قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 1 ف 4

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 10589



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> المسرح الفرنسي


الفصل الرابع



موليير



1622 - 1673



1- المسرح الفرنسي


بقي الآن أن تخضع المسرحية والشعر الفرنسيان أوربا لسلطانهما. ولقد شاء هوى التاريخ أن ينصرف الأدب الفرنسي في هذا العصر إلى المسرح، وأن يشجع الكردينال ريشليو المسرحية التي ظلت الكنيسة تحرمها طويلاً، وأن يستورد الكردينال مازاران الملهاة الإيطالية إلى فرنسا، وأن يرث لويس الرابع عشر حب المسرح من هذين الكاهنين اللذين مهدا لسلطته أو حفظاها. كانت المسرحية الحديثة قد بلغت الشكل الأدبي في إيطاليا برعاية باباوات النهضة الرفيعي الثقافة، وكان ليو العاشر يحضر التمثيليات دون أن يطالب بأن تكون صالحاً للعذارى. ولكن الإصلاح البروتستنتي ومجمع ترنت المترتب عليه وضعاً حداً لهذا التساهل الكنسي. وقال بنديكت الرابع عشر إن المسرحية لم يستمر السماح بها في إيطاليا إلا درءاً لشرور أفدح، وفي أسبانيا إلا لأنها تخدم الكنيسة. وأما في فرنسا فإن رجال الأكليروس، الذين صدمتهم الحرية الجنسية التي تمتع بها المسرح الهزلي، نددوا بالمسرح عدواً للآداب العامة. وقضت سلسلة طويلة من الأساقفة واللاهوتيين بأن الممثلين محرومون بحكم طبيعة الحالة، أي بحكم مهنتهم ذاتها، وأنكر عليهم قساوسة باريس، الذين عبر عنهم صوت بوسويه الآمر، حق تناول الأسرار أو الدفن في أرض مكرسة إلا إذا تابوا وأقلعوا عن مهنتهم. وإذ حرموا من مراسم



 صفحة رقم : 10590   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> المسرح الفرنسي


سر الزواج يقوم بها الكاهن، فقد كان عليهم أن يقنعوا بزيجات عرفية بالغة القلق وعدم الاستقرار، كذلك رسم القانون الفرنسي الممثلين وأقصاهم عن كل وظيفة شريفة، وحظر على القضاة حضور الحفلات التمثيلية. ومن ملامح التاريخ الحديث البارزة أن المسرح استطاع التغلب على هذه المقاومة. ذلك أن المطلب الشعبي للتظاهر والادعاء تخففا وثأراً من الواقع أنجب العدد العديد من الهزليات والملاهي، وكان للآلام التي فرضها على الرجال الاقتصار على زوجة واحدة الفضل في إقبال جمهور سخي العطاء على مسرحيات الحب الحلال أو الحرام. ويلوح أن ريشليو وافق ليو العاشر على أن أيسر سبيل للهيمنة على المسرح هو رعاية أفضل المسرحيات لا رفضها كلها، وبهذه الطريقة قد يتيح القدوة للذوق العام، والعيش للفرق المسرحية المهذبة. وليلاحظ القارئ تقرير فولتير الآتي: "منذ أدخل الكردينال ريشليو الأداء المنتظم للتمثيليات في البلاط، الأمر الذي جعل باريس الآن منافسة لأثينا، لم يقتصر الأمر على تخصيص مقعد يجلس عليه رجال الأكاديمية التي تضم نفراً من القساوسة، بل خصص مقعداً آخر للأساقفة(1)". وفي 1641، ربما بناء على طلب الكردينال، بسط لويس الثالث عشر رعايته على فريق من الممثلين عرفوا بعدها بالفرقة الملكية أو الكوميديين الملكيين، وأجرى عليهم معاشاً قدره ألف جنيه في العام، وأصدر مرسوماً يعترف بالمسرح لوناً مباحاً من ألوان الترفيه، وأعرب عن رغبته الملك في ألا تعتبر مهنة الممثل بعدها ضارة بمركزه في المجتمع(2). وأقامت الفرقة مسرحها في "الأوتيل دبورجون" وحظيت برعاية لويس الرابع عشر الرسمية، واحتفظت طوال حكمه بتفوقها في إخراج المآسي. ورغبة في رفع مستوى الملهاة الفرنسية، دعا مازاران نفراً من الممثلين الإيطاليين إلى باريس، ومنهم تيبيريو فيوريللي، الذي أصبح أثيراً لدى جاريس والبلاط بأدائه دور المهرج الفشار "سكاراموتشا". ولعله هو



 صفحة رقم : 10591   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> المسرح الفرنسي


وزملاؤه شاركوا في بعث حمى المسرح في أوصال جان بوكلان الرابع، وفي تعليمه فنون المسرح الهزلي(3). فلما عاد "سكاراموش" إلى إيطاليا (1659) أصبح جان بوكلان، الذي عرفه المسرح والعالم باسم موليير، الممثل الهزلي الأول للملك، وعدها بقليل-في رأي بوالو المولع به-أكبر كتاب العصر.



 صفحة رقم : 10592   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> تلمذته


2- تلمذته


على المبنى رقم 96 بشارع سانت- أونوريه كتابه بحروف من ذهب هذا نصها:- شيد هذا البيت فوق موضع البيت الذي ولد فيه موليير في 15 يناير، 1622 وكان البيت بيت جان باتست بوكلان الثالث-منجد الأثاث والمزخرف. وكنت زوجة ماري كريسيه قد أتته بمهر قدره 2.200 جنيه، وأنجبت له ستة أطفال، ثم ماتت بعد زواجهم بعشر سنوات، ولم يكن طفلها الأول- جان باتست بوكلان الرابع- يتذكرها في وضوح، ولم يذكرها قط في تمثيلياته. وتزوج الأب ثانية (1633) ولكن زوجة الأب ماتت في 1637، فكان على الأب أن يحمل عبء عبقرية ولده، ويوجه تعليمه، ويفكر في تشكيل مجرى حياته. وفي 1631 أصبح جان بوكلان الثالث "المشرف على تنجيد أثاث حجرة الملك" ومنح امتياز إعداد السرير الملكي والسكني في البيت الملكي، لقاء راتب سنوي قدره ثلاثمائة جنيه، وهو مبلغ متواضع، ولكنه لم يلزم الحضور في أي عام أكثر من ثلاثة أشهر. وكان الأب قد اشترى الوظيفة من أخيه، وأراد أن يورثها ابنه. وفي 1637 أقر لويس



 صفحة رقم : 10593   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> تلمذته


الرابع عشر حق جان بوكلان الرابع في وراثة الوظيفة؛ ولو أن تطلعات الأب تحققت لعرف التاريخ موليير-إن عرفه إطلاقاً- بأنه الرجل الذي كان يعد سرير الملك. على أن جداً للصبي أولع بالمسرح، فكان يصطحبه إلى حفلات التمثيل بي الحين والحين. وأعداداً لجان الرابع لتهيئة سرير الملك، أرسل إلى كلية اليسوعيين في كليرمون، وكانت الأم الحانية على المهرطقين. وهناك تعلم الكثير من اللاتينية، وقرأ تيرنس وأفاد منه، ولا شك أنه اهتم، وربما شارك، في المسرحيات التي عرضها اليسوعيون أداة لتعليم تلاميذهم اللاتينية والأدب والكلام ويقول فولتير إن جان تلقى كذلك تعليماً عن الفيلسوف جاسندي الذي كان قد عين معلماً خاصاً لزميل في فصل جان. على أية حال تعلم جان الكثير عن أبيقور، وترجم شطراً كبيراً من ملحمة لوكريتيوس الأبيقورية De Rerum Natura (وبعض سطور مسرحيته "مبغض الشر(4)". تكاد تكون ترجمة لفقرة في لوكريتيوس(5)). والراجح أن جان فقد إيمانه قبل أن يختتم صباه(6). وبعد أن قضى خمس سنين في الكلية درس القانون، ويبدو أنه مارسه حقبة قصيرة في المحاكم. ثم أتخذ مهنة أبيه بضعة أشهر (1642). وفي ذلك العام التقى بمادلين بيجار، وكانت وقتها سيدة مرحة في الرابعة والعشرين. وقبل ذلك بخمس سنين كانت خليلة للكونت دمودين، الذي اعترف في سماحة بالطفل الذي ولدته له، وأذن لابنه في أن يقف عراباً له عند عماده. وفتنت مادلين جان- وكان قد بلغ العشرين- وسحرته بجمالها وطبعها البشوش اللطيف. وأغلب الظن أنها قبلته عشيقاً وقد حمله عشقها للمسرح، مع عوامل أخرى، على اتخاذ قرار بأن يولي لتنجيد الأثاث ظهره، وأن ينزل عن حقه في أن يخلف أباه مشرفاً على تنجيد حجرة الملك لقاء 630 جنيهاً، وأن يلقي بنفسه في خضم التمثيل (1643). وذهب ليقيم في بيت مادلين



 صفحة رقم : 10594   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> تلمذته


بيجار(7). ثم دخل معها ومع أخويها وآخرين في تعاقد رسمي أنشئوا بمقتضاه "المسرح الشهير" (30 يونية 1643). ويعتبر الكوميدي فرانسيز ذلك العقد بداية لتاريخه الطويل الممتاز. وأتخذ جان الآن اسماً مسرحياً جرياً على عادة الممثلين، فأصبح يسمى موليير. واستأجرت الفرقة الجديدة ملعباً للتنس مسرحاً لها ، وقدمت مختلف التمثيليات، ثم أفلست؛ وفي 1645 قبض على موليير ثلاث مرات بسبب الدين ودفع أبوه عنه ديونه وحصل على أمر بالإفراج عنه معللاً نفسه بأن الفتى قد برئ من حمى المسرح. ولكن موليير أعاد تأليف "المسرح الشهير" وأنطلق في جولة بالأقاليم. ومنح الدوق ديبيرنون حاكم جيين الفرقة تأييده. وتثقلت الفرقة في سلسلة مضنية من النجاح والفشل بين ناربون، وتولوز، وألبي، وكاركاسون، ونانت، وآجن، وجرينوبل، وليون، ومونبلييه، وبوردو، وبيزييه، وديجون، وأفنيون، وروان. وارتقى موليير حتى أصبح مديراً لها (1650)، ووفق بعشرات الحيل في أن يحفظ للفرقة قدرتها على إيفاء ديونها ويكفل لها طعامها. وفي 1653 أعار الأمير ديكونتي، زميله المدرسي القديم، اسمه للفرقة وقدم لها المعونة، ربما لإعجاب سكرتيره بالممثلة الآنسة دوبارك. ولكن الأمير أصابته نوبة شلل ديني في 1655، فأخبر الفرقة بأن ضميره يمنعه من الاتصال بالمسرح، وما لبث بعد ذلك أن ندد علانية بالمسرح، وبوليير بصفة خاصة، مفسداً للشباب وعدواً للفضيلة المسيحية. ووسط هذه التقلبات نهضت الفرقة شيئاً فشيئاً بكفايتها ودخلها وذخيرتها من المسرحيات. وتعلم موليير فن المسرح وحيله. فما وافى عام 1655 حتى كان يكتب التمثيليات كما يمثلها. وفي 1658 آنس في نفسه من القوة ما يكفي لتحدي فرقتين احتلتا المسرح الباريسي، فرقة ممثلي الملك في الأوتيل دبورجون، وفرقة خاصة تمثل في مسرح ماريه. وحضر هو ومادلين بيجار



 صفحة رقم : 10595   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> تلمذته


من روان إلى باريس ليمهدا الطريق أمام فرقتهما. وزاره أباه، وظفر بعفو عن ذنوبه ومهنته. ثم أقنع فيليب الأول دوق أورليان بأن يبسط حمايته على الفرقة وأن يحصل لها على إذن بإقامة حفلة تمثيلية بالبلاط. وفي اكتوبر 1658 مثلت "فرقة المسيو" هذه أمام الملك في قاعة الحرس باللوفر مأساة كورني "نيكوميد"، ومثل موليير الدور الرئيسي دون توفيق كبير، لأنه كما يقول فولتير كان يعاني "من ضرب من الفواق لا يلائم البتة الأدوار الجادة، ولكنه يعين على جعل تمثيله في الملهاة أكثر إمتاعاً"(8). وقد أنقذ الحفلة بأن أتبع المأساة بملهاة فقدت الآن معالمها، ومثل بحيوية ومرح، وحاجب مرفوع وفم مثرثر جعل الجمهور يتساءل لم يمثل المأساة إطلاقاً. وكان الملك من الصبا ما جعله يستمتع بهذا الهزل، ومن الرجولة ما جعله يقدر شجاعة موليير. فأصدر تعليماته بأن تشارك فرقة المسيو فرقة سكاراموش الإيطالية في قاعة البتي بوربون، وهناك أيضاً أخفق الممثلون الوافدون حين حاولوا تمثيل المآسي التي قصروا في أدائها دون ممثلي الملك في الأوتيل دبورجون، ووفقوا في التمثيليات الهزلية، لا سيما التي ألفها موليير. ومع ذلك واصلوا إخراج المآسي. ذلك أن كبار الممثلات كن يشعرن بأنهن يتألقن أكثر في الدراما الجادة، ولم يكن موليير نفسه راضياً قط بأن يكون كوميدياً، لأن صراعات الحياة وسخافاتها أورثته مسحة من الحزن، وقد وجده أمراً فاجعاً له أن يكون على الدوام مضحكاً. يضاف إلى هذا أنه سئم هزليات المكائد الغرامية والشخصيات المبتذلة وكباش الفداء المألوفة؛ وأكثرها أصداء لإيطاليا. وتلفت حوله في باريس فرأى فيها أشياء لا تقل إضحاكاً عن بوليشينيل وسكاراموش. وروي عنه قوله "لم يعد بي حاجة إلى اتخاذ بلوتس وتيرنس أساتذة لفني أو إلى السطو على ميناندر. فما علي إلا أن أدرس هذه الدنيا"(9).



 صفحة رقم : 10596   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير ونساء المجتمع


3- موليير ونساء المجتمع


مثال ذلك "الأوتيل درامبوييه" حيث كان الرجال والنساء يمجدون الآداب الرقيقة والحديث المعطر. فكتب موليير تمثيلية "المتحذلقات المضحكات". وكان إخراجها (18 نوفمبر 1659) فاتحة ملهاة العادات الفرنسية وبداية لحظ موليير وشهرته. وكانت الملهاة من القصر بحيث لم يستغرق تمثيلها أكثر من ساعة، وقيها من الحدة ما خلف لذعة طويلة الإيلام. استمع إلى ابنتي العم، مادلون وكاتوس، اللتين تلفهما سبعة أقنعة من التظرف، تحتجان على تلهف الكبار، الواقعيين، المفلسين، على تزويجهما. جرجيبوس: أي عيب تريان فيها؟ مادلون: يالها من كياسة رائعة منهما حقاً! أنبدأ فوراً بالزواج!...لو كلن الناس جميعاً مثلك لقضي للتو على الرومانس...إن الزواج ينبغي ألا يتم أبداً إلا بعد مغامرات أخرى. فعلى العاشق إن أراد قبولاً أن يفهم كيف يعبر عن العواطف المهذبة، وكيف يتأوه بالحديث الناعم، الرقيق، المشبوب، ويجب أن يكون حديثه مطابقاً للقواعد. فعليه بادئ ذي بدء أن يرى في الكنيسة أو في الحديقة أة في حفل عام تلك التي يشغف بها حباً، وإلا زجب تقديمه إليها التقديم المحتوم بواسطة قريب أو صديق، ثم عليه أن ينصرف عنها مكتئباً متأملاً. ثم يخفي عاطفته حيناً عن موضع حبه، ولكنه يزورها مرات، لا يعدم فيها طرح بعض الحديث عن مغازلة النساء على البساط تدريباً لعقول الجماعة كلها...ثم يأتي اليوم الذي يبوح فيه بحبه، وينبغي أن يتم هذا عادة في ممشى حديقة بينما الجماعة على بعد منهما. وهذا التصريح نقابله عادة بالاستياء، الذي يبدو في احمرار وجوهنا، والذي يقصي العاشق عنا زمناً، ثم يجد الوسيلة لمصلحتنا بعد حين، ولتعويدنا أن نسمع حديث غرامه دون أن نتألم، واستلال ذلك الاعتراف الذي يسبب لنا حرجاً شديداً.



 صفحة رقم : 10597   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير ونساء المجتمع


ثم تتلوا ذلك المغامرات: المزاحمون الذين يحبطون ميلاً رسخ، واضطهادات الآباء، والغيرة المنبعثة من المظاهر الكاذبة، والشكاوى، واليأس، والهروب مع الحبيب، وما يسفر عنه من عواقب. هكذا ينبغي أن تجري الأمور بأسلوب جميل، وتلك القواعد التي لا غنى عنها للتودد المهذب الأنيق. أما الاندفاع رأساً إلى الرباط الزوجي، وأما عدم مطارحة الغرام إلا بعقد الزواج، والإمساك بالمغامرة الرومانسية من ذيلها-فمرة أخرى أقول لك يا أبي العزيز إنه ما من شيء أكثر آلية من تصرف كهذا، ومجرد التفكير فيه يشعرني بالغثيان. كاتوس: أما أنا يا عماه فكل ما أستطيع أن أقوله هو إنني أرى الزواج شيئاً مروعاً جداً. فكيف أطيق فكرة الرقاد مع رجل عريان حقاً(10)؟ ويستعير خادما الخطيبين ملابس سيديهما ويتنكران كمركيز وجنرال، ويتوددان إلى السيدتين بكل ما يصاحب التودد من تظرف ومزاح. ويفاجئهما السيدان، ويجردانهما من ملابسهما المزيفة، ويتركان الشابتين أمام الحقيقة العارية تقريباً. وفي هذه الملهاة، كما في جميع ملاهي موليير الجنسية، عبارات نابية وبعض المزاح الرخيص، ولكن فيها هجواً لاذعاً للحماقات الاجتماعية، بلغ من حدته أن تأثيره أصبح حدثاً في تاريخ عادات المجتمع. وقد نسبت رواية غير مؤكدة لامرأة من النظارة أنها وقفت وسط الجمهور وصاحت "تشجع! تشجع! هذه ملهاة حسنة يا موليير"(11) وروى أن أحداً من رواد صالون مدام درامبوييه قال بعد خروجه من التمثيلية "بالأمس أعجبنا بكل السخافات التي نقدت نقداً رقيقاً معقولاً جداً؛ ولكن علينا الآن-كما قال القديس ريمي لكلوفيس-أن نحرق ما عبدنا، ونعبد ما أحرقنا(12)." وقابلت المركيزة درامبوييه الهجوم بعبقرية، إذ اتفقت مع موليير على إحياء حفلة يخصص إيرادها لصالونها، وقد رد على مجاملتها بمقدمة زعم فيها أنه لم يهجُ صالونها بل مقلديه. على أية



 صفحة رقم : 10598   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير ونساء المجتمع


حال انتهى ملك "المتحذلقات". وقد أشار بوالو في هجائيته العاشرة إلى تلك "العقول الجميلة التي كانت بالأمس ذائعة الصيت، والتي فرغها موليير بضربة واحدة من فنه". وقد نجحت المسرحية نجاحاً ضوعف معه أجر مشاهدتها عقب حفلة الافتتاح. وقد مثلت في عامها الأول أربعاً وأربعين مرة، وأمر الملك بإحياء ثلاث حفلات للبلاط، حضرها جميعاً، ونفح الفرقة بثلاثة آلاف جنيه. وما وافى فبراير 1660 حتى كانت الفرقة الشاكرة قد دفعت 999 جنيهاً جعالة للمؤلف. ولكنه كان قد ارتكب غلطة إذ ضمن المسرحية إشارة هجا بها ممثلي المسرح الملكي "فما من إنسان قادر على أن يشهر شيئاً إلا هم، أما غيرهم فقوم جهلاء يمثلون أدوارهم كأنهم يتحدثون. هؤلاء لا يفقهون كيف يجعلون أبيات الشعر تجلجل، أو كيف يقفون عند فقرة جميلة. فكيف تعرف الأبيات الرائعة إذا لم يقف الممثل عندها ويخبرك بهذه الطريقة أن تصفق استحساناً(13)؟". وأعربت فرقة الأوتيل دبوربون عن احتقارها السافر لموليير لعجزه عم إخراج المأساة، ولقدرته على الملهاة الرخيصة دون غيرها. وعزز موليير حجتهم بتأليفه وعرضه مسلاة "فارص" متوسطة الجودة سماها "الديوث بالوهم" ولو أن الملك سر بأن يشهدها تسع مرات. وكانت التغييرات تجري خلال ذلك في مبنى اللوفر القديم، فهدمت صالة البتي بوربون في استهتار، ولاح حيناً أن "فرقة المسيو" التي يرأسها موليير لن تجد لها مسرحاً. ولكن الملك العطوف دائماً بادر إلى إنقاذه بأن خصص له في الباليه-رويال "الصالة" التي خصصها ريشليو لعرض التمثيليات. وهناك ظلت فرقة موليير حتى مماته وكأنها جزء من جسم البلاط. وكان أول عرض له في هذا المأوى الجديد آخر محاولاته في المأساة، وهي "دون جراسي". وكان رأيه-وله فيه بعض العذر-



 صفحة رقم : 10599   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير ونساء المجتمع


أن أسلوب المأساة الخطابي الفخم كما طوره كورنبي، ومثلته فرقة الأوتيل ديورجون، أسلوب غير طبيعي، وكان يتطلع إلى أسلوب أبسط وأكثر طبيعية. ولو سمح له تسلط النزعة الكلاسيكية على المسرح (وفواقه) لجاز أن ينتج مزيجاً موفقاً من المأساة والملهاة كما فعل شكسبير، فإن في أعظم ملاهيه والحق يقال مسحة من المأساة. ولكن "دون جراسي" سقطت، برغم جهود الملك لدعمها بحضوره ثلاث حفلات، لقد كان قدر موليير أن يكابد المأساة لا أن يمثلها. وعليه فقد عاد إلى الملهاة. ولقيت "مدرسة الأزواج" نجاحاً طيب خاطره إذ عرضت يومياً من 24 يونيو إلى 11 سبتمبر 1661. وقد آذنت بزواج موليير الوشيك، وكان وقتها في التاسعة والثلاثين من أرماند بيجار، ذات الثمانية عشر ربيعاً، ومشكلة المسرحية هي: كيف ينبغي أن يروض الشابة على أن تكون زوجة صالحة أمينة؟ فالشقيقان أريست وسجاناريل محظوظان لكونها الوصيين على الفتاتين اللتين ينويان الزواج منهما أما أريست، البالغ من العمر ستين عاماً، فيعامل فتاته القاصر ليونور، ذات الثمانية عشرة، بغاية اللين: "لم أنظر إلى تجاوزاتها الصغيرة على أنها جرائم. ولقد لبيت على الدوام رغباتها الشابة، ولست ولله الحمد آسفاً على ذلك. فقد أذنت لها أن تخالط الأصحاب الطيبين، وتشهد الملاهي، والتمثيليات، والمراقص، فهذه أشياء أراها على الدوام صالحة لتربية عقول الشباب، وما الدنيا إلا مدرسة أحسبها تعلم طريقة العيش خيراً من أي كتاب. إنها نحب أن تنفق المال على الثياب، والقمصان، والأزياء الجديدة...وأنا أحاول أن أشبع رغباتها، فهذه لذات ينبغي أن نتيحها للشابات متى استطعنا توفيرها لهن(14)". وأما الأخ الأصغر سجاناريل فيحتقر أريست لأنه إنسان أحمق ضللته أحدث الأوهام. وهو يأسف على زوال الفضائل القديمة وعلى انحلال الأخلاق



 صفحة رقم : 10600   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير ونساء المجتمع


الجديدة، وعلى وقاحة الشباب المتحرر. وهو ينوي أن يأخذ فتاته القاصر إيزابيل بنظام صارم ليرضيها على أن تكون زوجة مطيعة: "لا بد أن ترتدي الملابس اللائقة...فإذا لزمت بيتها كما تلزمه المرأة العاقلة انصرفت نجمعها إلى شؤون الزوجية، فترفو الثياب في ساعات فراغها أو تحبك الجوارب لتتسلى بها. ولن تخطو خطوة خارج البيت إلا إذا قام عليها رقيب...إنني لن ألبس قروناً إذا استطعت إلى ذلك سبيلاً". وبعد دسيسة بعيدة الاحتمال (منقولة عن ملهاة أسبانية) تهرب إيزابيل مع عاشق ذكي، في حين تتزوج ليونور من أريست وتظل وفية له إلى آخر التمثيلية. وواضح أن موليير كان يحاور نفسه. ففي 20 فبراير 1662، وهو في الأربعين، تزوج بامرأة تصغره بنصف عمره. أضف إلى ذلك أن عروسه هذه-أرماند بيجار-كانت ابنة مادلين بيجار، التي كان موليير يعاشرها قبل عشرين عاماً. وقد اتهمه خصومه بالزواج من ابنته غير الشرعية. وكتب مونفلوري، رئيس فرقة دبورجون المنافسة، إلى لويس ينبئه بهذا في 1663، وكان جواب لويس أن جعل نفسه عراباً لأول طفل ولدته أرماند لموليير. أما مادلين، حين لقيها موليير، فكانت أشد احتفالاً بشخصها من أن تتيح لنا أي معرفة يقينية ينسب أرماند. ويبدو أن موليير لم يعتقد أنه أبو الفتاة، ولتا أن نفترض لأن معلوماته في هذه النقطة كانت أفضل قليلاً مما يمكن أن تكون عليه معلوماتنا نحن. كانت أرماند قد شبت كأنها حيوان الفرقة المدلل. وكان موليير يراها كل يوم تقريباً، وقد أحبها طفلة قبل أن يعرفها امرأة بزمن طويل. وكانت الآن قد أصبحت ممثلة مكتملة النضج. أما وقد نشأت في هذا الجو فإنها لم تخلق لتكون زوجة لرجل واحد، لا سيما رجل قد أبلى روح الشباب.



 صفحة رقم : 10601   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير ونساء المجتمع


لقد أحبت لذات الحياة واستغرقت في معابثات فسرها الكثيرون على أنها خيانات للزوج، وعانى موليير من جراء ذلك، وكان أصدقاءه وأعداؤه يلوكون الشائعات عنه. وبعد زواجه بعشرة أشهر حاول أن يهدئ جراحه ينقد غيرة الرجال والدفاع عن تحرر النساء. لقد حاول أن يكون أريست، ولكن أرماند لم تستطع أن تكون ليونور. ولعله أخفق في أن يكون أريست لأنه كان نافذ الصبر شأنه شأن أي مخرج مسرحي. وفي "تمثيلية فرساي المرتجلة" (أكتوبر 1663) وصفه نفسه إذ يقول لزوجته "اسكتي أيتها الزوجة، فما أنت إلا حمارة" فتجيب "شكراً لك أيها الزوج الطيب. أنظر ما صار إليه أمرنا. أن الزواج يغير الناس تغييراً عجيباً، فما كنت لتقول هذا قبل سنة ونصف(15)". وواصل تأملاته في الغيرة والحرية في مسرحيته "مدرسة الزوجات" التي عرضت أول مرة في 16 ديسمبر 1662. ومنذ بدايتها تقريباً تراها تضرب على هذا الوتر-الزوج الديوث. فترى آرنولف الذي لعب موليير دوره هنا أيضاً طاغية من الطراز العتيق، يؤمن بأن المرأة المتحررة امرأة فاسقة، وأن السبيل الأوحد لضمان وفاء الزوجة هو ترويضها على الخدمة المتواضعة، وعلى فرض الرقابة الصارمة عليها وإغفال تعليمها. وتشب أنييس، القاصر التي كان وصياً عليها وعروسه المستقبلة، في براءة حلوة، حتى أنها تسأل آرنولف في عبارة تردد صداها في طول فرنسا وعرضها، "أيولد الأطفال من الأذن(16)؟". ولما كان آرنولف لم يتحدث إليها بشيء عن الحب، فأنها ترحب في سرور برئ بتودد هوراس الذي يجد طريقه إليها أثناء غيبة قصيرة للوصي. فإذا عاد آرنولف قصت عليه وصفاً موضوعياً لمسلك هوراس: آرنولف: حسناً، ولكن ماذا صنع حين انفرد بك؟ آنييس: قال إنه يحبني حباً حاراً لا نظير له. وقال لي بألطف لغة في



 صفحة رقم : 10602   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير ونساء المجتمع


الدنيا أشياء لا يمكن أن يعدلها شيء. وقد أبهجني لطف حديثه كلما استمعت إليه، وأثار فيّ شيئاً لا أعرفه، عاطفة سحرتني تماماً. آرنولف: (جانباً) ياله من تحقيق معذب في سر قتال، يعاني فيه المحقق كل الألم! (بصوت عال) ولكن علاوة على هذا الحديث كله، وهذه الأساليب اللطيفة كلها، ألم يقبلك بعض القبلات أيضاً؟ أنييس: أوه! إلى هذا الحد! لقد تناول يدي وذراعي ولم يتعب قط من تقبيلها. آرنولف: ألم يأخذ شيئاً آخر منك يا أنييس؟ (ملاحظاً حيرتها) ها؟ أنييس: بلى، لقد. آرنولف: ماذا؟ أنييس: أخذ. آرنولف: كيف؟ أنييس: الــ. آرنولف: ماذا تعنين؟ أنييس: لا أجرؤ على إخبارك، لأنك قد تغضب مني. آرنولف: لا. أنييس: نعم، ولكنك ستغضب. آرنولف: يا للهول، لن أغضب. أنييس: احلف إذن. آرنولف: أحلف. أنييس: أخذ- سيثور غضبك.



 صفحة رقم : 10603   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير ونساء المجتمع


آرنولف: لا. أبييس: نعم. آرنولف: لا، لا، لا، لا، بحق الشيطان ما هو هذا السر؟ ماذا أخذ منك؟ أنييس: أنه- أرنولف: (جانباً) إني أقاسي عذاب الجحيم. أنييس: أخذ الوشاح الذي أعطيتني، أصدقك القول أنني لم أستطع منعه. آرنولف: (متمالكاً نفسه): لا بأس بالوشاح. ولكني أريد أن أعلم ألم يفعل شيئاً غير تقبيل يديك؟ أنييس: أيفعل الناس أشياء أخرى؟ آرنولف: لا، لا...ولكني باختصار لابد أن أخبرك أن قبول علب الجواهر والاستماع إلى القصص العاطلة يقصها هؤلاء الغنادير المتبرجون، والسماح لهم وأنت مسترخية بتقبيل يديك وفتنة قلبك بهذه الطريقة-هذا كله خطيئة مميتة، بل أفظع خطيئة يمكن أن ترتكبيها. أنييس: تقول خطيئة! والسبب من فضلك؟ آرنولف: السبب؟ لأنه مكتوب صراحة أن السماء تغضبها أفعال كهذه. أنييس: تغضبها؟ ولكن لم تغضب السماء؟ وا أسفاه؟ إنه شيء حلو لذيذ، تعجبني البهجة التي أجدها فيه، ولم أعرف من قبل هذه الأشياء. آرنولف: نعم، هناك الكثير من اللذة في هذه العواطف الرقيقة، وهذه الأحاديث اللطيفة، وهذه القبل الحارة، ولكن ينبغي تذوقها بطريقة شريفة، والزواج كفيل بأن يمحو عنها الخطيئة. أنييس: أفلا تعد خطيئة إذا كان الإنسان متزوجاً؟



 صفحة رقم : 10604   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير ونساء المجتمع


آرنولف: نعم. أنييس: أرجوك إذن أن تتزوجني حالاً(17). وتهرب أنييس إلى هوراس بعد قليل طبعاً. ولكن آرنولف يقتنصها من جديد ويوشك أن يضربها حين يوهن من عزيمته حلاوة صوتها وجمال جسدها، وربما كان موليير يفكر في أرماند وهو يكتب عبارات آرنولف التالية: "أن ذلك الحديث وتلك النظرة يجردان غضبي من سلاحه، ويعيدان إليّ الحنان الذي يمحو ذنبها كله. فما أعجب أن يحب الإنسان! وأن يكون الرجال عرضة لمثل هذا الضعف أمام هؤلاء الخائنات! فكلنا يعرف نقصهن، فما هن إلا التبذير والحماقة، وذهنهن شرير وفهمهن ضعيف، وما من شيء أوهن منهن، ولا أقل ثباتاً، ولا أكذب، ومع ذلك كله فالرجل يصنع كل شيء في الدنيا من أجل هؤلاء الحيوانات(18)". وفي النهاية تهرب منه وتتزوج هوراس. أما آرنولف فيعزيه صديقه كريسالد بفكرة أن امتناع الرجل عن الزواج هو الطريقة الأكيدة الوحيدة التي تقيه من أن يطلع له قرناً في رأسه. وأبهجت التمثيلية جمهورها، فمثلت إحدى وثلاثين مرة في الأسابيع العشرة الأولى، وكان في الملك من الشباب ما سمح له بالاستمتاع بخلاعها، ولكن عناصر البلاط الأشد محافظة انتقدوا الملهاة لما فيها من مجافاة للفضيلة، وكرهت السيدات فكرة الولادة من الأذن، وندد الأمير كونتي بمنظر الفصل الثاني الذي سقنا حواره من قبل بين آرنولف وأنييس زاعماً أنه أفضح ما عرض على خشبة المسرح. ولعن بوسويه التمثيلية برمتها، ودعا بعض القضاة إلى حظرها باعتبارها خطراً على الأخلاق والدين، وسخرت الفرقة المنافسة من ابتذال الحوار وتناقضات رسم الأشخاص وشطحات الحبكة المتعجلة. وظلت التمثيلية حيناً "حديث كل بيت في باريس(19)".



 صفحة رقم : 10605   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير ونساء المجتمع


وكان في موليير من حب النضال ما لا يدعه يترك هذا النقد كله دون تعليق منه. ففي تمثيلية ذات فصل واحد مثلت في الباليه رويال في أول يونيو 1663، واسمها "نقد مدرسة الزوجات" عرض لنا لقاء بين نقاده وتركهم يعربون بعنف عن اعتراضاتهم، ولم يكد يرد عليها إلا بأن يدع النقد يضعف ذاته بمبالغته، وأن يجزيه على ألسنة شخصيات مثيرة للسخرية. وواصل الأوتيل دبورجون "الحرب الكوميدية" بإخراجه هزلية قصيرة سماها "الناقد المعارض"، وهجا موليير الفرقة الملكية في "تمثيلية فرساي المرتجلة" (17 أكتوبر 1663). وساند الملك موليير في وفاء، ودعاه إلى العشاء(20)، ومنحه الآن معاشاً سنوياً قدره ألف جنيه، لا بوصفه "ممثلاً كوميدياً" بل "شاعراً فذاً(21)". كذلك نصر الزمن موليير، فمدرسة الزوجات تعتبر اليوم أول ملهاة عظيمة في المسرح الفرنسي.



 صفحة رقم : 10606   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> غرام طرطوف


4- غرام طوطوف


ولكن موليير دفع ثمن حظوته لدى الملك. فلقد أحب لويس ظرفه وشجاعته، فجعله من كبار المنظمين للملاهي في فرساي وسان-جرمان. وقد ملأ أحد هذه المهرجانات المسمى "مباهج الجزيرة المسحورة" أسبوعاً (7-13 مايو 1664) بألعاب السيف والولائم والموسيقى والباليه والرقص والدراما-وكلها أقيم في حديقة فرساي وقصره تحت أضواء المشاعل والشمعدانات التي تحمل أربعة آلاف شمعة. وكوفئ موليير على جهوده في هذا المهرجان بستة آلاف جنيه. وقد أسف بعض الأدباء لإسراف الملك في استغلال عبقرية موليير لكي يوفر هذا اللهو الخفيف في البلاط، وتصوروا تلك الروائع التي كان من الجائز أن يكتمل نضجها لو أن الشاعر الكامن في الكوميدي أتيح له مزيد من الوقت للتفكير والكتابة. غير أنه كان واقعاً تحت ضغط من فرقته أيضاً، وما كانت شواغله ومسئولياته



 صفحة رقم : 10607   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> غرام طرطوف


مديراً للفرقة وممثلاً بها لتسمح له على أية حال بالاعتكاف في أي برج عاجي. وما أكثر المؤلفين الذين يكتبون تحت ضغط ملح خيراً مما يكتبون في الفراغ، فالفراغ يرخي الذهن، والإلحاد يشحذه. ولقد أخرج موليير أعظم تمثيلياته أول مرة في 12 مايو 1664، في قمة "مباهج الجزيرة المسحورة"، وكانت جزءاً من المهرجان. في هذا العرض الأول لم تكن "طرطوف" بالتمثيلية المناسبة تماماً للمهرجان، لأنها فضحت في غير رحمة ذلك النفاق الذي يتخفى خلف رداء من التقوى والفضيلة. وكانت جماعة دينية من الأخوة العلمانيين تدعى "جمعية السر المقدس"، وعرفت فيما بعد بـ"عصبة الورعين" قد قطعت العهود على أعضائها بأن يعملوا على حظر التمثيلية. أما الملك الذي كانت علاقته الغرامية بلافاليير قد أثارت كثيراً من نقد هؤلاء الورعين، فقد كان مزاجه يدعوه للاتفاق مع موليير، ولكنه بعد أن شاهد الملهاة في عرضها الخاص بفرساي أوقف الأذن بعرضها على نظارة باريس في الباليه-رويال. وطيب خاطر موليير بدعوته ليقرأ "طرطوف" في فونتنبلو على نخبة مختارة تضم ممثلاً للبابا لم يذكر التاريخ أنه اعترض عليها (21 يوليو 1664). في ذلك الشهر مثلت المسرحية في بيت دوق أورليان ودوقتها (هنرييتا آن)، في حضرة الملكة، والملكة الأم، والملك. وبينما كان يجري التمهيد لعرضها على الجماهير أذاع كاهن سان- برتلمي، بيير روليه، في أغسطس ثناء على الملك لحظره التمثيلية، واغتنم هذه الفرصة ليرمي موليير بأنه "رجل، بل شيطان متجسد في ثوب رجل، وأشتهر مخلوق فاسق منحل عاش إلى الآن". ثم قال الأب روليه إن جزاء موليير على تأليف طرطوف "أن يحرق على الخازوق ليذوق من الآن نار الجحيم(22)". ووبخ الملك روليه، ولكنه ظل يحبس الإذن بعرض طرطوف علناً. ولكي يظهر حقيقة موقفه رفع معاش موليير السنوي إلى ستة آلاف جنيه، وتلقى



 صفحة رقم : 10608   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> غرام طرطوف


عن "المسيو" حماية فرقة موليير، فأصبحت منذ الآن "فرقة الملك". وظل الجدل مضطرماً تحت الرماد عامين. ثم قرأ موليير على الملك نسخة منقحة من التمثيلية، أضاف إليها سطوراً تذكر أن الهجاء موجهاً ضد الإيمان الصادق بل ضد الرياء. وأيدت مدام هنربيتا التماس المؤلف الإذن بعرض المسرحية. ووافق لويس موافقة شفوية، وبينما كان منطلقاً إلى الحربفي فلاندر عرضت طرطوف لأول مرة على مسرح الباليه- رويال في 5 أغسطس 1667 بعد مرور ثلاث سنين على أول عرض لها في البلاط. وفي الغد أمر رئيس باريس، وكان ينتمي لجماعة السر المقدس، بغلق المسرح وتمزيق كل لافتاته. وفي 11 أغسطس حظر رئيس أساقفة باريس قراءة الملهاة أو سماعها أو تمثيلها سراً أو علانية، وإلا كان الحرم جزاء المخالف. وأعلن موليير أنه سيعتزل المسرح إذا استمر انتصار "الطراطيف" هذا. أم الملك الذي عاد إلى باريس فقد أمر الكاتب المسرحي الغاضب بأن يتذرع بالصبر، ففعل، وأثيب في النهاية برفع الحظر الملكي. وفي 5 فبراير 1669 بدأت التمثيلية فترة عرض ناجحة اتصلت ثمانية وعشرين مرة. وبلغ من كثرة الراغبين في دخول المسرح وتهافتهم عليه في أول حفلة علنية أن الكثيرين كادوا يختنقون. لقد كانت "أشهر مسرحية" في حياة موليير المسرحية. وقد حظيت دون جميع الدرامات الكلاسيكية الفرنسية بأكبر عدد من العروض-بلغت 2.657 (حتى سنة 1960) في مسرح الكوميدي-فرانسيز وحده. ولكن إلى أي حد تعلل محتويات التمثيلية تأجيلها الطويل، وشعبيتها المتصلة؟ أنها تعلل التأجيل بهجومها الصريح على التظاهر بالتقوى؛ وتعلل الشعبية بقوة هجائها وبراعته. وكل ما في ذلك الهجاء مبالغ فيه بالطبع. فقلما يكون الرياء مستهتراً كاملاً في طرطوف، وقلما يكون الغباء مفرطاً كما كان في أرجون، ليس هناك خادمة نجحت في وقاحتها كما نجحت



 صفحة رقم : 10609   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> غرام طرطوف


دورين. وحل عقدة التمثيلية لا يصدق، كما هي الحال عند موليير دائماً تقريباً، ولكن هذا لم يقلقه، فبعد أن يقدم صورته واتهامه للنفاق، تكفي أي حيلة مسرحية-كتدخل الإله أو الملك-لحل العقدة بانتصار الفضيلة وعقاب الرذيلة. وأغلب الظن أن الهجاء قصد به جماعة السر المقدس الذين أخذ أعضاؤه على عاتقهم أن يوجهوا ضمائر الناس، حتى ولو كانوا علمانيين، ويبلغوا الخطايا السرية للسلطات العامة ويتدخلوا في شؤون العائلات لزيادة الولاء والإخلاص للدين. وقد أشارت التمثيلية مرتين إلى "عصبة" (في السطرين 397 و1705)، وواضح أن هذا تلميح إلى عصبة الورعين. وعقب العرض الأول للتمثيلية حلت جماعة السر المقدس. أما أورجون، البرجوازي الغني، فيرى طرطوف لأول مرة في الكنيسة فينبهر لمرآه. "آه لو رأيته...إذاً لأحببته كما أحبه...كان يأتي كل يوم إلى الكنيسة هادئ الهيئة ثم يركع بجواري. وقد لفت أنظار المصلين جميعاً بحرارة الابتهالات التي رفعها إلى السماء. كان يتأوه ويئن أنيناً شديداً، وفي كل لحظة يقبل الأرض في تذلل. فإذا شرعت في الخروج تقدمني ليقدم إليّ الماء المقدس عند الباب. وإذا أدركت..رقة حاله..كنت أهديه الهدايا، ولكنه كان على الدوام يعرض أن يرد إليّ بعضها.. وأخيراً حفزتني السماء على أن آخذه إلى بيتي، وبدا لي منذ تلك اللحظة أن كل شيء يزكو. وأنا أراه يلوم دون تفرقة بين الناس، وألحظ أنه، حتى فيما يتصل بزوجتي، شديد الحرص على عرضي. فهو ينبئني عمن يرمقها بنظرات الهيام(23)". ولكن طرطوف لا يروع زوجة أورجون وأبناءه كما راعه. ذلك أن شهيته الطيبة، وولعه بأطايب الطعام، وكرشه المكور، ووجهه المتورد



 صفحة رقم : 10610   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> غرام طرطوف


كل أولئك يذهب في نظرهم بأثر عظاتهم. ويرجو كليانت زوج أخته أورجون أن يميز بين الرياء والدين: "كما أنني لا أعرف في الحياة خلقاً أعظم ولا أجل من التقوى الصادقة، ولا شيء أنبل ولا أجمل من حرارة الورع المخلص، فإنني لا أرى شيئاً أشد نكراً من طلاء الغيرة الزائفة، ومن هؤلاء الدجالين، هؤلاء الأتقياء مظهراً...الذين يتجرون بالتقوى، ويريدون أن يشتروا أسباب التكريم وحسن الأحدوثة برفع العيون إلى السماء في رياء، وبانتشاءات القداسة المفتعلة". ولكن أورجون يمضي في تصديق مزاعم طرطوف، ويخضع لإرشاده، ويطلب له المعونة من الله إذا تشجأ، ويقترح تزويجه من ابنته ماريان التي تؤثر عليه فاليير في عنف، أما بطلة التمثيلية الحقيقية فهي دورين، خادمة ماريان، التي تبدو-كما في كل الملاهي الكلاسيكية-أنها تثبت أن العناية الإلهية وزعت العبقرية توزيعاً يتناسب تناسباً عكسياً مع المال. وما أبهج استقبالها لطرطوف عند دخوله المسرح أول مرة: طرطوف: (يكلم خدمه بصوت عالٍ حين يرى دورين). يالورنس، أقفل على وشاحي الوبري وصوتي، والتمس من السماء أن تنيرك بالنعمة دائماً. وإذا جاء أحد لزيارتي فقل إني ذهبت إلى السجون لأوزع صدقاتي. دورين: (جانباً) أي تصنع وأي لؤم! طرطوف: ماذا تريدين؟ دورين: أن أقول لك- طرطوف: (وهو يسحب منديلاً من جيبه) أوه. يا للهول. أرجوكِ أن تأخذي هذا المنديل مني قبل أن تتكلمي.



 صفحة رقم : 10611   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> غرام طرطوف


دورين: ولم؟ طرطوف: غطي ذلك الصدر الذي لا أطيق رؤيته. مثل هذه الأشياء تؤذي النفس وتغري بالأفكار الآثمة. دورين: ادنُ فأنت تذوب ذوباناً أمام التجربة، ومنظر الجسد يؤثر في حواسك تأثيراً شديداً؟ الحق أنني لا أعرف أي حرارة تلهبك، ولكني عن نفسي لست عرضة مثلك لهذا التلهف على الجسد. ففي وسعي الآن أن أراك عارياً تماماً من رأسك إلى قدمك، دون أن يغريني جلدك هذا كله أي إغراء(24). والمنظر التالي لب الملهاة. ترى فيه طرطوف يطارح زوجة أورجون-ايلمير-الغرام، ويستعمل لغة التقى في توسلاته. وينبأ أورجون بخيانته، ولكن يأبى أن يصدق، وإظهاراً لثقته بطرطوف ينزل له عن أملاكه كلها. ويستسلم طرطوف لقبولها قائلاً "لتكن مشيئة السماء في كل شيء(25)" وتحل ايلمير الموقف إذ تخبئ زوجها تحت مائدة، وترسل في طلب طرطوف، وتلوح له ببارقة تشجيع، ثم توقعه في محاولات للاستطلاع الغرامي. وتتظاهر بالرضى، ولكنها تزعم أنها تحس وخزات الضمير، فيتناول طرطوف هذا الزعم بفتوى الخبير، وواضح أن موليير قرأ من قبل رسائل بسكال الريفية واستطابها: "طرطوف: إذا لم يكن غير السماء عقبة في طريق رغباتي، فما أيسر أن أزيح هذه العقبة-صحيح أن السماء تنهى عن لذات معينة، ولكن هناك طرق لتسوية تلك الأمور. فشد أوتار الضمير وفق مقتضيات الحال، وتصحيح فساد الفعل بطهارة النية-ذلك علم أي علم(26)". ويظهر أورجون من مخبئه، ويأمر طرطوف غاضباً بأن يخرج من بيته، ولكن طرطوف يبين له أن البيت أصبح ملكاً له بحكم العقد الذي وقعه أورجون مؤخراً. ويقطع موليير هذه العقدة، دون كبير براعة، بأن يجعل



 صفحة رقم : 10612   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> غرام طرطوف


عمال الملك يكتشفون في اللحظة المناسبة أن طرطوف مجرم تبحث عنه العدالة منذ زمن طويل. ويستعيد أورجون أملاكه، ويظفر فالير بمريان، وتختتم التمثيلية بنشيد شكر شجي يشيد بعدل الملك وإحسانه.



 صفحة رقم : 10613   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> الملحد العاشق


5- الملحد العاشق


ولكن إحسان الملك لابد قد أرهقته تمثيلية موليير الجريئة التالية. ففي ذروة الحرب المحتدمة حول "طرطروف"، وبينما كانت جماعة الورعين لا يزالون منتصرين في أمر حظر التمثيلية، وعرض موليير في الباليه-رويال (15 فبراير 1665) مسرحية "وليمة التمثال الحجري" التي قص فيها بنثر يطفر مرحاً قصة دون جوان القديمة المكررة، وجعل فيها ذلك الزير المستهتر ملحداً مغروراً. وقد أخذ شكلها الظاهر عن تيرسودي مولينا وغيرهم، ولكنه ملأها بدراسة رائعة لرجل يلتذ الشر لذاته وتحدياً لله. والمسرحية صدى مدهش لذلك الجدل الكبير الذي تورط فيه الدين مع الفلسفة. ودون جوان تينوريو مركيز يسلم بالتزاماته قبل طبقته، ولكنه فيما عدا ذلك يريد أن يستمتع بما يشتهي من لذات. ويحصي تابعه سجاناريل عدد النساء اللاتي أغواهن مولاه ثم هجرهن فيجدهن 1.003. يقول جوان "إن الوفاء صفة لا تصلح إلا للحمقى..فليس في وسعي أن أحرم قلبي من أي مخلوقة جميلة أراها(27)" ومثل هذا الخلق يتوق إلى لاهوت يلائمه، ومن ثم يصبح جوان ملحداً ابتغاء راحته. ويحاول خادمه أن يناقش الأمر معه: سجاناريل: أممكن أنك لا تؤمن بالجنة؟ جوان: انسَ الموضوع. سجاناريل: أي أنك لا تؤمن. وما رأيك في جهنم؟



 صفحة رقم : 10614   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> الملحد العاشق


جوان: أه! سجاناريل: كإيمانك بالجنة. وما رأيك في الشيطان من فضلك؟ جوان: نعم، نعم. سجاناريل: قليلاً جداً كذلك. أن ألا تؤمن بحياة أخرى على الإطلاق؟ جوان: ها، ها، ها. سجاناريل: هذا رجل سيشق عليّ هدايته. ولكن قل لي، لا بد أنك تؤمن بـ"الراهب الفظ ". جوان: تباً للأحمق. سجاناريل: أما هذا فلا أطيقه، لأن ليس هناك كائن وجوده مؤكد كهذا الراهب الفظ، وقاتلني الله إن لم يكن وجوده حقيقياً. ولكن المرء يجب أن يؤمن بشيء. فبأي شيء تؤمن؟... جوان: أؤمن بأن اثنين واثنين يساوي أربعة، وأربعة وأربعة يساويان ثمانية. سجاناريل: يا لها من عقيدة جميلة ومواد إيمان رائعة! إذن فدينك-على قد ما أفهم-هو الحساب؟ أما أنا يا مولاي...فأفهم جيداً أن هذا العالم ليس شيئاً كالفطر نما في ليلة واحدة. أريد أن أسألك منذا الذي صنع هذه الأشجار والصخور والأرض والسماء من فوقنا؟ أهذا كله بنى نفسه بنفسه؟ أنظر إلى نفسك مثلاً، فها أنتذا موجود، أصنعت نفسك، وألم يكن لزاماً أن يغشى أبوك أمك ليصنعك؟ أتستطيع أن ترى كل المخترعات التي تتألف منها الآلة البشري دون أن تعجب كيف يشغل الجزء منها جزءاً أخر؟ ومهما قلت، فإن هناك شيئاً معجزاً في الإنسان لم يستطيع كل المتنطعين في العلم أن يفسروه. أليس عجيباً أن تراني هنا، وأن في رأسي



 صفحة رقم : 10615   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> الملحد العاشق


شيئاً يفكر في مائة شيء مختلف في لحظة ويأمر بدني بأن يصنع ما أريد؟ أريد أن أصفق بيدي، وأرفع ذراعي، وأنظر بعيني إلى السماء، وأخفض رأسي، وأحرك قدمي، وأمشي يميناً، ويساراً، وأماماً، وخلفاً، وأدور (يقع على الأرض وهو يدور). جوان: هذا حسن! أن لحجتك أنفاً مكسوراً(28). وفي المشهد التالي تتخذ الخصومة بين جوان والدين صورة أخرى. فهو يلتقي بشحاذ يزعم أنه يصلي كل يوم من أجل المحسنين إليه، فيقول جوان: "أن رجلاً يصلي كل يوم لابد أن يكون غنياً جداً" ويجيب الشحاذ إن الأمر على العكس من ذلك "ففي أكثر الأحيان لا أجد حتى كسرة خبز" ويعرض عليه جوان جنيهاً ذهبياً شريطة أن يجدف، ولكن الشحاذ يرفض "إني أفضل الموت جوعاً" ويذهل جوان قليلاً لهذه الصلابة فيعطيه قطعة النقود وهو يقول "حباً في الإنسانية(29)" ويعرف كل رواد الأوبرات نهاية القصة، إذ يصادف جوان تمثالاً للقائد الذي أغوى ابنته وأودى بحياته. فيدعوه التمثال إلى العشاء، فيحضر، ويناوله يده، فيقوده إلى الجحيم. ويظهر الجهاز الشيطاني المعهود في المسرح الوسيط، "فينقض الرعد والبرق بضوضاء عظيمة على دون جوان، وتفغر الأرض فاها وتبتلعه، وتندلع نار هادئة من المكان الذي سقط فيه". وقد صدم الجمهور في أول ليلة لما رأي من فضح موليير لكفر جوان. ولعل هذا الجمهور لم يكن يرى بأساً بأن يفضح سفالة جوان وافتقاره إلى اللاهوت، وبأنه أماط اللثام عنه وحشاً لا ضمير له ولا حنو، ينشر الخداع والحزن أينما ذهب، ولعله لاحظ أن المؤلف عرض ضحايا الوغد بكل ما فيه من عطف، ولكنه لاحظ أن الرد على الكفر جاء على لسان أحمق يؤمن بالعفاريت إيماناً أرسخ من إيمانه بالله، ولم يخفف من وقع هذا الكفر إلقاء جوان في الجحيم أخيراً، لأن الجمهور رآه يهبط إلى الجحيم



 صفحة رقم : 10616   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> الملحد العاشق


دون كلمة ندم أو خوف. وبعد العرض الأول خفف موليير من حدة أكثر الفقرات إيذاءً، ولكن هذا لم يهدئ ثائرة الرأي العام. ففي 18 إبريل 1665 نشر سيد روشمون، المحامي في البرلمان، "ملاحظات حول مسرحية لموليير" فيها وليمة التمثال الحجري بأنها "شيطانية حقاً..لم يظهر قط أفسق منها حتى في العهود الوثنية" ثم أهاب بالملك أن يحضر التمثيلية: "فبينما يحرص هذا الملك النبيل الحرص كله على صون الدين، نرى موليير يعمل على هدمه..فليس في وسع إنسان مهما قل علمه بتعاليم الدين أن يؤكد بعد رؤية التمثيلية أن موليير أهل للمشاركة في تناول الأسرار المقدسة مادام سادراً في عرضها، أو يستحق أن تقبل توبته دون عقاب علني(30)". ولكن لويس واصل رضاءه عن موليير. ومثلت "وليمة التمثال الحجري" ثلاثة أيام كل أسبوع من 15 فبراير إلى أحد السعف. ثم سحبت، ولم تعد إلى خشبة المسرح إلا بعد موت مؤلفها بأربع سنوات، ولم تعد إلا على صورة اقتباس شعري بقلم توما كورنبي الذي حذف المشهد الفاضح الذي نقلناه. أما النسخة الأصلية فقد اختفت، ثم اكتشفت ثانية في 1813 طبعة مسروقة نشرت بأمستردام في 1680. وظلت نسخة كورنبي تحتكر المسرح حتى 1841، وهي لا تزال تحتل مكان الأصل في بعض طبعات أعمال موليير(31).



 صفحة رقم : 10617   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير في أوجه


6- موليير في أوجهِ


وكأن موليير لم يكفه ما أثار عليه من خصوم، فراح يهاجم مهنة الطب. وكان قد صور دون جوان بأنه "فاجر في الطب" ورأى أن الطب "من اكبر كبائر الإنسانية(32)" وكان قد خبر بنفسه ما في أطباء القرن السابع عشر من قصور وغرور. وخيل إليه أن الأطباء قتلوا ابنه وصفوا له حجر الكحل (الأنتيمون)، ورآهم يقفون موقف العاجز من تدرنه



 صفحة رقم : 10618   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير في أوجه


الذي يسير بخطى حثيثة(33). كذلك كان الملك ساخطاً على ما يعطونه من مسهلات وما يصفدون من دمه كل أسبوع. ويقول موليير إن لويس هو الذي أغراه بوضع الأطباء على السفود. وعليه فقد كتب في خمسة أيام تمثيلية "الحب خير طبيب" مستعيراً من الملاهي القديمة في هذا الموضوع القديم. وقد أخرجت بفرساي في 15 سبتمبر 1665 في حضرة الملك الذي "ضحك لها من قلبه" ولقيت الترحيب الحار حين مثلت بعد أسبوع في الباليه-رويال. وهي تحكي قصة مريضة يدعى لفحصها أربعة أطباء. فيختلون للمداولة، ولكنهم لا يناقشون إلا شئونهم الخاصة. فإذا أصر والد المريضة على قرار وعلاج، وصف أحدهم لها حقنة شرجية، وأقسم الآخر أن الحقنة ستقتلها لا محالة. ثم تتعافى المريضة بغير دواء، الأمر الذي يثير سخط الأطباء، فيصيح الدكتور باييز "خير لها أن تموت طبقاً للقواعد من أن تشفى مخالفة لها(34)". وفي 6 أغسطس 1666 عرض موليير مسرحية قصيرة أخرى هي "الطبيب برغم أنفه" مقدمة مسرحية لمسرحيته "مبغض البشر" قصد بها أن يخفف من كآبة هذه التمثيلية التي تتغنى بالتشاؤم. وهي لا تجزي جهد قارئها اليوم بأن موليير لم يقصد أن تؤخذ هجائياته للطب مأخذ الجد. ويلاحظ أنه ظل على علاقات طيبة جداً مع طبيبه الخاص، المسيو دموفلان، وأنه توسط لدى الملك ليجد وظيفة شرفية لابن هذا الطبيب (1669) وقد شرح مرة كيف كان هو وموفلان منسجمين تمام الانسجام فقال "إننا نناقش الأمر، ويصف هو العقاقير، وأنا أغفل تعاطيها، ثم أشفى(35)". وبينما كان موليير لا يزال في وطيس المعركة حول طرطوف، قدم في 4 يونيو 1666 هجائية أخرى لم يقصد بها أن يسر الجمهور ولا الحاشية وإذا كانت الحركة روح المسرحية، فإن هذه المسرحية "مبغض البش" أقرب إلى الحوار الفلسفي منها إلى التمثيلية، وتكفي جملة واحدة لتلخيص القصة؛ فألسيست، الذي يطالب نفسه وغيره بالفضيلة الصارمة والصراحة



 صفحة رقم : 10619   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير في أوجه


الكاملة يحب سيليمين التي تؤثره، ولكن يطيب لها أن ترى العدد العديد من الخطاب وتسمع الكثير من المديح. ويجد موليير في هذا مجرد ذريعة لدراسة الفضيلة. فهل من واجبنا أن نقول الصدق دائماً، أم نحل المجاملة محل الصدق لكي نتقدم في هذه الدنيا؟ أما ألسيست فيرفض أنصاف الحلول التي يتراضى بها المجتمع مع الصدق، ويندد برياء البلاط، حيث يتظاهر كل إنسان بأسمى العواطف و"أحر التحيات" في حين يكيد كلٌ لغيره سراً تحقيقاً لمصلحته الشخصية، ويغتابهم جميعاً، ويستعين بالتملق على نيل الحظوة أو السلطة. وألسيست يحتقر هذا كله، ويريد أن يكون صادقاً ولو أفضى به الصدق إلى الانتحار. ويصر شويعر من رجال البلاط يدعى أورونت على قراءة أشعاره على ألسيست، ويطلب إليه أن ينقدها نقداً مخلصاً؛ وينال ما طلب، فيهدد ويتوعد بالانتقام. وتغازل سيليمين الرجال، فيوبخها ألسيست، فتصفه بأنه إنسان متزمت مغرور، ونكاد نسمع موليير يوبخ زوجته المرحة، والواقع أنه هو الذي لعب دور ألسيست، وهي التي مثلت سيليمين: ألسيست: سيدتي، أتسمحين لي أن أكون صريحاً معك؟ إنني لشديد الاستياء من تصرفاته..أنا لا أتشاجر معكِ، ولكن مسلككِ يا سيدتي يفتح لأول وافد سبيل إلى قلبك. إن لك عدد هائلاً من العشاق الذين نراهم يحاصرونكِ، ونفسي لا تستطيع الرضى بهذا. سيليمين: أتلومني لأنني أجذب العشاق؟ أهو ذنبي أن الناس يجدونني جديرة بالحب؟ وإذا بذلوا المحاولات اللطيفة لرؤيتي أفآخذ عصا وأطردهم خارجاً؟. ألسيست: لا، ليست العصا هي ما يجب أن تستعمليه، بل روحاً أقل استسلاماً وذوباناً أمام عهودهم. أعرف أن جمالك يتبعك في كل مكان ولكن ترحيبك يزيد من تجتذبه عيناك تعلقاً بك، وتلطفك مع جميع من يستسلمون لك يكمل في قلوبهم فعل مفاتنك(36).



 صفحة رقم : 10620   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير في أوجه


والنقيض الفلسفي لألسيست هو صديقه فيلانت، الذي ينصحه بأن يلائم في لطف بين نفسه وبين ما في البشر من نقائض فطرية وأن يعترف باللطف ميسراً للحياة. وسحر المسيحية في قسمة موليير عواطفه بين ألسيست وفيلانت. فألسيست هو موليير الزوج الذي يخشى أن يكون ديوثاً، ومنجد حجرة الملك الذي عليه-لكي يعد سرير الملك-أن يتصدى لمائة نبيل يفاخرون بنسبهم مفاخرته بعبقريته. وفيلانت هو موليير الفيلسوف، الذي يأمر نفسه بأن يكون معقولاً متسامحاً في الحكم على البشر. يقول فيلانت-موليير لموليير-ألسيست في فقرة لنا أن نعتبرها نموذجاً من موليير الشاعر: "رباه: فلنقلل من ضيقنا بعادات العصر، ولنتسامح قليلاً مع الطبيعة البشرية، ولا نفحصها بصرامة شديدة، بل ننظر إلى عيوبها بشيء من التساهل. فالحياة في هذه الدنيا تتطلب فضيلة مرنة طيعة، وقد يخطئ المرء بغلوه في الحكمة، فالعقل الكامل يتجنب كل تطرف، ويريدنا أن نكون حكماء في اعتدال. إن التزمت الشديد في فضائل القدماء يصدم كثيراً عصرنا والعرف السائد بيننا، فهو ينشد في البشر كمالاً مفرطاً؛ علينا أن نلين للزمن دون تصلب، والحماقة كل الحماقة في أن نورط أنفسنا في تقويم أخطاء العالم. أني ألحظ كما تلحظ كل يوم عشرات الأشياء التي كان يمكن أن تكون خيراً مما هي لو أنها سلكت طريقاً غير طريقها، ولكن مهما تكشف لي في كل خطوة، فإن الناس لا يروني ساخطاً مثلك. أنني لأتقبل الناس على علاتهم في هدوء كثير، وأروض نفسي على التجاوز عما يفعلون، وأعتقد أن في برودة طبعي من الفلسفة ما في مرارة طبعك، سواء كنت في البلاط أو في المدينة"(37). وفي رأي نابليون أن حجة فيلانت هي الأرجح، أما جان دارك روسو فرأيه أن فيلانت كذاب، وهو يحب فضيلة ألسيست الصارمة(38). وفي النهاية يهجر ألسيست العالم كما هجره جان دارك ويعتكف في عزلة معقمة.



 صفحة رقم : 10621   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير في أوجه


ولم تحقق التمثيلية من النجاح إلا قدراً معتدلاً. فالحاشية لم تسغ هجو تظرفها، وجمهور الصالة لم يتحمسوا لرجل كألسيست يحقر كل شيء صراحة إلا نفسها. ولكن النقاد-الذين لا هم من جمهور الصالة ولا من الحاشية-صفقوا للمسرحية استحساناً، وقالوا إنها محاولة جريئة لتأليف مسرحية الأفكار، أما النقاد المحدثون فيرونها أكمل عمل كتبه موليير. وبمضي الزمن، وبعد أن مات جيلها الذي شهرت به، لقيت قبولاً عاماً، ففيما بين عام 1680 و1954 مثلت 1571 مرة في الكوميدي فرانسيز-ولم يفقها في حفلات تمثيلها سوى طرطوف والبخيل. ولما عجز موليير عن العيش في سلام مع زوجة شابة بدا لها الاقتصار على زوج واحد، والجمال، أمرين متناقضين، هجرها (أغسطس 1667) وذهب ليعيش مع صديقه شابلان في أونوى بالطرف الغربي لباريس. وقد استخف به شابلان في رفق لأنه يأخذ الحب مأخذ الجد إلى هذا الحد، ولكن موليير كان شاعراً أكثر منه فيلسوفاً. وقد اعترف بهذا (إذا صدقنا شاعراً يروي عن آخر): "لقد صممت على أن أعيش معها كأنها ليست زوجتي، ولكن لو علمت ما أكابد لأشفقت عليّ. فلقد بلغ بي الغرام بها مبلغاً يجعله يتغلغل بعطف في كل اهتماماتها. وحين أتأمل استحالة تغلبي على ما أحس به نحوها، أقول لنفسي إنها ربما تكابد نفس المشقة في التغلب على ميلها لأن تكون لعوباً، وعندها أجد نفسي أميل للشفقة عليها مني للومها. ستقول لي ولا ريب إن الرجل لابد أن يكون شاعراً لكي يحس بهذا، ولكني شخصياً أحس أنه ليس هناك سوى نوع واحد من الحب، وأن أولئك الذين لم يحسوا بهذه الخلجات لم يحبوا حباً صادقاً قط. فكل الأشياء في الدنيا مرتبطة بها في قلبي...وحين أراها يجردني من كل قدرة على التفكير ضرب من الانفعال، بل نشوات تحس ولا توصف، فلا تعود لي عينان



 صفحة رقم : 10622   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير في أوجه


تبصران سوءاتها، ولا أرى غير كل جميل محبب فيها. أليس هذا منتهى الجنون(39)؟". وقد حاول أن يسلوها بإغراق نفسه بعمله. ففي 1667 شغل نفسه بتنظيم حفلات الترفيه للملك في سان-جرمان. وأحيت ملهاته "أمفيتريون" (13 يناير 1668) من جديد غراميات جوبيتر الذي يغوي الكمين زوجة أمفيتريون. وحين قال لها جوبيتر "إن مقاسمة المرأة جوبيتر فراشها ليس فيها أي غض من شرفها" فسر كثير من السامعين العبارة بأنها تصفح عن غرام الملك بمدام دمونتسبان، فإذا كان هذا التفسير صحيحاً فهو تملق غاية في السخاء، لأن موليير لم يكن مزاجه آنذاك يسمح له بالتعاطف مع من يغوون الزوجات. لقد كان ككل إنسان آخر يداهن الملك بعبارات الزلفى كما فعل في خاتمة طرطوف. وفي ملهاة أخرى مثلت أمام البلاط في 15 يوليو، واسمها "جورج داندان، أو الزوج المبلبل" تطالعنا مرة أخرى قصة الزوج المبلبل، الذي يتهم زوجته بالزنا ولكنه لا يستطيع إثبات التهمة فيأكل قلبه بالشك والغيرة؛ لقد كان موليير يسكب الملح في جراحه. وكان عاماً حافلاً بالعمل، فبعد بضعة أشهر لا أكثر (9 سبتمبر) أخرج واحد من أشهر تمثيلياته وهي "البخيل". وقد اتخذت موضوعها وجزءاً من حبكتها من مسرحية بلوتوس "أولولاريا" ولكن بلوتوس كان قد نقل مسرحيته عن "الملهاة الجديدة" عند اليونان. وأغلب الظن أن البخيل وهجوه القديمان قدم المال، ولكن أحداً لم يتناول هذا الموضوع بحيوية وقوة أكثر من موليير. فترى آرباجون يتعلق بماله تعلقاً يحمله على ترك خيله تتضور جوعاً وتسير بغير حوافر، وهو يكره العطاء كراهية تجعله لا "يعطيك" نهاراً سعيداً (أن يقرئك التحية) بل "يقرضك نهاراً سعيداً". وحين يرى شمعتين موقدتين استعداداً للعشاء يطفئ إحداهما.



 صفحة رقم : 10623   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير في أوجه


وهو يرفض أن يمنح ابنته مهراً، ويثق أن ابنه وابنته سيموتان قبله(40). والهجو هنا، كما هو في موليير عادة، يقرب من الكاريكاتور. ولم يسغ الجمهور الصورة، وبعد أن مثلت المسرحية ثمان مرات سحبت،ولكن ثناء بولو عليها أعان على فتح الحياة فيها، فعرضت يبعاً وأربعين مرة في سنواتها الأربع الأولى، ولا يفوقها في عدد عروضها غير طرطوف. أما مسرحية "البرجوازي مدعي النبل" فكانت أقل جودة وأكثر توفيقاً. وقصتها أنه في ديسمبر 1669 قدم إلى فرنسا سفير تركي. وأتخذ البلاط كل أبهته ليقع في نفس السفير، ولكن السفير استجاب في جمود وصلف. وبعد رحيله دعا لويس وموليير ولولي إلى تأليف كوميديا تجمع بين الباليه والملهاة وتحاكي الأتراك محاكاة ساخرة. ووسع موليير الخطة فجعلها هجائية تذم العدد المتعاظم من فرنسيي الطبقة الوسطى الذين يجاهدون للبس والحديث كما يلبس ويتحدث الأرستقراطيين بالمولد. ومثلت الملهاة أول مرة أمام الملك والبلاط بشامبور في 14 أكتوبر 1670. ولما عرضت بالباليه-وريال في نوفمبر، عوضت الخسارة المالية التي ألحقها بالفرقة عروض "البخيل". ومثل موليير دو مسيو جوردان، ومثل دور المفتي. ورغبة في خلع النبالة على مظهره، يستأجر مسيو جوردان معلماً للموسيقى، وآخر للرقص، وثالثاً للمبارزة، ورابعاً للفلسفة. ويتعارك هؤلاء ويتضاربون على أهمية فنونهم-فأيها أهم، تحقيق الغنائم، أم الخطو الموقع، أم القدرة على القتل المحكم، أم الحديث بالفرنسية الرشيقة؟ ونلحظ في مزاعم معلم الموسيقى غمزة خبيثة قصد بها لولي المتفاخر المتسلق. ويعرب نصف العالم ذلك المشهد الذي يتعلم فيه جوردان أن اللغة كلها إما نثر وإما شعر: مسيو جوردان: ماذا؟ إذا قلت "إتيني نحفي يانيكول"، و"ناولني طاقيتي" أيكون هذا نثراً؟ معلم الفلسفة: نعم يا سيدي.



 صفحة رقم : 10624   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير في أوجه


مسيو جوردان: يميناً، لقد ظللت أربعين سنة أتكلم النثر وأنا لا أدري. إنني والحق مدين لك جداً بإنبائي بهذا(41). على أن بعض رجال الحاشية الذين كانوا غير بعيدي العهد بالتخرج من التجارة إلى النبالة أحسوا انهم المقصودون بهذا الهجاء، فسخروا بالتمثيلية زاعمون أنها لغو فارغ، ولكن الملك قال لموليير مؤكداً "أنك لم تكتب في حياتك شيئاً أمتعني كهذا". يقول جيزو "إن البلاط تملكته نوبة من الإعجاب بمجرد سماعه هذا الثناء(42)". وتعاون موليير ولولي ثانية ومثلا أمام البلاط (يناير 1671) "بسيشيه"، وهي مزيج من الباليه والمأساة، شارك بيير كولمبي وكنو بأكثر أبياتها. وكان لولي يكسب المعركة ضد موليير، فالملهاة تخلي مكانها للأوبرا، والحوار للآلات، وكان لزاماً إنزال الأرباب والربات من السماء أو رفعهم من الجحيم، واقتضى الأمر إعادة بناء المسرح في الباليه-رويال لهذه التمثيلية، وكلف هذا 1.989 جنيهاً. ولكن الإخراج حقق نجاحاً مالياً. بيد أن الرومانس لم تكن أقوى جوانب موليير، وكان أكثر انطلاقاً ويسراً حين يهزأ بسخافات جيله. وقد خيل إليه المرأة المتعلمة شذوذ متعب وعقبة في طريق الزواج. ولقد سمع هؤلاء النسوة يشذبن الألفاظ، ويناقش دقائق النحو، ويقتبسن من الآداب القديمة، ويتكلمن الفلسفة، ووقر هذا في إذن موليير وكأنه انحراف جنسي، أضف إلى ذلك أن رجلين-هما الأب كوتان والشاعر ميناج-كانا يهاجمان بعنف مسرحيات موليير، فها هي ذي الفرصة قد لاحت لوخزهما. وعليه ففي 11 مارس 1672 قدم مسرحية "النساء العالمات". ففيلامن تطرد خادمة لاستعمالها لفظاً رفضه المجتمع اللغوي، وابنتها أرماند ترفض الزواج لأنه اتصال مقزز بين الأجساد لا امتزاج بين العقول؛ ويقرأ تريسوتان شعره الكريه على هاتين



 صفحة رقم : 10625   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> موليير في أوجه


المرأتين المتكلفتين المعجبتين. ويملأ فلديوس الشعر بالألغاز والمعميات، ويقرأ المزيد من شعره وشعر تريسوتان. ويدافع موليير عن هنرييت ضد هؤلاء جميعاً، لأنها تستهجن أبيات الشعر (السداسية) وتريد زوجاً يمنحها الأبناء لا الإبجرامات. ترى هل أصبحت أرمند بيجار إحدى المتحذلقات؟ أم أن موليير كان يعرض عصره؟



 صفحة رقم : 10626   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> ستار


7- ستار


إنه لم يجاوز الخمسين الآن، ولكن حياته المحمومة، وتدرنه، وزواجه، وأحزانه لفقد أحبائه، استنزفت حيويته. إن مينار رسمه في ريعان شبابه: أنف كبير وشفتان شهوانيتان وحاجبان مرفوعان بشكل مضحك، ولكن له إلى جانب هذا جبهة متجعدة وعينين حزينتين. ذلك أن انهماكه في دوامة المسرح من بلد إلى بلد، يوماً بعد يوم، وتعامله مع الممثلات الأوليات المتوترات الأعصاب، ومع زوجة منعمة بالحياة، ومع ملك حساس، ورؤيته اثنين من أطفاله الثلاثة يموتان-كل هذا لم يكن طريقاً مفروشاً بالرياحين إلى التفاؤل، بل طريقاً عريضاً لسوء الهضم والموت المبكر. لا عجب إذن أن يصبح موليير "بركاناً يلتهم ذاته(43)"، إنساناً مكتئباً، حاد الطبع، نقاداً في غير مجاملة، ولكنه رغم ذلك كريم النفس عطوف. وقد فهمته فرقته وأخلصت له الود، موقنة أنه يفني نفسه ليوفر لها القوت ويكفل لها النجاح. وكان أصدقاؤه على استعداد دائم لخوض المعركة دفاعاً عنه-لا سيما بوالو، ولا فونتين، اللذين كتبا مع موليير، بمشاركة راسين أحياناً، "الأصدقاء الأربعة" المشهورة. ولقد وجدوا فيه التعليم الحسن والإطلاع الواسع، وعرفوه ذكياً ظريفاً وإن قل مرحه؛ لقد كان المهرج الساخر على خشبة المسرح، ولكنه في حياته الخاصة أشد حزناً من جاك (في مسرحية شكسبير "كما تشاء").



 صفحة رقم : 10627   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> ستار


وبعد أن انفصل عن زوجته أربع سنوات ونصفاً عاد إليها (1671). ومات الطفل الذي أثمره هذا التصالح بعد شهر من ولادته. وكان يعيش في أوتوي قبل ذلك على اللبن كما أوصاه طبيبه، فعاد الآن إلى شرب النبيذ على عادته، وحضر سهرات العشاء المتأخر إرضاء لأرماند. وقرر أن يمثل الدور الأول برغم تفاقم سعاله، دور أرجان، في آخر تمثيلياته "المريض بالوهم" (10 فبراير 1673). وأرجان هذا يتوهم بأنه مصاب بالعديد من الأمراض، وينفق نصف ثروته على الأطباء والعقاقير. ويحتقر أخوه بيرالد: "أرجان: فما الذي يجب أن نصنعه حين نمرض؟ بيرالد: لا شيء يا أخي...علبنا أن نحتفظ بهدوئنا لا أكثر. والطبعة ذاتها إذا تركناها وشأنها، كفيلة بأن تخلص نفسها بلطف من الخلل الذي وقعت فيه. إن الذي يفسد كل شيء هو نكراننا لصنيعها ونفاد صبرنا، وكل الناس تقريباً يموتون بالدواء لا بالداء(44)". ولمزيد من السخرية بمهنة الطب يقال لأرجان إن في استطاعته هو نفسه أن يصبح طبيباً بإجراء مختصر، وأن يجتاز بسهولة الامتحان للحصول على الإجازة الطبية. ويلي ذلك الامتحان المزيف الذي تسأل فيه اللجنة أرجان , وكاد موت موليير أن يكون جزءاً من هذه التمثيلية. ففي 17 فبراير



 صفحة رقم : 10628   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> ستار


1673 طلب إليه أرماند وغيرها، حين رأوا إعياءه، أن يغلق المسرح أياماً حتى يتمالك صحته. فسألهم، "ولكن كيف أصنع هذا؟ إن هناك خمسين عاملاً فقيراً ينقدون أجرهم يوماً بيوم، فماذا هم فاعلون إذا توقفنا عن التمثيل؟ إنني لألوم نفسي على أنني أهملت توفير القوت لهم يوماً واحداً مادام في طاقتي أن أمثل(45)". وفي الفصل الأخير من التمثيلية، وبينما كان كوليير، في دور أرجان (الذي تظاهر بالموت مرتين) يلفظ كلمة Juro (أحلف) وهو بقسم يمين المهنة، أخذته نوبة سعال مقترنة بتقلصات. فداراها بضحكة كاذبة وأنهى التمثيلية. وهرعت به زوجته والممثل الشاب ميشيل بارون إلى بيته. وطلب كاهناً، ولكن أحداً لم يحضر. واشتد سعاله، وانفجر فيه عرق، فاختنق بالدم في حلقه ومات. وقضى آرلي نفالون رئيس أساقفة باريس بأنه يستحيل دفن موليير في أرض مسيحية مادام لم يتب توبته النهائية ويتلقى غفران الكنيسة. أما أرماند، التي كانت تحبه على الدوام حتى وهي تخدعه، فذهبت إلى فرساي، وارتمت عند قدمي الملك، وقالت في غير حكمة، ولكن في شجاعة وصدق "إذا كان زوجي مجرماً، فإن جلالتكم باركتم جرائمه بشخصكم(46)". وبعث لويس بكلمة إلى رئيس الأساقفة سراً، ولان آرلي، وأمر بألا يؤخذ جثمانه إلى كنيسة لإجراء الشعائر المسيحية، ولكنه سمح بدفنه في هدوء بعد الغروب في ركن قصي من جبانة سان-جوزيف في شارع مونمارتر. ومازال موليير بإجماع الناس علماً من أعظم أعلام الأدب الفرنسي، لا بكمال تكنيكه المسرحي ولا بأي روعة تميز بها شعره. فأكثر حبكاته مستعارة، ومعظم نهاياتها مفتعلة وغير معقولة، وجل شخوصه صفات مجسدة، والعديد منها كأرباجون مبالغ فيه إلى حد الكاريكاتور، وكثيراً ما تهبط ملاهيه إبلا درك الفارص (الهزلية الصاخبة المهرجة).



 صفحة رقم : 10629   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> ستار


وقد قيل إن الحاشية والجمهور أحبوه أكثر ما أحبوه حين يغرق في هذا الفارص، ولم يستطيبوا أهاجيه اللاذعة للمثالب التي يشارك فيها الناس عموماً. وأغلب الظن أنه مفضلاً هذا اللون من الهزلية لولا شعوره بأنه مضطر إلى الحفاظ على قدرة فرقته على الوفاء بديونها. وكما أسف سكشبير على اضطراره أن يجعل من نفسه مهرجاً للناظرين كتب موليير يقول: "أرى أن من العوبة الفادحة في الفنون الحرة أن يعلن الفنان عن نفسه للحمقى وأن نعرض ثمرات أقلامنا للحكم الهمجي الذي يحكم به على الأغبياء(47)". وقد حز في نفسه أن يطالب على الدوام بإضحاك الناس، فهذا كما قال أحد شخوصه "مطلب غريب(48)". وكان يتطلع لكتابة المآسي، ومع أنه قصر دون هذا الهدف، فإنه وفق في أن يضفي على أعظم ملاهيه مغزى وعمقاً مأساويين. إذن فالفلسفة التي تنطوي عليها تمثيلياته، وفكاهتها وهجوها اللاذع-هذه هي التي تجعل كل قارئ تقريباً يقرأ موليير(49). وهي في صميمها فلسفة عقلانية، أبهجت قلوب "فلاسفة" القرن الثامن عشر. "فليس في موليير أثر لمسيحية الخوارق" و"الدين الذي عرضه لسان حاله كليانت (في طرطوف) يمكن أن يصدق عليه فولتير(50)".إنه لم يهاجم قط العقيدة المسيحية، وقد سلم بفضل الدين في حياة الكثيرين جداً، واحترم التقوى الصادقة المخلصة، ولكنه احتقر الورع السطحي الذي يخفي أنانية أيام ستة وراء نفاق اليوم السابع (يوم الأحد). وكانت فلسفته الأخلاقية وثنية بمعنى أنها أباحت اللذة ولم يكن فيها إحساس بالخطيئة. وكان فيها رائحة أبيقور وسنيكا لا القديس بولس أو أوغسطين، وقد انسجمت مع تحلل الملك أكثر من انسجامها مع زهد البور-رويال. وكان يستنكر الغلو حتى في الفضيلة. كان يعجب بـ"الرجل الفاضل"، رجل الدنيا المعقول الذي يسلك باعتدال عاقل



 صفحة رقم : 10630   



قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> موليير -> ستار


وسط السخافات المتعارضة، ويوائم في غير ضجة بين نفسه وبين نقائص البشر. ولم يبلغ موليير ذاته ذلك المستوى من الاعتدال. فقد أكرهته مهنته مسرحياً هازلاً على الهجو، وعلى المبالغة أحياناً كثيرة. وقد عنف على النساء المتعلمات، وغلا في هجومه على الأطباء دون تفريق، ولعله كان يخلق به أن يبدي احتراماً أكثر للحقن الشرجية. ولكن الغلو كائن في دم الهجو، وقل أن تبلغ المسرحيات هدفها بدونه، ولعل موليير يكون أجل وأعظم قدراً لو أنه وجد سبيلاً لهجو الشر الأساسي الذي لوث ذلك العهد-ونعني ذلك الجشع الحربي والاستبداد المدمر الذي ابتلي به لويس الرابع عشر؛ ولكن هذا المستبد المنعم هو الذي حماه من أعدائه ويسر له أن يشن الحرب على التعصب. وما أسعده لأنه مات قبل أن يصبح سيده أشد هؤلاء المتعصبين كلهم تدميراً! إن فرنسا تحب موليير، وما زالت تمثل مسرحياته، كما تحب إنجلترا شكسبير وتمثل مسرحياته، ولا نستطيع كما يريد بعض الغليين (الفرنسيين) المتحمسين أن نسوي بينه وبين شاعر إنجلترا، فلقد كان جزءاً فقط من شكسبير، الذي كان جزاءه الآخران راسين ومونتيني. كذلك لا نستطيع كما يفعل الكثيرون أن نضعه على قمة الأدب الفرنسي. لا بل إننا لسنا على يقين من أن بوالو كان على حق حين قال للويس الرابع عشر إن موليير كان أعظم شعراء عهده، فحين قال بوالو هذا لم يكن راسين قد كتب "فيدر" ولا "آتالي". ولكن في موليير، ليس الكاتب فقط هو الذي ينتمي لتاريخ فرنسا، بل الإنسان: مدير الفرقة المرهق الوفي، والزوج المخدوع الصفوح، والمسرحي الذي يخفي أحزانه بالضحك، والممثل العليل الذي يواصل حتى الموت حربه على الفقر، والتعصب، والخرافة، والنفاق.