قصة الحضارة - ول ديورانت - م 7 ك 2 ف 9

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 9684

قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على السلطة -> إيطاليا الأم الخيرة -> الحذاء السحري

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الثاني: صراع العقائد على السلطة 1556 - 1648

الفصل التاسع: إيطاليا الأم الخيرة 1564- 1648

1- الحذاء السحري

بعد أن هدأ عنف المعركة التي خاضتها إيطاليا في ميدان النهضة والاصلاح البروتستنتي، راحت تستكين إلى حكم الأسبان استكانة يزعجها الفقراء، ويواسيها الدين، ويضفي عليها السلام بريقا خداعا. كانت معاهدة كانو- كامبريزي (1959) قد خلعت دوقية سافوا على إيمانويل فيليبرت، أما جنوا ولوكا والبندقية وسان مارينو فقد مد في أجلها فبقيت جمهوريات مستقلة. وأما مانتوا فظلت خاضعة لأمراء جونزاجا، وفيرارا لأمراء استنزي، وبارما فارنيزي. وحكمت اسرة مديتشي توسكانيا- فلورنسة وبيزا وأريتزو وسيينا- ولكن موانيها كانت تحت سيطرة أسبانيا. وحكمت أسبانيا عن طريق نواب ملكها دوقية ميلان ومملكة نابلي التي كانت تضم صقلية وكل إيطاليا جنوب الدويلات البابوية. وحكم هذه الدويلات، التي اخترقت وسط شبه الجزيرة من البحر المتوسط إلى الأدرياني، بابوات تحدق بهم القوة الأسبانية.

على أن هذه القوة لم تكن عدوانية عسكريا، فهي لم تتدخل في الشئون الداخلية للدويلات، اللهم إلا ميلان ونابلي، ولكن عزوفها عن التجارة وخوفها من الفكر الحر ألقيا حجابا كثيفا على الحياة الإيطالية. وكان من أثر استيلاء أمم الأطلنطي على تجارة الشرق وأمريكا ان انتقلت إليها تلك الثروة التي كانت من قبل تتفق على حركة النهضة، فأصبحت الآن تغذي الازدهار الثقافي الذي بدأ في أسبانيا وإنجلترا والأراضي المنخفضة. وعانت إيطاليا فوق ذلك من اضمحلال الموارد البابوية نتيجة لحركة الاصلاح البروتستنتي. وكان الفلاحون الصابرون يكدحون ويصلون، والرهبان اللذين يفوقون الحصر يتعبدون، أما التجار ففقدوا الجاه والثروة، وأما النبلاء فضيعوا الحياة جريا وراء الألقاب وتعلقا بمظاهر البذخ والترف.

ومع ذلك أنجبت إيطاليا وسط هذا الانهيار السياسي جاليليو أعظم العلماء في جيله، ووهبت العالم فلسفة برونو الجريئة البعيدة النظرة، وهبته برنيني أعظم مثالي العصر، ومونتيفردي أكثر مؤلفيه الموسيقيين أثرا، ووهبته أشجع مبعوثيه الدينيين، وواحدا من أعظم الشعراء الإيطاليين هو تاسو، كذلك وهبته- في بولونيا ونابلي وروما- مذاهب في التصوير لا ضريب لها إلا في الأراضي المنخفضة الوافرة الثراء. وهكذا ظل لواء الثقافة معقوداً لإيطاليا.


أ- في سفوح الألب

يطيب لنا ان نجوس من جديد خلال تلك الحديقة وقاعة الفن المسماة إيطاليا، ولو بالفكر والقلم، وأن نمر بها ولو مرور الكرام. فأما تورين فقد غدت عاصمة كبيرة تحت حكم كفء على رأسه ايمتنويل فيليبرت، وبفضل تشجيع زوجته مرجريت الأميرة الفرنسية السافواوية للأدب والفن. وأما ميلان فظلت محتفظة بأبهتها على الرغم من خضوعها لأسبانيا. قال ايفلين عام 1643 في وصفها: "انها من افخم مدن اوربا، ففيها 100 كنيسة، و 71 ديرا، 40.000 من السكان. فيها القصور الباذخة، وفيها الفنانون النادرون(1)" وبعد أن دمرت النار داخل باسيلقا سان لورنزو ماجيوري (1573) عهد كارلو بوروميو، مطران ميلان الورع، إلى مارتينو باسي ببناء داخلها وفق الطراز البيزنطي الرائع الذي بنيت به كنيسة سان فيتالي في رافنا. وبنى الكردينال فيديريجو بوروميو، وهو ابن أخي كارلو، قصر أمبروز (1609)، وشيد فيه مكتبة أمبروز الشهيرة. أما قصر بريرا، الذي بدئ تشييده عام 1615 ليضم كلية لليسوعيين، فقد أصبح منذ عام 1776 مقرا لأكاديمية الفنون الجميلة، ومنذ عام 1809 لقاعة بريرا الذائعة الصيت، التي أصابتها الحرب العالمية الثانية بأضرار بالغة، ولكنها رممت الآن ترميما جميلا، وفيها نجد الكثير من آثار أرتي بروكاتشيني وكرسبي، وهما الأسرتان اللتان غلب تأثيرهما على التصوير الميلاني في العصر الذي نتناوله.

وأما جنوه "الهادئة جداً"، فما زالت من تلالها المرصعة بالقصور تختال فوق بحر متوسط انتشرت فوق أمواجه المراكب الجنوية. حقاً لقد فقدت هذه الجمهورية التاجرة أملاكها الشرقية التي استولى عليها الترك، وانتقلت بعض تجارتها مع دول الشرق إلى دول الأطلنطي، ولكن التل الكبير الذي تقوم فوقه قيض لها ميناء ممتازا ظلت بفضله، ومازالت إلى اليوم، أهم الثغور الإيطالية، هنا أشاد أمراء التجارة أو ملوك المال طائفة من أعظم بيوت إيطاليا ترفا. وفي رأي ايفلين أن "الشارع الجديد" الذي صممه روبنز وازدان بقصور من الرخام المصقول "يزري باي نظير له في أوربا". وقد صمم جالياتزو وأليسي وتلاميذه الكثير من هذه القصور الفاخرة التي اشتهرت بما حوت من قاعات فن، وسلالم فخمة، وجدران زينت باللوحات او الرسوم الجصية، واثاث مترف- "موائد واسرة كاملة من الفضة الثقيلة"، ولا عجب فقد حذق أقطاب المال الجنويون تحويل عرق الشعب إلى ذهب. وفي عام 1587 بنى "جاكومو ديللا بورتا" باسليقا "البشارة المقدسة" التي كانت أعمدتها المحززة، ومنبرها البديع، وقوسها المزخرف، مفخرة الاتقياء من أهل جنوه. على أن هذه الكنيسة وكثيرا غبرها من كنائس نوه وقصورها لحقها دمار كثير في الحرب العالمية الثانية.

وأما فلورنسة فقد ظلت، حتى إلى عهد فازاري، تلقب بأثينة إيطاليا، إذ تميزت بخصوبتها سواء في الادب أو الدرس او العلم أو الفن. لقد زكا فيها كل شئ إلا العفة، ففي عهد الدوق الكبير فرانتشسكو الاول (1574- 87) انحدرت اسرة مديتشي العظيمة إلى حمأة الفجور والدعارة. ثم تخلى الكردينال فرديناندو مديتشي عن وظيفته الكهنوتية وأصبح "الدوق الكبي فرديناند الأول"، فأتاح بذلك لتوسكانيا طوال اثنين وعشرين عاما (1587- 1609) عهدا من العدل والاستنارة، ووسع تجارتها إذ جعل ليفورنو (ليجهورن) ثغراَ حراً مفتوحاً لكل التجار من كل الأديان، وأصلح بالقدوة الفاضلة أخلاق شعبه. أما خلفاه كوزيمو الثاني وفرديناند الثاني لهما فضل إعالة جاليلو بالمال. ونقش بارتولوميو أماناتي نافورة نبتون الكبرى لميدان "السنيوريا"بفلورنسةن وصمم قصر دوكالي بلوكا. وفي عام 1583 اكمل جوفاني دابولونيا "اغتصاب السابين"، وهو التمثال القائم في "لوجا (قاعة) دي لانزي"، وصب تمثال هنري الرابع الذي اهداه كوزيمو الثاني إلى ماري مديتشي ليزين "اليون نوف" في باريس. وواصل اليساندو أللوري وابنه كريستوفانو التقليد الذي درج عليه التصوير الفلورنسي من خيال جامح في التلوين، في شئ من التخفيف، واشرف بيترو داكوتونا على الكمال في رسومه الجصية التي زين بها سقوف قصر بيتي ليصور مناقب الدوق كوزيمو الأول.

وأما بارما فقد كان يحطمها في هذه الفترة دوق مشهور يدعى اليساندرو فارنيزي، ولكن بلغ انشغاله بقيادة الجيوش الاسبانية في الاراضي المنخفضة حدا لم يتح له أن يتربع على عرشه قط. وفي عهد ابنه رانوتشو ذاع صيت جامعة بارما في أرجاء أوربا، وبنى أليوتي (1618) مسرح فارنيزي الذي اتسع لسبعة آلاف متفرج في مدرج نصف دائري لا يضارعه في إيطاليا سوى المسرح الاولمبي الذي بناه استاذه باللاديو.

واما مانتوا فقد دخلت عهدا من الرخاء اعاد إلى الأذهان ذكرى أيام ايزابللا ديستي المجيدة. فبفضل صناعة النسيج أقبل الناس على شراء القماش المانتوي، حتى في إنجلترا وفرنسا المنافستين. وظل ببيت جونزاجو الذي حكم هذه الدوقية منذ عام 1328 ينجب الأكفاء من الرجال. ففي الدوق فنشتزو الاول تمثلت من جديد فضائل امرأة النهضة: رجل حلو الصورة لطيف المعشر، يرعى روبنز المحظوظ وتاسو التعس على السواء؛ يجمع الآثار القديمة، والتحف الصينية، والآلات الموسيقية، والنسيج المرسوم الفلمنكي، وأزهار الطوليب الهولندية، والنساء الجميلات؛ يهوى الشعر والقمار، مقاتل باسل ورجل دولة جرئ، ولكنه ينهك نفسه بالفجور والحرب، ويموت غير متجاوز الخمسين (عام 1612). ثم يخلفه ثلاثة أبناء على التوالي، وآخرهم وهو فنشنزو الثاني لم يعقب, وكان من ثر تنافس فرنسا والنمسا واسبانيا على تعيين خلف له والتحكم في هذا الحلف أن غدت الدوقية مسرحا عاجزا لحرب الوراثة المانتوية (1628- 31) وكانت حربا ضروسا أوشكت أن تمحو مانتوا من سجل التاريخ.

واما يرونا فقد تكاسلت ثقافيا خلال هذه الحقبة واعتمدت على تراث النهضة. ففي فيتشنزا كانت واجهات باللاديو الكلاسيكية تحدد الطراز الذي اتبعه كرستوفر رن فيما بعد. وقد أكمل فنشنزو سكاموتزي مسرح باللاديو الأولمبي، ثم صمم قصر تريسينو- بارتون. وأصبح سكاموتزي همزة الوصل بين الكلاسيكية وفن الباروك بفضل ولعه بالزخرف، وهو ولع لم يستطع باللاديو كبحه في فنه.


ب- البندقية

كان اضمحلال ملكة الأدرياتي، كاضمحلال روما القديمة، طويلا بهيا. انها تفقد تجارتها البحرية مع الهند لتستولي عليها البرتغال، وعما قليل ستشعر بمنافسة الهولنديين لها. لقد تحملت وطأة توسع الاتراك بحرا، وكانت بحريتها وقوادها عاملين رئيسيين في الانتصار عليهم في ليبانتو (1571)، ولكنها تخلت عن قبرص بعدها بشهور، ومن ثم غدت تجارتها مع بحر المشرق مرهونة برضى الأتراك وشروطهم. ولقد كافحت ببسالة لتواجه تحدي الزمن المتغير، فاستطاعت باتصالها بالقوافل القادمة من وسط آسيا عند حلب ان تعوض بعض التعويض ما خسرته من تجارتها البحرية من الشرق. وظلت سفنها تسيطر على الأدرياتي، وشاركت في أرباح تجارة الرقيق التي اصبحت الآن تسئ إلى سمعة البرتغال واسبانيا وإنجلترا، أما أملاكها في البر- وهي فنشنزا وفيرونا وتويسته وترنت واكويلا وبادوا- فقد أثرت وكثر سكانها، وأما صناعتها فقد واصلت تفوقها في الزجاج والحرير والمخرمات والطرف الفني المترفة. كذلك كان لمصرفها المسمى "بانكو دي ريالتو" والذي أنشأته عام 1587 بعد أن اخفق كثير من المصارف الخاصة، الفضل في دهم البنادقة بقوة الدولة، وكان المثال الذي احتذته بلاد أخرى في إنشاء مؤسسات مماثلة في نورمبرج وهمبورج وامستردام. وقد تعجب الرحالة من جمال عمارتها، وفتنة نسائها، ونظافة شوارعها، وثبات حكومتها في حزم وإصرار.

استهدفت سياستها الخارجية فقط حفظ توازن القوى بين فرنسا وأسبانيا مخافة ان تبتلع احداهما الجمهورية التي لم تعد قوية الباس كما كانت من قبل. ومن هنا مبادرتها إلى الاعتراف بهنري الرابع ملكا على فرنسا دعما لبلد مزقته الحرب. وفي عام 1616 اشترك الدوق اوزونا، نائبملك اسبانيا في نابلي، مع السفير الاسباني في البندقية، في مؤامرة للاطاحة بمجلس شيوخها واخضاع الجمهورية لحكم أسبانيا.وبارك فيليب الثالث المشروع، ولكنه جريا على اسلوب الحكومات المهذب، أمر أوزونا بالمضي فيه "دون أن تدع أحداً يعلم أنك تنفذه بعلمي، وتظاهر بأنك تتصرف دون أوامر مني(3)". غير أن حكومة البندقية كانت تستخدم أبرع الجواسيس في أوربا، فكشفت المؤامرة، وقبض على المتآمرين المحليين، وذات صباح تعلم الناس درسا ينفعهم، إذ رأوهم يتدلون من المشانق في ميدان القديس مرقس، محدقين في الحمائم السعيدة بعيون انطفأ نورها.

هذه الاولجركية الهادئة الصارمة، التي اتجرت مع الناس من جميع العقائد، ومنحتهم الحرية الدينية، كان موقفها من البابوية مستقلاً على نحو ملحوظ. جبت الضرائب من رجال الدين، واخضعتهم للقانون المدني، وحظرت بغير موافقتها بناء أي معابد أو أديار جديدة ونقل ملكية الأراضي للكنيسة، وراح حزب من ساسة البندقية يتزعمهم لوناردو دوناتو ونيكولو كونتاريني، يقاوم بصفة خاصة دعاوي البابوية بأن لها سلطانا على الأمور الدنيوية. وفي عام 1605 ارتقى كاميللو بورجيزي كرسي البابوية باسم بولس الخامس، وفي السنة التالية اختير دوناتو "دوجا" للبندقية، ووقف الرجلان اللذان كانا بالأمس صديقين، يوم كان دوناتو مبعوثا لدى روما، يواجه أحدهما الآخر في صراع بين الكنيسة والدولة ردد عبر قرون خمسة أصداء ذلك النضال الذي احتدم من قبل بين البابا جريجوري السابع والامبراطور هنري الرابع. وكانت صدمة للبابا بولس أن يعلم أن الزعيم الفكري للحزب المناهض للاكليروس في البندقية راهب سميّ له، ينتمي لجماعة "خدام العذراء" هو فرا باولو ساربي.

وساربي هذا كان في رأي مولمنتي "ألمع العقول التي أنجبتها البندقية قاطبة (4)". كان أبوه تاجرا، والتحق الصبي بجماعة "الخدام" وهو في الثالثة عشرة، وتشرب العلم في شغف، وحين بلغ الثامنة عشرة دافع عن 318 قضية علمية في جدل علني بمانتوا، ووافق في دفاعه توفيقا حمل دوقها على تعيينه لاهوتيا لبلاطه. ثم رسم كاهنا في الثانية والعشرين، وأصبح أستاذا للفلسفة، وفي السابعة والعشرين انتخب ممثلا اقليميا لرهبنته لدى جمهورية البندقية. وواصل دراساته في الرياضيات، والفلك، والفيزياء، وشتى العلوم. واكتشف انقباض القرحية، وكتب مقالات علمية ضاعت، وشارك في الأبحاث والتجارب التي قام بها "فابريزو داكوابندنتي" و "جامباتيستا ديللا بورتا"، الذي قال أنه لم يصادف قط "رجلا أغزر علما ولا أكثر دقة في محيط المعرفة باسره(5)" وربما آذت هذه الدراسات الدنيوية عقيدة باولو، فقد رحب بصداقة بعض البروتستنت، وقدمت التهم ضده لمحكمة تفتيش البندقية- وهي نفس الهيئة التي لن تلبث أن تلقي القبض على جوردانو برونو. ورشحه مجلس الشيوخ اسقفا ثلاث مرات، وثلاث مرات رفض الفاتيكان الترشيح، وقوت ذكرى هذه الهزائم من عدائه لروما.

وفي عام 1605 قبض مجلس الشيوخ على كاهنين وأدنهما بجرائم خطيرة فطالب البابا بولس الخامس بإحالة الرجلين إلى القضاء الكنسي، وامر بالغاء القوانين الموجهة ضد الجديد من الكنائس والديورة والطرق الدينية. ورفضت حكومة البندقية في ادب ولباقة. فامهل البابا الدوج والحكومة ومجلس الشيوخ سبعة وعشرين يوما للامتثال لأوامره. وهنا استدعوا فرا باولو باعتباره مستشاراً في القانون الكنسي، وأشار ساربي بمقاومة البابا، وحجته في ذلك ان سلطاته لا يسري الا على الامور الروحية، واعتنق مجلس الشيوخ رأيه هذا. وفي مايو 1606 حرم البابا دوناتو والحكومة وأوقع حظراً على جميع الخدمات الدينية في اراضي البندقية. واصدر الدوج تعليماته للكهنة البنادقة بتجاهل الحظر ومواصلة اداء وظائفهم، ففعلوا إلا اليسوعيين والثياتين والكبوشيين. ورحل اليسوعيون بحملتهم عن البندقية، لأن قوانينهم تلزمهم بطاعة البابوات، وذلك برغم انذار الحكومة لهم بأنهم ان رحلوا فلن يسمح لهم بعدها بالعودة. ونشر ساربي خلال ذلك، ردا على الكردينال بللارميني، كراسات دعا فيها إلى تقييد سلطة البابا، وأعلن أن للمجامع العامة سلطانا يسمو على سلطان البابوات.

ولجأ بولس الخامس إلى أسبانيا وفرنسا، ولكن اسبانيا هذه طالما رفضت المراسم البابوية، أما هنري الرابع ملك فرنسا فكان مدينا للبندقية بصنيعها معه. على أنه أوفد إليها رجلا حكيما هو الكردينال دجوايوز، الذي ابتكر ما اقتضاه الموقف من صيغ تحفظ ماء الوجوه. فأفرج عن الكاهنين وسلما إلى السفير الفرنسي، الذي المهما بعد قليل الى روما، ورفض مجلس الشيوخ الغاء القوانين التي اعترض عليها البابا، ولمنه- أملا المعونة البابوية ضد الترك- وعد بان الجمهورية "ستسلك بما عهد فيها من ولاء". وأوقف البابا لومه، ورفع جوايوز الحرم عن المحرومين.يقول مؤرخ كاثوليكي "لقد غلت مزاعم البابا بولس الخامس في تشبهها بمزاعم القرون الوسطى غلوا جعل تحقيقها ضربا من المحال(6)" وكانت هذه آخر مرة اوقع فيها الحرم على دولة بأسرها.

وفي 5 أكتوبر 1607 هاجم بعض القتلة المستأجرين ساربي وتركوه وهم يحسبونه ميتا، لكنه افاق، وروى أنه علق على الهجوم بهذه الحكمة التي فيها من البراءة ما يجعل صدورها عنه لحظتها بعيد الاحتمال، "انى تبين اسلوب الادارة البابوية الدقيق(7)" . ووجد القتلة الحماية والاستحسان في الدويلات البابوية(8). بعد هذا عاش ساربي معتكفا في صومعته يتلو القداس كل يوم، ولكن "مرقمه" لم يكن معطلا. ففي عام 1619 نشر تحت اسم مستعار وعن طريق دار نشر لندنية "تاريخ مجمع ترنت" وهو اتهام ضاف للمجمع، صور فيه حركة الاصلاح الديني تصويراً بروتستنتينياً خالصاً، وأدان المجمع لأنه باذعانه التام للبابوات حال دون رأب الصدع في الكنيسة. وتحمس العالم البروتستنتي للكتاب، واطلق ملتن على مؤلفه "ممزق القناع العظيم". أما اليسوعيون فعهدوا إلى فقيه منهم يدعى سفورتزا باللافتشيو بكتابة تاريخ معارض (1656- 64) كشف تحيز ساربي وعدم دقته وباراه فيهما(9). وعلى الرغم من تحيز الكتابين فانهما سجلا تقدما في جمع الوثائق الاصلية واستخدامها، وفي رسالة ساربي المسهبة سحر البلاغة النارية، وهذا تشويق اضافي ذو خطر.لقد كان الرجل متقدما كثيرا على جيله في الدعوة إلى الفصل التام بين الكنيسة والدولة.

في ظل هذه الحكومة الابية، وفوق تلك القنوات المطمئنة العطرة، واصلت البندقية سعيها وراء المال والجمال تسترضي المسيح بالعمارة، والعذراء بالابتهالات، فلكل اسبوع عيد يتذرع للاحتفال به بقديس ما، وفي رسوم جواردي نرى امثلة من هذه الانتشاءآت الجماهيرية، وتلحظ في صور الأشخاص ذلك الترف الشرقي الحسي، ترف الثياب والحلي.

وكان في وسع المرء في أية أمسية أن يسمع صوت الموسيقى تعزف في الزوارق (الجوندولا). ولو وطئت قدماه زورقا من هذه الزوارق السحرية ولم يفه باي توجيه للملاح، لمضى به دون كلام كثير إلى بيت مومس شريكة له. وقد دهش مونتيني لكثرة بنات الهوى البندقيات، وغلوهن في التحرر، وما هو بالرجل المتحيز، وكن يدفعن ضريبة للدولة، لقاء سماحها لهن بأن يسكن حيث شئن، ويلبسن ما يشتهين، ولقاء دفاعها عنهن ضد الزبائن الذين يأكلون حقوقهن(10).

واكتسبت "القناة الكبرى" وأفرعها مزيدا من الحسن عاما بعد عام بفضل ما قام على ضفافها من كنائس فخمة أو قصور جديدة مشرقة أو جسور رشيقة. ففي عام 1631 عهد مجلس الشيوخ إلى بالداساري لو نجينا ببناء كنيسة رائعة للعذراء "سانتاماريا ديللا سالوتي" وفاء بنذر لأنها ردت إلى أهل المدينة عافيتهم عقب طاعون كبير. وفي 1588- 92 أقام انطونيو دا بونتي بدلا من الجسر الخشبي العتيق "جسر ريالتو" الجديد الذي امتد عبر القناة الكبرى في قوس واحد من الرخام طوله تسعون قدما، وقامت المتاجر على جناحيه. وحوالي عام 1600 بنى "جسر التنهدات" (بونتي دي سوسبيري) عاليا فوق قناة تجري بين قصر الدوج وسجن القديس مرقس- "فقصر على طرف وسجن على الطرف الآخر"(11). واتم سكاموتزي كنيسة بالاديو و "سان جورجو" ومكتبة فيكيا التي بدأت انسوفينو. وبنى سكاموتزي ولونجينا "البروكوراتي نوفي" (1582- 1640) الملاصق لميدان القديس مرقس ليستخدم مكاتب جديدة لحكومة البندقية. وقامت الآن قصور شهيرة على ضفاف القناة الكبرى: بالبي، وكونتاريني ديلي سكريني، وموتشينجو، حيث عاش بايرون في 1818. والذين لم يروا البندقية سوى ظاهرها لا يستطيعون ابدا تصور ما في باطنها من بذخ- يجله الذوق الرفيع سائغا: تلك السقوف ذات الرسوم الجصية أو الزخارف الغائرة، والجدران المزدانة بالصور أو قطع النسيج المرسوم، والمقاعد المكسوة بالساتان، والكراسي و الموائد والصناديق المنقوشة، والدواليب المطعمة بالصدف والعاج، والسلالم العريضة الفخمة التي بنيت لتعيش القرون الطويلة. هنا نعمت أو لجركية غيور، قوامها عدة مئات من الاسر، بكل ثراء أقطاب التجارة، وبكل المعايير الفنية المرهفة التي اتيحت للأرستقراطيات العريقة.

ولا يبرز في هذه الفترة بين مثالي البندقية غير مثال واحد هو اليساندرو فيتوريا، ولكن فن التصوير البندقي أنجب اثنين من مصوري المرتبة الثانية. فقد اورث بالمافيكيو (مات 1528) فنه عبر الأجيال إلى حفيد لأخيه يدعى بالماجوفاني- أو ياكوبو بالما الأصغر- الذي مات بعد موت جده بمائة عام تماما. والرأي في فن جوفاني- إنه "منحط" لأن الرجل كان يرسم في عجلة يشوبها الإهمال، ولكن بعض صوره، كصورة "البابا اناكليتوس" في كنيسة الصلب، تدنو من العظمة، وفي هذه السطور التي خلفها مولمنتي يقفز هذا الفنان الأصغر المهمل إلى الحياة.

"لم يكن لبالما جوفاني من هدف ... سوى فنه، الذي عجز اشد الأحزان عن أن يصرفه عنه. ففي فنه التمس العزاء عن موت ولديه، اللذين مات أحدهما في نابلي، قضى الآخر في حياة الفجور. وبيتما كانت زوجته تحمل إلى قبرها عكف على الرسم هروبا من الالم(12).

أما برناردو ستروتزي فقد حصر بين ساقيه قمة الحذاء السحري، إذ ولد في جنوه، ومات في البندقية (1644)، وخلف صورا لكل قاعة مفن تقريبا بين البلدين. انفق بعض عمره راهبا كبوشيا، ثم خلع رداء الرهبة، ولكنه لم يستطع قط ان يخلع كنيته "الكبوشي". وبعد أن بذل محاولات كثيرة، وجد التسامح والتوفيق في البندقية، وفيها انتج أفضل أعماله. ويكفي أن نذكر مثلا منها "هو صورة أخ دومنيكي" (برجامو): فـ "البيريه" العالية تزين الجبين العريض، والعينان عابستان مركزتان، والأنف والفم ناطقان بقوة الشخصية، واليد تنشئ بعراقة الأصل؛ أن تتسيانو نفسه لم يكن في وسعه أن يبدع خيرا من هذا الفن. ولو ظهر هذان الوريثان للعمالقة من السلف في أي وطن آخر لحسبا من العمالقة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حـ- من بادوا إلى بولونيا

انحصر فخر بادوا بجملته الآن في جامعتها. ففيها درس هارفي في هذه الحقبة. وفيها علم جاليلو. وفي إمارة فيرارا لم يبد الفونسو الثاني (حكم 1559- 97) تقاعسا أو فتورا في همة آل ايستي الذين حكموا الامارة منذ 1208. وصورته التي يحتفظ المتحف البريطاني بنسخة منها غفل من التوقيع يطل منها رأس قوي. ولحية أمرة، وعينان تنبئان بعقل حازم مكتئب. كان في وسعه أن يكون قاسيا لا يرحم الذين يقاومونه، رفيقاً بغيرهم، صبوراً على غضبات تاسو، جريئاً في النزال، مشتطاً في فرض الضرائب. وقد واصل التقليد الذي جرت عليه أسرة ايستي في بسط رعايتها على الأدب والعلم والفن، وجمع ثمارها كلها في ثقافة بلاطه وبهائه ومرحه. أما الشعب فكان عليه ان يقنع بالكفاف- وان يستمد بثمار كده في شخص وكلائه. وقد اخفق الفونسو في أن يعقب ولدا برغم جبروته كله، وبرغم زواجه من ثلاث نساء عل التعاقب، وأصبحت فيرارا دويلة بابوية في 1598 بمقتضى اتفاق كان قد أبرم في 1536، بعد أن ظلت طويلاً أقطاعة بابوية- وهكذا انتهى تاريخها الثقافي.

أما بولونيا التي ضعت للحكم البابوي منذ 1506 فقد اتيحت لها في هذا العصر ازدهار ثان في مدرسة للتصوير سادت ايطاليا مدى قرنين ومدت نفوذها إلى أسبانيا وفرنسا وفلاندرا وانجلترا. عاد لودوفيتشو كاراتشي، وهو ابن جزار غني، إلى بولونيا بعد أن درس الفن في البندقية وفلورنسة وبارما ومانتوا. وكان تنتوريتو قد حذره بأنه لم يوهب عبقرية التصوير، ولكنه أحس أن الاجتهاد يمكن أن يقوم مقام العبقرية، ثم أن العبقرية لا تعوزه. وبعث بحماسته الحمية في اثنين من أبناء عمومته هما أجوستينو وأنيبالي كاراتشي- وكان أحدهما صائغا والآخر خياطاً، فرحلا إلى البندقية وبارما ليدرسا فن تيشان (تتسيانو) وكوريدجو. فلما عادا انضما إلى لودوفيتشو وفتح الثلاثة أكاديمية "للبادئين عل الطريق (1589). وقد وفروا فيها تعليم اصول الفن وتاريخه وطرائقه، والدرس المدقق لأئمة الفن، ورفضوا التشديد على "اللازمات" أو الأغرابات التي التزمها أي من الفنانين، بل آثروا الجمع بين نعومة رفائيل الانثوية، وبلاغة كوريدجو الرقيقة، وفحولة ميكل أنجيلو، وتنويع ليوناردو الضوئي، وتلوين تيشان الدافئ- كلها من مذهل شامل واحد. هذه "المدرسة الانتقائية" اتاحت لبولونيا أن تنافس روما، عاصمة فنية لايطاليا. والصور التي خلفها المصورون كاراتشي لا تحصى، وكثير منها محفوظ في أكاديمية بولونيا للفنون الجميلة، وبعضها في اللوفر، ولكنا نجدها في أماكن أخرى كثيرة. ونتاج لودفيتشو أقلها جاذبية، ولكنه يبلغ غايته في صورة "البشارة" المشرقة، وصورة"استشهاد القديسة أورسولا"، وكلتاهما في "قاعة صور الأكاديمية. أما اجوستينو ففنه يتجلى في لوحة "عشاء القديس جيروم" القوية- التي لم تمنعه من الاستجابة للطلب الكثير على نسخ من الصور الفاجرة. وأما أنيبالي فكان ألمع أفراد الأسر موهبة، وقد نقل عن كوريدجو في الخطوط والالوان ندر أن طاولها أبنا عمه. تأمل الاناقة الشهوانية في لوحته "الباخوسية" المحفوظة بقاعة الأوفتزي، وصورة الأنثى الكاملة في "الحورية والاساطير" المحفوظة بقصر بيتي، وصورة الذكر الكامل في "عبقرية الشهرة" المحفوظة بدرسدن؛ وقد أبدع في لوحته "المسيح والمرأة السامرية" (فينا)آية من آيات الفن في هذه الحقبة- صورا جديرة بريشة رفائيل، ومنظرا طبيعيا سبق به بوسان.

وفي عام 1600 قبل أنيبالي وأجوستينو دعوة الكردينال فارنيزي لهما ليذهبا إلى روما ويرسما صالة قصره فيها. فاختارا موضوعا مناسبا ورسما "انتصار باخوس" وهي مهرجان روبنزي من المفاتن الأنثوية.

ومن روما أنطلق اجوستينو إلى بارما حيث رسم لوحة جصية هائلة للكازينو، ومضى أنيبالي إلى نابلي حيث يرى في متحفها القومي إلى اليوم ذلك المزج الذي أختص به بين لوحة "العائلة المقدسة" ولوحة "فينوس ومارس". وقد ودع أبناء العم الثلاثة الحياة متفرقين، وهم الذين طالما جمع الفن بينهم. فمات أجوستينو في بارما (1602)، وأنيبالي في روما (1609)، ولودفيتشو في بولونيا التي ظل وفيا لها- فكان أول الوافدين عليها وآخر الراحلين عنها (1619).

لقد دربت المدرسة الجديدة نفرا من أشهر رسامي ذلك العهد. وكان لأحدهما- وهو جيدو ريني- من الأتباع أكثر مما كان لاي مصور في أوربا. فبعد تفتح مواهبه المبكر بفضل عناية المصورين كاراتشي، استسلم لإغراء روما (1602)، وانشغل فيها عاما- ث عاد إلى بولونيا ليرسم فيها صورا من حس التقوى، وجمال العاطفة، ما جعلها همزة وصل مرحبا بها بين سنية الايمان وهرطقات الجسد. أما جيدو نفسه فيبدو انه كان مخلصا في تدينه، واثر عنه احتفاظه بعذريته كاملة إلى النهاية. وصورته الذاتية المحفوظة بمتحف الكابيتوليني تظهره في شبابه، فتى وسيما كالصبايا، أشقر الشعر ابيض البشرة ازرق العينين. واروع صوره صورة "الفجر"، الجصية المرسومة على سقف قصر رويبليوزي بروما. وفيها ترى ربة افجر تحلق في الجو ومن خلفها جياد رشاق تجر فيبوس الأشعث في مركبته، تصحبه راقصات ملاح الوجوه حسان الأجساد، يمثلن ساعات اليوم، وكاروبيم مجنح كأنه خاتم المسيحية على هذه النشوة الوثنية. ورسم جيدو أساطير أخرى- مثل "اغتصاب هيلانة" في اللوفر، و "تفاحات الهسبريد" في نابلي، ولوحة "فينوس وكيوبد" الشهوانية في درسدن. وعن العهد القديم أخذ لوحته المشهورة "سوسنه الشيوخ" (الأوفتزي). ولكنه في أكثر رسومه قنع باعادة تصوير الموضوعات القديمة إلى قلوب الناس المحببة إلى الكنيسة، كقصة المسيح وأمه وكلها ينضج بما ندد به قساة النقاد من اسراف "مجدلي"(5) في العاطفة. على أنه أجاد في تصوير الرسل، كما تشهد بذلك لوحة "القديس متى" المحفوظة بالفاتيكان، وقد رسم رأسا رائعا للقديس يوسف (بريرا)، وفي لوحة "استشهاد القديس بطرس" بالفاتيكان جرب واقعية كارافادجو الصارمة. وجين عاد إلى العاطفة رسم لقاعات الفن لوحة "القديس سباستيان" المشهورة وفيها يبدو القديس وهو يتلقى السهام في جسده الكامل هادئا رابط الجأش. وفي كل آثاره نلمح براعة الأسلوب المدرب خير تدريب، ولكنا حين نقارن هذه اللوحات المقدسة، المفرطة الحلاوة، بلوحة رفائيل "ستانتزي" او بسقف كنيسة السستين الذي رسمه ميكل أنجيلو، لا يحركنا في فن ريني غنى اللون ولا نعومة الخط، بل "الافتقار إلى الجرأة". كان يحلم حلما يغتفر له حين كتب له يقول: "أحب أن اخلع على الوجه الذي أرسمه جمالا كالجمال الكامن في الفردوس"(13)، ولكنه فضح نفسه فاخر بأن لديه "مائتي طريقة لجعل العيون تطلع إلى السماء"(14).

اتبع دومنيكينو (دومنكيو تزامبيري) سياسة جيدو في ارضاء الوثنيين والمتدينين جميعا، ولما كان هذان في كثير من الأحيان واحدا فان الخطة أثمرت. كان معقدا أكثر من جيدو، فيه تواضع وحياء، يحب الموسيقى ويعشق زوجته. وقد تعلم هو أيضا التصوير في بولونيا ثم أنطلق إلى روما سعيا إلى الفن والمال. وأثار نجاحه هناك حسد منافسيه فيها، فاتهموه بانتحال صور غيره، فقفل إلى بولونيا راجعا، ولكن جريجوري الخامس عشر استدعاه ليكون كبير معماريي الفاتيكان ومصوريه. فصمم فيلا الدوبرانديني بفراسكاتي، مستعيناً في فنه بشيء من تعدد البراعات الذي أثر على رجال النهضة. ولما انتقل إلى نابلي بدأ سلسلة من الصور الجصية في كاتدرائيتها. وكاد يتم مهمته برغم ما لقي من مشاق ضاعف منها مصورو نابلى، ولكنه مات (1641) في الستين من عمره وهو لا يزال في عنفوان فنه. وأعظم لوحاته "عشاء القديس جيروم" المحفوظة بالفاتيكان. واستنادا إلى هذه الرائعة لم يفضل بوسان عليه من المصورين سوى رفائيل(15)، ونحن نحترم هذا التحمس أكثر مما نحترم الحكم. اما رسكن ففي رأيه أن دومنيكينو "عاجز بصورة واضحة عن الإتيان بشيء حسن، أو عظيم، أو صواب، في أي ميدان، أو سبيل، أو فرع، كائناً ما كان(16)"، ونحن لا نعجب بالحكم ولا ببلاغة العبارة هنا.

أما آخر تلاميذ آل كاراتشي الثلاثة المشهورين فقد اشتهر بكنية مؤسفة هي جويرتشينو- "الأحوال"- ما أصاب عينه من تشويه أثر حادث وقع له في طفولته، ولكن أمه سمته جوفاني فرانشسكوباربيري. مارس التصوير فعلا، متأثراً بأسلوب كارافادجو القوي، قبل أن ياتي ليدرس على يد آل كراتشي، لذلك توسط في فنه بين بولونيا وروما. وظل أعزب مثل جيدو، وعاش عيشة التقشف، وأظهر خير فضائل حركة الاصلاح الكاثوليكي في حياته الهادئة الكريمة. وقد خلف لنا الكثير من الصور اللطيفة، منتشرة من روما إلى شيكاغو، وكان أضعف مصوري المدرسة البولونية وأحبهم إلى الناس. إن النظرية الأساسية التي قامت عليها المدرسة الانتقائية- وهي أن في الاستطاعة تكوين الفنان العظيم بمحاولة الجمع بين مختلف المزايا التي تفرد بها سابقوه- هذه النظرية كانت خطأ بغير شك، ذلك لأن شيمة العبقرية كثيرا ما تكون التعبير عن شخصية وشق مسالك جديدة، بيد أن "أكاديمية البادئين على الطريق" أفادت في بث تقليد ربما اشتطت العبقرية لولاهما وأغربت.

والنجاح الذي أصابته المدرسة يعزى إلى تعاونها الحاضر مع حاجات الكنيسة، فقد احتاجت البابوية بعد اصلاحها، كما احتاج اليسوعيون بعد اتساع منظمتهم، إلى ألوان جديدة من التعبير عن قصة المسيحية، ومن التحريض الحي على التقوى والإيمان. وقد مس المصورون البولونيون كل وتر عاطفي في العابدين، وانتشرت الصور التي رسموها للعذراء والمجدلية في العالم المسيحي الكاثوليكي قاصية ودانية. ومنذا الذي ينكر أن الناس أقروا بالفضل لهذه الإلهامات، أو أن الكنيسة حين وفرتها لهم اثبتت أنها أعظم السيكولوجيين في التاريخ فهما لطبائع البشر؟


د- نابلي

كانت الدويلات البابوية قد استوعبت منذ زمن فورلي ورافنا وريمني وأنكونا، ثم ضمت إليها أوربينو عام 1626، وبيزارو عام 1631. وإذا اتجهنا جنوبا، مارين بفودجا وباري وبرنديزي حتى كعب "الحذاء السحري"- ومارين بتارانتو وكروتوني وريدجو كالابريا حتى ابهامه؛ وعرضا من سيلا إلى كاربيديس مخترقين صقلية، وشمالا على طول الساحل الغربي إلى كابوا- وجدنا مملكة نابلي، التي أصبحت ولاية أسبانية منذ عام 1504. هنا كان ثلاثة ملايين من السكان المشبوبي العاطفة، يكدحون في ذل الفقر بين أرجاء هذه المملكة المنبسطة في غير نظام ليدبروا المال الذي تطلبه بهاء عاصمتها المتألقة. وقد رأى أيفلين نابلي عام 1645 وقال في وصفها:

"إن كبار الحكام يفتنون في الاثراء من كد الشعب التعس لما فيهم من شره شديد المال. وعمارة المدينة إذا قيست بحجمها أفخم من أي نظير لها في أوربا: فالشوارع واسعة جدا، جيدة الرصف، كثيرة الأنفاق لصرف الأقذار، ومن ثم أصبحت غاية في الجمال والنظافة.. وتملك المدينة أكثر من 30.000 كنيسة ودير، وهي خير ما في إيطاليا بناء وزخرفا. والقوم شديدو التظاهر بالوقار الأسباني في لباسهم، وهم يهوون الجياد الفارهة؛ والشوارع حافلة بالوجهاء المتأنقين يمتطون الخيل أو يركبون المركبات أو المحفات. أما النساء فملاح الوجوه عموماً، ولكن فيهن شبق شديد)17)".

كان الكل يبدون مرحين، تفيض نفوسهم بالموسيقى والشعر والتقوى، ولكن تحت هذا السطح المرح، وتحت بمصر محكمة التفتيش، كانت النفوس تجيش بالهرطقة والثورة. ففي هذا العهد عاش الفيلسوف تيليزيو ومات (1588)، وفي نولا، القريبة من نابلي، ولد برونو (1548). وفي عام 1598 اشترك كامبانيللا في حركة تمرد استهدفت جعل كالابريا جمهورية مستقلة، ولكن المؤامرة فشلت، وقضى الشاعر الفيلسوف بعدها سبعة وعشرين عاما في غياهب السجن.

وفي عام 1647 انتاب نابلي ضرب من الهوس من جراء انتفاضة من هذه الانتفاضات المسرحية التي عطلت بين والحين الاستغلال الزراعي في إيطاليا. ذلك أن تومازو أنييللو، المشهور بمازانييلو، كان بائع سمك متجولا حكم على زوجته بغرامة كبيرة لتهريبها القمح. فلما فرض الحاكم الأسباني ضريبة على الفاكهة ليمول البحر، وأبى زراع الفاكهة وباعتها أداء الضريبة، دعا تومازو الناس إلى العصيان المسلح. فتبعه مائة ألف إيطالي حين زحف على قصر الحاكم مطالبا بسحب الضريبة. وروع الحاكم فأذعن للطلب، وأصبح تومازو- الذي كان يومها في الرابعة والعشرين- سيداً على نابلي، وحكمها عشرة أيام، أعدم خلالها ألفاً وخمسمائة من الخصوم في حمى الدكتاتورية، وسعر الخبز بثمن أقل، وكان عقاب خباز رفض الامتثال للتسعيرة ان يشوى حياً في فرنه(18)- ولكن أعداء تومازو هم الذين كتبوا التاريخ، وذكروا أن تومازو الذي ارتدى ثوباً من الذهب، أحال بيته المتواضع إلى قصر يرفل في مظاهر السلطان، وطاف حول الخليج في زورق فاخر. ولكن فتاكاً استأجرتهم اسبانيا اغتالوه في 17 يوليو. وأخذ أتباعه الجثة التي قطعت أوصالها فجمعوا الأشلاء وشيعوها في مشهد جليل. وماتت الحركة بعد أن فقدت قائدها.

استطاع ضرب من الفن الديني القاتم أن يحتفظ بالحياة برعاية المطارنة والحكام. ففي عام 1608 انفقت الكنيسة مليونا من الفلورينات لتشيد في كاتدرائية سان جينارو كنيسة صغيرة تسمى "كابيللا ديل تيزورو" لتكون ضريحا لأنائين يحتويان الدم المتخثر الذي تخلف عن القديس يانواريوس حامي نابلي. وقيل للشعب انه لابد أن يسيل الدم ويجري مرتين في العام لكي تزدهر نابلي وتأمن عائلة فيزوف.

أما التصوير في نابلي فقد ظل يهيمن عليه حينا ثلاثي من الفنانين الغيورين- كورينتزيو، وكارلتشلو، وريبيرا- الذين عقدوا العزم على أن يكون كل التصوير في نابلي وقفا عليهم أو على أصحابهم. وقد بلغ من تهديداتهم لانيبالي كاراتشي أنه اكره على الفرار إلى روما، حيث ادركه الموت بعد قليل من جراء رحلته المحمومة التي أضطر إليها تحت شمس حامية(19). وحين حضر جيدو ريني لزخرفة "كنيسة الكنز" تلقى انذارا بأن يرحل عن نابلي أو يموت، فرحل من فوره تقريبا وهو لم يكد يبدأ مهمته. واركب اثنان من مساعديه بقيا بعد رحيله سفينة كبيرة لتشغيل العبيد وانقطع خيرهم بعدها. ثم حضر دومنيكينو، وأتم أربع صور جصية في الكنيسة على الرغم من أن الصور محيت غير مرة، وأخيرا فر من تهديدات ريبيرا، ثم عاد بعد أن تعهد الحاكم بحمايته، ولكنه مات بعد قليل، ربما سموماً(20).

على أننا لا بد أن نشيد بذكر جوزي أو جوزيبي ريبيرا، برغم كل جرائمه، لأنه أعظم مصوري هذا العهد في إيطاليا. وتدعيه اسبانيا لنفسها استنادا إلى أنه ولد في زاتيفا قرب بلنسيه (1588)، وقد درس حينها على فرانشيسكو دي ريبالتا، ولكنه قصد روما في بواكير شبابه. هناك عاش في فقر مدقع، ينسخ الصور الجصية ولا يجمع غير الفتات، حتى قيض الله له واحدا من هؤلاء الكرادلة عشاق الفن كان لا يزال يشعر بوحي النهضة، فاستضافه في قصره ويسير الغذاء والفراش والألوان والكساء. وراح جوزيبي ينسخ في جد ومثابرة لوحات رفائيل في الفاتيكان وصور آل كاراتشي في قصر فارنيزي. ثم فر "الأسباني الصغير" إلى بارما ومودينا ليدرس كوريدجو حين وجد أن الراحة اطفأت حماسته. وعاد إلى روما، وتشاجر مع دومنيكينو. ثم انتقل إلى نابلي. وفيها أو في روما وقع تحت تأثير كارافادجو، الذي زاده اسلوبه الوحشي رسوخا في المذهب الطبيعي القاتم، ولعله أخذه من قبل عن ريبالتا. واستلطفه تاجر صور غني فعرض عليه أن يتزوج ابنته الحسناء. وظن جوزيبي المملق أن الرجل يسخر منه؛ ولكن حين اعاد العرض قفز صاحبنا إلى حياة الزواج والثراء.

ورسم الآن لوحته المسماة "سلخ جسد القديس برتولميو"، وفيها من احتمال الحقيقة الدامي ما جعلها- حين عرضت- تجتذب حشدا ن المتفرجين استهواهم الدم أكثر من الفن. أما الحاكم الأسباني- وهو أوزونا الذي عرفناه متآمرا على البندقية- فقد أرسل في طلب اللوحة والمصور، وافتتن بها، ثم عهد إلى ريبيرا بكل أعمال الزخرفة في القصر. وأقصى الأسباني كل منافسيه، حتى عهد إلى جوفاني لانفرانكو صديقه برسم الصور الجصية لكنيسة الكنز، وقام هو نفسه بتنفيذ صور المذبح التي مثل فيها يانواريوس، القديس الذي لا تؤذيه النار، يخرج من أتون مشتعل دون ان يمسه لهيبه.

بعد هذا أصبح ريبيرا إمام فنه غير منازع في نابلي. وبدا أن في استطاعته إن شاء أن يضارع نعومة رفائيل وكوريدجو دون أن يقع في عاطفية جيدو ريني أو موريللو، وأن يرتفع بواقعية كارافادجو إلى مزيد من القوة بفضل حدة تصوره وعمق تلوينه. وحسبنا أن نستشهد بلوحتين فقط من لوحاته "بييتا" و "الرثاء"، في كنيسة سا مارتينو وديرها- "عمل إذا نظر إليه على أنه تجسيد لجلال الرهيب لهبطت كل التعبيرات المماثلة في ذلك القرن إلى درك المشاهد المسرحية(21)، أوخذ من الأساطير لوحته "أرخميدس". في متحف البرادو- فهو بالضبط ذلك الصقلي العجوز المنغضن الذي قد يلتقي المرء باشباهه اليوم في سيراقيوز. وحين انتقل ريبيرا من الكتاب المقدس والتاريخ إلى الشارع، وجد التنويع لفنه في لقطات واقعية من صميم الحياة العامة، فكان في لوحة "الصبي الحافي" المثال الذي احتذاه فلاسكويز وموريللو ".

وعيوب ريبييرا تقفز إلى العين- غلو في العنف، وولع بالتجاعيد والضلوع، وظمأ للدم. وقد لاحظ بايرون أن "هذا الأسباني الصغير لوث ريشته بكل دماء القديسين(22)". أن الوانه الكابية وتشديده على الجانب القاتم من الحياة يروع ويغم، ولكن هذا الأسلوب المظلم وجد تقبلا حاضراً في بلد كنابلي كابد حكم الأسبان وتقلبات مزاجهم. وتنافست عليه كل كنيسة أو دير جديد، كأن فيليب الرابع وحكام نابلي بعض زبائنه الشرهين. وانتشرت رسوم ريبيرا ومحفوراته في أسبانيا انتشارا أوسع من اعمل فيلاسكويز- الذي زاره مرتين في إيطاليا. أما بيته فكان من أفخم بيوت نابلي، وأما ابنتاه فآيتان في الفتنة السمراء، وقد شرفت إحداهما باغواء "دون خوان" آخر لها هو الابن غير الشرعي لفيليب الرابع، الذي هرب بها إلى صقلية، ولكنه سرعان ما ملها وهجرها، فاعتكفت في دير للراهبات ببالرمو. أما ريبيرا فأشرف على التلف كمدا وعارا، والتمس العزاء في صور للعذراء يخلع عليها الملامح التي لم ينسها، ملامح ابنته ماريا روزا التي فقدها، ولكنه مات بعد مأساتها بأربع سنوات (1652).

روما والبابوات

أصبحت عاصمة الدويلات البابوية وقصبة العالم الكاثوليكي الروماني مدينة من مدن المرتبة الثانية، فيها من الأنفس 45.000 عام 1558، زادوا إلى 100.000 في عهد سيكستوس الخامس (1590). وحين وفد عليها مونتيني عام 1580 خيل غليه أنها أكثر من باريس اتساعا، ولكن بيوتها لا تعدو ثلث بيوت باريس؛ وبين السكان عدد غير قليل من المجرمين والبغايا (قبل سيكستوس الخامس)؛ وكان كثير من النبلاء يحتفظون بنفر دائم من الفتاك. أما الفقر فمنتشر ولكنه هين تكسر من حدته احسانات البابا، والاحتفالات الكنسية، والأحلام الدينية. وأما عشائر النبلاء العريقة-كأورسيني، وكولونا، وسافللي، وجيتاني، وكيجي-فقد تناقص دخلها وسلطانها وإن لم تفتر دعواها وكبرياؤها. وكانت الأسر الأحدث عهدا-كألدوبرانديني، وباربريني، وبورجيزي، وفارنيزي، وروسبليوزي-تتصدر غيرها ثراء ونفوذا، بفضل اتصالاتها بالبابوات عادة. وظفر اقرباء البابا بعهد جديد من المحاباة. فجني آل ألدوبرانديني المنافع من انتخاب كلمنت الثامن، وآل لودوفيزي من انتخاب جريجوريالخامس عشر، وآل باربريني من انتخاب أوربان الثامن، وآل بورجيزي من انتخاب بولس الخامس. ووضع الكردينال سكبيوني بورجيزي ابن أخي بولس خطة لبناء فيللا بورجيزي، وبنى الكازينو (1615)، إذا كان يتمتع بأكثر من دخل كنسي وبراتب قدره 150.000 سكودي في العام، ثم انشأ للكازينو مجموعته الفنية الغنية، ونال قسطا لا بأس به من الخلود في الرخام على يد محسوبه برنيني. وقد استخدم كثير من الكرادلة مالهم في تشجيع الآداب والفنون.

وأعان كنيسة روما على البقاء سلسلة من البابوات الأقوياء الشكيمة برغم فقدها ألمانيا والأراضي المنخفضة واسكندناوة وبريطانيا-وكلها سلختها منها حركة الاصلاح البروتستنتي. وكان مجمع ترنت قد أكد سيادة البابوية على المجامع وزاد منها، كذلك جمعية يسوع (اليسوعيون) الفنية القوية تدين بالولاء للبابوية وتخلص لها الحب. وفي عام 1566 ارتقى أنطونيو جيسلييري- الأخ الدومنيكي والرئيس الأعلى لمحكمة التفتيش- عرش البابوية باسم بيوس الخامس وهو في الثانية والستين... وخيل إليه أن قداسة حياته الشخصية تنسجم تمام الانسجام مع الصرامة التي تعقب بها البدع الدينية. فسحب من كاثوليك بوهيميا الحق الذي منحوه من قبل، حق تناول الأسرار بالخمر كما يتناولها بالخبز. وحرم اليزابث ملكة إنجلترا واحل الكاثوليك الانجليز من الولاء لها. وحث شارل التاسع ملك فرنسا وكاترين مديتشي على مواصلة الحرب على الهيجونوت حتى يبادوا بغير رحمة(23). وامتدح الأساليب الفظة التي اتبعها ألبا في الأراضي المنخفضة(24). وجاهد بقواه المحتضرة لتجهيز الأرمادا الذي هزم الترك في ليبانتو. وما خفف في حياته حكما كنسيا(25)، بل شجع محكمة التفتيش على تنفيذ قواعدها وعقوباتها بالقوة.

على أنه عنف مثل هذا العنف في فرض الاصلاح الكنسي. فالأساقفة الذين يغفلون الاقامة في اسقفياتهم يشلحون، وعلى الرهبان والراهبات أن يعتزلوا الناس اعتزالا تاما، وكل اخلال بالوظائف الكنسية يجب أن يكشف أمره ويعاقب. وحين شكا بعض من طردوا من رجال الحاشية الزائدين عن الحاجة من أنهم سيموتون جوعا، أجاب بيوس بأنه خير للإنسان أن يموت جوعا من أن يخسر نفسه(26). وكانت الكفاية، لا المحسوبية ولا محاباة الأقرباء، رائدة في التعيينات والترشيحات. أما هو فكان دءوبا على العمل، يجلس الساعات الطوال يقضي في الدعاوي، لا يكاد يصيب من النوم أكثر من خمس ساعات في اليوم، ويضرب المثل لرجال الاكليروس بما أخذ به حياته الخاصة من بساطة وتقشف. فهو كثير الأصوام، لا يزال يلبس قميص الرهبان الصوفي الخشن تحت عباءته البابوية. ولقد افنى نفسه بهذا النسك الصارم، فكان في الثامنة والستين يبدو اكثر من عمره بعشر سنين-شيخا نحيل الجسد، أعجف الوجه، غائر العينين، قد اشتعل رأسه شيبا. وأصر وهو لا يكاد يقوى على المشي على أن يحج إلى باسليقات روما السبع، راجلا أكثر الرحلة. ولم تمض على ذلك الحج تسعة أيام حتى مات بعد شهر من العذاب، مرتديا ثوب القديس دومنيك. كتب مؤرخ بروتستنتي كبير يقول »قليل من البابوات من تدين لهم الكاثوليكية بفضل اكثر من دينها لبيوس الخامس، حقا لقد قسا في اضطهاد البدع، ولكن ادراكه لضرورة الاصلاح، وعزمه الوطيد على تنفيذه، ردا إلى الكنيسة كثيرا من الاحترام الذي فقدته(27). وقد أدخلت الكنيسة بيوس في عداد القديسين عام 1712.

وواصل جريجوري الثالث عشر (1572-85) اصلاح الكنيسة بروح أكثر اعتدالا. ونحن نذكر فيه الرجل الذي أعطانا تقويمنا واحتفل بمذبحة القديس برتولومبو بقداس شكر لإله رحيم. على أنه كان رجلاً فاضلاً، عيوفاً، رقيق الخلق. وكان له ولد غير شرعي قبل أن يدخل في زمرة الكهنوت، ولكن أمثال هذه الزلة كان يغتفرها أهل روما الشهوانيون. كان سخياً في العطاء، دموياً في الادارة. وقد أثنى البروتستنت على اختياره لمن يلون مناصب الكنيسة(28). ورأى فيه مونتيني عام 1580 »شيخاً وسيماً«، ذا وجه يطفح هيبة، ولحية بيضاء طويلة، صحيح البدن موفور العافية مع أنه ينيف على الثامنة والسبعين... دمث الطبع قليل الارتباك بشئون الدنيا(29)«.

بيد أن مشاريعه الجريئة-كتمويل المدارس اليسوعية، وقمع الهيجونوت، وخلع اليزابث-كانت تحتاج إلى المال. ولكي يجمعه أمر بتطبيق القانون بحذافيره على ملاك الضياع الكائنة في الأملاك البابوية وعلى عقود التمليك. وهكذا صادر البابا كثيرا من الأملاك التي كان مآلها عقود التمليك. وهكذا صادر البابا كثيرا من الأملاك التي كان مآلها إلى البابوية لانقطاع خط الوراثة المباشر، أو لعدم أداء الضرائب المفروضة على الاقطاعات البابوية. على أن ضحايا هذا الأمر البابوي، الحاليين منهم أو المنتظرين، سلحوا أتباعهم، وقاوموا نزع ملكياتهم، واتخذوا قطع الطريق سبيلا للانتقام. فتزعم رجال من أسر نبيلة، كألفونسو بيكولوميني وروبرتو مالاتستا، عصابات من طريدي العدالة واستولوا على المدن وسيطروا على الطرق. فاستحال بعد ذلك جمع الضرائب، وسد الطريق على الذهب المتدفق على روما، وما لبثت الفوضى أن عمت الادارة البابوية. هنا أوقف جريجوري مصادراته، واصطلح مع بيكولوميني، ثم مات في ذل الهزيمة وهوانها.

يقولون ان الضرورات صانعة الرجال، وقد صنعت هذه الضرورة من فليتشي بيريتي (سيكستوس الخامس 1585-90) رجلا من أعظم البابوات وأجلهم قدرا. رأت عيناه النور أول مرة في جروتامارين قرب أنكونا، في كوخ كان سقفه مهلهلا حتى لقد نفذت منه اشعة الشمس، قال وهو كبير على سبيل المزاج أنه »ولد في بيت منير(30). تعلم في دير فرانسسكاني بمونتالتو، وحصل على دكتوراه اللاهوت بدراسته في بولونيا وفيرارا، ثم أرتقى سريعا بفضل بلاغته واعظا وكفايته إداريا. فلما اختير لكرسي البابوية وهو في الرابعة والستين، كان الدافع لهذا الاختيار أن مجمع الكرادلة تبين فيه الشخصية الصلبة التي تتطلبها سلامة الدويلات البابوية وكفايتها المالية.

بيد أن اقاربه تزاحموا من حوله يمدون إليه أكفهم فلم يقو على ردهم، وهكذا عادت محاباة الأقرباء ترفع عقيرتها، ولكنه في غير ما يتصل بأسرته كان رجلا صلبا لا تلين له قناة. كان في مظهره ذاته ما يستوقف النظر: رجل قصير القامة، عريض المنكبين، متين البنية، واسع الجبين، أبيض اللحية كثها، كبير الأنف والأذنين، ضخم الحاجبين، له عينان نفاذتان قادرتان على إسكات المعارضة دون كلمة. وكان وجهه المتورد ينسجم مع عنف طبعه، ورأسه الكبير يوحي بارادة لا تنثني. على أنه مع كل صرامته كان يملك معينا من روح الفكاهة ومن النكتة الذكية النفاذة أحياناً كثيرة. وقد تنبأ بأن هنري الرابع سيهزم مايين، لأن هنري ينفق في الفراش وقتا أقل مما ينفقه مابين على موائد الطعام(31). أما هو نفسه فكان قليل النوم شديد العكوف على العمل.


عقد العزم أولا على الضرب على أيدي قطاع الطرق المنتصرين. فبدأ بتنفيذ حظر مفروض على حمل الأسلحة الفتاكة ولكنه كان مهملا إلى حد كبير. وفي اليوم السابق لتتويجه قبض على أربعة شبان لانتهاكهم هذا الحظر، وأمر سيكستوس بشنقهم فوراً. التمس أقرباؤهم العفو عنهم أو تأجيل التنفيذ، فأجاب، فأجاب »ما دمت على قيد الحياة فلابد أن يموت كل مجرم أثيم«؛ وما لبثت أن تدلت أجسادهم من مشنقة نصبت على مقربة من جسر سانتانجيلو، وسط احتفالات التتويج، فكان هذا بمثابة الخطاب الافتتاحي لسيكستوس والبيان لسياسته في أمر الجريمة.

وأمر البابا النبلاء بطرد فتاكم، ووعد كل قطع طريق يسلم إليه آخر حيا أو ميتا بالعفو عنه ومكافأته، أما المكافأة فتدفعها أسرة اللص الأسير أو موطنه. فذا أذاع لص منهم تحديه لأمر، أمر سيكستوس اسرته بأن يعثروا عليه ويأتوا به أو يلقوا الموت جزاء لهم. وقد ارضى دوق أوربينو البابا(32). بأن جمل بغالاً طعاماً مسموماً وأمر سائقيها بالمرور بمخبأ قاطع طريق منهم، وسرق اللصوص الحمل وأكلوا الطعام وماتوا. ولم يكن هناك أي اعتبار للمراتب الكهنوتية أو الاجتماعية، فالمذنبون من »الأسر الأولى« يعدمون دون راحة أو تأجيل، وكان بين المشنوقين قسيس خارج على القانون. وما لبث الريف أن انتشرت فوق ارجائه الجثث تتأرجح في الريح، وقال ظرفاء روما إن عدد الرءوس المقطوعة المعلقة على جسر سنتانجيلو يفوق عدد ثمار الشمام المعروضة في أكشاك السوق(33). ولغظ الناس بقسوة البابا الهمجية، ولكن السفراء أخبروه أنهم »أينما ساروا في دويلاته كانوا يجتازون بلدا رفرف عليه السلام والأمن(34)« وأمر الحبر الفخور بضرب عملة كتب عليها Noli me tangere »حذار أن تمسني«. وفي غضبة مضربة للفضيلة أمر يحرق قسيس وغلام جزاء ارتكابهما اللواط، وأكره شابة على أن تشهد شنق أمها التي باعتها للبغاء. أما كل جرائم الزنى التي يكشف أمرها فجزاؤها الموت الزؤام. وكان يقبض على الناس لجرائم ترتد إلى تاريخ بعيد، حتى أن اعلانا جدارياً نقل عن القديس بطرس ارتعاده فرقا، مخافة أن يوجه سكستوس إليه التهمة لقطعه اذن مالخوس عند إلقاء القبض على المسيح. على أنه في غمرة هذه المطاردة المجنونة وجد الوقت للحكم والاصلاح. فانهى حرب المصادرات التي خاضها جريجوري الثالث عشر مع الأشراف. ووفق بين عدوين قديمين هما آل أورسيني وآل كولونا غذ وحد بينهما بالزواج. ووزع الكرادلة على أحد عشر »جمهورا« جديدا من العابدين وأربعة من القدامى، وقسم بين هؤلاء وظائف الادارة البابوية. وأمر رجال الاكليروس باتباع جميع مراسيم الاصلاح الصادرة من مجمع ترنت، وطلب إلى الأساقفة نفقد الاديرة دوريا واصلاحها. وكانت عقوبة مضاجعة راهبة هي الموت للمذنبين جميعا. وقد نفخ الحياة في جامعة روما فنشطت بكامل قوتها. ورغبة في تدبير المكان الكافي للعدد المتعاظم من الكتب كلف دومنيكو فونتانا بتصميم بيت جديد فخم يضم مكتبة الفاتيكان. وأشرف بنفسه على طبعة منقحة من ترجمة جيروم اللاتينية للكتاب المقدس -وهي تضارع في روعتها الترجمة الانجليزية للكتاب في عهد الملك جيمس الأول.

بيد أنه لم يشارك اسلافه من بابوات النهضة شعور الاحترام لمخلفات الفن الوثني. فأتم هدم سبتزونيوم سيفيروس، ليوفر الأعمدة لكنيسة القديس بطرس. واقترح هدم مقبرة سسيليا ميتيللا. وهدد بهدم الكابيتول ذاته ان لم تنزع منه تماثيل جوبيتر تونانس، وأبوللو، ومنيرفا، ثم ابقى على منيرفا، ولكنه أطلق عليها اسما جديدا هو روما، واستبدل برمحها صليبا. وأخرج الشياطين مكن أعمدة تراجان وماركوس أوريليوس بان وضع فوق قمتها تماثيل للقديس بطرس أو القديس بولس واطلق اسميهما على الأعمدة. وامعانا في الرمز على خضوع الوثنية للمسيحية كلف دومنيكو فونتانا بأن ينقل إلى ميدان القديس بطرس المسلة التي جلبها كاليجولا من هليوبوليس وأقامها نيرون في ملعب مكسيموس. وكانت هذه الكتلة الواحدة من الجرانيت الوردي تعلو ثلاثة وثمانين قدماً، وتزن أكثر من مليون رطل روماني. وكان أساطين المعمار، من أمثال أنطونيو دا سانجاللو وميكلانجلو، وقد افتوا بأن لا طاقة لمهندسي النهضة بنقلها. واستغرق انجاز هذه المهمة عاماً كاملا من دومنيكو وأخيه جوفاني (1585-86). وأنزلت الآلات الضخمة هذا الأثر ونقلته، وقام ثمانمائة من الرجال تشد أزرهم الاسرار المقدسة، و 140 حصانا، يجر أربعة واربعين حبلا سمك الواحد منها كذراع الرجل، ليقيموا المسلة فوق موقعها الجديد. وغدا دومنيكو بطل روما بعد نجاحه في المهمة، أما سيكستوس فصرب الميداليات التذكارية، وأعلن النبأ رسمياً للحكومات الأجنبية. واستعيض عن الكرة التي في قمة المسلة بصليب يحوي قطعه من »الصليب المقدس« الذي مات عليه المسيح. وأحس سيكستوس أن المسيحية استعادت سلطانها بعد أن عطلته النهضة حينا.

وجدد هذا البابا الذي لم يعرف الكلل عمارة روما غير الدينية خلال بابويته القصيرة التي لم تزد على خمس سنوات، فجلب لها كمية جديدة من الماء الصالح-تغذي سبعا وعشرين عيناً جديدة-وذلك بإعادة بناء أكوا السندريا، التي أطلق عليها اسمه »أكوا فيليتشي«. وطهر الهواء بتمويل تجفيف المستنقعات، وأمكنه تحقيق تقدم طيب في هذا الميدان واستصلح من الأراضي 9.600 فدان، ولكن المشروع هجر بعد موته. وتنفيذاً لأمره شق دومنيكو فونتانا شوارع فسيحة جديدة ووفق النظام الكلاسيكي، نظام الخطوط المستقيمة، ومد طريق سيستينا وغير أسمه إلى طريق فيليتشي،وأصبحت كنيسة سانتا ماريا مادجوري الرائعة مركزاً يتسوط عدة شوارع تتفرع منه، وبدأت روما تتخذ شكلها الحديث. ولكي يمول سيكستوس مشاريعه وخزائنه التي كانت خالية الوفاض عند بتنفيذها فرض الضرائب حتى على ضروريات الحياة، ومذق العملة، وباع المناصب، وأصدر تأمينا بدخل سنوي يدفع مدى الحياة لقاء ما يقدم للخزانة البابوية من عطايا، وقد أدر ماليته بكفاية وعناية، وخلف خمسة ملايين كراون في خزانته عند موته.

أما شغله فكان السياسة الخارجية. فهو لم يطلق الأمل قط من إعادة إنجلترا وألمانيا إلى حظيرة الكاثوليكية وتوحيد كلمة العالم المسيحي ضد الإسلام. أعجبته كفاية اليزابيث في السياسة والحكم، ولكنه مد يد المعونة للمؤامرات التي استهدفت خلعها. ووعد بالمساهمة في نفقات الأرمادا الأسبانية، ولكنه ارتاب في تباطؤ فيليب، واشترط في دهاء أن تكون معونته رهناً بنزول الجيوش الإسبانية افترض أنهم ابيدوا عام 1572 كانوا يزحفون على باريس بقيادة هنري نافار الذي لا تقل له عزيمة. وكان فيليب الثاني يمول الخلف لينفذ فرنسا من براثن البروتستنتية ويحفظها للكاثوليكية-ولأسبانيا. وكان على سيكستوس أن يختار بين أمرين: فإما أن يترك فرنسا تنحرف إلى البروتستنتينية، وإما أن يعين فيليب على تحويل فرنسا إلى ولاية اسبانية. ولكن توازن القوى بين فرنسا وأسبانيا يدا أمراً لا غنى عنه للبابوية أن أرادت التحرر من سلطان القوى لدنيوية. وفي عام 1589 وعد سيكستوس بالاشتراك في حرب ضد هنري، ولكنه انسحب من هذه الخطة حين تعهد هنري باعتناق الكاثوليكية. وهدد فيليب بسلخ أسبانيا من واجب الطاعة للبابا، وندد يسوعي أسباني بالبابا لأنه يحرض على الهرطقة، ولكن سيكستوس لم يهتر، فاستقبل سفير هنري بالترحيب، وتبين آخر الأمر أنه على حق في ثقته بهنري، فقد استنقذت الكنيسة فرنسا؛ واستمرت فرنسا ميزان قوة ضد أسبانيا.

وكان هذا آخر انتصاراته، ولعل الجهد الذي بذله فيه أضناه. ولم يحزن على موته (1590) لا الكرادلة ولا الأشراف ولا الشعب، أما الكرادلة فقد أجفلتهم صرامته، واما الأشراف فقد أكرهوا على طاعة القانون برغم ما ألفوا من عادات تقدست كثيراً بحكم القدم، وأما الشعب الذي فرض عليه اقصى ما يمكن فرضه من ضرائب وأدب ليلزم سلاماً لم يألفه، فقد حاول تحطيم التمثال الذي أقيم لسيكستوس في الكابيتول، ولكن بعد أن فقد الضربات التي كلها لذعتها، استطاع الخلف أن يوازنوا بين انجازاته وبين قسوته وكبريائه وولعه بالسلطة. وفي رأي »ليكي« المؤرخ العقلاني أنه »وإن لم يكن أعظم الرجال اللذين ولوا عرش البابوية، فهو إلى حد كبير أعظم رجل دولة بين البابوات(35)«.

ومن خلفائه في هذه الحقبة تفرد بالذكر رجلان. أما اولهما وهو كلمنت الثامن (1592-1605) فكان أقرب ما يكون إلى روح المسيحية. يقول صلى الهيجونوتي »كان بين جميع البابوات اللذين تربعوا منذ تلك الوداعة وذلك الحنو اللذين أوصي بهما الإنجيل(36)« بيد أنه رفض الرأفة على بياتريشي تشنشي (1599)، واذن لمحكمة التفتيش بحرق جوردانو برونو (1600). وأما الثاني فهو اوربان الثامن (1623-44)، الذي قدم المعونة أول الأمر لاسبانيا والنمسا في حرب الثلاثين سنة، ولكنه خشي أن تطوقاه حين حاولنا ابتلاع مانتوا، فاتحه بمناوراته الدبلوماسية إلى التعاون مع رشليو في استخدام جيوش جوستاف أدولف البروتستنتية لإضعاف قوة الهابسبورج. وقد سرت إليه العدوى من روح العصر العسكرية، فأخضع الشئون الدينية لمقتضيات التوسع شأن الملوك، واستولى على أوربينو وفرض عليها الضرائب الثقيلة-كما فرضها على دويلاته الأخرى-ليمول جيشاً بابوياً يعده لمحاربة دوق بارما. ولكن الجيش كان عاجزاً لا خير فيه، وخف موته المملكة البابوية »في حال من الانحلال والاعياء« كما يقول سفير بندق »بحيث يستحيل أن تقوم لها قائمة بعد اليوم(37). على أن السفير كان مخطئاً في حكمه، فقد ظهرت عناصر الانتعاش في كل مكان في الكنيسة، وشقت طريقها صعداً إلى البابوية. فالشعب الإيطالي البسيط، هذا الشعب الذي كان يتعزى عن شقائه الطويل بالتمسك بأهداب الدين وبالورع الخصب الخيال، ظل أفراده يقدسون مزاراتهم كما كانوا يفعلون من قبل، ويمشون خاشعين في المواكب الدينية، ويتجاذبون حديث المعجزات الجديدة، ويصعدون »السلم المقدس« على ركبهم في وجد صوفي أليم. لقد كشف قديسون كفليب نيري، وفرنسيس سيلز، وفانسان دبول، عن قدرة الكنيسة العريقة على أن تلهم أتباعها اعمق مشاعر التقوى والولاء، وهكذا نرى يسوعياً مثل الويسيوس جونزاجا يموت غير متجاوز الثالثة والعشرين وهو يخدم ضحايا الطاعون في روما (1591). لقد تقهقر الفساد والحرص اللذان ابتليت بهما الإدارة البابوية أمام هجمات المصلحين البروتستنت، وحض القديسين، والقدوة الملهمة التي أتاحها للناس أحبار كالقديس شارل بوروميو الميلاني. فنمت، ولو في شيء من التعثر، حركة الاصلاح الذاتي من بابا إلى آخر. ونفخ من جديد في الطوائف الدينية القديمة واستكثر من الطوائف الجديدة-الأوراتوريون (1564)، ومنذورو القديس أمبروز (1578)، وصغار الكهنة النظاميون (1588)، والعازريون (1624)، واخوات البر (1633)، وكثير غير هؤلاء. وأنشئت الكليات اللاهوتية في أرجاء العالم المسيحي لإعداد طبقة متعلمة من اكليروس غير منسب إلى رهبنة. وانطلق المبعوثون الكاثوليك إلى كل بد غير مسيحي، يقابلون المكاره الأخطار،ويعنون بالمرضى، ويعملون الصغار، ويبشرون بالدين. أما اليسوعيون المدهشون، الذين لا تقل لهم عزيمة، فقد تحركوا في كل مكان، يصارعون البروتستنتية في ألمانيا، ويدبرون المؤامرات السياسية في فرنسا، ويموتون في سيبل عقيدتهم في إنجلترا، ويحملون الإيمان إلى »الوثنيين« في قارات الدنيا الخمس.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- اليسوعيون

أ- في أوربا

بعد أن مات دييجو لاينتز (1565)، اختارت »جمعية يسوع«، فرانتشسكو بورجا قائداً لها، وكان خلقه وسيرته علامة على جيله. فهذا الرجل الذي ولد غنياً، والذي كان حفيداً للبابا إسكندر السادس، وارتقى دوقا لجانديا ثم حاكماً لقتلونيا، والذي صاحب الملوك-هذا الرجل دخل الطائفة الجديدة عام 1546، ووهبها كل ثروته الشخصية، واكتسب مرتبة القديسين بما اتصفت به حياته من قداسة صارمة. أما خليفته ايفيرارد مركوريان فلم يترك أي أثر في التاريخ، ولكن كلوديو أكوافيفا قاد الجمعية بكثير من الحكمة والباقة خلا أربعة وثلاثين عاماً من المتاعب (1581-1615) حتى ليعده كثير من اليسوعيين زهاء خمسة آلاف، وحين مات كان عددهم ثلاثة عشر ألفاً.

وقد وضعت لجنة من فقهاء اليسوعيين تحت غدارته (1584-99) خطة للتعلم ظلت إلى عام 1836 تقرر نظام للدراسات في الكليات اليسوعية وطريقتها. فهذا النظام الدراسي الذي يتسلم الأولاد من سن الحادية عشرة إلى الرابعة عشرة ويمتد ست سنوات، كان يتيح لهم ثلاث سنوات من دراسة اليونانية واللاتينية لغة وأدباً، أما السنوات الباقية فتخصص للفلسفة بأوسع معانيها، فتشمل العلوم الطبيعية والمنطق والميتافيزيقيا والأخلاق.وتجمع الشواهد على أن هذه المواد كلها كانت تدرس على نحو يدعو للإعجاب. صحيح أن الفلسفة كانت وسيطة (سكولاستيه) ولكن لم يكن عنها بديل مقبول بعد. أما الأحياء والتاريخ الدنيوي الحديث فقد أهملا إلى حد كبير كما كان الشأن في جميع مدارس العصر تقريباً، ربما لأن بساطة الإيمان الواثقة كانت تتأذى من بشاعة مشهد الصراع على البقاء بين الحيوان، ومن موكب الحرب الذي لا يكاد ينقطع بين بني الإنسان. لقد كانت خطة الدراسة في جملتها توفيقاً ماهراً بين العصور الوسطى والنهضة. ففي قدرة بالغة على التكيف، رحب اليسوعيون بمولد الدراما من جديد، فترجموا والفوا ومثلوا المسرحيات، واكتشفوا في المسرحيات المدرسية وسيلة حية لتعليم الكلام والبلاغة، وتقدموا عصرهم في إدارة المسرح ومشاهده. واستعانوا بالمناظرات شحذا للذكاء وقوة الحجة، ولكنهم ثبطوا أصالة الفكر في المعلم والطالب على السواء. ولقد كان هدفهم فيما يبدو إعداد صفوة متعلمة ولكنها محافظة، قادرة على القيادة الذكية العملية ولكنها بنجوة من متاعب الشكوك العقائدية، راسخة في الإيمان الكاثوليكي لا تحدي عنه قيد أنملة.

وكانت المدارس اليسوعية في جميع الحالات تقريباً بإنشائها ومنح الهبات لها السلطات الزمنية أو زعماء الكنيسة أو الأفراد الميسورون، ولكن اليسوعيين احتفظوا بالهيمنة الكاملة عليها. ومع أن بعض كلياتهم أنشئ خصيصاً لأبناء الأشراف. فإن كلها تقريباً كان مفتوحاً، دون رسوم تعليم، لاي طالب مؤهل فقيراً كان أو غنياً(38). أما المدرسون الذين كانوا عادة من رجال الطائفة فأفضل إعداداً من نظرائهم البروتستنت؛ أوفياء لمهنتهم لا يتقاضون عنها أجراً، يتيح لهم ثوب الكهنوت وتأثيره سلطاناً محترماً مكنهم من حفظ النظام دون اللجوء إلى التخويف أو العقاب البدني. وقد أرسل كثيرون من البروتستنت أبناءهم إلى الكليات اليسوعية(39) لكي ييسروا لهم، فضلا عن الإلمام السليم بالدراسات الكلاسيكية، تدريباً رفيعاً على الفضيلة وآداب السلوك وقوة الخلق. يقول فرانسس بيكون »أما الجانب التربوي فاقصر قاعدة أن يقال لك استشر مدارس اليسوعيين، لأنه لم يجرب ما هو خير منها«(40). وفي عام 1615 كان لليسوعيين 372 كلية، وفي عام 1700 كان لهم 769، وأربع وعشرون جامعة منبثة في أرجاء العالم. وفي الدول الكاثوليكية كاد التعليم الثانوي باسره يكون في قبضتهم، مما أتاح لهم نفوذاً هائلا في تشكيل الفكر القومي.

ثم التمسوا مسمع الملوك في طرف السلم الآخر. وقد حظر عليهم أكوافينا ان يصبحوا كهنة اعتراف للملوك، ونهاهم عن الاشتراك في السياسة. ومع ذلك فحتى في عهد أكوافينا قبل الأب كوتون دعوة هنري الرابع له ليكون مرشده الروحي، وبعد هذا وافق اليسوعيون على رأي ألمع تلاميذهم فولتير، وهو أن خير السبل لتشكيل الشعب هو تشكيل ملكه. وما أوفى عام 1700 حتى كانوا آباء الاعتراف لمئات من أبرز الشخصيات. وكان النساء على الاخص شديدات الشعور بحسن آدابهم ويتقبلهم السمح للدنيا، وبفضل تلقيهم اعترافات لنساء ذوات أهمية، استطاع الآباء الدهاة أن يصلوا إلى رجال ذو أهمية.

وإذ جهروا بنية الاختلاط بالناس بدلا من الاعتزال في الأديرة، فقد كيفوا مبادئهم الخلقية وفق طرق البشر العصية على الاصلاح. ففي رأيهم أن الأخلاق المسيحية الصارمة لم تكون ميسورة إلا للنساك والقديسين، فواقع الطبيعة البشرية يقتضي بعض التخفيف من قاعدة الكمال. ومثل هذه التوفيقات للقانون الخلقي وضعها أرسطو على نزعة أفلاطون الكمالية، ووضعها معلمو الناموس اليهود ليلائموا بين الشرائع العبرية القديمة والظروف الجديدة للحياة الحضرية. ومع أن اليسوعيين في مذهبهم - وفي تطبيقهم للمذهب عادة - يحتقرون الجسد، فأنهم فهموا الجسد، وأتاحوا له ملاذا خلقياً لكيلا يكره الخطاة على التمرد فتخسرهم الكنيسة. ورغبة في تخفيف التوتر بين ناموس المسيح وطبيعة البشر، طور اللاهوتيون من اليسوعيين وغيرهم فكرة الإفتاء - أي تطبيق التعاليم الخلقية على الحالات الخاصة. ولكن لنترك الآن هذا العلم العويص حتى نصل إلى أعدى أعدائه بليز باسكال.

ويمكن القول عموماً بأن اليسوعيين مالوا في لاهوتهم إلى الرأي السمح والنظرة المتحررة. كان من رأي بعضهم، كالأب ليس والاب هامل في لوفان (1585)، إنه ليس من الضروري الإيمان بأن كل كلمة أو كل تعليم في الكتاب المقدس موصى به من الله(41). وقد أكد كل اليسوعيين تقريباً المعتقد السكولاسي القائل بأن الحكومات الزمنية تستقي سلطتها من الشعب، وقد بشر عدد غير قليل منهم - مثل ماريانا وبزنباوم - بحق الشعب عن طريق ممثليه الشرعيين في أن يعزل، بل أن يقتل، الملك »الفاسد« ولكن »الفاسد«في هذا المجال كان معناه المهرطق، وربما كان مبعث هذا التشديد الديمقراطي رغبة اليسوعيين، بحكم ولائه المطلق لسيادة روما، في الإعلاء من سلطة البابا التي تفردت بالقداسة والسمو. وعلى النقيض من لوثرن آمن اليسوعيون بفعالية الأعمال الصالحة في نيل الخلاص، واستنكروا على الخطية الأصلية، وقابلوا الجبرية القائمة التي قال بها بولس، وأوغسطين، ولوثر، وكلفن، ويانسن، بالتأكيد من جديد لحرية الإرادة. ولقد أثار لويز مولينا، وهو يسوعي أسباني، ضجة لاهوتية حين زعم أن الإنسان يستطيع تقرير مصيره الابدي بإرادته وأعماله، وان اختياره الحر يمكن إما أن يتعاون مع النعمة الإلهية أو يغلبها. وطالب اللاهوتيون والدومنيكان بإدانة مولينا بالهرطقة، ولكن اليسوعيون خفوا للدفاع عنه، وحمى وطيس الجدل إلى حد دعا كليمنت الثامن إلى أمر الفريقين بالكف عنه (1596). وتضافرت أخلاقيات اليسوعيين، الرحيمة بالقياس إلى أخلاقيات غيرهم، مع أفكارهم الراديكالية، واتصالاتهم المحافظة، وسلطانهم المتسع، لتزهد فيهم الاكليروس الكاثوليكي غير المنتسب إلى الرهبان وتثير كراهية البروتستنت لهم. فرماهم القديس شارل بوروميو بالتساهل المخزي مع ذوي النفوذ من الخطاة(42). وقال ساربي لو أن القديس بطرس كان مرشده كاهن اعتراف يسوعياً لوصل به الأمر إلى إنكار المسيح دون أن يحسب ذلك عليه خطيئة(43). أما موتيو فيتيللسكي، قائد اليسوعيين الذي خلف أكوافيفا، فقد نبه أفراد الطريقة إلى أن حرصهم على جمع المال يثير اللوم عليهم من جمع الناس(44). وأما القساوسة البروتستنت في إنجلترا، الملتزمون بعقيدة الحق الإلهي لملوكهم في الحكم، فقد صدمتهم آراء اليسوعيين في سيادة الشعب وقتل الملوك أحيانا. وندد روبرت فيلمر برأي الكردينال بللارميني القائل بأن »السلطة الزمنية أو المدنية..كائنة في الشعب، إلا إذا خلعها على ملك«(45). أما البروتستنت الألمان فحاربوا اليسوعيين زاعمين أنهم »مخلوقات من الشيطان تقيأتهم جهنم« وطالب بعضهم بحرقهم كما تحرق الساحرات(46). وفي عام 1612 ظهر في بولندة كتاب »التعليمات السرية«، وهو يوهم قارئه بأنه تعليمات سرية لليسوعيين في فن الظفر بالتركات والوصول إلى السلطات السياسية. وأعيد طبع الكتاب اثنتين وعشرين مرة قبل علم 1700. وكان يصدق إلى وقتنا هذا تقريبا، ولكن أغلب الرأي فيه الآن أنه أما هجاء ذكي أو تزوير وقح (47).


ب- في الأقطار غير المسيحية

كان الرأي عند الجماهير الكاثوليكية أن أخطاء اليسوعيين لها ما يرجحها كثيرا من فضائل في التعليم وجرأة في التبشير. صحيح أن طرقا دينية أخرى شاركت في هذه المغامرة التقية، مغامرة نشر الدين، ولكن أين هذا من جرأة اليسوعيين وإقدامهم واستشهادهم في الهند والصين واليابان والأمريكتين؟ ففي الهند مثلا دعا السلطان المغولي المستنير أكبر بعض اليسوعيين إلى بلاطه في فاتحبور سكري (1579)، واستمع إليهم في حب استطلاع وتعاطف، ولكنه أبى أن يطرد حريمه. وأنضم شريف إيطالي يدعى روبرتودي نوبيلي إلى جماعة اليسوعيين، وذهب إلى الهند مبشرا (1605)، وهناك درس العقائد والطقوس الهندية، واتخذ لباس البراهمة واتبع نظامهم، وألف الكتب بالسنسكريتية، وحول البعض إلى المسيحية. ومارس يسوعيون آخرون اليوجا، وعملوا بين الطبقات الدنيا. وعبر المرسلون اليسوعيون الهملايا إلى التبت حوالي عام 1624 وزودوا أوربا بأول معلومات وثيقة-وآخرها حتى وقت طويل-عن ذلك العالم المحجوب. أما اليابان فقد دخلها اليسوعيون في تاريخ مبكر (عام 1549)، وفي عام 1580 زعموا أنهم حولوا إلى المسيحية 100.000، وفي عام 1587 امروا بالرحيل عم الجزر، وفي عام 1597 لقي اليسوعيون والفرنسسكان اضطهادا عنيفا صلب فيه القساوسة والرهبان وآلاف المسيحيين اليابانيين-وهي طريقة جديدة زعم قاتلوهم أنهم أخذوها عن الأناجيل. وحوالي عام 1616 دخلت فئة جديدة من اليسوعيين اليابان وكسبوا مسيحيين جددا لا يستهان بعددهم، ولكن التجار الهولنديين والانجليز حرضوا الحكومة على اضطهادهم من جديد ظنا منهم بأنهم يمهدون الطريق للتجارة البرتغالية أو الأسبانية(48)، فأعدم من اليسوعيين واحد وثلاثون، ولم تحل سنة 1645 حتى اختفت المسيحية من اليابان.

وأما الصين فكانت خطراً يتحدى اليسوعيين، إذ توعد الأباطرة أي مسيحي يجرؤ على دخول »المملكة الوسطى« بالموت. وقد رأينا في غير هذا الموضع من الكتاب كيف مات اليسوعي فرانسس زافير (1552) وهو قاب قوسين من الصين بعد أن عول على كسبها للمسيحية. وفي عام 1557 أنشأ التجار البرتغاليون مستعمرة في مكاو، على ساحل الصين الجنوبي الشرقي. هناك انقطع بعض اليسوعيين لتعلم لهجات الصين وعاداتها. وأخيراً دخل اثنان منهم، وهما ماثيو ريتشي وميكيلي رودجيري، ولاية كوانتونج مسلحين باللغات والفلك والرياضة والساعات كبيرها وصغيرها والكتب والخرائط والآلات. وافتتن حاكم الإقليم بهذه الطرف وكانا يتخذان أسماء صينية ولباسا صينيا، ويعيشان عيشة البساطة، ويشتغلان بجد، ويسلكان مسلك التواضع الذي توقعه الصينيون من أبناء حضارة حديثة العمر قليلة النضج كحضارة أوربا، لذلك سمح لهما بالبقاء. واتخذ ريتشي سمته إلى كانتون حيث أثار إعجاب المندوبين (كبار الموظفين) بمعارفه العلمية والجغرافية. وهناك أقام المزاول، ورسم الخرائط المريحة الوثيقة، وأجرى الحسابات الفلكية العويصة. ثم دخل اصدقاءه الجدد إلى حظيرة المسيحية بكتابته خلاصة مفرغة في أسئلة وأجوبة شرحت العقائد الأساسية للمسيحية، ودعمت بمقتبسات من النصوص الشرقية القديمة. وشجعه التسامح الذي لقبه فانتقل إلى ضاحية من ضواحي بكين (1601) وأرسل ساعة كبيرة إلى الأمبراطور (كانج هسي) فلما تعطلت الساعة ولم يستطع أحد من العلماء الصينيين أن يديرها من جديد، أرسل »أبن السماء« في طلب مهديها. وحضر ريتشي، وضبط الساعة، وقدم إلى الحاكم الطلعة مزيدا من الأدوات العلمية، وما لبث ريتشي وآخرون من اليسوعيين أن ثبتوا في بلاط مينج. ولم يضع الامبراطور الطيب أي عقبه في سبيل اعتناق كثير من علية الصينيين للمسيحية. وبعد موت ريتشي (1610) واصل يسوعي آخر يدعى »يوهان آدم شال فون بل« عمل البعثة العلمي والتبشيري. فاصلح التقويم الصيني، وصنع المدافع الممتازة للجيوش الصينية، وغدا الصديق الحميم للإمبراطور وموضع إكرامه، ولبس الحرير المندري، وسكن قصرا، وقامر بالسياسة، ثم ألقى في أحد السجون، ومات بعد سنة من الافراج عنه.

وقد تكون بقية القصة، التي اتصلت إلى القرن الثامن عشر، باعث تسلية لمؤرخ فلسفي النزعة. ذلك ان اليسوعيين في الصين كانوا بفضل تبحرهم في العلم، قد نفضوا عنهم تزمت اللاهوت. فحين درسوا آداب الصين الكلاسيكية تأثروا بما كشفوه فيها من حكمة سامية. وبدت لهم عبادة الصينيين لأسلافهم كأنها دافع رائع على الاستقرار الخلفي والاجتماعي، وكان في كونفوشيوس الكثير مما يبرر تبجيله. ولكن مرسلين آخرين شكوا إلى محكمة تفتيش روما (1645) من أن اليسوعيين يغضون من قدر الصليب وعقيدة الخلاص الإلهي لما قد يصدم الصينيين مهما إذ لا عهد لهم بفكرة البشر يقتلون إلها، ومن أن اليسوعيين يتلون القداس بالصينية دون اللاتينية، وأنهم أذنوا لمن نصروهم بأن يحتفظوا بكثير من شعائر دينهم القومي، وأن المبعوثين اليسوعيين يقتنون المال لأنهم يعملون أطباء وجراحيين وتجارا ومرابين ومشيرين للقواد والأباطرة. أما اليسوعيون فقد راعهم إصرار الدومنيكان والفرانسسكان على أن يقولوا للصينيين إن المسيحية هي الملاذ الوحيد من الهلاك الأبدي، وأن الأسلاف الذين يعبدونهم إنما يصلون نار جهنم. وأمر أنوسنت العاشر اليسوعيين بحظر قرابين اللحم والشراب التي تقدم لظلال الأجداد. وكان الآباء اليسوعيون خلال ذلك يرسلون إلى أوربا أوصافا لحياة الصين ودوينها وفكرها، وهي الأوصاف التي قدر لها أن تشارك في ازعاج السنية المسيحية في القرن الثامن عشر. وأما في أمريكا الجنوبية فقد اكتسب المرسلون اليسوعيون احترام الوطنيين وثقتهم بفتحهم المدارس والمراكز الطبية، وبذلهم الجهود الشاقة للتخفيف من وحشية السادة الأسبان. وقد صنفوا المعاجم وكتب النحو، وارتادوا المجاهل الداخلية الخطرة، ودفعوا الجغرافية دفعة هائلة. وارسلوا إلى أوربا قشرة الشجرة البيروية التي أصبحت-في هيئة الكينين- العقار الثابت لعلاج الملاريا. وفي براجواي أنشئوا مجتمعا مثاليا شيوعيا.

هنالك في سهول الباميز والغابات التي تحف بنهر أوروجواي، وفوق الشلالات الخطرة التي ثبطت همة المستعمرين، نظموا مستوطناتهم الهندية. واذن لهم فيليب الثالث ملك أسبانيا في أن يحظروا الإقامة فيها على جميع البيض فيما خلا اليسوعيين المستعمرة. وقالوا إنهم وجدوا في الأهالي براءة ومودة- ومائتا ألف من الهنود صالحون من جميع الوجوه لملكوت الله«.(49) فتعلموا لغة الأهالي ولم يعلموهم الاسبانية ولا البرتغالية، وثبطوا كل اتصال بالمستعمرين. واستمالوا الناس إلى المسيحية بالمحبة والرحمة والموسيقى. وأنشئوا المدارس لتعليم الموسيقى، والفوا الفرق الموسيقية التي تعزف على جميع الآلات الأوربية الهامة وتؤدي كل ألوان الالحان تقريبا، حتى المختارات من الأوبرات الإيطالية. وسرعان ما تعلم الأهالي أن ينشدوا أضخم ألحان الكورال. وقيل على التحقيق إنه في فرقة من ألف صوت لم تسمع نغمة ناشزة واحدة. وكانت فرقة الموسيقى تتقدم الناس في غدوهم ورواحهم، وتصحب جهدهم في المتاجر والحقول. واحتفل القوم بالأعياد المسيحية بالغناء والرقص والالعاب الرياضية, وألف الآباء اليسوعيون المسرحيات الفكاهية ولموا الرعية كيف يؤدونها.

ولقد هيمنوا على الاقتصاد كما هيمنوا على شئون الحكم. وأبدى الأهالي استعدادا ملحوظاً لمحاكاة المنتجات الأوربية، حتى صناعة الساعات المعقدة، والمخزمات الهفافة، والآلات الموسيقية. وكان العمل إجبارياً، ولكن للشباب الحرية في اختيار حرفهم، ويباح الفراغ اللازم للترفيه والتثقيف. أما يوم العمل فثماني ساعات في المتوسط. وحدد اليسوعيون ساعات العمل والنوم والصلاة واللعب. وكان جزء من الارض يملكه الأفراد، ولكن أكثرها ملك مشاع, ونتاج العمل الجماعي يسلم للحكومة ويفرز جزء منه للبذر او لسنوات الجدب، وجزء يؤدي فرضة رءوس لملك أسبانيا، وأكثره يوزع على العشرين الف اسرة كل حسب حاجته، ومن المسلم به أن جزءاً كان يخصص ليعول، على مستوى متواضع(50)، اليسوعيون المائة والخمسين الذي يعملون مديرين وملاحظين وأطباء و معلمين وقساوسة. وقد حرم عليهم بمقتضى مرسوم ملكي اقترحه اليسوعيون أن يشاركوا في أرباح الاقتصاد، وطلب إليهم أن يقدموا حساباً دورياً لرئيسهم الإقليمي. أما القانون فيطبقه قضاة وشرطة من الوطنيين، وأما العقوبات فهي الجلد والسجن والنفي وليس فيها الإعدام. ولكل مستوطنة مستشفاها وكنيستها للتيسير على الشيوخ أو العجزة. لقد كانت شيوعية دينية، ينال فيها الوطنيون الرزق والأمن والسلام وقسطاً من الحياة الثقافية نظير قبولهم المسيحية والنظام.

من أين يا ترى استقى اليسوعيون فكرة هذا النظام العجيب ؟ ربما بعضها من »يوتوبيا« مور (1516)، وبعضها من الأناجيل، وبعضها من دستور جماعتهم التي كانت هي ذاتها أشبه بجزيرة شيوعية وسط بحر يدين بالفردية. أياً كان الأمر، فقد أثبت النظام أنه محل حب الوطنيين لأنه أقيم على الإقناع دون ضغط، وحافظ على كيانه 130 عاماً (تقريباً 1620-1750)، وحين هوجم من الخارج دافع عن نفسه بحماسة أذهلت المهاجمين، وكان مثل الإعجاب حتى من شكاك حركة التنوير الفرنسية. يقول دالمبير »اقام اليسوعيون بالدين سلطة ملكية (؟) في برجواي، لا تستند إلا على ما أوتوا من قوة في الإقناع وترفق في الحكم. وإذا كانوا السادة المتصرفين في البلد فإنهم اسعدوا الشعب الذي حكموه.« أما فولتير فوصف هذه التجربة بأنها »انتصار للإنسانية«)51). وقد انتهى النظام بكارثة لأنه لم يستطع عزل نفسه عن العالم الخارجي فالتجار الأسبان نعوا على اليسوعيين اشتغالهم بالتجارة، والمستعمرون الأسبان كرهوا أن يحال بينهم وبين منطقة تغرى باستغلال الموارد والبشر(53). وراحت عصابات خطف الرقيق تهاجم المستوطنات اليسوعية المرة بعد المرة، وأخلى الآباء ورعاياهم الأقاليم الأكثر تعرضاً لغاراتهم. فلما أوغلت الغارات حصل اليسوعيون على إذن من ملك اسبانيا بتسليح الأهالي بأسلحة أوربية، وبعدها أمكن مقاومة الغارات بنجاح. على أن خطراً أكبر على المستعمرة كان يكمن في مجرى السياسة والفكر الأوربيين. ذلك أن الدسائس السياسية المستمرة التي تورط فيها اليسوعيون في فرنسا واسبانيا والبرتغال تضافرت مع نهضة الفكر الحر والعداء للاكليريكية لتفضي إلى طرد جماعة اليسوعيين من جميع الأقطار تقريبا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ونشط المركيز بومبال-وهو وزير حاكم في البرتغال-نشاطاً ملحوظا في حركة العداء لليسوعيين. ففي عام 1750 رتب إبرام معاهدة بمقتضاها نزلت البرتغال لأسبانيا عن مستعمرة سكرمنتو، على مصب ريو دلا بلاتا، لقاء أراض أسبانية أبعد منها شمالا-شملت سبع مستوطنات يسوعية تضم ثلاثين ألف هندي. وراجت خلال ذلك شائعة تزعم أن بهذه الأراضي ذهبا وأن اليسوعيين يختزنوه. وأمرت السلطات البرتغالية الآباء والأهالي بالرحيل عن المستوطنات السبع خلال ثلاثين يوما. أما اليسوعيين فاشاروا بالتسليم (كما توقع الناس)، وأما الهنود فآثروا المقاومة، وردوا الهجمات البرتغالية طوال سنوات خمس. ولكن في عام 1755 جلب الجيش البرتغالي المدفعية، وذبح المئات من الهنود، أما الباقون ففروا إلى الغابات أو استسلموا، واصدر الرؤساء اليسوعيون في أوربا لمرءوسيهم الأمر بالعودة إلى أسبانيا. وهكذا اختتمت تجربة »المسيحية السعيدة« كما سماها موراتوري(53). أما قصة المبعوثين اليسوعيين في أمريكا الشمالية فهي أشهر، ويكفي أن نلم بها إلمامة سريعة لنحيط بمجال النشاط اليسوعي في هذه الحقبة. فقد دخلوا المكسيك عام 1572 وشاركوا في تحويل الوطنيين بسرعة إلى المسيحية، ولكن عبء هذه المغامرة الأكبر وقع على كاهل الدومنيكان والفرانسسكان. وترك الفرنسسكان قافلة من البعثات والهيئات اللطيفة للرهبان »المتسولين« على طول الطريق من المكسيك إلى المدينة الفاتنة التي تحمل أسم مؤسس طريقتهم. ولقي كثير من اليسوعيين العذاب وأبشع الميتات في محاولتهم ضم الهنود إلى حظيرة الكاثوليكية. من ذلك أن إسحاق يوجس شوه جسده واستبعد ثم قتل. أمان جان دبريبوف، وجابرييل لالمانت، وأنتوني دانيال، وغيرهم من اليسوعيين، فقد احرقوا أو غلوا على النار خلال عامي 1648-49. قد نختلف مع هؤلاء الرجال على اللاهوت الذي حاولوا بثه، ولكن يجب أن نحترم إنسانيتهم وإخلاصهم، ولو لمجرد كونهما النقيض المؤسف لقسوة المستعمرين والمسيحيين وجشعهم، هؤلاء الصيادين الجلابين للرقيق، الذين شكوا من أن نشاط المبشرين الإنساني يحول دون تحضير الهنود.


4-أيام إيطاليا ولياليها

كتب مونتيني حين رأى أهل روما عام 1581 »إنهم يبدون أقل تديناً من أهل المدن الصالحة في فرنسا، ولكنهم أكثر ولعاً بالمراسم والطقوس(54)« وكانت احتفالات أسبوع الآلام تشمل مواكب من أفراد يجلدون انفسهم حتى تسيل دماؤهم، وإذاعة قرارات الحرم البابوي، وعرضاً للقناع الذي مسحت به فيرونيكا العرق من جبين المسيح. »رأيت في عشية القيامة بكنيسة القديس يوحنا لاتيران رأس القديسين بولس و بطرس، المعروضين هناك، والمحتفظين بلحمهما، وجلدهما، ولحيتهما، كأنهما حيان(55). وكان إخراج الأرواح النجسة يمارس بطقوس شديدة الوقع في النفوس، ربما كضرب من العلاج النفسي الجماعي. ولقد تجاهلت الكاثوليكية في إيطاليا عن عمد عقول الصفوة من الناس وقدمت لجماهير الشعب ناموساً خلقياً خيراً ولكن غير مرحب به، لف في الشعر والدراما والرمزية والتنفيس والرجاء. وشهد مونتيني بتحسن عام في أخلاق الناس، ولكن ما زالت العلاقات بين الجنسين يشوبها كثير من التراخي القديم. فقد بلغ من خلاعة المسرح الإيطالي سواء في الحركة أو الحوار أن مجلس شيوخ البندقية طرد جميع الممثلين من أراضيه (1577)(56) مع أنه كان يغضي عن البغاء. وكان الأدب الفاجر يشترى في أي مدينة كبيرة كما هي الحال اليوم في أي مكان تقريباً من العالم المسيحي. وحين اعتبر البابا بيوس الخامس اللواط جريمة كبرى جزع للقرار شباب روما من النبلاء. وقد دخل ثمانية لواطيين برتغاليين في زواج رسمي، فقبض عليهم وأحرقوا(57). كذلك أمر بيوس بطرد البغايا من الدويلات البابوية (1566). وشكا رجال الأعمال من أن المرسوم سيقفز المدينة، فأذن البابا لبعض المومسات بالبقاء في حي معزول، وقدم المعونة الكبيرة للنساء اللاتي حاولن الانتقال إلى مهنة أحدث عمراً. أما سيكستوس الخامس، ذلك الذي قهر قطاع الطرق، فلم يصب غير انتصارات باهظة الثمن على الغانيات، كما تشهد مراسيمه المتكررة في 1586 و 1588 و 1589.

وإذ كان الحب الرومانسي لا يزال نزوة خارج الرباط الزوجي، والزواج تزويج المال بالمال، والطلاق محظوراً بأمر الكنيسة، فقد انغمس الأزواج من أرباب الخيال في الزنى. وفكر بيوس الخامس في اعتبار الزنى جريمة كبرى. وقد ورد في تقرير بتاريخ 25 أغسطس 1568 »إن التهديد بتقرير الإعدام عقوبة على الزنى أمر متوقع، فإما أن يتمسك كل امرئ بالفضيلة أو يرحل عن المدينة.« على أن بيوس لان وقنع بعقوبات أخف: فصدر حكم على سيدة من أشراف روما بالسجن المؤبد، وجلد مصرفي بارز بالسوط علانية، ونفي الكثيرون من المذنبين غير هؤلاء.

وفي أواخر القرن السادس عشر دخلت عادة وصفاء الزوجات إلى إيطاليا من أسبانيا بطريق نابلي وميلان: فكان للزوج من علية القوم أن يأذن لصديق بان يكون وصيفا (تابعاً شريفاً) لزوجته، والظاهر أن هذه العادة نشأت في أسبانيا إبان الحروب المتكررة وطول غياب الزوج عن بيته. وكان الوصيف الفارس يخدم السيدة النبيلة منذ استيقاظها حتى نومها، ولكن العرف لم يكن قد أغضى بعد عن الزنى الذي كثيراً ما رافق هذه العادة في إيطالية القرن الثامن عشر.

أما الجريمة فقد أفرخت برغم المعوقات اللاهوتية. فكثر الفتاك في ببيوت النبلاء، ورجال العصابات في الطرق العامة، والقراصنة في البحر المتوسط، والاغتيالات السياسية والغرامية. من ذلك أن باولو جوردانوا أورسيني خنق إيزابللا مديتشي في فراشها كما فعل عطيل بزوجته؛ وقتل بييرو مديتشي لشبهة الزنى، وقد رأينا كيف نقل جون وبستر عن قصة فيتوريا أكورامبوني الدامية روايته »الشيطان الأبيض«، ومثل هذا سيفعله شلي مع بياتريتشي تشنشي، التي كان أبواها فرانشسكو تشنشي مضرب المثل في الرذيلة والتوحش. وفي عام 1594 حوكم بتهمة اللواط، ولكنه افلت بغرامة قدرها 105.000 سكودي. وماتت زوجته الأولى بعد أن ولدت له اثني عشر طفلا. ثم تشاجر مع أبنائه، فغادر روما مع بياتريتشي وزوجته الثانية لوكريتسيا بتروني، وانتقل إلى قلعة منعزلة في الطرق إلى نابلي. هناك حبسهما في عليتين وعاملهما بمنتهى القسوة، ولو أننا لا نملك دليلا على وجود علاقة محرمة بينه وبين ابنته. ووجدت بياتريتشي وسيلة للدخول في علاقة غير شرعية بينها وبين حارس القلعة. وبتحريض بياتريتشي، وزوجة أبيها، وشقيقيها جاكومو وبرناردو، أو لقاء أجر دفعوه له، قتل الحارس الأب في فراشه (1598)، مستعيناً بأحد القتلة المحترفين. وقبض على المتآمرين وحكموا، فدفعوا بالاستفزاز الذي لا يحتمل، وتقدم مواطنون كثيرون بطلب الرأفة إلى كلمنت الثامن، ولكنه ابى. فقطع رأسا بياتريتشي ولوكريتسيا، وعذب جاكومو حتى الموت(58).

ومع ذلك أخذت الأخلاق تنصلح، وآداب السلوك ترق، وكان للمجتمع الإيطالي مفاتن ولطائف لا يباريه فيها غير الفرنسيين,. فاللباس عند الطبقات العليا بهاء ملون من المخمل والساتان والحرير. وحوالي هذه الفترة بدأت نساء النبلاء يؤطرون وجوههن، ويكللن رؤوسهن، ويطرحن على أكتافهن الحرير الأسود »المانتيليا« وكان زياً فاشياً في أسبانيا. وظل وجهاء القوم يلبسون الجوارب الطويلة. أما العوام والتجار الذين ألفوا الزي التركي فأخذوا يعتادون لبس السراويل. وهزأت المسرحيات الفكاهية الإيطالية بهذه العادة في شخص »بانتاليوني« الهزلي المألوف، الذي اشتق منه لفظاً »بانتالونز« و »بانتز« (في الانجليزية). أما الملاهي فكانت كثيرة كما هي الحال في معظم الأقطار اللاتينية. فكان لروما كرنفالها السنوي قبل الصوم الكبير، وكانت الشوارع كما شهدها إيفلين عام 1645 »تعج بالبغايا والمهرجين والغوغاء من كل شكل »لون«(59) وكانت هناك سباقات في الكورسو، ترى فيها الجياد المغربية الفارهة، لا يمتطيها فارس ولكن تدفعها مهامز تتدلى على جوانبها، وسباقات للحمير، والجواميس؛ والشيوخ؛ والرجال العرايا، والغلمان، وكانت المسرحيات تمثل على مسارح متنقلة في الهواء الطلق. وكانت فنون الرقص والحديث والغزل تزين البيوت والحدائق والشوارع. وهل كان هناك إيطالي يجهل الغناء؟.


5- مولد الأوبرا

لقد شارك الدين، الحب، والرقص، والبلاط، بل حتى العمل، في مولد الموسيقى. ووجد إيفلين أهل الريف الإيطالي »غاية في المرح وإدمان الموسيقى، وحتى الزراع كانوا كلهم تقريباً يعزفون على القيثارة... ويمضون عادة إلى الحقل ومعهم كمانهم(60)« وكان لكل بلاط دوق فرقة مرتلين وقائد للعازفين في الكنيسة؛ وفي فيرارا أثار رباعي من النساء اشتهر باسم »فرقة موسيقى السيدات« الدموع في عيني ناسو وأطلق قلمه بالقوافي. ونسجت أغاني الحب الشعرية شكاواها المتعددة الأصوات، فجعلت التعبد للمرأة حتى زواجها موضع توقير يكاد يرقى إلى توقير الابتهالات الموجهة إلى والدة الإله. وانطلقت القداديس وصلوات المساء والألحان والترتيل يصدح بها ألف أرغن. وحوالي عام 1600 بدأت فرق من خصيان صغار تشنف آذان المصلين. ووصف زائر بروتستنتي موسيقى الكنيسة الكاثوليكية »التي يرتلها خصيان واصوات أخرى نادرة، تصحبهم الآلات الموسيقية، كالعود والبيان القيثاري والفيول؛ ترتيلا كاد يذهب بألبابنا(61) ودرب الرهبان والراهبات في فرق ترتيل تبعث الإيمان القويم حتى في الصدور المتوحشة. واجتذب أندريا جبرييلي، وكلوديو ميرولو، وجوفاني جبرييلي (ابن أخي أندريا) على التوالي ألوف المستمعين إلى كنيسة القديس مرقس بالبندقية لينصتوا لعزفهم على الأرغن ولفرقتهم الموسيقية ولفرق المرتلين التي يقودونها. وحين عزف جيرولامو فرسكوبالدي على الأرغن الكبير في كنيسة القديس بطرس احتشد ما لا يقل عن ثلاثين ألفاً في الكنيسة أو من حولها ليستمعوا لعزفه. وقد أثرت ألحانه المنوعة، المعقدة بتجاربها العويصة، في دومنيكو سكارلاتي، ومهدت للتطويرات الهارمونية التي جاء بها يوهان سباستيان باخ. وكانت الآلات الموسيقية متنوعة تنوعها اليوم تقريباً. وحوالي منتصف القرن السادس عشر بدأ الكمان، المتطور عن القيثارة، يحل محل الفيول. وكانت بريشيا مقر أول صانعين من صناع الكمان العظام، وهما جاسبارو داسالو وتلميذه جوفاني ماجيني. ويلوح أن أندريا أماني أخذ الفن عنهما وحمله إلى كريمونا؛ حيث اسلمه ابناؤه إلى آل جوارنيري وآل ستراديفاري. وقد لقيت الآلة الجديدة مقاومة من أولئك الذين آثروا أنغام القبول الأكثر نعومة ورقة. وقامت المنافسة بين الفيول والعود والكمان قرناً من الزمان. ولكن حين وجد آل أماتي الوسائل للتخفيف من حدة صوت الكمان ارتقت الآلة الجديدة إلى مقام الصدارة غير منازع، يعينها عليه ازدياد غلبة اصوات السوبرانو في الموسيقى الصوتية. كانت الألحان لا تزال توضع للصوت أكثر منها للآلة. وإلى هذه الفترة تنتمي شخصية شاعرية هي شخصية كارلو جزوالدو، أمير فينوزا، الذي زين النبالة بالموسيقى؛ والقتل بالأغاني الشعرية. ولد في نابلي (حوالي 1560) وأصبح عازف عود ممتازاً، وتزوج سيدة عريقة المولد؛ ودبر قتلها هي وعشيقها لشبهة الزنى؛ ثم هرب إلى فيرارا، وتزوج دونا اليونورا ديستي؛ ونشر خمسة كتب من أغاني الغزل انتقلت أنغامها الجريئة وانتقالات طبقاتها الحادة من قوالب النهضة إلى قوالب الأصوات المتعددة الحديثة. وفي فبراير 1600 أخرج ايميليو دي كافالييري؛ في مصلى القديس فيليب نيري بروما؛ قصة رمزية شبه مسرحية، الحركة فيها للرمز فقط؛ ولكن يصاحبها الأوركسترا والرقص والخورس والمغنون المنفردون هذه الموشحة الدينية »الأوراتوريو الأولى«، سبقت أوبرا بيري المسماة »أوريديتشي« بثمانية شهور لا أكثر، وشابهتها من وجوه كثيرة. وبعد مرور جيل آخر ألف جاكومو كاريسيمي أوراتوريوات وكنتاتات أثرت تراتيلها الفردية في تطور الإلقاء الأوبري الملحون.

والتقت خطوط كثيرة أخرى من التطور الموسيقي لتخرج لنا الأوبرا، فبعض »التمثيليات المقدسة« التي خلفتها العصور الوسطى أضافت الموسيقى والغناء إلى الحركة. ففي هذه، وفي موسيقاها المعبرة عن آلام المسيح، كانت الكنيسة أما للأوبرا أو حاضنة لها كما كان شأنها في كثير من الفنون الأخرى. فقد كانت المقاطع الملحوظة المصحوبة بالموسيقى تسمع في القصور أواخر العصور الوسطى. وذكر علماء النهضة أن قطعاً من المآسي اليونانية كانت تغني أو ترتل بمصاحبة الموسيقى. وفي بلاط مانتوا، عام 1472؛ جمع إنجيليو بولتسيانو بين الموسيقى والدراما في مسرحيته القصيرة »فافولادي أورفينو أورفينو وبدأت هذه الأسطورة الحزينة تشق الآن طريقها الطويل إلى الأوبرا. كذلك شقت مسرحية الأقنعة »الماسك« التي اشتد الإقبال عليها في قصور القرن السادس عشر طريقاً آخر إلى الأوبرا؛ ولعل الباليه؛ والمشاهد المسرحية المترفة؛ والملابس الفخمة التي تراها في الأوبرا الحديثة، منحدرة من الرقص والمواكب والثياب الفاخرة التي غلبت على الحركة في مسرحيات الأقنعة أيام النهضة. وفي أخريات القرن السادس عشر اقترح فريق من المتحمسين للموسيقى والأدب التقوا في بيت جوفاني باردي بفلورنسة أن يحيوا مسرحية اليونان الموسيقية بتحرير الأغنية من تعدد الأصوات الشديد ومن لغة القصائد الغزلية المفرقة المكتومة، وردها إلى ما كانوا يعتقدونه اسلوب المأساة القديمة الفردي (المونودي). فقام أحدهم وهو فنشنزو جاليلي، أبو الفلكي، بتأليف موسيقى مونودية لأجزاء من جحيم دانتي. ووضع عضوان آخران من الجماعة، هما الشاعر أوتافيو رينوتشيني والمغني ياكوبو بيري، النص والموسيقى لما يمكن أن نعده أول أوبرا واسمها »دافني«، وقد أخرجت في بيت ياكوبو كورسي في 1597)63). وقوبل الأداء بالاستحسان الكبير حتى أن رينوتشيني دعى إلى وضع الكلمات للحن أهم، وبيري وجوليو كاتشيني إلى تأليف موسيقى اللحن، وذلك احتفالا بزفاف هنري الرابع وماريا دي مديتشي بفلورنسة (6أكتوبر 1600). و »الأوريديتشي« التي مثلت هناك هي أقدم الأوبرات الباقية على قيد الحياة. وقد اعتذر بيري عن عيوب هذا العمل المستعجل، راجيا »أن أكون قد فتحت الطريق لموهبة غيري من المؤلفين، ليتأثروا خطاي نحو هذا المجد الذي لم يتح إلى بلوغه(63)«.

هذا المجد بلغه أحد الفحول في تاريخ الموسيقى، وهو كلوديو مونتيفردي. حذق العزف على الكمان في مسقط رأسه كريمونا، حتى أنه عين عازفاً للكمان في قصر دوق مانتوا وهو لا يتجاوز الثانية والعشرين (1589)، وفي الخامسة والثلاثين أصبح قائد فرقة المرتلين في الكنيسة. وقد ندد النقاد تنديدا شديدا بكتبه الخمسة في الأغاني الشعرية (1587-1605) لما أخذوه عليها من تنافر شديد، و »نقلات شديدة التحرر«، ومتواليات هارمونية »غير قانونية«، وخروج على قواعد مزج الألحان (الكونتر بنط). كتب جوفاني ارتوزي في »مثالب الموسيقى الحديثة« (1600-3) يقول »هؤلاء الملحنون المحدثون يحلو لهم فيما يبدو أن يخرجوا أعظم ما يستطيعون من ضوضاء بالجمع بين عناصر لا رابط بينها اطلاقا ومجموعات متعاظمة من الأنغام المتنافرة(64)«. ووجه مونتيفر دي محاولاته المتهورة إلى الشكل الجديد الذي سمعه في فلورنسة، فأخرج في مانتوا أول اوبرا من تلحينه، وهي »أورفيو« أخرى (1607) يشارك في عزفها أوركسترا من ستة وثلاثين عازفا. وسجلت الموسيقى والحركة في هذه الأوبرا تقدما عظيما على أوبرا »أوريديتشي« لبيري. وفي الأوبرا الثانية التي لحنتها مونتيفردي، واسمها »أريانا« (1608) كانت الحركة أشد مسرحية والموسيقى أكثر استهواء للسامعين. وبدأت إيطاليا كلها تردد عويل أردياني التي هجرها حبيبها »دعوني أمت«، وفي توسيع مونتيفردي للاوركسترا واعادة تنظيمه، وفي تمييزه المتكرر لكل شخصية بلحن خاص، وفي افتتاحياته 0سنفونياته) التي استهل بها اوبراته، وفي تجويده للموسيقى الصوتية والألحان، وفي جمعه الحميم، المعقد، بين الموسيقى والدراما، في هذا كله سجل من التقدم الحاسم في الأوبرا ما كان يفعله معاصره شكسبير في المسرح.

وانتقل مونتيفردي في 1612 إلى البندقية قائدا للمرتلين بكنيسة القديس مرقس. ولحن مزيدا من الأغاني الشعرية، ولكنه غير من هذا اللون الآخذ في الانحلال مسرفا في العنصر الالقائي اسرافا حدا بالنقاد إلى اتهامه بأنه يخضع الموسيقى للدراما (على نحو ما سيتهم به برنيني من اخضاع النحت للدراما)، ومما لا ريب فيه أن أوبرا مونتيفردي-ككل أوبرا تقريبا- ضرب »من الباروك« الموسيقى. وافتتحت البندقية أول دار عامة للأوبرا »تياترو دي سان كاسيانو«، وفيها استمر عرض أوبرا مونتيفردي »أدوني« من عام 1639 إلى كرنفال 1640، بينما كان أوبرا أخرى له تسمى »أريانا« تشغل مسرحا آخر بين الحين والحين. فلما أخرج آخر أوبراته »تتويج البابا« (1642) اغتبطت إيطاليا لأنها رأت أنه ما زال في عنفوانه رغم بلوغه الخامسة والسبعين (شأن فردي الذي أخرج »عطيل« وهو في الرابعة والسبعين). وبعد عام مات تاركا دنيا الموسيقى بعد أن أن الهمتها وجددت شبابها ثورته الخلاقة.


6- الآداب

يدهش المرء حين يرى إيطاليا جياشة بالعبقرية في كل ميدان، حتى في فترة الاضمحلال المزعوم هذه. لقد كان عصراً مثمراً في الأدب الإيطالي كما وتوقدا، ولا يحول بيننا وبين انصافه هنا سوى الافتقار إلى الوقت والحيز والمعرفة. كان طبيعياً أن يضمحل العلم الإيطالي بعد ما لحق الهام النهضة من كلال؛ فما كان في الإمكان أن يمضي الناس في الكشف من جديد عن اليونان والرومان إلى ما شاء الله. لذلك ترك الاهتمام بالآداب إلى الأكاديميات الأدبية، التي كانت محافظة بحكم نظامها. وكان لكل مدينة تقريباً في إيطاليا معهد أو جماعة منقطعة لبث الآداب وتبادل الشعر في حماسة. وقد سبقت أكاديمية كروسكا (أي الهيثم) التي أنشأت بفلورنسة عام 1572، الأكاديمية الفرنسية إذ صنفت قاموساً للغة (1612 وما بعدها) وحاولت تنظيم الأسلوب والذوق الأدبيين. أما المؤرخون الإيطاليون فكانوا خيرة مؤرخي العصر. وقد رأينا كتاب ساربي الناري »تاريخ مجمع ترنت«. كذلك أخرج الكردينال جويدو بنتيفوليو تاريخاً للثورة في الأراضي المنخفضة مشرباً بروح التعاطف الشديد. وكان من الجائز أن ينتج المزيد، لولا أنه مات في مجمع الكرادلة في اللحظة التي بدأ اختياره للبابوية قاب قوسين. وقد أفضى إلى موته، كما يقول نيكيوس اريتراوس، شخير كردينال في الحجرة المجاورة حرمه النوم إحدى عشرة ليلية متعاقبة(65). ومؤرخ آخر هو الكردينال شيزاري بارونيوس صنف تاريخاً ضخماً للكنيسة (الحوليات الكنسية 1588-1607) يقع في اثني عشر مجلداً من القطع الكبير زاده العلماء بعد ذلك إلى ثمانية عشر. وكان حكم رانكيه عليها أنها عاطلة من التشويق (66)، ولكن جيبون وجد فيها عونا له، وقد بذل الكردينال جهداً مشكوراً ليكون منصفاً، فقال »سأشعر بالحب الصادق للرجل الذي يصحح أخطائي بكل صرامة وقسوة(67)«، وتكفل إسحاق كازوبن بهذه المهمة، ولكنه اقلع عنها بعد أن كتب مقدمة ناقصة في ثمانمائة صفحة من القطع الكبير.

وأما المسرح فقد زكا، ولكن الدراما اضمحلت. فقل من التمثيليات الباقية الذكر ما ألف، ولكن كثر ما أخرج منها، وأخرج بسخاء في المناظر وبراعة في التمثيل جعلت اينيجو جونز يعجب ويتعلم. واشتد الطلب على الممثلين الإيطاليين في القارة طولا وعرضا. وبينما كانت أدوار النساء يقوم بها الغلمان في المسرح الإنجليزي، كانت النساء يؤدينها في إيطاليا. كان الناس يعبدون الممثلات؛ وقد كتب تاسو سونيتة لأيزابللا أندريني، التي لم تكن ممثلة جميلة فحسب، بل شاعرة لا بأس بها وزوجة فاضلة كذلك. وتطالعنا في هذا العصر تمثيليتان ممتازتان؛ من جهة لأنهما أرستا لوناً جديداً على المسرح-وهو الدراما الرعوية. وقد أعطاها تاسو دفعة بتمثيليته »أمينتا« (1573)، أما جوفاني باتيستا جواريني فقد أخرج مثلها الكلاسيكي في درامته »الباستور فيدو« (الراعي الوفي) (1585). قال تاسو »إذا لم يكن قرأ أمينتا فهو لم يبزها(68)« وقد وبخه الكردينال بللارميني لما في التمثيلية من إباحية، وقال أنها ألحقت بالعالم المسيحي من الضرر فوق ما ألحقته كل هرطقات لوثر وكلفن؛ على أن البحث الدءوب لم يعثر على منظر أكثر وقاحة من منظر كورسيكا الجميلة وهي تقدم »تفاحتي« صدرها لسيلفيو الذي لا يقدرهما، وهو صياد »يفرح بحيوان واحد يصيده ... أكثر من فرحته بكل حوريات البحر(69)« وإذا أستثنينا سيلفيو هذا وجدنا في المسرحية - ككل شعر هذه الفترة الإيطالي تقريباً - حرارة في الحس تصهر الحياة كلها في الحب. وتتجلى الحركة في ضرب من »الأركاديا« الرعوية، في ذلك »العصر الذهبي الجميل، حين كان اللين غذاء الناس الأوحد«، فلا رذيلة، ولا حزن يلوث الإنسان ، أما الحب فخلو من كل لوم وقيد(70). وتضافرت »أمينتا« ودرامة »الراعي الوفي« هذه ، وتمثيلية مونتيمايور »ديانا العاشقة«، وتمثيلية سدني »أركاديا« وتمثيلية فلتشر »الراعية الوفية« لتطلق نصف جمهور القراء الأوربيين ليسرحوا في المراعي.

وقد عد كرستشمبيني من ناظمي السونيتة 661 في إيطاليا لم يعيهم العثور على قواف رنانة لقصائدهم المغايرة قليلا لسونيتات بترارك(71). ومن أروع سونيتات العصر ما كتبه كامبانللا وبرونو، وكأنه شرار نفثه نار فلسفتهما. وقد هجا الساندرو تاسوني كتاب السونيته وعشاق بترارك وماريني وتاسو في قصيدة من عيون الشعر الإيطالي تدعى »الدلو المسروق«. وأبى الناشرون أن ينشروها لأن ضحيتها كان نبيلا ذا سطوة، ولكن الطلب عليها اشتد حتى لقد أثرى النساخ بنسخها وبيعها بسعر ثمانية كراونات للمخطوطة، وأخيراً طبعت في فرنسا وهربت إلى إيطاليا. ولم يفتتن القراء الإيطاليون بما في تعليقاتها اللاذعة من ذكاء وحدة فحسب، بل بفواصل من الشعر المصفى تخللت ذلك المرح الصاخب - قصة غرام أنديميون مروية جنباً إلى جنب تقريباً مع صورة لعضو في مجلس الشيوخ يسافر إلى الجنة على كرسي مرحاض. ولم يبز تاسوني فيما حظي به من استحسان في هذه الحقبة سوى شاعرين إيطاليين - هما تاسو وجوفانيباتيستا ماريني. أما جيوفاني فقد ولد في نابلي ونشئ ليكون محامياً، ولكنه هجر المرافعات إلى القوافي، واستمع حيناً بحياة التشرد. ثم منحه المركيز مانسو حجرة في قصره مغتفراً له إباحية شعره الغنائي، وهناك استطاع الفتى أن يشهد، على بعد خاشع، تاسو المحزون المشرف على الفناء. ثم القى به السجن لأنه ساعد صديقاً على خطف فتاة، ولما افرج عنه مضى إلى روما، حيث عينه الكردينال السمح بيتترو ألدوبر اندينو سكرتيراً خاصاً له. ثم اصطحبه الكردينال إلى تورين وهناك أخذه منه شارل ايمانويل دوق سافوا. وراح ماريني يرشف حيناً ما في حياة البلاط من خمر وخل.

وتهكم بشاعر منافس يدعى جسبارو مورتولا، كمن له في الطريق، وأطلق عليه النار، ولكنه أخطأ وأصاب خادماً من خدم الدوق. وحكم على مورتولا بالإعدام، ولكن ماريني حصل له على العفو، وناله أشد النكران من غريمه. وبعد أن سجن ماريني عقاباً على هجائيات موجهة ضد أصحابها توجيهاً مكشوفاً، قبل دعوة من ماري مديتشي ليكون زينة بلاطها في باريس (1615).ورحب به الإيطاليون في حاشيتها باعتباره الصوت المعبر عنهم فرنسا، وكان محل الإعجاب الشديد، وتلقى وظائف شرفية دسمة، واجزل له النبلاء والنبيلات المال ثمناً لنسخ من ملحمته »أدوني« قبل نشرها, ووجدت نسخة منها طريقها إلى الكردينال بنتيفوليو، فناشد ماريني أن ينقي القصيدة من فقراتها الفاجرة، ولا ندري إلى أي حد حاول المؤلف ذلك. ونشرت أدوني بباريس في 1623، وأدرجت في قائمة الكتب التي تحرمها الكنيسة، واصبحت البدعة الفاشية في إيطاليا والموضوع الذي تلوكه الالسن. وحين عاد ماريني إلى نابلي (1624)، رمى قطاع الطرق عربته بالورد، وخرج النبلاء لمرافقته، وهفت الحسان إليه من شرفاتهن. ولم يمض عليه عام حتى مات غير متجاوز الثانية والخمسين وقد بلغ ذرى الثروة والشهرة. أما أدوني هذه فقصيدة من عيون الشعر حتى في بلد يكاد الشعر أن يكون فيه كالغناء سجية وطبعاً. وطولها يوقفنا - الف صفحة بها 45.000 بيت. أما أسلوبها فمستغرق في كل الاعيب الكلام التي أطربت لايلي في إنجلتره، وجويفاره وجونجورا في إسبانيا، وبعض »متحذلقات« الأوتيل درامبيوييه في فرنسا؛ لقد كان التأنق اللفظي جزءاً من وباء أوربي. وكان لهذا الإيطالي الماهر غرام بالألفاظ يكاد يكون شهوانياً، فراح يقذف بها في مفارقات رنانة، وأخيلة غريبة، وإطنابات بارعة، بل في نكت وتوريات رشيقة. ولكن الجمهور الإيطالي في القرن السادس عشر بما طبع عليه من تدفق بالحديث الحار، لم يسوءه هذا الولع بحيل الألفاظ وألاعيبها.


وأي بأس بهذه الألاعيب اللفظية في عصر كان انشودة تسبيح للجنس في شتى صوره - العادي منه والوحشي، والشاذ، والحرام ؟ هنا رويت اساطير هيلاس الغرامية في رقة وظرف، هنا يلهو مارس وفولكان مع أفروديت، وهنا زيوس يغوي جانيميد، ومفاتن جسم الرجل هي حديث القوم السائر. وحاسة اللمس يشاد بها لأنها المصدر المدهش لألذ مباهج الإنسان. وها تتغزل النساء والرجال والوحوش في أدونيس البطل الذي حبته الآلهة حسن الصبايا كله، وتتودد إليه فينوس بحيلها الناعمة، ويحاول زعيم عصابة أن يجعل منه محظيته، وينتهي أمر الفتى المحبوب حباً يوقفه موقف العاجز، بأن يجرح في أصل فخذه جرحاً مميتاً اصابه به خنزير بري مدفوعاً بأحر النيات الغرامية. ترى هل كان هذا التركيز المخنث على الجنس تفريجاً وملاذاً من الغلو في الدين والإفراط في تسلط الأسبان؟


7- تاسو

توافر لتوركواتو تاسو الكثير من المغريات بالشعر. ولد في سورنتو (1544) حيث البحر ملحمة، والسماء أغنية، وكل ربوة من الأرض انشودة. وكان أبوه برناردو شاعراً، وموظفاً في البلاط، وإنساناً مرهف الحس مشبوب العاطفة، تآمر على الحكم الأسباني، ونفي في مملكة نابلي (1551)، وجاب الأرض من بلاط إلى بلاط تاركاً وراءه زوجته وولده في عوز وضنك. وتنتمي أمه بورنسيا دي روسي إلى اسرة توسكانية عريقة تجري الثقافة في عروقها. ودرس الصبي ثلاث سنوات في مدرسة لليسوعيين بنابلي، فشرب اللاتينية واليونانية في جرعات تحطم الأعصاب، ودرب على التقوى العميقة التي اثارت فيه الرجفة اللاهوتية تارة؛ ووهبته السلام الذي يجل عن الوصف تارة اخرى. وفي العاشرة لحق بأبيه في روما، وتركه موت أمه بعد عامين شديد التأثر طويل الحسرة. ثم رافق اباه إلى أوربينو والبندقية، وهناك نشر برناردو قصيدته »اماديجي« (1560) التي حكى فيها بالشعر قصة غرام من العصر الوسيط.


وكان توركواتو نفسه يجيش الآن بالشعر.. أرسل إلى بادوا ليدرس القانون، ولكن قدوة أبيه كانت أقوى من مبادئه، فأهمل الفتى درس الشرائع وراح ينظم القوافي، وكان منذ أمد بعيد قد وقع أسيراً لسحر فيرجل. فعزم الآن على أن يطبق الأسلوب المانتوي الرفيع الجاد على اساطير الفروسية التي عالجها أريوستو علاج المازح العابث. وهكذا فاجأ أباه برواية في اثني عشر قسما »رينالدو«. وكان شعور برناردو مزيجاً من الحزن والابتهاج، فقد تكشف له ما سيلقاه من صروف الأيام شاعر لا يملك غير عبقريته، ولكنه طرب لرؤية ولده الذي لم يجاوز الثامنة عشر ربيعاً ينافس أشعر شعراء العصر رقة وخيالا. ونشرت الملحمة الصغيرة بأمره (1562). واغتبطت نفسه بما لقيت من استحسان، فأذن لتوركواتو بأن يهجر دراسة القانون في بادوا ويستبدل بها الفلسفة والأدب في بولونيا. وهناك أثارت موهبة الفتى المتاعب، لأنه كتب »الأبجرامات« اللاذعة في مدرسيه، فهددوه برفع دعوى القذف ضده، وعاد من فوره إلى بادوا. وأقنع برناردو الكردينال لويجي دستي، أخا الدوق الفونسو الثاني أمير فيرارا، بأن يستخدم توركواتو سكرتيراً له (1565(. والتحق الشاعر مغتبطاً بهذا البلاط الذي كان يعد يومها أينع زهرة في بستان الثقافة الإيطالية. هناك القى مجتمعا يزخر بالموسيقى والرقص والأدب والفن والدسائس والحب. وافتتن تاسو بأختين للكردينال، لوكريتسيا المتغطرسة الجميلة بنت الواحدة والثلاثين، وليونورا، بنت التسعة والعشرين، المعلولة التقية التي جعلتها مشاجراتها مع الفونسو معبودة البلاط. وتروي الأساطير (كما نقرؤها في مسرحية جوته وفي قصيدة بايرون »عويل تاسو«) عن الشاعر وقوعه في غرام ليونورا، وما من شك في أنه طارحها القصائد المشوبة كما اقتضى العرف، وفي أن السيدتين قبلتاه في صداقة طوقت بهالة النبالة، ولكن إحداهما كانت تكبره بأحد عشر عاماً، والاخرى بتسعة أعوام، ويبدو أن واحدة منهما لم تمنحه شيئاً أدفأ من اذنيها. ولم يتزوج تاسو قط، إذا لم يكن في وسعه أن يعشق إلا الأميرات فلم يكن في وسعهن الزواج إلا من ذوي اليسار. ولعله خشي مطالب الزواج وقيوده، فقد جمع بين ضعف الثقة في قدرته، والتيه بشعره. وفي عام 1569 مات أبوه وهو لا يملك شروى فقير، واضطر تاسو إلى الاستدانة ليدفنه. وبعد عام اصطحبه الكردينال دستي إلى باريس، فجزع حين وجد شارل التاسع يخالط زعماء الهيجونوت في لطف وود، وجاهر بنقد الحكومة على انسجامها مع المهرطقين. أما الكردينال الحريص على رضاء الملك فقد رد سكرتيره المتعب إلى إيطاليا. ولم يغتفر له تاسو هذه الفعلة قط. وعزى ألفونسو الشاعر بأن ألحقه ببيته وأجري عليه معاشاً سنوياً دون أن يحمله من المسئوليات شيئاً غير أن يهدي الدوق الملحمة التي عرف أنه يكتبها عن الحرب الصليبية الأولى. تلك كانت سنوات سعيدة بالقياس إلى غيرها. ففي صيف عام 1573 أنجز في بلاط درامته الرعوية »أمينتا«، وقد أثلج صدره ما لقيت من نجاح. فسادة فيرارا وسيداتها الذين كانوا يعيشون على استغلال الفلاحين انتشوا حين رأوا نعيم الريفيين-على المسرح. وأطربت كل وجهاء البلاط صورة العصر الذهبي الذي كانت فيه كل الأشياء السارة حلالا وخيراً:


لك الله أيها العصر الذهبي الجميل!



لست جميلاً لأن أنهارك كانت تفيض لبناً،



ولا لأن أشجارك كانت تقطر مناً،



بل لأن ذلك الألم الكاذب الذي خلقناه لانفسنا،



وصنم الخطيئة، ذلك المحتال المعبود،



وذلك الشرف-الذي سمته كذلك عقول العوام المرتاعة-،



لم يكن قد استيد بطبيعتنا بعد،


ليكن قد جاء ليكدر صفو الحظيرة الحلوة السعيدة،



حظيرة البشرية الوادعة،



ولا قيد ناموسه القاسي نفوساً ربيت على الحرية،



بل كان هناك قانون جميل،



قانون ذهبي سعيد،



خطته يد الطبيعة:



»كل لذيذ حلال«(73)


ولكن جرأة الروح غير المعهودة فيه فارقته حين وجد نفسه ينهي ملحمته »أورشليم المحررة« (1574). لقد كان هذا الجهد ذروة جهود حياته، ولو أن الكنيسة أدانته بالإباحية أو الهرطقة لودع السعادة إلى الابد وفي رهبة وخوف بعث بمخطوطته إلى سبعة نقاد مستفتياً في حبكة القصيدة وشخوصها ولغتها وآدابها. وقد بلغ نقدهم لها من الكثرة ما جعله يلقي القصيدة جانباً لأنه لم يعرف كيف يرضيهم جميعاً. فظلت محبوسة عن النشر خمس سنوات. إنه وهو عليم بأنه كتب رائعة اشتط في مطالبه من النقاد ومن الحياة. وقد اعترف بأنه »لم يطق العيش في مدينة لا يخلى نبلاؤها مكان الصدارة له، أو على الاقل يسوون بينه وبينهم مساواة مطلقة«. ولا ريب أنه كان يستحق هذه المساواة، ولكنه اضاف انه »كان يتوقع أن يعبده الأصدقاء، ويخدمه الخدم، ويعانقه أهل البيت، ويكرمه السادة، ويحتفل بذكره الشعراء، ويشير إليه الجميع بأصابعهم«(74) وكثرت في فيرارا فئة تنقد شعره، وخلقه، ودعاواه. فبدأ يحلم بمكان ألين في قصور ألطف وأرق.

كانت المنغصات البدنية والنفسية قد هزت أعصابه: حمى الملاريا، ونوبات الصداع المتكررة، والصدمات المتراكمة إثر نفي ابيه، وموت أمه، وإملاق أبيه وهو مشرف على الموت، يضاف إلى هذا كله أن الشكوك اللاهوتية التي ساورته - شكوك الجحيم والخلود، والوهية المسيح - ألقت على عقله ظلاً ثقيلاً من الإحساس بالإثم ودفعته إلى الاكثار من الاعتراف وتناول الأسرار(75). وقد وقر في نفسه أنه مارس قوة السحر الاسود (أي الشيطاني)، وتراء له الرؤى المرعبة عن الدينونة الاخيرة، وشهد الله يسوق الهالكين إلى النار الابدية(76). وأنتابه أوهام الاضطهاد - فخامرته الظنون في افشاء الخدم لأسراره، واعتقد أن أمره أبلغ لمحكمة التفتيش، وتوقع كل يوم أن يدس له السم. لقد كان ضيفا عسير الارضاء(77). ولكن الفونسو ترفق به؛ وذلك أن أروع قصائد العصر - برغم كل شيء أهديت إليه وافردت نصف قسم منها (السابع عشر) للإشادة بنسبه. فأعفى الشاعر من الحضور إلى البلاط، وأرسله إلى فيللا بلريجواردو اللطيفة ليعينه على التغيير والسكينة. ولكن صبره نفد حين وجد أن تاسو يتفاوض خفية مع فرانشسكو مديتشي - أقوى منافسي الفونسو واعدى أعدائه - ليقبله متقاعدا بمعاش في بلاط فلورنسة. وفي نوفمبر 1575 غادر الشاعر فيرارا زاعما أنه ذاهب إلى روما لينال غفران اليوبيل. ومضى إليها، ولكنه عرج على فلورنسة مرتين في الطريق. على أنه ل يقع من نفس الدوق الكبير موقعا حسنا، وكتب فرانشسكو إلى صديق له (4 فبراير 1576) يقول »لست أدري هل أدعوه إنسانا مجنونا أم ذكيا مسلياً«؛ وبعد عام قرر أنه »ليس في حاجة إلى وجود رجل مجنون في بلاطه«(78) وقفل تاسو إلى فيرارا كسير الخاطر محزونا.

وطلب إلى الفونسو أن يعينه في وظيفة المؤرخ الرسمي للبلاط، فنال الوظيفة. وفي يناير 1577 مثل أمام محكمة التفتيش في بولونيا واعترف بأنه ارتاب آثما في العقيدة الكاثوليكية، وأعادته المحكمة بكلمات من المواساة والتشجيع. وفي يونيو من ذلك العام، بينما كان في مسكن لوكريتسيا دستي، شهر سكينه على خادم أثار شبهته، فأمر الفونسو بحبس الشاعر في حجرة بالقلعة، ولكنه أفرج عنه بعد قليل وأخذه إلى بلريجواردو. كتب تاسو يقول ان الدوق عامله »وكأنه أخ له لا أمير عليه«(79). وطلب الشاعر أن يرسل إلى دير القديس فرنسيس، فأمر الفونسو بارساله إليه، وأوصى بأن يعطي مسهلا. وخضع تاسو، ولكن ثائرته ثارت في الدير، فاتهم الرهبان بأنهم يغشون نبيذه، وطلب الرهبان اعفاءهم من وجوده. فرد إلى قلعة الدوق ووضع تحت الحراسة. ولكنه هرب متخفيا في ثوب فلاح، وضرب في الأرض سيرا على قدميه وحيداً عبر الأبنين حتى بلغ بيت أخته كورنيليا في سورنتو. فاستقبله بحنان مشرب بالمحبة. وكان ممكنا أن يظفر بشيء من صفاء الذهن والسعادة هناك لولا قلقه على مصير القصيدة العظيمة التي ما زالت محبوسة عن النشر والتي خلفها وراءه في فيرارا، ولعله بعد أن طال إلفه لحياة القصور افتقد أسباب الراحة التي صاحبت شدائده، فذهب إلى روما ورجا سفير فيرارا أن يتشفع له عند الفونسو. وأرسل الدوق مالا للعناية به ووافق على عودته شريطة أن يتعهد بالتزام الهدوء والحضور للعلاج الطبي. وحين وصل إلى فيرارا (1578) أعطي مسكنا خاصا خارج القصر، وزود بخادم، ووافوه بالطعام من مائدة الدوق. وقبل تاسو المسكنات والمسهلات طائعاً، وواصل كتابة الشعر الرائع. ولكنه كان يأمل في العودة إلى مكان الحظوة في البلاط، فوجد بدلا من هذا كل إنسان تقريبا يعامله كأنه مجنون. ولم يعد الدوق ولا الأميرتان يسمحون له بمجالستهم. أما شر الاهانات فأمر الفونسو بأن تؤخذ مخطوطات الشعر منه، ومن بينها »أورشليم« مخافة أن يتلفها. وفي يونيو 1578 هرب تاسو مرة أخرى من فيرارا، وذهب إلى مانتوا وبادوا والبندقية وأوربينو وتورين. وهناك أكرم الدوق شارل ايمانويل مثواه، وبذل له كل اسباب الراحة التي عهدها في فيرارا. ولكن ما مضت ثلاثة أشهر حتى التمس الشاعر القلق من الفونسو أن يرده، ربما حرصا منه على استرداد مخطوطاته. ووافق الفونسو، وفي فبراير 1579 أسكن تاسو مرة أخرى قصر الدردينال لويجي دستي. ولكن الفونسو، التواق إلى وريث كان يتزوج للمرة الثالثة، ولم يكن ليعير الشعراء أذنه، ولم يدع تاسو إلى الحفلات. وظل أسبوعين يحتمل هذا الإغفال مغيظاً محنقاً، وأخيراً غادر مسكن الكردينال (12 مارس 1579)، واقتحم قصر بونتيفولي وهو يصيح مهاجما الدوق، والدوقة الجديدة، وجميع الحاشية. وجرى إلى القلعة، مصرا على لقاء الدوقة واستعادة مخطوطاته. وأمر الدوق بايداعه مستشفى قريبا لمرضى العقول يدعى سانتانا، وهناك ظل حبيسا أكثر من سبع سنين. لم يكن مجنونا جنوناً مطبقاً. فقد كانت له أويقات صفاء كتب فيها الشعر واستقبل الأصدقاء. وزعم مونتيني أنه زاره. ووفدت عليه سيدات من البلاط ليطيب خاطره، واصطحبته لوكريتسيا مرة لبيتها في بلفديري، ولكن عنفه روعها فرد إلى المستشفى بناء على طلبها. لقد كان العقل المحطم نهبا لرعب كتقطع تثيره هلوسات بأصوات أشباح يسمعها، وبأرواح علوية تغزو حجرته وتسطو على قصائده. وأخيرا نشرت ملحمته. ذلك أن المحتفظين بمخطوطاتها أرسلوها للناشرين بعد أن علموا أن قراصنة الكتب نسخوها (1580). وظل النقاد يتسقطون الأخطاء فيها، ولكن إيطاليا استقبلتها استقبالا حماسيا، وأطرى رجال الكنيسة موضوعها وتقواها. وتتابعت طبعات القصيدة، وبيع منها في يوم واحد ألفا نسخة، ورددت البيوت والقصور أنغامها، واختلف الناس في أمر تاسو، أيضعونه في صف أريوستو أم في صنف بترارك. وفضل فولتير القصيدة على الالياذة وهو على ما نعلم من بعد عن التحيز للمسيحية(80). أما اليزابث ملكة إنجلترا فبعد أن استمعت إلى أجزاء منها مترجمة إلى اللاتينية حسدت دوق فيرارا على أنه عثر على هوميروس يخلد ذكره(81). ونستطيع إذا همزنا حاستنا التاريخية أن نبدأ في فهم السبب في استجابة أوربا بهذه الحماسة لهذه القصة المثيرة- قصة الحرب الصليبية الأولى.

لقد رحبت بها باعتبارها ملحمة العالم المسيحي التي طال انتظارها ومست الحاجة إليه. ذلك أنه حين بدأ تاسو قصيدته كانت أوربا تحشد الأسطول الذي التحم بالأتراك في ليبانتو. ودارت رحى المعركة الهائلة بينما الشاعر ينظم ملحمته، وكسب الأوربيون المعركة، ولكن انتعاش الأتراك السريع كان يهدد أوربا، لا سيما إيطاليا، وتعرضت روما، معقل المسيحية، للخطر والقصيدة تكتمل. وساد الخوف من الاسلام أرجاء العالم المسيحي إذ ذاك، كخوف أوربا اليوم من شرق نفخت فيه الحياة من جديد. وفي هذا الجو قرأ الرجال والنساء في شعر يأخذ بالألباب قصة تشدد عزائمهم إذ تحكى كيف قاد جودفري أمير بويون في 1099 جيشاً مسيحياً ظافراً برغم ما لحقه من ضربات واستولى به على أورشليم.

وهكذا يبدأ تاسو قصيدته متفاخرا، ذاكرا عبارة فيرجل «Arma virumque cano» ومتحدياً إياها، » أني اتغنى بذكر الجيوش الصالحة والقائد الذي حرر قبر المسيح العظيم«. وهو يناشد ربة الشعر أن تلهب صدره بحماسة من السماء، ويهدي قصيدته إلى الفونسو، الأمير الهمام الذي أنقذه من زعزع الخطر وهيأ له مرفأ طيبا. ويرسل الله رئيس ملائكته جبريل ليأمر جودفري بأن يحزم أمره ويزحف قدما على أورشليم. وحين يدنو المسيحيون من المدينة يأمر حاكمها التركي علاء الدين رجاله بأن ينقلوا تمثالا للعذراء من كنيسة مسيحية إلى جامع للمسلمين، مؤمنا بأن التمثال سيجلب النصر لمالكه. على أن التمثال يسترد فيخفيه للمسيحيون، ويأمر علاء الدين بذبح كل من بقي بأورشليم من المسيحيين. وتقدم العذراء سوفرونيا نفسها قرباناً عن شعبها، وتخبر علاء الدين كذباً أنها سرقت التمثال وأحرقته، فيحكم بحرقها. على أن حبيبها الذي لا تبادله الحب، أوليندو، يحاول افتداءها ويزعم انه المذنب، فيحكم عليهما جميعاً بالموت، ولكن البطلة المسلمة كلوريندا تنقذهما. ويدعو بلوتو رب العالم السفلي مجمعاً من أتباعه للنظر في طرق هزيمة المسيحيين الذين يحاصرون المدينة، فيقع اختيارهم على أرميدا الحسناء أداة لتنفيذ خطتهم، وهي عذراء دمشقية ذات قوة سحرية. ويقع رينالدو وغيره من الفرسان في فخ حديقتها المسحورة، ويرتاح رينالدو بين ذراعيها. أما تانكرد، الفارس المسيحي المثالي، الشهم الهمام، فيعجب بشجاعة كلوريندا ويقع في غرامها برغم حواجز العقيدة. وفي جزء من أجمل أجزاء القصيدة (12) تختفي كلوريندا وتقاتل تانكرد حتى تقتل، ثم تتوسل إليه وهي في النزع أن يدخلها في دينه. ويرسل جودفري الجند للعثور على رينالدو والفرسان المفقودين، فيكتشفون قلعة أرميدا، ويتجنبون »الحسان العرايا« اللاتي يسبحن في بركتها، ويحررون الأسرى. وتغضب أرميدا لهجر رينالدو لها، فتعرض نفسها مكافأة لمن يقتله. ويضطلع تسيفرنيس بالمهمة، ولكن رينالدو ينفذ رمحه فيه. وتنوي أرميدا الانتحار، لكن رينالدو يثنيها عنه بحب متجدد، فترتضي اعتناق المسيحية، وتستسلم له بعبارة مريم العذراء »هوذا أنا أمة الرب«. ويتسلق المسيحيون الأسوار، ويذبحون جيش المسلين، ويقدمون الشكر لله. ولكن القصة لا تسترسل إلى ذكر حرق اليهود. كان أريستو يرمق قصة الفروسية بابتسامة ساخرة. أما تاسو فقد احياها بملء الجد، واضاف سحر العصر الوسيط ومعجزاته إلى الجهاز الكلاسيكي- جهاز الأرباب التي تتدخل في الأحداث. وكانت الحركة المعارضة للإصلاح البروتستنتي قد قمعت حيناً روح الفكاهة الإيطالي القوي. والافتقار إلى الفكاهة مهد لجنون تاسو، فالكون يجب ألا يؤخذ مأخذ الجد الخالص. ولكن تاسو في ملحمته هو الإيمان غير منازع، والعاطفة لا مخفف لها. وهو يزين القصيدة بأخيلة جعلت جاليلو يشبهها بمتحف من الغرائب(83)، ويكتب نقداً غاضباً على هامش نسخته(84). والتقليد في الملحمة واضح: تقليد هومو في مناظر القتال، وفيرجل في زيارة الجحيم، واريوستو في الغراميات، وفيرجل ودانتي وبترارك في الأفكار وفي أبيات بأسرها. أما السحر فصبياني، وأما الأمازونيات فغير معقولات. ولعل ملحمة »أورشليم« ليست ضريباً في عظمتها للإلياذة، ولا آخذة بالألباب كالأوديسة، ولا رفيعة كالأنيادة، ولكنها تحتفظ بتشويق القارئ كأي ملحمة، وأسلوبها مرصع بانعطافات النغم وتدفقاته الموفقة، وشخوصها حية، وأحداثها مذابة بمهارة في موضوعها الرئيسي. وكثير من مشاهدها وأحداثها ألهم الفنانين لوحات شهيرة. وقد أعان شعرها وروحها سبنسر على تأليف ملحمته »ملكة الجان«. أما مقاطعها فحين لحنت كانت عزاء لملاحي الجندولا البنادقة عن رتابة عملهم المضني.

لم يجن تاسو في أوقات صفائه غير السرور القليل، والربح الأقل، من نجاح قصيدته. فلم ينل فلساً واحداً من الناشرين. وكانت أوقية من اللوم ترجح عنده رطلا من المديح كما هو الشأن مع أكثر المؤلفين. وقد جزع حين قرأ النقد القاسي الذي وجهه إليه نقاده، الذين زعموا أن قوافيه في أكثرها ليست إلا صلصلات، وأن مشاهد حية مسفة في الشهوانية، وأن مسلميه يثيرون الإعجاب الاعجاب فوق ما ينبغي، وأن بطلاته في الأغلب مسترجلات. ولكن باقي الإيطاليين هللوا له كأنه فرجيل ولد من جديد، وعلت الأصوات مطالبة بمعاملة أرفق للشاعر المنكوب. على أن زواره رأوا حاجته للملاحظة الدقيقة، وأن الفونسو يعالج الأمر بكل الرعاية التي تتوقع من رجل أسيء إليه كثيراً وشغلته تبعات الحكم.

وصلحت حال الشاعر. وفي يوليو 1586 حصل فنشننزو وجونزاجا، الوريث الشرعي لدوقية مانتوا، على الإفراج عنه بعد أن تعهد بالعناية به. وعاش تاسو في مانتوا شهرا ثم رحل عنها إلى برجامو، ومودينا، وبولونيا، ولوريتو، وروما، يبيع قصائده ومدائحه لمن يشتريها. ولقى حسن الاستقبال في روما، ولكنه سرعان ما بدأ الترحال من جديد، فمضى إلى سينا، ففلورنسة، ثم عاد إلى مانتوا، ثم لنابلي مرة أخرى، حيث صادقه المركيز مانسو، ثم عاد إلى روما حيث أنزله الكردينالان تشننزينو وألدوبر اندينو مسكنهما بالفاتيكان (1594). وأراد العودة إلى فيرارا ليموت فيها، غير أن الفونسو رفض الاذن له. ورتب له البابا كلمنت الثامن معاشا وأعد العدة لتتويجه شاعراً. للبلاط البابوي. ولكن في أبريل 1595 لم يكن بد من نقل الشاعر الذي انهارت قواه وأدركته الشيخوخة والعجز وهو بعد في الحادية والخمسين، إلى دير سان أونوفريو بروما، ليجد رعاية أفضل. هناك، وبعد غضبة أخرى من غضباته، مات (25 أبريل) وهو يتمتم »في يديك يا رب أستودع روحي« ووضع على نعشه إكليل الغار الذي لم يعش ليلبسه. وحمل جثمانه في مشهد إلى كنيسة القديس القديس بطرس وخرج منها تشيعه حاشية البابا واشراف روما وعلماؤها، وروى التراب في كنيسة الدير وفوق مثواه قبرية بسيطة، »هنا يرقد توركواتوس تاسوس« وأصبحت الصومعة التي نزلها مزارا للحجاج كما هي اليوم.


8- مجيء الباروك 1550 - 1648

كان الفن الكلاسيكي - كالبارثينون وأفريزه، ومنحوتات ميرون وبولسكليتوس، وساحة روما، ولايناد، وستانزا رفائيل بالفاتيكان، وصور كنيسة مديتشي لميكل أنجيلو - هذا الفن كان اختزال الفوضى إلى نظام، والتعدد إلى وحدة، والحركة إلى ثبات، والشعور إلى فكر ، وغير المميز إلى مميز، والمعقد المبهم إلى البسيط الواضح؛ كان المادة مصوغة من الشكل. ولكن كل شيء حتى الكمال يزهده الناس حين يطول به العمر. فالتغيير ضروري للحياة، والحس، والفكر؛ والجديد المثير قد يبدو جميلا لهذه الحدة ذاتها، حتى يعود القديم المنسي على عجلة الزمن فيرحب به الناس على أنه فتى وجديد. وهكذا طردت النهضة الفن القوطي من إيطاليا باعتباره فنا همجيا، حتى إذا ضاق الفنانون ورعاة الفن بالنسب الجميلة والتناسق المقيَّد، وضحكوا كما ضحكت تماثيل الكاتدرائيات البشعة الوجوه على الأعمدة والاعتاب والقواصر الكلاسيكية، أعادوا الروح القوطية ممثلة في شذوذات الباروك وتفصيلاته الزاخرة بالحيوية والمرح .

كان الفن الكلاسيكي ينشد الافصاح عن الموضوعي، اللاذاتي، الكامل، أما الباروك فقد أتاح للفنان الفرد، حتى لنزوته العارضة، أن تجد التجسيد في عمل لا يمثل موضوعا يصور تصويرا واقعيا (كما فن التصوير الهولندي) بقدر ما يمثل انطباعا أو شعوراً موضعاً عن طريق أشكال متخيلة جزئيا. وهكذا نرى أن صور الجريكو النحيلة الطويلة ليست صور رجال أسبان بل صور ذكرياته أو بدواته هو؛ وصور العذراء التي رسمها موريللو وجويدو لم تكن صور الأمهات المرهقات اللاتي عرفاهن بل الورع المثالي الذي طلب إليهما التعبير عنه. يضاف إلى هذا أن بلدا كإيطاليا زلزلت إحساسه حركة الإصلاح البروتستنتي وشحذ عاطفته الدينية من جديد أفراد كلويولا، وتريزان وزافير، وشارل بوروميو - إيطالية ما بعد لوثر هذه ما كان في الامكان أن تستكين إلى سلام المثل الكلاسيكي، ذلك السلام الهادئ الفخور، لذلك راحت تؤكد عقيدتها من جديد، وتبدي رموزها في تحد، وتزين هياكلها، وسكب في الفن دفئا جديدا من اللون والاحساس، وتنوعاً جديداً وحرية في التركيب والحركة لا يمكن التنبؤ بها، انطلقت من عقال القواعد والضوابط والخطوط الكلاسيكية. لقد أصبح الفن تعبيرا عن الشعور بالحلية، لا ضغطاً للفكر لإحداث الشكل.

أما العمارة فلم تعد رياضيات يونانية أو هندسية رومانية، بل موسيقى، وأحيانا أوبرا، مثل دار الأوبرا في باريس. واتجه المصممون والبناءون من الثبات إلى السيولة والايقاع، فرفضوا التناسق الساكن مؤثرين عليه عدم التوازن وعدم الوحدة المتعمدين، وفصصوا الأعمدة والأعتاب أو لووها عن قصد. وسئموا السطوح الساذجة والكتل الثقيلة، وقطعوا الكرانيش، وشطروا القواصر شطرين، وبعثروا النحت في كل اتجاه. أما المثالون فقد ضاقوا بأطراف الجسد الكاملة، والملامح الساكنة، والوقفة الأمامية الجامدة، فاتخذوا لاشكالهم أوضاعا غير متوقعة، داعين الناظر إلى اتخاذ نظرات منوعة، واستخدموا مؤثرات التصوير في صناعة التماثيل، فنحتوا الاضواء والظلال في الحجر، والحركة في الجسد، والفكر والشعور في الوجه. وأما المصورون فتركوا الخطوط النقية، والضوء الصافي، والسكينة البريئة - تركوا هذا كله لبيروجينو، وكوريدجو، ورفائيل، وغمروا الدنيا في اللون كما فعل روبنز، أو ظللوها بالغموض كما فعل رمبرانت، أو ايقظوها للحس مثل ريني، أو كدروها بالعذاب والوجد مثل الجريكو. وأما نقاشو الخشب فبعثروا الزخرف على الأثاث، وأما صانعو الأدوات المعدنية فقد حولوا مادتهم إلى أشكال غريبة أو مضحكة. وحين عهد اليسوعيون عام 1568 إلى فينولا برسم »كنيسة يسوع« في روما، اشترطوا أن تجمع كل الفنون في فيض من الأعمدة، والتماثيل والصور، والمعدن النفيس، تصمم لا التعبير عن الهندسة، بل لتلهم الإيمان وتشيعه في النفوس.

ولما كانت إيطاليا لا تزال في الفن قائدة أوربا، فإن الأسلوب الجديد في الزخرفة والعاطفة والتعبير ل ينتقل إلى أسبانيا وفلاندر وفرنسا الكاثوليكية فحسب، بل حتى إلى ألمانيا البروتستنتية حيث بلغ بعضاً من أكثر أشكاله مرحاً وبهجة. أما الأدب فأحس تأثير الباروك في لعب ماريني وجونجوزا ولايلي المسرف بالالفاظ، وفي لغة شكسبير الرنانة الطنانة، وفي مسرحية مارلو »الدكتور فاوستس« ومسرحية جوته »فاوست«. وأما الأوبرا فما هي إلا موسيقى باسلوب الباروك. على أن الاسلوب الجديد لم يحقق انتصاراً في كل مكان، فقد آثر الهولنديون الواقعية الهادئة على انفعالات الباروك: وفيلاسكويز في افضل أعماله كلاسيكي أو واقعي، أما سرفانتس فبعد أن عاش حياة رومانسية ألف »دون كخوته« في اتزان وهدوء كلاسيكيين. ولكن هل كان الفنانون والأدباء الكلاسيك دائماً كلاسيكيين؟ وهل هناك أكثر باروكية من لاوكون المناضل، القبيح؟ إن التاريخ يبتسم سخرية من كل المحاولات التي تبذل لإكراه مياهه على أن تجري في قوالب نظرية أو أخاديد منطقية، وهو يعبث أشد العبث بتعميماتنا، ويحطم كل قواعدنا. إن التاريخ ضرب من الباروك.

على أن عاملاً قوياً واحداً ظل ثابتاً في الفن الإيطالي، فما زالت الكنيسة أنشط رعاته وأقدرهم على تشكيله. كان هناك بطبيعة الحال رعاة آخرون ومؤثرات أخرى. فقد شيدت اسر الأمراء والكرادلة المثقفون القصور الخاصة، وواصلوا في تزيينها ببعض الموضوعات الوثنية، مثال ذلك أن أودواردو فارينزي عهد إلى المصورين كاراتشي بأن يرسموا له »انتصار باخوس« و »حكم الغرام«. ولكن مجمع ترنت وحركة الإصلاح الكاثوليكي التالية له حددا للفن اتجاهاً أكثر صرامة، فتراجعت الأجساد العارية من الفن الإيطالي، ولم تعد الموضوعات الدينية تستخدم مطية للحس ولم يثن البابا كلمنت الثامن عن تغطية لوحة ميكل انجيلو »الدينونة الأخيرة« كلها، وسراويل دانييلي دا فولتيرا وما حولها، إلا توسلات فناني روما. وقد دافع المجمع عن الصور الدينية ضد هجمات الهيجونوت والبيوريتان، ولكنه أصر على أن توحي هذه الرموز بالخشوع لا أن تلهب الدم والعروق. وبينما استنكر المصلحون عبادة مريم والابتهالات إلى القديسين، روى مصورو إيطاليا ومثالوها في فترة معارضة الإصلاح البروتستنتي، من جديد، عذابات الشهداء، ورووها بواقعية قاسية أحياناً، وحكموا مرة أخرى قصة العذراء ام الإله، بعاطفة واعية. وتعاون حرص الكنيسة على تجريد الفن من الوثنية وبث العقيدة والتقوى في النفوس، مع انتكاسات إيطاليا السياسية والاقتصادية، على جعل هذا العصر آخر صدى من أصداء النهضة.

9- الفنون في روما

ظلت روما قصبة العالم الفنية. صحيح أن عصر التصوير الروماني العظيم قد انتهى، ولم يعد الآن إيطالي ينافس روبنز أو رمبرانت، ولكن العمارة الرومانية أزهرت، وظل برنيني أشهر فناني أوربا طوال جيل من الزمان. ومع أن بولونيا سطت على زعامة روما في التصوير، فإن نجوم هذه المدرسة كانوا يفدون على روما استكمالا لازدهارهم، وقد وصل فازاري عام 1572 ليرسم الصور الجصية للصالة الملكية في الفاتيكان. وأحتشد في »بوتيجي« روما الرسامون الذين ما زالوا محل التبجيل من أقليات مغرمة: ناديو وفديريجو زوكارو، وجيرولامو موتزيانو، وفرانشيسكو دي سالفياتي، وجوفاني لانفرانكو، وبرتولوميو مانفزيدي، ودومنيكوفيتي وأندريا ساكي. وأكثر هؤلاء يصنفون عادة تحت اسم »أصحاب اللازمات« -أي الفنانون المقلدون لطريقة فنان بعينه من أساطين الفن أيام عز النهضة. ويجوز ان نعتبر هذه »اللازمية« (1550-1600) مرحلة أولى للباروك.

أما فيديريجو زوكارو فقد نشر قلوعه فوق أمم أربع. ففي فلورنسة أكمل الصور الجصية التي بدأها فازاري في قبة الكتدرائية، وفي روما رسم »المصلى البولسي« في الفاتيكان، وفي فلاندر صمم سلسلة من الرسوم الهزلية، وفي إنجلترا رسم لوحات مشهورة للملكة اليزابث ولماري ستيوارت، وفي أسبانيا شارك في زخرفة الأسكوريال، وحين عاد إلى روما أنشأ أكاديمية القديس لوقا، التي أوحى نظامها لرينولدز بأكاديمية الفنون الملكية بإنجلترا. وكان الإقبال على فنه أعظم من جميع الرسامين الإيطاليين في ذلك الجيل، ولكن الخلف فضلوا عليه بييترو بيريتيتي كاكورتونا. وبروح الكفايات المتعددة التي أثرت على فناني النهضة صمم بييترو قصري باربريني وبامفيلي بروما، ورسم في قصر بيتي بفلورنسة صوراً جصية تزخر بالأشكال الغريبة في كل غزارة الباروك وتدفقه.

أما القطب الحقيقي للتصوير الروماني في هذا العهد فهو ميكل أنجيلو مريزي دا كارافادجو. كان رجلا فيه روح تشلليني، وقد ولد لبناء بالحجر في لومبارديا، ودرس في ميلان، وانتقل إلى روما واستمتع بعدة مشاجرات، وقتل صديقاً في مبارزة، ثم هرب من السجن، وفر إلى مالطة وقطانيا وسيراقبوز، ومات بضربة شمس على أحد شواطئ صقليو وهو في الرابعة والأربعين (1609)، وفي الفترات التي تخللت هذه المغامرات أحدث ما يشبه الثورة في مزاج التصوير الإيطالي واسلوبه. وقد أحب التناقضات العنيفة بين الضوء والظل، واستخدم حيلا كإضاءة المنظر من مدفأة مخفاة، وشكل صوره بالضوء، وأخرجها من خلفية معتمة، وبدأ في إيطاليا عهد »الفن المعتم« الذي تزعمه جويرتشينو؛ وريبيرا، وسلفاتور روزا. وإذ احتقر عاطفية الرسامين البولونيين المثالية، فقد روع العصر بواقعيته التي أشرفت على الوحشية. كان إذا تناول موضوعاً دينياً يجعل الرسل والقديسين يبدون وكأنهم عمال ضخام غلاظ نقلهم من عمال أرصفة الموانئ. وقد أكسبته لوحة »لاعبي الورق« (المحفوظة بمجموعة روتشيلد بباريس) شهرة دولية. أما لوحة »الموسيقيين«- وهم ثلاثة من المغنيين وعواد جميل-فقد تراكم عليها التراب ثلاثة قرون قبل أن يعثر عليها في متجر للتحف القديمة بشمالي إنجلترا حوالي 1935، وبيعت لجراح بمبلغ مائة جنيه، ثم اشتراها متحف المتروبوليتان بنيويورك (1952) بخمسين ألف دولار. وقد درجت الكنيسة على رفض صور كارافادجو الدينية باعتبارها مسرفة في الابتذال مفتقرة إلى السمو، أما اليوم فهي مشتهى كل ذواقة الفن. وقد بلغ إعجاب روبنز بلوحة هذا الإيطالي المسماة »مادونا ديل روزاريو« مبلغاً حمله على جمع 1.800 جولدن من فناني أنتورب ليشتريها ويهديها إلى كنيسة القديس بولس(85)، ولوحة »عشاء عمواس« (بلندن) لا تبلغ في عمقها نظيرتها التي رسمها رمبرانت، ولكنها تصوير قوي لأشكال الفلاحين. أما »موت العذراء« (المحفوظة باللوفر)- وهي أيضاً صورة ريفية-فكانت إحدى الصور التي وطدت مدرسة »الطبيعيين« في إيطاليا والواقعيين في اسبانيا والأراضي المنخفضة. لقد أكثر كارافادجو من تأكيد ميلودراما العنف والخشونة، ولكن التاريخ كالخطابة قلما يقرر نقطة دون أن يبالغ فيها. وقد أقشعر لمرأى عمال الشحن مفتولي العضل هؤلاء جيل استنفد موضوعات العاطفة، ثم قبلهم على أنهم مدخل منشط دخل به إلى الفن رجال منسيون. والتقط ريبيرا فرشاة كارافادجو القائمة ولحق به، واقتفى رمبرانت أسلوب الإيطالي في توزيع الضوء والظل وجوّده، وحتى مصورو القرن التاسع عشر شعروا بهذا التأثير العاصف.

أما المعمار فقد شهد مجيء الباروك وذروته. وراح البابوات الواحد تلو الآخر يحيلون عرق المؤمنين الراضين ودراهمهم أمجاداً لروما. فأكمل بيوس الرابع البلفديري وقاعات أخرى في الفاتيكان. وبنى جريجوري الثالث عشر كلية روما وبدأ تشييد قصر الكويرينال-الذي اصبح مسكنا للملك عام 1870. أما دومنيكو فونتانا، الأثير بين المعماريين عند سيكستوس الخامس، فقد صمم قصر اللاتيران الجديد، ومصلى السيستين في كنيسة سانتا ماريا مادجوري، ومقبرة بيوس الخامس في هذا المصلى، وهي باروك مسرف. واضاف الكرادلة والنبلاء خلال ذلك إلى روما قصوراً جديدة (جوستنياني، ولاتشلوتي، وبورجيزي، وباربريني، وروسبليوري)، وفيللات جديدة (بامفيلي، وبورجيزي، ومديتشي). كذلك واصل الهدم أفاعليه، ففي هذه الفترة هدم بولس الخامس حمامات قسطنطين التي عمرت منذ عهد أول الأباطرة دون أن يمسها سوء تقريبا.

وكثر عدد المعماريين الأكفاء، ومنهم جاكوموديللا بورتا الذي أكمل بكفاية عدة معابد خلفها أساتذة فنيولا ناقصة، كواجهة كنيسة يسوع وقبة كنيسة القديس بطرس، وبهذه الضخامة صمم كابييلا جريجوريانا الفخمة، ولمس قصر فارينزي لمساته الأخيرة، وكان ميكل أنجيلو قد بدأه؛ وهو صاحب الفضل في نافورتين رائعتين تضفيان على روما رواء شباب لا يشيخ.

وابدعهما نافورة السلاحف التي أقامها تاديو لونديني أمام قصر ماتي واشترك مارتينو لونجي الأب مع ديللا بورتا في تشييد قصر الكونسر فاتوري نقلا عن رسوم لميكل أنجيلو، وبدأ هو ذاته قصر بورجيزي، الذي أكمله فلامينو بونتزيو للبابا بولس الخامس. وأسهم دومنيكو فونتانا بنافورة »الفونتانوني« ديل أكوا فيليتشي، وفونتانا ديل أكوا باولينا، وشيد »قاعة البركة« الجميلة على الرواق المعمد الشمالي للاتيران القديس يوحنا. وخلفه أبن أخته كارلو ماديرنا معماريا لكنيسة القديس بطرس، فغير خطتها الأساسية من صليب ميكل أنجيلو اليوناني إلى الصليب اللاتيني، وصمم واجهة هذا الضريح العظيم، ووجد في حمامات كاراكاللا ودقلديانوس إلهاما بصحنها الهائل. وأعاد فرانشسكو بوروميني، تلميذ ماديرنا، بناء مدخل لاتيران القديس يوحنا بناء فاخرا، وبدأ رائعته-كنيسة سانت أجنيس-الفخمة الأنيقة التي تضارع »كنيسة يسوع« في بيانها للباروك الروماني. أما كنيسة يسوع فقد صممها (1568) جاكومودا فنيولا تحقيقا لرغبة اليسوعيين في معمار تروع فخامته العابدين وتلهمهم وتسمو بنفوسهم. وصمم المعماري وخلفاؤه صحنا فسيحا دون اجنحة، فيه الدعامات والسبندلات والتيجان والكرانيش المزخرفة، ثم مذبح مهيب، وقبة مضيئة، وحلية رائعة من الصور والتماثيل والرخام والفضة والذهب. وفي عام 1700 أضاف أندريا ديل بوتزو، وكان هو ذاته يسوعياً، مقبرة القديس اغناطيوس ومذبحه الرائعين. وقد اختلفت نظرة اليسوعيين للحياة عن نظرة غيرهم من رجال الكنيسة الكاثوليكية، وكانت النقيض التام لنظرة البيورتان, فالفن في رأيهم يجب أن يطهر من الحس الدنيوي، ولكن يجب أن يرحب به في تزيين الحياة والإيمان. على أنه لم يكن هناك »أسلوب يسوعي« بعينه. كانت كنيسة يسوع باروكا في الحجر، وكثير من كنائس اليسوعيين لا سيما في ألمانيا كانت باروكا، ولكن كل كنيسة اتبعت الأشكال والأمزجة المحلية والفاشية.

وكان اكمال كنيسة القديس بطرس آخر منجزات الفن الروماني. فقد خلف ميكل أنجيلو نموذجا للقبة، ولكن »الطبلة« وحدها هي التي كانت ممدودة حين ارتقى سيكستوس الخامس كرسي البابوية. وكان قطرها 138 قدما. ولم يجرؤ على تغطية مساحة هائلة كهذه دون دعامات تتخللها سوى بروتولليسكي بفلورنسة. وأحجم المعماريون والمهندسون أمام العمل الذي اقترحه بووناروتي (ميكل أنجيلو)، وشكا رجال المال من أنه سيكلف مليون دوكاتية وجهد عشر سنين. ولكن سيكستوس أمر بالشروع في العمل آملاً أن يحي القداس تحت القبة الجديدة قبل أن يودع الحياة. وتكفل جاكومو ديللا بورتا بالمهمة يساعده فيها دومنيكو فونتانا. وراح ثمانمائة من الرجال يكدحون ليل نهار-فيما عدا الآحاد-من مارس 1589، إلى أن اعلنت روما في 21 مايو 1590، قبل موت الحبر الجريء بثلاثة أشهر، بإن »البابا المقدس سيكستوس الخامس«، قد أتم عقد قبة كنيسة القديس بطرس، لمجده الدائم وخزي أسلافه«(86).

وقد انتقص من وقع منظر القبة، إلا على بعد، واجهة الباروك التي أقامها ماديرنا في 1607-14. اما الكنيسة نفسها فقد كرست نهائيا عام 1626، بعد 174 سنة من البدء بتخطيطها. وفي عام 1633 صب برنيني بالبرونز البلداكينو (أي المظللة) المزوقة فوق »مقبرة القديس بطرس« والمذبح المرتفع. وقد أنقذ النحات العظيم نفسه باحاطة المدخل إلى الضريح بصف اعمدة بيضي هائل (1655-67) أعان على جعل كنيسة القديس بطرس أفخم بناء على وجه الأرض، كما أن قبتها ذروة توجت كل ما بلغه الفن الحديث من انجازات.


10- برنيني

جمع جوفاني لورينترو برنيني فن روما القرن السابع عشر في عمر مسيطر واحد (1598-1680). اخذ النحت عن أبيه المثال الفلورنسي. ولعله أخذ عن أمه النابولية حدة العاطفة وحرارة الإيمان. وفي عام 1606 دعي الأب إلى روما للعمل في كنيسة سانتا ماريا مادجوري. هناك درج »جان« في جو من النحت الكلاسيكي والتقوى اليسوعية. وقد انتشى بتماثيل الفاتيكان »أنطنووس« و »ابوللو بلفديري« ولكنه كان أعمق تأثراً بكتاب القديس اغناطيوس في »الرياضيات الروحية«، التي مارسها حتى أحس الرعب والتقوى اللذين شعر بهما رجل جرّب آلام الجحيم ومحبة المسيح. وكان يستمع إلى القداس يوميا، ويتناول الأسرار المقدسة مرتين في الأسبوع. وجرب التصوير، حتى بلغت صورة المائة، وقد ظفرت إحداها، وهي لوحة »القديسين أندراوس وتوما« في مجموعة باربريني بأعظم الثناء، ولو أننا نفضل عليها صورته الذاتية المحفوظة بقاعة الأفتزي-فتى اسمر وسيم يجنح إلى التأمل الحزين. على أنه جّود أكثر من هذا فن العمارة. وقد أكمل قصر باريريني لمافيوباريريني، فلما ولى راعى فنه هذا كرسي البابوية باسم أوربان الثامن؛ عين برنيني كبير معماري كنيسة القديس بطرس وهو في الحادية والثلاثين. وهناك بنى-بالاضافة إلى صف الأعمدة والمظلة- في الجزء الثاني من البناء »كاتدرا بتري« المزخرفة لحفظ المقعد الخشبي الذي اعتقد المؤمنون أن الرسول بطرس كان يستعمله، ومن حوله جمع أربعة تماثيل قوية الشخصية لآباء الكنيسة، ومن فوق البناء العجيب كله نثر تماثيل الملائكة بحماسة رجل يملك في ذهنه معينا لا ينضب من الروائع. وعلى مقربة منه اختار مكاناً لمقبرة ضخمة لحبره المحبوب أوربان الثامن. وصمم الشرفات، وكثيراً من التماثيل التي تزين الركائز التي تسند القبة. وتحت القبة وضع تمثالا ضخما للقديس لونجينوس، وفي الجناح الأيمن أقام أثراً تذكارياً مترفاً لماتيلدا كونتيسة توسكانيا. وفي خارج الكنيسة أعاد تخطيط الصالة الملكية التي ترقى إلى قصر الفاتيكان مارة بأعمدة مهيبة، وذلك بأسلوب أكثر نقاء، وفي فجوة في هذا السلم الملكي أقام تمثالاً لقسطنطين راكباً جواده وهو يطالع في السماء دعوته لاعتناق المسيحية؛ وأصبحت حرارة العاطفة في هذا التمثال قالبا احتذاه عصر الباروك وفي أخريات أيامه بنى في مصلى السر المقدس بكنيسة القديس بطرس مذبحا لم تبدله رخاماته الساطعة، وما توجه من ظلة وهيكل وقبة وملائكة مستغرقين في العبادة- لم يبد له هذا كله تجسيداً مسرفاً في البهاء لسر القربان الذي ينطوي عليه القداس. كل هذا الجهد في كنيسة القديس بطرس وما حولها يرى فيه الفنان العصري اسرافاً مسرحياً ومخاطبة خداعة للحواس، أما برنيني فقد رأى فيه الأداة الخصبة لإيمان حار يصل إلى قلوب العابدين. كان يمزج بين العمارة والنحت في كل مكان، ويحلم بفن يجمع بين العمارة والنحت والتصوير في كل يستنهض الروح. وفي كنيسة سانتا ماريا ديللا فتوريا جميع قطع الرخام الثمين-الأخضر والأزرق والأحمر-وأطلق لخياله الزخرفي العنان ليبني مصلى الكورنارو، ذا الركائز المحززة والأعمدة الكورنثية الرشيقة، وقد أودعها أعظم تماثيله فتنة وحرارة، تمثال القديسة تريزا، منهكة القوى غائبة عن الوعي في نوبة من الوجد الصوفي، وملاك حلو يتأهب لشق قلبها بسهم ملتهب رمزا لاتحاد القديسة مع المسيح. ووجه تيريزا الذي يبدو كأن الحياة فارقته هو أحد انتصارات الباروك الإيطالي، والملاك الذي يريش سهمه ان هو إلا أغنية في الحجر.

كان لبرنيني منافسون، وقد أعجب مونتيني أيما إعجاب بتمثال العدالة الذي نحته جاكوموديللا بورتا على قبر بولس الثالث في كنيسة القديس بطرس. وصب توريجانو تمثالا نصفيا لسيكستوس الخامس،فيه قوة وواقعية، وهو الآن محفوظ بمتحف فكتوريا والبرت. ومزج بورومينو النحت بالعمارة مثل برنيني، وبلغ اليساندرو ألجاردي مستور برنيني في ثلاثة تماثيل نحتها لمقبرة ليو الحادي عشر بكنيسة القديس بطرس، وفاقه في النقوش البارزة التي مثل بها »لقاء البابا ليو الأول وأتيلا«، وهي ايضاً بكنيسة القديس بطرس. أما تمثال إنوسنت العاشر النصفي الذي نحته الجاردي في قصر دوريا بامفيلي، فأكثر ارضاء للناظر من التمثال الذي نحته برنيني، ويكاد يعدل في القوة لوحة فيلاسكويز. ولكن أحدا في هذا العصر لم يضارع برنيني في خصوبته الفنية وخياله ومجموع منجزاته. ثم شرح صدر روما بالنافورات الغريبة: فونتانا ديل تريتوني، وفونتانا دي فيومي-حيث نقش مثالون أقل شأنا أربعة تماثيل للدانوب والنيل والجنج والبلانا. وقد اختار إنوسنت العاشر من بين تصميمات المتسابقين المقدمة لهذه النافورة تصميم برنيني قائلا »على المرء ألا ينظر إلى تصميماته ما لم يكن مستعدا لقبولها«(87) ولا بد أن ولع برنيني بالآثار القبرية الفخمة قد اوحي إلى رعاته بتقبل لذيذ لفكرة الموت. وقد عمر أوربان الثامن حتى رأى المقبرة التي أعدت لرفاقه في كنيسة القديس بطرس. ونافس الكردينال سكبيوني بورجيزي البابا أوربان في منح برنيني المال وتكليفه بالمهام. فصنع له المثال تمثالا حيا سماه »اغتصاب بروزريين« هو حلم من عضلات الذكر وانعطافات جسد الأنثى، وتمثال »»داود« يضرب جالوت بمقلاعه، وتمثال »أبوللو ودافني«-وهو تعبير مسرف في الكمال عن شباب الرجل والمرأة. هذه التماثيل (وكلها في قاعة بورجيزي للفنون) جرت على برنيني تهمة »اللازمية« والمغالاة المسرحية. وقد صور الكردينال نفسه في تمثالين نصفيين، هما تجسيد للطبع اللطيف والشهية الطيبة، وأشد من هذين فتنة بطبيعة الحال التمثال النصفي لكونستانزا بووناريللي الجميلة، المحفوظ بمتحف فلورنسة الوطني، وكانت زوجة مساعد برنيني، ولكن برنيني-كما قال أبنه-نحتها في الحجر، بينما هو يعشق جسدها عشقاً مشبوباً(88).


ويعكس برنيني عيوب الباروك أكثر من أي فنان آخر. فخطابه للعاطفة مسرف في الوضوح، وقد حسب التكلف درامياً، واللطف جمالاً، والإفراط في العاطفة تعاطفاً، والضخامة جلالاً. وخلع على النحت تعبير الوجوه الحاد بينما هو ميزة اختص بها التصوير عادة. وقد أضعفت واقعية التفاصيل، المغالية في الدقة، من التأثير السيكولوجي لفنه أحيانا. وقل أن بلغ في تماثيله ذلك السكون الذي يضفي تفوقا خالدا على منحوتات أثينا في عهد بركليس. ولكن لم يجب أن يعبر التمثال دائما عن السكون ؟ ولم لا تغزو الحركة والشعور وحرارة الحياة الرخام والبرونز وتبعث فيهما الحياة ؟ أنها فضيلة في نحت الباروك وليست عيبا أنه جعل الحجر يحس ويتكلم. لقد اتبع برنيني المبدأ الهوراسي وأحس بما عبر عنه - بنعومة بشرة الفتاة، وحيوية الشباب الرشيقة، وهموم القادة ومتاعبهم، وورع القديسين ووجدهم.

ولقد تقبله الناس قرابة خمسين عاماً إماماً لمعماريي عصره. وفي عام 1665، حين فكر كولبير ولويس الرابع عشر في إعادة تخطيط اللوفر وتوسيعه، وجها الدعوة إلى برنيني ليحضر إلى باريس ويضطلع بهذه المهمة. فذهب إليها وصمم، لا بحكمة ب بغلو في البراعة - وجاوز في الفخامة الذوق والمال الفرنسيين. وفضلت على تصميمه واجهة بيرو الأكثر صرامة، وقفل برنيني إلى روما يجرر أذيال الخيبة. هنا (1667) رسم لنفسه تلك الصورة الطباشيرية الرائعة، المحفوظة الآن في قلعة ونزو - خصل بيضاء تتراجع فوق رأس قوى البأس، ووجه خلف عليه الجهد التجاعيد والعقد، أما العينان الوديعتان بالأمس فقد أصبحتا جامدتين خائفتين، كأنهما تريان إلى أين تفضي مدارج المجد. ولكنه لم ينهزم بعد، فقد ظل ثلاث عشرة سنة أخرى يبني وينحت في عنف، »حاداً في روحه، راسخاً في عمله، حاميا في غضبه(89)« وحين خبت جذوته (28 فبراير 1680) كان قد عمر إلى ما بعد النهضة الإيطالية.

حين زار ملتن إيطاليا عام 1638 ذكر ان العلماء الإيطاليين أنفسهم أحسوا أن مجد وطنهم قد زال بمجيء الحكم الأسباني والحركة المعارضة للاصلاح البروتستنتي. ولعل التسلط والرقابة ألحقتا الضرر بفكر إيطاليا وفنها - ولو أن سرفانتس وكالديرون وفيلاسكويز كانوا يزدهرون في ظل محكمة تفتيش أشد عتوا في أسبانيا. ولكن الذي أنهى النهضة الإيطالية لم يكن قائداً أسبانياً، ولا قائمة كتب حرمتها الكنيسة، بل ملاحا برتغاليا، هو فاسكو دا جاما الذي عثر على طريق يمخر كله البحر إلى الهند، طويل حقاً ولكنه أرخص من طرق التجارة البندقية والجنوية التي أغنت إيطاليا. وأخذت التجارة البرتغالية والهولندية تحل محل التجارة الإيطالية، والمنسوجات الفلمنكية والانجليزية تنتزع الأسواق من الفلورنسيين. أما حركة الإصلاح البروتستنتي فكانت قد هبطت بالذهب المتدفق على روما من ألمانيا وإنجلترا إلى النصف.

وتألقت إيطاليا في اضمحلالها. حقاً لقد هبط الفن من علياء رفائيل وميكل أنجيلو، وفقد الفكر السياسي عمق مكيافيللي وشجاعته، ولكن لم هناك اضمحلال بل نهوض في السياسة والإدارة من ليو العاشر إلى سيكستوس الخامس، وفي العلم من ليوناردو إلى جاليليو، وفي الفلسفة من بومبوناتزي إلى برونو، وفي الدراما الموسيقية من بوليتيان إلى مونتيفردي، اللهم إلا اضمحلال في الشعر مختلف عليه من أريوستو إلى تاسو. وكانت إيطاليا خلال ذلك، كالأم الرءوم؛ تسكب فنها وموسيقاها، وعلمها وفلسفتها، وشعرها ونثرها، فوق الألب إلى فرنسا وفلاندر، وفوق المانش إلى إنجلترا، وفوق البحر إلى اسبانيا.