Arspoetiea، ويستهل بوالو قصيدته بتنبيه شباب الشعراء إلى أن "بارناس" جبل وعر، فليستوثقوا إذن قبل أن يشرعوا في ارتفاء جبل ربات الشعر والفن أن لديهم شيئاً يستحق أن يقال، شيئاً يعزز الحقيقة ويعين على الإدراك والذوق السليمين. وهو يقول لهم ناصحاً: نوعوا حديثكم، فإن أسلوباً بالغ التكافؤ شديد التماثيل (كأسلوب بوالو) يحملنا على النوم، و "حبذا الشاعر الذي ينتقل، بلمسة رقيقة، من الخطير إلى الخفيف، ومن السار إلى العنيف(47)". "وأرهفوا آذانكم لإيقاع ألفاظكم. واتبعوا قواعد ماليرب في اللغة والأسلوب. وادرسوا القدامى لا المحدثين: هومر وفرجل في شعر الملاحم، وسفوكليس في المأساة، وتيرانس في الملهاة، وهوراس في الهجاء، وتيوقريطس في شعر الرعاة". "أسرعوا في بطء، وضعوا إنتاجكم على السندان عشرين مرة دون أن يفت ذلك من عضدكم...وأضيفوا إليه قليلاً، واحذفوا منه(48) كثيرً. أحبوا من ينتقدونكم، وصححوا أخطاءكم دون تذمر وأنتم تنحنون لحكم العقل(49). وأعملوا للمجد، ولا تجعلوا الكسل الخسيس هدفاً لجهدكم(50). فإذا كتبتم درامات فراعوا الوحدات، واجعلوا الفعل الواحد، المكتمل في مكان واحد ويوم واحد، يبقى المسرح ممتلئاً بجمهوره إلى النهاية(51). أدرسوا البلاط وتعرفوا على المدينة فكلاهما غني بالنماذج، ولعل هذا هو السر في الفوز الذي حققه موليير لفنه(52)".
وانضم بوالو إلى موليير في السخرية من "المتحذلقات" واحتقر شعر الحب المتكلف الذي أضعف الشعر الفرنسي، وقابل بين هذه العاطفة الكاذبة وبين تمجيد ديكارت للعقل وغرس الآداب القديمة لضبط المشاعر. وصاغ مبادئ الأسلوب الكلاسيكي، وأجملها في بيتين شهيرين "أحبوا العقل إذن، ولتقبس كتاباتكم منه بهائها وقيمتها(53)" فلا زيف في العاطفة، ولا انفعال، ولا كلام طنان، لا تحذلق، لا تكلف، ولا غموض التباهي والغرور. فالمثل الأعلى في الأدب، كما في الحياة، هو ضبط رواقي للنفس، و"لا تزيد أو إفراط".
وقد أحب بوالو موليير، ولكنه أسف على هبوطه إلى درك المسلاة "الفارص". وأحب راسي، ولكن يبدو أنه لم يفطن إلى تمجيده الرومانسي للوجدان، ولم يلحظ بطلاته المتفجرات بالانفعالات-هرميون، وبرينيس، وفيدر. والمقاتل لابد مبالغ في نصيبه من الحقيقة. ولقد كان في بوالو من قوة المحارب ما أعجزه عن فهم ما قاله بسكال من إن للقلب دواعيه التي لا يفهمه الدماغ، وأن الأدب بغير وجدان قد يكون له ملاسة الرخام وبرودته. لقد سمح هوراس بالوجدان فقال "إن أردتن أن أبكي" أي أن أحس مما تكتب، "فعليك أن تبكي أنت أولاً" أي عليك أن تحس أنت بالأمر. إن فن العصور الوسطى وأدبها ظلا محجوبين عن عين بوالو.
وكان أثر تعليمه هائلاً. فقد حاول الشعر والنثر الفرنسيان التزام قواعد الكلاسيكية طوال قرون ثلاثة. وشاركت هذه القواعد في تشكيل أسلوب الأدب الإنجليزي في "العصر الأغسطي" الذي قلد شاعره بوب في صراحة "فن الشعر" في كتابه "مقال في النقد". وكان تأثير بوالو ضاراً ونافعاً. فهو باستنكاره الخيال والوجدان، وضع صماماً على الشعر في فرنسا بعد راسين، وفي إنجلترا بعد درايدن. واتخذ الشعر في أفضل نماذجه شكل النحت بالإزميل، ولكنه فقد دفء التصوير ولونه. ومع ذلك كان من الخير أن يدخل هدف العقل إلى ساحة الأدب المحض، فقد كتب الكثير جداً من اللغو عن الحب والرعاة، واحتاجت أوربا إلى احتقار بوالو الغاضب حتى تطهر ذلك الجو الأدبي، جو السخف والتكلف والعاطفة السطحية. وربما كان الفضل لبوالو في ارتفاع موليير من "الفارص" إلى الفلسفة، وفي محاولة راسين البلوغ بفنه إلى مرتبة الكمال.
وكان مما يتلاءم وطبيعة بوالو تماماً مسلكه بعد أن اشترى بيتاً وحديقة في أتوى بفضل نفحة من نفحات الملك (1687)، فهو لم يذكر شيئاً في كتاباته عن الطبيعة المحيطة به اللهم إلى أنه من تلك الحقول اتخذ الآن اسم "دسبريو". هناك عاش أكثر ما بقي له من أجل في هدوء بسيط، لا يزور البلاط إطلاقاً، ويرحب ترحيباً حاراً بأصدقائه. وقد لاحظ الناس أن "له أصدقاء كثيرين رغم أنه تكلم بسوء عن كل إنسان(54)". وكان فيه من الشجاعة ما حمله على الإعراب عن عطفة على البور رويال، وعلى أن يخبر يسوعياً بأن رسائل بسكال الإقليمية إحدى ورائع النثر الفرنسي. وقد عمر بعد موت جميع أفراد الجماعة التي كان منظرها المرموق: فموليير لقي ربه منذ أمد بعيد، ثم لحق به لافونتيين في 1693، ثم راسين في 1699، وتحدث الهجاء العجوز العليل بتأثر عن "الأعزاء الذين فقدناهم، والذين اختفوا كأنهم حلم إنسان استيقظ من نومه(55)" وحين دنت منيته غادر أوتوى وذهب ليموت (1711) في مسكن كاهن اعترافه بصومعة النوتردام، مؤملاً أن لا يجرؤ الشيطان على أن يمسه بسوء هناك.
الاحتجاج الرومانسي
لم تقبل سيدات المجتمع على القواعد الكلاسيكية-قواعد العقل، والاعتدال، وضبط النفس-إقبال كورنبي العجوز وراسين الشاب. ذلك أن عالمهن كان عالم الوجدان والرومانس،وقد حفزت "زيجات المصلحة" التي كن يعقدن أوهام الغرام أكثر مما صدتها. ومن ثم نرى الرواية الرومانسية تنمو-جنباً إلى جنب مع الدراما الكلاسيكية- حتى تتضخم حجماً وتلقى استحساناً واسعاً وتؤثر تأثيراً دولياً. ولم تكن سيدات المجتمع في فرنسا ليشبعن من هذه الروايات، ولكن يجدنها مفرطة في الطول، وآية ذلك أنه حين توقف "جوتييه دلا كالبرونيد" عن المضي في روايته "كليوبطرة" بعد أن كتب فيها عشرة أجزاء (1656)، رفضت خطيبته أن تتزوجه إلا إذا ختمها بجزأين آخرين(56). وقد استرقت الآنسة مادلين دسكوديري قلوب نصف فرنسا بوايتها "آرتامين أو كورش الكبير" (1649-53)، و"كليلي" (1654-60) ولكتاهما في عشرة مجلدات. وأشبع غرور المجتمع الفرنسي أن يجد الشخوص في هذا الإنتاج الرومانسي الغزير، تحت أسماء مستعارة، تصف أعلام العصر وأقطابه المشهورين وتميط اللثام عنهم. وما لبثت سيدات الصالونات وسادته أن أطلقوا على أنفسهم أسماء من هذه الروايات، وتعلموا فنون التنهد والإنكار شأن أبطالهم وبطلاتهم، وأصبحت الآنسة دسكوديري نفسها تسمى "سافو"، وكذلك كانت تنادي في الصالونات إلى نهاية عمرها الذي بلغ أربعة وتسعين عاماً. وقد كتبت لتسر أخاها جورج، ونشرت كتبها تحت اسمه؛ وآثرت أن ترعاه على أن تتزوج. وظل سلطانها على النساء المثقفات والرجال المعطرين إلى أن غيرت مسرحيتا موليير "المتحذلقات المضحكات" و"النساء العالمات" من اتجاه الأذواق العالمية، وهنا حبست مادلين في شجاعة آخر مجلد من مجلداتها التسعين عن النشر. والذين يشكون الفراغ قد يجدون إلى اليوم في صفحات "كورش الكبير" الخمس عشرة ألف، أو صفحات "كليلي"، العشرة الآلاف، فقرات تتميز برقة العاطفة، أو تنفرد بتحليل الخلق. كذلك تستحق لاسكوديري أن تتذكرها لما قامت به من جهد في سبيل النهوض بتعليم النساء في فرنسا.
وأما "ماري مادلين بيوش لافيرن"، التي أصبح اسمها بعد الزواج الكونتيسة لافاييت، فهي شخصية أكثر فتنة، لأنها لم تكتب قصة رومانسية شهيرة فحسب، بل عاشت أيضاً قصة أشهر. وقد أتيح لها تعليم مكتمل على غير العادة، ثم ذهبت لتعيش في أوفرن بعد زواجها (1655). ولكنها حين وجدت الحياة هناك مملة اتفقت مع زوجها على الانفصال (1659)، وذهبت إلى باريس، وانضمت إلى الجماعة التي تلتقي في قصر رامبوييه. ثم أصبحت وصيفة الشرف لمدام هنربيتا، وخلدتها بعد حين في مذكرات تفيض محبة. وكانت قريبة وصديقة لمدام دسفينييه التي كتبت تقول فيها بعد عشرة أربعين عاماً "لم تحجب سماء صداقتنا أقل سحابة، ولا أبلى طول الألفة من فضائلها في نظري، فقد كان شذاها على الدوام نظراً جديداً(57)". وتلك تحية للطرفين قل أن تجد لها نظيراً، لأن الصداقات تبلى كالحب الرومانسي. وسنلتقي بمزيج نادر من الحب والصداقة في علاقات مدام دلافاييت بلاروشفوكو. وقد وقعت على الجديد الثوري حين قررت أن تبارز بقلمها الآنسة دسكوديري. ذلك أنها كتبت رواية في مجلد واجد لا يزيد طولها على مائتي صفحة. واعتنقت مبدأ مؤداه أنه إذا تساوت كل الاعتبارات الأخرى فإن خير الكتب ما حذف أكثر ما في نصه الأصلي، فكل جملة تحذف تضيف جنيهاً ذهبياً لقيمة الكتاب، وكل كلمة تحذف نضيف عشرين فلساً. وبعد أن نشرت أعملاً صغيرة ألفت (1672) ونشرت (1678) رائعتها المسماة "أمير كليف". وحبكة الرواية (إن شئنا أن نخلط بين الاستعارات) هي مثلث ذو مماس. فالآنسة شارتر فتاة بارعة الجمال ولكن في تواضع يجعل من أمير كليف عبداً لها لأول نظرة. وتتزوجه عملاً بنصيحة أمها، ولكنها لا تشعر نحوه شعوراً أحر من الاحترام. وما يلبث دوق نيمور أن يراها فيهيم بها لتوه، وتصده هي في إحساس بالفضيلة، ولكن إلحاحه المحموم يمس قلبها، وشيئاً فشيئاً تتحول الشفقة فيها حباً. وتعترف بهذا التطور لزوجها، وتتوسل إليه أن يبعدها عن القصر وعن التجربة، ولكنه لا يستطيع أن يصدق أنها وفية له، فيخترمه الهم حتى يقتله، وكأن قرنيه الوهميين خرقا حلقه. أما الأميرة فتصد الدوق وضميرها يبكتها على موت الأمير، وتكرس ما بقي لها من عمر لأعمال البر. وقد علق "بيل" الشكاك على القصة بقوله: لو أن امرأة بهذا الطهر والوفاء وجدت في فرنسا لمشى ألفا ومائتي ميل ليرها.
ونشر الكتاب غفلاً من اسم المؤلفة، ولكن سرعان ما أستقر رأي الأوساط الأدبية على أنه إحدى ثمرات علاقة حميمة مشهورة آنذاك. قالت الآنسة سكوديري: (لقد كتب مسيو دلاروشفوكو ومدام دلافاييت رواية...قيل لي أنها كتبت على نحو يثير الإعجاب(59))، ولكنها أضافت "أنهما لم يعودا في سن تسمح لهما بالاشتراك معاً في أي عمل غير هذا(60)". ولكن كلا المؤلفين المزعومين أنكرا تأليف الرواية. وكتبت لاسكوديري تقول "إن الأميرة كليف أرملة مسكينة تبرأ منها أبوها وأمها". أياً كان الأمر، فقد أجمع الكل على أنها أروع رواية كتبت في فرنسا إلى ذلك الحين. واعترف فونتنيل بأن قرأها أربع مرات، وكان رأي بوالو، عدو الرومانس، في مدام دلافايين أنها "أبدع عقل وأفضل كاتبة بين نساء فرنسا". ويقر التاريخ لأميرة كليف بأنها من أول الروايات السيكولوجية وما زالت من أفضلها. وهي الرواية الفرنسية الوحيدة من روايات ذلك العصر التي ما زال في الإمكان قراءتها دون ما ألم.
مدام دسفينييه 1626 - 1696
ولكن بقي من آثار ذلك العصر عشرة مجلدات-من تأليف امرأة أيضاً-في الإمكان قراءتها في بهجة مستسلمة حتى في نبض زماننا السريع. والمؤلفة، وهي واري درابوتان-شانتال، فقدت أبويها في طفولتها وورثت ثروتهما الكبيرة. وقد شارك في تعليمها نفر من خيرة العقول في فرنسا، ونشأتها خيرة الأسر في فرنسا على فنون الحياة. فلما بلغت الثامنة عشرة تزوجت هنري، مركيز دسفينييه، ولكن هذا الزير كان يحب مالها أكثر من شخصها، وبدد بعضه على خليلاته، وبارز خصماً بسبب إحداهن، وقتل في المبارزة (1651). وحاولت ماري أن تنساه، ولكنها لم تتزوج بعده، بل فرغت لتربية ابنها وابنتها. ولعلها كما ألمح ابن عمها الحقود بوسي-رابوتان كانت "ذات مزاج بارد"(61) أو لعلها تعلمت أن الجنس يستنزف الذات أما الأمومة فتحققها. وخطاباتها تفيض سعادة، كلها تقريباً سعادة الأمومة. ولقد أحبت المجتمع بقدر ما تشككت في الزواج. وكان لها، وهي الأرملة الشابة التي تملك ثروة بلغت 350.000 جنيه(62)، خطاب كثيرون من النبلاء-تورين، وروهان، وبوسي...ولم ترَ معنى لطردهم جميعاً إلا واحداً، ومع ذلك لم تلوث سمعتها كلمة فضيحة أو علاقة محرمة واحدة. وكان أصدقاؤها يحبونها بإخلاص أكثر صدقاً-ومنهم دريتز، ولاروشفوكو، ومدام دلافاييت، وفوكيه. أما الأول والثاني فقد أقصيا عن القصر لاشتراكهما في حرب الفروند، وأما الأخير فلثروته التي لم يستطع تعليلها، ولم تلقَ مدام دسفينيه، الوفية وفاءاً حاراً للأربعة على السواء، ترحيباً في الرحاب الملكية المقدسة وإمالة كلمات متفضلة من الملك في حفلة مثلت فيها مسرحية إستير بسان-سير. أما في خارج البلاط فكانت دوائر كثيرة تبتهج بصحبتها، لأنها كانت تملك كل مفاتن المرأة المثقفة، كانت تتكلم بنفس الحيوية التي تكتب بها، وذلك إطراء يناقض إطراء ألفناه أكثر منه؛ فطالما يسدي إلينا النصح، ربما في غير تبصر، بأن نكتب كما نتكلم. وقد بق من رسائلها أكثر من ألف وخمسمائة، وجلها موجه لابنتها، فرنسواز مارجريت. التي تزوجت الكونت دجرينيان (1669)، وسرعان ما رحلت إلى بروفانس لتعيش معه، وكان نائباً لحاكمها. فظلت الأم من 1671 إلى 1690 تبعث بخطاب مع كل بريد تقريباً-وأحياناً مرتين في اليوم-إلى هذه الزوجة الشابة التي فصلتها عنه أرض فرنسا كلها طولاً. كتبت تقول لها "إن مراسلتي لك هي عافيتي، ولذة حياتي الوحيدة، وكل اعتبار آخر يتضاءل بالقياس إلى هذا(63)". ذلك أن الحب الذي لم يجد رجلاً يشبعه أصبح غراماً مشبوباً بابنة أحست أنها غير جديرة به، لأن فرانسواز كانت ذات خلق أكثر تحفظاً، ولم تعرف كيف تعرب عن مشاعرها بحرارة. ثم كان لها زوج وأطفال يتطلبون العناية بهم، وكانت أحياناً تصبح ضيقة الخلق أو مكتئبة المزاج، ومع ذلك ظلت طوال خمسة وعشرين سنة، إلا في فترات مرضها، تكتب لأمها مرتين في الأسبوع، لا يفوتها بريد إلا نادراً، حتى لقد أقلق الأم المتينة بها أن تكون قد جارت على وقت ابنتها. وأبلغ ما في هذه الرسائل تأثيراً على النفس ما روى حياة طفلة مدام جربنيان البكر ونهاية هذه الحياة في الدبر. ذلك أنها قدمت باريس لتلد في كنف أمها. وما لبثت أن أرسلت إلى زوجها اعتذاراً لأنها ولدت بنتاً-لابد من تربيتها بجهد أليم، ومهرها بمهر غالٍ، ثم فقدها؛ ولما عادت فرنسواز إلى بروفانس تركت ماري بلانش الصغيرة حيناً مع جدتها التي افتتنت بها. وكتبت مدام دسفنييه للأب تقول "إن كنت تريد ولداً فاعكف على صنعه(64)" كتبت للوالدين اللذين لم يقدرا طفلتهما تفاصيل نشوانة عن العجيبة التي أنجباها كارهين:
"إن ابنتكما الصغيرة تغدو محببة للنفس...بيضاء كالثلج، ضاحكة على الدوام...ولون بشرتها، وعنقها، وجسدها الصغير-كلها عجيب. وهي تقوم بعشرات الحركات الصغيرة-تثرثر، وتلاطف، وتضرب، وترسم علامة الصليب، وتطلب العفو، وتنحني، وتقبل يدها، وتهز كتفيها، وترقص، وتتملق، وتشد الأذن...وأنا ألهو معها ساعات بطولها".
وقد ذرفت الجدة دموعاً كثيرة لتدع هذه العجيبة الريانة البدن تذهب إلى بوفانس، ودموعاً أكثر حين أودعها الأبوان ديراً وهي لم تتجاوز الخامسة، ولم تعد الطفلة بعدها، ففي الخامسة عشرة قطعت على نفسها عهد الرهبنة واختفت من العالم. وكان نائب الحاكم رجلاً متلافاً، يولم الولائم فوق ما يسمح به مركزه. وكانت زوجته تنبئ أمها بانتظام بما تتوقعه من قرب إفلاسهما، أما الأم فكانت توبخهما في محبة وترسل لهما المبالغ الكبيرة من المال "كيف، بحق محبة الله والناس، يستطيع إنسان أن يحتفظ بهذا القدر الكبير من الذهب والفضة والحلي والأثاث وسط الفقر المدقع الذي ابتلي به من يحيط بنا من الفقراء في هذه الأيام(66)". ورغبة في الاحتفاظ بقدرتها المالية بعد هذه الاستقطاعات، كانت مدام دسفينييه تعنى بتفقد أملاكها في لي روشيه بإقليم بريتني لتستوثق من أنها تلقى الرعاية الواجبة، ومن أن ريعها يصلها بعد اختلاسات معقولة. ووجدت سعادة جديدة في الحقول، والغابات، وفلاحي بريتني، وكتبت عنهم بنفس الحيوية التي كتبت بها عن المجتمع الباريسي الذي كانت له أشبه برسالة نصف أسبوعية لابنتها. وكان ابنها مشكلاً من نوع آخر. فهي شديدة التعلق به لأنه فتى طيب، يملك كما قالت "معيناً من الذكاء وروح الفكاهة...وقد ألف أن يقرأ علينا فصولاً من رابليه يكاد يموت السامع من الضحك عليها"(67). وكان شارل ابناً مثالياً، إلا إذا استثنينا ترسمه خطى أبيه في التنقل من إغراء إلى إغراء، إلى أن-ولكن لندع مدام دسفينيه، وهي تكتب لابنتها، تتحمل تبعة باقي القصة، فلا شيء أكثر إيضاحاً لطابع العصر:
"بقيت كلمة أو كلمتان عن شقيقكِ...فبالأمس أراد أن يقص عليّ نبأ حادث مروع وقع له. ذلك أنه صادف لحظة سعيدة، ولكن حين وصل إلى بيت القصيد-كان شيئاً عجيباً! فإن الفتاة المسكينة لم يرفه عنها أحد في حياتها قط بمثل هذا، أما الفارس فقد تقهقر بعد أن هزم شر هزيمة، وظن أن سحراً ألقي عليه، وألطف ما في القصة أنه لم يشعر بالراحة إلا بعد أن أنبأني بكارثته. وضحكنا عليه حتى استلقينا، وقلت له أنني مغتبطة جداً لأنه عوقب حين أثم.....لقد كان منظراً يستحق أن يسجله موليير(68)". وأصيب الفتى بالزهري، فعنفته؛ ولكنها مرضته في حب. وحاولت أن تبث فيه شيئاً من الدين، ولكن نصيبها من الدين كان من الضآلة بحيث لم تستطع أن تعطيه الكثير منه. وقد تأثرت بمواعظ بوردالو، وخبرت دفقات فجائية من التقوى، ولكنها كانت تبتسم حين ترى المواكب الدينية التي أبهجت أهل المساكن الفقيرة. وقرأت آرنو، ونيكول، وبسكال، وتعاطفت مع ألبور-رويال، ولكن صدها تركيزهم على تجنب الهلاك الأبدي، ذلك أنها لم تستطع أن تقنع نفسها بالإيمان بالجحيم(60). وكانت على العموم تجفل من التفكير الجاد، فمثل هذه الأمور ليست للنساء، ومن شأنها أن تعكر جمال الحياة الوادعة. ومع ذلك كانت ذواقة في قراءاتها-تقرأ فيرجل وناسيتوس والقديس أوغسطين باللاتينية، ومونتيني بالفرنسية، وتعرف مسرحيات كورنبي وراسين معرفة وثيقة. أما فكاهتها فكانت أعمق وأبهج من فكاهة موليير. فلنستمع إليها تتحدث عن صديق مدمن للتأمل الشارد:
"انقلب برانكا قبل أيام في مصرف وجد نفسه فيه مرتاحاً جداً حتى لقد سأل من سارعوا ليخرجوه منه أبهم حاجة إلى خدماته. وقد كسرت نظارته، ولولا أن حظه كان خيراً لكسر رأسه أيضاً، ولكن هذا كله لم يقطع تأملاته قط. وقد أرسلت له كلمة هذا الصباح...أنبئه فيها أنه انقلب وكاد عنقه يدق، لأنني اعتقد أنه الشخص الوحيد الذي لم يسمع بالحادث في باريس".
وهذه الرسائل في مجموعها تؤلف صورة من أكثر الصور كشفاً في الدب، لأن المركيزة تسجل فيها أخطاءها وفضائلها دون تحفظ. فهي الأم المحبة، التي تجد نفسها على سجيتها سواء في صالونات العاصمة أو في حقول بريتني، وهي تكتب لابنتها عن أتفه أحاديث الأرستقراطية وقيلها وقالها، ولكنها تقول أيضاً "إن البلبل، والوقواق، والهزاز-كلها بدأت تصدح في ربيع الغابات"، وندر أن تفوه بكلمة سوء عن مئات الأشخاص الذي يرفون خلال صفحاتها الألفين، وهي على الدوام مستعدة لمديد المعونة للمكروبين، مجملة حديثها بالرقيق من التحية والمجاملة، مذنبة بين الحين والحين بالمرح القاسي (كضحكها على شنق بعض المتمردين المساكين في برتني)، ولكنها مرهفة الإحساس بآلام الفقراء، وهي تغضي عن فساد زمانها وطبقتها، ولكنها بلا لوم في سيرتها الشخصية؛ إنها روح تفيض بالنية الطيبة وحب الحياة، فيها من التواضع ما يمنعها من نشر كتاب، ولكنها تكتب أفضل فرنسية في عصر أفضل فرنسية كتبت على الإطلاق.
ترى هل خطر ببالها أن رسائلها قد تنشر في يوم ما؟ كانت أحياناً تسترسل في تحليقات من البلاغة كأنها تشم مداد المطابع، غير أن رسائلها حافلة بتفاصيل العمل، وبالمصارحات العاطفية، والمكاشفات المحرجة التي لا يمكن أن تكون قصدت على القراء. كانت تعلم أن ابنتها تطلع أصدقاءها على رسائلها، ولكن مثل هذه المشاركة كانت كثيرة في تلك الأيام، حين كادت المراسلة أن تكون وسيلة الاتصال الوحيدة بين المسافات الطويلة، وقد ورثت وحفظت الرسائل حفيدتها بولين، التي منعتها من أن تدخل ديراً كما فعلت شقيقتها بلانش ماري، ولكنها لم تنشر إلا عام 1726، بعد موت المركيزة بثلاثين عاماً. وهي اليوم من أغلى عيون الأدب الفرنسي، وكأنها باقة زهر غنية يزداد عبيرها انتشاراً على الأيام.
وازداد تفكيرها في الدين كلما دنت نهايتها، وقد اعترفت بخوفها من الموت والحساب. وبين ضباب بريتني ومطر باريس أصابها الروماتزم، ففقدت فرحتها بالحياة، وأدركت أنها بشر فانٍ.
"لقد ولجت الحياة دون رضاي، ويجب أن أخرج منها؛ هذه الفكرة تطغى علي..وكيف أخرج؟...ومتى؟..إنني أدفن نفسي في هذه الأفكار، وأجد الموت شديد الرهبة حتى لأبغض الحياة لأنها تفضي بي إلى الموت أكثر من بغضي لها لما يملؤها من أشواك. ستقولين أنني أريد أن أحيا إلى الأبد. ليس الأمر كذلك مطلقاً، ولكن لو أخذ رأيي لآثرت أن أموت بين ذراعي مربيتي، فقد كان هذا خليقاً بأن يوفر علي اضطرابات الروح ويكفل لي الجنة في كل يقين ويسر(71)". وليس صحيحاً أنها بغضت الحياة لأنها تفضي بالموت، إنما هي أبغضت الموت لأنها استمتعت بالحياة استمتاعاً شديداً قرابة سبعين عاماً. وإذ كانت أمنيتها أن تموت في بيت ابنتها الحبيبة، فإنها عبرت فرنسا خلال أربعمائة ميل في رحلة عذاب إلى شاتو جرينيان. فلما أقبل الموت لقيته بشجاعة أدهشتها، ووجدت العزاء في تناول الأسرار المقدسة، وعللت نفسها بالخلود. ولقد وهب لها الخلود حقاً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لاروشفوكو 1613-1680
شتان ما بين هذا الروح، وروح أشهر الكلبيين المحدثين، وأقسى من مزق القناع عن نقائصنا، ذلك العليل المكتئب الذي شوه سمعة النساء وافترى على الحب، والذي أحبته ثلاث نساء حتى الموت. كان النبيل السادس المسمى فرانسوا دلاروشفوكو، سليل أسلاف كثيرين من الأمراء والكونتات، والابن البكر للرئيس الأكبر لإدارة الملابس والحلي للملكة والوصية ماري دمديتشي.
وكان اسمه الأمير مارسياك إلى أن ورث لقب الدوقية عند وفاة أبيه (1650). وقد تلقى التعليم في اللاتينية والرياضيات والموسيقى والرقص والمبارزة والأنساب والأتكيت. فلما ناهز الرابعة عشرة تزوج بتدبير أبيه من أندريه دفيفون، الابنة الوحيدة والوريثة لبازبار فرنسا الكبير المتوفى. وحين بلغ الخامسة عشرة أمر على فوج من الفرسان، وفي السادسة عشرة اشترى رتبة الكولونيل. وكان يختلف إلى صالون مدام درامبوييه الذي هذب عاداته وصقل أسلوبه. ومع كل مثالية الشباب وإثارة للنساء الناضجات نراه يعشق الملكة، ومدام دشفروز، والآنسة دهوتفور. وحين تآمرت آن النمساوية على ريشليو استخدمت فرانسوا، ثم كشف أمره، وأودع الباستيل أسبوعاً (1636). فلما أفرج عنه سريعاً نفي إلى ضيعة أسرته بفيرتوي. وراضَ نفسه حيناً عل العيش مع زوجته، ولاعب ولديه الصغيرين فرانسوا وشارل، وتعلم أن للريف مباهج لا تستطيع فهمها غير المدينة.وفي تلك الأيام لم يكن ممكناً فصم عرى الزواج الشرعي بين الطبقات العليا الفرنسية، ولكم كان من الممكن تجاهلها. وبعد أن قضى الأمير عشر سنوات في زواج المرأة الواحدة الذي أضجره، انطلق للمغامرة في الحب والحرب. وحين استهدفت عيناه مدام دلونجفيل (1646) لم يعد دافعه إلى ذلك حب مثالي، بل تصميم على الاستيلاء على قلعة منيعة مشهورة، لأنه مما يرفع من قدره أن يغوي زوجة لدوق وأختاً لكونديه العظيم. أما هي فلعلها ارتضته لأسباب سياسة، فقد يكون حليفا، نافعاً في التمرد الأرستقراطي الذي اعتزمت أن تلعب فيه دوراً نشيطاً. ولما أخبرته أنها حبلت منه(72)، منح كل تأييده للفروند. وفي 1652 نبذته واتخذت الدوق نيمور عشيقاً، وحاول لاروشفوكو إقناع نفسه بأن ذلك ما كان يصبوا إليه، وكما قال بعد ذلك "حين نحب إنساناً إلى درجة الملل...فإننا نرحب أشد الترحيب...بفعل من أفعال الخيانة يبرر تحللنا من ذلك الحب(73)" في ذلك العام، وفيما كان يحارب في صفوف الفروند في ضاحية سانت أنطوان، أصابه رش بندقية في عينيه وخلف به عمى جزئياً. فانكفأ راجعاً إلى فيرتوى.
وكان الآن في الأربعين، يحس بوادر النقرس، ويشعر المرارة من كوارث أكثرها من صنعه. أما مثاليته فماتت في إثر مدام دلونجفيل، وفي مؤامرات الفروند الخداعة والنهاية الحقيرة التي انتهت إليها. وقد أزجى فراغه ودافع عن سيرته في "مذكرات" (1662) دل فيها على عظيم تمكنه من الأسلوب الكلاسيكي. وفي 1661 سمح له بالعودة إلى البلاط، ومنذ ذلك التاريخ قسم وقته بين زوجته في فيرتوى وأصحابه في صالونات باريس.
وكان أحب الصالونات إليه صالون مدام دسابليه. هناك كانت هي وضيوفها يلعبون أحياناً لعبة "العبارات". يعلق أحدهم بعبارة على الطبيعة البشرية أو سلوك الإنسان، فتتقاذف الجماعة العبارة فيما بينها تأييداً واعتراضاً. وكانت مدام دسابليه جارة وصديقة مخلصة للبور-رويال-دباري، فاعتنقت رأيه في شر الإنسان الفطري وخواء الحياة الدنيوية، ولعل تشاؤم لاروشفوكو الناجم عن خيبته في الحب والحرب، وعن الخيانه السياسية والألم البدني، وعن خدعه غيره وانخداعه بالغير-نقول لعل هذا التشاؤم وجد مساندة قليلة من جانسنيه مضيفته. وكان يجد لذة قاتمة في تهذيب عباراته وعبارات غيره وغربلتها على مهل، وسمح لمدام دسابليه وغيرها من الأصدقاء بأن يقرؤوا هذا الحكم، وأن يعدلوا فيها أحياناً. وقد نسخها أحد هؤلاء، وطبع ناشر لص هولندي 179 منها، غفلاً من اسم المؤلف، حوالي سنة 1663، وتبين فيها رواد الصالونات حكم لاروشفوكو، ثم أصدر المؤلف نفسه طبعة أفضل أضاف إليها 317 مثلاً عام 1665 تحت عنوان "عبارات وأمثال أخلاقية". وأصبح هذا الكتيب الذي اختزل الناس اسمه بعد قليل إلى "الأمثال"، من عيون الأدب للتو تقريباً. ولم يعجب القراء بأسلوبه الدقيق المحكم الأنيق فحسب، بل أنهم استمتعوا بما حوى من فضح لأثرة الغير. ولم يفطنوا إلى أن القصة إنما تروى عنهم، إلا فيما ندر.
ووجهة نظر لاروشفوكو أوردها ثاني أمثاله: "إن حب الذات هو حب الإنسان لنفسه، ولأي شيء آخر لأجله. وحياة الإنسان كلها ليست إلا ممارسة متصلة لهذا الحب وتحريضاً قوياً له" وليس الغرور إلا شكلاً من الأشكال الكثيرة التي يتخذها حب الذات، ولكن حتى هذا الشكل يدخل في كل فعل وفكر تقريباً، وقد تنام شهواتنا أحياناً، ولكن غرورنا لا يهدأ أبداً "إن الذي يرفض الثناء أول مرة يرفضه أنه يريد سماعه ثانية". والتلهف على استحسان الناس لنا هو الأصل لكل الأدب والبطولات الواعية. "وكل الناس يستوون كبرياء، والفرق الوحيد هو أنهم لا يتبعون كلهم نفس الطرق في إبدائها". "إن الفضائل تضيع في المصلحة الذاتية كما تضيع الأنهار في البحر". "ولو تأملنا أفكارنا الخفية لوجدنا في صدورنا بذرة كل الرذائل التي نستنكرها في غيرنا" ولاستطعنا أن نحكم من الواقع فسادنا الشخصي على الفساد المتأصل في الإنسان. وما نحن إلا عبيد شهواتنا، وإذا قهرت شهوة منها فقاهرها ليس العقل بل شهوة أخرى، "والعقل يستغفله الوجدان دائماً"، "والناس لا يشتهون شيئاً بلهفة إذا طلبوه انصياعا لأوامر العقل فقط"، "وأبسط الناس إذا أعانته العاطفة المشبوبة سينتصر أكثر من أفصح الناس بدونها".
وفن الحياة يكمن في إخفائنا حب ذواتنا بقدر يكفي لتجنب إغضاب حب الغير لذواتهم. وعلينا أن نتظاهر بقدر من الإيثار "إن النفاق ضرب من الاحترام الذي تقدمه الرذيلة للفضيلة". واحتقار الفيلسوف المزعوم للثراء أو عراقة النسب ليس إلا طريقته في الترويج لبضاعته. وما الصداقة "إلا تجارة لا يفتأ حب الذات يطلب الكسب من ورائها" وقد نقيس إخلاصها إذا لاحظنا أننا نجد في نكبات أصدقائنا شيئاً ليس كله مسيئاً. ونحن نبادر إلى الصفح عمن أساءوا إلينا بأسرع من صفحنا عمن أسأنا إليهم، أو عمن تفضلوا علينا-فألزمونا-بخدماتهم. والمجتمع حرب بين الفرد والكل. "والحب الصادق أشبه بالأشباح-شيء يتحدث عنه كل إنسان ولكن نادراً ما رآه أحد"، و"ما كنا لنقع في الحب قط لولا سمعنا الناس يتكلمون في الحب". ومع ذلك فالحب إذا كان صادقاً تجربة فيها من العمق ما يجعل النساء اللاتي عرفن الحب مرة ضعيفات القدرة على الصداقة، لأنهن يجدنها باردة غثة بالقياس إلى الحب ومن هنا لم يكن للنساء وجود تقريباً إلا وهن في الحب "قد تلقى نساء لم يسبق لهن غرام غط، ولكن من العسير جداً أن تجد نساء لم يقعن إلا في غرام واحد لا أكثر". "وأكثر النساء المحصنات كالكنوز المخفاة، التي لم تكن في مأمن إلا لأن أحداً لم يفتش عنها". وكان هذا الكلبي العليل عليماً بأن هذه الحكم البارعة ليست وصفاً منصفاً للبشر. لذلك راح يتجنب الجزم في الكثير منها بألفاظ مثل "تكاد" أو "تقريباً" إلى غير ذلك من التحفظات الفلسفية، وقد اعترف أنه "أسهل أن يعرف المرء النوع الإنساني عموماً من أن يعرف إنساناً واحداً بالذات"، وسلمت المقدمة بأن أمثاله لا تصدق على "المحظوظين القلائل، الذين سرت السماء بأن تحفظهم...بنعمة خاصة". ولابد أنه سلك نفسه في زمرة هؤلاء القلائل، لأنه كتب: "إنني أخلص لأصدقائي إخلاصاً لا أتردد معه لحظة في التضحية بمصالحي في سبيل مصالحهم".-ولو أنه كان بلا شك يفسر هذا بأنه راجع لأنه يجد في بذل مثل هذه التضحية لذة أكثر مما يجده في منعها. وقد تحدث بين الحين والحين عن "عرفان الجميل، فضيلة العقول الحكيمة السمحة"، و"الحب، النقي الذي لا تشوبه شهوة (إذا وجد إطلاقاً)، الذي يكمن في أعماق قلوبنا" و"مع أنه يمكن القول ، بقدر كبير من الصدق..،أن الناس لا يفعلون شيئاً دون مراعاة لمصلحتهم، إلا أنه لا يستتبع هذا أن كل ما يفعلوه فاسد، وأنه لم يبق في الدنيا شيء اسمه العدالة أو الأمانة. فالناس قد يحكمون أنفسهم بوسائل شريفة، ويختطون (لأنفسهم) مصالح كلها الخير والنبل".
وقد ألانت الشيخوخة جانب لاروشفوكو، حتى وهي تزيده شجناً على شجن. ففي 1670 ماتت زوجته ثلاثة وأربعين عاماً من الوفاء الصابر، وبعد أن أنجبت له ثمانية أطفال، وقامت على تمريضه طوال الأعوام الثمانية عشر الأخيرة. وفي 1672 ماتت أمه، وقد اعترف أن حياتها كانت معجزة طويلة من المحبة. وفي تلك السنة جرح اثنان من أبنائه في غزوة هولندا، ومات أحدهما من جروحه. كذلك سقط في نفس الحرب الفاجرة ابنه غير الشرعي الذي ولدته له مدام دلونجفيل، والذي لم يؤذن له بأن يطالب به ابناً برغم أنه أحبه حباً عميقاً. روت مدام دسفينييه "رأيت لاروشفوكو يبكي في حنان جعلني أعبده(96)". ترى أكان حبه لأمه وأولاده حباً لذاته؟ أجل، إذا نظرنا إليهم على أنهم جزء من ذاته وامتدادها لها. وهذا هو التصالح بين الإيثار والأثرة-فلإيثار توزيع للذات، ولمحبة الذات، للأسرة، أو الأصدقاء، أو الجماعة. وفي وسع المجتمع أن يقنع بمثل هذه الأنانية السمحة الشاملة.
ومن أكثر ملاحظات لاروشفوكو سطحية قوله "أن فضل القليل من النساء يدوم أطول من جمالهن". لقد كانت أمه وزوجته استثنائين، ولم يكن الكرم تجاهل آلاف النساء اللاتي ضيعن جمالهن الجسدي في خدمة الرجل والأطفال. وفي 1665 بذلت امرأة ثالثة معظم حياتها. ولا شك في أن مدام دلافاييت أرضت قلبها هي وهي تحاول أن تسري عنه. فلقد كان يومها في الثانية والخمسين، يشكو النقرس ونصف العمى، أما هي فكانت في الثالثة والثلاثين، محتفظة بجمالها، ولكنها عليلة تشكو حمى الملاريا. ولقد روعها ما في أمثاله من كلبية، ولعل فكرة سارة بإصلاح هذا الرجل الشقي والتسرية عنه خالطت رأيها فيه، فدعته إلى بيتها في باريس، فجاء محمولاً على محفة، فعصبت قدمه الموجوعة ووسدتها، وأتت بأصحابها، ومنهم مدام دسفينييه المتدفقة العاطفة ليساعدنها في الترويح عنه. وعاد إليها ثانية، وكثرت زياراته حتى لغطت بها باريس. ولا علم لنا هل دخلت في هذه الزيارات الألفة الجنسية، ولكنها على أية حال كانت جزءاً صغيراً في علاقة أصبحت تبادلاً بين الأرواح. قالت "لقد أعطاني الفهم، ولكنني أصلحت قلبه(98)". ولعله ساعدها في روايتها "أميرة كليف" وإن بعدت رقتها وحنانها عن قسوة "أمثاله" بعد السماء عن الأرض.
وبعد أن ماتت مدام دلاروشفوكو أصبحت هذه الصداقة التاريخية ضرباً من الزواج الروحي، وفي الأدب الفرنسي صور كثيرة لهذه المرأة القصيرة الضعيفة الجسد، تجلس في هدوء إلى جوار الفيلسوف العجوز الذي أقعده الألم عن الحركة. قالت مدام دسفينييه "لا شيء يمكن أن يقارن بسحر صداقتهما وثقتها(99)". وقال بعضهم إن المسيحية تبدأ حيث ينتهي لاروشفوكو(100)، وقد تبينت صحة القول في هذه الحالة، ولعل مدام دلافاييت الصادقة الورعة أقنعته بأن الدين هو الكفيل بالإجابة عن مشكلات الفلسفة. ولما شعر بدنو أجله طلب إلى الأسقف بوسويه أن يناوله الأسرار المقدسة الأخيرة (1680). وقد عمرت صديقته بعده ثلاثة عشر عاماً حافلة بالألم.
لابرويير 1645 - 1696
بعد موت لاروشفوكو بثمانية أعوام أكد جان دلابرويير تحليله الساخر للآدميين من أهل باريس. وكان جان ابن موظف صغير في الحكومة. درس القانون، واشترى وظيفة حكومية صغيرة، وأصبح معلماً خاصاً لحفيد كونديه العظيم، وخدم أسرة كونديه وصيفاً، وتبعها إلى شانتبي وفرساي. وقد ظل أعزب إلى نهاية حياته.
وقد عذبته حدة الفوارق الطبقية في فرنسا لما فطر عليه من حساسية وحياء، ولم يستطع الاستعانة بمظاهر الغرور اللطيفة التي ربما كانت تيسر له طريقه بين النبلاء وفي البلاط، وذلك رغم انتمائه إلى الطبقة الوسطى. وقد لاحظ معرض الوحوش الملكي بعين معادية نفاذة، وانتقم منها بوصفها في كتاب صب فيه كل عصارته الفكرية تقريباً، وقد سماه "الأخلاق لتيوفراست مترجمة عن الإغريقية، مع أخلاق أو عادات هذا العصر". وأصبح الكتاب حديث باريس. لأنه صور تحت أقنعة شفافة أشخاصاً مشهورين في المدينة أو البلاط، وجعل كلاً منهم يجد المتعة البالغة في فضح الباقين. ونشرت "مفاتيح" للكتاب تزعم أنها تطابق الصور مع أصولها، وأحتج لابرويير بأن أو أوجه الشبه عارضة، ولكن أحداً لم يصدق، وذاع صيته، ونفدت ثماني طبعات قبل موت المؤلف في 1696، وقد أضاف إلى كل طبعة "أخلاقاً" جديدة تبينت فيها باريس مرآة العصر.
ونحن الذين فقدنا اليوم مفتاح متحف الصور هذا تبدو لنا مادته هزيلة بعض الشيء، وأفكاره قديمة مبتذلة، وروحه يشوبها بعض الحسد، وهجاؤه سطحياً جداً، كهجائه لمينالكاس الرجل الشارد الذهن(101). ولا يطلب لابرويير أي تغيير في دين فرنسا أو حكومتها. وقد رأى أن من الخير أن يكون هناك فقراء، وإلا لكان العثور على الخدم عسيراً، ولما وجد أحد يستخرج المعادن أو يفلح الأرض، والخوف من الفقر لا غنى عنه لإنتاج الثروة(102). وكان يسلك بوسويه في عداد أصدقاءه مفاخراً بذلك، وقد أعاد في القسم الخير من كتابه "في أحرار الفكر" الحجج التي أعرب عنها الواعظ العظيم بحكم أفضل ونثر أرفع، وردد البراهين التي ساقها ديكارت عن الله والخلود، واستشهد بشيء من الحذق، في رده على اللاأدريين في زمانه بنظام السماوات وجلالها، وعلامات الهدف المرسوم في الكائنات الحية، والإحساس بتقرير المصير في الإرادة وباللامادية في الذهن. وهاجم غرور النبلاء، وجشع رجال المال وخنوع الحاشية الذين صورهم ينظرون إلى لويس لا إلى المذبح في كنيسة فرساي؛ ولكنه حرص على أن يقدم للملك باقات زهر يتقي بها غضبه(103). وفي فقرة واحدة على الأقل أزاح الحذر جانباً وتسامى في جرأة ليصف درك البهيمية الذي تردى فيه فلاحو فرنسا من جراء حروب الحكم وضرائبه. يقول: "انتشرت في أرجاء الريف حيوانات ضارية، ذكور وإناث، سوداء، ممتقعة، أحرقتها الشمس تماماً، والتصقت بالأرض التي تحفرها وتقلبها في إصرار لا يقهر، ولها ما يشبه الصوت المنطوق، فإذا انتصبت على قوائمها بدت في سحنة البش، والواقع أنها فاس من الناس(104)". وما زالت هذه الصفحة من أبلغ ما كتب في عصر فرنسا الكلاسيكي.
مزيد من الأدباء
هل نحشد الآن بغير نظام، بعد أن أصابنا الإعياء، في ملحق هياب بعض الخالدين الذين بدئوا يموتون؟ هناك جان شابلان، الذي أعان على تنظيم الأكاديمية الفرنسية، واعتبر في زمانه (1595-1674) أشعر شعراء فرنسا. وهناك جان باتيست روسو، الذي كتب شعراً ينسى، ولكنه كتب أيضاً إبجرامات مقذعة جرت عليه النفي من فرنسا (1712) عقاباً على تشهيره بالأشخاص. وقد كتب معظم النبلاء الذين اشتغلوا بالسياسة مذكرات، فرأينا مذكرات دريتز ولاروشفوكو، وسنرى في موضع لاحق مذكرات سان-سيمون. ويلي أولئك مرتبة تلك المجلدات الثلاثة التي سجلت فيها مدام دموتفيل بتواضع خلاب وقائع سنيها الاثنتين والعشرين التي قضتها في بلاط آن النمساوية. ونلاحظ أنها وافقت لاروشفوكو على رأيه إذ كتبت "إن تجربتي القاسية في صداقة البشر الزائفة أكرهتني على الإيمان بأنه ليس في الدنيا شيء أندر من الأمانة والاستقامة، أو من القلب الطيب القادر على عرفان الجميل(105)". لقد كانت هي هذا الإنسان النادر الوجود. وقد حقق روجيه درابوتان، كونت بوسي، نجاحاً في دنيا الفضائح بكتابه "تاريخ غراميات الغاليين" (1665) الذي وصف غراميات معاصريه مستخفية وراء قدامى الغاليين. وغضب الملك لكونه سخر فيها من مدام هنربيتا، فزج به في الباستيل، ثم أفرج عنه بعد سنة شريطة أن يعتكف في ضيعته، وهناك ألف "مذكراته" النابضة بالحياة، والغيظ يبريه إلى نهاية حياته. وأقل من هذا الكتاب جدارة بالتصديق كتاب "الأقاصيص" الذي رسم فيه تالمان دي ريو صوراً موجزة خبيثة لشخصيات شهيرة في الأدب أو الغرام. وقد جاهد كلود فلوري، بكتابه الأمين "التاريخ الكنسي" (1691)، وسباستبان تيلمون بكتابه "تاريخ الأباطرة" (1690 وما بعدها)، وكتابه "مذكرات ينتفع بها في التاريخ الكنسي للقرون الستة الأولى" (1693) ذي الستة عشر مجلداً-هذان جاهدا في معاناة، ودون وعي منهما، ليمهدا الطريق وينقياه لكتاب جيبون "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" (1776 وما بعدها).
ثم هناك أخيراً شارل دماركتيل شريف سانت-افريمون الذي كان ألطف تلك "العقول القوية" التي صدت الكاثوليك والهيجونوت، واليسوعيين والجانسيين على السواء، بالتشكك في التعاليم الأساسية لإيمانهم المشترك. وكانت حياته العسكرية الحافلة بالمغامرات تقوده إلى عصى المارشالية حين غضب عليه الملك لأنه كان صديقاً لفوكيه وناقداً لمازاران. فلما نمى إليه أن قد تقرر القبض عليه فر إلى هولندا، ثم إلى إنجلترا (1662). وقد جعلته عاداته المهذبة وذكاؤه الشكاك أثيراً في صالون هورتنزي مانشيني بلندن، وفي بلاط تشالز الثاني. وكان كالماريشال دوكنكور، في واحد من أكثر حواراته مرحاً(106)، يحب الحرب أولاً، ثم النساء، ثم الفلسفة. وإذ رشف كل المباهج التي في مونتيني، ودرس أبيقور مع جاسندي، فقد خلص مع الإغريقي المفترى عليه إلى أن لذة الحس طيبة، ولكن لذة الفكر أطيب، وأنه لا داع يدعونا لشغل أنفسنا بالآلهة أكثر مما تشغل أنفسها بنا. وقد بدا له الأكل الطيب والكتابة الجيدة مزيجاً معقولاً. وفي 1666 زار هولندا ثاني، والتقى بسبينوزا وتأثر تأثراً عميقاً بالحياة المسيحية التي كان يحياها اليهودي القائل بوحدة الوجود(107). وقد أتاح له معاش أجرته عليه الحكومة الإنجليزية، بالإضافة إلى ما استنقذه من فضلات ثروته، أن يكتب سلسلة طويلة من الكتب الصغيرة، كلها بأسلوب خفيف رشيق شارك في تكوين فولتير. وقد أعان كتابه "تأملات في مختلف أجناس الشعب الروماني" مونتسكييه، وشاركت رسائله إلى نينون دلانكلو بجزء من ذلك العبير الذي يتضوع خلال الرسائل الفرنسية. ولما بلغ الثامنة والخمسين، ودون وعي منه بأنه سيعمر اثنتين وثلاثين سنة أخرى، وصف نفسه بأنه مقلقل بصورة لا شفاء له منها. "إنني لولا فلسفة ميسود ديكارت التي تقول أنا أفكر فإذن أنا موجود لما صدقت إنني موجود، وهذا كل ما أفدت من دراسة ذلك الرجل الشهير(108)" لقد كاد ينافس فونتنيل في طول عمره، إذ لم يمت إلا عام 1703 بعد أن بلغ التسعين، وقد نال تشريفاً ندر أن حظي به فرنسي، وذلك هو دفنه في دير وستمنستر.
كتب فردريك الأكبر إلى فولتير: "بعد قرون سيترجمون الكتاب المجيدين في عصر لويس الرابع عشر كما نترجم نحن كتاب عصر بركليز وأوغسطس". وقبل أن يموت الملك بسنين طويلة شبه الكثيرون من الفرنسيين فن العصر وأدبه بخير ما أنتج القدماء في الفنون والآداب. وفي 1687 قرأ شارل بيرو (أخو كلود بيرو الذي صمم من قبل واجهة اللوفر الشرقية) على الأكاديمية الفرنسية قصيدة سماها "قرن لويس العظيم" رفع فيها العهد فوق أي حقبة في تاريخ اليونان أو الرومان. ولكن بوالو الناقد العجوز انبرى للدفاع عن القدامى رغم أن بيرو سلكه في زمرة المعاصرين الذين فضلهم على نظرائهم القدامى، فقال للأكاديمية أن من العار الاستماع إلى هذا اللغو. وحاول راسين أن يخمد النار بزعمه أن بيرو كان(110) يمزح، ولك نبيرو أحس أن لديه موضوعاً مجزياً. فعاد إلى المعركة في 1688 بكتابه "نظائر القدامى والمحدثين" وهو حوار طويل حيث يؤيد تفوق المحدثين في العمارة والتصوير والخطابة والشعر-وذلك باستثناء الإنياذة، التي هي في رأييه أروع من الإلياذة والأوديسة أو أي ملحمة أخرى. وقد ناصره فونتيل بذكاء وبراعة، أما لابرويير ولافونتين وفينيلون فوقفوا في صف بوالو.
لقد كان شجاراً صحياً، عين نهاية نظرية "الانحطاط" المسيحية الوسيطة، ونهاية تواضع النهضة والحركة الإنسانية أمام الشعر والفلسفة والفنون القديمة. وكان هناك اتفاق عام على أن العلم قد تقدم متجاوزاً أي مرحلة أدركها اليونان أو الرومان، وحتى بوالو اعترف بهذا، وسلم بلاط لويس الرابع عشر في غير تردد بأن فن الحياة لم يطور قط من قبل بمثل هذا الجمال الذي طور به في مارلي وفرساي. ولن نزعم أننا فاصلون في هذه المشكلة، فلنتركها الآن حتى نعرف كل جوانب هذا العصر في أوربا بأسرها. ولا حاجة بنا إلى الإيمان بأن كورنبي كان متفوقاً على سوفوكليس، أو راسين على يوربيديس، أو بوسويه على ديموستينيس، أو بوالوا على هوراس؛ وما ينبغي أن نسوي بين اللوفر والبارثينون، أو بين جيراردون وكوازفوكس وبين فيدياس وبراكستيليس. ولكن من اللطيف أن نعرف أن هذه المفاضلات تقبل المناقشة، وأن تلك النماذج القديمة لا تمتنع على المنافسة.
لقد وصف فولتير عصر لويس الرابع عشر بأنه "أكثر العصور التي شهدها العالم استنارة(111)" دون أن يتوقع أن عصره هو سيسمى "عصر التنوير". ولكن ينبغي أن نخفف من غلو هذا الإطراء. فالعصر من الناحية الرسمية كان عصر ظلامية وتعصب بلغا أوجهما في إلغاء مرسوم نانت الرحيم، و"التنوير" كان وقفاً على قلة قليلة لم يرضَ عنها البلاط وعابها سرفها الأبيقوري أحياناً. والتعليم كان يهيمن عليه أكليروس ملتزم بعقيدة العصر الوسيط، وأما حرية الطباعة والنشر فلم يكد أحد يحلم بها، وحرية الكلام كانت مغامرة سرية وسط رقابة شاملة. لقد كان في عهد ريشليو من المبادرة والجرأة ومن مولد العبقرية قسط أكبر مما كان في عهد الملك العظيم. إن العصر لم يكن له ضريب في الرعاية الملكية للأدب والفن، وفي خضوعهما البليغ للملك. وقد بلغ الفن والأدب كلاهما العظمة والجلال كما يشهد بذلك صف أعمدة اللوفر ومسرحية اندروماك، ولكنهما انحدرا أحياناً إلى المبلغة في الفخامة والأبهة كما نرى في قصر فيرساي أو في بلاغة كورنبي في آخر إنتاجه. وكان يشوب المأساة والفنون الكبرى في هذا العهد بعض التكلف والافتعال، فقد أفرطا في الإتكاء على النماذج اليونانية أو الرومانية أو نماذج النهضة. واتخذا موضوعاتهما من عصر قديم دخيل لا من تاريخ فرنسا ودينها وطابعهما، وعبرا عن التعليم الكلاسيكي الذي حظيت به طبقة خاصة لا عن حياة الشعب وروحه. ومن ثم نجد موليير ولافونتين العاميين يفيضان اليوم حياة وسط هذا الحشد المزوق، لأنهما نسيا اليونان والرومان وتذكرا فرنسا. صحيح أن العصر الكلاسيكي نقى اللغة، وصقل الأدب، وهذب الحديث، وعلم العاطفة المشوبة أن تفكر، ولكنه إلى ذلك فرض على الشعر الفرنسي (والإنجليزي) برودة امتدت قرابة قرن بعد هذا العهد العظيم.
ومع ذلك كان عهداً عظيماً. فلم يشهد التاريخ من قبل حاكماً سخا مثل هذا السخاء على العلوم والآداب والفنون. لقد اضطهد لويس الرابع عشر الجانسنيين والهيجونوت، ولكن في عهده كتب بسكال، ووعظ بوسويه، وعلم فينيلون، ولقد جند الفن ليخدم به مآربه ومجده، ولكن هذا الفن منح فرنسا بفضل تشجيعه روائع في العمارة والنحت والتصوير. ولقد حمى موليير من جيش من الخصوم، وآزر راسين من مأساة إلى مأساة. ولم تكتب فرنسا من قبل مسرحية أفضل، ولا رسائل أفضل، ولا نثراً أفضل، مما كتبت في عهده. وقد أعانت عادات الملك المهذبة، وضبطه لنفسه، وصبره، واحترامه للنساء-أعانت كلها على انتشار الآداب المحببة والمجاملات اللطيفة في البلاط، وعنه إلى باريس وفرنسا وأوربا ولقد أساء استعمال بعض النساء، ولكن تحت حكمه بلغت النساء في الأدب والحياة مقاماً أضفى على فرنسا ثقافة ثنائية الجنس يفوق جمالها أي ثقافة أخرى في العالم. وبعد كل التحفظات، وبعد الإعراب عن أسفنا لأن هذا الجمال الكثير لوثته هذه القسوة الكثيرة، يحق لنا أن نضم صوتنا إلى أصوات الفرنسيين في الإشادة بعصر لويس الرابع عشر بوصفه عصراً يقف على قدم المساواة مع اليونان في أيام بركليز، والرومان في أيام أوغسطس، وإيطاليا في أيام النهضة، وإنجلترا في أيام أليزابيث وجيمس الأول-يقف مع هؤلاء جميعاً قمة شامخة بين الشوامخ في مسار الإنسانية المتعثر.