قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 1 ف 1

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 10419

قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> الشمس تشرق -> مازاران وألفروند

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الأول: فرنسا في أوج عظمتها 1643 - 1715

الفصل الأول: الشمس تشرق 1643 - 1684

1- مازاران وألفروند 1643 - 1661

ترى ما الذي أعان فرنسا على أن تفرض على أوربا الغربية منذ 1643، سلطاناً فيه ما يشبه قوة التنويم، اتصل في ميدان السياسة حتى 1763، وفي ميادين اللغة والدب والفن حتى 1815؟ إن العالم لم يشهد قط منذ أيام أغسطس ملكية ازدانت بمثل هذا العدد من أفذاذ الكتاب والمصورين والمثالين والمعماريين، أو حظيت بمثل الإعجاب والمحاكاة الواسعين، سواء في آداب المجتمع أو الأزياء أو الأفكار أو الفنون، اللذين حظيت بهما حكومة لويس الرابع عشر من 1643 إلى 1715 لقد كان الجانب يؤمون باريس وكأنهم يؤمون مدرسة تهذيبية تصقل كل ألوان الجمال في الجسم والعقل. وكان الألوف من الإيطاليين، والألمان، وحتى الإنجليز، يؤثرون باريس على أوطانهم.

أن من أسباب هيمنة فرنسا آنئذ ضخامة قواها البشرية. فقد بلغ سكانها عشرين مليوناً من الأنفس في 1660، في حين لم يزد سكان كل من أسبانيا وإنجلترا على خمسة ملايين، وإيطاليا على ستة، والجمهورية الهولندية على مليونين. أما الإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي شملت ألمانيا، والنمسا، وبوهيميا، والمجر، فقد سكنها واحد وعشرون مليوناً تقريباً، ولكنها لم تكن إمبراطورية إلا بالاسم وقد أفقرتها قبيل هذه الحقبة حرب الثلاثين، وانقسمت إلى نيف وأربعمائة دويلة. شديدة الحرص على "سيادتها"، جلها صغير مستضعف، ولكل منها حاكمها، وجيشها، وعملتها، وقوانينها، ولا يزيد سكان الواحدة منها على المليونين-وعلى نقيض هذا كانت فرنسا بعد 1660 أمة متماسكة جغرافياً، متحدة تحت حكومة مركزية قوية واحدة، وهكذا تمخضت جهود ريشليو الأليمة عن مولد "القرن العظيم".

ولقد فاز البورون حيث أخفق الفالوا في ذلك الصراع الطويل الذي نشب بين الهابسبورج والملوك الفرنسيين. وأخذت أجزاء من الإمبراطورية، عقداً بعد عقد، تقع في قبضة فرنسا، ثم نزلت أسبانيا الهابسبورجية عن كبريائها وزعامتها في روكروا (1643) وصلح البرانس (1659). وبعدها عقد لواء القوة للدولة الفرنسية في العالم المسيحي، دولة مطمئنة إلى مواردها الطبيعية، ومهارات شعبها وولائه، وخطط قادتها العسكريين، ومصير ملكها. كذلك كان من الأهمية بمكان ما كتب لهذا الفتى من حكم سيتصل قرابة ثلاثة أرباع القرن، مضيفاً بذلك وحدة الحكومة والسياسة إلى وحدة العرض والأرض، وهكذا سنرى فرنسا طوال خمسين عاماً ترعى وتستقدم عباقرة العلم والأدب، تشيد القصور الشامخة، وتجيش الجيوش الضخمة، وترهب نصف الدنيا وتلتهمها. لقد قدر لهذه الصورة أن تكون صورة عظيمة لم تكد تضارعها من قبل عظمة، ترسم بكل ضروب الفن وألوانه، وبدم الرجال أيضاً.

ولم تكن فرنسا قد توحدت بعد يوم ارتقى لويس الرابع عشر العرش وهو لا يجاوز الخامسة (1643)، وكان على كردينال ثان أن يتم العمل الذي بدأه سلفه ريشليو. ذلك هو جول مازارن الذي كان يسمى في إيطاليا جوليو مازاريني، وقد ولد في "الأبروتزي" لأبوين صقليين فقيرين، وتولى اليسوعيون تعليمه في روما، وخدم الباباوات موظفاً دبلوماسياً، ثم لفت أنظار أوربا فجأة يوم أنهى الحرب المانتوية (1630) بالمفاوضة في لحظة حرجة. فلما أوفده البابا مبعوثاً له في باريس، ربط مصيره بعبقرية ريشليو المسيطرة، فكافأه هذا على إخلاصه بقبعة الكردينالية. وحين حضرت المنية ريشليو، "أكد للملك أنه لا يعرف غير مازاران رجلاً كفوا لملء مكانه"(1). واستمع لويس الثالث عشر إلى النصيحة.

قلما مات هذا الملك المطيع (1643) ظل مازاران متوارياً بينما اضطلعت الملكة الأم، آن النمساوية، بالوصاية على ولدها، واحتال لوي دكونديه وجاستون دورليان، الأميران الملكيان، ليصبحا القوة الفعالة وراء العرش ولم يغتفرا للملكة قط أنها تخطتهما واستوزرت ذلك الإيطالي الوسيم، الذي بلغ الآن الحادية والأربعين. وفي غداة تقليده الوزارة هشت باريس لنبأ انتصار روكورا الحاسم، وبدأ حكم مازاران بهذا الاستهلال الميمون، ودعمته الانتصارات الكثيرة سواء في الدبلوماسية والحرب. وقد تبين ذكاؤه في حسن تخيره للسياسات، والقواد العسكريين، والمفاوضين. وبفضل إرشاده وقيادته وطد صلح وستفاليا (1648) تفوق فرنسا الذي أكسبه إياها الحرب.

على أن مازاران لم يوهب وحدة الإرادة وقوتها اللتين أوتيهما ريشليو، ومن ثم فقد اعتمد على صبره ودهائه وسحره. وقام أصله الأجنبي عقبة في طريقه. ومع أنه أكد لفرنسا أن قلبه فرنسي وإن كان لسانه إيطالياً، إلا أن تأكيداته لم تحظ قط بالتصديق التام، فلقد كان رأسه إيطالياً، وقلبه ملكاً له. ولا علم لنا كم من هذا القلب اختص به الملكة، إنه خدمها وخدم أطماعه بغيرة، واكتسب ودها، وربما حبها. وكان على يقين من أن سلامته وسلامتها في مواصلة سياسة بناء قوة الملكية تدريجياً ضد أشراف الإقطاع. وفي سبيل الإثراء تحسباً للمستقبل إن سقط، جميع المال بحرص الرجل الذي يذكر الفقر أو يخشاه، فحكمت عليه فرنسا، التي بدأت تعجب بفضيلة الاعتدال، بأنه محدث نعمة، وساءتها لكنته الإيطالية، وأقرباؤه الذين كلفوا الدولة غالياً. لا سيما بنات أخيه، اللاتي تطلب حسنهن جهازاً مترفاً من الخدم أو الحشم. وقد أحتقره الكردينال رتز، مع أن رتز هذا لم يكن ركناً ركيناً للفضيلة، فزعم أنه "إنسان قذر...ومحتال أصيل...وشرير لئيم(2)". على أن رتز-بعد أن هزمه مازاران-لم يكن في وضع يعينه على إنصاف غريمه. وإذا كان الوزير الماكر قد جمع المال دون اكتراث للكرامة، فإنه أنفقه بذوق رفيع، فملأ حجراته بالكتب والتحف التي أوصى بها بعد ذلك لفرنسا وكان ذا أسلوب مرح مهذب يلذ السيدات ويحير الرجال. وقد وصفته امرأة منصفة تدعى مدام دموتفيل، بأنه: "يفيض رقة، بعيد كل البعد عن صرامة" ريشليو(3). وكان سريع العفو عن معارضيه، سريع النسيان لفضل ذوي الفضل عليه. وأجمع الكل على أنه لم يدخر جهداً في حكم فرنسا، ولكن حتى هذا التفاني كان يسيء إلى بعض الناس، لأنه كان أحياناً يترك كبار زواره ينتظرون على مضض في حجرات انتظاره. وكان كل إنسان في رأيه قابلاً للرشوة، وكان عديم الإحساس بالنزاهة. أما أخلاقه الشخصية فلم يكن بها بأس إذا ضربنا صفحاً عن الشائعات التي أرجفت بأنه جعل من ملكته خليلة له. وقد صدم الكثيرين في البلاط بدعاباته الشكاكة عن الدين(4)، لأن مثل هذه السخرية لم تكن قد فشت بعد في المجتمع الفرنسي، ومن ثم غزا تسامحه الديني إلى افتقاره للإيمان(5). وكان من أول أعماله توكيد مرسوم نانت، فسمح للهيجونت بأن يعقدوا مجامعهم في سلام. ولم يكابد أي فرنسي الاضطهاد الديني من الحكومة المركزية في عهد وزارته.

ومن عجب أنه احتفظ بسلطته كل هذا الزمن برغم كراهية الناس له لقد كرهه الفلاحون لما أثقل به كواهلهم من ضرائب يستعين بها على خوض غمار الحرب، وكرهه التجار لأن المكوس التي فرضها أضرت بالتجارة، وكرهه الأشراف لأنه اختلف معهم حول مزايا الإقطاع. وكرهته "البرلمانات" لأنه وضع نفسه والملك فوق القانون. وزادت الملكة من كره الناس له بخطرها توجيه النقد لحكمه. وقد أيدته لأنها ألفت نفسها في وضع تتحداها فيه جماعتان رأتا طفولة الملك، وفي ضعف المرأة الموهوم، منفذاً إلى السلطة: الأشراف الذين عللوا أنفسهم باسترجاع امتيازاتهم الإقطاعية السابقة على حساب الملكية و"البرلمانات" التي تطلعت لإحالة الحكومة إلى أوليجاركية من المحامين. إزاء هاتين القوتين-"أرستقراطية السيف" العريقة، و"أرستقراطية الرداء" الأحدث عهداً-التمست الملكة درعاً لها في عناد مازاران المقترن بالمرونة والدهاء. وقد بذل أعداؤه محاولتين عنيفتين لخلعه والسيطرة عليها، والمحاولتان تؤلفان حرب الفروند.

بدأ برلمان باريس حرب الفروند الأولى (1648-49) محاولاً أن يكرر في فرنسا تلك الحركة التي كانت لتوها قد رفعت البرلمان الإنجليزي فوق الملك مصدراً للقانون وحكماً فيه. وكان برلمان باريس، بعد الملك، المحكمة العليا لفرنسا، وقد قضت التقاليد ألا يقبل الشعب قانوناً أو ضريبة إلا إذا سجل هؤلاء الموظفون القضائيون (وكلهم تقريباً محامون) القانون أو الضريبة. وكان ريشليو قد اختزل هذه السلطات أو تجاهلها، فصمم البرلمان الآن على تأكيدها. وأحس أن قد آن الأوان لجعل الملكية الفرنسية ملكية دستورية، خاضعة للإرادة القومية يعبر عنها مجلس نيابي. ولكن برلمانات فرنسا الاثني عشر لم تكن مجالس تشريعية انتخبتها الأمة كما كانت الحل في برلمان إنجلترا، بل هيئات قضائية وإدارية ورث أعضاؤها مقاعدهم أو وظائفهم القضائية عن آبائهم، أو عينهم الملك فيها. ولو أن حرب الفروند الأولى كتب لها الفوز لاستحالت فرنسا إلى أرستقراطية من المحامين. وكان في الإمكان تطوير مجلس طبقات الأمة، المؤلف من مندوبين عن الطبقات الثلاث-النبلاء ورجال الدين باقي الشعب-إلى مجلس نيابي يكبح جماح الملكية، ولكن مجلس الطبقات لم يكن يملك دعوته للانعقاد إلا الملك، ولم يدعه أي ملك من 1614، ولن يدعوه حتى 1789، ومن هنا اندلاع الثورة الفرنسية.

على أن برلمان باريس تحول إلى هيئة نيابية بصورة غير مباشرة، مؤقتاً، يوم اجترأ أعضاؤه على الكلام نيابة عن الأمة، فنرى أومير تالون، في أوائل 1648، يندد بالضرائب التي أفقرت الشعب على عهد ريشليو ومازاران إذ يقول: "لقد ألحق الخراب بفرنسا طوال عشرة أعوام. فاضطر الفلاحون أن يناموا على القش بعد أن بيعت أمتعتهم وفاءً للضرائب. وتمكيناً لنفر من الناس من أن ينعموا في باريس بحياة البذخ أكرهت جماهير لا حصر لها أن تعيش على الخبز القفار.. فاقدة كل شيء إلا نفوسها-وهذه لم تترك لها إلا لأن أحداً يجد سبيلاً لعرضها للبيع(6).

وفي 12 يوليو، انعقد البرلمان في قصر العدالة مع غيره من محاكم باريس ووجهوا إلى الملك وأمه مطالب عدة لابد أنها بدت لهما ثورية. فقد طالبوا بخفض ربع الضرائب الشخصية كلها، وبألا تفرض ضرائب جديدة دون موافقة البرلمان بالتصويت الحر، وبطرد النظار الملكيين Intondants الذين حكموا الأقاليم دون اكتراث للحكام والقضاة المحليين، وبألا يحبس شخص أكثر من أربع وعشرين ساعة دون أن يمثل أمام القضاة المختصين. ولو أن هذه المطالب أجيبت لأصبحت حكومة فرنسا ملكية دستورية، ولسارت فرنسا جنباً إلى جنب مع إنجلترا في تطورها السياسي.

بيد أن الملكة الأم ربطتها بالماضي جذور أقوى من النصر بالمستقبل، إذ لم يكن لها عهد قط بأي شكل من أشكال الحكم سوى الملكية المطلقة، وقد أحست أن التخلي عن السلطة الملكية على هذا النحو المقترح الآن مفض لا محالة إلى صدوع لا رأت لها في صرح الحكومة الوطيد، وإلى تقويض تلك الركيزة السيكلوجية التي يستمدها من التقاليد والعرف، والنزول بها إن عاجلاً أو آجلاً إلى فوضى الجماهير المتسيدة. ثم يالها من سبة أن تسلم ولدها سلطة دون تلك التي تمتع بها أبوه (أو ريشليو)! ذلك تقاعس عن واجبها سوف يوقفها موقف الإدانة أمام محكمة التاريخ. ووافقها مازاران لما رأى من قضاء مبرم عليه في هذه المطالب الوقحة من هؤلاء القانونيين المتنطعين. ومن ثم أمر في 26 أغسطس بالقبض على بيير بروسيل وغيره من زعماء البرلمان. بيد أن بروسيل العجوز كان قد أكتسب محبة الناس بهذا الشعار الذي أذاعه: "لا ضرائب" فاحتشد جمهور من الغوغاء أمام الباليه-رويال وتعالى صياحهم بطلب الإفراج عنه. وقد أطلق عليهم اسم الرماة Frondeurs لما كان يحمل الكثيرون منهم من مقاليع أو مراجيم، كما أطلق اسم "الفروند" على هذا التمرد. على أن جان فرانسوا بول دجوندي-الملقب درتز فيما بعد-مساعد رئيس أساقفة باريس وخليفته المنتظر، نصح الملكة بالإفراج عن بروسيل. فلما أبت انسحب غاضباً، وعاون على استعداء الشعب على الحكومة، وكان خلال ذلك يستخدم نفوذه خفية في محاولة للظفر بقبعة الكردينالية، ويعاشر ثلاث خليلات.

وفي 27 أغسطس اتخذ أعضاء البرلمان وعددهم 160 طريقهم إلى القصر الملكي مخترقين الحشود والمتاريس، تشد أزرهم هتافات تصيح "يحيى الملك! إلى الموت يا مازاران!" ورأى الوزير الحذر أن اللحظة تتطلب الحكمة لا الشجاعة، فنصح الملكة بأن تأمر بالإفراج عن بروسيل، فوافقت، ثم إذ أخفضها هذا النزول على رغبة الجماهير اعتكفت هي والملك الصبي في ضاحية روبل وأجاب مازاران البرلمان إلى مطالبه مؤقتاً، ولكنه طاوله في تنفيذها. وظلت المتاريس في الشوارع. فلما غامرت الملكة بالعودة إلى باريس صاحت الجماهير بها صيحات الازدراء، وسمعت بأذنيها تندرها بعلاقتها بمازاران. ثم عاودت الهروب من المدينة في 6 يناير 1649، مصطحبة في هذه المرة الأسرة المالكة والبلاط إلى سان جرمان، حيث توسد الحرير القش، ورهنت الملكة جواهرها لتشتري الطعام. أما الملك الصغير فلم يغتفر قط لهذا الحشد فعلته، ولم يحب عاصمة ملكه قط.

وفي 8 يناير أصدر البرلمان في أوج تمرده مرسوماً طرد به مازاران من حماية القانون واستعدى عليه كل الفرنسيين الصالحين ليطاردوه ويقبضوا عليه باعتباره مجرماً. وقضى مرسوم آخر بالاستيلاء على كل الأموال الملكية واستعمالها في أغراض الدفاع العام. ورأى كثيرون من النبلاء في هذا التمرد فرصة لاستمالة البرلمان إلى قضيتهم-قضية استردادهم امتيازات الإقطاع. ولعلهم أيضاً خشوا أن يفلت زمام الحركة إذا لم يتزعمها ذوو الألقاب الرفيعة. وانظم إليها كبار الإقطاعيين أمثال أدواق لونجفيل، وبوفور، وبويون، وحتى أمير كونتي البوربوني الدم، وأمدوها بالجند والمال وحرارة العاطفة. فأقبلت دوقة بويون ودوقة لونجفيل-الرائعة الحسن برغم إصابتها بالجدري-مع أطفالهما للعيش في الأوتيل دفيل رهائن مختارة لضمان ولاء زوجيهما للبرلمان والشعب. وبينما تنقلب إلى معسكر مسلح، كانت حاملات الألقاب يرقصن في قاعة المدينة، وواصلت دوقة لونجفيل غرامها بأمير مارسياك، الذي لم يكن قد أصبح بعد الدوق دلاروشفوكو، ولا اعتنق بعد فلسفته الكلبية. وفي 28 يناير رفعت الدوقة من معونة المتمردين إذ ولدت ابناً لمارسياك(7)، وارتبط كثير من الفرونديين بكرائم النبيلات فرساناً تابعين لهن، فكن يشترين دماءهم بابتسامة متلطفة من ثغورهن.

ثم حالف الحظ الملكة فأنقذ الموقف عداء بين أمير كونتي وأخيه الأكبر لويس الثاني البوربوني، أمير كونديه-وهو "كونديه الأعظم" ذاته الذي قاد الجيوش الفرنسية من قبل إلى النصر في روكروا ولنز. وإذ شمخ بأنفه القوى على تمرد المحامين والغوغاء، فإنه عرض خدماته على الملكة والملك. فوكلت إليه في ابتهاج قيادة جيش ضد باريس المتمردة-أي ضد أخيه، وضد أخته دوقة لونجفيل-والعودة بالأسرة المالكة في أمان إلى الباليه-رويال. وجمع كونديه الجند، وحاصر باريس، واستولى على شارنتون، المخفر الأمامي الحصين. أما النبلاء المتمردون فقد طلبوا المعونة من أسبانيا والإمبراطورية. وكان الطلب غلطة، ذلك أن عاطفة الوطنية كانت عند البرلمان والشعب أقوى من الإحساس الطبقي. وأبى معظم أعضاء البرلمان أن يلغوا ريشليو وانتصاراته بإعادة تفوق الهابسبورج على فرنسا، وبدءوا يتبينون أنهم إنما يستعملون بيادق في محاولة لاسترجاع نظام إقطاعي من شأنه أن يقسم فرنسا إلى أقاليم مستقلة فرادى، مستضعفة جماعة. وفي نوبة تواضع مفاجئة أرسلوا وفداً إلى الملكة المقتربة، وعرضوا الخضوع لها، مؤكدين أنهم كانوا على الدوام يكنون لها الحب. أما الملكة فقد منحت جميع المتمردين عفواً عاماً، شريطة أن يضعوا السلاح. وسرح البرلمان جنوده، وأبلغ الشعب أن طاعة الملك هي واجب الساعة. وأزيلت المتاريس. وعادت آن، ولوبس، ومازاران إلى قصبة الملك (28 أغسطس 1649)، والتأم شمل البلاط من جديد، وأنظم إليه النبلاء المتمردون كأن شيئاً لم يقع، اللهم إلا سحابة قد انقشعت. وأغتفر كل شيء، ولم ينس شيء. ووضعت حرب الفروند الأولى أوزارها.

ولكن حرباً ثانية ما لبثت أن نشبت. ذلك أن كونديه أحس أن خدماته تخول له الترؤس على مازاران. فتشاجر الاثنان، واتصل كونديه بالنبلاء المتذمرين يجس نبضهم، أما مازاران ففي أجرأ لحظات حياته أمر بحبس كونديه وكونتي ولونجفيل في فانسين (18 يناير 1650). وهرولت مدام لونجفيل إلى نورمنديا، وأثارت حركة تمرد فيها، ثم مضت منها إلى الأراضي المنخفضة الأسبانية، وفتنت تورين حتى ارتضى خيانة العرش. فوافق القائد العظيم على أن يقود جيشاً أسبانياً ضد مازاران. يقول فولتير: "واصطدمت كل الأطراف بعضها ببعض، وأبرموا المعاهدات، ثم خان كل منهم الآخر واحداً إثر واحد...وما من رجل لم يغير ولاءه غير مرة"(8) وقال ريتز ذاكراً تلك الفترة "كنا على استعداد لقطع رقاب بعضنا البعض عشر مرات كل صباح"(9). وكان هو نفسه على وشك أن يقتل بيد لاروشفوكو. على أن الكل أعلنوا ولاءهم للملك، الذي لابد قد ساءل نفسه: أي نوع من الملكية ذاك الذي استحال هشيماً بين يديه؟

وقامت قوة ملكية بمناورة في بوردو انتهت باستسلامها، وقاد مازاران جيشاً إلى فلاندر وهو يلعب دور إله الحرب مارس، وهناك هزم تورين الذي لا يقهر. أما ريتز، التواق إلى الحلول محل وزير الملكة وعشيقها، فقد أقنع البرلمان بأن يجدد مطالبه بنفي مازاران. وفقد الكردينال جرأته، فأمر بالإفراج عن الأمراء المسجونين (13 فبراير 1651)، ودفعه الخوف على حياته إلى الهروب إلى برول القريبة من كولونيا. أما كونديه المتحرق للثأر من الوزير والملكة جميعاً فقد ربط بين لأخيه كونتي، وأخته لونجفيل، ودوقي نامور ولاروشفوكو، في حلف جديد. وفي سبتمبر أعلنوا الحرب، واستولوا على بوردو، وأحالوها معقلاً للثورة من جديد. ووقع كونديه تحالفاً مع أسبانيا، وتفاوض مع كرومويل، ووعد بأن يقيم جمهورية في فرنسا.

وفي 8 سبتمبر أعلن لويس الرابع عشر أنه منه وصاية أمه عليه وأخذ مقاليد الحكم في يده. وكان يومها قد بلغ الثالثة عشرة. ورغبة في تهدئة البرلمان أيد نفي مازاران، ولكنه استجمع شجاعته في نوفمبر، فاستدعى الوزير ثانية، وعاد هذا إلى فرنسا على رأس جيش. أما جاستون أورليان فقد لعب الآن دور الحياد، ولكن تورين انحاز إلى صف الملك وفي مارس 1652 أوفد لويس حامل أختامه موليه ليطالب بولاء مدينة أورليان. فبعث قضاتها برسالة عاجلة إلى جاستون هددوه فيها بتسليم المدينة إلى الملك مالم يعد هو أو ابنته ليستنفرا أهلها.

هنا ظهرت على مسرح الأحداث امرأة من أشهر نساء فرنسا الشهيرات، وما أكثرهن، وكأني بها "جان دارك" ثانية أقبلت لتنقذ أورليان. هذه المرأة-آن ماري لويز دورليان-كانت قد رفعت راية العصيان في طفولتها حين نفى ريشليو أباها. وكان جاستون يلقب رسمياً-"المسيو" باعتباره شقيق لويس الثالث عشر، أما زوجته ماري بوربون، دوقة مونبانسييه، فهي "مدام" ذلك العهد، وابنتهما إذن هي "المدموازيل"، ولما كانت هذه الفتاة قوية البنية فارعة القوام فقد سميت "الجراند مدموازيل دمونبا نسييه". وإذ كانت ذات ثراء عريض فقد شبت على كبرياء المال والنسب، وكانت تقول "أنني أنتمي إلى بيت لا يفعل إلا ما هو جليل نبيل"(10). وقد تطلعت إلى الزواج من لويس الرابع عشر رغم أنه ابن عمها، فلما لم تلقَ تشجيعاً احتضنت التمرد. وحين سمعت استغاثة مدينتها ورأت أباها يكره أن يخوض المعمعة، حصلت على رضاه بأن تنوب عنه. ولقد طالما غاظتها القيود التي فرضها العرف على بنات جنسها، ولشد ما أنكرت حرمان النساء من الانخراط في سلك الجندية. ومن ثم فقد لبست الآن درعاً وخوذة، وجمعت من حولها لفيفاً من كرائم النساء المسترجلات وقوة صغيرة من الجند زحفت بها في مرح وابتهاج على أورليان. وأبى القضاة أن يدخلوها المدينة خشية إغضاب الملك، فأمرت بعض رجالها أن ينقبوا ثغرة في الأسوار، ومنها تسللت وبرفقتها كونتيستان بينما الحراس يغفون أو يغضون. وما إن أفلحت في دخول المدينة حتى استطاعت أن تلهب مشاعر أهلها بسحر خطبها النارية. وهكذا رد موليه عن المدينة خاوي الوفاض، وأقسمت أورليان يمين الولاء للـ"عذراء" الجديدة.

وبلغت حرب الفروند الثانية ذروتها على أبواب باريس. فقد زحف كونديه عليها من الجنوب، وهزم جيشاً ملكياً، وأوشك أن يأسر الملك، والملكة، والكردينال، ولو فعل لـ"مات الشاه" حقيقة لا مجازاً، وبينما كان جيشه يدنو من باريس، حملت الجماهير-وهم "الفرونديون" هنا أيضاً، رفات القديسة جنفييف راعية المدينة وطافت الشوارع في موكب ضارعه إلى الله أن ينصر كونديه ويسقط مازاران أما الجراند مدموازيل فقد هرعت من أورليان إلى قصر لكسمبورج حيث كان أبوها لا يزال على تذبذبه، وطلبت إليه أن يؤيد كونديه، ولكنه أبى. واقترب الآن تورين وجيش الملك، والتقيا بقوات كونديه خارج الأسوار قرب بوابة سانت انطوان (ميدان الباستيل الآن). وكاد تورين يكسب المعركة، لولا أن المدموازيل اندفعت إلى الباستيل وحرضت مأموره على تصويب مدافعه على جنود الملك. ثم أمرت القوم داخل الأسوار، باسم أيها الغائب، أن يفتحوا الأبواب برهة ريثما يدخل جيش كونديه، ثم يغلقوها في وجه جيش الملك (2 يوليو 1652). وهكذا كانت المدموازيل بطلة الساعة.

وغدا كونديه سيد باريس، ولكن الرؤوس المتزنة أخذت تنقلب عليه. ولم يستطع أن يدفع رواتب جنده، فبدئوا يهجرونه|، وأفلت زمام الجماهير. وفي 4 يوليو هاجم الغوغاء قاعة المدينة مطالبين بأن يسلم إليهم جميع مؤيدي مازاران، وإظهاراً لسخطهم أشعلوا النار في المبنى، وقتلوا ثلاثين من المواطنين. وتعطلت العمليات الاقتصادية، وعمت الفوضى إمداد المدينة بالطعام، وخشي نصف أسرات باريس الموت جوعاً. وتساءلت الطبقات المالكة: أليست الأرستقراطية الملكية. بل أليس حكم مازاران، أهون من حكم الرعاع. وأعان مازاران الموقف حين ارتضى لنفسه النفي طوعاً، تاركاً الفرونديين بغير قضية توحد بين صفوفهم. أما ريتز فقد رأى أن الوقت قد حان لدعم مكاسبه بعد أن تم له الظفر بقبعة الكردينالية الحمراء التي طالما اشتهاها، فاستخدم الآن نفوذه ليشجع الولاء للملك. وفي 21 أكتوبر عادت الأسرة المالكة إلى باريس دون أن يمسها سوء. وافتتن الباريسيون بمنظر الملك الصغير، البالغ من العمر آنئذ أربعة عشر ربيعاً، وسحرهم حسنه وشجاعته، ورددت الشوارع هتاف الجماهير "يحيى الملك" وما لبث هياج الشعب ـن هدأ بين عشية وضحاها، وأعيد النظام لا بفضل القوة، بل بهالة الملكية، وهيبة الشرعية، وإيمان الشعب-الإيمان نصف اللاشعوري-بحق الملوك الإلهي. وما وافى 6 فبراير 1653 حتى استشعر لويس في نفسه من القوة ما شجعه على دعوة مازاران للعودة وتثبيته مرة أخرى في جميع سلطاته السابقة. ووضعت حرب الفروند الثانية أوزارها.

وفر كونديه إلى بوردو، وخضع البرلمان في بطء ووقار، واعتكف النبلاء المتمردون في قصورهم الريفية. والتمست مدام لونجفيل العزاء بين راهبات البور-رويال بعد أن ذهب وراء حسنها. ونفيت الجراند مدموازيل إلى إحدى ضياعها، حيث راحت تأكل قلبها حسرة وهي تذكر ملاحظة نسبت إلى مازاران، قال فيها إن إطلاقها المدافع من الباستيل قتل زوجها-أي قضى على أملها في الزواج من الملك. وفي عامها الأربعين أحبت أنطوان كومون، كونت لوزان، وكان أصغر وأقصر منها كثيراً، ولكن الملك رفض أن يأذن لهما بهذا الزواج، فلما عزما عليه برغم هذا الحظر سجنه عشر سنوات (1670-80). وظلت المدموازيل وفية له في شجاعة طوال سجنه، ولما أفرج عنه تزوجته، وعاشت معه عيشة مضطربة صاخبة حتى ماتت (1693). وأما ريتز فقد قبض عليه، ولكنه فر، ثم نال العفو، وخدم الملك مبعوثاً دبلوماسياً في روما، واعتكف في ركن باللورين، وألف مذكرات تمتاز بتحليلها الموضوعي للخلق، بما في ذلك خلقه هو يقول فيها:

"لم ألعب دور الناذر نفسه للدين، لأنني لم استطع أن أعرف على وجه اليقين كم من الزمن سأستطيع لعب دور المزيف، وحين أعجزني العيش دون صلة غرامية محرمة، اتصلت بمدام بومرو، وكانت شابة لعوباً، لها العدد الكبير من العشاق، لا قس بيتها فحسب، بل في مكان عبادتها أيضاً، بحيث كانت صلات غيري المكشوفة معها ستاراً لصلتي بها...واستقر رأيي على التمادي في خطايا...ولكني كانت مصمماً كل التصميم على القيام بواجبات مهنتي (الدينية) بأمانة، وعلى بذل قصاراي في تخليص نفوس غيري وإن لم أكترث لخلاص نفسي"(11).

أما مازاران فقد هبط على قدميه دون أن يضار، وعاد سيداً على المملكة، وخادماً لملك ما زال راغباً في التعلم. وقد روع فرنسا أن يبرم الوزير معاهدة مع إنجلترا البروتستانتية وكرومويل قاتل ملكها (1657)، الذي أعان على محاربة كونديه والأسبان بإرساله ستة آلاف جندي، وأحرز الفرنسيون والإنجليز معاً النصر في "معركة الكثبان" (13 يونيو 1658). وبعد عشرة أيام سلم الأسبان دنكرك، فدخلها لويس في احتفال رسمي مهيب، ثم نزل عنها لإنجلترا طبقاً للمعاهدة. وأبرمت أسبانيا مع فرنسا صلح البرانس (7 نوفمبر 1659) بعد أن استنزف القتال مالها ورجالها، فأنهت بذلك ثلاثة وعشرين عاماً من حرب واحدة، وأرست أساس حرب أخرى. ونزلت أسبانيا عن روسيون، وأرتوا، وجرافلين، وتيونفيل، لفرنسا، وتخلت عن جميع مطالبها في الألزاس، وزوج فيليب الرابع ابنته ماريا تريزا للويس الرابع عش، بشروط ورطت فيما بعد غرب أوربا كله في حرب الوراثة الأسبانية. ذلك أنه تعهد بأن يبعث إليها، خلال ثمانية عشر شهراً، بصداق قدره 500.000 كراون، ولكنه انتزع منها ومن لويس تنازلاً عن حقوقها في ولاية العرش الأسباني. وأصر ملك أسبانيا على أن يكون العفو عن كونديه شرطاً من شروط الصلح، فلم يكتف لويس بالصفح عن الأمير العنيف، بل رد إليه كل ألقابه وأملاكه، ورحب به في بلاطه.

كان صلح البرانس الدليل على إنجاز برنامج ريشليو-وخلاصه كسر شوكة الهابسبورج، وحلول فرنسا محل أسبانيا أمة متسلطة في أوربا. واعترف الفرنسيون بفضل مازاران في الوصول بهذه السياسة إلى ختامها الظافر، ومع أنه لم يظفر إلا بحب القليلين منهم، فإنهم رأوا فيه رجلاً من أكفأ الوزراء في تاريخ فرنسا. ولكن فرنسا التي سرعان ما نسيت خيانة كونديه، لم تغتفر قط لمازاران جشعه وحرصه. ففي وسط الفاقة التي كابدها الشعب جمع ثروة طائلة قدرها فولتير بمائتي مليون من الفرنكات(12). وكان يحول المخصصات الحربية إلى خزائنه الشخصية، ويبيع وظائف التاج لمنفعته الخاصة، ويقرض الملك بالربا، وقد أهدى إحدى بنات أخيه قلادة مازالت تعد من أغلى الحلي في العالم(13).

ولما حضرته الوفاة أشار على لويس بأن يكون وزير نفسه الأول، وألا يترك مسائل السياسة العليا لأي من مساعديه إطلاقاً(14) وبعد موته (9 مارس 1661) كشف كولبير للملك عن المخبأ الذي أخفى فيه ثروته. فصادرها لويس، وأثلج بذلك صدر شعبه، وغدا أغنى ملوك زمانه. وهتف ظرفاء باريس لجينو، طبيب مازاران، لأنه رجل أحسن إلى الشعب كله، وقالوا "أفسحوا الطريق لنبالته. إنه الطبيب الطيب الذي قتل الكردينال"(15).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

2- الملك

لم يكن أشهر ملوك فرنسا فرنسياً إلا بربع دمه. فقد كان نصف أسباني من ناحية أمه آن النمساوية، وربع إيطالي من ناحية جدته ماري مديتشي. وقد أولع بالفن والحب الإيطاليين دون تردد وبعد ذلك بالتدين والكبرياء الأسبانيين، وفي أخريات عمره أكثر شبهاً بجده لأمه، فيليب الثالث ملك أسبانيا، منه بجده لأبيه، هنري الرابع ملك فرنسا. سمي عند ولادته (5 سبتمبر 1638 (ديودونيه Dioudonn أي "عطية الله"، ولعل الفرنسيين لم يستطيعوا أن يصدقوا أن لويس الثالث عشر قد حقق أبويته فعلاً دون عون من الله. وقد أضر بنمو الصبي وتطوره ما كان بين أبويه من تنافر، وموت أبيه الباكر، واضطرابات الفروند الطويلة الأمد. وكثيراً ما لقي الإهمال وسط نضال آن ومازاران المرة بعد المرة الاحتفاظ بالسلطة. وفي تلك الأيام التي لم تكن ظروفها مواتية لأي ملك، ذاق مرارة الفقر أحياناً في الملبس والطعام القليل. ويبدو أن أحداً لم يهتم بتعليمه، وحين تولاه المدرسون الخصوصيون كان همهم الأكبر أن يقنعوه بأن فرنسا بأسرها ميراثه الذي سيحكمه بالحق الإلهي، ولا يسأل عنه إلا أمام الله. ووجدت أمه الوقت لتدريبه على العقيدة والعبادة الكاثوليكية، اللتين سترتدان إليه في قوة بعد أن أنهكت فيه الشهوات وتضائل سناء المجد. ويؤكد لنا سان-سيمون أن لويس "لم يكد يعلمه أحد القراءة أو الكتابة، وإنه ظل جاهلاً كل الجهل حتى أنه لم يلم بأشهر حقائق التاريخ وغيرها من الحقائق". لكن لعل هذه إحدى مبالغات الدوق المفرطة. وما من شك في أن لويس لم يظهر ميلاً يذكر للكتب، وإن كانت رعايته للمؤلفين وصداقته لموليير وبوالووراسين تشير إلى تقدير صادق للأدب. وقد أعرب فيما بعد عن أسفه لأنه لم يصل إلى دراسة التاريخ إلا متأخراً جداً، وكتب يقول "إن الإلمام بالأحداث العظيمة التي وقعت في العالم على مدى القرون الكثيرة، والتي هضمتها العقول القوية النشيطة، هذا الإلمام يفيد في دعم الحجة في جميع المداولات الهامة"(17) وقد جهدت أمه لتربي فيه الإحساس بالشرف والشهامة لا مجرد آداب السلوك، وبقي الكثير من هذا وإن لوثته إرادة طائشة للقوة. كان فتى جاداً ممتثلاً، يبدو أطيب من أن يصلح للحكم، ولكن مازاران صرح بأن في لويس "من الأصالة والكفاءة ما يصنع أربعة ملوك ورجلاً شريفاً"(18). في 7 سبتمبر 1651 أطل جون إيفيلين من مسكن توماس هوبز في باريس على الموكب الذي رافق الملك الصبي، البالغ الثالثة عشرة، متجهاً إلى الحفل المقام بمناسبة إنهاء سن قصوره. وقال هذا الإنجليزي في وصفه "مضى أبوللو الصغير هذا أكثر الطريق وقبعته في يده يحي السيدات والمعجبات اللائى ازدانت النوافذ ببهائهن وملأ الجو هتافهن "يحيى الملك"(19) وكان في إمكان لويس يومئذ أن يتسلم زمام الأمر كله من مازاران، ولولا أنه كان يحترم ذلك الدهاء المهذب الذي طبع عليه وزيره، نسمح له بأن يحتفظ بالزمام تسع سنوات أخرى. ومع ذلك فقد اعترف بعد موت الكردينال قائلاً "لست أدري ماذا كنت صانعاً لو عمر طويلاً"(20) فلما مات مازاران أقبل رؤساء الإدارات على لويس سائلين إلى من يأتون ليتلقوا تعليماتهم، فأجاب ببساطة قاطعة "إلي"(21) ومنذ ذلك التاريخ (9 مارس 1661) حتى أول سبتمبر 1715 تولى حكم فرنسا بنفسه. وبكى الشعب فرحاً إذ أصبح له ملك فعال لأول مرة في نصف قرن.

ولقد تهللوا فرحاً وتيهاً بحسنه. قال جان دلافونتين حين رآه في 1660، ولم يكن بالرجل الذي يخدع بسهولة، "أتظنون أن في الدنيا ملوكاً كثيرين وهبوا هذا الوجه المليح وهذا السمت الرائع؟ لا أظن، ويخيل إلى حين أراه أنني أرى العظمة مجسمة"(22) لم تكن قامته تزيد على خمسة أقدام وخمس بوصات، ولكن السلطة جعلته يبدو أطول. وإذ كان قوي البدن، متين البنية، فارساً وراقصاً ماهراً، ومثقفاً بارعاً وراوية خلاب العبارة. فقد ملك جماع الصفات التي تفتن المرأة وتفتح مغاليق قلبها. كتب سان- سيمون وكان يكرهه، "لو أنه كان فرداً عادياً لا أكثر لجلب نفس الدمار بغرامياته"(32). على أن هذا الدوق (الذي لم يستطع قط أن يغفر للويس حرمانه الأدواق من سلطة الحكم) اعترف بكياسته وآدابه الملوكية التي أصبحت الآن مدرسة للبلاط، ولفرنس عن طريق البلاط، ولأوربا عن طريق فرنسا. قال: "لم يعط أحد قط بأرق وألطف مما أعطي لويس الرابع عشر، ولا ضاعف أحد بهذه الطريقة من قيمة عطائه كما ضاعف لويس...لم تكن الألفاظ الجافية لتند عنه قط، فإذا اضطر أن يلوم، أو يوبخ، أو يقوم، وهو أمر نادر، ففي لطف دائماً تقريباً، لا في غضب أو صرامة قط...إلا في مناسبة واحدة، وما عرف الناس رجلاً طبع على مثل هذا الأدب الجم...أما مع النساء فلم يكن لتأدبه نظير. ما مر بامرأة مهما قل شأنها إلا رفع لها قبعته، حتى الخادمات اللاتي يعرف أنهن خادمات. فإذا خاطب سيدات المجتمع لم يغط رأسه إلا بعد أن يفارقهن"(24).

على أن ذهنه لم يرقَ إلى مستوى سلوكه. لقد كاد يضارع نابليون في حكمه الثاقب على الرجال، ولكنه قصر كثيراً دون ذكاء قيصر الفلسفي، أو سياسة أغسطس الإنسانية البعيدة النظر. وفي هذا يقول سانت-بوف "لم يؤت أكثر من الإدراك السليم، ولكن حظه منه كان موفوراً"(25) ولعله خير من الذكاء. ولنستمع إلى سان- سيمون ثانية "كان بطبعه حصيفاً، معتدلاً، حذراً، سيداً على حركاته ولسانه"(26). ويقول مونتسكيو "كانت نفسه أعظم من ذهنه"(27) وقد وهب قوة انتباه وإرادة عوضت إبان عزه عن قصور أفكاره. أما علمنا بعيوبه فيأتينا من فترة حكمه الثانية على الأخص (1683-1715)، حين ضيق التعصب أفقه، وأفسده النجاح والتملق. هنا نجده مغروراً غرور الممثلين متكبراً كبرياء الآثار الضخمة، وإن كان بعض كبريائه ربما أضفاه عليه الرسامون ممن صوروه، وبعضه راجعاً إلى فكرته عن منصبه. فإذا كان قد مثل دور "الملك العظيم" فلعل عذره أنه خال هذا ضرورة لا يستغني عنها أسلوب الحكم ودعم النظام، إذ لابد من وجود مركز للسلطة، ولابد من أن تدعم الأبهة والمراسم هذه السلطة. قال لولده مرة "يبدو لي أن من واجبنا أن نكون متواضعين من أجل ذواتنا، متكبرين من أجل المركز الذي نشغله"(28) ولكنه قبل أن تواضع-ربما مرة واحدة، حين لم يجد غضاضة في أن يصحح بوالو له غلطة في أمر يتصل بالذوق الأدبي. ونقرأ مذكراته فتراه يتأمل فضائله في اتزان كثير. وعنده أن خير سجاياه حبه للمجد. قال إنه "يؤثر الصيت البعيد على كل الأشياء، بل على الحياة نفسها"(29) ولكن ولعه هذا بالمجد خدم أعداءه لأنه غالي فيه. كتب يقول "أن تحمسنا للمجد la gloire ليس شهوة من هذه الشهوات الهزيلة التي تنطفئ بمجرد تملك النفس لما تشتهيه، فإن عطاياه التي لا تنال إلا بالجهد لا تورث السأم أبداً، ومن كف عن اشتهاء المزيد منها لا يستحق كل ما ناله من عطاء(30).

بيد أنه أوتي حظاً من الفضائل الجليلة، إلى أن جر ولعه بالعظمة والمجد الدمار على خلقه وعلى بلده. فلقد أعجب بلاطه بعدالته، وتسامحه، وكرمه، وضبطه لنفسه. قالت مدام موتفيل التي كانت تراه كل يوم تقريباً خلال هذه الفترة "في هذا يجب أن تعترف كل العهود الملكية السابقة...لهذا العهد بتقدمه عليها في استهلاله السعيد"(31) وقد لاحظ القريبون منه ذلك الوفاء الذي كان يحمله على زيارة جناح أمه مراراً كل يوم على كثرة شواغله، ثم شهدوا بعد ذلك حنانه على أبنائه، وحرصه على صحتهم وتربيتهم-أياً كانت أمهم. كان أكثر عطفاً على الأفراد منه على الأمم، في وسعه أن يشن الحرب على الهولنديين الذين لم يؤذوه، وأن يأمر بتدمير البالاتينات، ولكنه يحزن لموت رويتر أمير البحر الهولندي، الذي أوقع الهزائم بالبحرية الفرنسية؛ وقد كلفته الشفقة على الملكة المخلوعة، زوج جيمس الثاني، وعلى ولده، حرباً كانت أسوأ حروبه.

ويلوح أنه آمن حقيقة بأنه مبعوث العناية لحكم فرنسا، ولحكمها بسلطان مطلق. وكان في استطاعته بالطبع أن يستشهد بآيات من الكتاب المقدس سنداً لهدفه هذا، وأسعد بوسويه أن يريه أن العهدين القديم والجديد يدعمان حق الملوك الإلهي. وقد أخبر ولده في مذكراته التي أعدها لإرشاده أن "الله يجعل من الملوك الحفاظ الوحيدين للصالح العام، وأنهم خلفاء الله على هذه الأرض". ولابد لهم، لكي يمارسوا وظائفهم المقدسة على الوجه الصحيح، من سلطة لا حدود لها، ومن ثم وجب أن يكون لهم "الحرية الكاملة المطلقة في التصرف في جميع الممتلكات سواء ممتلكات رجال الدين أو العلمانيين"(32). أنه لم يقل (أنا الدولة) ((tat, c'est moi ولكنه آمن بهذا القول ببساطة مطلقة. أما الشعب فيلوح أنه لم تسؤه هذه الدعاوى، التي حببها هنري الرابع إليه انتفاضا على الفوضى الاجتماعية، لا بل إن أفراده تطلعوا إلى هذا الملك الفتى في ولاء ديني، واستشعروا عزة الجماعة في أبهته وجبروته، فما من بديل عرفوه لهما غير ما رافق الإقطاع من تفتت وغطرسة. وبعد طغيان ريشليو، وفوضى الفروند، واختلاسات مازاران، رحبت الطبقتان الوسطى والدنيا بالسلطة والزعامة الممركزتين في حاكم "شرعي" بدا لهم واعداً بالنظام، والأمن، والسلام.

وقد أفصح عن مذهبه في الحكم المطلق حين أراد برلمان باريس عام 1665 أن يناقش بعض مراسيمه. ركب من فالنسين في ثياب الصيد، ودخل قاعة البرلمان في حذائه العالي وسوطه بيده، ثم قال: "إن الكوارث التي جرتها مجالسكم معروفة مشهورة. لذلك آمركم بأن تفضوا هذا المجلس الذي اجتمع ليناقش مراسيمي. سيدي الرئيس الأول، إني أمنعك من السماح بهذه الاجتماعات، وأمنع أي فرد منكم بالمطالبة بها.(33)" ثم نقات وظيفة البرلمان بوصفه محكمة عليا إلى "مجلس خاص" ملكي، خاضع للملك على الدوام.

وأدخل لويس على مركز النبلاء في الحكومة تغييراً جذرياً. لقد زودوا البلاط والجيش بأبهة المظهر وبريقه، ولكن ندر أن شغلوا الوظائف الإدارية ذلك أن كبار النبلاء دعوا إلى مغادرة ضياعهم معظم العام والإقامة في البلاط-أكثرهم في "أوتيلاتهم" أو قصورهم الباريسية، وعظماؤهم في القصور الملكية ضيوفاً على الملك، ومن هنا هذه الأجنحة الشاسعة التي خصصت لهم في فرساي. فإذا رفضوا قبول الدعوة فليس لهم أن يتوقعوا أي فضل يؤثرهم به الملك. وأعفى النبلاء من الضرائب، ولكن فرض عليهم في الأزمات أن يهرعوا إلى قصورهم الريفية، وينظموا ويجهزوا أتباعهم، ويقودوهم للانضمام إلى الجيش. وقد استطابوا الحرب تخفيفاً من سأم الحياة في البلاط. حقاً كانوا عاطلين كثيري النفقة، ولكن بسالتهم في ساحة القتال أصبحت فرضاً ملزماً لطبقتهم. ومعهم العرف والإتيكيت من الاشتغال بالتجارة أو بشؤون المال-وأن جبوا الرسوم على التجارة المارة بأملاكهم، واقترضوا في غير تحرج من أصحاب المصارف. وكانت ضياعهم يزرعها محاصصون (M(tayars) يدفعون لهم جزءاً من المحصول ويؤدون لهم مختلف الخدمات والمكوس الإقطاعية. ويفترض في السيد الإقطاعي أن يحافظ في إقليمه على النظام والعدالة ويرعى أعمال البر. وكان في بعض الأقاليم يؤدي هذه المهمة أداء لا بأس به، فيكون محل احترام الفلاحين، وفي بعضها الآخر لا يبذل لقاء امتيازاته إلا عطاء تافهاً، فضلاً عن أن فترات غيابه الطويلة في البلاط كانت تقوض تلك الألفة المهذبة بين السيد وتابعه. وقد حظر لويس الحروب الخاصة التي كانت تنشب بين الأحزاب الإقطاعية، وأنهى-إلى أجل-عادة المبارزة التي انتعشت خلال حرب الفروند، وتفاقم خطرها لأن شهود المبارزين، لا المبارزين الأصليين فحسب، كانوا يقتتلون، ويقتلون، ويحرمون مارس إله الحرب من فرائسه. وقد أحصى جرامون عدد من أودت المبارزات بهم في تسع سنوات (1643-52) فكانوا تسعمائة(34). ولعل أحد أسباب الحروب المتكررة تلك الرغبة في إيجاد منفذ لولع الفرنسيين بالقتال، ولكبريائهم داخل وطنهم على حساب الأجانب. أما الإدارة الفعلية لشؤون الحكومة فقد آثر لويس لها كبار رجال الطبقة الوسطى ممن أثبتوا كفايتهم بالارتقاء إلى مراكزهم وممن كان في وسعه أن يركن إليهم في دعم سلطة الملك المطلقة(35). واختصت ثلاثة مجالس كبرى بتصريف شؤون الحكم، يجتمع كل منها برئاسة الملك، ويعمل في إعداد المعلومات والتوصيات التي يبني عليها الملك قراراته. فكان "مجلس الدولة" المؤلف من أربعة رجال أو خمسة يجتمع ثلاث مرات في الأسبوع ليعالج أهم مسائل العمل أو السياسة، وكان "مجلس الرسائل" يصرف شؤون الأقاليم، و"مجلس المالية" ينظر في الضرائب والإيراد والمنصرف. واضطلعت مجالس إضافية أخرى بشؤون الحرب، والتجارة، والدين، وانتزع الحكم المحلي من أيدي النبلاء المستهترين ونيط بهم النظار الملكيون، وسخرت الانتخابات البلدية لتأتي بعمد يرضي عنهم الملك. ولو أننا سُئلنا اليوم رأينا في حكومة شديدة التمركز كهذه لقلنا إنها ظالمة، وكذلك كانت، ولكن أغلب الظن أنها أقل ظلماً مما سبقها من حكم الأوليجاركيات البلدية أو النبلاء الإقطاعيين. وآية ذلك أنه حين دخلت لجنة ملكية إقليم أوفرن (1665) للتحقيق في استغلال السادة لسلطتهم الإقطاعية في الإقليم، رحب الناس بهذا الاستجواب العظيم Lasgrands Jours d, Auvergne محرراً لهم من الظلم، وأثلج صدورهم أن يروا "إقطاعياً كبيراً" يُضرب عنقه لأنه قتل فلاحاً، وأشرافاً، أقل منه شأناً يلقون جزاءهم على ما اقترفوا من أفعال محظورة أو قاسية(36). وبمثل هذه الإجراءات حل القانون الملكي محل القانون الإقطاعي.

ثم نقحت القوانين لتبلغ من النظام والمنطق قصارى ما يتفق والأرستقراطية، فحكم "قانون لويس" الذي تكون على هذا النحو (1667-1673) فرنسا إلى أن جاء "قانون نابليون" (1804-1810) وكان القانون الجديد أرقى من كل قانون سبقه منذ عهد جستنيان، وقد "أسهم بقوة في تقدم الحضارة الفرنسية(37)" وأنشئ جهاز شرطة ليكبح إجرام باريس وقذارتها. فترى مارك رينيه، مركيز فواييه دارجنسون، الذي خدم الدولة إحدى وعشرين سنة قائداً عاماً للشرطة، يترك سجلاً مشرفاً من الداء العادل الدءوب لوظيفة عسيرة، وبإشرافه رصفت شوارع باريس، ونظفت تنظيفاً معتدلاً، وأضيأت بخمسة آلاف مصباح، وأمنت تأميناً لا بأس به للمواطنين، وأصبحت باريس الآن في هذا كله متقدمة جداً على أي مدينة أخرى في أوربا. ولكن القانون أباح الكثير من أعمال الهمجية والطغيان. ونشرت شبكة من المخبرين في أرجاء فرنسا يتجسسون على الكلام كما يتجسسون على الأفعال وأبيح اعتقال الأشخاص اعتقالاً تعسفياً بمقتضى الأوامر السرية Lettres de Cachet التي يصدرها الملك أو وزراؤه، وسجنهم سنين دون محاكمة، ودون أن يحاطوا علماً بجريرتهم. وحظر القانون الاتهامات بالسحر، وأبطل حكم الإعدام عقاباً للتجديف، ولكنه احتفظ باستخدام التعذيب أداة لانتزاع الاعترافات من المتهمين. وأجاز القانون عقاب عدد كبير من الذنوب بالحكم على مرتكبيها بتشغيلهم في سفن أسرى الحرب-وكانت سفناً كبيرة وطيئة يسيرها بالمجاديف المذنبون موثقون بالسلاسل إلى المقاعد. وخصص ستة رجال لكل مجداف طوله خمسة عشر قدماً. وكانت صفارة المشرف تلزمهم الاحتفاظ بالسرعة التي يحددها، وأجسادهم عارية إلا من وزرة، وشعورهم ولحاهم وحواجبهم محلوقة، وأحكامهم طويلة الأمد، ومن الجائز مدها تعسفاً إذا لم يذعنوا للأوامر إذعاناً تاماً، فيفرض عليهم رقهم أعواماً بعد أن يقضوا مدة عقوبتهم. ولم يخف عنهم عذابهم إلا ما سمح لهم به إذا بلغوا الميناء من بيع التوافه أو استجداء الصدقات وهم يسيرون أزواجاً في أغلالهم.

أما لويس نفسه فوضع فوق القانون، حراً في أن يأمر بأي عقوبة لأي ذنب. ففي 1674 قضى بأن تجدع أنوف جميع البغايا وتصلم آذانهن إذا ضبطن مع الجنود في نطاق خمسة أميال من فرساي. وكثيراً ما كان رحيماً ولكنه كثيراً ما كان صارماً قال لولده: "إن مقداراً محدوداً من الصرامة كان أعظم ما استطعته من ترفق بشعبي؛ ولول أنني اتبعت سياسة عكس هذه السياسة لجرت شروراً متعاقبة لا نهاية لها. ذلك أنه ما إن يضعف الملك في إنفاذ ما أمر به، حتى ينهار السلطان وينهار معه السلام العام...فيقع كل العبء على كواهل الطبقات الدنيا، التي يظلمها عندئذ ألوف من صغار الطغاة بدلاً من الملك الشرعية(39).

وكان دائم العكوف على ما سماه "حرفة الملك" Le M(tier de Roi. يطلب إلى وزرائه أن يوافوه بالتقارير الكثيرة المفصلة، ولا يدانيه رجل في مملكته إطلاعاً على أحوالها. ولم يسؤه أن يشير عليه وزراؤه بما يناقض آراءه، وقد نزل أحياناً على رأي مستشاريه. ثم أنه احتفظ بأوثق العلاقات الودية مع مساعديه، شريطة ألا يغيب عنهم أنه الملك-قال مرة لفوبان: "ثابر على أن تكتب إلي بكل ما يعن لك ولا تفتر لك همة ولو لم أفعل دائماً ما تشير به"(40). وكانت عينه على كل شيء-الجيش والبحرية، والمحاكم، وبيته، والمالية، والكنيسة، والدراما، والأدب، والفنون، ومع أنه في النصف الأول من حكمه كان يسنده وزراء أكفاء مخلصون، فإن السياسات والقرارات الخطيرة، والجمع بين شتى نواحي الحكم المعقد في وحدة متسقة-كل هذا كان من صنعه هو. لقد كان ملكاً كل ساعة من ساعات يومه.

ولقد كلفه هذا من أمره عنتاً. كان هناك من يقوم على خدمته في كل خطوة يخطوها، ولكنه دفع ثمن هذا برقابة الغير له في كل حركة وسكنة، فكانت مبارحته الفراش وذهابه إليه (إذا كان منفرداً) بعض وظائف الدولة. فإذا تم هذا الاستيقاظ الرسمي (Lever) استمع إلى القداس ثم أفطر، ثم مضى إلى قاعة المداولة، وخرج منها حوالي الواحدة، فتناول وجبة كبيرة، يأكلها عادة على مائدة صغيرة لشخص واحد، تحيط به بطانته وخدمه. فإذا فرغ من طعامه تمشي عادة في الحديقة، أو خرج للصيد، يرافقه أثراؤه في ذلك اليوم. فإذا عدا أنفق ثلاث ساعات أو أربعاً في اجتماعات مجلسه، ثم لحق بحاشيته في ملاهيهم من السابعة إلى العاشرة-حيث الموسيقى، ولعب الورق، والبليارد، والغزل، والرقص، والاستقبالات، وحفلات الرقص، وفي فترات من هذا الروتين اليومي "يتحدث إليه من شاء"(41) وإن لم يجرؤ على هذا إلا القليلون. "لقد أعطيت رعاياي كلهم، دون تفرقة، حرية مخاطبتي في جميع الساعات، سواء بأشخاصهم أو بملتمساتهم"(42) وحوالي الساعة العشرة مساء، كان الملك يتناول العشاء رسمياً مع أبنائه وحفدته، وأحياناً مع الملكة.

ولقد كان من أسباب التهذيب والتثقيف لفرنسا أن نلاحظ كيف يفرغ مليكهم لمهام الحكم مواظباً عليها ساعات سبعاً أو ثماني طوال ستة أيام في الأسبوع. كتب السفير الهولندي يقول: (لا يصدق المرء أي سرعة، وأي وضوح، أي قدرة على التمييز، وأي ذكاء يصرف به هذا الملك الشاب أعماله ويفرغ منها، وذلك في تلطف كثير مع جميع من يتعامل معهم، وفي طول أناة وهو يستمع إلى ما يريد مخاطبة أن يقول، الأمر الذي حبب فيه كل القلوب)(43) ولقد ثابر على هذا التفاني في تصريف شؤون الحكم طوال أربعة وخمسين عاماً، لا يكف عنه حتى وهو يلازم فراش المرض. وكان يحضر المجالس والمؤتمرات وقد أعد نفسه لها إعداداً وافياً. "فما كان ليحسم في أمر عفو الساعة، ولا دون مشورة"(45) ثم أنه يختار مساعديه بفطنة عجيبة، ولقد ورث بعضهم-ككولبير-من مازاران، ولكنه كان له من سلامة الذوق ما جعله يحتفظ بهم، حتى موتهم عادة. وكان يبذل لهم كل لطف ومجاملة، وكل ثقة معقولة، ثم لا تغفل عينه عن مراقبتهم". "كنت بعد أن أختار وزرائي لا يفوتني أن ادخل مكاتبهم على غير توقع منهم. وهكذا أحطت بآلاف الأشياء التي أفادتني في تحديد طريقي(46)" وحكمت فرنسا، في أيام شمسها الصاعدة تلك، خيراً مما حكمت في أي عهد مضى، برغم تركيز السلطة والإدارة، أو بفضل هذا التركيز، وبرغم تحكم يد واحدة في خيوط الحكم كلها، أو بفضل هذا التحكيم.


3- نيقولا فوكيه 1615 - 80

كان هم الملك الأول أن يعيد تنظيم مالية الدولة بعد أن استنزفتها الاختلاسات في عهد مازاران. وكان نيقولا فوكيه، الذي شغل منصب "ناظر المالية" منذ 1653، يدير شؤون الضرائب والمصروفات بأصابع حريصة ويد قديرة. فقد قلل من عوائق التجارة الداخلية، ونشط نمو التجارة الفرنسية فيما وراء البحار، واقتسم في إحساس بالواجب غنائم منصبه مع ملتزمي الضرائب ومع مازاران. وكان هؤلاء الملتزمون العموميون من كبار الرأسماليين الذين أقرضوا الدولة مبالغ كبيرة لقاء تخويلهم حق جباية الضرائب نظير أدائهم مبلغاً محدداً. وقد جبوها بكثير من الجشع الفعال الذي جعلهم أبغض الأشخاص إلى الناس في المملكة، وقد أعدم من أمثالهم أربعة وعشرون ملتزماً خلال الثورة الفرنسية. وجمع فوكيه بالتواطؤ مع الملتزمين العموميين أضخم ثروة اقتناها فرد في جيله.

وفي سنة 1675 كلف المعماري لوي لفو، والمصور شارل لبرون، ورسام المناظر الطبيعية أندريه لنوتر، بأن يصمموا، ويبنوا، ويزخرفوا له قصر فو- لو- فيكونت الريفي الفخم المترامي الأطراف، وأن يخططوا حدائقه، ويزينوها بالتماثيل. وقد استخدم المشروع مرة ثمانية عشر ألف رجل(40)، وكلف ثمانية عشر مليون من الجنيهات الفرنسية، وغطى مساحة ثلاث قوى. هنالك جمع فوكيه الصور والتماثيل والتحف، ومكتبة قوامها 27.000 مجلد حوت فيما حوت عدة نسخ من الكتاب المقدس والتلمود والقرآن دون تفريق. وروى أن هذه القاعات الأنيقة "كانت تتسلل إليها نساء من أنبل الأسر ليؤنسه بثمن غال"(49). وبمثل هذا الذوق، ولكن بثمن أقل، جلب فوكيه الشعراء أمثال كورنبي، وموليير، ولافوتين، ليجمل بهم صالونه.

ونظر لويس بعين الحسد إلى هذه الأبهة وخامرته الظنون في مصدرها. فطلب إلى كولبير أن يفحص أساليب ناظر المالية وحساباته، وأنهى كولبير إلى الملك أن الأساليب والحسابات فاسدة إلى حد لا يصدق. وفي 17 أغسطس 1661 دعا فوكيه الملك الشاب إلى مهرجان أقامته في فو. وقدم الطعام لضيوفه الستة الآلاف طبق من الفضة أو الذهب. ومثل موليير في حدائق القصر ملهاته (Les F(cheux) (الثقلاء) وقد كلفت السهرة فوكيه 120.000 جنيه وكلفته إلى ذلك حريته. ذلك أن لويس أحس أن الرجل "يسرق فوق ما يسمح له به مركزه" ولم يعجبه شعار (Quo non Ascendam?) (إلا لا يجوز لي أن أرقى؟)-الذي شفعه بصورة سنجاب يصعد شجرة، وخيل إلى لويس أن إحدى اللوحات التي رسمها لبرون تشمل صورة للآنسة دلافاليير، وكانت إذ ذاك محظية للملك. وكاد يأمر باعتقال فوكيه للتو والساعة، لولا أن أقنعته أمه بأن في ذلك إفساد لسهرة رائعة.

وتربص الملك بالوزير حتى تكاثرت الأدلة على اختلاساته. وفي 5 سبتمبر أمر قائد مشاته حملة البنادق بالقبض عليه (وهذا القائد "Mousquetaire" هو شارل دباتز، السيد دارتنيان، بطل قصة ديماس الأب). وأصبحت المحاكمة التي اتصلت ثلاث سنين أشهر القضايا في تاريخ العهد. وكافحت مدام دسفينيه، ولافونتين، وغيرهما من أصدقاء فوكيه، وتوسلوا إلى الملك ليبرئ ساحته، غير أن الأوراق التي عثر عليها في قصره الريفي أدانته. فحكمت عليه المحكمة بالنفي ومصادرة أملاكه، وعدل الملك الحكم إلى السجن مدى الحياة. وظل الوزير الذي كان من قبل رجلاً مرحاً، ستة عشر عاماً، يذوي في سجنه بقلعة بنيرول بييدمونت، ولا يسري عنه إلا صحبة زوجه الوفية. لقد كان حكماً قاسياً، ولكنه قلم أظافر الفساد السياسي، وأنذر الناس بأن الاستيلاء على الأموال العامة للمتعة الخاصة امتياز لا يختص به غير الملك.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- كولبير يعيد بناء فرنسا

كتب لويس يقول: "لقد أشركت كولبير...مفتشاً مع فوكيه لكي أرقبه...وهو رجل منحته ما استطعت من ثقة، لأنني كنت عليماً بذكائه وجده وأمانته(50)" وظن أصحاب فوكيه أن كولبير تعقبه مدفوعاً بالرغبة في الانتقام منه، ولعل كولبير استشعر شيئاً من الحسد للرجل، ولكن فرنسا ذلك العهد لم تنجب ضريباً لكولبير في تفانيه الدؤوب في خدمة الصالح العام. روى أن مازاران قال للملك وهو على فراش الموت "مولاي، إني مدين لك بكل شيء، ولكني أدفع ديني...بإعطائك كولبير(51)".

كان جان باتيست كولبير ابن قماش في رامس، وابن أخي تاجر غني، وإذ كان بورجوازياً بدمه، اقتصادياً بمحيطه، فقد درب على كراهية الفوضى والعجز، وأعد بفطرته وبطول المرانة لتغيير اقتصاد فرنسا من جمود الفلاحة والتفتت الإقطاعي إلى نظام موحد قومياً، يشتمل الزراعة والصناعة والتجارة والمال، يواكب ملكية ممركزة، ويهيئ لها الأساس المادي لعظمتها وسطوتها.

دخل كولبير ديوان الحربية سكرتيراً صغيراً في العشرين (1639) وما لبث أن شق طريقه بجهده إلى حيث استرعى نظر رؤسائه، فنقل إلى خدمة مازاران، وأصبح المدير الناجح لثروة الكردينال. فلما سقط فوكيه، وكل إلى كولبير مهمة خطيرة هي إعادة تنظيم مالية الأمة. وفي 1664 أضيفت إليه مهمة الإشراف على المباني، والمصانع الملكية، والتجارة، والفنون الجميلة؛ وفي 1665 عين مراقباً عاماً للمالية، وفي 1669 عين وزيراً للبحرية، ثم وزيراً للخاصة الملكية. ولم يرق رجل آخر في عهد لويس الرابع عشر بمثل هذه السرعة، ولا اشتغل بمثل هذه الهمة، ولا حقق مثل ما حققه من أعمال. بيد أنه لوث أرتقاع بمحاباته أقرباءه، وإذ أغدق الوظائف والأموال على الكثيرين من آل كولبير، وغالى في مكافأة نفسه مكافأة كادت تعدل ثروته. وكان نهباً للغرور، يتشبث بانحداره المزعوم من ملوك اسكتلندا، وقد يعبث عبثاً منكراً بالقوانين القائمة تعجلاً لقضاء المصالح، ويتغلب على المعارضة بالرشا يبذلها في الجهات العليا. فلما استفحل سلطانه غدا مستبداً، وأحفظ عليه النبلاء إذ داس على أقدام تنزف الدم الأزرق. وقد استخدم في إعادة تشكيل الاقتصاد الفرنسي نفس الأساليب الدكتاتورية التي استخدمها ريشليو من قبل في إعادة تشكيل الدولة الفرنسية. وهكذا لم يكن خيراً من هؤلاء الكرادلة.

بدأ بفحص أساليب الماليين الذين يحبون الضرائب، ويزودون الجيش بالسلاح، والملابس، والطعام، ويقدمون القروض للإقطاعيين أو لخزانة الدولة. وكان بعض هؤلاء المصرفيين يعدلون الملك ثراء. فبلغت ثروة صموئيل برنار مثلاً 33.000.000 جنيه(52). وقد أثار الكثيرون منهم حنق النبلاء بالزواج من طبقتهم، وبشراء ألقاب الشرف أو اكتسابها، وبالعيش في ترف لا يقوى عليه من لا يملكون غير عراقة النسب. وكانوا يتقاضون فائدة على قروضهم تصل إلى 18% حسب درجة الشك في الوفاء بالقروض. وبناء على طلب كولبير شكل الملك "غرفة عدالة" للتحقيق في جميع المخالفات المالية التي ارتكبت منذ 1635، والتي اقترفها "أي شخص أيا كانت صفته أو حالته(53)" وطلب إلى جميع موظفي الخزانة، وجباة الضرائب، وأصحاب الدخول أن يقدموا سجلاتهم ويبينوا شرعية مكاسبهم، وفرض على كل منهم أن يثبت نظافة يده وإلا كان جزاؤه المصادرة وغيرها من العقوبات. وبثت الغرفة موظفيها في طول فرنسا وعرضها وشجعت المخبرين. وأودع السجن عدة رجال أغنياء، وأرسل البعض إلى مراكب تشغيل الأسرى، وشنق البعض الآخر. وصعقت الطبقات العليا لهذا "الإرهاب الكولبيري"، أما الطبقات الدنيا فصفقت له استحساناً. ونظم رجال المال في برجنديا حركة تمرد على الوزير، ولكن جماهير الشعب شهروا السلاح في وجوههم، ولقيت الحكومة عنتاً في إنقاذهم من غضب الشعب. ورد للخزانة نحو 150.000.000 من الفرنكات، وخفف خوف العقاب فساد المالية جيلاً كاملاً(54). ومضى كولبير يعمل منجل الوفر في خزانة الدولة. فرفت نصف الموظفين في وزارة المالية وأغلب الظن أنه هو الذي اقترح على لويس ما قام به من إلغاء جميع مناصب الخاصة الملكية التي تدفع عنها الرواتب دون أن يؤدي أصحابها واجبات. فطرد عشرون من "سكرتيري الملك" ليكسبوا أقواتهم بطريق آخر. وخفض تخفيضاً قاسياً عدد المحامين العامين، وضباط النظام، والمستقبلين، وغيرهم من صغار الموظفين في البلاط الملكي، وأمر كل موظفي الخزانة بأن يمسكوا حسابات دقيقة واضحة ويقدموها للفحص. وحول كولبير جميع الديون الحكومية القديمة إلى ديون جديدة بسعر فائدة أقل. ثم بسط جباية الضرائب. ولما تبين صعوبة جمع المتأخرات أقنع الملك بإلغاء كل الضرائب التي لم تسدد عن المدة 1647-58. ثم خفض معدل الضريبة في 1661، وحزن حين اضطر إلى رفعه ثانية في 1667 لكي يمول "حرب الأيلولة" وإسراف فرساي.

بيد أن أسوأ ما مني به من إخفاق كان في احتفاظه بنظام الضرائب القديم. ولعله لو قلبه من أساسه لأحدث من الإخلال بالنظام ما يهدد تدفق إيراد الدولة. ذلك أن الدولة كانت تمولها أساساً ضريبتان-التاي (الرؤوس) والجابيل (الملح). وكانت ضريبة التاي تقدر في أقاليم من واقع الأملاك الحقيقية، وفي غيرها على أساس الدخل. وقد أعفي منها الأشراف والكهنة، فوقعت كلها على كواهل "الطبقة الثالثة"-التي تنتظم باقي السكان وكان يطلب إلى كل إقليم أن يجبي مبلغاً محدداً، ويسأل كبار المواطنين عن جباية المبلغ المقرر. أما الجابيل فضريبة على الملح. فقد احتكرت الدولة بيعه، وألزمت جميع الرعايا أن يشتروا دورياً كمية مقررة بأسعار تحددها الحكومة. وإلى هاتين الضريبتين الأساسيتين أضيفت مختلف الرسوم الصغيرة، وعشر محصول الفلاح الذي يجب أداؤه للكنيسة. على أن هذه الضريبة كانت عادة دون العشر بكثير(55)، وكانت تراعي الرأفة في جبايتها.

وكانت الزراعية أقل المرافق تأثيراً بإصلاحات كولبير. إذ بقيت طرق الفلاحة بدائية جداً بحيث عجزت عن إعاشة عشرين مليوناً من الأنفس يتكاثرون بغير حساب. وكان لكثير من الأزواج عشرون ولداً. ولولا الحرب، والمجاعة، والمرض، وارتفاع نسبة الوفيات في الأطفال، لتضاعف السكان مرة كل عشرين سنة(56)، ومع ذلك منح كولبير الإعفاءات الضريبية للزواج المبكر، والمكافآت للأسر الكبيرة (ألف جنيه فرنسي للآباء إذا كان لهم أبناء عشرة، وألفين إذا كانوا اثني عشر ولداً(57)) وذلك بدلاً من أن يعمل على زيادة خصوبة التربة. وقد احتج على تكاثر الأديار لأنه يهدد القوى البشرية لفرنسا(58). على أن نسبة المواليد في فرنسا انخفضت رغم ذلك خلال حكم لويس، لأن الحرب زادت الضرائب وعمقت الفقر. ولكن حتى في هذه الحال، لم تقتل الحرب ما يكفي لحفظ التوازن بين المواليد والطعام، وكان على الطاعون أن يتعاون مع الحرب. وكان نقص المحصول سنتين متعاقبتين كفيلاً بإحداث المجاعة، لأن وسائل النقل لم ترق بحيث تستطيع بكفاية سد العجز في إقليم من الفائض في آخر. ولم تخل سنة من مجاعة في مكان ما فرنسا(59) وكانت السنوات (1648-51، 1660-62، 1693-94، و1706-10) فترات انتشر فيها الرعب من الموت جوعاً، حين بلغت نسبة الموتى من السكان في بعض الأقاليم ثلاثين في المائة. وفي 1662 استورد الملك القمح وباعه للفقراء بثمن بخس أو وهبه لهم وأعفاهم من ثلاثة ملايين فرنك من الضرائب المستحقة(60).

وخفف التشريع بعض مآسي الريف، إذ حظر الاستيلاء على بهائم الفلاح أو عرباته أو أدواته وفاء للدين ولو كان دينا للتاج، وأنشئت المزارع للاستيلاد تتعهد أفراس الفلاح مجاناً، ومنع الصيادون من اختراق الحقول المبذورة بالحب، وقدمت الإعفاءات الضريبية لمن يصلحون الأراضي المهجورة ويزرعونها. ولكن هذه الملطفات ما كانت لتنفذ إلى صميم المشكلة-مشكلة اختلال التوازن بين خصوبة الإنسان وخصوبة التربة، والافتقار إلى الاختراعات الآلية. على أن فلاحي أوربا على بكرة أبيهم كانوا يلقون مثل هذا العنت، ولعل الفلاحين الفرنسيين كانوا أيسر حالاً من نظرائهم في إنجلترا أو ألمانيا(61).

لقد ضحى كولبير بالزراعة قرباناً للصناعة ولكي يطعم سكان المدن المتكاثرين، وجيوش الملك المتعاظمة، حظر رفع سعر الغلال بما يتناسب وغيرها من الخدمات. وكان من الأوليات عنده أن على الحكومة التي تبتغي القوة أن تملك موارد كافية وجيشاً من الجند الأشداء المجهزين تجهيزاً حسناً؛ فطبقة الفلاحين المتمرسة بالمشاق تزود البلاد بمشاة أقوياء، والصناعة والتجارة الناميتان لا بد أن توفر الثروة والأدوات. ومن كان هدف كولبير الذي لم ينثنِ دونه هو أن يشجع الصناعة، لا بل إن التجارة يجب إخضاعها لهذا الهدف، فلا بد أن تحمى الصناعات الوطنية بالرسوم الجمركية التي تبعد المنافسة الخطرة من خارج البلاد. وجرياً على السياسات الاقتصادية التي انتهجها صلى وريشليو، أخضع كولبير جميع الصناعات الفرنسية-إلا أقلها شأناً-لسيطرة الدولة النقابية: فكانت كل صناعة، بطوائفها، ومالياتها ومعلميها، وصبيتها، وعمالها اليوميين، تؤلف نقابة تنظمها الحكومة من حيث المعاملات، والأسعار، والأجور والبيوع. وأرسى المعايير الرفيعة لكل صناعة أملاً في كسب الأسواق بجودة التصميم والصقل في المنتجات الفرنسية. وقد آمن هو ولويس بأن التذوق الأرستقراطي للأناقة يدعم الحرف الكمالية ويحسنها، ومن ثم وجد الصاغة، والنقاشون، ونجارو الأثاث، ونساجو الأقمشة المرسومة، كلهم وجدوا العمل والحافز والصيت البعيد.

وأمم كولبير مصنع جوبلان في باريس تأميماً تاماً، وجعله نموذجاً في الأسلوب والتنظيم. وشجع المشروعات الجديدة بالإعفاءات الضريبية، والقروض التي تمنحها الدولة، وخفض سعر الفائدة إلى 5%، وسمح باحتكار الصناعات الجديدة إلى أن ترسخ أقدامها. وقدم الحوافز لمهرة الصناع الأجانب حتى يجلبوا مهاراتهم إلى فرنسا، فاستوطن صناع الزجاج البنادقة في سان-جوبان؛ وجلب صناع المشغولات الحديدية من السويد، وأنشأ بورتستنتي هولندي في أبفيل صناعة القماش الرفيع بعد أن كفل له حرية العبادة ورأس المال الذي أقرضته إياه الدولة. فما وافى عام 1669 حتى بلغ عدد الأنوال في فرنسا 44.000 وكان في تور وحدها 20.000 نساج. وقد زرعت فرنسا أشجار توتها، وكانت آنئذ مشهورة بأقمشتها الحريرية. وتضاعف النسيج لتلبي حاجة جيوش لويس الرابع عشر المتزايدة. وهكذا اتسعت الصناعات الفرنسية سريعاً بفضل هذه الحوافز. وأنتج الكثير منها لسوق قومية أو دولية، وبلغ بعضها مرحلة رأسمالية في الاستثمار، والتجهيز، والإدارة. وصادفت رسالة التصنيع التي آمن بها كولبير هوى في نفس الملك، فتفقد الورش، وسمح بأن تختم المنتجات الفاخرة بخاتم السلاح الملكي، ورفع من قدر رجال الأعمال الاجتماعي، وخلع ألقاب الشرف على كبار المقاولين. وشجعت الدولة التعليم العلمي والتقني أو وفرته للشعب. وغدت الورش في اللوفر، والتويلري، ومصانع الجوبلان، وأحواض سفن البحرية، ومدارس يتتلمذ فيها الصبية من الصناع. وسبق كولبير موسوعة ديدرو، إذ احتضن موسوعة للفنون والحرف، ووصفاً مصور الكل الآلات المعروفة(62). ونشرت أكاديمية العلوم بحوثاً عن الآلات والفنون الميكانيكية، وسجلت "صحيفة العلماء" تقنيات صناعية جديدة. وقد أخذ العجب بيرو-وهو يبني الواجهة الشرقية للوفر-حين رأى آلة ترفع كتلة من الحجر تزن 100.000 كيلو (1.100 طن)(63). على أن كولبير عارض إدخال الآلات التي ينجم عنها تعطل العمال(64).

وإذ كان شديد الولع بالنظام والكفاية، فقد أمم تنظيم الصناعة بوساطة الكومونات أو الطوائف الصناعية. وتوسع في هذا التنظيم توسعاً أوشك أن يكون خانقاً. وراحت مئات من الأوامر تصف أساليب الصناعة، وحجم المنتجات ولونها ونوعها، وساعات العمل وظروفه؛ وأنشأت اللجان في جميع قاعات المدن لفحص العيوب في إنتاج الحرف والمصانع المحلية. وعرضت علانية عينات من الصنعة المعيبة وإلى جوارها الصانع أو المدير. فإذ عاد المخالف إلى مخالفته وبخ في اجتماع للطائفة فإن عاد ثالثة شد على عمود تشهيراً به وتنكيلاً(65). وشغل كل ذكر قادر على العمل. وجند الأيتام من ملاجئهم ليخدموا في المصانع، وأخذ المتسولون من الشوارع إلى المصانع، وقال كولبير للملك في اغتباط إنه حتى الأطفال يستطيعون الآن كسب بعض المال في المصانع.

وأخضع العمال لنظام يقرب من النظام العسكري، فالكسل وعدم الكفاية، والشتم، والأحاديث النابية، والعصيان، والسكر، والاختلاف إلى الحانات، ومعاشرة الخليلات، وعدم الخشوع في الكنيسة-كل أولئك يجب أن يعاقبه رب العمل، وبالجلد أحياناً. أما ساعات العمل فطويلة-وقد تبلغ اثني عشرة أو أكثر تتخللها فترات من ثلاثين إلى أربعين دقيقة لتناول الطعام. أما الأجور فضئيلة، يدفع جزء منها أحياناً سلعاً يحدد رب العمل أسعارها. وقد حسب فوبان متوسط الأجر اليومي الذي يتقاضاه مهرة الصناع في المدن الكبيرة فكان اثني عشر سواً (ثلاثين سنتاً) في اليوم، ولكن السو الواحد كان يشتري رطلاً من الخبز(66). واختزلت الحكومة عدد أيام الأعياد الدينية التي تعفي العمال من العمل، وبقي من هذه العطلات ثمانية وثلاثون يوماً، فكان مجموع أيام الراحة في السنة تسعين(67). وحرمت الإضرابات، وحظرت اجتماعات العمال لتحسين أحوالهم، وقد سجن بعض العمال في روشفور لأنهم شكلوا ضآلة أجورهم. ونمت ثروة طبقة رجال الأعمال، وارتفعت موارد الدولة، ولكن لعل حال العمال كانت على عهد لويس الرابع عشر أسوأ منها في العصور الوسطى(58). لقد أخضعت فرنسا للنظام الصارم في الصناعة كما أخضعت في الحرب.

أما في مجال التجارة، فقد آمن كولبير كما آمن معظم رجال الدولة في جيله بأن اقتصاد الأمة ينبغي أن ينتج أقصى ما يمكن من ثروة واكتفاء ذاتي داخل الأمة، وأنه مادام الذهب والفضة عظيمي القيمة بوصفهما وسيطين في المبادلة، فلابد من تنظيم التجارة بحيث تكفل للأمة "توازناً تجارياً في صالحها" أي زيادة في الصادرات على الواردات، ومن ثم تدفقاً للفضة والذهب إلى البلاد. وبهذه الطريقة وحدها استطاعت فرنسا، وإنجلترا، والأقاليم المتحدة-وكلها لم تكن تربتها تحوي ذهباً، أن تحصل على حاجاتها، وأن متون جيوشها زمن الحرب، وهذه هي "المركنتلية" Mercantilism ومع أن بعض الاقتصاديين سخروا منها، فقد كان وسوف يكون هناك الكثير من المبررات لها في عصر كثير الحروب. ولقد طبقت على الأمة نظام التعريفات والترتيبات الحامية التي كانت في العصور الوسطى تطبق على الكومون. ونمت وحدة الحماية حين حلت الدولة محل الكومون وحدة الإنتاج والحكم. إذن فبمقتضى نظرية كولبير يجب أن تكون أجور العمال منخفضة تمكيناً لمنتجاتهم من أن تنافس نظيرها في الأسواق الأجنبية وبذلك تجلب الذهب إلى البلاد، ويجب أن يكون جزاء أرباب العمل وفيراً حفزاً لهم على الاضطلاع بالمشروبات الصناعية لصنع السلع، لا سيما الكماليات، التي لا نفع لها في الحرب ولكن يمكن تصديرها بتكلفة قليلة لقاء عائد كبير، ثم يجب أن تكون أسعار الفائدة منخفضة إغراء للمقاولين باقتراض رأس المال. وهكذا نرى طبيعة التنافس التي فطر عليها الإنسان، في تلك الغابة التي لا تخضع لقانون والتي تصطرع فيها الدول، قد كيفت اقتصادها الوطني وفق فرص الحرب وحاجاتها. فالسلام ليس إلا حرباً بوسائل أخرى.

إذن فوظيفة التجارة في رأي كولبير (بل في رأي صلي وريشليو وكرومويل أيضاً) تصدير السلع المصنوعة نظير المعدن النفيس أو الخامات. ومن ثم نراه في 1664، ثم في 1667، يرفع الرسوم على الواردات التي هددت بأن تنافس في فرنسا منتجات الصناعات الوطنية المعتبرة ضرورية في الحرب، فلما استمر جلب هذه الواردات حظرها بتاتاً. وفرض رسوم تصدير باهظة على المواد الضرورية، ولكنه خفض الضريبة على تصدير الكماليات.

ثم حاول تحرير التجارة الوطنية من المكوس الداخلية. وقد وجد أن التجارة الفرنسية تعترض سيرها المعوقات من الحواجز والتعريفات الإقليمية والبلدية الغربية. من ذلك أن السلع المنقولة من باريس إلى المانش، أو من سويسرا إلى باريس، كانت تدفع عنها مكوس عند ست عشرة نقطة، ومن أورليان إلى نانت عند ثمان وعشرين، وربما كان هناك مبرر لهذه المكوس يوم كان كل إقليم يطمح إلى الاكتفاء الذاتي ويجاهد في حماية صناعاته، وذلك بسبب صعوبات النقل واحتمالات الصراع الإقطاعي أو تنازع الكومونات. أما وقد توحدت فرنسا سياسياً الآن، فقد غدت هذه المكوس الداخلية عقبة كؤودا في طريق الاقتصاد القومي، وحاول كولبير بمرسوم أصدره في 1664 أن يلغي جميع المكوس الداخلية، ولكن المقاومة كانت عنيدة، ففي نصف فرنسا استمرت المكوس، وظل بعضها إلى عهد الثورة الفرنسية وكان أحد أسبابها الصغيرة. وكاد كولبير أن يقضي على الجهد الذي بذله للتوسع التجاري بإصداره اللوائح المعقدة التي استهدفت إصلاح ما فسد ولكنها عرقلت التجارة إلى حد تعطيلها أحياناً. قال (هو أو أحد نقاده) "أن الحرية روح التجارة، فعلينا أن نترك الناس ليختاروا أنسب الطرق لهم". (Il Faut Laisser Faire les Hommes)(69)، وهنا عبارة قدر لها أن تصنع التاريخ.

وقد جاهد ليفتح مسالك جديدة للنقل الداخلي. فبدأ مجموعة من الطرق الرئيسية الملكية، وكانت حربية في هدفها الأول؛ ولكنها كانت إلى ذلك نعمة على التجارة عامة. كان السفر بالبر لا يزال شاقاً بطيئاً. مثال ذلك أن مدام دسفينيه استغرقت ثمانية أيام في رحلة بالمركبة من باريس إلى ضيعتها في فيتريه ببربتاني وبناء على اقتراح من بيبربول دريكيه، استخدم كولبير اثني عشر ألف رجل في حفر قناة لانجدوك الكبرى، التي بلغ طولها 162 ميلاً، وارتفعت أحياناً إلى 830 قدماً فوق سطح البحر، ولم يحل عام 1681 إلا وقد اتصل البحر المتوسط بخليج باسكاي عن طريق الرون والقناة والجارون، واستطاعت تجارة فرنسا أن تتجنب المرور بالبرتغال وأسبانيا. وكان كولبير ينظر بعين الحسد إلى الهولنديين الذين ملكوا خمسة عشر ألف سفينة تجارية من بين الآلاف العشرين التي تمخر العباب، على حين لم تملك فرنسا منها سوى ستمائة. ومن ثم بنى شيئاً فشيئاً البحرية الفرنسية حتى بلغت سفنها 270 بعد أن كانت لا تتجاوز العشرين، وأصلح المرافئ وأحواض السفن، وألزم الرجال في غير هوادة بالانخراط في سلك البحرية، ونظم أو أصلح الشركات التجارية بجزر الهند الغربية، والشرقية، وبحر المشرق، والبحار الشمالية. ومنح الشركات امتيازات الحماية، ولكن هنا أيضاً عطلتها اللوائح التي فرضها عليها تعطيلاً مدمراً. ومع ذلك نمت التجارة الخارجية، ونافست البضائع الفرنسية الهولندية أو الإنجليزية في البحر الكاريبي، والشرق الأدنى، والأوسط، والأقصى. وغدت مارسليا أكبر ثغور البحر المتوسط بعد ما أصابها من اضمحلال لقلة السفن الفرنسية. وبعد عشر سنين من الخبرة والتشاور والعمل الشاق أصدر كولبير (1681) قانوناً بحرياً للسفن والتجارة الفرنسيتين، ما لبثت الأمم الأخرى أن طبقته. ثم نظم التأمين على الرحلات التجارية الخطرة وراء البحار. وبارك اشتراك فرنسا في تجارة الرقيق، ولكنه جاهد ليلطف من قسوتها باللوائح الرحيمة(70).

وقد شجع الارتياد الجغرافي وإنشاء المستعمرات، أملاً في أن يبيعها السلع المصنوعة نظير خاماتها، ويستخدمها روافد لبحرية تجارية قد تكون ذات نفع في الحرب.وكان المستعمرون الفرنسيون منتشرين فعلاً في كندا، وغرب أفريقيا، وجزر الهند الغربية، وفي طريقهم إلى داخل مدغشقر، والهند، وسيلان. وارتاد كورسيل وفونتناك البحيرات العظمى (1671-73). وأسس كادياك مستعمرة فرنسية كبيرة فيما هو الآن ديترويت. واستكشف لاسال المسسبي في 1672 (بعد أن منح احتكار تجارة الرقيق في الأقاليم التي يفتحها)، وهبط فيه في مركب هزيل، فوصل إلى خليج المكسيك بعد شهرين من رحلة حافلة بالمغامرات. واستولى على الدلتا وأطلق عليها اسم الملك. فسيطرت فرنسا على واديي السانت لورنس والمسسبي في قلب أمريكا الشمالية.

جملة القول- ونحن لم نسجل غير جزء من نشاط كولبير، وقد أغفلنا الحديث عن جهوده في سبيل العلم والأدب والفن- أن حياة هذا الرجل كانت من أعظم ما سجله التاريخ تفانياً في العمل وسعة في الانتشار. فلم يعرف الناس منذ شارلمان ذهناً واحداً مثل ذهنه من صنع جديد على هذا النحو دولة بهذه العظمة في نواح بهذه الكثرة. صحيح أن هذه اللوائح والنظم كانت مزعجة، وقد نفرت الناس من كولبير، ولكنها شكلت القالب الاقتصادي لفرنسا الحديثة، ولم يفعل نابليون أكثر من مواصلة جهود كولبير ومراجعتها سواء في الحكم أو القانون. وعرفت فرنسا طوال عشر سنوات من الثراء ما لم تعرفه من قبل. ثم انحسر هذا الثراء لعيوب النظام وأخطاء الملك. وقد احتج كولبير على إسراف الملك والبلاط. وعلى آفة الحرب التي كانت تنحر جسد فرنسا في شيخوخته، ولكن التعاريف العالية التي فرضها، شأنها في هذا شأن لويس بالسطوة والمجد-هي التي أفضت إلى بعض هذه الحروب. وندد غرماء فرنسا البحريون بإقفال موانيها في وجه بضائعهم. ووقع على كواهل الفلاحين ومهرة الصناع عبء إصلاحات كولبير، بل أن رجال الأعمال الذين أثرتهم هذه الإصلاحات اتهموه بأن لوائحه عوقت التطور. قال أحدهم للوزير "لقد وجدت العربة مقلوبة على أحد جنبيها، فقلبتها على الآخر"(71) فلما مات (في سبتمبر 1683) رجلاً محطماً مهزوماً، اضطر ذووه إلى دفن جثمانه ليلاً مخافة أن يسبه الناس في الشوارع(72).


5- الآداب والأخلاق

كان العهد عهد الآداب الصارمة والأخلاق المنحلة. وكان اللباس شعيرة المركز الاجتماعي. فهو في أواسط القوم غاية في البساطة- سترة سوداء تغطي في تواضع القميص والسراويل والسيقان. أما في الصفوة فهو بهي فاخر، وهو في الرجال أبهى وأفخر منه في النساء. فكانت القبعات كبيرة لينة، لها حاشية عريضة مزركشة بجديلة من الذهب، تمال إلى أعلى في جانب أو ثلاثة جوانب، وتختال بحزمة من الريش يضمها مشبك معدني. وحين ارتقى لويس العرش نبذ- ونبذ من بعده البلاط- تلك الباروكات التي أشاع زيها أبوه الأصلع، فقد كانت تلافيف شعر الملك الشاب الكستنائي أروع وأبهى من تخبأ، ولكن حين بدأ شعره ينحل بعد 1670، اتخذ الشعر المستعار، وما لبث أن توج كل رأس- أيا كان طموح حامله- وسواء في فرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا، بعقوص مستعارة مبدرة تنسدل إلى الكتفين أو ما تحتهما، وتجعل كل الرجال يبدون سواسية إلا لضجعائهم. أما اللحى فحلقت، وأما الشوارب فاحتفل بها، ومدت القفازات إلى ما فوق الرسغ وزينت، وارتدى الجنسان فراء اليدين في الجو البارد. واستعيض عن طوق الرقبة المكشكش العالي بلفاع حريري يعقد هيناً حول العنق. وأخذ يحل محل الصدرة ثوب طويل مزخرف، وزين الفخذان بسراويل "كيلوت" تمتد إلى الركبتين وتقفل بمشابك أو تعقد بأشرطة عندها، ثم تغطى هذه الثياب- إلا من أمام- بسترة ملتفة تنتهي أكمامها بأساور واسعة تحف بها حاشية من الدنتللا. واختص القانون النبلاء بتحلية ثيابهم بوشي من الذهب أو بالأحجار الكريمة، ولكن ذوي اليسار من أي طبقة تجاهلوا هذا القانون. أما الجوارب الطويلة فكانت عادة من الحرير، وكان الذكور يلبسون الأحذية الطويلة الرقبة حتى لحفلات الرقص.

أما النساء المهذبات فكانت ثيابهن فضفاضة منسدلة تتفق وفضائلهن. وكانت صدراتهن ذات أربطة ولكن من أمام كما ناشدهن بانورج في كتاب رابليه، فكانت النهود البارزة تثب للعيون البصاصة. وأما التنورة المطوقة الأكمام المنفوخة فولت مع ريشليو. وحفلت الأرواب بالتطريز والألوان المشرقة، وكست الأحذية العالية المبهجة الأقدام المتعبة، وربط الشعر بالأشرطة، ورصع، وعطر، وجعد، في تأنق...وظهرت أولى مجلات الأزياء في 1672.

أما آداب السلوك فكان طابعها الجلال والفخامة، وأن بقيت جلافات كثيرة تحت أبهة القبعة المرفوعة للتحية والثوب الجرار. فكان الرجال يبصقون على أرض الحجرة، ويبولون على سلم اللوفر(73). وقد ينقلب المزاح وحشياً أو بذيئاً. ولكن الحديث كان رشيقاً مهذباً، ولو دار حول الفسيولوجيا والجنس. وكان الرجال يأخذون عن النساء آداب السلوك والحديث، فيتكلمون في عبارة واضحة وسليمة، ويتنكبون الحشو والحذلقة، ويناولون جميع الموضوعات مهما اشتد عمقها بمرح خفيف روحاً وعبارة. وكان الاحتداد في الجدل من سوء الأدب. وأما آداب المائدة فأخذت تتحسن. وكان الملك يأكل بإصبعه طوال حياته، ولكن استعمال الشوك كان قد راج، وشاع استعمال نحو 1660 فوطة للمائدة. ولم يعد من المستساغ أن يمسح الضيوف أصابعهم في غطاء المائدة.

أما الفضائل الاجتماعية فلم تكن ممتازة في هذا العصر- عصر الأتكيت والبروتوكول. وتضاءل الإحسان بازدياد ثراء الطبقات العليا. وكانت الأخلاق أسلم ما تكون في الطبقات حيث يسر الشعور بالأمن حسن السلوك، وحفزته الرغبة في الارتقاء. وكان المثل الأعلى عند جميع الطبقات هو L'honn(te Homme وليس المقصود بالعبارة الرجل الأمين، بل الرجل الشريف، الذي يجمع بين كرم النشأة والعادات وبين حسن السلوك. أما الأمانة فقلما كان يتوقعها القوم من إنسان. فقد انتشرت الرشوة في المناصب على الرغم من لوائح كولبير ونظام الجاسوسية الملكي، وشجع عليها بيع الوظائف الحكومية مصدراً من مصادر إيراد الدولة. وانبعثت الجريمة من جشع الأغنياء، وفقر الفقراء، والتفجرات الغضبة في جميع الطبقات. وآية ذلك أن من السيدات العريقات النسب من أفدن من خدمات كاترين مونفوازان أو المركيزة برانفلييه، وكلتاهما حذقت تحضير السموم الطويل المفعول، وشاع القتل بالسم شيوعاً اقتضى إنشاء محاكم خاصة لتفصل في قضاياه(74). أما كاترين مونفوازان فقد مارست الطب، والتوليد، والسحر، وساعدت كاهناً مرتداً ترتيل "القداس الأسود" التماساً لمعونة الشيطان، وكانت تدبر إجهاض النساء وتبع السموم وأشربة الغرام. ومن زبائنها أوليمب مانتشيني، ابنة أخت مازاران، والكونتيسة جرامون، ومدام دمونتيسبان خليلة الملك. وفي 1679 فحصت لجنة نشاط "لافوازان" ووجدت الأدلة على اشتراك العدد العديد من كبار أفراد الحاشية، الأمر الذي حدا بلويس إلى حظر إذاعة التحقيق(75). وأحرقت لافوازان حية (1680).

ويدخل في أخلاق الأفراد انحرافاتهم العادية. وقد نص القانون على عقاب للواط بالإعدام، وما كانت أمة تتخذ أهبتها للحرب، وتدفع الإعانات على الأطفال، لتسمح بانحراف الغرائز الجنسية عن جادة الأنسال، ولكن مطاردة أمثال هؤلاء المنحرفين كانت عسيرة في وقت كان فيه شقيق الملك لوطياً يشار إليه بالبنان، ويأنف القوم من ازدرائه ولكنهم يرونه فوق القانون. أما الحب بين الجنسين فقد تقبلوه على أنه تخفف رومانسي من أعباء الزواج، لا مبرر يدعو للزواج. وقد رأوا أن اقتناء الثروة. أو حمايتها، أو نقلها، أهم في الزواج من محاولة الإبقاء على عواطف الساعة العابرة طوال العمر. ولما كانت معظم زيجات الطبقة الأرستقراطية لا تعدو أن تكون ترتيباً لتنظيم الملكية، فإن المجتمع الفرنسي أغضى عن التسري، فكان لكل قادر تقريباً خليلة، وكاد الرجال يفاخرون بغرامياتهم مفاخرتهم بمعاركهم الحربية. أما المرأة فتشعر أنها مهجورة منبوذة إذا لم يلاحقها الرجال سوى زوجها، وكان بعض الخائنين من الزواج يغضون عن خيانات زوجاتهم. يقول شخص في مسرحية لموليير: "أفي الدنيا كلها بلد آخر يبلغ فيه صبر الأزواج مبلغه في هذا البلد(76)؟" في هذا المناخ الكلبي نشأت أمثال لاروشفوكو. وكان القوم يحتقرون البغاء إذا تجرد من الكياسة، ولكن امرأة كنينون دلانكلو، جملته بالأدب والظرف، استطاعت أن تحظى بشهرة تداني شهرة الملك. كان أبوها نبيلاً حر الفكر، ومبارزاً بارعاً. وكانت أمها شديدة الحرص على الفضيلة، ولكنها (إذا صدقنا ابنتها) "مجردة من مشاعر الحس...وقد ولدت ثلاثة أطفال وهي لا تكاد تلحظ الأمر(77)". ومع أن نينون لم يتح لها التعليم المنهجي، فإنها التقطت من المعارف قدراً لا يستهان به، متعلمة الكلام بالإيطالية والأسبانية، ربما لتستعين بهما في هذه التجارة الدولية، وقرأت مونتيني وشارون، بل قرأت ديكارت، وأخذت عن أبيها تشككه. وقد جعلت مناقشتها حول الدين في فترة لاحقة دسفينييه ترتعد(78). قالت نينون "إذا احتاج إنسان إلى دين ليسلك في هذه الدنيا كما ينبغي، فتلك علامة إما على ضيق عقله، أو على فساد قلبه"(79). وكان من الجائز أن تخلص من ذلك إلى ضرورة الدين لجميع الناس تقريباً، ولكنها بدلاً من هذا انزلقت إلى البغاء وهي لا تتجاوز الخامسة عشرة (1635). وقالت في استهتار "إن الحب عاطفة لا تنطوي على أي التزام خلقي(80)" فلما خلعت العذراء وجهرت بفوضاها الجنسية، أمرت آن النمساوية بحبسها في دير للنساء. وروى أنها فتنت راهبات الدير بظرفها وحيويتها، واستمتعت بحبسها كأنها فرصة للاستجمام. وفي 1657 أفرج عنها بأمر الملك.

لقد كان فيها ما هو أكثر كثيراً من مجرد المحظية، حتى إنها سرعان ما ضمت إلى لفيف المعجبين بها عدداً كبيراً من أبرز الرجال في فرنسا، ومنهم نفر من الحاشية(81)، من الملحن لولى إلى كونديه العظيم ذاته. وكانت تجيد العزف على الهاربسيكورد، وتحسن الغناء، يقصدها لولى ليجرب ألحانه الجديدة. وقد حوت قائمتها ثلاثة أجيال من آل سفينيه- زوج كاتبة الرسائل اللطيفة، وابنها، وحفيدها(82). وأقبل الرجال من خارج فرنسا يلتمسون ودها. قالت "لم يتشاجر علي عشاق قط، فقد كانوا يثقون في قلبي، وكان كل منهم ينتظر دوره(83)".

وفي 1657 افتتحت صالوناً، ودعت إليه رجال الأدب والموسيقى والفن والسياسة والحرب، وأحياناً زوجاتهم، وأذهلت باريس بما أبدت من ذكاء لا يقل عن ذكاء أي امرأة في جيلها أو ذكاء أكثر الرجال، فلقد طالعهم فيها عقل مينيرفا من خلف وجه فينوس. يقول فيها قاض صارم هو سان- سيمون:

"كان من المفيد لإنسان أن تستقبله في صالونها نظراً إلى الاتصالات التي يكونها عن هذا الطريق. ولم يدر في صالونها أي لعب للقمار، ولا ضحك عالٍ، ولا مجادلات، ولا حديث في الدين أو السياسة، بل دار الكثير من الحديث الذكي الرشيق...وأنباء الغرام، ولكن دون فضح أو تشهير. كان كله حديثاً مهذباً خفيفاً محسوباً، وكانت هي نفسها تغذي الحديث بذكائها وعلمها الغزير(84)".

وأخيراً أثارت فضول الملك نفسه، فطلب إلى مدام دمانتينون أن تدعوها إلى القصر، واستمع إليها من وراء ستار، فافتتن بها، وكشف لها عن وجوده وقدم نفسه إليها. وكانت في هذه الفترة (1677؟) قد كسبت ما يشبه الاحترام، وخلعت عليها أمنتها البسيطة وأياديها الكثيرة سمعة أشرف، فكان الرجال يودعون لديها المبالغ الكبيرة مطمئنين، واثقين دائماً من إمكان استردادها حين يشاءون، ولاحظت باريس كيف كانت نينون تزور الشاعر سكارون كل يوم تقريباً حين أقعده الشلل، وكيف كانت تأتيه بأطايب الطعام التي يعجز عن دفع ثمنها.

ولقد عمرت بعد أصدقائها كلهم تقريباً، حتى سانت إفريمون التسعيني، الذي كانت رسائله التي يبعث بها من إنجلترا عزاء لشيخوختها. كتبت له تقول: أحياناً أضيق بعمل نفس الأشياء دائماً، ويعجبني السويسريون الذين يلقون بأنفسهم في النهر لهذا السبب(85)". وكانت تضيق بالتجاعيد. "إذا كان لزاماً أن يبتلي الله المرأة بالغضون، فأولى به على الأقل أن يضعها على باطن قدمها(86)". فلما دنت منيتها، تنافس اليسوعيون، والجانسنيون على شرف هدايتها للإيمان، فاستسلمت لهم في لطف، وماتت في أحضان الكنيسة (1705)(87). ولم تترك في وصيتها سوى عشرة إيكوات لجنازتها، حتى تكون أبسط ما يستطاع، ولكن "أطلب في تواضع إلى المسيو آرويه"- وهو وكيلها- "أن يسمح لي بأن أترك لابنه، الذي يتلقى العلم عند اليسوعيين، ألف فرنك ليشتري بها كتباً(88)". واشترى الابن الكتب، وقرأها، وأصبح فولتير. إن أروع السحر الذي توج هامة المجتمع الفرنسي هو أن حافز الجنس امتد إلى الذهن، وأن النساء تنبهن ليضفن الذكاء إلى الجمال. وأن الرجال روضن النساء على السلوك المؤدب، والذوق السليم، والحديث المهذب؛ وفي هذا كان القرن (الممتد من 1660 إلى 1760) في فرنسا أوج الحضارة. في ذلك المجتمع كثرت النساء الذكيات كثرة لم تعهد من قبل، فإذا جمعهن إلى الذكاء فتنة الوجه أو الجسد، أو سحر الاهتمام الناشئ عن الرقة واللطف، أصبحن قوة تهذيب عارمة. وكانت الصالونات تدرب الرجال على الحساسية لرقة الأنثى، والنساء على التجاوب مع عقل الذكر. وفي هذه اللقاءات طور فن الحديث حتى بلغ شأواً لم يبلغه من قبل ولا من بعد-فن تبادل الأفكار دون مغالاة أو خصومة، بل في مجاملة، وتسامح، ووضوح، وخفة، ورشاقة. ولعل هذا الفن كان أقرب إلى الكمال في عهد لويس الرابع عشر منه في أيام فولتير-أقل ألمعية وظرفاً، ولكن أكثر مادة ومودة. كتبت مدام دسفينيه إلى ابنتها تقول "بعد الغداء مضينا إلى السمر في ألطف غابات الدنيا، وظللنا هناك إلى السادسة، مشتغلين بمختلف ألوان الحديث، البالغ العطف، والرقة، واللطف، والكرم، مما مس شغاف قلبي(89)" وقد عزا كثير من الرجال الفضل في تسعة أعشار تعليمهم إلى مثل هذا التبادل والاتصال الاجتماعي بين الجنسين(90).

وفي الغرفة الزرقاء بالأوتيل درامبوييه كان أول الصالونات يسطع ببهائه الأخير. أمه كونديه وإن لم يلمع فيه، وأمه كورنبي، ولاروشفوكو، والسيدتان لافاييت ودسفينيه، ودوقة لونجفيل، والجراند مدموازيل. هناك أرست النساء المتحذلقات Les Femmes Pr(cienses قواعد السلوك الدقيق والحديث المصقول. ولكن حرب الفروند قطعت هذه اللقاءات، ورحلت مدام درامبوييه إلى الريف، مع أن "أوتيلها" (قصرها) فتح بعد ذلك أبوابه ثانية لعبقري فرنسا (موليير)، فإن باكورة تمثيلياته Les Pr(cieuses Ridicules (المتحذلقات المضحكات) (1659) كانت ضربة قاضية عليه. وطوى أول الصالونات المشهورة بموت مؤسسته في 1665.

وواصلت هذا التقليد صالونات أخرى، في بيوت السيدات دلا سابليير، ودلامبير، ودسكوديري- وآخرهن أشهر كتاب الرواية في هذا العصر، وأولاهن امرأة جذبت الرجال بحسنها رغم حبها للفيزياء، والفلك، والرياضة، والفلسفة. في صالونات كهذه زكت النساء العالمات Femmes Savantes اللائي أثرن سخرية موليير في 1672. ولكن كل هجاء ليس إلا نصف الحقيقة، ولعل موليير في لحظاته الفلسفية كان يقر بحق النساء في أن يشاركن في حياة جيلهن الفكرية. فنساء فرنسا، أكثر حتى كم كتابها وفنانيها، هن تاج حضارتها، والمفخرة العظمى لتاريخها.


6- بلاط الملك

لقد عاون الملك وبلاطه على تحضير فرنسا. وفي 1664 كان البلاط يضم نحو ستمائة شخص: الأسرة المالكة، وكبار النبلاء، والمبعوثين الأجانب، والخدم والحشم. وقد زاد العدد في أوج اكتمال فرساي إلى عشرة آلاف من الأنفس(91)، ولكن هذا العدد شمل الأعيان الذين اختلفوا إلى القصر بين الحين والحين، وجميع المرفهين والأتباع، والفنانين والمؤلفين الذين وقع عليهم اختيار الملك ليكافئهم. وأصبحت الدعوة إلى البلاط شهوة لا تفوقها غير شهوة الطعام والجنس، لا بل إن قضاء يوم واحد فيه كان نشوة لا تنسى، جديرة بأن يبذل في سبيلها نصف مدخرات العمر. وبعض السر في بهاء البلاط كان في الأثاث المترف الذي ازدانت به الغرف، وبعضه في لباس الحاشية، وبعضه في حفلات الترفيه البالغة الفخامة، وبعضه في جمال النساء وصيت الرجال الذين اجتذبهم بريق المال، والشهرة، والسلطان. ومن النساء الشهيرات- كالسيدتين دسفينيه ودلافاييت- من لم يختلفن إلى البلاط إلا نادراً لانحيازهن إلى قضية الفروند، ولكن بقي منهن عدد يكفي لإبهاج ملك بالغ الحساسية لمفاتن المرأة. وتبدو المرأة في اللوحات التي وصلت إلينا من هذا العصر على شيء من البدانة، يبرز لحمها من صدرها، ولكن من الواضح أن الرجال كان يعجبهم دفء الشحم واللحم فيمن يعشقون من النساء.

أما أخلاقيات البلاط فكانت الزنا المحتشم، والإسراف في اللباس والقمار، والدسائس العنيفة جرياً وراء الصيت والمنصب، وهذا كله يخطو على إيقاع من السلوك الخارجي الدمث، والآداب الرشيقة، والمرح الإلزامي. وضرب الملك المثل في بدعة اللباس الغالي، لا سيما في استقبالات السفراء، فنراه وهو يستقبل مبعوثي سيام يرتدي عباءة موشاة بالذهب ومرصعة الأطراف بالماس، بلغت تكاليفها 12.500.000 جنيه فرنسي(92)، ومثل هذا المظهر كان جزءاً من سيكلوجية الحكم. وأفنى الأشراف ونساؤهم نصف دخل ضياعهم في الثياب والخدم والأثاث، وكان على أقلهم شأناً أن يستخدم أحد عشر خادماً ومركبتين، أما الأثرياء فكان لهم من الأتباع خمسة وسبعون في بيوتهم، ومن الخيل أربعون في مرابطهم(93). وفقد الزنا سحره بعد أن لم يعد محظوراً، فغدا لعب الورق للمقامرة أهم ضروب الترفيه في البلاط. وهنا أيضاً كان لويس القدوة لحاشيته، فقامر بمبالغ كبيرة، تستحثه إلى ذلك خليلته مونتسبان، التي خسرت وكسبت أربعة ملايين من الفرنكات في لعب ليلة واحدة(94). وسرى هذا الهوس من البلاط إلى الشعب. كتب لابرويير يقول: "إن الألوف يخربون بيوتهم بالقمار، وهو لعبة رهيبة...ينوي لاعبها القضاء المبرم على غريمه، وينتشي بشهوة الكسب(95)".

وقد أفضى التنافس على الحظوة عند الملك، أو على وظيفة مجزية، أو على مكان في الفراش الملكي، إلى جو من الشبهات، والافتراءات، وتبادل الخصومات الحادة. قال لويس "في كل مرة أعين إنساناً في وظيفة شاغرة، أسخط مائة شخص، وأجعل شخصاً ناكراً للجميل(96)". وكان القوم يتشاجرون على أمكنة الصدارة في المائدة، أو على القيام على خدمة الملك، وحتى سان- سيمون أقلقه الخوف من أن يتقدمه دوق لكسمبرو خمس خطوات في أحد المواكب، وقد اضطر لويس إلى نفي ثلاثة أدواق من البلاط لأنهم أبوا أن يقدموا على أنفسهم أمراء أجانب. وكان الملك شديد الاحتفال بالبروتوكول، وقد عبس مرة حين وجد على مائدة الغداء سيدة عاطلاً من اللقب تتقدم دوقة في مجلسها(97). ولا ريب في أن ضرباً من الترتيب المقرر كان ضرورياً لمنع ستمائة من الأنفس المغرورة المزهوة بأسباب التشريف من أن يدوس بعضها على أقدام بعض، وقد أثنى الزوار على ذلك المظهر المتسق الذي بدت فيه الحاشية الضخمة. ومن قصور الملك، واستقبالاته، وحفلات ترفيهه، سرى دستور للإتيكيت، ومعايير للسلوك والذوق، إلى الطبقتين العليا والوسطى، وأصبحت هذه كلها جزءاً من التراث الأوربي.

وأراد الملك أن يمنع الملل من أن يتطرق إلى نفوس هؤلاء النبلاء والنبيلات، ذلك الملل الذي قد يحمل البعض على قتل الملك، فناط الفنانين على مختلف أنواعهم بإعداد ألوان الترفيه- من مباريات بين الفرسان، ورحلات صيد، ومباريات تنس وبليارد، وجماعات سباحة أو نزهة في الزوارق، وحفلات غداء أو عشاء، ورقص وحفلات راقصة، وحفلات تنكرية، ومراقص باليه، وأوبرات، وحفلات موسيقية، وتمثيليات. وبدت فرساي وكأنها جنة الله في أرضه حين كان الملك يتقدم حاشيته إلى الزوارق الراسية في القناة، والأصوات والآلات تشدو بالموسيقى، والمشاعل تعين القمر والنجوم على إضاءة المشهد. وهل في الدنيا أفخم ولا أكتم للأنفاس من حفلات الرقص الرسمية، حين تعكس قاعة المرايا في مراياها الهائلة رشاقة الرجال والنساء وخفتهم وهم يخطرون في رقصات فخمة تحت آلاف الأضواء؟ لقد أراد الملك أن يحتفل بمولد ابنه البكر، الدوفان، (1662) فأقام حفلة باليه في الميدان المنبسط أمام التويلري، حضرها خمسة عشر ألف شخص. وقد دمر كومون 1871 القصر، ولكن موقع هذا المهرجان الأشهر ما زال يسمى كاروزل Carrousel (أي ساحة الرقص الدائري السريع). لقد أحب لويس الرقص، وأشاد به "واحداً من أفضل وأهم الرياضات لتدريب الجسم(98)"، وأسس في باريس (1661) الأكاديمية الملكية للرقص. وكان يشارك بشخصه في رقصات الباليه ويحذو النبلاء حذوه. وشغل الملحنون في بلاطه بإعداد الموسيقى لحفلات الرقص والباليه، وهناك تطورت المتتالية التي حذق استخدامها بيرسيل في إنجلترا وآل باخ في ألمانيا. ولم يبلغ الرقص صوراً رشيقة متسقة كهذه منذ أيام روما الإمبراطورية.

وفي 1645 استقدم مازاران المغنين الإيطاليين ليرسوا أساس الأوبرا في باريس. وقطع موت الكردينال هذا الاستهلال، ولكن حين شب الملك أنشأ أكاديمية الأوبرا (1669)، وكلف بيير بيران بتقديم أوبرات في عدة مدن فرنسية، ابتداء من باريس في 1671. فلما أفلس بيران من جراء إنفاقه المسرف على المناظر والآلات، نقل لويس "امتياز أكاديميات الموسيقى" إلى جان باتيست لولي Lully، فما لبث هذا الرجل أن رقص البلاط بأسره على أنغامه. وكان هو أيضاً هبة من هبات إيطاليا. فقد أتى به الشفالييه جيز صبياً فلاحاً في السابعة من فلورنسة إلى فرنسا في 1646، "هدية" لابنة أخيه، الجراند مدموازيل، التي استخدمته في مطبخها مساعداً صغيراً (Soumarmiton). وهناك ضايق زملاءه الخدم بالتمرين على الكمان، ولكن المدموازيل تبينت موهبته وأتته بمعلم. وما لبث أن عزف في فرقة الموسيقى الملكية ذات الأربع والعشرين كماناً. واستلطفه لويس، فأعطاه مجموعة صغيرة من الموسيقيين يقودها. وبفضل هذا الأوركسترا الوتري الصغير تعلم القيادة والتلحين- لموسيقى الرقص، والأغاني، والكمان المنفرد والكنتاتات، والموسيقى المنسية، ولثلاثين لحناً أوركستريا للباليه، وعشرين أوبرا. وقد صادق مولبير، وتعاون معه في عدة باليهات، ولحن فواصل موسيقية قصيرة لبعض تمثيليات مولبير.

وكان نجاحه رجل بلاط يضارع انتصاراته موسيقياً. ففي 1672، وفق بنفوذ مدام دمونتسبان في الحصول على احتكار الأوبرا في باريس. وقد وجد في فيليب كينو Outanuls مؤلفاً لكلمات الأوبرا وشاعراً أيضاً. فأخرجا معاً سلسلة من الأوبرات كانت ثورة الموسيقى الفرنسية. ولم يقتصر نجاح هذه الحفلات على الترفيه على البلاط في فرساي، بل إنها اجتذبت صفوة الباريسيين إلى المسرح الذي بني من قبل المولى في شارع سانت- أونوريه، واجتذبتهم في كثرة جعلت الشوارع تختنق بالمركبات، فاضطر الرواد في كثير من الأحيان إلى الخروج منها والسير على الأقدام، وفي الوحل غالباً، خشية أن يفوتهم الفصل الأول، وقد استهجن بوالو الأوبرا زاعماً أنها ضرب من التخنث المضعف(99)، ولكن الملك منح أكاديمية الموسيقى مرسوماً (1672)، وأذن للـ "سادة والسيدات بالغناء في عروض الأكاديمية المذكورة دون أن يكون في ذلك غض" من أقدارهم(100). ورفع لويس لولي إلى مقام النبالة سكرتيراً للملك، وشكا سكرتيرون آخرون من أن الوظيفة أرفع من أن تخلع على موسيقى، ولكن لويس قال للولي، "لقد شرفتهم هم لا أنت بوضعي عبقرياً بين زمرتهم(101)". وحالف التوفيق لولي في كل شيء حتى 1687، حين ضرب قدمه صدقة- وهو يقود فرقته- بعصا القيادة، وأساء طبيب دجال علاج جرحه، فتعفن، ومات المؤلف الفوار في الثامنة والأربعين. وما زالت الأوبرا الفرنسية تشعر بتأثيره إلى اليوم.

بقي اسم آخر خلفته موسيقى ذلك العهد الفخم،وهو اسم أسرة كوبران، التي كانت مثلاً آخر على الوراثة في الفن، والتي أنجبت مؤلفين لفرنسا طوال قرنين من الزمان، واحتكرت من 1650 إلى 1826 الأرغن العظيم في كنيسة سان جرفيه، وقد شغل فرانسوا كوبران "الكبير" ذلك المنصب ثمانية وعشرين عاماً، كذلك كان "عازف أرغن الملك" في كنيسة الملك الصغيرة بفرساي، وكان أشهر عازفي الهاربسيكور في ذلك "القرن العظيم". وقد درس يوهان سبستيان باخ ألحانه التي وضعها لهذه الآلة دراسة دقيقة، وأثر البحث الذي وضعه باسم L,art de Toucher Le Clavecin (وهو الاسم الفرنسي لمقابله الإنجليزي Clavichord) في بحث ذلك الألماني العظيم المسمى "الكلافير المعتدل"...ترى؛ أكانت الموسيقى في دم آل كوبران، أم في بيتهم فقط، لعل الوراثة الاجتماعية، لا البيولوجية، هي التي تصنع الحضارة.


7- نساء الملك

لم يكن لويس بالرجل الخليع الفاجر، وعلينا أن نذكر دائماً ونحن في معرض الحديث عن الملوك حتى إلى قرننا هذا، أن العرف اقتضاهم أن يضحوا بميولهم الشخصية ليعقدوا زيجات منفعة سياسية للدولة، ومن ثم كان المجتمع-والكنيسة أحياناً كثيرة-يغضان إذا التمس الملك متعة الجنس وشاعرية الغرام عن الرباط الزوجي. ولو كان الأمر بيد لويس لبدأ حياته بزواج حب، فقد استهواه جمال ماري مانشيني ابنة أخ مازاران، وظرفها، فرجا أمه والكردينال أن يسمحا له بالزواج منها (1658)، ولكن آن النمساوية وبخته لأنه سمح للعاطفة بأن تتدخل في شؤون السياسة، أما مازاران فقد أبعد ماري آسفاً لتتزوج رجلاً من آل كولونا، ثم راح الوزير الداهية يستخدم نفوذه الخفي ليحصل على عروس للويس هي ماريا تريزا، ابنة فيليب الرابع. أفليس من الجائز، إذا انقطع نسل الذكور في الملوك الأسبان، أن تأتي هذه الأميرة بأسبانيا كلها مهراً لملك فرنسا؟ وهكذا زف لويس إلى ماريا في 1660، وكلاهما في الثانية والعشرين، في كل البهاء والبذخ الذي سحر دافعي الضرائب.

أما ماري تريز فكانت امرأة متكبرة، ورعة فاضلة، وقد أعانت قدوتها ونفوذها على إصلاح أخلاقيات البلاط، على الأقل بين حاشيتها، ولكن النظام الصارم الذي نشئت عليه جعلها مكتئبة متبلدة، وكانت شهيتها القوية تزيدها حجماً في الوقت الذي ترمق فيه حسناوات باريس زوجها الوسيم بنظرات الغرام وقد أنجبت له ستة أطفال، لم يتجاوز الطفولة منهم غير واحد هو الدوفن، وكان من سوء طالعها أن يكتشف لويس، في نفس سنة زواجهما، في زوجة أخيه هنرييتا آن، جميع المفاتن التي تجمل الأنوثة الغضة.

أما هنرييتا هذه فهي ابنة تشارلز الأول ملك إنجلترا؛ وكانت أمها هنريتا ماريا "ابنة هنري الرابع ملك فرنسا" قد قاسمت زوجها مأساة الحرب الأهلية، فلما دنا جيش البرلمان من مقر قيادة تشالز في أكسفورد، فرت ملكة إنجلترا إلى أكسترا، وهناك اشتد بها المرض حتى أشرفت على الموت، ولدت (1644) "أميرة صغيرة جميلة" . وراح أعوان البرلمان يتعقبون الأم المريضة، ففرت ثانية، وتسللت إلى ساحل البحر، حيث استقلت سفينة هولندية إلى فرنسا بعد أن أفلتت بالجهد من المدافع الإنجليزية. أما الطفلة التي تركتها أمها في رعاية الليدي آن دولكيت، فقد عاشت عامين في مخبئها بإنجلترا قبل أن تهرب هي أيضاً عبر المانش في أمان، وما لبثت أن أكرهتها الظروف على معاناة التقلبات التي جاءت بها حرب الفروند. ففي يناير 1640 شاركت أمها وآن النمساوية في هروبهما من باريس المملوءة بالمتاريس إلى سان-جرمان، وفي ذلك الشهر جاء نبأ-أخفي عنها ولا ريب حيناً-بأن أباها ضَرب عنقه أنصار كرومويل "ذوو الرءوس المستديرة" المنتصرون فلما خفت حدة الفروند، قامت أم الأميرة هنرييتا على تربيتها في جو من الدعة والتقوى، وعاشت كلتاهما حتى رأتا تشالز الثاني إلى العرش الإنجليزي (1660)، وبعد عام حين بلغت السادسة عشرة، تزوجت شقيق لويس الرابع عشر، "مسيو" فيليب دوق أورليان، وأصبحت تلقب بالـ "مدام".

أما "المسيو" فكان رجلاً قصيراً مكور البطن، يلبس حذاءاً عالياً، ولوعاً بحلي الإناث؛ وأجساد الذكور، شجاعاً كأي فارس في ساحة الوغى ولكنه مزوق، معطر، موشح، مرصع بالجواهر كأشد النساء غروراً، في هذا البلد الذي كان أكثر بلاد الله غروراً. وقد أحزن هنرييتا وأخجلها أن ترى زوجها يؤثر صحبتها صحبة شفالييه اللورين، وشفالييه شاتيون. ووقع في غرامها كل إنسان تقريباً، لا لجمالها الهش فحسب-مع أنها عدت أجمل مخلوق في البلاط(103)-، بل لما هو أكثر من ذلك، لروحها الرقيقة اللطيفة، وحيويتها ومرحها الشبيهين بحيوية الأطفال ومرحهم. وللنسيم النظر المنعش الذي حملته أينما ذهبت، وقد وصفها راسين بـ"الحكم في كل جميل(104)"- وكان واحداً من كثيرين ممن ألهمتهم ومدت لهم يد المعونة.

ووجدها لويس الرابع عشر لأول وهلة أضعف وأنحف من أن تسيغها فتوته وذوقه، ولكنه حين أحس آخر الأمر بما في خلقها من "حلاوة وضياء"(105) استشعر المتعة المتزايدة في وجودها، وأبهجه أن يراقصها، ويمازحها، ويدبر الألعاب معها، ويصاحبها في التمشي في البستان في فونتنبلو أو ركوب الزورق في القناة، حتى زعمت باريس كلها أنها بدت خليلته، ورأت في هذا انتقاماً عادلاً من "ملك سدوم"(106) ولكن أغلب الظن أن باريس أخطأت الحكم. فلقد أحبها لويس واشتهاها من جانبه، أما هي، التي بذلت إخلاصها في الحب لأخويها تشالز وجيمس، فقد قبلت الملك أخاً آخر، واتخذت من ربط الثلاثة جميعاً برباط التحالف أو المودة رسالة لها في الحياة.

ففي سنة 1670، وبناء على طلب لويس، عبرت المانش إلى إنجلترا لتقنع تشالز بالانضمام إلى فرنسا ضد هولندا، لا بل لتحضه على الجهر بكثلكته. وقد وعد بهذا في معاهدة دوفر السرية (1 يونيو 1670)، وعادت هنرييتا إلى فرنسا محملة بالهدايا مكللة بالنصر، ولكن ما مضت أيام على وصولها إلى قصرها في سان- كلو حتى أصابها مرض شديد، فظنت أنها سممت، وكذلك اعتقدت باريس كلها، وهرع الملك والملكة إلى فراشها. وكذلك فعل "المسيو" النادم؛ وكونديه، وتورين، ومدام دي لافاييت، ومدموازيل دمونبانسييه، وأتى بوسويه ليصلي معها، وأخيراً في 30 يونيو، انتهى عذابها، وكشف فحص جثتها عن أن موتها لم يكن بالسم بل بالالتهاب البريتوني(107)، وشيعها لويس بمشهد لا يشيع بمثله غير أصحاب الرءوس المتوجة، وألقى بوسيه فوق جثمانها في كنيسة سان-دني عظة جنائزية رجت أصداءها القرون.

وهنرييتا هي التي أعطت الملك أولى خليلاته الأكثر علانية. وقد ولدت هذه المرأة، واسمها لويز دي لا فاليير، في مدينة تور عام 1644، وتلقت في إيمان مستسلم ذلك التعليم الديني الذي قامت عليه أمها وخالها الكاهن، الذي أصبح فيما بعد أسقفاً لنانت، وما أن بلغت سن التناول الأول حتى مات أبوها، فتزوجت أمها من جديد، وكان الزوج رئيساً لخدم جاستون دوق أورليان، فحصل للويز على وظيفة وصيفة لبنات الدوق، فلما مات جاستون، وتزوج ابن أخيه وخليفته فيليب، أخذ لويز معه وصيفة شرف لهنرييتا (1661). وبهذا الوصف كانت ترى الملك مراراً كثيرة. وبهرها بهاؤه وسلطانه وسحر شخصيته، فوقعت في غرامه كما وقعت عشرات النساء، ولكنها لم تحلم بالتحدث إليه يوماً.

كان جمالها جمال الخلق أكثر منه جمال الجسد، كانت رقيقة الصحة وبها عرج خفيف، "وليس لها صدر يؤبه به" على حد قول أحد ناقديها، وكانت نحيفة إلى حد مخيف، ولكن ضعفها هذا كان في ذاته فتنة، لأنه أورثها تواضعاً ودماثة في الطبع أسر الجميع حتى النساء، ولفتت هنرييتا نظر الملك إلى لويز لتصرف الناس عن الشائعات التي أرجفت بأنها هي ذاتها خليلته، وأفلحت الخطة فوق ما أرادت، فقد جذبت لويس هذه الفتاة الخجولة ذات السبعة عشر ربيعاً، التي كان البون شاسعاً بينها وبين النبيلات المتغطرسات العدوانيات اللائى يحطن به في بلاطه. وذات يوم وجدها وحيدة في حدائق فونتنبلو، فقدم نفسه إليها، مضمراً نيات ليست بالشريفة جداً. وفاجأته بالاعتراف بأنها تحبه، ولكنها قاومت إلحافه طويلاً، وناشدته ألا يحملها على خيانة هنرييتا والملكة، ولكن ما وافى شهر أغسطس 1661 حتى كانت قد غدت خليلته، لقد كان كل شيء يبدو حسناً مادام يرضي مشيئة الملك.

ثم وقع الملك بدوره في غرامها، فما كان يستشعر السعادة كما يستشعرها مع هذا الفرخ الخجول، وخرجاً في نزهات خلوية كالأطفال، ورقصا في المراقص، وطفرا مرحاً في حفلات الباليه، وكانت إذا خرجت إلى جواره في الصيد تنسى ما في طبعها من إحجام وتردد، وتركب في تهور واندفاع "فيعجز حتى الرجال عن اللحاق بها"(108) على حد قول الدوق دانجيان. على أنها لم تستغل انتصارها، فأبت قبول الهدايا أو الاشتراك في الدسائس، وظلت متواضعة رغم زناها، وكانت تخجل من وضعها، وقد تعذبت حين قدمها الملك إلى الملكة، وولدت له عدة أطفال، مات اثنان منهم في تاريخ مبكر، أما الطفلان الثالث والرابع، اللذان تقررت شرعيتهما بمرسوم ملكي، فقد أصبحا الكونت دفيرماندوا، والمدموازيل دبلوا الرائعة الجمال. وخلال أزمات الولادة هذه كانت ترى وجوهاً أجمل من وجهها تجتذب الملك، ولم تحل سنة 1667 حتى تعلق قلبه بمدام دمونتسبان، وبدأت لويز تفكر في التفكير عن آثامها بقضاء ما بقي من عمرها في دير للراهبات.

وآنس لويس هذا الميل فيها، فبذل لها الكثير من علامات حبه الباقي، وفكر في الحفاظ عليها في دنياه بخلع لقب الدوقية عليها، ولكنه بين اشتغاله بحب مونتسبان، واستغراقه في الحرب، قل شيئاً فشيئاً ما منحها من وقته، أم هي فلم تأبه في البلاط بإنسان غيره. وفي 1671 تخلت عن ثروتها، وارتدت أبسط ما وجدت من ثياب، وتسللت من القصر صباح يوم من أيام الشتاء، وهربت إلى دير القديسة ماري-د-شايو-، وأرسل لويس من يبحث عنها مؤكداً حبه وعذابه، وإذ كانت لا تزال عذراء غريرة بعقلها، فقد ارتضت أن تعود إلى البلاط. وظلت هناك ثلاث سنين أخرى، ممزقة بين حبها للملك وشوقها للتطهير والسلام الدينيين، وكانت تمارس في القصر تقشف الحياة الديرية، وأخيراً أقنعت الملك بأن يفرج عنها، ودخلت ديراً للراهبات الكرمليات الحافيات في شارع دانفير (1674)، وتسمت الأخت لويز دلا ميزيريكورد، وعاشت هناك في توبة الزهاد ما بقي لها من عمر طوال ستة وثلاثين عاماً، قالت: "إن نفسي شديدة القناعة، بالغة السكينة؛ لأني أعبد جود الإله"(109).

أما خليفتها في الحظوة لدى الملك فلا تظفر من الناس بمثل هذا الغفران العام. فقد قدمت فرنسواز أتينايس روسشوار البلاط في 1661، وخدمت الملكة وصيفة شرف، وتزوجت المركيز دمونتسيان (1663). ويزعم فولتير أنها إحدى ثلاث كن أجمل نساء فرنسا، أما الأخريان فأختاها(110). وكان لها غدائر مجعدة شقراء مرصعة باللآلئ، وعينان أبيتان ناعستان، وشفتان شهوانيتان، وثغر ضاحك، ويدان ملاطفتان، وبشرة في لون الزنبق ونسيجه-كذلك وصفها معاصروها وهم مبهورون، وكذلك صورها هنري جاسكار في لوحة مشهورة. وكانت تقية، تحفظ أيام الصوم دون تهاون، وتختلف إلى الكنيسة في تعبد وتكرار، لها طبع حاد وذكاء بتار، ولكن هذا كان أول الأمر من قبيل التحدي.

روى عنها ميشليه قولها إنها قدمت باريس مصممة على اقتناص الملك(111). ولكن سان-سيمون يذكر أنها حين رأت أنها أخذت تزيد من سرعة نبض الملك رجت زوجها في أن يعود بها فوراً إلى بواتو(112). ولكنه أبى، واثقاً من سلطانه عليها، متعلقاً بعبير البلاط. وذات ليلة في كومبيين، ذهبت لتنام في حجرة مخصصة عادة للملك. وحاول برهة أن ينام في حجرة مجاورة، ولكنه وجد في هذا مشقة، وأخيراً استولى على حجرته وعليها (1667). أما المركيز فحين بلغه الأمر لبس ثوب الترمل، وجلل مركبته بالسواد، وزين أركانها بالقرون. وكتب لويس بيده وثيقة الطلاق بين المركيز والمركيزة، وأرسل إليه 100.000 ايكو، وأمره بالرحيل عن باريس، وابتسم البلاط الذي تجرد تماماً من الخلق الكريم.

وظلت مدام دمونتسبان محظية للملك سبعة عشر عاماً. وقد أعطت لويس مالم تستطعه لافاليير-أعطته الحديث الذكي والحيوية المثيرة. وكانت تفاخر بأنها هي وتبلد الحسن لا يمكن أن يجتمعا في مكان واحد وزمان واحد، وهو قول صحيح. وقد أنجبت للملكة ستة أطفال-أحبهم وشكر لها صنيعها، ولكنه لم يستطع أن يقاوم إغراء النوم من حين إلى حين مع مدام دسويير أو مع الآنسة الشابة دسكوراي دروسيل، التي خلع عليها لقب دوقة فونتانج. وقد حدت هذه الانحرافات بمدام دمونتسبان إلى التماس نصيحة المشعوذات في أمر الأشربة السحرية وغيرها من الوسائل للاحتفاظ بحب الملك، ولكن القصة التي زعمت أنها دبرت تسميمه أو تسميم غريماتها هي في أغلب الظن أسطورة روجها أعداؤها(113).

وقد جنى عليها أطفالها. ذلك أنها احتاجت إلى شخص يرعاهم، وزكى لها بعضهم مدام سكارون، فاستخدمتها، ولاحظ لويس حسن المربية وهو يختلف لرؤية أطفاله. أما مدام سكارون هذه، واسمها قبل الزواج فرنسواز دوبينيه، فكانت حفيدة تيودور أجريبا دوبينيه، المساعد الهيجونوتي لهنري الرابع، وقد ولدت بسجن بنيور في بواتو، حيث كان أبوها يقضي فترة من فترات سجنه الكثيرة عقاباً له على جرائم مختلفة، وعمدت كاثوليكية، وربيت بين الفوضى والفقر المخيمين على أسرة منقسمة. وعطف عليها بعض البروتستانت وأطعموها وثبتوها في العقيدة البروتستانتية تثبيتاً جعلها تولى ظهرها للمذبح الكاثوليكي. فلما بلغت التاسعة أخذها أبوها إلى المارتنيك حيث أشرفت على الموت لصرامة التأديب الذي أدبته أمها. ومات الأب بعد عام (1645)، فعادت الأرملة وأطفالها الثلاثة إلى فرنسا. وفي 1649 أودعت فرنسواز ديراً للراهبات بعد أن عادت إلى الكاثوليكية، وكانت تناهزت الرابعة عشرة آنئذ، وتكسب قوتها بأداء الأعمال الحقيرة. ولهلنا ما كنا لنسمع بها قط لولا أنها تزوجت بول سكارون.

وما بول هذا فكان كاتباً مشهوراً، وظريفاً لا معاً، مشلولاً شللاً كاد يكون تاماً، مشوهاً تشويهاً بشعاً. وإذ كان ابناً لمحامٍ نابه، فقد توقع النجاح في حياته العملية، ولكن أباه الأرمل تزوج ثانية، ونبذت الزوجة الجديدة بول، فلم يظفر من أبيه إلا بمعاش ضئيل لا يكفيه إلا للترفيه ليلة عن ماريون ديلورم وغيرها من النبيلات. ثم أصيب بالزهري، وأسلم نفسه لأحد الدجالين، وتعاطى العقاقير القوية التي أتلفت جهازه العصبي. وأخيراً اشتد به الشلل حتى كاد يعجز إلا عن تحريك يديه. وقد وصف نفسه في هذه العبارات: "سأصف نفسي لك أيها القارئ على قدر استطاعتي. لقد كان جسمي حسن التكوين رغم قصر قامتي. ولكن العلة قصرتني بقدم كامل. ورأسي أكبر قليلاً مما يناسب جسمي. ووجهي ممتلئ، أما جسدي فهيكل عظمي. وبصري لا بأس به، ولكن عيني بارزتان، وإحداهما منخفضة عن الأخرى. وقد كونت ساقاي وفخذاي أول الأمر زاوية منفرجة، ثم قائمة، وأخيراً حادة، وتكون فخذاي وجسمي زاوية حادة أخرى، وانحناء رأسي فوق معدتي يجعلني أقرب إلى حرف Z. وقد انكمش ذراعاي كما انكمش ساقاي، وكذلك فعلت أصابعي. جملة القول أنني خلاصة للتعاسة البشرية(144)".

وقد تعزى عن تعاسته تلك بتأليفه "رواية مضحكة" عن متشرد (1649) لقيت نجاحاً كبيراً، وبعرضه هزليات ساخرة صاخبة الفكاهة، فاضحة النكتة. وأكرمته باريس لأنه احتفظ بمرحه وسط آلامه، وأجرى عليه مازاران وآن النمساوية معاشين فقد الحق فيهما لتأييده للفروند. وكسب كثيراً، وأنفق أكثر، وتورط غير مرة في الدين. وكان- وهو مسنود داخل صندوق يطل منه رأسه وذراعاه-يرأس في حيوية وعلم غزير صالوناً من أشهر صالونات باريس. فلما تكاثرت ديونه، كان يتقاضى ضيوفه ثمن طعامهم، ومع ذلك كانوا يأتون.

ترى من يتزوج رجلاً كهذا؟ في سنة 1652، كانت فرنسواز دوبينيه التي بلغت السادسة عشرة من عمرها تعيش مع قريبة بخيلة ضنت بالإنفاق عليها حتى لقد اعتزمت أن ترد فرنسواز إلى أحد أديار الراهبات. وقد صديق هذه الفتاة إلى سكارون، فاستقبلها في كرم مؤلم، وعرض أن يدفع نفقات طعامها وسكنها في الدير، لكي يعفيها من نذر الرهبنة، ولكنها أبت. وأخيراً عرض أن يتزوجها، وأوضح لها بجلاء أنه لا يستطيع أن يطالبها بحقوق الزوج. فقبلته، وخدمته ممرضة وسكرتيرة، وقامت بدور المضيفة في صالونه، وتظاهرت بأنها لا تسمع توريات الضيوف. وكان ذكاؤها يدهشهم حين تشترك في الحديث. وقد خلعت على اجتماعات سكارون درجة من الاحترام كفت لجذب الآنسة دسكودري، ومدام دسفينيه بين آن وآخر، وكان من زوار الصالون قبل ذلك نينون، وجرامون، وسانت- إفرمون. وفي رسائل نينون إلماع إلى أن مدام سكارون لطفت من عذاب هذا الزوج البريء من الجنس بعلاقة غرام، ولكن نينون ذكرت أيضاً أنها "كانت فاضلة لضعف عقلها. لقد أردت شفاءها، ولكنها كانت تخاف الله أكثر مما يجب(115)" وكان وفاؤها لسكارون حديث باريس، المتعطشة دون وعي منها لأمثلة للسلوك الكريم. ولما اشتد عليه شلله تيبست حتى أصابعه وامتنعت حركتها، فعجز عن أن يقلب صفحة أو يمسك قلماً. فكانت تقرأ له، وتكتب ما يمليه عليها، وتقوم على كل حاجاته. وقبل أن يموت (1660) كتب فبريته التي قال فيها:

"إن الراقد الآن هنا قد أثار من الشفقة أكثر مما أثار من الحسد، وعانى ألف مرة عذاب الموت قبل أن يفقد الحياة. فيا أيها العابر لا تحدث ضجيجاً، وإياك إياك أن توقظه، فهذه أول ليلة ينام فيها سكارون المسكين". ولم يخلف لزوجته غير الدائنين. وألقيت "الأرملة سكارون" في خضم الفقر مرة أخرى وهي يعد شابة في الخامسة والعشرين. والتمست من الملكة الأم أن يجدد معاشها الذي ألغي، فرتبت لها آن ألف جنيه في العام. واتخذت فرانسواز حجرة في دير، وتواضعت في عيشها وملبسها، وارتضت القيام بشتى المهام الصغيرة في البيوت الميسورة(117). وفي 1667 أرسلت إليها مدام دمونتسبان وهي على وشك الوضع رسولاً يطلب إليها أن تتلقى الوليد المنتظر وتربيه. ورفضت فرنسواز، ولكنها قبلت حين أيد لويس الطلب. وظلت سنوات عديدة بعد ذلك تتلقى أطفال الملك وهم يخرجون إلى النور.

وتعلمت أن تحبهم، وكانوا يرون فيها أماً لهم؛ أما الملك الذي ضحك منها أول الأمر لفرط احتشامها، فقد انتهى إلى الإعجاب بها، وأثر فيه ما بدا من حزنها حين مات أحد الأطفال رغم حدبه المتصل عليه. وقال إنها تعرف كيف تحب، وإنها لمتعة أن يكون إنسان موضع حبها(118)", وفي 1673 قررت شرعية الأطفال، ولم يعد فرضاً على مدام سكارون أن تتستر، فقبلت في البلاط وصيفة لمدام دمونتسبان. ووهبها الملك 200.000 جنيه دعماً لمركزها الجديد. فاشترت بالمال ضيعة في مانتنون قرب شارتر. ولم تعش فيها قط، ولكن أعطتها لقباً جديداً، وهو المركيزة دمانتنون. وكانت طفرة عنيفة لمن كانت تشكو الإملاق منذ عهد قريب جداً، ولعلها أدارت رأسها حيناً. وآلت على نفسها أن تنصح مدام دمونتسبان بأن تكف عن حياة الإثم التي تحياها. وساءت النصيحة مونتسبان، وظنت أن مانتنون تكيد لها للحلول محلها، والحق أن لويس كان آنئذ، في 1657، قد اخذ يضيق بغضبات مونتسبان، ويجد لذة في التحدث إلى المركيزة الجديدة ولعل الأسقف بوسويه، بالتواطؤ مع الملك، أنذره بأنه سيحرم من تناول قربان القيامة ما لم يطرد محظيته. فأمرها بأن تبرح القصر، ففعلت، وتناول لويس القربان، وتعفف حيناً واستحسنت مدام دمانتنون مسلكه، دون أن يكون لها قصد أناني فيما يبدو(119)، لأنها رحلت بعد قليل مع صبي عليل (من أبناء مونتسبان) هو الدوق دمين تلتمس له الشفاء في حمامات باريج الكبريتية بإقليم البرانس. وانطلق لويس إلى حروبه، ثم عاد وقد اشتد به الجوع، وضرب بإنذار بوسويه عرض الحائط، ودعا منتسبان لتعود إلى جناحها في فرساي. وهناك ارتمى بين ذراعيها المشتاقتين، فحبلت ثانية.

أما مانتنون فقد رحب بها الملك ومحظيته عند عودتها من البرانس مع الدوق الذي شفي مما ألم به، ولكن راعها أن تراه غارقاً في عدة علاقات آثمة في وقت واحد. وفي 1679 اختتم آثامه مع مونتسبان بتعيينها مشرفة على بيت الملكة-وكانت تلك إحدى الفظاظات الكثيرة التي جرح بها شعور ماري تريز. وثارت مونتسبان وبكت، ولكنه غزاها بالهبات السخية. وبعد عام تسلمت مانتنون وظيفة مماثلة-هي الوصيفة لمخدع زوجة ابنه البكر (الدوفينه)، وكان الوحيد الباقي على قيد الحياة من أبنائه الشرعيين. وكثر تردد الملك الآن على الدوفينه للتحدث إلى مانتنون. وما من شك في أنه أراد أن يجعل المركيزة خليلة له، وأنها ردته عن نفسها-لا بل أنها ناشدته أن يكف عن جنوحه ويعود تائباً إلى الملكة(120). فأذعن لها ولبوسويه، وفي 1681، وبعد عشرين عاماً من مغازلة النساء، أصبح زوجاً مثالياً. أما الملكة التي وطنت نفسها من أمد بعيد على تقبل خياناته، بل على تقبل خليلاته، فقد حظيت برضاء الملك ولكن لعامين فقط، لأنها ماتت عام 1683.

وظن لويس أن مانتنون سترضى الآن بأن تكون خليلته، ولكنها قابلته بصد لبق، فهو الزواج وإلا فلا(121). وفي تاريخ لا يعرف على التحديد، ولكنه على الأرجح في 1684، تزوجها، وكان في السابعة والأربعين، وهي في الخمسين. وكان ارتباطاً غير متكافئ، لا يصيب الطرف الأدنى فيه إلا رتبة جديدة ولا حقوق وراثية. ولقي مستشارو الملك عنتاً في ثنيه عن إعطاء زوجه الحقوق الكاملة وتتويجها ملكة، وذكروا له ما سيكون من تذمر الأسرة المالكة والحاشية إذا وجدوا انهم ينحنون احتراماً لمربية. وعليه لم يعلن نبأ الزواج، وهناك من يظنون أن الزواج لم يتم قط. أما سان-سيمون، المتشبث أبداً بالنظام الطبقي، فرأى أنه "زواج مخيف(122)" ولكنه كان خير رباط وأسعده للملك، والوحيد الذي رعى عهوده فيما يبدو. ولقد اقتضاه نصف قرن تقريباً أن يكتشف أن في حب المرأة لزوجها عن غيرها من النساء.


8- الملك يمضي إلى الحرب

كانت انتصارات ريشليو ومازاران قد خلفت فرنسا أقوى دولة في أوربا. فالإمبراطورية أوهنها ما أصاب ألمانيا من إعياء وانقسام فضلاً عن الخطر المتجدد عليها من العثمانيين. وأسبانيا أضعفها نضوب ذهبها ورجالها في ثمانين عاماً من الحرب العقيم التي خاضتها في الأراضي المنخفضة. وإنجلترا، بعد 1660، ربطتها بعجلة فرنسا المعونات السرية لملكها. كذلك كانت فرنسا فيما مضى بلداً أصابه الضعف، ولكن ما أتت سنة 1667 حتى كانت جراح الفروند قد برئت، وغدت فرنسا أمة موحدة. وقام أثناء ذلك رجال أفذاذ اضطلعوا بإعادة بناء الجيوش الفرنسية، كلوفوا، عبقري التنظيم والضبط العسكريين، وفوبان عبقري التحصين وحرب الخنادق والحصار، وكالقائدين المغوارين كونديه وتورين. وبدا للملك الشاب الذي يتملقه رجاله قد آن الأوان لتبلغ فرنسا حدودها الجغرافية الطبيعية-وهي الراين، والألب، والبرانس، والبحر.

فليبدأ بالراين إذن. لقد كان الهولنديين يتسلطون عليه، فلا بد إذن من إخضاعهم، ثم ردهم بعد قليل إلى العقيدة التي كانت حليفاً للملوك طوال ألف عام. فإذا بسطت فرنسا سلطتها على مصاب النهر العظيم الكثيرة دانت لها مل أرض الراين، وبسطت على نصف التجارة الألمانية. ولكن الأراضي المنخفضة الأسبانية (بلجيكا) تقف عقبة في الطريق، فلا بد إذن أن تفتحها. وكان فيليب الرابع عند موته في 1665 قد خلف الأراضي المنخفضة الأسبانية لشارل الثاني، ولده من زواجه الثاني. ورأى لويس ثغرة دبلوماسية ينفذ منها إلى هدفه. فاستند إلى عرف قديم أخذت به أينو وبرابانت، يقضي بتفضيل أبناء الزوجة الأولى في الميراث على أبناء الثانية.وكانت زوجة لويس بنت فيليب الرابع من زوجته الأولى، وبمقتضى حق الأيلولة أو الوراثة هذا- Ius Devolutionis- ترث ماري تريز الأراضي المنخفضة الأسبانية. صحيح أن ماري نزلت عند زواجها عن حقها في الوراثة، ولكن هذا التخلي كان مشروطاً بأداء أسبانيا صداقها لفرنسا، وهو 500.000 كراون ذهبي(123). وهذا الصداق لم يؤد، إذن...ورفضت أسبانيا هذا القياس المنطقي، وعلى ذلك أعلن لويس حرب الأيلولة (الوراثة الأسبانية). فلنترك مذكرات الملك لاعب الشطرنج هذا يميط اللثام عن دوافعه:

"لقد أتاح لي موت ملك أسبانيا وحرب الإنجليز مع الهولنديين (1665) في وقت واحد فرصتين لخوض الحرب: محاربة أسبانيا سعياً وراء حقوق آلت إلي، ومحاربة إنجلترا دفاعاً عن الهولنديين... وسرني أن أرى في خطة هاتين الحربين ميداناً فسيحاً قد يتيح لي فرصاً عظيمة للتفوق. وكان الكثيرون من الرجال البواسل، الذين آنست فيهم التفاني في خدمتي، يتوسلون إلي على الدوام أن أهيئ لهم الفرصة لإظهار بسالتهم...يضاف إلى هذا أنني مادمت مضطراً على أية حال للاحتفاظ بجيش كبير، فإنه انفع لي أن القي به في الأراضي المنخفضة من أن أطعمه على حسابي...وتحت ستار الحرب مع إنجلترا أستطيع ترتيب قواتي وهيئة مخابراتي (أي جهاز الجاسوسية) لأبدأ مغامرتي في هولندا بنجاح أعظم(124)".

تلك هي النظرة الملكية إلى الحرب، فقد تجعل الحرب بلد الملك أعظم مساحة وأكثر أمناً أو أوفر دخلاً، وقد تفتح طرق الشهرة والمنعة، وقد تتيح منصرفات للغرائز المتصارعة، وقد تيسر للجيش الغالي النفقة أن يطعم على غذاء بلد أجنبي، وقد تحسن موقف الدولة في الحرب القادمة. أما عن أرواح البشر التي ستحصدها الحرب، فإن الناس لابد أن يموتوا على أية حال وما أسخف أن يموت الرجل حتف أنفه، ويقضي بعلة بطيئة طويلة، وأي ميتة أفضل للرجل من الموت في خدار المعركة على ساحة المجد، وفي سبيل الوطن؟

وعليه ففي 24 مايو 1667 عبرت الجيوش الفرنسية إلى الأراضي المنخفضة الأسبانية. فلم تصادف مقاومة فعالة، وكان عدد الفرنسيين 55.000 مقاتل، والأسبان 8.000. وما لبث الملك أن دخل شارلروا، وتورنيه، وكورتريه، ودويه، وليل، وكأنه يدخلها في موكب نصر؛ وحصن فوبان المدن المفتوحة، أما لوفوا فقد جهز المؤن في كل خطوة؛ حتى الصحاف الفضية للضباط في معسكراتهم أو خنادقهم. وضمت إلى فرنسا أرتوا، وإينو، وفلاندر الولونيه، واستغاثت أسبانيا بالإمبراطور ليوبولد الأول، فعرض لويس على ليوبولد قسمة الإمبراطورية الأسبانية فيما بينهما، ووافق ليوبولد، فأمسك أي معونة عن أسبانيا. وبلغ من سهولة فتح فلاندر أن لويس هرع للاستيلاء على فرانش-كونتيه أيضاً، وهو الإقليم الواقع حول بزانسون، بين برجندية وسويسرا. وكان ولاية تتبع أسبانيا، ولكنه شوكة في جنب فرنسا. وفي فبراير 1668 هبط جيش فرنسي عدته عشرون ألف مقاتل على فرانش-كونتيه بقيادة كونديه، وحالفه النصر في كل مكان، لأن الرشا الفرنسية كانت قد ألانت القواد المحليين. وقاد لويس بنفسه حصار دول، فسقطت بعد أربعة أيام. ولم تنقضِ ثلاثة أسابيع حتى استسلمت فرانش-كونتيه كلها. فقفل إلى باريس مكللاً بالغار.

ولكنه كان قد أفسد على نفسه الأمر بتجاوزه الحدود، ذلك أن "الأقاليم المتحدة" أقنعت السويد وإنجلترا بالانضمام إليها في حلف ثلاثي ضد فرنسا (يوليو 1668) وتبينت الدول الثلاث أن حريتها السياسية أو التجارية ستذوي إذا امتد سلطان فرنسا إلى الراين. ورأى لويس أنه تعجل السير إلى هدفه؛ ذلك أن الاتفاق السري الذي أبرمه مع ليوبولد كان ينص على أن تؤول إلى فرنسا كل الأراضي المنخفضة وفرانش-كونتيه عند موت شارل الثاني ملك أسبانيا، وبدا أنه لن ينقضي عام أو نحوه حتى يموت شارل العليل، فلعله كان خيراً لفرنسا أن تتريث حتى تقع الثمرة في حجرها بهدوء. وعرض لويس شروط الصلح على الحلف وأقنع دبلوماسيوه المحنكون إنجلترا والسويد، فأنهيت حرب الوراثة الأسبانية بمقتضى معاهدة إكس- لا- شابل (2 مايو 1668) وردت فرنسا فرانش- كونتيه إلى أسبانيا، ولكنها احتفظت بشارلروا، ودويه، وتورنيه، وأودينارد، وليل، وآرمانتيير؛ وكورتريه. وهكذا استبقى لويس لنفسه نصف الغنيمة.

ولكنه في 1672 عاود زحفه على الراين، وتكشف الآن هدفه الحقيقي- وهو هولندا لا فلاندر. وسنلقي بنظرة على هذه المأساة في فصل لاحق من زاوية الهولنديين، وحسبنا القول بأن الهجوم كاد يصل إلى أمستردام ولاهاي قبل أن يقفه فتح سدود البحر. ولكن أوربا ثارت مرة أخرى على هذا التهديد الجديد لتوازن القوى. ففي أكتوبر 1672 انضم الإمبراطور ليوبولد إلى الأقاليم المتحدة وبراندنبورج في "حلف عظيم"، وانضمت إليه أسبانيا واللورين في 1673، ثم الدنمرك والبالاتينات ودوقية برنزويك-لونيبورج في 1674، وفي ذلك العام أكره البرلمان الإنجليزي ملكه الموالي لفرنسا على إبرام الصلح مع الهولنديين.

وواجه لويس ببسالة هذا الانتقام الذي عوقبت به كبرياؤه، فجنى المزيد من الضرائب برغم شكاوى كولبير من أنه يفقر بذلك فرنسا، وبنى أسطولاً، وزاد جيوشه إلى 180.000 مقاتل. وفي يونيو 1674 وجه قوة منها لمحاصرة بيزانسون ثانية، وما مضت ستة أسابيع حتى فتحت فرانش-كونتيه من جديد. وخلال ذلك قاد تورين في حملة من أروع حملاته وأقساها عشرين ألفاً من جنوده إلى النصر على سبعين ألفاً من جنود الإمبراطورية. ودمر البالاتينات واللورين وجزءاً من الالزاس ليحول بين العدو وبين إطعام جنده، وتكرر على طوال الراين ذلك الخراب الذي أحدثه من قبل حرب الثلاثين. وفي 27 يوليو قتل تورين وهو يستطلع الأرض قرب سولزباخ في بادن، ودفن بأمر لويس في كنيسة سان-دني باحتفال أشبه بالاحتفال بدفن الملوك، وهو عليم بأن تلك الميتة الواحدة تعدل عشر هزائم. وحل "كونديه العظيم" محل تورين بعد ما حقق من انتصارات دامية في الأراضي المنخفضة، فطرد جيوش الإمبراطورية من الألزاس، ثم اعتكف ذلك "الأمير" بعد أن دوخته سنون من الشهوات والحرب، مؤثراً حياة الفلسفة والحكم في شانتي. واضطلع لويس الآن بالحملة في الأراضي المنخفضة، فحاصر فالنسيبن، وكامبري، وسانتومير، وغنت، وإيبر، واستولى عليها كلها (1677-78). وهللت فرنسا لملكها قائداً مظفراً.

ولكن العبء الذي أثقل به كاهل شعبه لم يعد محتملاً. فنشبت الثورات في بوردو وبرتني، وكان الفلاحون في جنوب فرنسا يتضورون جوعاً، والشعب في الدوفينيه يقتات على الخبز المصنوع من ثمر البلوط والجذور(125) فلما عرض الهولنديون على لويس الصلح وقع معهم معاهدة (11 أغسطس 1678) ردت بمقتضاها للأقاليم المتحدة جميع الأراضي التي استولت عليها فرنسا منها، وخفضت الرسوم التي أقصت المنتجات الهولندية عن فرنسا. وفد عوض عن هذه التنازلات بإلزام أسبانيا، التي تفككت الآن أوصالها، بأن تتخلى له عن فرانش-كونتيه، واثنتي عشرة مدينة دفعت بحدود فرنسا الشمالية الشرقية إلى داخل الأراضي المنخفضة الأسبانية. واحتفظت فرنسا بمقتضى معاهدة مع الإمبراطور بمدينتين استراتيجيتين هما برايزاخ وفرايبورج-ايم-برايسجاو، وبقيت الألزاس واللورين في قبضتها. وكانت هاتان المعاهدتان-نيميجن (1678-79) وسان-جرمان-آن-ليه (1679) نصراً للأقاليم المتحدة، ولكنهما لم تكونا هزيمة للويس، فلقد فاز على الإمبراطورية وأسبانيا، ووصل في أماكن-هنا وهناك-إلى الراين الذي طالما اشتهى الوصول إليه.

على أنه احتفظ بجيشه الضخم رغم هذا الصلح، موقناً أن الجيش القائم قوة تعزز الدبلوماسية. واستناداً إلى تلك القوة من ورائه، واستغلالاً مخزياً لانصراف الإمبراطور إلى قتال العثمانيين الزاحفين، أنشأ في الألزاس، وفرانش-كونتيه، وبرايسجاو "غرفاً لإعادة الاتحاد"، تطالب ببعض مناطق الحدود التي كانت تمتلكها فيما مضى، واحتل الجنود الفرنسيون هذه المناطق، وأغريت مدينة ستراسبورج العظيمة، التي لين موظفيها إغداق الرشا عليهم، بأن تعترف بلويس ملكاً عليها (1681). وفي نفس العام، وبوسائل مماثلة، أغرى دوق ميلانو بأن ينزل لفرنسا عن مدينة كازالي وحصنها، وكانت تتحكم في الطريق بين سافوا وميلانو . فلما تلكأت أسبانيا في تسليم مدن الأراضي المنخفضة، أرسل لويس جيوشه من جديد إلى فلاندر وبرابانت، وتغلب على المقاومة بقذفه البلاد بالمدافع دون تمييز، وابتلع في طريقه دوقية لكسمبورج (يونيو 1684). واعترفت أسبانيا والإمبراطور مؤقتاً بهذه الفتوح بمقتضى هدنة ريجنسبورج (15 أغسطس)، لأن العثمانيين كانوا يحاصرون فيينا آنئذ. وبفضل تحالفه مع ناخب كولونيا مد لويس في الواقع سلطته إلى الراين. فتحقق بهذا جزء من طموح فرنسا للوصول إلى حدودها الطبيعية.

ذلك كان الأوج الذي بلغه "الملك الشمس". فلم يحدث أن ظفرت فرنسا بمثل هذا الاتساع في الرقعة ولا بمثل هذه السطوة منذ عهد شارلمان. وأقيمت المهرجانات الضخمة الغالية احتفالاً بانتصارات الملك. ولقبه مجلس باريس رسمياً بلويس العظيم. (1680) ورسمه لبرون في صورة إله على أقبية فرساي، وزعم لاهوتي أن انتصارات لويس أثبتت وجود الله(127). أما جماهير الشعب فقد مجدت حاكمها وسط فقرها المدقع، وتاهت فخراً بمنعته الواضحة، وأطراه حتى الأجانب، لأنهم رأوا في حملاته شيئاً من المنطق الجغرافي، وحياة الفيلسوف لايبنتز "ذلك الملك العظيم الذي هو مفخرة زماننا غير منازع، والذي ستتوق الأجيال القادمة إلى نظيره عبثاً(128)"، وإلى الشمال من جبال الألب والبرانس، وإلى الغرب من الفستولا، بدأت أوربا المثقفة تتحدث بلغته وتقلد بلاطه وفنونه وأساليبه. لقد بلغت الشمس الأوج.