قصة الحضارة - ول ديورانت - م 7 ك 3 ف 22

صفحة رقم : 10287

قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> اجتهادات العقل -> العلم في عصر جاليليو -> الخرافة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الثالث: اجتهادات العقل 1558 1648

الفصل الثاني والعشرون: العلم في عصر جاليليو 1558 - 1648

الخرافة

وقد تولد الديانات، وقد تفنى، ولكن الخرافة باقية أبد الدهر. وسعداء الحظ هم الذين يحتملون بدون أساطير، والكثير منها يعاني في جسمه وفي أعماق نفسه. وأفضل عقار مسكن في "الطبيعة" جرعة مما هو فوق الطبيعة. وحتى كبلر ونيوتن مزجا علمها بالأساطير. وآمن كبلر بالسحر. وكتب نيوتن في العلم أقل مما كتب عن "سفر الرؤيا". وكانت الخرافات الشعبية أكثر مما يحصيه العد. فآذاننا تلتهب عندما يتحدث عنا الآخرون. ولا تكون الزيجات التي تتم في شهر مايو سعيدة. وتشفى الجراح إذا مسح السلاح الذي أحدثها بالزيت المقدس. وتستأنف الجثة نزف الدم في حضور القاتل. وإن الجنيات والجن الصغير المؤذي والغيلان والأرواح الشريرة والشياطين لتحوم في كل وكان. وثمة طلاسم معينة (مثل تلك التي وجدت عند كاترين دي مديتشي بعد وفاتها) تضمن الحظ السعيد، وتمائم وتعويذ تقي من التجاعيد ومن العنة ومن الشر الحاسد ومن الطاعون. ويمكن أن تبرئ لمسة من الملك المصاب بسل الغدد اللمفاوية في العنق. وللأرقام وللمعادن والنباتات والحيوانات خصائص وقوى سحرية.

وكل حادث علامة على رضا الله أو غضبه، أو من عمل الشيطان. ويمكن التنبؤ بالأحداث من شكل الرأس أو خطوط الكف. وتختلف الصحة والقوة والقدرة الجنسية باختلاف منازل القمر، أهو بدر أم في المحاق. وقد يسبب ضوء القمر الجنون أو يشفي الثؤلول. وتنذر المذنبات بالكوارث. إن العالم (في الكثير الغالب) يسير إلى النهاية(1).

وكان التنجيم لا يزال سائداً. على الرغم من تزايد استنكاره ونبذه لدى من يعرفون القراءة والكتابة. وفي 1572 انقطع تدريسه في جامعة بولونا. وفي 1582 استنكرته وشجعته محاكم التفتيش الأسبانية. وفي 1586 حذر البابا سكستس الخامس الكاثوليك منه. ولكنه ظل بين الإبقاء والإلغاء في جامعة سالامنكا حتى 1770. وكانت الغالبية العظمى من الناس، وكثير من أفراد الطبقات العليا، يستنبئون البروج عن المستقبل من مواقع النجوم، وكانوا يكشفون عن "طالع" أي طفل مهما كان شأنه بمجرد ولادته، وقد اختبأ أحد المنجمين بالقرب من مخدع آن النمساوية عند ولادة لويس الرابع عشر(2). وعندما ولد جوستاف أدولف طلب أبوه شارل التاسع إلى تيكوبراهي أن يكشف عن طالعه، فتنبأ المنجم في حرص وحذر بأنه سوف يصبح ملكاً. وكان كبلر ينظر إلى التنجيم بعين الريبة والشك، ولكنه مكان يداهن فيقول: "كما أن الطبيعة هيأت لكل حيوان من الوسائل ما يحصل به على العيش، فقد هيأت التنجيم للمنجم لتمكنه من العيش". وفي 1609 أجزل فالنشتين العطاء لمن أتاه بطالع سعيد، وكان دائما يصطحب معه في رحلاته وجولاته منجماً(4)، وربما قصد بذلك تشجيع قواته. وكم من مرة استثارت كاترين دي مديتشي وحاشيتها المنجمين(5). وحظي جون دي بشهرة فائقة في التنجيم، حتى اكتشف أن النجوم تآمره أن يتبادل الزوجات مع أحد تلاميذه(6).

وكان التصديق بأفانين السحر آخذة في التقلص، باستثناء واحد مخز حقير ذلك أن تلك الفترة كانت ذروة التخلص من السحرة بالقتل المشروع بحكم القضاء. إن المعذبين ومن ينزلون بهم العذاب، على حد سواء، صدقوا بإمكان الحصول على معونة القوى الخارقة للطبيعة بالرقي والتعاويذ أو بوسائل مشابهة، وإذا كان من المستطاع الحصول على شفاعة قديس بالصلوات، فلم لا نلتمس معونة الشيطان بملاطفته والتودد إليه. وثمة كتاب صدر في هيدلبرج 1585 تحت عنوان "بعض الأفكار المسيحية حول السحر"، جاء فيه كحقيقة ثابتة مقررة: "أن كل مكان في العالم بأسره، في الداخل والخارج، وفي البر والبحر، يعج بالعفاريت والأرواح الشريرة غير المرئية(7)" وساد الاعتقاد بأن كل الكائنات البشرية يمكن أن "تلبسها" الشياطين وتحل فيها. وفي 1593 "ساد الذعر الرهيب فريدبرج المدينة الصغيرة حيث قيل أن الشيطان قد حل بأجسام أكثر من ستين شخصاً، وعذبهم عذاباً أليماً... بل أن القسيس نفسه استحوذ عليه الشيطان وهو يلقي عظته(8)". وتصور قصة: "قطيع الخنازير (إنجيل متي 8: 27-34)" كيف أن المسيح أخرج الشياطين من أجسام الذين حلوا بهم، ألم يمنح أتباعه القدرة على إخراجهم باسمه (إنجيل مرقس 16: 17). وكان الناس يلجأون إلى القساوسة لمعل تعاويذ مختلفة-لإزالة النباتات والحشرات الضارة من حقولهم، أو لتهدئة الأعاصير في البحر، أو تطهير المباني من الأرواح الشريرة، أو تطهير كنيسة أصابها بعض الدنس.... وفي 1604 أصدر البابا بول الخامس منشوراً بمثل هذه الخدمات الكهنوتية. واستنكر الكتاب البروتستانت مثل هذا الرقي والتعاويذ المقدسة على أنها ضروب من السحر. ولكن كنيسة إنجلترا اعترفت بقيمة التعاويذ على أنها طقوس شافية معافية(9). وهنا، كما هو الحال في كثير من الطقوس، كان الأثر النفسي عليها طيباً.

وكما أخذ الناس بزمام المبادرة في طلب التعاويذ، فإنهم كانوا كذلك أول من طالب بمحاكمة السحرة، فقد ساد الذعر من قوتهم ومقدرتهم. وجاء في إحدى النشرات 1563 "أن الدخول في علاقات مع الشيطان، فيكون في متناول يدك في الخواتم أو البللورات، فتستحضره أو تحالفه، وتقوم معه بمئات من أفانين السحر، أكثر الآن شيوعاً عن ذي قبل، بين الطبقات العليا والدنيا. وبين المتعلمين وغير المتعلمين". وانتشرت "كتب الشياطين" التي توضح كيفية الاتصال بالنافع منهم ومن معرضين اثنين في 1568 اشترى أحد الأفراد 1220 كتاباً من هذه الكتب(10). وفي بعض الحالات نصح ضباط محاكم التفتيش قساوسة الأبرشيات "أن يظهروا الناس على أضاليل السحرة وخرافاتهم" وأشاروا بعدم التصديق "بسبت السحرة"، وأوصوا بعزل قسيس كان يصغي في سذاجة إلى اتهامات السحرة(11). وطالب البابا جريجوري الخامس عشر في 1623 بعقوبة الإعدام لنفر من الناس تسببت شعوذتهم في الموت، ولكن البابا أريان الثامن في 1637 أدان المحققين الكاثوليك "لأنهم حاكموا المشعوذين محاكمة ظالمة تعسفية... وانتزعوا من المتهمين اعترافات لا قيمة لها... وعاقبوهم دون بينة كافية(12)" وأصدر الإمبراطور مكسيمليان الثاني (1578) قراراً باختبار صحة اعترافاتهم بتحديهم بأن يأتوا بأعمالهم السحرية علناً، وأن يكون النفي أقصى عقوبة يحكم بها عليهم بعد إدانتهم ثلاث مرات. ولكن الأهالي المذعورين طالبوا بالصرامة في الاختبارات وبالتعجيل بتنفيذ الأحكام.

أن السلطات المدنية والدينية التي كانت تشارك الناس خوفهم من السحر، أو ترغب في التخفيف من حدته، عمدت إلى أقسى الإجراءات في محاكمة المتهمين وعذبتهم لتنتزع منهم الاعترافات. وكان لمجلس مدينة نوردانجن مجموعة خاصة من آلات التعذيب، كان يعيرها للبلاد المجاورة مع التوكيد بأنه "بفضل هذه الآلات، وبوجه أخص آلة الضغط على الإبهام، يمن علينا الله بكرمه بإظهار الحق، أن لم يكن لأول وهلة، ففي آخر الأمر على أية حال(13) أما التعذيب بإبقاء المتهم يقظاً لا يذوق طعم النوم، فكان وسيلة معتدلة خفيفة. وكان التعذيب عادة هو طريق الوصول إلى الإقرار المرغوب فيه. وكانت الاعترافات غير الموثوقة التي لا يعتد بها. هي التي تحير القضاة أحياناً.

وكان الاضطهاد في أسبانيا أقل قساوة. ففي مقاطعة لجرونو وجهت محكمة التفتيش الاتهام إلى 53 شخصاً من المشتغلين بالسحر، وأعدمت منهم 11 شخصاً (1610) ورفضت الاتهامات الأخرى عادة لأنها وهمية أو انتقامية. وكان الحكم بإعدام السحرة نادراً. وفي 1614 أصدرت رياسة محكمة التفتيش إلى ضباطها تعليمات بأن ينظروا إلى اعترافات السحرة على أنها تضليلات جنونية أو عصبية، وأن يستعملوا الرأفة في العقوبة(14).

واجتاحت جنوبي شرقي فرنسا في 1609 موجة عاتية من الذعر من السحرة، وأعتقد مئات من الناس أن الشياطين حلت فيهم. وظن بعضهم أنهم تحولوا إلى كلاب وأخذوا في النباح وعينت لجنة من البرلمان بوردو لمحاكمة المشتبه فيهم وابتدعت طريقة لاكتشاف المواضيع التي دخلت منها الشياطين إلى جسم المتهم، ذلك بعصب عينيه وغرز الإبر في لحمه، وأي مكان لا يحس فيه بوخز الإبر، كان هو المكان الذي دخل منه الشيطان. وطمعا في العفو عنهم اتهم المشتبه فيهم بعضهم بعضاً. فحوكم منهم ثمانية وهرب خمسة، وأحرق ثلاثة. وأقسم جمهور النظارة فيما بعد أنهم شاهدوا العفاريت على هيئة ضفادع تخرج من رؤوس الضحايا(15). وفي اللورين أحرق 800 شخص بتهمة السحر على مدى 16 عاماً. وأحرق في ستراسبورج 134 شخصاً في أربعة أيام (أكتوبر 1582)(16). وفي لوسرن الكاثوليكية، أعدم 62 شخصاً فيما بين 1562-1572. وفي برن البروتستانتية أعدم 300 في السنوات العشر الأخيرة من القرن السادس عشر، و240 في العقد الأول من القرن السابع عشر(17).

وفي ألمانيا تسابق الكاثوليك والبروتستانت في إعدام السحرة حرقاً. وثمة رواية يمكن الاعتماد عليها ولو أنها لا تكاد تصدق، بأن رئيس أساقفة تريير أمر بإحراق 120 شخصاً في فالزفي 1596 بتهمة أنهم أطالوا فترة الجو البارد أكثر من المألوف بطريقة شيطانية(18). ونسب طاعون الماشية في إقليم سكونو في 1598 إلى السحرة. وحث مجلس بافاريا المخصوص في ميونخ المحققين "على إظهار مزيد من الجدية والصرامة في الإجراءات"، فكانت النتيجة إحراق 63 ساحراً، كما طلب من أقارب الضحايا دفع نفقات المحاكمة(19)" وفي هاينبرج بالنمسا أعدم ثمانون بتهمة الشعوذة في عامي 17-1618 وقيل أنه في 1627-1629 أعدم أسقف وورنبرج 900 من السحرة(20). وفي 1582 أصدر الناشرون البروتستانت من جديد، وبموافقة منهم "مطرقة السحرة" التي كان المحقق الدومنكاني جاكوب سبرنجر قد نشرها في 1487، وهي عبارة عن توجيهات وإرشادات تفيد في الكشف عن السحرة وفي محاكمتهم. وأصدر أوغسطس ناخب سكسونيا في 1572 قراراً بإحراق السحرة حتى الموت حتى ولو لم يؤذوا أحداً. وفي اللنجن أحرق 1500 من السحرة في 1590، وفي اللوانجن 167 في 1612، وفي عامين(21). وكادت ثمة موجات مماثلة في أوسنابروك 1588، ونوردانجن 1590، وفي ورتمبرج 1616. على أن هذه الإحصاءات الأخيرة مأخوذة عن نشرات صحفية معاصرة ومعروفة بعد الدقة. ويقدر الباحثين الألمان جملة من أعدموا بتهمة السحر بمائة ألف في ألمانيا في القرن السابع عشر(22).

وارتفعت أصوات قليلة تدعو الناس إلى العقل. وقد رأينا في مكان آخر احتجاجات يوهان ويروريجنالد سكوت، كما رأينا كيف حول مونتيني مرحه المتشكك إلى هذه الحمى (حمى قتل السحرة) وفي مقاله "الأعرج أو الكسيح": "كم هو طبيعي ومقبول أن أجد رجلين يكذبان، أكثر من أن رجلاً يمكن في اثنتي عشرة ساعة أن تحمله الريح من الشرق إلى الغرب... أو أن يحمل أحدنا على مكنسة.... خلال مدخنة(23) "أن من يؤمنون بهذا أحوج ما يكونون إلى الدواء والعلاج، لا الموت، حتى إذا ما انتهى كل شيء، فما هي إلا مغالاة في قدرة المرء على الحكم عن طريق الحدس والتخمين مما يؤدي إلى إحراق المرء حياً"(24). وهاجم كورنليوس لوس، الأستاذ الكاثوليكي في ماينز، مطاردة السحرة في كتابه "بين السحر الحقيقي والزائف" (1592)، ولكنه قبل أن يتمكن من نشره، أودع السجن واضطر أن يعترف علناً بأخطائه(25). وثمة جزويتي آخر، هو الشاعر الورع فردريك فون سبي، فإنه بعد أن عمل كاهن اعتراف لمائتي شخص متهمين بالسحر. استنكر الاضطهاد في كتاب جريء "Cautio Criminalis". (1631)، سلم فيه بوجود السحرة، ولكنه رثى للقبض عليهم لمجرد شبهات لا أساس لها، ولبعد المحاكمات عن شرعة الإنصاف، وللتعذيب الغاشم الذي كان يمكن أن يجبر، حتى فقهاء الكنيسة وأساقفتها على الاعتراف بأي شيء(26).

ولكل خصم من هذا القبيل اثني عشر محامياً ينبرون للدفاع عن الظلم، فإن رجال اللاهوت البروتستانت مثل توماس أراستوس في 1572، ورجال اللاهوت الكاثوليك مثل الأسقف بنزفلد (1589) اتفقوا على أن السحر حقيقي وأن السحرة يجب إحراقهم. وأقر الأسقف التعذيب، ولكنه أوصى بشنق السحرة التائبين قبل إحراقهم(27). وأيد المحامي والفيلسوف الكاثوليكي جين بودين الاضطهاد والتعذيب في كتابه "حمى العفاريت" 1580، وبعد عام واحد ترجم الشاعر البروتستانتي يوهان فسكارت هذا الكتاب ووسع فيه مع تقدير بالغ له، وانضم إلى بودين في الحث على أخذ السحرة بشدة لا ترحم ولا تلين.

ومهما يكن من أمر فإن هذه الحمى خفت حدتها، فعندما أصبحت حرب الثلاثين حرباً سياسية بشكل صريح سافر، لم يعد الدين يحتل مكاناً هاماً في كراهيات الناس وحزازاتهم. وانتشرت الطباعة وكثرت الكتب، ونهضت المدارس، وفتحت الجامعات، وأسهم المكافحون الصابرون سنة بعد أخرى، بوضع لبنة في البناء الناشئ، بناء العلم والمعرفة. وفي مائة من المدن عكف المحبون للإطلاع على اختبار الفروض بالتجارب. وتقلص نطاق ما هو خارق للطبيعة ببطء، ونما نطاق ما هو طبيعي ودنيوي. أنه تاريخ موضوعي مجرد قاتم، مؤلف من شظايا، وهو أعظم مسرحية في الأزمنة الحديثة.


انتقال المعرفة

إن الأبطال الأولين هنا هم الطابعون الناشرون الذين غذوا مجرى المداد الذي تدفقت منه المعرفة من عقل إلى عقل، ومن جيل إلى جيل. واستأنفت دار أستين الكبيرة للنشر، نشاطها في جنيف على يد هنري استين الثاني، وفي باريس بفضل روبرت استين الثلث. ونشأت أسرة مثل هذه (نحو 1580) في ليدن كان على رأسها لويس الزفير، ونهض أبناؤه الخمسة وحفداؤه وابن لأحد حفدته، بالعمل، وحملت اسمهم طريقة معينة للطباعة. وفي زيوريخ اكتسب كريستوفر فروشير شهرة في تاريخ الطباعة والثقافة بطبعاته الدقيقة للكتاب المقدس. وهيأت دور الكتب مأوى جديداً للذخائر القديمة. ولقد عرفنا مكتبة بودليان في أكسفورد ومكتبة الاسكوريال، ومكتبة امبروزيانا في ميلان (1606). وضمت كاترين دي مديتشي كثيراً من المجلدات والمخطوطات إلى ما يعرف الآن بالمكتبة الوطنية. وبدا لافلين أن مكتبة الفاتيكان الجديدة التي أسسها البابا سكستس الخامس (1588) "هي أفخم وأجمل وأحسن مكتبة أثاثاً في العالم"(29).

وبدأ ظهور الصحف: ففي 1505 كانت صحيفة "الأخبار" تطبع في ألمانيا، في ورقة واحدة، بشكل متقطع. وما جاء عام 1599 حتى كانت هناك 877 نشرة من هذا النوع، وكلها غير منتظمة. وأقدم صحيفة منتظمة معروفة في التاريخ هي صحيفة Avis Relation oder Zeitung الأسبوعية التي أسست في أوجزبرج 1609، وكانت تضم تقارير لوكلاء منتشرين في مختلف أنحاء أوربا، ينقلها التجار والصيارفة، واستمرت في الظهور حتى 1866، صحيفة "بريد فرانكفورت" التي أسست في 1616. وبدأت صحف أسبوعية مماثلة في الظهور في فيينا 1610، وفي بازل 1611. وسرعان ما بدأ فيشارت يسخر من الجمهور "الذي يصدق الصحف" ومن تلهفه الساذج على الأخبار. أن النقل المفرض غير الملائم للأنباء فوت على الجمهور أي إسهام رشيد مخطط في السياسة، ومن ثم جعل الديمقراطية أمراً بعيد المنال. وكانت الرقابة على المطبوعات عامة شاملة بطريقة عملية، وفي العالم المسيحي بأسره: الكاثوليك والبروتستانت، ورجال الدين والعلمانيون على حد سواء وفي 1571 شكلت الكنيسة "لجنة من الكرادلة لتحديد الكتب المحظورة"، لحماية المؤمنين من الكتب التي تعتبر مسيئة للكثلكة، ولم تكن الرقابة البروتستانتية بمثل قوة الرقابة الكاثوليكية وصرامتها، ولكنها جادة مثابرة مثلها. وقد نشطت في إنجلترا وإسكتلندة وإسكندناوة وهولندا وألمانيا وسويسرا(30). وهيأ تباين التعاليم في مختلف الدول للهراطقة أن يتغلبوا، بشكل أو بآخر، على الرقابة بنشر كتبهم في الخارج، وإدخال بضع النسج منها سراً. والأدب الحديث مدين للرقابة ببعض ما يتسم به من سخرية وظرف وبراعة.

وفي مختلف الترجمات وظل الكتاب المقدس يفسر بأنه "كلمة الله"، وواصل رسالته بوصفه أعظم الكتب شعبية وانتشاراً، وأعظمها أثراً في العقيدة واللغة، بل حتى في السلوك، فإن أسوأ الأعمال الوحشية-الحروب والاضطهادات-عمدت إلى اقتباس النصوص المقدسة لتبرير ارتكابها. ومذ انحسرت الروح الإنسانية التي تميز بها عصر النهضة، قبل قيام الإصلاح الديني، فإن التعبد بالكتاب المقدس حل محل الإعجاب الأعمى بالآداب الوثنية القديمة. وثارت فتنة واضطراب حين اكتشف العلماء أن الإنجيل (العهد الجديد) لا يكتب باللغة اليونانية الكلاسيكية بل بلغة الناس، ولكن علماء اللاهوت أوضحوا أن "الروح القدس" استخدم الأسلوب العام المشترك حتى يتيسر للناس فهمه وأصاب الناس غم جديد عندما خلص لويس كابل-الأستاذ البروتستانتي للعبرية واللاهوت في "سومور"، إلى أن الحروف اللينة وعلامات النطق في النص العبري الذي اعتمدته الكنيسة للعهد القديم (التوراة)، إن هي إلا إضافات أضافها إلى النصوص الأقدم عهداً، يهود طبرية المازوريون في القرن الخامس ق.م. أو بعده. وأن الحروف المربعة في النص المعتمد كانت آرامية بديلة عن الحروف العبرية. وتوسل جوهانس بوكستورف الأكبر، أعظم علماء عصره، إلى كابل أن يطوي هذه الآراء عن الجمهور ويحتفظ بها لنفسه، حتى لا تسيء إلى إيمان الناس بالإيحاء اللفظي للكتاب المقدس. ومع ذلك نشر كابل آراءه في 1624، وحاول جوهانس بوكستورف الأصغر أن يدحضها ويفندها، محتجاً بأن النقط وعلامات النطق موحى بها من عند الله كذلك. واستمر الخلاف طوال القرن وتخلت الأرثوذكسية آخر الأمر عن النقط، ومن ثم اتخذت خطوة متواضعة نحو اعتبار الكتاب المقدس أعظم أسلوب أو تعبير مهابة وجلالاً لدى الشعب. وينتمي إلى هذه الحقبة نفر من أشهر العلماء أو الباحثين في التاريخ. منهم جوستوس لبسيوس، الذي تردد على جامعتي لوفان وليدن، وتأرجح بين الكاثوليكية والبروتستانتية وذاع صيته في أوربا بفضل طبعاته المصوبة لكتب تاسيتس وبلوتس وسنكا، وتفوق على الأجروميات السابقة في كتاب "فن الأجرومية" (1635). ورثى لفناء المدنية الأوربية الوشيك، ولكنه هدأ من روعه واستبشر خيراً "بسطوع شمس إمبراطورية جديدة في الغرب"-يعني "الأمريكيتين"(31).

وورث جوزيف جوستوس سكاليجر "وربما كان أعظم أستاذ فذ في سعة المعرفة والإطلاع ظهر في العالم(32)"، نقول ورث عن أبيه الشهير يوليوس قيصر سكاليجر، عرش البحث العلمي في أوربا. ففي آجن جنوب غربي فرنسا، اشتغل بكتابة ما يمليه عليها هذا الولد. ونهل العلم والمعرفة طوال حياته. فقرأ هوميروس في ثلاثة أسابيع، ووفق في قراءة كبار الشعراء والمؤرخين والخطباء الإغريق. وتعلم العبرية وثمان لغات أخرى. وتجرأ على دراسة الرياضيات والفلك و "الفلسفة" (التي كانت آنذاك تشمل الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا) ودرس القانون لمدة ثلاثة أعوام. وربما ساعدت دراسة القانونعلىمممأعوام. وربما ساعدت دراسته للقانون على شحذ ملكة النقد عنده، لأنه في الطبعات التي أصدرها للمؤلفين القدامى مثل كاتوللوس وتيبوللوس وبروبرتيوس وغيرهم أثار نقداً متعلقاً بالنصوص لأحداس عشوائية لقوانين الإجراءات والتأويل والتفسير. وكان ينظر بعين الاحترام الرشيد للتاريخ أو تحديد الأزمنة في دراسة التاريخ. وفي أعظم مؤلفاته "في تصحيح التواريخ" (1583)، وتلك التي وردت أو حددت في التاريخ أو التقاويم أو الأدب في مصر وبابل وفلسطين والمكسيك. وجمع ورتب في كتابه "تسلسل التواريخ". (1606) كل مادة تاريخية في الأدب القديم، وعلى هذا الأساس ألف أول تسلسل زمني على أساس علمي للتاريخ القديم. وهو الذي قال بأن السيد المسيح ولد في العام الرابع ق.م. وعندما ترك جوستوس لبسيوس ايدن في 1590 عرضت الجامعة على سكاليجر كرسي "الأبحاث القديمة" فقبله بعد أن ظل ثلاث سنوات متردداً في قبوله. ومنذ تلك اللحظة حتى وفاته 1609، كانت ليدن مقر العلماء.

وكان سكاليجر، مثل أبيه مزهواً بما يزعم من تحدر أسرته من أمراء دللاسكالا في فيرونا. وكان ناقداً لاذعاً لزملائه العلماء والباحثين، ولكن في ساعة تغاض وصفح قال إن إيزاك كازوبون "أعظم الأحياء علماً"(33). وإن حياة كازوبون لتكشف عن مزايا المحن. لقد رأى النور في جنيف لأن أبويه كانا من الهيجونوت الذين هربوا من فرنسا، وعادا إليها وهو في سن الثالثة وعاش لمدة ستة عشر عاماً في ظل المخاطر والإرهاب أيام الاضطهاد. وكان أبوه يتغيب لفترات طويلة للخدمة في جيوش الهيجونوت. وغالباً ما اختفت أسرته في الجبال لتكون بمنأى عن بطش الكاثوليك المسلحين. وتلقى إيزاك أول دروس في اليونانية في أحد الكهوف في جبال دوفيني وفي سن التاسعة عشر التحق بأكاديمية جنيف. وفي سن الثانية والعشرين صار أستاذاً في اليونانية، وتولى هذا المنصب لمدة خمسة عشر عاماً وسط العوز والفقر والحصار. وعاش بشق النفس على راتبه. ولكنه كان يقتر في طعامه ليشتري الكتب. وكان يخفف من وحشية العزلة والعكوف على العلم، بما يتلقى من رسائل سكاليجر العظيم. ونشر طبعات لمؤلفات أرسطو وبلليني الأصغر، وتيوفراستوس، سحرت الألباب في دنيا العلم والمعرفة، لا بمجرد تصويب النصوص، بل كذلك بالتعقيبات البارعة على الأفكار والطرق القديمة. وفي 1596 عندما أخمد هنري الرابع الصراع الديني، عين كازوبون أستاذاً في مونبلييه. ودعي بعد ذلك بثلاثة أعوام إلى باريس. ولكن الجامعة أوصدت أبوابها في وجوه غير الكاثوليك، فأحاطه هنري برعايته، كأمين للمكتبة الوطنية، براتب محترم قدره 1200 جنيه في العام. وقال رجل الاقتصاد صلي للعالم كازوبون إنك تكلف الملك كثيراً يا سيدي. إن راتبك يفوق راتب قائدين، ولا نفع يرجى منك لبلدك(34). فلما مات هنري العظيم، رأى كازوبون أنه كان قد حان الوقت لقبول دعوة من إنجلترا. ورحب به جيمس الأول بوصفه رفيق علم وبحث... ومنحه راتباً سنوياً قدره 300 جنيه إنجليزي. ولكن الملكة الفرنسية الوصية على العرش رفضت أن تذهب مؤلفاته في أثره وأزعجه الملك بالأبحاث، ولم يغفر له المفكرون الإنجليز فب لندن عدم تحدثه بالإنجليزية وبعد أربعة أعوام قضاها ترك المعترك (1614) في سن الخامسة والخمسين. ودفن في وستمنستر.

وكان لقب "العالم" في ذاك الزمان أكثر احترماً وتشريفاً من الشاعر أو المؤرخ. فإن العالم كان ينظر إليه بعين الإجلال والإكبار لأن دراسته الدءوبة حافظت على مواطن الحكمة والجمال الكامنة في الآداب والفلسفة القديمة وعملت على تنقيتها وتوضيحها. ودخل سكاليجر جامعة ليدن دخول "الأمير الفاتح" ولقي هناك ترحيباً كبيراً. وكانت ثمة أمم كثيرة ترغب في أن تحوز كلود دي سمويز الذي عرفته الدنيا "عالماً" من أمثال سالاميوس وبعد موت كازوبون أجمع العالم بأسره على أنه "أعلم الأحياء في ذلك الزمان"، وأنه بصفة عامة معجزة الدنيا(35). فماذا فعل هذا العالم؟ إنه ولد في برجندي، وتلقى تعليمه-وتحول إلى الكلفنية-في هيدلبرج. وفي سن العشرين تألق نجمه في نشر طبعة دقيقة محققة لمؤلفات اثنين من كتاب القرن الرابع عشر عن سلطة الباباوات العليا المتنازع عليها، وبعد ذلك بعام واحد، نشر "خلاصة عن النبات". وتوالت الكتب بعد ذلك، حتى بلغت في جملتها ثلاثين كتاباً تميزت كلها بسعة الإطلاع وتناول كل ألوان المعرفة. وبلغ الذروة في كتاب ضخم مكون من 900 صفحة على نهرين بعنوان "أمثلة في تعدد جوانب الثقافة والمعرفة" (1629). وكان سولينوس، وهو أحد النحاة في القرن الثالث-قد جمع في موسوعة تاريخ البلاد الأوربية الكبرى وجغرافيتها وأعراقها البشرية واقتصادها ونباتها وحيوانها، وجاء بعد ذلك ناشر متأخر فأطلق عليه "ثقافة متعددة الجوانب"، ثم جاء سالماسيوس فدون على هذا النص تعليقات واسعة تشمل كل رومة الإمبراطورية. وكان أمامه أن يختار بين اثنتي عشرة دعوة وجهت إليه، فاختار الأستاذية في ليدن، ثم عين في الحال رئيساً لكلية عظيمة وسارت الأمور سيراً حسناً، حتى كلفه شارل الثاني ملك إنجلترا الذي كان متغيباً آنذاك في هولندا، بأن يكتب عن إدانة كرومويل بقتل شارل الأول وظهر الدفاع عن الملك شارل الأول في نوفمبر 1649 بعد إعدام الملك بنحو عشرة أشهر. ولم يرق الكتاب في عيني كرومويل، واستأجر أعظم شعراء إنجلترا للرد عليه. وسنعود للكلام عليه مرة أخرى. وكتب سالماسيوس رداً على ملتون، ولكنه مات (1653) قبل أن يتمه. ونسب إلى ملتون فضل القضاء عليه.

وحظيت قلة ضئيلة بمثل هذا القدر الكبير من العلم والمعرفة، بينما ظل 80% من سكان أوربا الغربية أميين. وقضى جون كومنيوس أربعين عاماً يكافح في سبيل النهوض بخطط التعليم في أوربا. ولد كومنيوس في مورافيا (1592) وارتقى إلى مرتبة أسقف الأخوة المورافيين ولم يتزعزع قط إيمانه بأن الدين هو أساس التعليم وغايته، فإن رأس الحكمة مخافة الله. وعلى الرغم من أن الأحقاد الدينية في زمانه جعلت من حياته سلسلة متصلة من المحن والبلايا، فإنه بقي على إخلاصه لفلسفة التسامح في الوحدة الأخوية. نحن أبناء عالم واحد، يجري في عروقنا دم واحد. وأنه لمن أشد الحماقة أن نضمر البغض والكراهية لإنسان لأنه ولد في قطر آخر، أو لأنه يتحدث بلغة مختلفة عن لغتنا. أو لأن له رأياً مخالفاً لنا في هذا الموضوع أو ذاك. إني لأتوسل إليكم أن تكفوا عن هذا، فإننا بشر متساوون في الإنسانية فليكن لنا جميعاً هدف واحد وغاية واحدة، هي خير الإنسانية جمعاء، ولنطرح جانباً كل الأنانيات والأثرة القائمة على أسس من اللغة أو القومية أو الدين(36).

وبعد تدوين كثير من النصوص التربوية، لخص كومنيوس مبادئه في التربية المثلى (1632) وهو من أهم الكتب في تاريخ التربية. أولاً: يجب أن يكون التعليم عاماً، بصرف النظر عن الجنس أو مستوى المعيشة. فيجب أن يكون في كل قرية مدرسة، وفي كل مدينة كلية، وفي كل مقاطعة جامعة، ويجدر أن يكون التعليم العالي متاحاً لكل من يثبت القدرة على متابعته، وينبغي أن تتولى الدولة الإنفاق على الكشف عن مواهب وقدرات المواطنين فيها، وتدريبها والإفادة منها. ثانياً: يجب أن يكون التعليم واقعياً، بحيث تربط الأفكار في كل خطوة بالأشياء الملموسة، كما يجب تعليم الألفاظ باللغة الوطنية أو بأية لغة أجنبية، عن طريق مشاهدة الأشياء التي تمثلها أو لمسها أو استخدامها ويجب أن يتأخر تعليم النحو (الأجرومية). ثالثاً: يجب أن تكون التربية بدنية وعقلية وأخلاقية. وأن يتلقى التلاميذ تدريبات على الصحة والقوة والنشاط عن طريق ممارسة الحياة والألعاب في الهواء الطلق. ورابعاً: ينبغي أن يكون التعليم عملياً، وألا يكون حبيساً في سجن التفكير النظري، بل مقروناً بالعمل والممارسة، وأن يمهد ويعد للنهوض بمهمة الحياة. خامساً: يجب تدريس العلوم تدريجياً، بتقدم الطالب في العمر، ويجب افتتاح مدارس البحث العلمي في كل مدينة أو مقاطعة. سادساً: ينبغي توجيه كل التربية وكل المعرفة إلى تحسين الخلق وبث التقوى في الفرد، وإلى إشاعة النظام والسعادة في الدولة.

وكان ثمة شيء من التقدم. فإن الأمراء الألمان جدوا في تأسيس مدرسة ابتدائية في كل قرية. ونادى دوق ساكس-ويما في 1619 بمبدأ التعليم العام الإلزامي لكل البنين والبنات من سن السادسة إلى الثانية عشرة(37)، مع عطلة مدتها شهر في موسم الحصاد. وما وافى عام 1719 حتى عم هذا النظام ألمانيا بأسرها. وكانت المدارس الثانوية لا تزال موصدة أمام الإناث، ولكنها تضاعفت وحسن مستواها. وفتحت في هذا اثنتان وعشرون جامعة جديدة . وكانت جامعة أكسفورد سائرة على طريقة التقدم والنجاح كما وصفها كازوبون في 1613، وقد تأثر بما رآه من رواتب الأساتذة ومكانتهم الاجتماعية، بالمقارنة بنظرائهم في القارة. ففي 1600 كانت رواتب الأساتذة في ألمانيا ضئيلة إلى حد أنهم لجئوا إلى بيع الجعة والنبيذ احتيالاً على العيش، وكان الطلبة في الجامعة فيينا يشربون ويلهون في حانات يديرها الأساتذة(38). وتدهورت الجامعات الأسبانية بعد فيليب الثاني، وساءت أحوالها تحت وطأة محاكم التفتيش، في الوقت الذي أسست فيه عدة جامعات أسبانية في مستعمرات أسبانيا في أمريكا-في ليا 1551، في مدينة المكسيك 1553، أي قبل افتتاح كلية هارفرد (1636) بزمن طويل. وافتتح الهولنديون الموسرون ست جامعات في تلك الحقبة. وعندما نجحت ليدن في مقاومة الحصار الأسباني (1574)، وجهت الجمعية العمومية للمقاطعات المتحدة الدعوة لأهالي البلدة، ليدن، ليروا رأيهم فيما يمكن أن يكافئوا به، فطالبوا بإنشاء جامعة، وكان لهم ما أرادوا. وكانت السلطة الدينية تسيطر على أمور التعليم في الأقطار الكاثوليكية والكلفنية. وفي إنجلترا والبلاد اللوثرية كان رجال الدين يديرون معظم التعليم تحت إشراف الدولة. وفي كل الجامعات تقريباً، باستثناء بادوا، كان مطلوباً من المعلمين والطلبة أن يعتنقوا المذهب الرسمي، وكانت الدولة والكنيسة كلتاهما تحد من الحرية الجامعية بدرجة كبيرة. وقضت الخلافات الدينية على الصبغة العلمية للجامعات، فانحصر الطلبة الأسبان في أسبانيا، ولم يعد الطلبة الإنجليز يلتحقون بجامعة باريس. وظلت أكسفورد حتى 1871 تفرض على طالب الدرجة الجامعية، الموافقة على مواد الكنيسة الرسمية التسع والثلاثين. ومال الفكر الأصيل الخلاق إلى الاختفاء من الجامعات، والتمس ملجأ في الأكاديميات الخاصة والدراسات غير النظامية أو غير النمطية.

وهكذا قامت في هذا العصر أكاديميات خاصة، لا رقيب عليها، للدراسة والبحث، وخاصة في مجال العلوم. وفي روما، في 1603 أسس فدريجوسيزي، مركيز مونتبلو "أكاديمية ذوي البصر الحاد" التي التحق بها جاليليو 1611، وحدد دستورها هدفها:

إن جامعة ذوي البصر الحاد تتطلب من أعضائها الفلاسفة أن يكونوا تواقين إلى المعرفة الحقة، وأن ينصرفوا بكليتهم إلى دراسة الطبيعة، وبخاصة الرياضيات، ولن تهمل في الوقت نفسه أو تزيف مناهجها بالآداب والدراسات اللغوية الجميلة التي يزدان بها، بوصفها حلياً وجواهر كريمة، نطاق العلم بأكمله، وليس في خطة هذه الأكاديمية أن تفسح المجال للخطب والمجادلات ويجدر بها أن تغضي في هدوء وصمت عن كل الخلافات السياسية. وعن أي لون من المهاترات الكلامية(39).

وحلت هذه الجامعة 1630، ولكن في 1657 واصلت السير على نهجها أكاديمية دل شيمنتو (التجربة والبرهان). وسرعان ما تأسست جمعيات مماثلة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا. حتى يتسنى للروح العلمية الملهمة في العلوم أن تضع الأسس الفكرية والتكنولوجية للعالم الحديث.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أدوات العلم ومناهجه

كان لزاماً، منذ البداية، أن تكون هناك آلات علمية. فما تستطيع العين المجردة أن تبصر بوضوح كافٍ، على مسافة بعيدة، أو أشياء بالغة الدقة. إلى الحد المطلوب، وما يستطيع الجسم أن يمس بدقة تامة ضغط الأشياء أو حرارتها أو وزنها. وما يستطيع العقل أن يقيس المسافة والزمن والكمية والنوعية والكثافة دون أن يخلط بين توازنه الشخصي وبين الحقائق، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى المجهر (الميكروسكوب)، والمقراب (التلسكوب)، وبميزان الحرارة (الترمومتر) ومقياس الضغط (البارومتر). ومقياس الثقل النوعي للسوائل (الهيدرومتر) وإلى ساعات أدق وإلى موازين أكثر حساسية.

كتب جامباتستا دللابورتا في "سحر الطبيعة" (1589) بالعدسة المقعرة تبدو الأشياء أصغر ولكن أوضح، وبالعدسة المحدبة تراها أكبر ولكن أقل وضوحاً في معالمها، فإذا عرفت على أية حال كيف تجمع بين النوعين على نحو سليم، لأمكنك أن ترى الأشياء على البعد والقرب كبيرة واضحة معاً(40) تلك كانت القاعدة التي بني عليها المجهر منظار الميدان ومنظار الأوبرا، والمقراب، أي أنها مجموعة من المخترعات، وكلها متنوعة الأنسجة، وكان المجهر البسيط. أي العدسة المحدبة الواحدة، معروفة لأمد طويل. أما الاختراع الذي البيولوجيا فهو الميكروسكوب المركب الذي يجمع بين عدة عدسات لامة. ونمت صناعة شحذ العدسات وصقلها بصفة خاصة في الأراضي الوطيئة وعاش سبينوزا عليها ومات بها. وحوالي 1590 جمع صانع النظارات المدعو زخارياس جانس، في مدلبرج، بين عدسة مزدوجة مقعرة وأخرى مزدوجة محدبة، ليضع أقدم مجهر مركب معروف: وبفضل هذا الاختراع ظهرت البيولوجيا الحديثة والطب الحديث.

وجاء بعد ذلك تطبيق آخر لهذه القواعد فحول علم الفلك. ذلك أنه في 2 أكتوبر 1608 قدم صانع نظارات آخر في مدلبرج، هو هانز لبرشي. إلى الجمعية العمومية للمقاطعات المتحدة (التي ما زالت في حرب مع أسبانيا) وصفاً لآلة يمكن بها رؤية الأشياء من مسافة بعيدة. إن لبرشي وضع عدسة مزدوجة محدبة "العدسة الشيئية" على الطرف البعيد من أنبوبة، وعدسة مزدوجة مقعرة "العينية" على الطرف القريب. وأدرك المشرعون القيمة العسكرية لهذا الاختراع فكافئوا البرشي بتسعمائة فلورين. وفي 17 أكتوبر أثبت رجل هولندي آخر-جاكوس متيوس، أنه كان قد صنع من تلقاء نفسه ومن وحي تفكيره هو، آلة مماثلة. وما أن سمع جاليليو بهذه التطورات حتى صنع آلة التلسكوب (المقراب) الخاصة في بادوا (1609)، التي كبرت الأشياء إلى ثلاثة أمثالها، وتلك هي الآلات التي كبر بها العالم. وفي 1611 اقترح كبلر أنه يمكن الحصول على نتائج أفضل، إذا عكست أوضاع العدسات في اختراع جاليليو، باستخدام العدسة المحدبة في "العينية" والمقعرة في "الشيئية". وفي 1613-1617 صنع الجزويتي كرستوف شينر، على هذا الأساس، مقراباً "تلسكوب" أفضل، بيد أنه أدخل شيئاً من التحسين على ما كان معروفاً من قبله(41).

وفي الوقت عينه، وعلى نفس الأسس التي كانت معروفة لدى "هيرو" السكندري في القرن الثالث الميلادي أو قبله، كان جاليليو قد اخترع (حوالي 1603) مقياساً للحرارة (ترمومتر). بأن وضع الطرف المفتوح لأنبوبة زجاجية في وعاء من الماء، وكان طرفها الثاني عبارة عن بصيلة زجاجية (منتفخ الترمومتر) فارغة، عمد إلى تسخينها بملامستها ليديه. فلما سحب يده بردت البصيلة، وارتفع الماء في الأنبوبة. وفي 1613 قسم جيوفني ساجريدو، صديق جاليليو، الأنبوبة إلى مائة درجة.

وجاء أفانجلستا تورشللي، أحد تلاميذ جاليليو، فأحكم سداد أحد طرفي أنبوبة طويلة، وملأها بالزئبق، وأوقفها بطرفها المفتوح مغمورة في وعاء به الزئبق، فلم يفض زئبق الأنبوبة إلى الوعاء. وأرجع علماء الفيزياء هذه الظاهرة إلى "اشمئزاز الطبيعة من الفراغ". وأرجعها تورشللي إلى ضغط الهواء المحيط على الزئبق في الوعاء. وعللها بأن الضغط الخارجي لا بد أن يرفع الزئبق في الوعاء إلى الأنبوبة الخالية المفرغة من الهواء. وأثبتت التجربة صحة ما ذهب إليه. وأوضح أن التغيرات في ارتفاع الزئبق في الأنبوبة يمكن استخدامها مقياساً للتغيرات في الضغط الجوي، ومن ثم في 1643 أول مقياس للضغط الجوي (البارومتر) الذي لا يزال الآلة الأساسية في الأرصاد الجوية.

ومذ تزودت العلوم بهذه الأدوات الجديدة، فإنها اتجهت إلى الرياضيين تسألهم طرقاً أفضل للحساب والقياس وللتدوين بالعلامات والرموز واستجاب نابيير وبيرجي-كما عرفنا-لهذا النداء باللوغاريتمات، وأوترد بالمسطرة الحاسبة، ولكن كانت ثمة نعمة أكبر باختراع الطريقة العشرية وكانت بعض آراء أو مقترحات اجتهادية قد مهدت الطريق، كما هي العادة، فإن الكاشي السمرقندي (المتوفى 1436) كان قد أوضح أن النسبة التقريبية بين محيط الدائرة وقطرها هي: 3.14926535898732، وهذا كسر عشري-مستخدماً مسافة بياضاً بدلاً من النقطة، أي العلامة العشرية بين الكسر والرقم الصحيح. ثم جاء فرانسسكو بللوس من مدينة نيس 1492 فاستخدم النقطة العشرية وشرح سيمون ستيفينوس الطريقة الجديدة في رسالة تعتبر فاتحة عصر جديد، هي "الطريقة العشرية" (1585) عرض فيها كيف "تعلم بسهولة لم يسمع بها من قبل أن تؤدي كل المسائل الحسابية بالأعداد الصحيحة دون الكسور" ونفذ "النظام المتري" في قارة أوربا أفكاره في قياس الأطوال والأحجام والعملة. ولكن الدائرة والساعة أقرتا بفضل الرياضيات البابلية، فاحتفظتا بالقسمة السينية.

وفي 1639 نشر جيرارد دسارج رسالة ممتازة عن القطع المخروطي. وأحيا فرانسوا فيير الباريسي دراسة علم الجبر التي كانت قد ضعفت، باستخدام الحروف للدلالة على مقادير معروفة أو مجهولة على حد سواء واستبق ديكارت في تطبيق الجبر على الهندسة، وأنشأ ديكارت الهندسة التحليلية في ومضة من ومضات الإلهام، حين اقترح التعبير على الأعداد والمعادلات بأشكال هندسية والعكس بالعكس (ومن ثم يمكن إيضاح التناقض المستمر في قيمة العملة في فترة معينة في رسم بياني إحصائي)؛ وأنه من معادلة جبرية تمثل شكلاً هندسياً، يمكن جبرياً استخلاص نتائج تثبت صحتها هندسياً، ولذلك يمكن استخدام الجبر لحل المسائل الهندسية العويصة. وافتتن ديكارت باكتشافاته إلى حد أنه ذهب إلى أن هندسته أسمى من هندسة أسلافه قد رسموا فصاحة شيشرون على حروف الهجاء عند الأطفال (42). أن هندسته التحليلية ونظرية كافا ليبري عن "غير القابل للانقسام أو التجزئة" (1629) وتربيع كبلر التقريبي للدائرة. وقياس روبرفال للخط المنحني، وتورشللي وديكارت، إن كل أولئك عبدوا الطريق أمام ليبنتز ونيوتن لاكتشاف التفاضل والتكامل.

وباتت الهندسة الآن هدف كل العلوم بقدر ما هي أداتها. ولحظ كبلر أن العقل إذا هجر "مملكة الكمية" فإنه يهيم في متاهات الظلام والشك(43). وقال جاليليو عن الفلسفة وهو يقصد "الفلسفة الطبيعية" أو العلوم:

إن الفلسفة مدونة في هذا السفر الضخم، ألا وهو الكون الذي يقف دوماً مكشوفاً أمام أعيننا نحملق فيه كيف نشاء. ولكن لن يتسنى لنا فهم هذا الكتاب إلا إذا تعلمنا، أول الأمر، كيف نعي اللغة ونقرأ الحروف التي تتألف منها. أن هذا السفر مكتوب بلغة الرياضيات(44)، وتتطلع ديكارت وسبينوزا إلى تحويل الميتافيزيقا (علم ما وراء الطبيعة) نفسها إلى صيغة رياضية. وبدأ العلم الآن يحرر نفسه من أغلال أمه وهي الفلسفة. لقد هز كتفيه لأرسطو غير مبالٍ به. وأدرا ظهره للميتافيزيقا متجهاً نحو الطبيعة، وطور وسائل التمييز لديه، وسعى لتحسين حياة الإنسان على الأرض. أن هذه الحركة تنتسب إلى قلب عصر العقل، ولكنها لم تؤمن كل الإيمان ولم تثق كل الثقة "بالعقل الخاص"-أي العقل المستقل عن التجريب والاختبار. وكم من مرة ضل مثل هذا التفكير، ونسج خيوطاً واهية مضللة. أن العقل والتقاليد والسلطة يجب الآن ضبطها وكبح جماحها بدراسة الحقائق المتواضعة وتسجيلها. ومهما قال المنطق، فيجدر بالعلم ألا يتقبل إلا ما يمكن قياسه كمـَّاً، والتعبير عنه رياضياً، وإثباته بالتجربة.


العلم والمادة

اندفعت العلوم خطوات إلى الأمام في تسلسل منطقي، خلال التاريخ الحديث: الرياضة والفيزياء في القرن السابع عشر، والكيمياء في الثامن عشر، والبيولوجيا في التاسع عشر، وعلم النفس في القرن العشرين.

والشخصية البارزة في تلك الحقبة هي جاليليو. ولكن ثمة أبطال كثيرون أقل شأناً جديرون بالذكر فقد أسهم ستيفينوس في تحديد قوانين البكرة والرافعة، وأجرى دراسات قيمة في ضغط الماء، ومركز الجاذبية، ومتوازي أضلاع القوى، والمستوي المائل. وحوالي 1690 في دلفت، استبق جاليليو في تجربته المزعومة في بيزا، حيث أوضح-على خلاف الاعتقاد القديم-أنه إذا ترك جسمان من نوع واحد مهما اختلفا في الوزن، ليسقطا معاً من على فإنهما يصلان إلى الأرض في وقت واحد(45). ووضع ديكارت قانون القصور الذاتي، في صيغة بالغة الوضوح-وهو أن أي جسم يظل في حالة الجمود أو في حركة مستقيمة إلا إذا تأثر بقوة خارجية. وسبق هو وجاسندي، إلى نظرية الجزيئات في الحرارة. وأسس رسالته في "الأرصاد" (1637) على الكوزمولوجيا (علم الكونيات يبحث في أصل الكون وبنيته العامة وعناصره ونواميسه) التي لم تعد مقبولة، ولكن هذه الرسالة أسهمت كثيراً في وضع أسس الأرصاد الجوية كعلم من العلوم. وتوسع تورشللي 1642 في دراساته عن الضغط الجوي لتشمل ميكانيكا الرياح، حيث ذهب إلى أن هذه هي التيارات الموازنة التي تنجم عن الاختلافات المحلية في كثافة الهواء. أما جاسندي، ذلك الرجل المشهور بإلمامه بكل العلوم، فإنه تابع التجارب في قياس سرعة الصوت، وتوصل إلى أنها 1.437 قدماً في الثانية. وأعاد صديقه الكاهن، مارتن مرسن، التجربة، وقرر أنها 1.380 قدماً، وهذا أقرب إلى الرقم السائد، وهو 1.087 ووضع مرسن في 1636 السلسلة الكاملة للنغمات التوافقية التي يحدثها سلك رنان.

وتركزت أبحاث البصريات حول مسائل الانعكاس والانكسار العريضة، وبخاصة عند مشاهدتها في قوس قزح. وحوالي 1591 وضع ماركو أنطونيو دي دومنيس رسالة في "ضوء" أوضح فيها تكوين قوس قزح الرئيسي، (وهو الوحيد الذي يمكن رؤيته بصفة عامة) على أنه راجع إلى إنكسارين وانعكاس واحد لضوء على قطرات بخار الماء في السماء أو الرذاذ. وتكوين قوس قزح الثانوي (وهو قوس من الألوان في ترتيب عكسي، يرى أحياناً بشكل باهت، خارج القوس الرئيسي)، على أنه راجع إلى إنكسارين وإنعكاسين. وفي 1611 عالج كبلر في رسالة "الإنكسارات" موضوع انكسار الضوء "في العدسات. وبعد ذلك بعشر سنين جاء ولبروردسنل من ليدن، وصاغ قوانين الانكسار في دقة جعلت من الميسور إجراء حساب أدق لعمل العدسات في الضوء، وصنع ميكروسكوبات وتلسكوبات أفضل. فطبق ديكارت هذه القوانين على الحساب الميكانيكي لزوايا الإشعاع في قوس قزح. أما تفسير ترتيب اللون فكان لزاماً أن ينتظر مجيء نيوتن.

وأدى بحث جلبرت-الذي يعتبر بداية عصر جديد-في الجاذبية الأرضية إلى سلسلة طويلة من النظريات والتجارب. واقترح فميانوس سترادا عضو جمعية يسوع، الإرسال البرقي (1617)، وذلك بأن يتصل رجلان الواحد منهما بالآخر، من بعيد، عن طريق استخدام الفعل المتجانس لإبرتين مغناطيسيتين وضعتا بحيث تشيران في وقت واحد إلى حرف هجاء واحد بعينه، وفي 1629 أدلى جزويتي آخر، نيقولو كابيو، بأول وصف عرفه العالم للتنافر الكهربي. وجاء عالم آخر هو أثناسيوس كيرشر، فوصف في كتابه "المغناطيس" (1641) قياس المغناطيسية بتعليق مغناطيس في إحدى كفتي ميزان، ومقاومة تأثيره بوضع موازين في الكفة الأخرى. وعزا ديكارت المغناطيسية إلى تأثير الجزيئات التي تنفثها الدوامة الكبرى التي اعتقد هو أن الأرض نشأت عنها. وكانت الكيمياء القديمة (الخيمياء) لا تزال شائعة، وخاصة كبديل ملكي لخفض قيمة العملة. فكان الإمبراطور رودلف الثاني، وناخبو سكسونيا وبراندنبرج والبالاتينات، ودوق برنزويك وكونت هس، يستخدمون جميعاً أرباب الكيمياء القديمة لصنع الفضة والذهب(46). ومن هذه التجارب ومن الحاجة إلى علم المعادن وصناعة الصباغة، ومن إلحاح الطبيب الألماني باراسلوس على الدواء الكيمياوي، من هذا كله بدأ علم الكيمياء يتشكل. وكان أندريا ليبافيوس يمثل هذا الانتقال من "الخيمياء" إلى الكيمياء. وكان مؤلفه "الدفاع عن خيمياء تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة" (1604) استمراراً للسعي وراء المطلب القديم، ولكن كتابه "الكيمياء" (1597) كان أول رسالة منهجية في الكيمياء العلمية الحديثة. واكتشف باراسلسوس كلوريد القصدير، وكان أول من صنع سلفات الأومنيوم، وكان من أوائل من اقترح نقل الدم كعلاج. وكان معمله في كوبرج إحدى عجائب المدينة. ووضع جان بابتستافان هلمونت-وهو نبيل ثري أكب على العالم وصرف همه في تقديم الخدمات الطبية للفقراء-وضح اسمه بين مؤسسي الكيمياء بتمييز الغازات عن الهواء وتحليل أنواعها وتركيبها. ونحت لفظة "غاز" من اللفظة الإغريقية Chaos وحقق اكتشافات كثيرة في مجاله المختار، ابتداء من الغازات المتفجرة في البارود، إلى إمكانات الاشتعال في "ريح الإنسان"(47) واقترح القلويات في علاج الحموضة المفرطة في الجهاز الهضمي. وأوصى يوهان جلوبر ببللورات سلفات الصوديوم للاستعمال كعلاج ممتاز من الظاهر أو من الباطن. ولا يزال "ملح جلوبر" يستخدم كملين. إن جوير وهلمونت كليهما اشتغل بالخيمياء (أو الكيمياء القديمة) كهواية.

وأسهمت كل هذه "العلوم الطبيعية" في تحسين الإنتاج الصناعي، وأدوات القتل في الحروب. وطبق الفنيون المعرفة الجديدة بالحركات والضغوط في السوائل والغازات، وتكوين القلوي، وقوانين التذبذب، ومسارات الإسقاط والقذف، وتنقية المعادن. واستخدم البارود في تفجير المناجم (1613) وفي 1612 اخترع سيمون ستورتفانث طريقة لإنتاج فحم "الكوك" لتخليصه من العناصر المتطايرة. فهذا "الكوك" له قيمته وأهميته في صناعة المعادن، لأن شوائب الفحم العادي تضر بالحديد، وقد حل محل الفحم النباتي وأنقذ الغابات. وقلت تكلفة صناعة الزجاج، حيث عم استعمال الزجاج النوافذ في ذلك العصر. وبنمو الصناعة تضاعفت المخترعات الميكانيكية. لأنها كانت تعود إلى أبحاث العلماء أقل منها إلى مهارات الصناع الذين يتوقون إلى توفير الوقت. ومن هنا فأننا نسمع لأول مرة عن المخراط اللولبي في 1578، وإطار الحبك والربط في 1589. والمسرح الدائر في 1597، وآلة درس القمح وقلم الحبر في 1636.

وقام المهندسون آنذاك بأعمال فذة تستحق الإعجاب حتى في أيامنا هذه. فقد رأينا كيف أن دومنيكو فونتانا هز روما بإقامة مسلة في ميدان القديس بطرس. وابتدع ستفينوس مهندس موريس ناسو، نظام البوابات للتحكم في السدود-وهي حارسة جمهورية هولندا. واستخدم منفاخ ضخم في تهوية المناجم، والمضخات المعقدة في رفع المياه إلى أبراج لتضخ المياه إلى البيوت والنافورات في المدن مثل أوجزبرج وباريس ولندن وأنشئت قناطر ترووس على أساس القاعدة الهندسية البسيطة وهي أن المثلث لا يمكن أن يعدل شكله إلا يتغير طول أحد الجوانب. وفي 1624 سارت غواصة تحت الماء لمسافة ميلين في نهر التايمز(48). وتقدم جيروم كاردان وجامباتستا دللابورتا وسالومون دي كوز بنظرية الآلة البخارية خطوة إلى الأمام، وفي 1615 وضع كوز وصفاً لآلة لرفع الماء بفعل قوة تمدد البخار(49).

ولم تكن الجيولوجيا قد ولدت بعد، حتى اللفظ نفسه لم يكن موجوداً؛ وكانت دراسة الأرض تسمى "علم المعادن" وجال النظر بعين الإجلال إلى قصة "الخلق" في التوراة دون المقامرة بالبحث في نشأة الكون. ورمي برنارد بالسي بالزندقة لإحيائه الفكرة القديمة التي تقول بأن الأحافير والمستحاثات ليست إلا بقايا متحجرة لكائنات ميتة. وغامر فيكارت بالقول بأن الكواكب السيارة بما فيها الأرض كانت يوماً كتلاً متوهجة مثل الشمس، وعندما برد الكوكب، كون قشرة من السوائل والمواد الصلبة فوق نار مركزية داخلية، أنتج دخانها الينابيع الحارة والبراكين والزلازل(50).

وتقدمت الجغرافيا بفضل البعثات التبشيرية والرواد والتجار الذين أرادوا نشر ديانتهم أو التوسع في العلم والمعرفة أو التجارة. وفي 1567 وما بعدها ارتاد الملاحون الأسبان البحار الجنوبية، وكشفوا جزيرة جواد القنال وغيرها من جزر سليمان-وسميت كذلك على أمل العثور هناك على كنوز سليمان. وزار المبشر البرتغالي بيكوياس (الذي أخذ أسيراً في الحبشة (1588))، النيل الأزرق. وحل لغزاً قديماً بأن فيضان النيل المنتظم ليس له من سبب إلا فعل الأمطار في مرتفعات الحبشة. وواضح أن وللم جانسزون كان أول من وطئت قدماه أرض استراليا (1606). وكشف آبل تسمان تسمانيا ونيوزيلند (1642) وجزر فيجي (1643) ودخل التجار الهولنديون سيام وبورما والهند الصينية. ولكن المعلومات عن هذه البلاد وعن الصين، وردت إلينا أساساً عن طريق المبشرين الجزويت. وبأمر من هنري الرابع نلك فرنسا ارتاد صمويل تشابلن ساحل نوفاسكوشيا وصعد في نهر سانت لورنس إلى قرب مونتريال، وأسس أتباعه مدينة كويك، وبينوا على الخريطة البحيرة التي تحمل اسمه.

وكافح صانعوا الخرائط حتى لا يتخلفوا كثيراً عن الرواد والمستكشفين، ومنهم جيراردوس مركيتور (جيرهارد كريمر) الذي درس في لوفان، وأسس محلاً لصنع الخرائط العلمية والكرات الأرضية. وفي 1544 قبض عليه وحوكم بتهمة الهرطقة، ولكنه تفادى العواقب الوخيمة، فوجد على أية حال أنه من الحكمة أن يقبل دعوة وجهت إليه من جامعة دوزبرج، حيث أصبح رساماً للخرائط لدى دوق جوليس كليفر (1559). وطوال حياته التي امتدت اثنين وثمانين عاماً، جهد مركيتور دون كلل أو ملل في رسم خرائط للفلاندرز واللورين وأوربا والأرض. وفي مؤلفه المشهور "الوصف الجديد الدقيق للأرض وطرق الملاحة" (1568) أدخل نظام "الأسقاط المركاتوري" في الخرائط التي أدى إلى تيسير الملاحة. بإظهار دوائر خطوط الطول موازية بعضها لبعض، ودوائر العرض خطوطاً مستقيمة، وكلتا المجموعتين من الخطوط تشكل زوايا قائمة، الواحد منها مع الآخر. وفي 1585 شرع في إصدار "أطلسه" الكبير (ونحن مدينون له بالفضل في استخدام هذا اللفظ)، محتوياً على إحدى وخمسين خريطة، في إتقان ودقة لم يسبق لهما مثيل، وصف فيها الأرض المعروفة آنذاك. ودخل صديقه أبرهام أورتل في مباراة معه بكتابه الجامع "مدار الأرض" (أنتورب 1570). أن هذين الرجلين كليهما حرر الجغرافيا من ارتباطها الألفي السعيد بطليموس (الفلكي السكندري في القرن الثاني الميلادي)، ووضعاها في شكلها الحديث. وبفضلها احتفظ الهولنديون بما يكاد يكون احتكاراً تاماً لصناعة الخرائط طيلة قرن من الزمان.


العلم والحياة

وكان على علم الأحياء (البيولوجيا) أن ينتظر قرنين من الزمان حتى يتسنم الذروة، ونشأ علم النبات على مهل من خلال الدراسات الطبية للأعشاب العلاجية واستيراد النباتات الغريبة إلى أوربا وجلب المبشرون الجزويت لحاء الشجر من بيرو (الكينين) والونيلية (نبات أمريكي استوائي، الفانيليا) والرواند. وأدخل البطاطس حوالي 1560 من بيرو إلى أسبانيا، ومنها انتشر في أنحاء القارة. ووصف برسبيرو ألبيني أستاذ علم النبات في بادوا خمسين نباتاً أجنبيا زرعت مجدداً في أوربا. ومن دراساته لنخيل البلح استدل على التكاثر الجنسي في النبات الذي أوضحه تيوفراستوس في القرن الثالث ق.م. يقول ألبيني: "إن إناث نخيل البلح لا تحمل ثمراً إلا إذا اختلطت أغصان الأشجار الذكور والأشجار الإناث بعضها ببعض، أو كما يحصل عادة، إلا إذا تناثر الغبار الموجود في غلاف الأشجار الذكور أو أزهار الأشجار الإناث(51)". وقد يقسم لناؤوس فيما بعد النباتات وفقاً لطرق تكاثرها، ولكن الآن في 1573 قدم أندريا سيسالبينو الفلورنسي أول تقسيم منهجي للنباتات، 1500 نوع منها-على أسس بذورها وثمارها المختلفة. وأورد جاسبار بوهين (من مدينة بازل) في مؤلفه الضخم "جدول عالم النبات" (1623) تصنيفاً لنحو 6000 نبات، وبذلك استبق ما أنجزه بعد ذلك ليناؤوس من تصنيف وتسمية ثنائية تبعاً للجنس والصنف، وقضى بوهين أربعين عاماً في إعداد "جدول النبات"، ومات بعد سنة من صدوره، وبقي مرجعاً أساسياً لمدة ثلاثة قرون.

وبدأت "مشعبات الأطباء" الخاصة تتطور الآن إلى حدائق نباتية تديرها الجامعات أو الحكومات للجمهور. كان لأقدمها التي أسست في بيزا 1543، شهرة كبيرة أيام سيسالبينو. وأسس في زيوريخ حديقة نباتية في 1560، ثم في بولونيا وكاسل وليدن ولبيزج وبرسلا وبازل وهيدلبرج وأكسفورد. وفي 1635 نظم جي دي لابروس-طبيب لويس الثالث عشر "حديقة النباتات الطبية" المشهورة في باريس، أما حدائق الحيوان، بوصفها معارض للوحوش لتسلية الجماهير، فقد وجدت في الصين (1100 ق.م) وفي روما القديمة، وفي المكسيك أيام الأزتيك (حوالي 1450)، أما الطراز الحديث فقد افتتح في درسدن في 1514، وفي فرساي في عهد لويس الثالث عشر.

ولقي علم الحيوان عناية أقل مما لقي علم النبات، لأنه قدم علاجات أقل، اللهم إلا في الطب الأسطوري أو الخرافي، وفي 1599 شرع بوليس ألدروفاندي في نشر 13 مجلداً ضخماً في التاريخ الطبيعي، وعاش حتى رأى ستة منها في المطبعة، ونشر سناتو بولونا السبعة الباقية من المخطوطات المؤلف على نفقة الدولة. ولم يحتل مكان هذه المجلدات أو ينسخها إلا كتاب بوفون "التاريخ الطبيعي" (1749-1804). وابتدأ الجزويتي المتعدد الثقافات أثناسيوس كيرشر علم الأنسجة العضوية بكتابه الذي وصف فيه (1646) الديدان المتناهية الصغر التي وجدها مجهره (الميكروسكوب) في المواد المتعفنة. أن الاعتقاد بتوالد الكائنات الدقيقة توالداً تلقائياً من اللحم المتعفن أو الفاسد، أو حتى من الصين، كاد يكون سائداً تماماً، ولو أن هارفي كان على وشك أن يدحضه في كتابهِ "توالد الحيوان" (1651). وكان علم الحيوان متخلفاً، لأن نفراً قليلاً من المفكرين رأوا الأجداد العليا للحيوان كما رأوهم في الإنسان ولكن في 1632 كتب جاليليو إلى دوق تسكانيا الأكبر: "ولو أن التباين بين الإنسان وسائر الحيوان هائل جداً، فإنه يمكن القول بحق بأنه أكثر قليلاً من التباين بين بني البشر أنفسهم(52)". أن العقل الحديث كان يرتد ببطئ إلى ما عرفه الإغريق قبل ذلك بألفي عام.

وآوى علم التشريح إلى شيء من الركود بعد جهود فيساليوس. وكان تشريح الجثث لا يزال محل معارضة-كما فعل هوجو جروتيوس(53). ولكن "دروس التشريع" الكثيرة في الفن الهولندي تعكس الارتياح العام إلى هذا العمل. والاسم اللامع هنا، مثلما هو في الجراحة هو جيولامو فابرزيو أكوابندانت. تلميذ فللوبيو وأستاذ هارفي. وفي أثناء رياسته لجامعة بادوا شيدت هناك قاعة التشريح الكبرى-وهي المبنى الوحيد المحتفظ به كاملاً من تلك الحقبة، إن اكتشافه للصمامات في الأوردة، ودراساته في تأثيرات الأربطة قادتا هارفي إلى شرح الدورة الدموية وتقدمت المعرفة بدورة السوائل في الجسم خطوة إلى الأمام بكشف جاسبارو أسللي للأوعية اللمفاوية التي تنقل الكيلوس الشبيه باللبن (مستحلب الطعام المهضوم قبل امتصاصه) من الأمعاء الدقيقة. والحق أن أسللي، على الرغم من اسمه "الجحش الصغير" وصف الدورة الدموية قبل أن ينشر هارفي نظريته بست سنين. وكان اندريا سيسالبينو قد شرح النظرية الأساسية (1571) قبل هارفي بنصف قرن. وظل يتعلق بالفكرة القديمة، وهي أن بعض الدم يمر من الحجاب الحاجز للقلب، ولكنه اقترب، أكثر من هارفي، من شرح كيفية انتقال الدم من الشرايين إلى الأوردة إن أنبل الجيوش كانت تتقدم على مائة جبهة لتخوض أعظم الحروب والمعارك إنها معارك العلم.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العلم والصحة

وفي هذا النضال من أجل العلم والمعرفة، كانت المعركة الأساسية هي معركة الحياة ضد الموت، وهي معركة خاسرة على الصعيد الفردي، ظافرة بانتظام على المستوى الجماعي. وكم للأطباء والمستشفيات، وفي نضالهم لعلاج الأمراض والآلام، من أعداء بشريين في القذارة الشخصية، والقذارة العامة، والسجون الكريهة الرائحة والمثيرة للاشمئزاز، والدجالين وجرعاتهم السحرية، والمتصوفين "العلميين"، ومعالجي الفتق، نديبي الحجارة، ومعالجي إعتام عدسة العين، وخالعي الأسنان، هواة تحليل البول. وسارت الأمراض الجديدة في سباق مع العلاجات والأدوية الجديدة. وكان مرض الجذام قد اختفى، وقللت الوسائل الوقائية من الإصابة بمرض الزهري، وكان فاللوبيو قد اخترع (1564) غلافات من الكتان لاتقاء عدوى هذا المرض. (وسرعان ما استخدم هذا لمنع الحمل، وكان يباع لدى الحلاقين المومسات أو أصحاب المواخير(54)). ولكن أوبئة التيفوس والتيفود والحمى والمالاريا والدفتريا، والإسقربوط والأنفلونزا والجدري والدوزنتاريا، ظهرت في تلك الحقبة في عدة أقطار في أوربا، وبخاصة ألمانيا. وثمة إحصاءات قد يكون مبالغاً فيها، بأن الوفيات بلغت 4000 من الطاعون الدملي في بازل 1563-1564، وأن 25% من سكان فريبورج-أم-بريزو ماتوا بالطاعون 1564، و9000 في ردستوك، و5000 في فرانكفورت 1565، 4000 في هانوفر، و6000 في برونزويك 1566(55) وعزا السكان المذعورون مثل هذا الطاعون إلى دس السموم عمداً. وفي فرانكشتين في سيليزيا أحرق 17 شخصاً أحياء حتى الموت للاشتباه في أنهم دسوا السم(56). وكانت وطأة الطاعون الدملي شديدة جداً في فرانكفرت في 1604 حتى لم يعد هناك من الرجال من يكفي للقيام بدفن الموتى(57). وتلك مبالغات واضحة، ولكن يروى عن مصادر موثوقة أنه بسبب الطاعون الدملي في إيطاليا 1629-1631 مات في ميلان 86 ألفاً، وفي جمهورية البندقية ما لا يقل عن 500 ألف، وفيما بين 1630-1631 كان عدد ضحايا الطاعون مليون شخص في جنوب إيطاليا وحده(58)، وقلما سار معدل الإنجاب عند النساء مع شدة الدهاء وسعة الحيلة في إزهاق الأرواح. وضوعفت آلام الوضع بتزايد عدم جدواه. وكانت نسبة الوفيات في الأطفال تبلغ خمس المواليد قبل إتمام السنة الثانية من العمر(59) وكانت الأسرات كبيرة والسكان قليلين.

وكانت الصحة العامة آخذة في التحسن، والمستشفيات يتضاعف عددها وتعليم الطب يصطبغ بالتشدد والصرامة-ولو أنه كان من الميسور الاشتغال بالطب دون الحصول على درجة علمية. وكان في بولونا وبادوا وبازل وليدن ومونبيلييه وباريس مدارس طب ذائعة الصيت تجذب إليها الطلاب من كل أنحاء أوربا الغربية. وأمامنا مثال فذ من البحث الطبي الدءوب طيلة ثلاثين عاماً من التجارب حاول بها سانكتوريوس تحويل العمليات الفسيولوجية إلى نظم كمية. وأنجز قدراً كبيراً من عمله بينما كان جالساً إلى مائدة على ميزان كبير، وسجل ما يطرأ على وزنه من تغيرات عند دخول أو خروج المواد الصلبة والسوائل، بل إنه وزن العرق نفسه. ووجد أن جسم الإنسان يخرج بضعة أرطال يومياً عن طريق التنفس العادي. وانتهى إلى أن هذا شكل جوهري من أشكال الطرد أو التخلص من الزوائد. واخترع مقياساً طبياً للحرارة (1612) وآخر للنبض، ليعاون هذا وذاك في تشخيص الأمراض.

وكان العلاج يتدرج من الضفدعة إلى العلقة. ووصف بعض مشاهير الأطباء، كعلاج، الضفادع المجففة تخاط في كيس يعلق على الصدر، كمصيدة يتصيد ويمتص الهواء الفاسد المسموم المحيط بالجسم في المناطق المصابة بالطاعون(60). وجمعوا بين امتصاص الدم بالعلقات أو بالحجم، وبين تناول مقادير كبيرة من الماء، على أساس أن بعض السائل الداخل إلى الجسم سوف يتحول إلى دم جديد غير الملوث. وكانت ثمة مدرستان للعلاج تتباريان على الفريسة، وهو المريض: مدرسة العلاج الميكانيكي التي نشأت عن آراء ديكارت التي تقول بأن كل عمليات الجسم ميكانيكية، ومدرسة العلاج الكيميائي التي بدأها باراسلسوس، وطورها هلمونت. والتي تفسر كل وظائف الأعضاء بأنها كيمياوية. وكانت المعالجة المائية العملية الشائعة. وكانت المياه العلاجية موجودة في باث إنجلترا، وفي سبا في الأراضي الوطيئة، وفي بلومبيير في فرنسا، وفي أماكن أخرى كثيرة على الراين وفي إيطاليا، وقد رأينا مونتيني يجرب العلاج بالمياه في هذه الأماكن، ونثر حصى الكلى طوال الطريق. وأدخل إلى أوربا عقاقير جديدة، مثل الناردين (حوالي 1580)، والأنتيمون (الأثمد) حوالي 1603، وعرق الذهب (1625)، والكينين (6132). ودون دستور الصيدلة والأدوية في إنجلترا (1618) نحو 1960 عقاراً. ويذكر مونتيني علاجات خاصة أدخرها نفر من الأطباء لمرضاهم الصبورين:

القدم اليسرى لسلحفاة، بول السحلية، روث الفيل، كبد

حيوان الخلد، الدم المستخرج من الجناح الأيمن لحمامة بيضاء.

وبالنسبة للمصابين بحصى الكلى مثلي.... روث الفأر

المسحوق... وغير ذلك من السخافات التي توحي بالسحر

والتعاويذ أكثر منها بالعلم الجاد(61).


وكانت مثل هذه العلاجات التافهة الغريبة باهظة التكاليف إلى حد مثير وكان الناس في القرن السابع عشر يئنون من أثمان الدواء أكثر مما يضجون من أجور الأطباء(62).

وترك طب الأسنان للحلاقين، وكان يقوم في معظمه على الخلع. وكان بين "الحلاقين الجراحين" آنذاك جماعة من المحترفين المهرة، من أمثال امبرواز باري، فراسوا روست، اللذين أحييا الخلع القيصري، وجسبارو طلياكوتسي المتخصص في إعادة تشكيل الأذن والأنف والشفاه، من لدائن البلاستيك، وقد اتهمه الأخلاقيون بالتدخل في صنع الله، ونبشت رفاته من الأرض المطهرة، ودفنت في أرض غير مقدسة(63). وكان ولهلم فبري "أبو الجراحة في ألمانيا" أول من أوصى ببتر العضو أو الطرف فوق الجزء المصاب. وأورد جيوفني كول أقدم وصف معروف لعملية نقل الدم (1628).

وامتعض المرضى من أجر الطبيب، كما هو الحال في كل العصور. وسخر الممثلون الهزليون من ردائه الطويل وحذائه الأحمر، ومن رزانته ووقاره وهو إلى جانب فراش المريض، وإذا كان لنا أن نصدق هجوا الممثلون الهزليين الفكاهيين، فإن مكانته الاجتماعية لم تكن تعلو كثيراً عن مرتبة العلم، ولكنا لو رجعنا إلى تاريخ "درس التشريح" لرمبرانت، لشهدنا طبقة من الرجال تتمتع بمنزلة رفيعة في المجتمع، قادرة حتى على الإسهام في لوحة عظيمة. أن أعظم فلاسفة ذلك العصر، الذي كان يحلم، كما يحلم كل منا، بمستقبل أفضل للبشرية، فكر في تحقيق حلمه على أساس تحسين الخلق الإنساني والنهوض بالعلوم الطبية، بوصفها أكثر العوامل ملاءمة لمثل هذه الثورة، وفي هذا يقول ديكارت: "إن العقل نفسه يعتمد كثيراً على سلامة أعضاء الجسم وتنظيم أدائها لوظائفها، إلى حد أنه إذا كان من الميسور أن نفتش عن وسيلة تزيد بها عقل الإنسان وقدرته، فاعتقادي أنه ينبغي أن نلتمسها في الطب والدواء"(64).


من كوبرنيكس إلى كبلر

لقد تركنا علم الفلك لنعرض له في خاتمة المطاف، لأن أبطاله، وهم يقتربون من نهاية هذه الفترة، يشكلون العناصر الرئيسية فيها. إن نفس الكنيسة التي كان عليها أن تخرس جاليليو، قادت الطريق إلى أحد المنجزات العظمى في علم الفلك الحديث-ألا وهو إصلاح التقويم. أن مراجعة التقويم التي كان قد قام بها سوسينز ليوليوس قيصر حوالي 46 ق.م. أدت إلى زيادة السنة بإحدى عشرة دقيقة و14 ثانية. ومن ثم فإنه في 1577 تخلف التقويم اليولياني عن تعاقب الفصول بنحو 12 يوماً، وبذلك لم تقع أعياد الكنيسة في المواعيد التي قصد لها أن تقع فيها. وكم من محاولات بذلت لإصلاح التقويم: في عهد كليمنت السادس، سكستس الرابع، ليو العاشر-ولكن نشأت عوائق جمة، منها عدم اتفاق الجميع على حل معين. وعدم توفر المعرفة الدقيقة بالفلك. وفي 1576 قدم إلى البابا جريجوري الثالث عشر تقويم قام بتصويبه لوبجي ججليو. وأحاله البابا إلى لجنة من اللاهوت والمحامين ورجال العلم، ومن بينهم الجزويتي البافاري كرستوفر كلافيوس الذي اشتهر بتضليعه في الرياضيات والفلك، وواضح أن المخطط النهائي كان من صنعه. واستمرت المفاوضات طويلة مع الأمراء والأساقفة لتحقيق تعاونهم في هذا المجال وأثيرت اعتراضات كثيرة وأخفقت المساعي التي بذلت للحصول على موافقة الكنائس الشرقية. وفي 64 فبراير 1582 وقع البابا جريجوري الثالث عشر المرسوم الذي أقر "التقويم الجريجوري" في العالم الكاثوليكي. ومن أجل التعادل بين التقويم القديم والحقائق الفلكية، حذفت عشرة أيام من شهر أكتوبر 1582، أي أن اليوم الخامس اعتبر اليوم الخامس عشر، وعمدوا من أجل ذلك إلى ضروب معقدة من الحسم والخصم في حساب الفوائد وغيرها من المعاملات التجارية. وللتعويض عن الخطأ في التقويم اليولياني، فإنهم زادوا في سنوات القرون التي تقبل القسمة على 400، يوماً في شهر فبراير ليصبح 29 يوماً.

وعارضت البلاد البروتستانتية هذا التغيير. وتمرد الأهالي في فرانكفورت (على نهر السين) وفي بريستول، اعتقاداً منهم بأن البابا أراد أن يسلبهم عشرة أيام بل أن مونتيني نفسه زمجر وشكا، وهو الشديد الطمع في الزمن، فقال "إن ما عمد إليه البابا أخيراً من اختصار عشرة أيام من السنة قد أزعجني إلى حد أني لا أكاد استرد عافيتي(65)" ولكن التقويم الجديد-الذي لن يحتاج إلى تصويب آخر لمدة 3333 سنة-أخذ بالتدريج يلقى قبولاً في الولايات الألمانية في 1700، وفي إنجلترا في 1752، وفي السويد في 1753، وفي روسيا 1918 .

وثمة تلكؤ شبيه بهذا حدث في ارتضاء وتقبل فلك كوبرنيكس. وكان من الممكن دراسته وتعليمه في إيطاليا، لو أنه عرض على أنه فرضية قابلة للجدل، لا على أنه حقيقة واضحة(66). ودافع عنه جيوردانو برونو، وتساءل بالفعل كمبانللا إذا كان سكان الكواكب الأخرى ظنوا أنفسهم، كما يظن أهل الأرض، أنهم مركز الأشياء، وهدفها(67). وتسابق اللاهوتيين البروتستانت مع الكاثوليك عامة في استنكار الطريقة الجديدة، ودحضها بيكون وبودين على السواء(68). والأغرب من هذا كله أن أعظم الفلكيين في نصف القرن التالي لوفاة كوبرنيكس (1553)، رفضها كذلك. ولد تيكوبراهي في 1546، في مقاطعة سكانيا التي كانت آنذاك دنمركية، وهي الآن في الطرف الجنوبي للسويد، وكان أبوه عضواً في مجلس الدولة الدنمركي، وأمه مديرة ملابس الملكة. أما عمه الثري جورجن الذي انفطر قلبه غماً لأنه لم ينجب أولاداً، فقد اختطفه، وتملق أبويه واسترضاهما بكل الوسائل، ابتغاء موافقتهما، وهيأ للطفل كل فرص التعليم ووسائله. وفي سن الثالثة عشرة التحق تيكو بجامعة كوبنهاجن. وطبقاً لما ذكره جاسندي، انجذب تيكو إلى الفلك عندما سمع أحد المعلمين يناقش موضوع كسوف شمس قادم. ولحظ حدوث الكسوف كما تنبئوا به، وعجب لهذا العلم الذي بلغ مثل هذه القدرة على التنبؤ، واشترى نسخة من كتاب بطليموس "المجسطي".وأكب عليها إلى حد إهمال سائر الدراسات. ولم يتخلى قط عن النظرة الهندسية التي تجلت في القرن الثاني من عصرنا.

وفي سن السادسة عشرة نقل إلى جامعة ليبزخ، حيث درس القانون بالنهار، ودرس النجوم بالليل. وحذروه من أن مثل هذا العمل قد يؤدي إلى انحطاط الجسم وانهيار في الأعصاب. ولكن تيكو أصر وثابر، وأنفق كل ما يحصل عليه في شراء الآلات الفلكية. وفي 1565 مات عمه، تاركاً له ثروة كبيرة.وأسرع تيكو بعد تسوية أموره، إلى وتنبرج، لمزيد من الرياضيات والفلك، ثم غادرها فراراً من الطاعون، إلى روستوك، وهناك اشترك في مبارزة أطاحت بجزء من أنفه، فاتخذ أنفاً براقاً جداً من الفضة والذهب ظل به بقية حياته. وانهمك في التنجيم وتنبأ بموت سليمان القانوني، ليجد أن السلطان قد فارق الحياة بالفعل(69). وبعد كثير من التجوال في ألمانيا عاد إلى الدنمارك، وشغل نفسه بالكيمياء. وأعاده إلى الفلك كشف نجم جديد في مجموعة ذات الكرسي (1572). أن ملاحظاته السعيدة لهذا النجم المتنقل، وما كتبه عنه في أول مؤلف نشر له "النجم الجديد" أكسباه شهرة في كل أنحاء أوربا. ولكن أزعجا بعض وجهاء الدنمارك الذين اعتقدوا أن التأليف ضرب من حب الظهور الذي لا يليق بالدم الأزرق. وأذهلهم تيكو بزواجه من بنت فلاحة. يبدو أنه أحس بأن زوجة وربة بيت بسيطة، خير من رفيق لفلكي منصرف بكليته إلى الفلك، وأحسن صنو منفتح سمح لرجل ذي أنف ذهبي.

ولما لم يقنع تيكو بالتسهيلات الفلكية في كوبنهاجن، فإنه اتخذ طريقه إلى كاسل، حيث كان الدوق وليم الرابع قد بنى 1561 أول مرصد ذي سقف دوار، وطور يوست بورجي ساعة ذات رقاص (بندول) جعلت من الميسور تحديد أوقات رصد النجوم وحركاتها في دقة لم يسبق لها مثيل. وامتلأ تيكو حماساً جديداً فعاد إلى كوبنهاجن، وأثار اهتمام فردريك بمشروع لإقامة مرصد. فوضع الملك تحت تصرفه جزيرة هفين (فينوس) في مياه السوند، وأجرى عليه راتباً كبيراً، واستطاع تيكو بهذا المال بالإضافة إلى موارده الخاصة، أن يشيد هناك قصراً وحدائق أطلق عليهما أورانبرج (مدينة السماء)، وكانت تضم مساكن ومكتبة ومعملاً وعدة مراصد ومصنعاً لما تحتاج إليه من آلات. ولم يكن لديه مقراب (تلسكوب)، حيث كان لا بد من انتظار ثمانية وعشرين عاماً حتى يتم اختراعه-على أن أرصاد تيكو هي التي قادت كبلر إلى اكتشافات قيمة كانت فاتحة لعصر جديد.

وطيلة إحدى وعشرين سنة في جزيرة هفين جمع تيكو وتلاميذه من المادة ما يفوق في حجمه ودقته أية مادة معروفة من قبل. وسجل كل يوم، ولعدة سنوات، حركة الشمس الظاهرية، وكان من أوائل الفلكيين الذين أدخلوا في حسابهم انحراف الضوء وأخطاء الراصدين والآلات، ولذلك عاود إرصاده وملاحظاته مرات ومرات. وكشف عن التغيرات في حركة القمر ووضعها في صيغة قانون. وأدى به تدقيقه الشديد في تفقد أحد المذنبات في 1577 إلى الاعتقاد السائد في العالم الآن، بأن المذنبات أجرام سماوية حقيقية تتحرك في مدارات محددة منتظمة، بدلاً من كونها تنشأ في الغلاف الجوي للأرض. وعندما نشر تيكو الثبت الذي جمعه عن 777 نجماً، حددها بعناية فائقة على القبة السماوية الضخمة في مكتبته، فإنه بذلك برر حياته.

وتوفي فردريك الثاني في 1588. وكان الملك الجديد طفلاً في الحادية عشرة، ولم يطق الأوصياء الذين تولوا الحكم صبراً على غرور تيكو براهي وحدته وإسرافه. كما فعل فردريك من قبل. وسرعان ما انخفضت المنح الحكومية ثم انقطعت في 1597. فغادر تيكو الدنمارك، وأستقر به المقام به قلعة بنانك، بالقرب من براغ، ضيفاً على الإمبراطور رودلف الثاني الذي أمل في الحصول منه على نبوءات تنجيمية. وأحضر تيكو آلاته وسجلاته من هيفن، وأعلن عن مساعد. فجاءه كبلر (1600)، وعمل مع سيده الذي يصعب التعامل معه وإرضاؤه، عملاً متقطعاً، ولكنه كان مخلصاً فيه. وفي الوقت الذي كان فيه تيكو يتوق إلى الخروج من المادة الغزيرة التي جمعها بنظرية معقولة عن السموات، دهمه وهو جالس إلى المنضدة انفجار في المثانة، وبقي يتلوى من الآلام لمدة أحد عشر يوماً ثم فارق الحياة (1601). وهو حزين على عدم إتمامه عمله. وقال خطيب الجنازة أنه "لم يطمع في شيء سوى الوقت(70)".

كبلر 1571-1631

كان انتقال تيكو إلى براغ من حسن حظ العلم، لأن كبلر ورث أرصاده وملاحظاته، واستنتج منها قوانين الكواكب التي مهدت لنظرية نيوتن في الجاذبية. وتجمعت، من براهي إلى كبلر إلى نيوتن، ومن كوبرنيكس إلى جاليليو إلى نيوتن، خطوط أساسية لتكون علم الفلك الحديث. ولد كبلر في فيل Weil بالقرب من شتتجارت، وكان أبوه ضابطاً في الجيش، طالما خرج للحرب مؤثراً ميدانها على حياة المنزل، وأخيراً عاد وافتتح حانة اشتغل يوهان نادلاً فيها. وكان الصبي سقيماً معتل الصحة، شل الجدري يديه وأضعف باستمرار بصره. وآنس منه دوق روتنبرج أنه يمكن أن يصبح واعظاً فاضلاً. فتولى الإنفاق على تعليمه. وفي نوبنجن، حول ميكائيل ماستلن الذي كان يقوم بتدريس فلك بطليموس-حول كبلر سراً إلى نظرية كوبر نيكس. وتحمس الشاب للنجوم إلى حد أنه تخلى عن التفكير في أي عمل كنسي.

وبعد الحصول على الدرجة الجامعية أصبح كبلر مدرسا في ستيريا، يعلم اللاتينية والبلاغة والرياضيات مقابل 150 جلدن في العام، مع مسكن بالمجان، يضاف إلى هذا 20 جلدن لقاء تحرير تقويم تنجيمي سنوي. وفي سن الخامسة والعشرين تزوج كبلر من سيدة في الثالثة والعشرين، كانت قد شيعت زوجاً لها إلى مثواه الأخير، وانفصلت عن زوجٍ ثانٍ، وقدمت له هذه السيدة مهراً وأتت إليه بابنة، وأضاف هو ستة أطفال بمرور الزمن. وبعد سنة من الزواج أرغم كبلر على مغادرة جراز لأنه كان بروتستانتياً (1597)، وكان فرديناند دوق ستيريا الجديد كاثوليكياً صميماً فأصدر أمره إلى كل رجال الدين والمعلمين البروتستانت بمغادرة بلاده. وكان كبلر قد اقترف إثماً آخر بنشره "الكون الخفي" (1596) الذي دافع فيه بحرارة عن نظرية كوبرنيكس، وأرسل نسخاً منه إلى تيكو وجاليليو أملاً في عونهما.وبعد سنة عانى فيها الفقر المدقع، أنقذته دعوة تيكو إياه إلى براج. ولكن كان من الصعب التعامل مع تيكو وإرضاؤه. ولقي كبلر عنتاً في العقيدة وفي كسب العيش. وانتاب الزوجة مرض عصبي. بعد ذلك توفي تيكو، وعين كبلر خلفاً له براتب سنوي قدره 500 فلورين.

وكان تيكو براهي قد أوصى لكبلر بسجلاته، ولم يورثه آلاته. ولما لم يستطع شراء أحسن الآلات، فإنه وجد نفسه مسوقاً إلى دراسة أرصاد تيكو وملاحظاته دون أن يضيف إليها شيئاً. وما كان له أن يقول مع نيوتن "إني أخترع فروضاً" بل على العكس. امتلأ رأسه بالفروض وبات يهمهم بها، "عندي ذخيرة من المخترعات أو من ثمرات الخيال(71)". وكانت مهارته الفذة تكمن في اختبار الفروض. كما تمثلت حكمته وعقله في طرحها جانباً، إذا ثبت أن النتائج التي توصل إليها رياضياً، لا تتمشى مع الظواهر التي رصدها أولاً حظها(72). وفي محاولته لتعيين مدار المريخ جرب 70 فرضاً على مدى أربع سنوات.

وفي آخر الأمر في 1604 توصل إلى كشفه الأساسي الممتاز الذي فتح عصراً جديداً-وهو أن مدار المريخ حول الشمس عبارة عن قطع ناقص، وليس دائرة، كما ظن الفلكيون ابتداء من أفلاطون ومن جاء بعده بما فيهم كوبرنيكس. فالمدار المتخذ شكل القطع الناقص هو الوحيد الذي ينسجم مع الأرصاد المتكررة التي قام بها تيكو وغيره. وقفز ذهن كبلر المتوقد الذكاء إلى التساؤل: ماذا لو كانت مدارات كل كواكب على شكل قطع ناقص؟ وبادر إلى تفحص الفكرة على أساس الملاحظات والأرصاد المدونة، فاتفقت معها اتفاقاً يكاد يكون تاماً. وفي رسالة باللاتينية عن حركات المريخ "الفلك الجديد وحركة المريخ". (1609) نشر أول قانونين من "قوانين كبلر" أولهما: إن كل كوكب يدور في مدار على شكل قطع ناقص، الشمس إحدى بؤرتيه، والثاني أن سرعة دوران الكوكب تزيد كلما قرب من الشمس، لا كلما ابتعد عنها، وأن نصف القطر الذي يمتد من الشمس إلى الكوكب يقطع، في دورانه مسافات متساوية في أزمنة متساوية، وعزا كبلر الاختلافات في سرعة الكواكب إلى زيادة انبثاق الطاقة الشمسية التي يحسها الكوكب كلما اقترب من الشمس، ومن هذه الناحية طور كبلر عن جلبرت فكرة الجذب المغناطيسي وهي قريبة جداً من نظرية نيوتن في الجاذبية. وعند موت الإمبراطور رودلف (1612) انتقل كبلر إلى لنز، وعاد ثانية إلى العيش على التعليم في المدارس، وماتت زوجته فتزوج من بنت فقيرة يتيمة. وفيما كان يزود بيته الجديد بالخمر، افتتن بالصعوبة التي لقيها في تقدير محتويات قنينة ذات جوانب منحنية. وساعد البحث الذي نشره عن هذه المسألة على التمهيد لاكتشاف حساب التفاضل (الكميات المتناهية الصغر).

وبعد أن فكر كبلر لمدة عشر سنوات تفكيراً عميقاً في إيجاد العلاقة بين سرعة الكوكب وحجمه، نشر في كتابه "تناسق الكون" (1619) قانونه الثالث، مربع زمن دورة الكوكب حول الشمس يتناسب مع الجذر التكعيبي لمتوسط بعده عن الشمس (مثال ذلك. أن زمن دورة المريخ يمكن إثبات أنه 1.88 من زمن دورة الأرض، ومربع هذا هو 3.53 والجذر التكعيبي لهذا هو 1.52، أي أن متوسط المسافة بين المريخ والشمس يصبح 1.52 من المسافة بين الأرض والشمس. وكان كبلر أن يبتهج أيما ابتهاج لوضعه دوران الكواكب بمثل هذا الترتيب والانتظام إلى درجة أنه شبه كل سرعة في المدار بنغمة على السلم الموسيقي، وانتهى إلى أن الحركات مجتمعة شكلت "تناغم النجوم" الذي لا تسمعه، على أية حال، إلا "روح" الشمس. ومزج كبلر عمله بالتصوف موضحاً مرة أخرى مقالة جوته الكريمة. إن عيوب الإنسان هي أخطاء زمانه، على حين أن فضائله هي من عنده. ويمكن أن نغتفر غروره حين كتب في مقدمة "تناسق الكون".

أن ما وعدت به أصدقائي في عنوان هذا الكتاب... وما أثرته منذ 16 عاماً كموضوع يستحق البحث. وهو الذي من أجله انضممت إلى تيكوبراهي... وهو الذي خصصت له أحسن سني حياتي.... قد أخرجته اليوم إلى النور... لم تمضِ بعد ثمانية عشر شهراً حين سقطت الشمس المشرقة على ... لن يعوقني شيء، سوف أطلق العنان لثورتي المقدسة... إذا غفرتم لي فلسوف أبتهج.. ولئن غضبتم فلسوف أحتمل غضبكم... سبق السيف العذل. لقد وضع الكتاب، وليس يهمني كثيراً أن يقرأ الآن، أو أن تقرأه الذراري والأعقاب، ولم لا ينتظر قرناً ليجد قارئاً، كما انتظر "الله" الإله ستة آلاف عام حتى وجد مستكشفاً(73).

وفي "خلاصة فلك كوبرنيكس" (1618-1621) أوضح كبلر كيف أن قوانينه أيدت وشرحت وأصلحت من نظرية كوبر نيكس، فقال "لقد شهدت من أعماق نفسي بأنها صحيحة، وإني لأتأمل جمالها في ابتهاج غامر لا يكاد يصدق(74)" ووضعت الرسالة في عداد الكتب المحظورة لأنها نمت عن أن نظرية كوبرنيكس كانت قد أثبتت. ولم ينزعج كبلر، وهو البروتستانتي الورع. وعاش لفترة قصيرة في بحبوحة من العيش وسط التهليل والتصفيق. وكان بصفة فلكي الإمبراطور، ومن بريطانيا النائية دعاه جيمس الأول (1620) ليذهب إلى هناك ليزدان به البلاط الملكي ولكنه رفض الدعوة خشية أن يعاني من أن يصبح حبيساً في جزيرة(75).

وشارك كبلر أهل زمانه في الإيمان بالسحر، واتهمت أمه بممارسته. وأدعى بعض الشهود أن ماشيتهم، بل أنهم هم أنفسهم، قد انتابتهم العلل لمجرد أن "فرو كبلر" قد مستهم، وأقسمت إحدى المشهدات على أن ابنتها البالغة من العمر 8 سنوات قد أصابها سحر أم كبلر بالمرض، وهددت بقتل الساحرة إذا لم تبادر بإبراء البنت. وأنكرت المرأة المتهمة كل ما نسب إليها، ولكن قبض عليها وأودعت السجن مكبلة في الأغلال، ودافع عنها كبلر في كل مراحل نظر الدعوى. واقترح المدعي العام في الولاية أن ينتزع منها الاعتراف بالتعذيب، واقتيدت إلى غرفة التعذيب لترى الآلات المستخدمة فيه، ولكنها ظلت تؤكد براءتها. وأفرج عنها بعد أن قضت في السجن ثلاثة عشر شهراً.ولكنها ما لبثت أن ماتت (1622).

إن هذه المأساة بالإضافة إلى آثار نشوب الحرب هنا وهناك، ملأت سبي كبلر الأخيرة بالغم والقتام. وفي 1622 احتلت القوات الإمبراطورية مدينة لنز وقارب سكانها أن يهلكوا جوعاً. وفي وسط هذه الفوضى واصل كبلر صياغة أرصاده وملاحظاته، وأرصاد تيكو وغيره من الفلكيين وملاحظاتهم، وتدوينها في "الجداول الرودلفية" التي ضمت وصنفت 1005 نجماً، وبقيت ذات قيمة معترف بها لمدة قرن من الزمان. وفي 1626 انتقل إلى أولم. وأبطأ به راتبه الإمبراطوري ولاقى عنتاً شديداً في الإنفاق على أسرته. وأهاب بدوق والنشتين أن يعينه منجماً، فكان له ما أراد، وظل لعدة سنوات يتبع القائد يحسب له الطالع وينشر التقاويم التنجيمية. وقصد في 1632 إلى رجنز برج يلتمس من الدير أن يدفع له رواتبه المتأخرة.

واستنزفت الجهود ما بقي له من قوى جسمية، فانتابته الحمى، وأودت بحياته في أيام قلائل (15نوفمبر 1630)وهو في التاسعة والخمسين من العمر وقد طمست الحرب كل معالم قبره.

وكانت رسالته في تاريخ الفلك أن يتوسط بين كوبرنيكس ونيوتن. وتقدم على كوبرنيكس بإحلاله المدارات ذات القطع الناقص محل المدارات الدائرية، وبالتخلي عن الانحرافات وأفلاك التدوير، وفي وضعه الشمس في إحدى بؤرتي القطع الناقص، لا في مركز دائرة. وبهذه التغييرات خلص نظرية كوبرنيكس من الصعاب التي كادت تبرر رفض تيكوبراهي لها. وعن طريقة بدأت الآن فكرة القياس من مركز الشمس تلقى قبولاً وتنتشر انتشاراً واسعاً. وحول ما كان مجرد حدس براق، إلى فرضية مصوغة في تفصيل رياضي. وأمد نيوتن بقوانين الكواكب التي قادته إلى نظرية الجاذبية.وعلى حين احتفظ كبلر بعقيدته الدينية راسخة لا تتزعزع، أظهر أن الكون كيان له قانون، ونظام كامل متناغم متناسق، فيه قوانين تحكم الأرض كما تحكم هي نفسها النجوم. وهو يقول "أن كل ما أصبو إليه أن أدرك كنه الذات الإلهية.فأني أجد الله في الكون الخارجي مثلما أجده في داخلي أنا"(76).


جاليليو 1564 - 1642

الفيزيائي

ولد جاليلو جاليلي في بيزا يوم وفاة ميكلأ نجلو (18 فبراير 1564)، في نفس العام الذي ولد فيه شكسبير. وكان أبوه فلورنسياً مثقفاً أسهم في تعليمه اليونانية واللاتينية والرياضيات والموسيقى. ولم يكن من قبيل البعث أن يكون جاليليو، على وجه الدقة تقريباً، معاصراً لمنتفردي (1567-1643) لأن الموسيقى كانت من ضروب عزائه وسلواه الدائمة، وبخاصة في سني شيخوخته التي فقد فيها بصره، فعزف على الأرغن عزفاً جديراً بالإكبار والتقدير، وعزف على العود عزفاً جيداً. وأحب الرسم والتصوير، وأبدى في بعض الأحيان أسفه أنه لم يصبح فناناً. وفي إيطاليا العجيبة التي قضى فيها شبابه، ظل تيار النهضة يلفح الوجوه موحياً إلى الناس بالكمال. وحزن جاليليو لأنه لم يتيسر له أن يصمم معبداً أو ينحت تمثالاً أو يصور لوحة أو ينظم شعراً أو يؤلف موسيقى أو يقود سفينة(77)، لقد هفت نفسه إلى أن يقوم بهذا كله، وإنا لنحس حين ندقق النظر فيه أنه لم يكن يعوزه إلا الوقت. وكان يمكن تحت إي ظروف على اختلافها، أن يكون مثل هذا الإنسان رجلاً عظيماً في أية ناحية من النواحي. ونزع جاليليو في صباه ، بطبيعته أو بحكم الظروف إلى صنع الآلات والعب بها.

وأرسل وهو في السابعة عشرة إلى جامعة بيزا ليدرس الطب والفلسفة وبعد سنة واحدة أنجز كشفه العلمي الأول-وهو إن تأرجحات البندول، بصرف النظر عن اتساعها، تستغرق نفس الوقت. وبإطالة ذراع البندول أو تقصيره أمكنه أن ينقص أو يزيد من معدل ذبذبته حتى تزامنت مع نبضه، وبهذه "البلسيلوجيا" (علم النبض) استطاع أن يقيس ضربات القلب بدقة.

وحوالي هذا الوقت اكتشف إقليدس، حيث استمع مصادفة إلى معلم يدرس الهندسة لغلمان تسكانيا الأكبر، فبدا له أن منطق الرياضيات أسمى، بما لا يقاس. من الفلسفة الأسكولاستية (الفلسفة النصرانية في القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة) وفلسفة أرسطو، اللتين تلقاهما في قاعة الدرس فانصرف خفية، وفي يمناه "مبادئ" إقليدس، إلى متابعة دروس معلم الغلمان واهتم به المعلم، ولقنه الدروس سراً. وفي 1585 ترك جاليليو جامعة بيزا دون أن يحصل على درجة وانتقل إلى فلورنسة، وبتوجيه من المعلم انصرف في ولع شديد إلى الرياضيات والميكانيكا. وبعد ذلك بعام واحد اخترع ميزاناً هيدروستاتيا ليقدر الأوزان النسبية للمعادن في سبيكة وأثنى عليه وامتدحه كلافيوس الجزويتي لبحث في مركز الجاذبية في الأجسام الصلبة. وفي تلك الأثناء انحطت موارد أبيه، وكان عليه أن يواجه الالتزام بكسب قوته بنفسه فتقدم بطلبات للتدريس في بيزا وفلورنسة وبادوا، فرفضوا تعيينه لصغر سنه وفي 1589، بينما كان هو وأحد أصدقائه يسعيان للحصول على عمل في القسطنطينية وفي الشرق، نمى إلى علمه خلو كرسي الرياضيات في بيزا. فتقدم لشغله، وهو قليل الرجاء في الحصول عليه. وكان بعد في الخامسة والعشرين. وعين في هذا المنصب لمدة ثلاث سنوات براتب قدره 60 سكودي في العام. وكاد بهذا الراتب أن يتضور جوعاً، ولكنه استطاع أن يكشف عن نشاطه وجلده. لقد اشتد عوده إلى حد كبير، فبدأ لفوره، من منصة التدريس، في شن الحرب على فيزياء أرسطو. لقد قال الإغريق "بأن الحركة إلى أسفل لأية كتلة من الذهب أو الرصاص أو أي جسم آخر يهبط نتيجة تنقله، أسرع بالنسبة لحجمه(78). وذهب لكريشيس(79) وليناردو دافنشي(80) إلى هذا الرأي. وفي الأزمنة القديمة نفسها ناقش هبارخس (حوالي 130 ق.م) رأى أرسطو عن هبوط الأجسام بفعل الثقل. وذهب يؤانس فيليبونس (533) وهو يعلق على أرسطو "إلى أن الفرق الزمني بين سقوط جسمين وزن أحدهما ضعف وزن الآخر"، هو لا شيء البتة، أو أنه فرق ضئيل جداً لا يمكن(81) إدراكه وهنا نأتي إلى قصة مشهورة، ولو أنها محل نزاع، وردت أولاً في سيرة حياة جاليليو، التي كتبها صديقه فنشنزو فيفياني في 1654 (بعد 12 عاماً من وفاة جاليليو)، ودعياً أنها مستقاة من كلام جاليليو نفسه.

ما كان أشد فزع الفلاسفة كلهم، حين أثبت جاليليو أن كثيراً جداً من النتائج التي استخلصها أرسطو، زائفة، عن طريق التجارب والبراهين الدامغة... من ذلك أن سرعة الأجسام المتحركة من مادة واحدة، ولكن مختلفة الوزن، ومتحركة في نفس الوسط لا تحتفظ بالتبادل بتناسب وزنها. كما قال أرسطو. ولكنها كلها تتحرك بنفس السرعة. مد الأعلى ذلك بتكرار التجارب من فوق برج بيزا، بحضور سائر المعلمين وكل الفلاسفة والطلبة... أنه عز مكانة كرسي التدريس وحظي بشهرة أهاجت حقد الفلاسفة منافسيه عليه حتى ثاروا ضده(82). أن جاليليو نفسه لم يذكر شيئاً عن تجربة بيزا في كتاباته الباقية. كما أنه لم يرد ذكرها فيما دونه من معاصريه في 1612 و 1641 عن تجاربهما الخاصة بهما في إسقاط أجسام مختلفة الوزن من فوق البرج المائل(83) ورفضت قصة فيفياني على أنها أسطورة من نسج بعض الباحثين في ألمانيا وأمريكا . وليس من المؤكد كذلك أن زملاءه الأساتذة في بيزا استاءوا. وترك هذه الجامعة في صيف 1592، وربما كان السبب في ذلك أنه عرض عليه مركز أعلى ومرتب أكبر، فنراه في سبتمبر أستاذاً في بادوا يدرس الهندسة الميكانيكا والفلك، وقد حول داره إلى معمل دعا إليه طليته وأصدقائه. وتجنب الزواج ولكنه اتخذت عشيقة أنجبت له ثلاثة أطفال.

ووضع جاليلو ما جمعه من أبحاث وتجارب، في كتابه "محاورات حول علمين جديدين" وذلك في أيامه الأخيرة، قبيل وفاته، ويقصد بهذين العلمين الاستاتيكا والديناميكا. وأثبت عدم قابلية المادة للفناء. وصاغ قواعد الرافعة والبكرة. وأوضح أن سرعة سقوط الأجسام سقوطاً مطلقاً تزيد بنسبة منتظمة. وقام بتجارب كثيرة على مستويات مائلة، وحاول أن يبرهن على أن أي جسم يتدحرج إلى أسفل على مستوي يمكن أن يصعد على مستوي مماثل إلى ارتفاع مماثل لسقوطه لولا الاحتكاك أو أية مقاومة أخرى. وانتهى إلى قانون القصور الذاتي (وهو أول قوانين نيوتن للحركة)-وهو أن أي جسم متحرك، يستمر بشكل غير محدود في نفس الخط وبنفس معدل الحركة، ما لم تتدخل معه قوة خارجية(84) وأثبت أن أية قذيفة تدفع في اتجاه أفقي تسقط إلى الأرض في منحنٍ قطعي مكافئ يقابل قوة الدفع وقوة الجاذبية. وحول العلامات الموسيقية إلى مسافات موجية في الهواء، وأوضح أن درجة النغم تعتمد على عدد الذبذبات التي يحدثها الوتر المعزوف في وقت محدد. وقال بأن النغمات تبدو متوافقة متآلفة إذا طرقت الذبذبات الآذان في انتظام إيقاعي(85). إن خواص المادة لا تكون إلا للمادة التي يمكن معالجتها رياضياً-التمدد، الوظيفة، الحركة الكثافة. أما الخواص الأخرى-الأصوات والطعم والرائحة والألوان وما إليها، فإنها تستقر في الشعور فقط، فإذا فنيت المخلوقات الحية انمحت هذه الصفات وأبطلت(86). وراوده الأمل في أن هذه "الصفات الثانوية" يمكن بمرور الزمن تحليلها إلى خواص طبيعية أولية للمادة والحركة. ويمكن قياسها رياضياً(87). وتلك إضافات أساسية مثمرة للعلم، عوقها عدم كفاية الآلات والأجهزة العلمية. ومن ذلك أن جاليليو استخف بعامل مقاومة الهواء في سقوط الأجسام والقذائف. ولكن ما من رجل، منذ أرشميدس، أدى للفيزياء مثلما أدى جاليليو.


الفلكي

كان جاليليو، في أخريات أيام إقامته في بادوا، يخصص جزءاً أكبر فأكبر من وقته للفلك. وفي 1596 كتب إلى كبلر (الذي يصغره بسبع سنين) رسالة يشكره فيها على كتابه "الكون الخفي" جاء فيها:-

إني لأعتبر نفسي سعيداً لأجد في شخصك زميلاً عظيماً مثلك، في بحثي عن الحقيقة... وسأعكف على قراءة كتابك تحدوني كل الرغبة في استيعاب ما فيه، لأني كنت لعدة سنوات من أنصار نظرية كوبرنيكس، ولأنه (أي الكتاب) يكشف لي عن أسباب كثيرة من الظواهر الطبيعية البالغة الإبهام والتي لا يمكن فهم كنهها في ضوء الفرضية المقبولة عامة. ودحضنا لهذه الفرضية جمعت براهين كثيرة. ولكني لا أنشرها، حيث يثنيني عن نشرها حظ أستاذنا كوبرنيكس الذي حظي لدى نفر قليل من الناس بشهرة خالدة، ولكن لقي تجريحاً واستنكاراً من كثرة لا يحصى عديدها (لأن عدد الأغبياء كبير جداً). وقد أتجاسر على نشر تأملاتي إذا كثر أمثالك(88).

وأعلن جاليليو إيمانه بنظرية كوبرنيكس في محاضرة ألقاها في بيزا 1604 وصنع في 1609 أول مقراب (تلسكوب) له، وفي 21 أغسطس عرضه على السلطات الرسمية في البندقية وإليك روايته في هذه المناسبة:-

إن كثيراً من النبلاء وأعضاء السناتو، برغم كبر سنهم، صعدوا أكثر من مرة إلى قمة أعلى كنيسة في البندقية (سان مارك) لكي يروا الأشرعة والمراكب... وهي بعيدة جداً بحيث لا بد من انقضاء ساعتين قبل رؤيتها بغير منظاري المقرب... لأن تأثير آلتي يصل إلى حد أن أي جسم على مسافة خمسين ميلاً، يظهر كبيراً كما لو كان كان على مسافة خمسة أميال فقط... إن السناتو الذي عرف كيف نهضت بخدمته لمدة سبعة عشر عاماً في بادوا... أصدر أمراً باختياري الأستاذية مدى الحياة(89).

وأدخل جاليليو على تلسكوبه من التحسينات ما جعله يكبر الأشياء ألف مرة. وذهل لما رأى من عالم جديد من النجوم التي تبلغ عشرة أمثال ما دون عنها من قبل. وشوهد أن المجموعات الآن تحتوي على عدد كبير من النجوم لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، ورئي أن "بنات أطلس" ستة وثلاثون بدلاً من سبع، وأن "كوكبة الجبار" ثمانون بدلاً من سبع وثلاثين، وظهرت "المجرة" لا كتلة سديمية، بل غابة من النجوم الكبيرة أو الصغيرة. ولم يعد القمر سطحاً أملس، بل تغضن من الجبال والأودية، ويمكن أن يفسر ضوءه في نصفه غير المواجه للشمس بأنه، بصفة جزئية، راجع إلى ضوء الشمس المنعكس من الأرض. وفي يناير 1610 اكتشف جاليليو أربعة من "الأقمار" التسعة، أو توابع المشتري. وكتب يقول: "هذه الأجسام الجديدة تدور حول نجم آخر كبير جداً، مثلما يدور حول الشمس، عطارد والزهرة، وربما غيرهما من الكواكب الأخرى المعروفة(90)" وفي يولية اكتشف دائرة زحل الذي ظنه خطأ ثلاثة نجوم. وكان نقاد كوبرنيكس قد قالوا بأنه إذا كانت الزهرة تدور حول الشمس، فلا بد أن يكون لها، مثل القمر، أوجه-أي تغييرات في النور وأشكال ظاهرية، وقالوا بأنه لا توجد أية علامة على هذه التغييرات. ولكن في ديسمبر كشف تلسكوب جاليليو عن مثل هذه الأوجه، واعتقد بأنه لا يمكن تفسيرها إلا بدوران الكوكب حول الشمس.

إننا لا نكاد نصدق، ولكن جاليليو أكد في رسالة إلى كبلر، أن أساتذة بادوا أبوا أن يؤمنوا بصحة كشوف جاليليو، بل أبوا أن يشاهدوا السموات من خلال مناظيره(91). لقد سئم الحياة في بادوا وتطلع إلى مناخ علمي أفضل في فلورنسة (التي كانت الآن تتحول من الفن إلى العلم) فأطلق على توابع المشتري اسم "سيديرا مديشيا" وهو اسم كوزيمو الثاني دوق تسكانيا الأكبر وفي مارس 1610 أهدى إلى كوزيمو رسالة باللاتينية (Sidereus Nuncius) لخص فيها كشوفه الفلكية. وفي شهر مايو كتب إلى سكرتير الدوق رسالة تلتهب بمثل الحماسة والزهو اللذين فاضت بهما رسالة ليوناردو إلى دوق ميلان في 1482. وعدد فيها الموضوعات التي كان يدرسها، والكتب التي يأمل أن يدون فيها ما انتهى إليه من نتائج، وتسائل هل في مقدوره أن يحصل له من سيده على وظيفة تتطلب أقل الوقت للتدريس وأكثر الوقت للبحث. وفي يونية عينه كوزيمو "كبير الرياضيين في جامعة بيزا، وكبير الرياضيين والفلاسفة لدى الدوق الأكبر"، براتب سنوي قدره ألف فلورين، دون التزام بالقيام بالتدريس. وفي سبتمبر انتقل جاليليو إلى فلورنسة، دون أن يصطحب معه خليلته.

وكان قد أصر على لقب الفيلسوف ولقب الرياضي على السواء، لأنه أراد أن يؤثر في الفلسفة والرياضيات كلتيهما. وأحس، كما أحس راموس وبرونو وتلزيو وغيرهم من قبل، وكما كان يدلل بيكون في نفس هذا العقد من السنين. على أن الفلسفة (التي فهمها على أنها دراسة وتفسير في جميع مظاهرها) قد ارتمت في أحضان أرسطو، وأنه قد حان الوقت للتحرر من الأربعين مجلداً اليونانية، وللنظر إلى العالم بمقولات أكثر انطلاقاً وعيون وعقول مفتوحة. أنه يمكن القول بأنه وثق بالعقل ثقة كبيرة. "إني لكي أثبت لخصومي صحة النتائج التي انتهيت إليها، اضطررت إلى أن أثبتها بتجارب كثيرة مختلفة. ولو أني أنا وحدي لم أحس قط بأنه من الضروري أن أقوم بتجارب كثيرة(92).

وكان فيه من الغرور وروح المشاكسة ما يتسم به المبتكرون المجددون، ولو أنه تحدث أحياناُ في تواضع حكيم، "ما قابلت قط يوماً رجلاً جاهلاً إلا تعلمت منه شيئاً(93)". وكان مجادلاً عنيداً بارعاً في طعن غريمه بعبارة، أو سلقه بألسنة حداد. وعلى هامش كتاب للجزويتي أنطونيو روتشو يدافع فيه عن فلك بطليموس، كتب جاليليو: "جاهل، فيل، أحمق، غبي، خصي(94)".

ولكن هذا كان بعد انضمام الجزويت إلى اتهامه. وقبل اصطدامه بحكمة التفتيش كان له أصدقاء كثيرون في "جماعة يسوع" وعمد كريستوفر كلافيوس إلى إثبات ملاحظات جاليليو بملاحظاته هو نفسه. وأطنب جزويتي آخر في مدح جاليليو على أنه أعظم الفلكيين في ذاك العصر. وثمة لجنة من الباحثين الجزويت، عينها الكردينال بللارمين لفحص كشوف جاليليو.

فكتب تقريراً أيدت فيه كل النقاط(95). وعندما قصد إلى روما في 1611 أكرم الجزويت وفادته على أنه "زميل روماني" لهم. وكتب يقول: "أقمت مع الآباء اليسوعيين وكانوا قد تحققوا من الوجود الفصلي للكواكب الجديدة، ظلوا يوالون ارصادها لمدة شهرين، وقارنا ملاحظاتنا وأرصادنا فوجدناها متفقة كل الاتفاق(96)" ورحب به كبار رجال الكنيسة، وأكد له البابا بول الخامس شعوره الطيب الذي لا يتغير نحوه ورضاه نعه(97). وفي إبريل عرض على المطارنة والأساقفة ورجال العلم في روما نتائج أرصاده التي كشفت عن وجود البقع الشمسية الني فسرها هو بأنها سُحب. ومن الواضح أن جاليليو كان يجهل أن يوهان فابريكيوس كان قد أعلن بالفعل عن كشفها في بحثه "البقع الشمسية" (ويتنبرج 1611)، واستبق جاليليو فيما استخلصه من أن "دورية" البقع تدل على دوران الشمس، وفي 1615 وجه كريستوف شينر أستاذ الرياضيات الجزويتي في أنجلوستاد، إلى ماركوس ولزر كبير القضاة في أوجزبرج، ثلاث رسائل زعم فيها أنه كشف البقع الشمسية في إبريل 1611. فلما عاد جاليليو إلى فلورنسة تلقى من ولزر نسخة من رسائل شينر، وناقشها في بحث له "ثلاث رسائل عن البقع الشمسية" نشرته أكاديمية دي لنسي في روما 1613، وزعم أنه رصد البقع في 1610، وعرضها على الأصدقاء في بادوا. وفي ملحمة ادعاء السبق إلى كشف البقع تخلخلت أواصر الصداقة بين جاليليو والجزويت.

واقتناعاً من جاليليو بأنه يمكن تفسير كشوفه على أساس من نظرية كوبرنيكس، شرع يتحدث عن النظرية على أنها قد تم إثبات صحتها. ولم يكن لدى الفلكيين اليسوعيين أي اعتراض على اعتبارها مجرد فرضية. وأرسل شينر اعتراضاته على آراء كوبرنيكس مع رسالة يستميله ويسترضيه فيها: "إذا أردت أن تتقدم بحجج مضادة فإنها لن تسئ إلينا في شيء، بل على النقيض من ذلك، إن كل هذا سيعيننا على إظهار الحقيقة(98)". "وأحس كثير من رجال اللاهوت أن فلك كوبر نيكس كان واضحاً كل الوضوح أنه لا يتفق مع ما جاء في الكتاب المقدس. وأن الكتاب المقدس سوف يفقد قيمته وأن المسيحية نفسها سوف تتأثر إذا انتشرت آراء كوبرنيكس. ماذا يمكن أن يصيب العقيدة المسيحية الأساسية إذا كان الله سبحانه وتعلى قد اختار كوكب الأرض مقراً (كرسياً) دنيوياً له-هذه الأرض التي يريدون اليوم أن يجردونها من مكانتها السامية ومنزلتها الرفيعة، وتوضع طليقة بين كواكب أكبر منها مرات كثيرة، وبين نجوم لا حصر لها؟"


في المحاكمة

واجه جاليليو هذه المشكلة في عناد وتشدد. وفي 21 ديسمبر 1613 كتب إلى الأب كاستللي: "حيث أن الكتاب المقدس يتطلب تفسيراً يختلف عن المعنى المباشر للألفاظ (مثلما يحدث عند تحدثه عن غضب الله، وبغضه وتأنيبه ويديه وقدميه) فإنه يبدو لي ليس للكتاب المقدس كبير شأن في حال الجدل والمنظرات الرياضية... وأعتقد أن العمليات الطبيعية التي ندركها بالرصد الدقيق أو الملاحظة الدقيقة، أو نستنتجها بالدليل المقنع، لا يمكن دحضها أو تنفيذها بآيات من الكتاب المقدس(99). وانزعج الكاردينال بللارمين، وبعث إلى جاليليو عن طريق أصدقاء الطرفين، بعتاب قاسٍ، وكتب إلى فوسكاريني تلميذ جاليليو يقول: "يبدو لي أنه ينبغي أن أنصحكما، أنت وجاليليو، ألا تتحدثا بمثل هذه اللهجة القاطعة (عن الفلك الجديد وكأنه قد ثبتت صحته)، بل على سبيل الافتراض فحسب، وهو ما أنا مقتنع بأن كوبرنيكس نفسه قد فعل من قبل(100)".

وفي 21 ديسمبر 1614 بدأ توماسوكاتشيني، وهو واعظ دومنيكاني، اتخذ تورية بارعة من أية الإنجيل "أيها الرجال الجاليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء" (أعمال الرسل 1-11) ومضى يوضح أن نظرية كوبرنيكس تتعارض تعارضاَ تاماً لا يقبل الجدل مع الكتاب المقدس وأرسل معرضون أقل شأناً بشكاوى إلى محكمة التفتيش، وفي 20 مارس 1615 أودع كاسيني اتهاماً رسمياً ضد جليليوني المحكمة، فكتب المونسنيور ديني إلى جاليليو أنه لم يمس بسوء إذا وضع في منشوراته بعض عبارات تشير إلى أن رأي كوبرنيكس هو مجرد فرضية(101). ولكنه أبى، كما قال، لن يعدل أو يخفف من كوبرنيكس. وفي رسالة نشرت في 1615، كتب إلى دوقة تسكانيا الكبرى يقول: "بالنسبة لترتيب أجزاء الكون، أعتقد أن الشمس قائمة دون حركة في مركز دوران الأجرام السماوية . على حين أن الأرض تدور على محورها كما تدور حول الشمس(102)، ثم مضى يمعن في الهرطقة: "إن الطبيعة عنيدة ثابتة لا تتغير، ولا تتجاوز قط القوانين التي فرضت عليها. ولا تكترث في قليل ولا كثير بأن الناس لا يفهمون أسبابها ولا مناهجها العويصة المبهمة. ومن ثم فإنه يبدو أنه ليس ثمة شيء طبيعي تضعه التجربة الحسية أمام أعيننا، أو تثبته لنا البراهين الضرورية، ينبغي أن يكون محل نزاع بمقتضى نصوص الكتاب المقدس، التي قد يكون لها معنى مختلف كامن وراء الألفاظ".

على أنه وعد بالامتثال للكنيسة:

إني أعلن (ولسوف يتضح صدقي وإخلاصي) لا مجرد أني أقصد أن أستسلم حراً مختاراً وأعترف بأخطائي التي يمكن أن أقع فيها في هذا النقاش، ونتيجة الجهل بأمور تتعلق بالدين، بل إني كذلك لا أحب أن أدخل في نزاع حول هذه الأمور مع أي إنسان كان... وهدفي الوحيد هو أنه إذا وجد من بين الأخطاء التي تكثر في بحث موضوع بعيد عن اختصاصي، أي شيء يفيد الكنيسة المقدسة في اتخاذ قرار يتعلق بمنهج كوبرنيكس، فيمكن أن تأخذه وتنتفع به، كما يحلو لرؤسائها، وإلا فليمزق كتابي ويحرق. لأني لا أقصد ولا أزعم أن أجني ثماراً تجانبها التقوى والكثلكة(103). ولكنه أضاف: "أني لا أشعر بأني مضطر إلى الإيمان بأن الله الذي أمدنا بالإحساس والعقل والفكر، قصد بنا أن نضيع فرصة استخدامهما والانتفاع بها(104)

وفي 5 ديسمبر 1615 قصد إلى روما من تلقاء نفسه مزوداً برسائل ودية من الدوق الأكبر إلى ذوي النفوذ من المطارنة والأساقفة، وإلى سفير فلورنسة في الفاتيكان. وفي روما أخذ جاليليو على عاتقه أن يحول الرجال الرسميين عن رأيهم فرادى، وعرض نزرية كوبرنيكس كلما سنحت له فرصة وفي كل مناسبة، وسرعان ما بات "كل فرد في روما يبحث في النجوم"(105). وفي 16 فبراير1616 أصدرت محكمة التفتيش توجيهاتها إلى الكاردينال بللارمين بأن يستدعي من يدعى جاليليو وينذره بأن يتخلى عن آرائه المزعومة، وفي حالة امتناعه... يعلنه أمام كاتب العدل وبعض الشهود بالأمر بالإقلاع عن تدريس آراء كوبرنيكس أو الدفاع عنها، بل حتى مناقشتها، فإذا لم يذعن لهذا يودع السجن(106). وفي اليوم ذاته مثل جاليليو أمام الكاردينال بللارمين وأعلن امتثاله للأمر(107). وفي 5 مارس أصدرت المحكمة قرارها التاريخي: إن الفكرة التي تقول بأن الشمس تقف بلا حركة وسط الكون فكرة سخيفة، وهي من الناحية الفلسفية فكرة زائفة، وهي كذلك هرطقة لا جدال فيها، لأنها تناقض النصوص المقدسة.والفكرة التي تقول بأنه الأرض ليست مركز للكون بل حنى أن لها دورة يومية، زائفة من الناحية الفلسفية، وأنها على الأقل اعتقاد خاطئ(108).

وفي نفس اليوم حرمت "لجنة فهرست الكتب الممنوعة" نشر أو قراءة أي كتاب يدافع عن النظريات الممنوعة، أما بالنسبة لكتاب كوبرنيكس، (1543) فقد حظرت استخدامه حتى يتم تصويبه. وفي 1620 أباحت للكاثوليك قراءة الطبعات التي حذفت منها تسع عبارات كانت تثبت أن النظرية صحيحة.

وعاد جاليليو أدراجه إلى فلورنسة وخلا إلى الدروس في داره "بللو سجاردو"، وكف عن الجدل حتى عام 1622. وفي 1619 نشر أحد مريديه، ماريو جيدوتشي، مقالاً يجسم فيه نظرية جاليليو (المرفوضة الآن) وهي أن المذنبات عبارة عن انبثاقات في الغلاف الجوي للأرض، منتقداً بشدة آراء الجزويتي أورازيو جراسي فما كان من الحبر أو الأب الغاضب إلا أن نشر تحت اسم مستعار هجوماً على جاليليو وأشياعه. وفي 1622 أرسل جاليليو إلى المونسنيور شيزاريني في روما مخطوطة "للمحلل" يرد به على جراسي وينبذ في مجال العلم أي استشهاد أو مرجع إلا الرصد والعقل والتجربة. وبموافقة المؤلف خفف أعضاء أكاديمية لنسي بعض عبارات قليلة. وبهذه الصيغة قبل البابا أريان الثامن أن يهدى إليه، وأجاز طبعه (أكتوبر 1623) أنه ألمع تآليف جاليليو، وإحدى روائع النثر الإيطالي والقدرة والبراعة في الجدل والمناظرة. وقيل إن البابا سر به، وأن الجزويت تضايقوا منه.

وما أن ظفر جاليليو بهذا التشجيع حتى قصد ثانية إلى روما (أول إبريل 1624) أملاً في تحويل البابا الجديد إلى الإيمان بآراء كوبرينكس. وتلقاه أربان بالود والترحاب-واستقبله ست مرات في لقاءات طويلة، وأغدق عليه الهدايا. واستمع إلى حجج كوبرنيكس، ولكنه أبى أن يرفع حظر المحكمة. وقفل جاليليو راجعاً إلى فلورنسة، يعزيه تصريح أربان للدوق الأكبر: "لقد غمرنا بعطفه الأبوي لوقت طويل هذا الرجل العظيم الذي تتألق شهرته في السماء كما تملأ الأرض(109). وفي 1626 شد من عزم جاليليو تعيين تلميذه بنديتو كاتسللي رياضياً للكرسي البابوي، وتلميذ آخر هو الأب نيقولا ريتشاردي كبير مراقبي المطبوعات، فسارع الآن لاستكمال مؤلفه الأساسي، وهو عرض لمنهج كوبرنيكس والمنهج المعارض له. وفي مايو حمل المخطوطة إلى روما، وعرضها على البابا، وحصل على ترخيص من الكنيسة بنشرها، شريطة معالجة الموضوع على أنه فريضة وعاد إلى فلورنسة حيث راجع الكتاب وأصدره في فبراير 1632 تحت عنوان طويل "محاورة جاليلي جاليليو... حيث أنه في اجتماعات دامت أربعة أيام، نوقش فيها المنهجان الرئيسيان في العالم: منهج بطليموس ومنهج كوبرنيكس. مع عرض دون تحيز ولا تجديد، للحجج الفلسفية والطبيعية للمنهجين كليهما".

وربما جلب الكتاب على مؤلفه بلايا أقل، وكسب له شهرة، لولا بدايته وخاتمته. تقول المقدمة: "إلى القارئ البصير الفطن":

منذ عدة سنوات نشر في روما مرسوم بابوي مفيد، قضى-تجنباً للنزاعات الخطيرة في عصرنا الحاضر-بفرض نطاق من الصمت المعقول على الرأي الذي نادى فيه فيثاغورس. والذي يقول بأن الأرض تدور. ومن الناس من ذكر في وقح وصفاقة-أن هذا المرسوم لم ينبع من تحريات وتدقيقات تتسم بالحكمة وحسن التمييز، بل عن هوى ينم عن قلة الدراية والمعرفة، وتعالت الشكاوى بأنه يجدر ألا يتاح للمستشارين الذين ليس لديهم أية دراية بالأرصاد الفلكية فرصة التضييق على ذوي العقول المفكرة المتأملة عن طريق قوانين الحظر المتهورة الطائشة(110).

والحق أن في هذا إشارة للقارئ بأن صيغة الحوار تتسم بالمراوغة تملصاً من محكمة التفتيش. وكان في الحوار شخصيتان هما سلفياتي وساجريدو، وهذان اسمان لاثنين من أصدق أصدقاء جاليليو، وهما يدافعان عن منهج كوبرنيكس، وشخصية ثالثة-سمبلشيو، يدحضه، ولكن في مغالطة صريحة واضحة، وقرب نهاية الكتاب أورد جاليليو على لسان سمبلشيو عبارة، كان أزرامان الثامن قد أصر على إضافتها. وهي بالحرف الواحد تقريباً: "إن الله هو القوي وهو على كل شيء قدير، ومن ثم لا يجوز أن نقدم المد والجزر دليلاً ضرورياً على حركتي الأرض لأننا بذلك نحد من سعة علم الله وقدرته" وعلى هذه العبارة يلعق سلفياتي تعليقاً ساخراً فيقول: "أنها وأيم الحق حجة إنجيلية ممتازة"(111).

أن الجزويت اللذين تناولت "المحاورات" كثيراً منهم في لهجة قاسية (جاء فيها أن أفكار شينر عقيمة تافهة)، وأوضحوا للبابا أن عبارته سالفة الذكر أوردت على لسان شخصية أبرزها الكتاب ساذجة غافلة، فعين أريان لجنة لفحص الكتاب، وقررت اللجنة أن جاليليو لم يتناول نظرية كوبرنيكس على أنها فريضة، بل على أنها حقيقة، وأنه حصل على الترخيص بنشر الكتاب نتيجة لتحريفات وتشويهات بارعة، وأضاف الجزويت إلى ذلك، عن حكمة وبصيرة، أن نظريات كوبرنيكس وجاليليو أشد خطراً على الكنيسة من هرطقات لوثر وكلفن. وفي أغسطس 1632 حظرت المحكمة الاستمرار في بيع كتاب "المحاورات" وأمرا بمصادرة النسخ الباقية. وفي 23 ديسمبر دعت جاليليو للمثول أمام مندوب الحكومة في روما. وتوسل أصدقاؤه إلى ألي الأمر أن تشفع له لديهم سقامه وشيخوخته (68 عاماً)، ولكن على غير طائل. وبعثت ابنته إليه وكانت وقتئذ راهبة متحمسة بخطابات مؤثرة ترجوه فيها أن يمتثل للكنيسة، كما نصحه الدوق الأكبر أن يذعن، وزوده بمحفة الدوق الأكبر، ودبر مع سفير فلورنسة أمر إقامته في السفارة. ووصل جاليليو إلى رومة في 13 فبراير 1633.

وانقضَ شهران قبل أن تدعوه محكمة التفتيش إلى المثول أمامها (12 أبريل) واتهم بنقض عهده بالالتزام بقرار 26 فبراير 1631، وحثوه على الاعتراف بذنبه، فرفض محتجاً بأنه لم يقدم آراء كوبرنيكس إلا على أنها مجرد فرضية، وظل سجيناً في قصر المحكمة حتى 30 إبريل، وهناك انتابه المرض، ولم يعذبوه، ولكنهم ربما أشاعوا في نفسه الخوف من التعذيب. وفي مثوله الثاني أمام اللجنة اعترف في ذلة وخشوع أنه أورد آراء كوبرنيكس بشكل أكثر انحيازاً إليه منه ضده، وعرض أن يصحح هذا في "حوار" يلحق بالأول. فرخصوا له بالعودة إلى دار السفير. وفي 10 مايو أعادوا التحقيق معه، وعرض أن يكفر عن خطيئته، وتوسل إليهم أن يرحموا شيخوخته واعتلال صحته. وفي التحقيق معه للمرة الرابعة (21 يونية) أكد أنه بعد قرار 6116 "لم يعد يخامرني أي شك، وآمنت، ولا زلت أؤمن، برأس بطليموس-أن الأرض لا تدور، وأن الشمس هي التي تدور-على أنه حق كل الحث، ولا يقبل الجدل"(112)، فاعترضت المحكمة بأن معارضات جاليليو أوضحت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه يقرأ آراء كوبرنيكس، وأصر هو على أنه كان ضد هذه الآراء منذ 1616. وظل البابا على اتصال بالتحقيق، ولو أنه لم يشهده بشخصه. وكان جاليليو يأمل بأن يمد له أريان الثامن يد العون، ولكن البابا رفض التدخل. وفي 22 يونيه أصدرت المحكمة قرارها بإدانته بالهرطقة والتمرد والعصيان. وعرضت عليه الغفران شريطة تأدية القسم علناً أمام الجمهور بالتخلي عن آرائه، وحكمت عليه "بالسجن في هذه المحكمة لمدة تحددها هي وفق مشيئتها" ورأت للتكفير عن ذنبه أن يتلو مزامير الكفارة السبعة كل يوم طيلة السنوات الثلاث التالية، وجعلوه يجثو ويبرأ من نظرية كوبرنيكس، ويضيف:


بلقب مخلص، وإيمان صادق، ألعن أبغض وأعلن التخلي



عن الأخطاء والهرطقة المنسوبة إليَّ، وبصفة عامة، عن



أي خطأ وهرطقة أخرى أخاف فيها... الكنيسة المقدسة.



وأقسم أني لن أذكر بعد اليوم أي شيء قد يثير مثل هذا الريب



حولي، وأني إذا عرفت أي هرطيق أو أي شخص مشتبه



في أنه هرطيق فلا بد أن أبلغ عنه هذه المحكمة.... وأدعو



الله أن يمنحني العون، وأرجو أن تساعدني هذه الكتب المقدسة



التي أضع يدي عليها(113).


ووقع على الحكم سبعة من الكرادلة، ولكن البابا لم يصدق عليه(114). أما قصة أنه عند مغادرته قاعة المحاكمة غمغم متحدياً "ومع ذلك فهي تدور فعلاً". فإنها أسطورة لم يظهر لها أثر قبل 1761(115). وبعد قضاء ثلاثة أيام في سجن محكمة التفتيش، سمح له، بأمر من البابا، بالذهاب إلى قصر الدوق الأكبر في ترنيتا مونتي في روما. ثم نقل بعد أسبوع إلى مسكن مريح في قصر تلميذه السابق، رئيس الأساقفة أسكانيو بتشولوميني في سيينا. وفي ديسمبر 1633. سمح له بالانتقال إلى داره الخاصة بالقرب من فلورنسة أنه من الناحية العلمية كان لا يزال سجيناً، محظوراً عليه مغادرة مسكنه، ولكنه كان حراً في مواصلة دراساته، وتعليم تلاميذه، وتأليف كتبه واستقبال زائريه-وهنا زاره ملتون في 1638. وجاءت ابنته الراهبة لتقيم معه. واحتملت هي نفسها عقوبة تلاوة المزامير السبعة.


الشيخ الجليل

واضح أن جاليليو كان الآن رجلاً متهدماً مغلوباً على أمره، أذلته كنيسة أحست بأنها وصية على بني البشر وآمالهم وأخلاقهم، أن تخليه عن آرائه بعد قضاء عدة شهور في السجن، وعدة أيام في المسائلة والمحاكمة، مما كان من الجائز أن يحطم عقل مكافح شاب كما يحطم إرادته، نقول أن هذا التخلي كان أمراً يمكن التجاوز عنه لدى شيخ هرم علق بذاكرته إحراق برونو قبل ذلك بثلاثة وثلاثين عاماً ولكنه في الواقع لم يهزم فقد انتشر كتابه في كل أنحاء أوربا في أكثر من عشر لغات ترجم إليها. ولم يمحَ أثره. وخفف من أحزانه وآلامه في سيينا وفي أرستري اشتغاله بتخليص أبحاثه الفيزيائية في مؤلف ضخم آخر: "محاورات... حول علمين جديدين". ولما كانت أبواب المطبعة الإيطالية موصدة دونه بمقتضى الحكم الذي صدر ضده، فإنه أجرى مفاوضات سرية مع طابعين أجانب، وانتهى الأمر بأن مطبعة الزفير أصدرت الكتاب في ليدن 1628. وهللت له دنيا العلماء على أنه سما بعلم الميكانيكا إلى مستوى لم يبلغه من قبل. وبعد صدوره، كعف جاليليو على إعداد محاورات إضافية درس فيها ميكانيكا القذف أو الإطلاق، وأشار إلى ما جاء به نيوتن فيما بعد في قانونه الثاني عن الحركة. ويقول أول مؤرخي سيرة جاليليو: "في أخريات أيام حياته، وفيما كان يعاني كثيراً من اعتلال صحته، كان عقله مشغولاً دوماً بالمسائل الميكانيكية والرياضية(116)، وفي 1637 وقبيل أن يفقد بصره، أعلن عن آخر كشوفه الفلكية، نودان أوميسان القمر-تغيرات جانبه المواجه للأرض دائماً. وفي 1641، وقبل وفاته ببضعة شهور قلائل، شرح لابنه طريقة صنع ساعات ذات البندول.

إن اللوحة التي رسمها له سوسترمان في أرستري (والموجودة الآن في قاعة بيتي) هي العبقرية مجسمة: جبهة عريضة، وشفتان مشكستان مولعتان بالجدل والمناظرة، وـنف دقيق، وعينان حادتان، ونافذتان، وهذا وجه من أكرم الوجوه في التاريخ. وفقد الشيخ الجليل بصره في 1638. وربما كان التحديق المجهد سبب ذلك، وكان يجد شيئاً من العزاء في اعتقاده بأن أحداً من بني الإنسان من عهد آدم، لم يرَ أكثر مما رأى هو، فهو يقول: "إن هذا الكون الذي وسعت فيه وكبرته ألف مرة، تقلص الآن وانحصر في نطاق جسمي الضيق، هكذا أراد الله، ولا بد أن أريد هذا أنا أيضاً(117). وفي 1639 حين كان يعاني من الأرق ومن مائة من الآلام الأخرى رخصت له محكمة التفتيش في زيارة فلورنسة، تحت مراقبة دقيقة، ليرى أحد الأطباء ويحضر القداس. فلما عاد إلى أستري، أملى على فيفياني وتورشللي، وعزف على العود حتى فقد سمعه كذلك. وفي 8 يناير 1642، وكان قد قارب السابعة بعد الثمانين، فاضت روحه بين أيدي حوارييه.

وأطلق عليه جروتيوس "أعظم عقل في كل العصور"(118). وثمة شيء من القصور في العقل والخلق بطبيعة الحال. فأخطأوه-الغرور والزهو والانفعال والخيلاء-إن هي ببساطة إلا عشرات مناقبه أو ثمنها: الثبات الشجاعة، والأصالة. ولم يعترف بأهمية حسابات كبلر في مدارات الكواكب وكان يتراخى في الاعتراف بقيمة أعمال معاصريه، وقلما تحقق، كم من كشوفه في الميكانيكا كانت قد أنجزت قبله. لقد أجرى بعضها رجل آخر من فلورنسة إسمه ليوناردو. ولكن الآراء التي عوقب من أجلها ليست هي بالضبط ما يعتنقه الفلكيون اليوم، ومثله مثل معظم الشهداء تحمل أن يكون الصواب خطأ-ولكنه لم يكن على خطأ في إحساسه بأنه خلق في الديناميكا علماً كاملاً، وأنه وسع العقل البشري وزاد من قدرة الناس على رؤية الأشياء وفقاً لعلاقاتها الصحيحة وأهميتها النسبية، بفضل إبرازه، بمقياس أكبر كثيراً عن ذي قبل، أن الكون واسع سعة رهيبة. وشارك كبلر شرف تقبل الناس لآراء كوبرنيكس، كما شارك نيوتن شرف إظهار أن السماء نفسها تفصح عن عظمة القانون. ثم أنه، بوصفه من أفاضل أبناء عصره النهضة، مكتب أحسن نثر إيطالي في زمانه.

وانتشر أثره حتى عم كل أوربا. إن إدانته هي التي رفعت مكانة العلم في البلاد الشمالية، على حين حطت من قيمته لفترة قصيرة في إيطاليا وأسبانيا وليس معنى هذا أن محكمة التفتيش حطمت وقضت على العلم في إيطاليا، فإن توشللي وكاسيني وبورللي وربدي وماليجي ومورجاني حملوا المشعل إلى فولتا وجلفاني وماركوني، ولكن العلماء الإيطاليين الذين علقت بأذهانهم قصة جاليليو اجتنبوا التورطات الفلسفية في العلم. وبعد إعدام برونو حرقاً وبعد تخويف ديكارت وتهديده بمصير جاليليو، باتت الفلسفة في أوربا احتكاراً بروتستانتياً.

وفي 1835 حذفت الكنيسة مؤلفات جاليليو من قائمة الكتب المحظورة وانتصر الرجل المحطم المقهور على أقوى النظم في التاريخ.