قصة الحضارة - ول ديورانت - م 7 ك 2 ف 21

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 10227

قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على السلطة -> هرمجدون أو الحرب الإمبراطورية الفاصلة -> الأباطرة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الحادي والعشرون: "هرمجدون" أو الحرب الإمبراطورية الفاصلة 1564 - 1648

1- الأباطرة

في عام 1564 كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة-برغم أنها، كما قال فولتير، لم تكن، لا إمبراطورية، ولا رومانية، ولا مقدسة-خليطاً رائعاً من دول مستقلة: ألمانيا، ولكسمبورج، وفرانس-كونتيه، واللورين، وسويسراً، والنمسا، وبوهيميا، ومورافيا، وجزء من المجر. وكانت هذه كلها تدين بالولاء والسلطان للإمبراطور مكسمليان الثاني سليل بيت هبسبرج العريق، الذي حكم الإمبراطورية منذ 1438 وسيواصل حكمها حتى 1808.وبعد أن اعتزل شارل الخامس الملك (1555-1556) اقتسمت الأسرة نصف أوربا بين فرعيها، فحكم الهبسبرج الأسبان فحكموا أسبانيا وولاياتها. وندر في التاريخ أن تسلطت أسرة واحدة حقبة هذا طولها على أناس هذا عددهم.

وكان حكم آل هبسبرج أكثر تحرراً في الإمبراطورية في أسبانيا، لأن الدول التي تألفت منها الإمبراطورية كانت تختلف أشد الاختلاف سواء في الحكومة، أو اللغة، أو الدين، أو الصفات العرقية، عجزت حتى سلطة آل هبسبرج وهيبتها عن منع هذه القوى المندفعة بعيداً عن المركز من أن تحيل الإمبراطورية إلى رابطة واهية عن وحدات تحكم ذاتها في عزة وكبرياء أما الديت الإمبراطوري، الذي لم يكن يلتئم شمله إلا بين الحين والحين، فقد وجدوا أن الحد من سلطان الإمبراطور أيسر من تشريع قوانين تقبلها كل الدول، وأما الناخبون الإمبراطوريون السبعة الذين كانوا يختارون الإمبراطور، فقد سيطروا عليه بالعهود والمواثيق التي انتزعوها منه ثمناً لانتخابه. وهؤلاء الناخبون هم ملك بوهيميا، وحكام سكسونيا، وبراندنبورج، والبالاتينات، و "الناخبون الروحيون"-أي رؤساء أساقفة كولونيا، وتريير، وماينز. ولم يحكم الإمبراطور حكماً مباشراً سوى النمسا، واستريا، وكارنثيا، وكاربولا، والتيرول، وأحياناً بوهيميا، ومورافيا، وسيليزيا، وغرب المجر. وكانت موارده المستقلة ثابتة من هذه الأقطار، فإذا أراد مزيداً من الموارد فعليه أن يتخذ سمته وقبعته في يده، إلى الديت الإمبراطوري الذي بيده مفاتيح المال.

حين مات فرديناند الأول (أخو شارل الخامس) في 1564، نقل الناخبون التاج الإمبراطوري لولده مكسمليان الثاني، الذي ظفر من قبل بتاجي بوهيميا والمجر. وكان محبباً للناس إلى حد لا يناسب إمبراطوراً. فقد اصطفى الجميع في دفء طبعة الطيب وروحه المرحة، ولطفه وأدبه مع كل الطبقات، وعقله وفؤاده المفتوحين، فإذا أضفت إلى ذلك كله ذكاءه وتسامحه وتشجيعه للعلم والموسيقى، والفن، اجتمعت لك صورة سيد مهذب "جنتلمان" لم يصدق الناس أنه توج. وكان قد رعض تبوأه العرش للخطر حين آثر الوعاظ اللوثريين على نظرائهم الكاثوليك، وأصر على تناول الأسرار المقدسة بالخمر والخبز، ولم يمتثل للطقس الكاثوليك، امتثالاً ظاهراً إلا حين أكره على الخيار بين الرجوع إلى حظيرة الكنيسة الرومانية أو أعتزال الحياة العامة على أنه حمى البروتستنت خلال ذلك من الاضطهاد. وقد ندد بمذبحة القديس برثلميو وقال أنها قتل بالجملة(1)، وسمح لوليم أورنج بتجنيد جيش في ألمانيا لقتال دوق ألفا في الأراضي المنخفضة. وفي هذا العصر الذي ساده التعصب والحرب، ضرب لدول الإمبراطورية وعقائدها مثالاً رائعاً في تسامح بريء من اللامبالاة، وسلام لم يشبه الجبن. وحين حضرته المنية (1576) أبى أن يتقبل آخر الشعائر من كنيسة روما، ولكن الإمبراطورية بأسرها اجتمعت على الترحم عليه.

وكانة قد أقنع الناخبين بقبول ولده رودلف خلفاً له، برغم ما رآه فيه-بلا ريب-من طباع أو آثار تعليم خطرة على الوفاق الديني. فلقد كان رودلف الثاني بطبعه شكاكاً مكتئباً. وكان من الجائز أن يصبح الوريث لفيليب الثاني لذلك بعث به إلى أسبانيا ليتلقى جزءاً من تعليمه المدرسي، فقضى اليسوعيون هناك على كل ميل فيه للتسامح. وما لبث عقب ارتقاء العرش أن فرض القيود الصارمة على حرية العبادة البروتستانتية وعمل على الحد من انتشارها زاعماً-وله بعض الحق(2)-أن عنف الجدل الديني، وتعصب الشيع البروتستانتية فيما بينها، يقوضان سلام الإمبراطورية واستقرارها. على أنه لم يكن خلواً من الفضائل التي حببت الناس في أبيه فقد عاش في بساطة وتواضع دون تكلف لأبهة الإمبراطورية. وحين انتقد أحد أخوته رفعه الكلفة مع الفقراء والوضعاء أجاب: "ينبغي ألا ينسينا سمونا فوق الناس بمكانتنا وعراقة محتدنا أننا مرتبطون مع سائر البشر بنقائصنا وعيوبنا(3)".

والحق أنه آثر أن يكون عالماً على أن يكون إمبراطوراً. تعلم ست لغات، ومارس كل علم وفن تقريباً، واقتنى مجموعات ثمينة من الصور والتماثيل وأنواع النبات وعينات الحيوان. وأعان الشعراء والمؤرخين، وأنشأ الكثير من المدارس. وحذق الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والطب وكذلك الكيمياء القديمة والتنجيم، وأمد بالمال البحوث الفلكية التي اضطلع بها تيكوبراهي وكبلر اللذان اهدياه جداولهما الرودلفية للنجوم. وإذ استغرقه العلم وهو في قصره ببراغ-التي اختارها عاصمة له-فإنه لم يجد وقتاً للزواج، ولم يتسع له الوقت الكثير للحكم. فلم يحضر أي اجتماع الديت بعد 1594، ورفض أن يوقع أوراقاً رسمية بعد 1598 وفوض بالسلطة نواباً ذوي حظوة لديه، ولكن تعوزهم الكفاية. ولما تقدم به العمر انحدر عقله لا إلى درك الجنون، بل إلى حال من العزلة يشوبها الاكتئاب وطول التفكير ويلازمها خوف الاغتيال. فإنه رأي فيما يرى النائم-أو لعل تيكوبراهي قد طالع في النجوم(4)-أن قاتله سيكون راهباً فانتهى به الأمر إلى الارتياب في رجال الدين الكاثوليك ولا سيما اليسوعيين(5)، ثم أكرهته الضغوط الداخلية والخارجية على التخلي لأخيه الأصغر ماتياس في 1608 عن حكم النمسا والمجر ومورافيا، وفي 1611 عن عرش بوهيميا وكل ما بقي له من سلطات. ومات في 1612.

أما ماتياس فكان قد بلغ الخامسة والخمسين، بعد أن أقعدته الحملات الحربية عن الاستمتاع بالحكم النشيط. لذلك عهد بالحكم والسياسة جميعاً إلى ملشيور كليزل أسقف فيينا القدير الحي الضمير. ولكن كليزل أغضب الكاثوليك بما قدم للبروتستانت من تنازلات، وأغضب البروتستانت لأن هذه التنازلات كانت دون ما يبتغون. وأعتقل فرديناند، أرشيدوق استيريا، وابن عم ماتياس، الأسقف كليزل (1618)، وظفر بانتخابه إمبراطوراً عقب موت ماتياس (1619). وهنا كانت هرمجدون قد اندلع لهيبها.


2- الإمبراطورية

لم تكن سويسرا جزءاً من الإمبراطورية إلا صورياً، وتركت الانتصارات المؤزرة التي أحرزتها البلاد على الأباطرة وكبار الأدواق، والولايات السويسرية (الكانتونات) حرة في التناحر فيما بينها. فانضمت سافوي وأسبانيا إلى الولايات الكاثوليكية التي تزعمتها لوسرن، في جهود دبلوماسية أو حربية لإرجاع الولايات البروتستانتية إلى حظيرة الكنيسة الرومانية. وبدأ اليسوعيون من كليتهم يلوسرن في 1577 حملة من التعليم والوعظ والدس. وأصلح ممثلوا البابا في سويسرا الفساد في رجال الدين الكاثوليك، وقضوا على التسري بين الكهنة، وصدوا التأثرات البروتستانتية المنبعثة من زيوريخ وجنيف وبرن.

وكانت جنيف تفيق ببطء من سلطان كلفن. فقد خلف يتودور دي بيز أستاذه (1664) زعيماً لجماعة "الرعاة" الموقرة والمجمع الكنسي "للرعاة والعلمانيين"، وعن طريقهم واصل عمل الكنيسة المنصلحة في لباقة وكياسة لم يقوَ على إحباطهما سوى "الكراهية اللاهوتية" وسافر في أرجاء فرنسا ليحضر المجامع الكلفنية، وقد شهدناه يدافع عن قضية البروتستانتية في مؤتمر بواسي. وكافح في وطنه، وإن لم يوفق كل التوفيق في كفاحه، ليحافظ على الفضيلة الصارمة التي فرضها كلفن على الناس. فلما انحرف كبار رجال الأعمال أكثر فأكثر عن هذه الجادة، قاد بيز رجال الدين في حملة للتنديد بالربا، والاحتكار، والاستغلال، وحين اقترح مجلس المدينة أن يقتصر الوعاظ في وعظهم على مسائل الدين، أجاب بيز بأنه يجب ألا يقصي أي شأن من شؤون البشر عن دائرة الدين(6). وهو من بين كبار زعماء الإصلاح البروتستانتي الوحيد الذي أدرك القرن السابع عشر، وقد مات في 1608 بالغاً التاسعة والثمانين.

أما دور النمسا في الإمبراطورية فكان مركزياً. ذلك أنها كانت عادة وطن الأباطرة، وكانت حصن الحضارة الغربية الحصين في وجه الأتراك الطامعين، للإصلاح الكاثوليكي في حرب الثلاثين. ومع ذلك فقد أتى عليها عهد كانت تتذبذب فيه بين الكاثوليكية البروتستانتية بل بين المسيحية والكفر. ففي عهد فرديناند الأول (1556-1564) قررت معظم الأبرشيات النمساوية كتاب التعليم المسيحي اللوثري. وكانت اللوثرية المذهب السائد في جامعة فيينا، وأباح الديت النمساوي تناول القربان بالخمر والخبز، وزواج رجال الدين. "كان الناس يعدونها علامة من علامات العقل المستنير أن يحتقر صاحبه عادة الدفن المسيحي. وأن يدفن الميت دون مساعدة من قسيس.... وبغير صليب". وفي تقدير أحد الوعاظ في 1567 "أن الألوف وعشرات الألوف في المدن-أجل، بل في القرى- لم يعودوا يؤمنون بالله(7)". فلما خشي الإمبراطور فرديناند انهيار الدعم الديني للحكومة النمساوية وسلطة آل هبسبرج. دعا بطرس كانيسيوس وغيره من اليسوعيين إلى جامعة فيينا. وبدأت الكاثوليكية تستعيد مكانتها بفضل زعامتهم، لأن هؤلاء الرجال المتمرسين جمعوا بين العقل المرهف الصابر، وبساطة العيش التي وقعت أفضل موقع في النفوس. فما وافى عام 1598 حتى غدت كنيسة روما سيدة الموقف.

ومثل هذا التغيير طرأ على المجر المسيحية. فقد دان ثلثا المجر للحكم التركي منذ 1526، وكانت الحدود التركية تبعد عن فيينا بأقل من مائة ميل، ولم يقوَ الأباطرة على المحافظة على السلام مع تركيا إلا بدفع جزية سنوية للسلاطين حتى عام 1606.. وكانت ترانسلفانيا الواقعة إلى الشمال الشرقي من المجر التركية تؤدي مثل هذه الجزية، ولكن حدث في عام 1606 أن أوصى أميرها ستيفن بوكسكاي بالإقليم لآل هبسبرج قبيل موته دون عقب.

أما ديت المجر النمساوية فكان منذ 1526 يؤيد حركة الإصلاح البروتستانتي، فقد هيمن عليه النبلاء على أملاك الكنيسة الكاثوليكية(8). وفي ظل الحرية الدينية التي صانوها ظفرت البروتستانتية بمكان السيادة بين الطبقات المتعلمة. ولكن سرعان ما انقسمت شيعاً لوثرية، وكلفنية، وتوحيدية، وتفرق التوحيديون مللاً أصغر لاختلافهم على صواب توجيه الصلوات إلى المسيح. ولم يرَ النبلاء بعد أن استتب لهم الأمر في ممتلكاتهم مبرراً بعد ذلك للبروتستانتية. لذلك رحبوا ببطرس بازماني وغيره من اليسوعيين، وقبلوا التحول "المثالي" إلى الكاثوليكية، وطردوا "الرعاة" البروتستانت(9). واستبدلوا بهم القساوسة الكاثوليك، وفي عام 1618 أصبح فرديناند أرشيدوق استريا ملكاً على المجر، فعزز حركة الإصلاح الكاثوليكي تعزيزاً نشيطاً. وفي ديت 1625 استعاد الكاثوليك أغلبيتهم. وأصبح بازماني كردينالاً وكاتباً من أبلغ مؤلفي العصر المجريين، مع أنه ابن رجل كلفني المذهب.

وأما بوهيميا والأقاليم التابعة لها-وهي مورافيا وسيليزيا ولوزاتيا-فكانت تغلب عليها البروتستانتية عام 1560. واعترفت الولايات الأربع بملك بوهيميا يسداً عليها، غير أنه كان لكل ولاية مجلسها القومي وقوانينها وعاصمتها-براغ، وبرون (برنو)، وبرسلاو، وبوتزن، وكانت براغ في ذلك الحين من أجمل مدن أوربا وأكثرها ازدهاراً. ولم يكن مسموحاً بالتصويت بالديت البوهيمي إلا لملاك الأرض البالغ عددهم ألفاً وأربعمائة ولكن كان من بين أعضائه ممثلون لسكان المدن والفلاحين، أتاح لهم سلطان المال نفوذاً جاوز مجرد الكلام. وكان معظم النبلاء لوثريين، ومعظم مواطني المدن لوثريين أو كلفنين، ومعظم الفلاحين كاثوليكاً. ولكن قلة منهم كانت "أوتراكية" تخلوا في عام 1587 عن تقاليدهم الهسية (مذهب المصلح الديني البوهيمي، والشهيد جون هس 1369-1415)، ولم يتمسكوا إلا بتناول القربان بالخبز والخمر، وأخيراً تصالحوا مع كنيسة روما (1593). أما أكثر الطوائف الدينية إخلاصاً فكانوا "الأنيتاس فراتروم"-وهم الأخوان البوهيميون أو المورافيون-الذين أخذوا موعظة المسيح على الجبل مأخذ الجد، وعزفوا عن كل الحرف والمهن إلا الزراعة، وعاشوا في بساطة كبساطة تولستوي المسالمة.

وفي عام 1555 جلب فرديناند الأول اليسوعيين إلى بوهيميا. فأنشئوا كلية في براغ وربوا "كادراً" من الكاثوليك الغيورين، واكتسبوا الكثيرين من النبلاء الذين تزوجوا بنساء كاثوليكيات. ثم أصدر رودلف الثاني مراسيم. نفي الأخوان البوهيميين أولاً، قم الكلفنيين، غير أن الوسائل أعوزته لتنفيذ هذه المراسيم. وفي عام 1609 أقنعه البروتستانت بأن يوقع الميثاق الملكي "الشهير" الذي كفل حرية العبادة للبروتستانت في بوهيميا. وبعد عامين نزل رودلف عن العرش لماتياس، ونقل هذا قضية الإمبراطورية إلى فيينا، وترك براغ مغيظة ثائرة. وفي عام 1617 اعترف الديت البوهيمي بالأرشيدوق فرديناند الاستيري ملكاً على بوهيميا، وكان عدد الكاثوليك يتكاثر في هذا الديت برغم أن البلاد ما زال أغلب أهلها من البروتستانت(11)، وكان فرديناند هذا قد تعلم على يد اليسوعيين وأقسم أن يستأصل شأفة البروتستانتية إن حكم. واتخذ بروتستانت بوهيميا أهبتهم للحرب.

أما ألمانيا فكانت أخلاطاً من الأمم داخل كيان معقد، كانت اسماً لا شعباً ومزيجاً من إمارات تتفق في لغتها واقتصادها، وتتباين أشد التباين في عاداتها، وحكمها، وعملاتها وعقائدها . ولم تعترف أي من هذه الوحدات بسيد عليها إلا الإمبراطور فقط ثم هي تتجاهله خمسين أسبوعاً في السنة. وقد وجد بعض الأجانب عزاءً في انقسام ألمانيا على هذا النحو فكتب سير توماس أوفريري في 1609 يقول، لو أنها كانت كلها خاضعة لنظام ملك واحد لكان ذلك أمراً رهيباً بالنسبة لباقي أوربا(12) لا بل أن هذا الوضع ارتاحت إليه ألمانيا من وجوه كثيرة. صحيح أنه أضعفها في المنافسة السياسية والحربية مع الدول الموحدة، ولكنه أعطاها حرية محلية، وتنوعاً دينياً وثقافياً قد يفضله الألمان بحق على أرستقراطية متمركزة مضنية كأرستقراطية فيليب الثاني في أسبانيا ولويس الرابع عشر في فرنسا. فلم تكن هنا باريس تطغى وتعج بسكانها وتمتص دم الحياة من قطر بأكمله بل كوكبة من مدن مشهورة لكل منها طابعها وحيويتها.

على أن ألمانيا لم تعد تحظى بذلك التفوق الاقتصادي الذي كان لها في شمال لأوربا قبل لوثر، برغم هذه التشكيلة من المدن العظيمة والبلاطات الصغيرة. ذلك أن كشف طريق بحري خالص من غرب أوربا إلى الهند، وفتح الأطلنطي للتجارة، أفادا البرتغال وأسبانيا أولاً، ثم إنجلترا والأراضي الوطيئة بعدهما، وقد أضر بإيطاليا التي هيمنت من قبل على تجارة الشرق، وشاركت في اضمحلال إيطاليا تلك الأنهار والمدن الألمانية التي كانت تنقل التجارة من إيطاليا إلى الشمال. فأخذت ثغور الأراضي الوطيئة في بحر الشمال، وثغور الدنمرك وبولندة في البلطيق، معظم التجارة والمكوس. أما عصبة الهانسا فكانت قد فقدت تفوقها الماضي منذ زمن طويل، ودمرت لوبك في حربها الطويلة مع السويد (1563-1570). ولم تحتفظ بثرائها غير فرانكفورت على الراين، وطلت سوقها السنوية أحفل أسواق أوربا بالقصاد، وقد أحالت المدينة إلى مركز لتجارة ألمانيا الداخلية والمالية الدولية.

أما إقبال الناس على المال فظل على حالهِ. وتهرب الناس في كل مكان من المراسيم التي حرمت تقاضي فائدة تربو على 5%. قال قسيس في 1585 "إن رذيلة الربا الكافرة يمارسها الآن المسيحيون في حرص أشد من حرص اليهود في الماضي" وشكا واعظ في 1581 من أن "ولعاً غير مسيحي بالذهب قد تسلط على كل الناس من جميع الطبقات. فكل من ملك شيئاً يغامر به، يفكر في الإثراء... بشتى أساليب المضاربة، والتعامل في النقود، وعقود الربا، بدلاً من القيام بعمل أمين شاق"(13). واستثمر المئات من العاملين مدخراتهم مع أحد بيوت فوجر، أو فيلزر، أو هو خشتيتر المالية، ثم خرجت بيوتهم في إفلاسات متكررة. وفي عام 1572 أفلس بنك إخوان لوتيز بعد أن جمع أموالاً طائلة من صغار المستثمرين، فأفقدهم بذلك مدخراتهم بل بيوتهم(14). أما بيت فوجرز فقد جلب عليه الخراب إفلاس فيليب الثاني ودوق ألفا اللذين شارك هذا البيت في تمويلهما(15). كذلك أفلس بيت فليزر في 1614 وبلغت ديونه 586.000 جولدن. ولعل الخوف من التضخم دفع الناس إلى مثل هذه الاستثمارات، لأن كل أمير ألماني تقريباً كان يسرق من شعبه بتخفيض العملة، ولأن اللذين زيفوا العملة أو اقتطعوا حوافها تكاثر عددهم. فما وافى عام 1600 حتى كانت العملات الألمانية تتردى في فوضى شائنة.

وزاد عدد السكان بينما تخلف الإنتاج، ودفع برد الشتاء الناس إلى شفا الثورة. وأكره الفلاحون في جميع الأقاليم-باستثناء سكسونيا وبافاريا على أن يصبحوا أقناناً. وفي بوهرانيا وبراندنبورج وشلزويج وهولشتين وميكلنبورج شرعت القنية (رق الأرض) في سنة 1616 أو بعد(16) وقد تساءل كاتب في سنة 1958 "ترى في أي أرض ألمانية ما زال الفلاح الألماني يتمتع بحقوقه القديمة؟ وأين يتاح له أي انتفاع أو ربح من الحقول أو المراعي أو الغابات المشاعة؟ وأين يتوقف عدد الخدمات أو الالتزامات الإقطاعية؟ وأين يجد الفلاح محكمته الخاصة؟ ألا فليسبغ الله عليه رحمته(17) وذهب الكثير من الفلاحين للعمل في باطن الأرض، ولكن أباح التعدين وأجوره الحقيقية تضاءلت حين دخلت الفضة الأمريكية ألمانيا لتنافس المعدن المستخرج بشق الأنفس من عروق معدنية مستهلكة. أما في المدن فإن زمالة النقابات القديمة أفسحت الطريق لاستغلال أرباب الصناعات لعمال اليومية. وكان يوم العمل في بعض الصناعات يبدأ في الرابعة صباحاً وينتهي في السابعة مساءً، يتخلل ذلك "فترات لتعاطي الجعة"، وقد انتزعت نقابة النحاسين من العمال في عام 1573 أسبوع عمل بلغت جملة ساعاته اثنتين وتسعين(18). ومنذ عام 1579 نسمع بإضرابات ضد استخدام الآلات في صناعة النسيج بألمانيا(19). وهكذا لم يبقَ إلا نشوب الحرب حتى يصبح الفقر المدقع كارثة لا نظير لها.


3- الأخلاق وآداب السلوك

إذا صدقنا مزاعم الأخلاقيين في نصف القرن الذي نحن بصدده، كانت صورة الأخلاق لا تقل قياماً عن صورة الاقتصاد. فقد شكا المدرسون من أن الصغار الذين يعهد إليهم بتعليمهم ليسوا مسيحيين بل همج. وكتب ماتياس بريدينباخ عام 1557 يقول: "أن الناس يربون أبناءهم تربية بلغت غاية السوء بحيث أصبح واضحاً للمعلمين المساكين... أن عليهم أن يتعاملوا... مع وحوش ضارية"(20) وقال آخر عام 1561 "يبدو أن كل نظام أصبح في خبر كان، إن التلاميذ جاوزوا الحدود في العصيان والوقاحة"(21). وفي معظم مدن الجامعات كان المواطنون يترددون في الخروج ليلاً خوفاً من الطلاب الذين يهاجمونهم أحياناً بمداهم المفتوحة(22). كتب ناتان كترانسين في 1578 يقول: "لا شك أن من أهم أسباب انحلال أخلاق الطلاب الذي عم الآن هو تدهور التربية المنزلية. فلا عجب، بعد أن خلعنا عن أعناقنا نير القوانين والشرائع القديمة... أن نشهد بين الشطر الأعظم من شبابنا مثل هذه الإباحة المطلقة، والجهل المطلق، والوقاحة المستعصية، والإلحاد الرهيب(23). ورأى غير هؤلاء "أن التمثيليات الهزلية والعروض والمسرحيات ليست من الأسباب الهينة التي ألقت بالشباب في مهاوي الرذيلة والفجور"(24).

أما الكبار فقد قال الوعاظ في وصفهم أنهم منافقون، مشاكسون، نهمون سكيرون، زناة(25). وشكا الراعي يوهان كونو في 1579 من أن "الرذيلة بأنواعها استشرت حتى ليرتكبها الناس دون حياء، لا بل أنهم يفاخرون بها مفاخرة اللوطيين، وأصبحت أقبح الكبائر وأغلظها تعد فضائل... فمن الذي ما زال يرى ارتكاب الفحشاء خطيئة؟(26) كتب الراعي برتلياس ريخفالت في 1585 يقول: "هذا الزمان آخر الأزمنة التي نكب بها العالم، وأشدها فساداً(27) وأصبح التجديف وتدنيس المقدسات شائعاً بين كل الرجال تقريباً من جميع المذاهب(28) واستشرى الافتراء على الناس. وكتب كونت أولدنبرج في 1594 يقول: "شكا لي ملاحظ أعمالي من الطريقة التي أساء بها الدكتور بيزل في بريمن إلى سمعته وافترى عليه في أحد كتبه، إذ زعم أنه ينفق نهاره في الشره والسكر والفجور، وأنه... ذئب مفترس للحملان، وأفعى، وتيس، وسقط جهيض.. وأنه يجب التخلص منه أما بشنقه أو إغراقه أو سجنه، وإما بدولاب التعذيب أو بحد السيف". ووجد واعظ بلاط أمير سكسونيا الناخب أنه "في طول ألمانيا وعرضها تقريباً أشيع كذباً "أنني أكسب أقداحاً مذهبة في مباريات الشراب... وأنني أفرط في شرب النبيذ.. حتى ليضطر القوم إلى مساعدتي ودفعي على عربة جر كأنني عجل أو خنزيرة مخمورة(19)".

وكان تناول الطعام والشراب شغلاً شاغلاً للناس، فنصف نهار الألماني الميسور ينفقه في دفع الطعام من إحدى طرفي القناة الهضمية إلى طرفها الآخر وكان أهل المدن يفخرون بشهيتهم الطيبة التي تفصح عن ثرائهم كما تفصح عنه ثياب زوجاتهم. وقد ذاع صيته أحد لاعبي السيرك في أرجاء ألمانيا كلها لأنه أكل في وجبة واحدة رطلاً من الجبن، وثلاثين بيضة، ورغيفاً كبيراً من الخبز-وهي مهمة خر بعدها صريعاً. ولم يكن من الأمور الشاذة أن يتصل الغداء أو العشاء سبع ساعات يتخللها شرب أربعة عشر نخباً. أما حفلات الزفاف فكانت في أكثر الأحيان قصفاً صاخباً يحفل بالنهم والسكر وقد ألف أمير مرح أن يوقع رسائله بهذه العبارة (كن معافى وأسكر). وقد أسرف كرستيان الثاني أمير سكسونيا الناخب في تعاطي الخمر حتى أودت بحياته، ولما يجاوز السابعة والعشرين. وكافحت جمعية للامتناع عن السكرات لمقاومة الرذيلة، ولكن أول رئيس لها مات من السكر(30). وقد أكد بعضهم أن البطنة قصرت أعمار الناس، وكتب إرزمس فنتر في 1599 يقول "إن الإسراف في الطعام والشراب قلل من عدد المعمرين، وندر أن نرى رجلاً في الثلاثين أو الأربعين لا يشكو مرضاً، سواء كان الحصى، أو النقرس، أو السعال، أو السل، أو غيره"(31).

ولكن علينا ألا نأخذ هذه الشكاوى المعاصرة مأخذ الجد الشديد. فأغلب الظن أن كثرة الشعب كانوا قوماً مجدين، صابرين، يخافون الله بالمعنى الحرفي للعبارة. إلا أن الفضيلة لا ينوه بها التاريخ كما لا تنوه بها الصحف-وهذا دليل عن أنها أمر عادي مألوف. فقد كانت زوجات أهل المدن يلزمن بيوتهن في عزلة متواضعة مستغرقات في عشرات الواجبات التي لا تترك لهن فراغاً لارتكاب ذنوب أفدح من الثرثرة بالشائعات، وكانت الكثيرات من نساء الطبقة العليا-مثل أنا زوجة أغسطس الأول أمير سكسونيا الناخب-مثلاً يحتذى في الولاء الصادق للأسرة. ولم تخلُ ألمانيا الصاخبة تلك من الجوانب السارة. محبة الأطفال والبيت، وكرم الضيافة، والرقص والطروب والموسيقى الجميلة، والألعاب والمهرجانات المرحة، وأول شجرة ميلاد في التاريخ المدون كانت جزءاً من احتفال أقيم بألمانيا في 1605، والألمان هم اللذين أحاطوا "عيد ميلاد المسيح" بالمظاهر البهية التي تخلفت من ماضيهم الوثني:

وكانت الرقصات والأغاني الشعبية تلد أشكالاً من الموسيقى المعزوفة؛ وكانت التراتيل بسبيلها إلى أن تصير كورالات ضخمة. وغدا الأرغن أثراً فنياً يدخل في فن المعمار، أما البيان القيثاري، والعود وغيرهما من الآلات الموسيقية، فكانت وليدة في التغني بالحب. وحليت كتب الترانيم أحياناً، لا سيما في بوهيميا، بزخارف رائعة. أما الترانيم البروتستانتية فكثيراً ما كانت تعليمية أو جدلية، وضحت في هذا السبيل برقة ترانيم العصر الوسيط المقدسة، ولكن الكورالات البروتستانتية كانت بشيراً بمقدم يوهان سبستيان باخ. وفرض التعليم الموسيقي على المدارس من جميع المذاهب، وكان مقام الـ"كانتور"-أي معلم الموسيقى-لا يعلو عيه إلا مقام المدير أو الناظر في سلم المراتب المدرسية، واشتهر عازفو الأرغن يومئذ شهرة عازفي البيان الآن، وذاع صيت يعقوب هاندل في براغ، أما الأخوة هاسلر-وهم هانز، وكاسبار، ويعقوب-فقد انتشت جماهير المصلين بموسيقاهم التي كانت من وضعهم في كثير من الأحيان، في درسدن، ونورمبرج، وبراغ وقد نحا النبوغ الموسيقي إلى الظهور مراراً وتكراراً في الأسرة الواحدة، لا بفضل أي وراثة خفية، بل نتيجة لعدوى البيت، وهكذا اتخذ حشد حقيقي من آل شولتز اسم "بريتوريوس"، ولم يكتفِ ميخائيل بروتوريوس بوضع مجلدات في الموسيقى، بل وضع في كتابه "أصول الموسيقى" (1615-1620) موسوعة شاملة رفيعة لتاريخ الموسيقى وآلاتهم وأشكالها.

أما أعظم الأسماء في هذا العصر وهذا الميدان فهو هنريخ شوتز، الذي أجمع الكل على الإشادة به "أباً للموسيقى الألمانية الحديثة". وقد ولد لأسرة سكسونية في 1575، قبل قرن تماماً من مولد باخ وهاندو، وأرسى دعائم الأشكال والروح الموسيقية التي أوصلها هذان الفنانان إلى ذروة الكمال. وحين بلغت الرابعة والعشرين اتخذ سمته إلى البندقية، حيث درس على جوفاني جابرييلي. فلما عاد إلى ألمانيا تردد بين الموسيقى والقانون، ولكنه استقر آخر الأمر على العمل مديراً للموسيقى في بلاط يوحنا جورج، أمير سكسونيا الناخب، بمدينة درسدن. وراح منذ 1618 يتدفق ألحاناً كورالية مهدت السبيل كل التمهيد للعدد الكبير من الموسيقيين من آل باخ بفضل ما فيها من تناول بارع للكرواس (مجموعات المنشدين) وللأصوات المنفردة وللآلات الموسيقية، ومن مقابلة بين هذه كلها، ولأول مرة أذيب وخفف مزج الألحان الكورالي الألماني الثقيل بأسلوب "التوزيع" الأكثر اتساقاً، والذي جمع بين الأصوات والآلات. واحتفالاً بزفاف ابنة الأمير الناخب (1627) لحن شوتز أولى الأوبرات الألمانية، وأسماها دافني على أساس أوبرا بيري التي تحمل هذا الاسم، والتي أديت بفلورنسة قبل ثلاثة وثلاثين عاماً. وتأثر شوتز برحلة ثانية إلى إيطاليا، فأعطى مزيداً من الوضوح للأصوات المنفردة والآلات الموسيقية في "سيمفونياته المقدسة" (1629) إذ وضع موسيقى لنصوص لاتينية من المزامير ونشيد الإنشاد. وفي 1631 غدت سكسونيا مسرحاً نشيطاً للحرب. فضرب شوتز في الأرض متنقلاً من بلاط إلى بلاط؛ حتى أنه رحل إلى الدنمارك، بحثاً عن فرق المرتلين والتماساً للرزق، ولم يرد إلى وظيفته في درسدن إلا في 1645، وفي ذلك العام ابتكر أسلوب موسيقي "آلام المسيح" الألمانية بوضعه موشحة دينية "أوراتوريو" سماها "كلمات المسيح السبع على الصليب"، هنا بدأت فكرة إعطاء كلمات شخص منفرد لنفس الصوت المنفرد، ثم يسبق الصوت أو يقفوه بنفس الأنغام في الآلات، وقد اقتبس باخ من بعده هذه الطريقة في موسيقى "آلام القديس متي". ثم شق شوتز طرقاً جديدة مرة أخرى، إذ نشر في 1657 "الأنغام الألمانية" وهي "كانتاتات" (قصص موسيقية تنشدها المجموعة على أنغام الموسيقى من غير تمثيل) تضعه مع كاريسيمس في مقام المنشئ المشارك للأناشيد الدينية الدرامية وقد هيأ لحنه "نشيد عيد الميلاد" (1664) لباخ هدفاً آخر يستهدف فيما بعد، ثم بلغ قصاراه بعد عام في "آلام ربنا ومخلصنا يسوع المسيح وموته". وهو نشيد وضعه بصرامة للأصوات وحدها دون أن يخفف بالألحان. وما لبث عقب هذا أن فقد سمعته، فاعتكف في بيته، ومات في السابعة والثمانين بعد أن لحن فقرة من المزمور 119 تقول: "ترنيمات صارت لي فرائضك في بيت غربتي".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- الآداب والفنون

كان أبرز إنتاج أدبي للإمبراطورية في هذا العهد ترجمة للكتاب المقدس قام بها الإخوان البوهيميين (1588)، وملحمة Zrinyiasz، (1644) التي نظمها ميكلوس زرينيي. وخلفت ألمانيا الآن (حوالي 1600) إيطاليا بوصفها أروج سوق لنشر الكتب، لا سيما فرانكفورت وماين.. ففي 1598 بدأت سوق فرانكفورت للكتاب تنشر كل نصف عان قائمة بالمطبوعات. "وشجعت الجماعات الأدبية الشعر والدراما"، ولكن الأدب كانت تخنقه الرقابة المدنية والكنيسة. فقد أجمع القادة اللوثريون والكلفنيون والكاثوليك على أن المؤلفات التي تعد ضارة بالحكومة. أو المذهب الرسمي، أو الآداب العامة يجب حضرها. ومن عجب أن مجموعة الكتب التي حرمتها السلطات البروتستانتية فاق تلك التي أدانتها كنيسة روما(32). واضمحل العلم لأن الحقيقة شوهتها حدة الجدل. وآية ذلك أن ماتياس فلاكيوس الليريكوس ومساعديه صنفوا تاريخاً للكنيسة المسيحية في ثلاثة عشر مجلداً من القطع الكبير. ولكن "قرون مجد بورخ"، وهو الاسم الذي انتهى الناس إلى إطلاقه على كتاب "تاريخ الكنيسة المسيحية" (1559-1574) نسبة إلى مكان تأليفه وإلى تقسيمه حسب القرون-هذا الكتاب كان متحيزاً لكتب التاريخ الكاثوليكية الصادرة في ذلك العهد، يوم كان كل كتاب سلاحاً في القتال. مثال ذلك أن البابا جريجوري السابع صوره هؤلاء المقاتلون أشد وحشية من كل ما ولد من الوحوش. وزعموا أنه قتل عدة باباوات قبل أن يرتقي "كرسي الوباء"(33). أما أروع التواريخ الرسمية الألمانية-في جيله فكتاب يوهان سلايدانوس الذي روى قصة الإصلاح الديني: "الأحوال الدينية والمدنية في عهد الإمبراطور شارل الخامس" (555)، وقد بلغ من الإنصاف مبلغاً لم يترك مجالاً-حتى لملانكوف-أن يغتفر له أي تحامل فيه. وبعد الكتب المحشوة بالمطاعن كانت الدراما أكثر أشكال الأدب شعبية وقد استخدم البروتستنت والكاثوليك المسرح لبث الدعوة؛ فسخرت التمثيليات البروتستانتية بالبابا سخرية مريرة، واختتمت عادة بزجه في الجحيم وأخرج معلمو الموسيقى بسويسرا تمثيليات عن آلام المسيح والقيامة. والدينونة الأخيرة ابتداءً من 1549، وشارك في التمثيل أحياناً 290 ممثلاً.

ومثلت مسرحية آلام "أوبرامير جاو" أول مرة في 1634 وفاء بنذر نذر خلال طاعون 1633. وكانت تعاد كل عشر سنوات، ويستمر عرضها من الساعة الثامنة والنصف صباحاً إلى السادسة مساءً، يتخلل ذلك استراحة ساعتين في الظهيرة. وقد دخل الممثلون الإيطاليون ألمانيا عام 1568، ثم تلاهم الهولنديون والفرنسيون والإنجليز. وسرعان ما أحلت هذه الفرق التمثيلية عروض المحترفين محل العروض الخاصة، وقد أثارت الكثير من الشكاوى بسبب فحشها الذي در عليها الربح الوفير.

وحظي بشعبية فاقت حتى شعبية الممثلين ناقد ألزاسي هجاء، فيه فحولة وله كفايات متعددة، يدعى يوهان فيشارت فبعد أن تقمص في مرح روح عصره، أصدر سلسلة من التقليدات الساخرة ضد الكاثوليكية، بلغت في تدميرها الذكي مبلغاً جعله بعد قليل أروج كاتب في ألمانيا، ففي كتابه "خلية النحل الرومانية المقدسة الهائلة" هاجم (1579) تاريخ الكنيسة، وعقيدتها، واحتفالاتها، وكهنتها، في كاريكاتور عنيف، فكل الأديار الكاثوليكية عنده مراتع للفجور والإجهاض، والكنيسة في زعمه قضت بأن "للكهنة" أن يستعملوا زوجات غيرهم في غير حرج، وقد وجدت ستة آلاف من رؤوس الأطفال في بركة قرب دير الراهبات، وهكذا دواليك(34). وفي هجاء آخر سماه "القبعة اليسوعية الصغيرة" سخر من قبعة اليسوعيين ذات الزوايا الأربع وندد بكل أساليبهم وأفكارهم. وفي عام 1575، نشر فيشارت، بعنوان مرح في ثمانية سطور، ترجمة مزعومة، هي في حقيقة الأمر تقليد وتوسيع لكتاب رابليه "جارجانتوا"، وقد هزأ الكتاب بجميع نواحي الحياة الألمانية-كظلم الفقراء، وسوء معاملة التلاميذ، ونهم الألمان وسكرهم، وزناهم وفسقهم، كل ذلك في خليط من الأساليب ومن اللهجة الألزاسية، متبل بالبذاءة والظرف. ومات فيشارت في الثالثة والأربعين بعد أن أفرغ ما في جعبته من ألفاظ.

ولا يقل عن فيشارت حيوية رجل آخر مات في نفس السنة، 1590، بالغاً نفس العمر، هو نيقوديموس فرشلين، الذي عاش أكثر من عشرة أعمار في عمر واحد. ففي العشرين كان أستاذاً للتاريخ والشعر في توينجن، ونظم الشعر اللاتيني في رقة تذكرك برقة هوراس، وكتب شروحاً علمية لفرجيل. وفي الخامسة والثلاثين طرد لهجائه النبلاء. وبعدها عاش عيشة الاستهتار والمرح، فأسرف في الشراب، زاعماً أن الخمر لا غنى عنها للعبقرية، وأن أشعار الزاهدين في الخمر هزيلة هزالاً حقيراً، وقد اتهم بإفساد فتاة وتسميم أخرى، وإذ كان مهدداً بالمحاكمة الجنائية لعدوانه على الفضيلة، فقد ظل يفر من بلد إلى بلد، وأهدى محاضرة منشورة إلى أحد عشر رجلاً من الأعيان المختلفين، الذين وزّعهم توزيعاً جغرافياً، ليوفروا له ملجأً يلوذ به في أي مكان، ولكنه مات أثر كبوة قبل أن ينتهي من إبداء رأيه في أعدائه. وجرياً على عادة ذلك الزمان نعتوه بأنه: "شاعر قذر حقير، وسقط للشيطان كذاب لئيم(35)". ولكنه كان ألمع شاعر استطاعت ألمانيا أن تنجيه في ذلك الجيل الشقي.

أما الفن فقد أضر به عزوف البروتستنت عن الصور والتماثيل، واضمحلال الكنيسة بوصفها راعية للفن، وإفساد التأثير الإيطالي الغريب على ألمانيا للطرز الوطنية، وتدهور الذوق نتيجة لخشونة الأخلاق وعنف الجدل، ثم نار الحرب الآكلة بعد ذلك. وأعجب العجب أن تنتج الحرفية الألمانية، برغم هذه المثبطات، في العقود الستة السابقة للحرب، عدة قصور فخمة، ودور للبلدية بهية، وتنجب مصوراً قديراً، وتبدع بعض التحف الثمينة في الفنون الصغيرة. وكانت مجموعات الإمبراطور رودلف الثاني والدوق ألبرت الخامس أمير بافاريا نواة لمتحف ميونخ الشهير "قاعة الفن القديمة" وكان ألبرت نفسه "مديتشيا ألمانيا"، فأحال بلاطه جنة "للفنانين" وجمّل عاصمته بالعمارة، وجمع التماثيل في "الانتكواريوم" ، وهو أول متحف للتماثيل القديمة شمال الألب.

وفي 1611-1619 بنى معماري هولندي للدوق مكسمليان الأول في ميونخ "المقر" الذي ظل قروناً بيتاً لأدواق بافاريا وناخبيها وملوكها. وقد أسف جوستاف أدولف لأنه لم يستطع أن ينقل إلى استكهولم ذلك المثال المحبب من عمائر فترة الإصلاح البروتستانتي المتأخرة في ألمانيا. أما اليسوعيون فقد شيدوا بطراز الباروك، على طريقتهم التي تعنى بالزخرفة والتنميق، كنائس بديعة في كوبلنز، وديلنجن، وكنيسة هوف (كنيسة القديس ميخائيل) بميونيخ وصمم سانتينو سولاري كاتدرائية سالزبورج، على طراز أكثر بساطة وفخامة، قبيل اندلاع حرب الثلاثين ببضع سنين. وإذ كان الأمراء قد استولوا على معظم الثروة الكنسية في ألمانيا البروتستانتية، فإن العمارة فيها لم تعد كنيسة بل مدينة، وأحياناً عمارة قصور. وبنيت القلاع الضخمة، كقلعة هايلينجبرج في بادن، المشهورة بسقفها المصنوع من الخشب الزيزفون المنقوش، في قاعتها المعروفة بالريتزرال (أي صالة الفرسان)، وقلعة أشافينبورج على الماين، وقلعة هايد ليبرج، التي ما زالت مشهداً من مشاهد ألمانيا الكبرى. وأقيمت دار بلدية "راتهاوس" الفاخرة لتضم إدارة البلدية في لوبك وقلاع بادريون، وبريمن، وروتنبورخ واجزبورج ونورمبرج وجراتز. وعهد تجار المنسوجات في أجزبورج إلى الياس هول، كبير معماري المدينة، ببناء قاعتهم "تزويج هاوس" أي قاعة الأقمشة. كذلك بنت بريمن قاعة للغلال "كورنهاوس"، وفرانكفورت قاعة للملح "زالتسهاوس" لتجار الغلال والملح على التوالي، ولكن من كان يتوقع أن يبتنى الخل لنفسه بيتاً رفيع الذوق كقاعة الخل "ايسيجهاوس"؟.

وارتفعت الآن، وفي الأعوام المائة والخمسين التالية، القصور في كل مكان بألمانيا لتأوي الأمراء الظافرين، وقد بنيت بطراز الباروك اللولبي البهيج. ومن ذلك أن حاكم "أنسباخ بايرويت" أنفق 237000 فلورين (30.000.000 دولار؟) على قصر بلاسنبورج الذي يملكه، في إمارة من أفقر إمارات الإمبراطورية. وأرفع من هذا القصر ذوقاً "القصر الأميري الذي أعد لرؤساء أساقفة ماينز. وتبدو عمارة بيوت هذه الفترة بهية إلى حد خلاب سواء في تقاليدها أو رسومها، غير أن طبيباً ساخطاً وصف البيوت الألمانية في 1610 بأنها تتألف من حجرات قذرة مظلمة خبيثة الرائحة قل أن يدخلها الهواء النقي(36)، ومع ذلك فإن داخل البيت في المدينة كان الموطن الحقيقي لفنون ألمانيا الصغيرة، فقد حفل بالزخارف التي أبدعتها أيد ماهرة كالحشرات الخشبية والسقوف المنقوشة، والأثاث المتين المنقوش والمطعم، والدرابزينات الحديدية المشغولة، والأقفال والقضبان المنصوبة في أشكال فخمة، وتماثيل العاج الصغيرة، وأقداح الشراب الفضية أو الذهبية. لقد كان ساكن المدينة الألماني لا يشبع من الزخارف في بيته.

وازدهر الحفر، لا سيما على النحاس، في ألمانيا حتى خلال الحروب. واستهل لوكاس كيليان وأخوه فولفجانج، حوالي 1600، عهد أسرة موهومة من الحفارين اتصل نشاطها طوال القرن السابع عشر بفضل ولدي فولفجانج، وهما فيليب وبرتلماوس، وامتد حتى 1781 بفضل أبناء حفدة فيليب. على أن النحت الألماني أضرت به المحاولات التي بذلها النحاتون لتقليد الأشكال الكلاسيكية الدخيلة على الطبيعة والمزاج الألمانيين. وكان الحفارون الوطنيون، إذا أرسلوا أنفسهم على سجيتها، يبدعون تحفاً من أرفع طراز، مثال ذلك مذبح الكنيسة الأوسط، والمذبحان الجانبيان، التي حفرها في الخشب هانزديجلر لكنيسة أولتريش في أوجزبورج، أو التماثيل السبعون التي نقشها ميخائيل هونيل لكاتدرائية جورك بالنمسا. ومن المعالم البارزة في هذا العصر نافورات الماء العجيبة التي استلهمت المثل الإيطالية، كنافورة "فيتلسباخر" المقامة أمام الرزيدنتز "بميونخ" و"نافورة الفضيلة" (توجندبرونن)، أمام كنيسة لورنز في نورمبرج.

حين نمى إلى روبنز أن آدم الزهايمر قد مات لتوه (1610) وهو بعد في الثانية والثلاثين قال "خليق بهذا الخطب أن يغرق مهنتنا في حزن عميق، فلن يكون من السهل تعويضه، إذ محال في رأيي أن يكون له نظير في (رسم) الصور الصغيرة والمناظر الطبيعية، وأشياء أخرى كثيرة"(37). وقد ولد آدم هذا في فرانكفورت ثم قصد إيطاليا وهو في العشرين، وبعد أن أقام في البندقية ردحاً من الزمن انفق ما بقي من عمره في روما. وقد تضرع روبنز إلى الله "أن يغر لآدم خطيئة الكسل"، ولكنا لا ندري أهو الكسل، الذي جعل الزهايمر يقصر فنه على الرسوم الصغيرة على الأطباق النحاسية، إذ لا يمكن أن يكون الكسل هو الذي جعله يضفي على مناظر الطبيعة ذلك الصقل الدقيق الذي نراه في "الهروب إلى مصر(38)" أو ذلك التجسيد للضوء والهواء الذي جعل منه على حدوده المتواضعة، "رميرانتا" قبل رميرانت. ويلوح أنه كان يجزى جزاءً طيباً على فنه، ولكنه جزاء لا يكفي لإشباع حاجاته وميوله. وقد أفلس، وسجن بسبب دينه، ثم مات عقب الإفراج عنه.

كان الرسم على الزجاج فناً أثيراً في هذا العصر، في زيوريخ وما زال أولاً، ثم في ميونخ، وأوجزبورج، وأصبحت النوافذ في الأديار والمنازل غنية بالألوان كأنها نوافذ كنيسة من العصر الوسيط وظهر نقش الزجاج في بواكير القرن السابع عشر في نورمبرج وبراغ. واشتهرت أسرة هيرشفوجل بنورمبرج بالزجاج والخزف الفنيين. وأدفأت كولونيا وزيجبورج قلوب الألمان بالأباريق والكيزان الأنيقة النقوش، وكثيراً ما كانت المواقد تحاط بفخار مزجج بالألوان. ولم يكن للألمان قريع في أشغال الخشب والعاج والحديد والأحجار الكريمة والمعادن النفيسة. وكان لنجاري الأثاث مكان مرموق، حتى أن واحداً منهم حكم عليه بالشنق عقاباً على السرقة صدر العفو عنه لأنه كان "نجاراً فنياً" ماهراً جداً. والرابزين الحديدي المحيط بمقبرة الإمبراطور مكسمليان الأول في انزبروك رائع جداً. وقد صنع أنطون آيزيهوت في 1578 آنية للطقوس الكنسية من فضة بلغت من دقة الرسم وغنى الحلية ما يضعها إلى اليوم في قمة الآنية التي من نوعها. وكان الصاغة الألمان مطلوبين في كل مكان، ووجدت أشغالهم سوقاً أوربية لها في غير عناء. وصنعت كئوس الشراب، والأقداح، والأباريق الفضية في عشرات الأشكال المضحكة، وكان في وسع الألمان أن يترنحوا بالخمر يشربونه من طواحين الهواء، والفوانيس، والتفاح، والقردة، والخيل، والخنازير، والرهبان، والراهبات. لقد كانوا يخوضون الحرب اللاهوتية حتى في كئوسهم المتصارعة.


5- المذاهب المتصارعة

كان ديت أوجزبورج (1555) قد وصل بالصراع الديني إلى الديني إلى هدنة جغرافية حول مبدأ "الناس على دين ملوكهم" "إقليمه دينه"-أعني أن دين الحاكم في كل دور يفرض ديناً على رعاياه، وعلى المخالفين أن يرحلوا. وكان الاتفاق يمثل قدراً ضئيلاً من التقدم، لأنه أحل الهجرة محل الإعدام، ولكنه اقتصر على اللوثرية والكاثوليكية، وكان من آثار اقتلاع عائلات كثيرة من جذورها اقتلاعاً أليماً زادت الفوضى والمرارة في ألمانيا. وكان ينتظر من السكان أن يغيروا مذهبهم إذ خلف حاكم يدين بأحد المذهبين حاكماً يدين بالمذهب الآخر. وبات الدين مطية وضحية للسياسة والحرب.

أما وقد انقسمت ألمانيا في اللاهوتية على هذا النحو، فإنها لا تقدم قبل حرب الثلاثين خريطة دينية بسيطة: ويمكن القول عموماً بأن الشمال كان بروتستنتياً، والجنوب وأرض الراين كاثوليكيين، ولكن بما أن مبدأ أوجزبورج لم يمكن فرضه فرضاً دقيقاً ولا سريعاً، فقد بقي الكثير من البروتستنت في مناطق كاثوليكية، والكثير من الكاثوليك في بلاد بروتستنتية. وقد أتيح للكاثوليك ميزتان هما التقاليد والوحدة، أما البروتستنت فقد تمتعوا بقسط أوفر من حرية العقيدة، وانقسموا إلى لوثريين وكلفنيين وقائلين بتجديد العماد وموحدين، وحتى في صفوف اللوثريين نشبت حرب عقائدية بين أتباع ملانكتون المتحرر وخصومه. وفي 1577 صاغ اللوثريين عقيدتهم في "كتاب الوفاق" وبعد هذا التاريخ طرد الكلفنيون من الدويلات الألمانية اللوثرية. ولكن البالاتينات الناخب، فردريك الثالث، رعى الكلفنية وجعل جامعة هايدلبرج معهداً لاهوتياً للشباب الكلفني. وهناك، في 1563 وضع اللاهوتيون الكلفنيون كتب "التعليم المسيحي" في مفهوم هايدلبرج، وقد صدم الكاثوليك واللوثريين جميعاً برفضه عقدة الحلول الحقيقي للمسيح في خمر العشاء الرباني وخبزه. وسمح للكاثوليك بالعيش في البالاتينات شريطة أن يقصروا عبادتهم على بيوتهم، أما الموحدون فقد طمعوا بشدة. وفي 1570 نازع رجلان في ربوبية المسيح، أو ضيق حدودها، فأعدما أثر إصرار الأستاذة الكلفنيين في جامعة هايدلبرج على إعدامهما. على أن الأمير الناخب لويس ابن فردريك، آثر المذهب اللوثري وفرضه، ولكن إخاء يوحنا كازيمير، أثناء وصايته (1583-1592)، فضل الكلفنية وفرضها، ثم وطد الأمير الناخب فردريك الرابع (1592-1610) تلك السياسة. وتزوج ابنه فردريك الخامس (1610-1623) اليزابيت ستيوارت (ابنة جيمس الأول ملك إنجلترا). وطالب بعرش بوهيميا، وعجل بنشوب حرب الثلاثين.

وكان الصراع بين اللوثريين والكلفنيين لا يقل مرارة عنه بين البروتستنت والكاثوليك، وفد أضر بتعاون البروتستنت خلال الحرب لأن تعاقب النصر والهزيمة على الغريقين كليهما، تارة هذا وتارة ذاك، ومن ثم اضطهاد المنتصر المنهزم كان يخلف ميراثاً من الكراهية، مثال ذلك أنه في 1585 طرد الكونت فولفجانج حاكم أيزنبورج رونيبورج جميع الموظفين اللوثريين في إقليمه وأحل الكلفنيين محلهم، ولكن أخاه وخليفته الكونت هنري أنذر الوعاظ الكلفنيين في 1598 بأن عليهم أن يرحلوا خلال أسابيع برغم البرد القارس، وفي 1601 ولي الكونت فولفجانج أرنست، فطرد الوعاظ اللوثريين وأعاد المذهب الكلفيني. وحدث مثل هذا الإحلال للكلفنيين محل اللوثريين في انهالت (1595)، وهاناو (1956، وليي 1600). وفي بزوسيا الشرقية أعدم يوهان فونك المتهم بميوله الكلفنية في سوق كونيجزيزج وسط تهليل الجماهير (1566)(39). كذلك أعدم المستشار نيقولا كربل في درسدن (1601) لتوجهه الطقوس اللوثرية وجهه كلفنية، ولتأييده للهيحونوت للفرنسيين(40).

وفي 604 أعتنق الشريف موريس حاكم هيس-كاسل المذهب الكلفني، ثم فرضه في 1605 في هذا الإقليم وفي هيس العليا، وهزم جنوده حشداً من اللوثريين المقاومين وحطموا الصور في الكنائس، أما الوعاظ الذين أبوا التحول من المذهب اللوثري إلى الكلفني فقد نفوا(41). وفي أمارة براند نبورج الناخبة قام نزاع عنيف اللوثريين والكلفنيين حول خبز القربان المقدس، وهل يتحول حقيقة بعد تقديسه إلى جسد المسيح وأخيراً قضت الحكومة بأن الكلفنية هي المذهب الحق (1613 وما بعدها)(42).

ووسط تذبذبات الحقيقة هذه احتدم ذلك "السعار اللاهوتي" كما سبق أن سماه ملانكتون-احتداماً لم يعرفه التاريخ من قبل ولا من بعد، إلا فيما ندر. من ذلك أن راعياً لوثرياً يدعى نيفاندر (1583) عدد أربعين خصيصة من خصائص الذئاب، وزعم أنها بالضبط السمات المميزة للكلفنيين ثم وصف الميتات الرهيبة التي لقيها أعداء اللوثريين، وقال بأن زونجلي حين خر صريعاً في المعركة، "قطع جسده سيورا، واستعمل الجنود شحمه ليشحموا به أحذيتهم، لأنه كان رجلاً بدينا(43)". وجاء في نشرة لوثرية في 1590 "إن أراد أحد أن يقال له في بضع كلمات أية مادة من مواد الإيمان نقاتل عليها جنس الأفاعي الكلفنية الشيطاني، كان الجواب، كلها بلا استثناء...ذلك لأنهم ليسوا مسيحيين، بل يهود ومسلمون معمدون(44)". وفي سوق فرانكفورت كتب ستانسلاوس رسكيوس (1592) "لقد لاحظنا من سنين أن الكتب التي يؤلفها البروتستنت ضد البروتستنت ثلاثة أمثال تلك التي يؤلفها البروتستنت ضد الكاثوليك(45). وقال كاتب بروتستنتي في 1610 في معرض الرثاء لهذه الحال". أن هؤلاء اللاهوتيين المسعورين قد جعلوا الحرب المدمرة الناشئة بين المسيحيين المنشقين على البابوية من الهول والاتساع بحيث لا تبدو بارقة أمل في أن يكف كل هذا الصراخ والقذف والشتم واللعن والحرم قبل مجيء اليوم الآخر(46).

ولكي نفهم هذا "السعار اللاهوتي" علينا أن نتذكر أن جميع أطراف النزاع أجمعوا على أن الكتاب المقدس كلمة الله المعصومة، وإن الحياة بعد الموت ينبغي أن تكون أهم شغل للناس في هذه الدنيا. كذلك لا بد أن تفسح الصورة مكاناً للتقوى الصادقة التي أورثت الكثيرين من اللوثريين والكلفنيين والكاثوليك الأتضاع والتسامي فوق حمى المذاهب وهذيانها. فقد هرب "أهل التقوى" هؤلاء من المنابر اللاهوتية والتمسوا في خلوتهم شيئاً من الحضرة الإلهية المطمئنة. وما زال مؤلف يوهان آرنت "حديقة الفردوس الصغيرة" يقرأ في ألمانيا البروتستنتية باعتباره كتيباً للتأمل الورع. وانتهى يعقوب بومي بهذه النزعة إلى فكرة الوحدة الصوفية لروح الفرد مع إله تصوره ينبوعاً كونياً، وأساساً لكل الأشياء، ينتظم كل "شر" وكل "خير" وزعم بومي أنه رأى "كائن الكائنات كلها، ورأى جهنم، كما رأى مولد الثالوث الأقدس(47)" ولا يجد العقل غير العواطف مع الصوفية في كتاب "بومي" في شارة كل الأشياء، 1621 إلا دوامة من السخافات، ومن بواعث العزاء أن نعرف أن صوفيا آخر، وهو يوحنا وميسلي، وصفه بأنه "هراء رفيع(48)". وأفضل من التراتيل البسيطة الحسية التي ألقها التقي اليسوعي فردريك فون سبي.

واليسوعيون هم الذين قادوا الحملة الصليبية الكاثوليكية لاسترداد الأرض المفقودة في ألمانيا كما فعلوا في كل مكان في أوربا، وقد بدأوا بمحاولة إصلاح الأكليروس الكاثوليكي. كتب اليسوعي بطرس فابر من فورمز في 1540 يقول: "اسمح اللهم بأن يون في هذه المدينة ولو كاهنان أو ثلاثة ليس لهم علاقات غرامية حرام، أولاً يعيشون في خطايا معروفة أخرى(49)، على أن أهم خططهم كانت اصطياد الشباب ومن ثم فتح اليسوعيون الكليات في كولونيا، وتريير، وكوبلنز، وماينز، وشبيير، ومونستر، وفورتسبورج، واينجولستات، وبادربون، وفرايبورج، وقد طاف بطرس كانيسيوس، الرأس المفكر والروح والحركة لهذه الحملة اليسوعية، بكل أرجاء ألمانيا تقريباً على قدميه، منشآت الكليات، موجهاً المجادلات اليسوعية العنيفة، وشارحاً للحكام الألمان مزايا المذهب القديم. وقد حث الدوق ألبرت الخامس على أن يستأصل بالقوة شأفة البروتستنتية بأسرها من بافاريا(50). ويفضل اليسوعيين، والكبوشيين، وإصلاح الأكليروس، وغيرة الأساقفة، ودبلوماسية الباباوات وسفرائهم، استعيد إلى حظيرة الكنيسة في النصف الثاني من القرن السادس عشر نصف الأرض التي كسبتها البروتستنتية الألمانية في النصف الأول منه. وقد استعملت بعض ألوان الإكراه هنا وهناك، غير أن الحركة كانت في جملتها سيكلوجية سياسية، ذلك أن جماهير الشعب ملت طول الشك والجدل والجبرية، والجبرية، ورأى حكامهم في الكاثوليكية التقليدية سنداً للحكومة والنظام الاجتماعي أقوى من سند بروتستنتية غارقة في فوضى الانقسام، محفوفة بالمخاطر التي تكتنف كل مذهب جديد.

فلما أدرك البروتستنت آخر المطاف أن انقساماتهم الداخلية أشبه بعملية انتحارية. وجهوا منابرهم وأقلامهم ضد عدوهم الروماني. ومهدت حرب الكلام والمداد لحرب المدافع والدم، وتفاقم التقاذف بالمطاعن حتى قارب نشوة القتل. ودخلت قاموس اللاهوت ألفاظ كالروث، والنفاية، والحمار، والخنزير، والبغي، والقاتل. ففي عام 1565 اتهم الكاتب الكاثوليك يوهان ناس اللوثريين بممارسة القتل، والسرقة، والكذب، والغش، والشره، والسكر، ومضاجعة المحارم، والجريمة، دون ما خشية، لأن الإيمان في زعمهم يبرر كل الأشياء، ورجح أن تكون كل امرأة لوثرية مومساء(51). وقد اعتبر الكاثوليك هلاك البروتستنت الأبدي إحدى بديهيات اللاهوت، ولكن الوعاظ اللوثري أندرياس لانج كتب (1576) بثقة مماثلة "أن البابويين كغيرهم من الترك واليهود والوثنيين هم خارج نطاق النعمة الإلهية، ومغفرة الخطايا، والخلاص". فلقد كتب عليهم العويل والبكاء وصرير الأسنان إلى الأبد في نار الجحيم المشتعلة وكبريتها(52). وراح الكتاب من الجانبين يتبادلون الافتراءات على نحو ما يفعل الآن حرب العقائد السياسية. وراحت أسطورة "البابة" (امرأة) يوانا في الأدب البروتستنتي. وتب أحد رجال الدين البروتستنت في 1589 يقول: "ما أشد نفاق هؤلاء اليسوعيين الأوغاد السفلة إذ يلجون في إنكار هذه الحقيقة، وهي أن البغي الإنجليزية آجينس كانت "بابة" في روما وأنها ولدت غلاماً خلال أحد المواكب العامة(53)". وجاء في إحدى المواعظ أن الباباوات كانوا وما زالوا بلا استثناء واحد، لوطيين ومستحضري أرواح وسحرة، وأن يبصقوا النار من أفواههم.."كثيراً ما ظهر الشيطان بصورته المرئية للباباوات...واشترك معهم في لعن صليب المسيح ووطئه بالأقدام، ثم الرقص رقصات عارية فوقه، وهي التي سموها خدمة مقدسة(54)". وكانت جماهير العابدين ترتشف هذه المسكرات بشغف. قال قسيس بروتستنتي في 1584، "لقد تعلم الأطفال في الشوارع أن يلعنوا عدو المسيح الروماني وأتباعه الملاعين(55)".

وكان اليسوعيون أهدافاً محببة. فرموا في مئات الرسوم الهزلية، والنشرات، والكتب، والقصائد، باللواط، والزنى، والبهيمية وفي أحد الكلشيهات الخشبية الألمانية، وتاريخه 1569 (وما زال محفوظاً في مجموعة جوته بفايمار) صور البابا على شكل خنزيرة تلد رهباناً يسوعيين في هيئة خنازير صغار. وفي 1593 نشر اللاهوتي اللوثري بوليكارب الايزر تاريخاً للرهبنة اليسوعية باللاتينية. وصف اليسوعيين بأنهم يفارقون أقبح الرذائل مطمئنين إلى رضى البابا وعقوه الكاملين(56). وأخبرت "صحيفة جديدة صادقة" 1614 قراءها بأن الكردينال اليسوعي باللارمين أرتكب الفاحشة 2.236 مرة مع 1642 امرأة، ثم استطردت لتصف عذاب الكردينال على فراش موته، مع أنه لم يمت إلا بعد سبع سنوات(57). وقد رد اليسوعيون أول الأمر في ضبط للأعصاب. ونضح كانيسيوس باستعمال لغة بريئة من العنف، وكذلك فعل الراعي البروتستنتي يوهان ماتيسيوس، ولكن الجمهور كان يؤثر الطعن على الاعتدال. واتهم المجادلون البروتستنت المتطرفون خصومهم اليسوعيين بقبولهم عقيدة اليسوعي ماريانا التي تدافع عن قتل الطغاة من الحكام، ورد أحد اليسوعيين الألمان بأن هذه هي بالضبط العقيدة التي يجب تطبيقها على الأمراء الذين فرضوا البروتستنتية على رعاياهم. ولكن يسوعيين آخرين أكدوا للحكام البروتستنت أنهم يعتبرون أمراء شرعيين، وأن شعره واحد من رءوسهم لن تمس. ونشر اليسوعي كونرادفيتر (1594-99) عشر كتيبات استعمل فيها أقبح ألفاظ الشتم، معتذراً بأنه أينما يحذو في ذلك حذو اللاهوتيين اللوثريين، وكان الجمهور يتهافت على شراء هذه الكتيبات بمجرد طبعها. وأعلن يسوعيو كولونيا أن "الهراطقة العنيديين" الذين يبثون الانشقاق في كل مكان "في الأقاليم الكاثوليكية".

"يجب أن يعاقبوا كما يعاقب اللصوص والسارقون والقتلة، لا بل بأشد مما يعاقب به هؤلاء المجرمون، فهؤلاء لا يؤذون سوى الجسد، أما أولئك فيزجون بالنفوس في الهلاك الأبدي..ولو أن لوثر أعدم أو أحرق قبل أربعين عاماً، أو لو أن نفراً من الناس نخفف العالم من وجودهم، لما نكبنا يمثل هذه الإنشقاقات اللعينة، ولا يمثل هذه الملل والنحل التي تكدر صفاء العالم كله(59).

ويمثل هذه الروح ناشد الكلفن داود بارينز، أستاذ اللاهوت بهايد لبرج (1518)، جميع الأمراء البروتستنت أن يشنوا حرباً صليبية على البابوية، وفي حملة كهذه يجب "ألا يتحرجوا من أي ضرب من ضروب القسوة أو العقاب(60)". وبلغ هذا السيل الدافق من الكتيبات ذروته بطبع 1.800 نشرة في سنة واحدة (1618)، وهي أول سني الحرب.

فلما قوى بأس الكاثوليك واشتد غضبهم، ألف عدد من الأمراء البروتستنت "اتحاد الأقاليم الإنجيلية" (1608) أو اتحاداً بروتستنتياً ليتبادلوا الحماية. ووقف ناخب سكسونيا بمعزل عن الاتحاد، ولكن هنري الرابع ملك فرنسا بدأ على استعداد لمديد المعونة لأية مغامرة ضد الإمبراطور الهابسبورجي. وفي 1609 ألف عدد من الحكام الكاثوليك يتزعمهم مكسمليان الأول دوق بافاريا، اتحاداً كاثوليكياً، عرف بالحلف الكاثوليكي، وما وافى أغسطس من عام 1610 حتى كانت كل دويلات الإمبراطورية تقريباً قد انضمت إليه، ثم عرضت أسبانيا أن تقدم له المعونة الحربية. ووافق الاتحاد البروتستنتي (فبراير) على أن يساعد هنري الرابع على الاستيلاء على دوقية بوليس-كليفز، ولكن مصرع الملك الفرنسي (14 ماير) حرم البروتستنت من أقوى حليف لهم. وسرى الخوف في ألمانيا البروتستنتية، ولكن الحلف لم يكن على استعداد للعمل. وفي يناير 1615 أنذر موريس حاكم هيس-كاسل الاتحاد البروتستنتي بأن "الحلف الكاثوليكي، الذي يحميه البابا، وملك أسبانيا، وبلاط بروكسل، والإمبراطور...أرسل في طلب السلاح والذخيرة...رغبة...في استئصال شافه-المذهب الإنجيلي(61)". وزاد الطين بلة أن كاسبارسكيوبيوس حذر الكاثوليك اللوثريين من أن الكلفنيين يعتزمون تدمير الديانة والسلام العام والإطاحة بالإمبراطورية الرومانية المقدسة بأسرها، ومحو مبدأ أوجزبرج والمذهب الكاثوليكي من الإمبراطورية(62) سواء بسواء، وربما كان هذا محاولة لإشاعة مزيد من الفرقة بين الشيع البروتستانتية. وأضعف النزعات الإقليمية بين النمسا وبافاريا العصبة الكاثوليكية في 1616...وراود الناس من جديد حلم السلام!

ولكن في براغ ناشد الكونت هنريك فون ثورن زعماء البروتستانت منع الكاثوليكي المتحمس الأرشيدوق فرديناند من اعتلاء عرش بوهيميا. وكان الإمبراطور ماتياس قد عين خمسة نواب ليتولوا حكم البلاد في أثناء غيابه. واستبد هؤلاء الحكام بالبروتستانت في النزاع حول بناء كنيسة في كلوسترا جراب، وأرسلوا المعترضين إلى السجن وفي 23 مايو 1618 قاد ثورن حشداً بروتستانتياً غاضباً إلى قلعة أوسكين، وصعدوا إلى الحجرات التي كان يجلس بها اثنان من هؤلاء الحكام، وألقوا بهما من النافذة مع سكرتير كان يتحمس لهم، وسقط ثلاثتهم نحو خمسين قدماً، ولكنهم وقعوا على كومة من الأقذار، فتلوثوا أكثر مما أوذوا، فكان هذا "الإلقاء من النافذة" تحدياً مثيراً للإمبراطور والأرشيدوق وللعصبة المقدسة. وطرد ثورن رئيس الأساقفة والجزويت. وشكل حكومة مديرين ثورية. وربما شق عليه أن يدرك أنه بذلك أطلق كلاب الحرب من عقالها أو أنه أشعل نارها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

6- حرب الثلاثين سنة

أ - طور بوهيميا 1618 - 1623

أرسل الإمبراطور ماتياس إلى حكومة المديرين سالفة الذكر عرضاً بإصدار عفو عام، والدخول في مفاوضات، ولكن هذا العرض رفض(63). وأنقذ الأرشيدوق فرديناند، متجاهلاً الإمبراطور، جيشين لغزو بوهيميا. وحرض فردريك الخامس ناخب البالاتينات شارل عمانويل دوق سافوي المعادي لآل هيسبرج، على أرسال قوة لنجدة بوهيميا، بقيادة القائد القدير بيتر ارنست فون مانسفيلد وأستولى مانسفيلد على بلسن، معقل الكاثوليك في بوهيميا، وتقهقرت جيوش فرديناند. واقترح كريستان دون برنزويك مستشار فردريك على المديرين أنهم إنما يقوون دفاعهم ويستبعدون فرديناند عن العرش، إذا عرضوا العرش على فردريك. وفي 20 مارس 1519 مات ماتياس، تاركاً فردريك الملك الشرعي على بوهيميا، ووريثاً افتراضياً للتاج الإمبراطوري. وفي 19 أغسطس أعلن مجلس الديت في بوهيميا خلع فرديناند عن عرش بوهيميا، وفي السابع والعشرين نادي بفردريك أمير البالاتينات ملكاً على بوهيميا. وفي الثامن والعشرين أعلن ناخبو الإمبراطور أرشيدوق استريا إمبراطور تحت فرديناند الثاني.

تردد فردريك في قبول هذا المنصب الجديد، ذلك أنه أدرك أنه بوصفه من زعماء الكلفنة لا يمكنه أن يعتمد على تأييد اللوثريين، على حين أنه قد يواجه معارضة الإمبراطورية والبابوية وأسبانيا. وأهاب بوالد زوجته جيمس الأول ملك إنجلترا أن يمده بجيش، ولكن بدلا من ذلك، زوده الملك الحذر البعيد النظر بالنصيحة-أن يرفض عرش بوهيميا. ولم تغره أو تحثه زوجته المرحة الجريئة على قبول العرش، بل وعدته أن تقاسمه عن طيب خاطر كل ما قدر له أن يلقي، نتيجة لما يقع عليه اختياره، وكانت عند وعدها. ونصح كريستيان أمير برنزويك بقبول العرش. وفي 31 أكتوبر 1611، دخل الملك الجديد الملكة براغ، ورحب بهما الديت والأهالي ترحيباً حاراً.

وكان فردريك بعد شابا في العشرين من العمر، يتحلى بحسن الخلق والشهامة والكياسة، ولكنه لم يكتمل نضجه إلى درجة يتولى معها شؤون السياسة والحكم. وكان أول عمل له بعد توليه منصبه في براغ، أنه أقر بإزالة المذابح والصور من كنيسة سانت فيتوس، وهي الحرم الوطني المقدس، وسرعان ما عمد أتباعه بالمثل إلى تجريد سائر المزارات المقدسة في بوهيميا. واستنكرت الأقلية الكاثوليكية هذا التصرف، واستاء من اللوثريين البوهيميون ونظرت ألمانيا اللوثرية بفتور إلى هذا الكلفني المتحمس وفي 30 إبريل 1620 أعلن فرديناند أن فردريك مغتصب للعرش، وأصدر إليه الأمر بمغادرة الإمبراطورية في أول يونية، وإلا اعتبر خارجا على القانون وصودرت أملاكه. وعرض الإمبراطور أن يضمن عدم تعرض الولايات البروتستانتية الألمانية للهجوم، إذا هي قطعت مثل هذا العهد للولايات الكاثوليكية. وفي معاهدة أولم (3 يونية 1620) قبل هذا العرض واحتج الأمراء البروتستانت بأن فردريك عرض حريتهم للأخطار بتحديه فرديناند. وانحاز الناخب جون جورج أمير سكسونيا بولايته اللثورية إلى الإمبراطور الكاثوليكي.

وفي أغسطس عبر جيش إمبراطوري قوامه 25 ألف رجل، النمسا إلى بوهيميا بقيادة قائد مكسيمليان البافاري وهو جوهان تسركليس، كونت تللي الذي تعلم التقوى على يد الجزويت، وتلقى إن الحرب من دوق بارما بالقرب من الجبل الأبيض، إلى الغرب من براغ، التقى هذا الجيش بالبوهيمين وهزمهم هزيمة منكرة (8 نوفمبر). وفردريك واليزابث وحاشيتهما إلى سيليزيا. وعجز الملك والملكة عن جمع جيش هناك، فالتمسا مأوى في براند ببرج الكلفنية. وفي اليوم التالي للمعركة أحتل مكسيمليان أمير بافاريا براج. وسرعان ما أعيدت الكاثوليكية، وأعيد وضع الصور في الكنائس، وأستدعى الجزويت، ووضع التعليم تحت إشراف الكاثوليك ولم يبح إلا الديانة الكاثوليكية والديانة اليهودية، وألغى العشاء الرباني بالخبز وبالنبيذ على حد سواء، وكان يوم القديس جون من قبل عيداً وطنياً فجعل يوم حداد تغلق فيه كل الكنائس، وقبض على ثلاثين من زعماء العصاة وأعدم منهم سبعة وعشرون. ولمدة عشر سنين ظلت اثنتي عشرة جمجمة تطل متجهمة غاضبة من برج جسر شارل على نهر ملدو(64) وحرمت الهجرة على كل العصاة والمتمردين، وصودرت أملاكهم-لجانب الملك فرديناد الذي باعها بيع السلعة للكاثوليك، وقامت طبقة نبلاء كاثوليك جديدة على أكتاف رقيق الأرض. وكادت الطبقات الوسطى والتجارية أن تختفي.

وعلى حين كان مكسيمليان أمير بافاريا يقهر الكلفنية في بوهيميا على هذا النحو، فإن سبينولا أثناء الهدنة في الأرض الوطيئة، قاد قوة كبيرة من الفلاندرز للاستيلاء على البلاتينات، وأعد بعض صغار الأمراء البروتستانت قوة لمقاومته وأنظم فردريك إليهم، تاركاً زوجته في لاهاي. فلما أستدعى سبينولا إلى الأرض الوطيئة عند تجدد الحرب بين هولندة وأسبانيا، حل محله تلي، وهزم البروتستانت (1622) وأستولى على هيد لبرج، وأعمل فيها السلب والنهب وشحنت مكتبة الجامعة العظيمة في خمسين عربة ونقلت إلى روما هدية من مكسيمليان البافاري إلى البابا جريجوري الخامس عشر. ولما عاد مكسيمليان منتصراً منح البلاتينات ميزتها الانتخابية، لقاء ما أدى للإمبراطور من خدمات. وأصبح للولايات الكاثوليكية الآن الأغلبية في مجلس الديت الناخب.

أن مدى النصر الكاثوليكي وكماله وشموله أقلق بال الملوك الكاثوليك والبروتستانت على حد سواء. فإن تزايد هيبة فرديناند الثاني وسلطانه كان يهدد "حريات" الأمراء الألمان، كما أن مكسيمليان قلق حين وجد أنه قد سمح له بالاستيلاء على البلاتينات وبافار مع بقاء تبعيتهما للإمبراطور. وتعاطف البابا أريان الثامن مع وجهة النظر الفرنسية القائلة بأن آل هبسبرج أصبحوا من القوة بحيث باتوا خطراُ على حرية البابوية وأغضى عما عمد إليه ريشليو من فرض ضرائب على الكاثوليك في فرنسا لمساعدة الألمان البروتستانت وعن مساعدته بعد ذلك لملك سويدي ضد إمبراطور كاثوليكي. وفي 1624 حول الكاردينال المدهش المنظر السياسي فجأة، بسلسلة متعاقبة من الضربات الدبلوماسية. ففي 10 يونية وقع تحالفاً مع هولندا البروتستانتية ضد الفلاندرز وأسبانيا الكاثوليكيتين. وفي 15 يونية ضم إليه السويد والدنمرك، وفي 11 يوليه أقنع سافوي والبندقية بالانضمام إليه في محاولة لقطع خط الإمدادات والقوات الأسبانية النمساوية عبر ممرات الفالتللين في جبال الألب الإيطالية السويسرية. وفي 1625 جاء كرستيان الرابع ملك الدنمرك بعشرين ألف رجل للانضمام إلى قوة ما نسفياد المكونة من أربعة آلاف رجل في سكسونيا السفلى. وتولى الجزع مكسيمليان، فحث الإمبراطور على إرسال نجدة إلى تللي الذي تناقص عدد جيشه من 18 ألفا إلى 10 آلاف بسبب الجو والجوع والمرض. واستجاب فرديناند باستدعاء فالنشتين من بوهيميا.


ب - فالنشتين 1623 - 1630

كان اسمه الحقيقي ألبرخت فون فالنشتين، وهكذا كان يوقع اسمه دائماً(65). وكانت أسرته من أعرق الأسرات النبيلة في بوهيميا. ولد في 1583، وتلقي تعليمه أولاً على يد "الأخوة البوهيمين" ثم على يد الجزويت، وتزوج من أرملة غنية طواها الردى سريعاً، تاركة له ثروتها. وضاعف منها بشراء ثمان وستين ضيعة بثمن بخس، بفضل خفض قيمة العملة البوهيمية، من الأملاك التي صادرها فرديناند. وكان مالكاً ذكياّ تقدمياً، فحسن طرق الزراعة والإنتاج ومول الصناعة ونظم المدارس والخدمات الطبية وإعانات الفقراء، وأدخر بعض الفائض ليقدم الغذاء لشعبه زمن القحط. ولم يؤثر في معاصريه بعبقرية العسكرية فحسب، بل بجسمه الفارع النحيل، ووجهه الشاحب الصارم، وقلقه العصبي، وزهوه وغطرسته وطبعه الحاد المسيطر. وجعلته "عفته التي لم يتحول عنها(66)" يبدو وكأنه فوق مستوى البشر. وكانت ثقته بالتنجيم أقوى من إيمانه بالمسيح.

وملك قلب فرديناند وظفر بحبه، بالوقوف إلى جانبه ومساندته في كل المراحل التي رقى فيها الأرشيدوق إلى صولجان السلطان. ومن 1619 وما بعدها أقرض الإمبراطور مبالغ ضخمة تكاد تسد نفقات العرش-على سبيل المثال مائتي ألف جلدن في 1621، وخمسمائة ألف في 1623. ولم يحصل على أية ضمانات لهذه القروض، ويكفيه أنه كان يملك ربع بوهيميا، ويستطيع أن يحشد جيشاً متى شاء، ويتولى قيادته بمهارة فائقة. وفي 1624 عندما تحكم الفرنسيون والبنادقة في ممرات فالتللين، ولم يعد في مقدور الجنود والمؤن الأسبانية الوصول من إيطاليا إلى النمسا، عرض فالنشتين تجنيد خمسين ألف رجل ووضعهم في خدمة الإمبراطور. فتردد فرديناند لما يعلم من غرام فلنشتين بالقوة والسلطة ولكن تللي في 1625 تعالت صيحاته يطلب المدد فكلف فرديناند فالنشتين بتجنيد عشرين ألف رجل. وفي سرعة مذهلة سار هذا الجيش إلى سكسونيا السفلى، كامل العتاد، حسن النظام والانضباط، يحب قائده إلى حد العبادة، ويعيش على ما يسلبه من الريف.

وصد فالنشين مانسفيلد في دسو، وهزم تللي كريستيان الرابع في لتر (1626) وقضى منسفيلد نحبه، ووجد كريستيان جيشه الذي يتناقض عدده عاجزاً متمرداً. وأقصمت عرى التحالف الكبير الذي كان ريشليو قد شكله نتيجة لحقد جوستاف أدولف على كريستيان الرابع، وإعلان إنجلترا الحرب على فرنسا، وحملة بكمنجهام لمساعدة الهيجونوت في لاروشيل. فكان على ريشليو أن يسحب قواته من ممرات فالتللين، التي عادت الآن مفتوحة أمام النمسا وأسبيان. وتقدم فالنشين الذي يزداد جيشه عدداً يوماً بعد يوم، إلى براندبرج وأرغم ناخبها جورج وليم على إعلان الولاء للإمبراطور، واندفع نحو دوقية كريستيان نفسه. وهي هولستين، وتيسر له القضاء على كل مقاومة في غير عناء. وفي نهاية 1627 كانت الأجزاء الداخلية من الدنمرك في قبضته.

ووسع هواء البلطيق الملح من خطط فالنشتين، فالآن وقد دان كل الساحل الشمالي الألماني تقريباً، ومعظم أرض الدنمرك، للإمبراطور، فلم يبنى بحرية إمبراطورية، ويحي "الهانسا"، وبالتحالف مع بولندة الكاثوليكية يمد سلطان الإمبراطور على بحر البلطيق وبحر الشمال، ومن ثم لا يعود الهولنديون والإنجليز قادرين على الإتيان بالخشب من ثغور البلطيق عبر مياه السوند ليشدوا أساطيلهم؛ ويتحكموا في بحر الشمال وتجارته ويسدوا القنال في وجه الأسبان أن امتلاك الإمبراطور للبلاتينات مكنه من السيطرة على نهر الراين. ومن ثم يكون الطريق مسدوداً أمام البولنديين في النهر والبحر، فتنهار قوتهم وثروتهم العتيدة. ولسوف يصبح جوستاف أدولف محصوراً في شبه جزيرة أسكنديناوة وفي 1627 كان فالنشتين بالفعل يعد نفسه ليكون أمير البحر في المحيط وفي البلطيق.

ولم ينظر الأمراء الألمان بعين الرضا إلى انتصارات فالنشتين. ذلك أنهم رأوا أنه بينما نقص جيش العصبة الكاثوليكية بقيادة مكسيمليان البافاري وكونت تللي إلى نحو 20 ألف رجل، فإن فالنشتين تولى أمرة قوات بلغ عددها 140 ألفاً. كما أنه لا يعترف بأية مسئولية إلا أمام الإمبراطور وحده ومادام الإمبراطور مطمئناً إلى وجود جيشه من خلفه، ففي مقدوره أن يحد من "حريات" الأمراء. والحق أن فالنشتين ربما كانت تراوده فكرة القضاء على الملكيات الإقطاعية وتوحيد ألمانيا بأسرها في دولة قوية واحدة. كما كان يفعل ريشليو في فرنسا، وكما كان على بسمارك أن يفعل بعد ذلك بمائتين وأربعين عاماً.

ولدى اجتماع الناخبين الإمبراطوريين في مولها وزن، في شتاء 1627-1628، تبادلوا الرأي فيما يراودهم من آمال وما يساورهم من مخاوف. ومال الناخبون الكاثوليك إلى تأييد فالنشتين، ثقة منهم بأنه سوف يقتلع البروتستانتية من جذورها ويقضي عليها في مهدها الأول. ولكن عندما أطاح فرديناند بدوق مكلنبرج البروتستانتي، ونقل الدوقية إلى فالنشتين (11 مارس 1628) فإن الأمراء الكاثوليك أنفسهم تولاهم الجزع من استئثار الإمبراطور بسلطة خلع الأدواق وتعيينهم وفق مشيئته هو وحده. وما كان أمام الأمراء إلا ورقة واحدة يلعبون بها أمام فرديناند، فإنه كان على وشك أن يطلب إليهم ضمان اعتلاء ابنه العرش الإمبراطوري. وفي 28 مارس أبلغوه أنه مادامت جيوشه تحت إمرة فالنشتين، فإنهم لن يقدموا ضماناً مثل هذا. كما حذره مكسيمليان البافاري، من أنه إذا لم ينتقص من جيش فالنشتين ومن سلطاته وقوته، فلابد يوماً من أن يملي هذا القائد سياسة الإمبراطورية.

وكأنما لحظ فالنشتين هذا التحذير، فإنه شرع، وواضح أنه على مسئوليته الخاصة، في إجراء مفاوضات سرية مع كريستيان الرابع، انتهت بصلح لوبك (22 مايو 1629). ولدهشة أوربا كلها، أعاد إلى ملك الدنمرك جتلند وشلزويج والقطاع الملكي من هولشتين. ولم يفرض تعويضاً، بل أنه طلب فقط تخلي كريستيان عن أسقفياته الألمانية وسلطته العسكرية، ولكن ما الذي دفعه إلى هذا الكرم، أنه من ناحية، الخوف من ائتلاف الغرب ضد السيطرة الإمبراطورية على البلطيق والمضايق، ومن ناحية أخرى الاعتقاد بأن جوستاف أدولف كان يخطط لغزو ألمانيا، وأخيراً، تنبأ فالنشتين بأن القضية ستكون بينه وبين جوستاف لاكريستيان.

وربما أقلق استحواذ فالنشتين على السلطة الدبلوماسية بال الإمبراطور، ولكن كان لزاماً عليه أن يخفي شكوكه وحقده المتزايدين، لأنه كان الآن يخطط أجرأ حركة في تاريخه، وقد يكون في حاجة ماسة إلى مساندة قوات فالتنشتين في كل مرحلة من مراحل هذه اللعبة الخطرة. أن مستشاريه الجزويت طالما ناشدوه الاستعانة بقوته الجديدة وبقرار إمبراطوري، لتسترد الكنيسة الكاثوليكية، بقدر الإمكان، أملاكها ومواردها التي اقتطعت منها منذ بداية الإصلاح الديني، أو على الأقل منذ 1552. ورأى فرديناند الكاثوليكي الشديد التمسك بعقيدته في هذا المطلب شيئاً من العدالة، ولكنه لم يقدر كل التقدير صعوباته العملية، فقد بيعت منذ 1552 ممتلكات كثيرة من تلك التي كانت ملكاً للكنيسة، ودفع ملاكها الحاليون ثمنها. ولتنفيذ هذا، أي استرداد لكنيسة لأملاكها، لابد من تجريد آلاف من الملاك من ممتلكاتهم، والمفروض أن يتم هذا عنوة، وقد تؤدي الفوضى الناتجة عن هذا بألمانيا إلى ثورة. وكامن مكسميليان أمير بافاريا يوماً يحبذ هذه الفكرة، ولكنه الآن فزع لمداها ومضاعفاتها، وحث الإمبراطور على إرجائها حتى يدرسها مجلس الديت دراسة مستفيضة. وخشي فرديناند أن يرفضها الديت. وفي 6 مارس 1629 نشر "قرار إعادة أملاك الكنيسة"، وجاء فيه "لم يبقَ أمامنا إلا أن نأخذ بيد الجماعة المظلومة، ونبعث بموظفينا ليطلبوا إلى الملاك الحاليين غير المفوضين قانوناً أن يعيدوا كل الأبرشيات والأسقفيات والأديار، وسائر الممتلكات الكنسية التي صودرت منذ معاهدة باسو 1552". وكان هذا "الإصلاح المضاد" المقترن بالانتقام وكان كذلك توكيداً للسلطة الإمبراطورية المطلقة. وهي سلطة مطلقة ربما تردد حتى شارل الخامس نفسه في انتحالها لشخصه.

وقوبل القرار باحتجاجات صارخة على نطاق واسع، ولكنه نفذ. وحيثما وجدت أية محاولة لمقاومته استدعي جنود فالنشتين وأخمدوها في كل مكان باستثناء مجد برج التي نجحت في مقاومة حصار فالنشتين لها. وعادت مدن بأكملها أوجزبرج، ورتنبرج، ودورتمند، وثلاثون بلدة صغيرة إلى أيدي الكاثوليك، وكذلك عاد إليهم خمس أسقفيات ومائة دير، ونظمت من جديد مئات الأبرشيات الكاثوليكية، ولما طبق المالكون قاعدة "الناس على دين ملوكهم" متطلبين من الرعايا أن يتقبلوا مذهب الحاكم، اضطر آلاف البروتستانت أن يرتدوا أو يهاجروا. ومن أوجزبرج وحدها نفي ثمانية آلاف، بما فيهم الياس الذي كان قد فرغ لتوه من بناء دار البلدية الفخمة وهام القساوسة البروتستانت المنفيون على وجوههم في طول البلاد وعرضها يسألون الناس الخبز، حتى أن القساوسة الكاثوليك الذين حلوا محلهم استصرخوا الحكومة أن تغيثهم(67). وما حال دون النجاح النهائي للقرار والإصلاح المضاد في ألمانيا، إلا قدوم جوستاف أدولف.

وإذ استنفذ فرديناند غرضه في استخدام فالنشتين في تنفيذ القرار، ولم يجد أية قوات بروتستانتية في الميدان، فإنه لم يعد حريصاً على الاحتفاظ بقائده. فطلب إليه في مايو 1630 أن يتخلى عن 30 ألفاً من جنوده للخدمة في إيطاليا، فاعترض فالنشتين محتجاً بأن ملك السويد يخطط لغزو ألمانيا، فغلب أمره، وأرسل الثلاثون ألف جني إلى إيطاليا. وعاد الناخبون في يوليه واقترحوا عزل فالنشتين. ووافق الإمبراطور، وفي 13 سبتمبر أبلغ ضباط الجيش بأن مكسيمليان أمير بافاريا قد حل في منصب القيادة العليا محل قائدهم وعاد فالنشتين في سلام إلى ضياعه في بوهيميا، وهو يعلم أن جوستاف قد دخل الأراضي الألمانية، وأن الإمبراطورية لابد أن تكون وشيكاً في حاجة إلى قائد.


جـ - قصة جوستاف البطولية 1630 - 1632

ينبغي ألا نصور العاهل العظيم في صورة "جالاهاد" أي في صورة رجل نبيل طاهر، تقدم لإنقاذ الديانة من الوثنيين..كانت مهمته أن يدعم ويحافظ على استقلال السويد السياسي ونموها الاقتصادي ومن أجل هذين الهدفين قاتل بولندة الكاثوليكية وروسيا الأرثوذكسية والدنمرك البروتستانتية فإذا تجاسر الآن، بموارده المتواضعة على الدخول في مباراة ضد الإمبراطورية والبابوية وأسبانيا، مجتمعة، فما ذلك بسبب الكثلكة، بل لأنهم هددوا بتحويل بلاده إلى تابع ذليل لملوك غرباء معادين. وأحس بأن خير دفاع ضد مثل هذا الخطر المحدق، هو إقامة معاقل محصنة سويدية في الداخل. وترددت سكونيا البروتستانتية، وانساقت فرنسا الكاثوليكية إلى التحالف مع جوستاف، لأنها أدركت أن القضية لم تعد نظرية في اللاهوت بل كفاحاً من أجل الأمن عن طريق القوة. ومهما يكن من أمر، فإن العقيدة، على الرغم من أنها دافع ضئيل لدى القادة والزعماء، حافز مثير قوي لدى الشعب، ويجب أن تضاف طاقتها إلى الروح الوطنية، لتدفع بالناس إلى ميدان القتال.

وهكذا نزل جوستاف بقواته البالغ عددها 15 ألفاً في بوميرانيان وتقدم إلى الولايات الألمانية الشمالية بوصفها منقذة البروتستانتية ومخلصتها، وإلى فرنسا بوصفها سيفاً مسلطاً ضد أسرة هبسبرج المنتفخة. وانتظر المدد من السويد والدنمرك وبراندنبرج وبولندة حتى تجمع لديه نحو 40 ألف جندي في أحسن نظام، مسلحين ببنادق حديثة الطراز، مدربين على سرعة الحركة بمدفعيتهم الخفيفة. ولم يزل القائد بعد شاباً في السادسة والثلاثين، ولكن على الرغم من حملاته فقد اشتد عوده وقوي جسمه، ودوخ جياده كما دوخ أعداءه، وعلى الرغم من ذلك، كان غالباً ما يتقدم الصفوف، سائراً بلحيته الذهبية نحو النصر. وأحبه جنوده لا لأنه منصف. وعلى حين تبع الجيوش الألمانية أفواج من البغايا بلغ من كثرتهن تخصيص بعض الضباط لحفظ النظام بينهن، فإن جوستاف لم يسمح بمحظيات أو مومسات في معسكره، ولو أن الزوجات سمح لهن بالقيام بخدمة أزواجهن من الجنود(68). وكانت كل كتيبة تؤدي الصلوات في الصباح وفي المساء، وتستمع إلى عظة كل يوم أحد. وهنا كان نظام رجال كرومول الحديديين قبل وقوع حروب كرومول بعشر سنين وحرم جوستاف، كما حرم كرومول، الارتداد عن الدين قسراً، وحيثما دخل فاتحاً ترك الديانة حرة.

وقضى جوستاف بقية عام 1630 في بسط سلطانه على بواميرانيا، وفي البحث عن خفاء. فإذا تيسر له أن يجمع كل أعداء آل هبسبرج في حرب صليبية واحدة، لاجتمع له مائة ألف جندي صالحين لملاقاة جيش فالنشتين. وفي 13 ديسمبر 1631 وقعت فرنسا والسويد ميثاقاً يحصل الملك بمقتضاه على الرجال، ويدفع الكاردينال (ريشيليو) 400 ألف تالر (4 ملايين دولار؟) سنوياً لحملة مدتها خمس سنوات، ولا تعقد أي من الدولتين صلحاً دون موافقة الأخرى. والتزم جوستاف بألا يتدخل في أمر ممارسة العقيدة الكاثوليكية ودعا ريشليو مكسيمليان للانضمام إلى هذا التحالف، ولكن الدوق الناخب، بدلاً من ذلك أرسل القائد تللي ليعوق تقدم الجيش السويدي. واستولى تللي على نيوبر اندنبرج (19 مارس 1631) وذبح حاميتها المكونة من 3000 رجل. وفي 13 إبريل أخذ جوستاف فرانكفورت وذبح حاميتها المكونة من ألفي رجل، وبينما قضى الملك وقته في بذل الجهد لضم جون جورج ناخب سكسونيا إلى الحلف، حاصر تللي وكونت بابنهايم مجدبرج التي كانت لا تزال تقاوم "قرار إعادة أملاك الكنيسة". وفي 20 مايو وبعد صمود لمدة ستة أشهر" سقطت المدينة، وأعمل الجنود المنتصرون فيها السلب والنهب لمدة أربعة أيام. وقتل في هذه الحرب عشرون ألف رجل، لا الحامية المكونة من ثلاثة آلاف فقط، ولكن قتل كذلك 17 ألف من سكان المدينة البالغ عددهم 36 ألفاً، وأحرقت المدينة عن آخرها فيما عد الكاتدرائية. ووصف هذا المنظر فقال:-


لم يعد هناك شيء إلا الضرب والحرق والسلب والنهب



والتعذيب والقتل وحرص كل فرد من الأعداء، بصفة خاصة،



على الحصول على أكبر قدر من الغنائم. وتحت التهديد



بالضرب أو الرمي بالرصاص أو الذبح أو الشنق، أرهب



الأهالي المساكين وفزعوا، فلو تبقى لديهم شيء لأخرجوه



لو كان مخبأ في ألف حرز مكين. وفي حمأة الغضب المسعور،



اجتاحت ألسنة النيران المدينة العظيمة الفخمة التي قامت وسط



الأرض كعروس جميلة وعذب وأعدم آلاف الأبرياء من



الرجال والنساء والأطفال، وسط ضجة رهيبة من صيحات



وصرخات تمزق الفؤاد، بطريقة وحشية مخزية، تقصر أية



كلمات عن وصفها، وأية دموع عن ندبها والتوجع لها(69).


وبذل تللي، وهو الآن شيخ هرم في الواحدة والسبعين، كل ما في وسعه لوقف المذبحة. وتنبأ بحق بأن الولايات البروتستانتية دون ريب سوف تشتد كراهيتها بسبب تخريب واحدة من أجمل مدنهم.

وفي 22 يوليه 1631 وضع ناخب نراندنبرج كل موارده تحت تصرف جوستاف وفي 30 إبريل ألف جون جورج بين سكسونيا والسويد. وفي 17 سبتمبر سحقت الجيوش السويدية والسكسونية المجتمعة قوات تللي عند بريتنفليد بالقرب من ليبزخ وكان هذا أول نصر بروتستانتي هام في الحرب، وقد أحيا روح السكان البروتستانت. وأصبح شخص ملك السويد الذي كان يقاتل دون درع في قلب المعركة يعلوه الغبار، ويتصبب منه العرق، يوجه ويقود رجاله غير هياب ولا وجل، نقول أصبح رمزاً يشد من عزم شعب كان عهد قريب ممزقاً عاجز يرهب جيش فالنشتين. واستردت مكلنبرج، وأعيد الدوق المخلوع إلى عرشه، ودخلت الولايات، الواحدة تلو الأخرى، الحلف السويدي وسرعان ما سيطر جوستاف على خط يمتد عبر ألمانيا من الأورو إلى الراين وأتخذ مقر قيادته في ماينز في قلب إقليم كاثوليكي عادة. وفي نوفمبر سار جون جورج بجيشه السكسوني إلى براج دون أن يلقي أية مقاومة، وكان حريصاً على عدم مهاجمة ضياع فالنشتين في طريقة.

والآن وقد بقي فرديناند بلا حليف اللهم إلا أسبانيا الفقيرة المعدمة، وبلا قائد سوي تللي العجوز، فإنه في تواضع ذليل ولى وجهه شطر فالنشتين (ديسمبر 1631) وطلب إليه أن يجهز جيشاً لإنقاذ بوهيميا وحماية النمسا. ووافق القائد المزهو المغرور، ولكن بشروط غريبة شاذة أن تكون له القيادة العليا على كل القوات الإمبراطورية، وتكون له سلطة التفاوض وتوقيع المعاهدات إلا مع جوستاف، ويكون له في البلاد التي يفتحها حق مصادرة الأملاك وأصدر العفو وفي إبريل 1632 قبلت هذه الشروط جميعها. فجمع فالنشتين جيشاً، كما جمع الموال اللازمة له، وعرض على جون جورج صلحاً منفرداً واستعاد براج دون طلقة واحدة. وانسحب السكسوني إلى سكسونيا.

وفي الوقت نفسه أستأنف القتال، وهزم تللي عند "رين" (15 إبريل). ومات تللي بعد ذلك بأسبوعين متأثراً بجراحه. واحتل جوستاف ميونخ. وسار فالنشتين بجيشه من بوهيميا وأنضم إلى جيش مكسيمليان (وهنا تفوقت هذه القوات على جيش جوستاف عدداً، إلى حد بعيد، وأرتاب حلفاؤه في أن له أطماعاً إمبراطورية، فانتابهم القلق وأصبحوا لا يعتمد عليهم، كما أن قواته كانت على شفا الموت جوعاً، فأعملت السلب والنهب في البروتستانت والكاثوليك ونفرتهم منه، على حد سواء. وأعرب جون جورج، وقد لعبت الخمر برأسه يوماً عن تلهفه على التخلص من ملك السويد وكان جوستاف يأمل في الاستيلاء على فيينا، ولكه كان يخشى انحياز جون جورج إلى فالنشتين، فتحول إلى الشمال. وفي نورمبرج، وهو يدرك تمام الإدراك أن الريح غير مواتية له، وأرسل تعليماته الأخيرة إلى أو كسنمتيرنا ليتولى شؤون الحكومة السويدية والحرب. وفي أرفورت ودع زوجته، وفي 16 نوفمبر 1632، في لوتزن بالقرب من ليبزج، التقى القائدان العملاقان في ذاك العصر، وجهاً لوجه، وجيش جوستاف 25 ألفاً، وجيش فالنشتين 40 ألفاً. واقتتل الجيشان طول اليوم ونزفا، واضطربا ثم التأما، وأضطر فالنشتين إلى التراجع، ولكن بابنهيم قلب الهزيمة رأساً على عقب، إلى أن أصابته طلقة في رئته فاختنق بالدم وقضى نحبه. أم جوستاف فإنه رأى قلب جيشه يتقهقر، فقام بنفسه، على رأس كتيبة من الفرسان، وقاد هجمة ضاربة، ولكن رصاصة أصابت يده اليسرى، وأخرى أصابت جواده فسقط عنه ثم نفذت رصاصة إلى ظهره. فتجمع الفرسان الدارعون الإمبراطوريون حوله وسألوه من يكون، فأجابهم: أنا ملك السويد الذي قد ضمن عقيدة الأمة الألمانية وحريتها بدمه(70) فانهالوا عليه بسيوفهم مرة ومرة، ثم أعلنوا بأعلى أصواتهم نبأ موته، وتولى القيادة بعده برنهازد دوق ماكس ويمار. وأحرز السويديون الذين جن جنونهم بفقد مليكهم، انتصاراً باهراً واستخلصوا جثمان جوستاف الذي شوهته الطلقات والطعنات. وفي تلك الليلة ابتهج المنهزمون فرحاً، واغتنم المنتصرون حزناً، لأن أسد الشمال قضى نحبه.


د - انحلال (1633 - 1648)

ومن ذلك الحين اختفت عظمة الحرب. وتولى ريشليوز زعامة البروتستانت الألمان ونفذ أوكسنستيرنا وصية سيده المتوفى في دبلوماسية حكيمة. وقاد برنارد دوق ساكس ويمار الفرنسيين ، وبانير وتورستنون السويديين إلى انتصارات جديدة. ولكن الأمجاد ولت ولم يبق إلا الذعر والفزع. وتنفس الأمراء البروتستانت الصعداء إلى حد ما، بموت جوستاف، وتذمروا من الثمن الباهظ الذي أجبروا على تقاضيه لقاء تخليصهم من فرديناند، وفي هذه العملية أتلفت الأطراف المتنازعة مزارعهم ودمرت مدنهم، وقاد ملك أجنبي الألمان ضد الألمان، وبلغ عدد الضحايا مائة ألف.

ويبدو أن فالنشتاين فقد أعصابه مذ ذاق طعم الهزيمة لأول مرة. وبعد لوتزن عاد إلى بوهيميا وجهز في أناة وروية جيشاً آخر، ولكنه أيضاً، وقد بلغ الآن الخمسين، سئم الحرب وتمنى بعض الفراغ ليعالج داء النقرس. فتفاوض، مستقلاً، مع زعماء البروتستانت، حتى مع ريشليو(71) ولا بد أن فرديناند يكون قد علم أن المنفيين البوهيميين، بموافقة أكسنستيرنا، كانوا يتآمرون لاجلاس فالنشتين على عرش بوهيميا(72). وعندما قاد برنارد دوق ساكس ويمار جيشاً إلى بافاريا توسل مكسيمليان وفرديناند إلى فالنشتين أن يسرع لنجدتهما. ولكنه أجاب بأنه ليس في مقدوره أن يعد الرجال لعمل من هذا القبيل. ولقد وزع جيشه العاطل على الضياع الإمبراطورية في بوهيميا، وطلب إليه الإمبراطور أن يخفف الأعباء المفروضة على هذه الأراضي الإمبراطورية فأبى.

وفي 31 ديسمبر 1633 قرر فرديناند ومجلسه أن لابد من عزل قائدهم الأعظم، وتناثرت الشائعات في جيش فالنشتاين تقول بأنه يتآمر لينصب نفسه ملكاً على بوهيميا ولويس الثامن ملكاً على الرومان. وفي 18 فبراير وزعت أوامر إمبراطورية على الجيش تحله من قيادة فالنشتين، وبعد ذلك بأربعة أيام، ولى هارباً من بلزن، ومعه ألف رجل. وفي اليوم الخامس والعشرين انقض على غرفته في إيجر نفر من الجنود الطامعين في المكافأة، فوجدوه وحيداً أعزل. وأشبعوه طعناً بسيوفهم، ويقول أحد المعاصرين "وفي الحال جروه من قدميه، يصطدم رأسه بكل درجة من درجات السلم(73)" وأسرع القتلة إلى فيينا حيث نالوا ترقية ومالاً وأرضاً. أما الإمبراطور الذي قضى ليالي وأياماً، يستبد به الخوف، يتعبد ويتهجد، فقد حمد الله على معاونته سبحانه.

واستمرت الحرب تجر أذيالها أربعة عشر عاماً أخرى. وحل ابن فرديناند وسميه البالغ من العمر ستاً وعشرين سنة، محل فالنشتاين في منصب القائد الأعلى للجيوش الإمبراطورية. وكان شاباً جديراً بأن يحب، متعلماً، عطوفاً كريماً، يحب الفلسفة، ويكتب الموسيقى، ويحفر العاج، ومع ذلك لم يكن جاهلاً بفنون الحرب. ودحر بمساعدة القواد القدامى، برناند في نوردلنجن، وهي أعظم المعارك الإمبراطورية حسماً في الحرب. وكادت القوات البروتستانتية أن تنهار تماماً، لولا أن أوكسنستيرنا أنقذ الموقف بعقد معاهدة كوميين (28 إبريل 1635) التي هيأت لريشليو إسهاماً كاملاً في الصراع. ولكن الأمراء البروتستانت في ألمانيا لم يستسيغوا مشهد كردينال فرنسي يتحكم في مصيرهم. وتبعوا، الواحد منهم يتلو الآخر، جون جورج أمير سكسونيا في عقد الصلح مع الإمبراطور الذي رحب بهم، حيث ألفى نفسه تواجهه الجيوش والأموال الفرنسية معاً. وبمقتضى معاهدة براغ (30 مايو 1635) وافق الإمبراطور على وقف العمل بقرار إعادة أملاك الكنيسة لمدة أربعين عاماً. وفي مقابل معظم الأمراء البروتستانت بمساعدته وحلفائه على استرداد الأراضي التي فقدوها منذ مجيء جوستاف أدولف. ولما كانت هذه الأراضي تشمل اللورين. فإن المعاهدة في الواقع كانت موجهة ضد فرنسا. والسويد، وكانت توكيداً جديداً للوحدة الألمانية ضد الغزاة. وتوارت المشكلة الدينية عن ميدان القتال. وفي نهاية عام 1635 كان جيش سكسونيا البروتستانتية يقاتل السويد البروتستانتية في ألمانيا الشمالية حيث كان بانير وتورستنسون يناضلان، بعبقرية عسكرية جديرة بجوستاف، من أجل الاستيلاء على بعض مواقع قارية من أجل أمن السويد.

وفي الغرب وقف برنارد بشجاعة في وجه القوات الإمبراطورية المتزايدة وفي 1628 أمدته فرنسا بالأموال، وأفضل منها بألفي جندي بقيادة تورن الذي صعد نجمه آنذاك كقائد. وشن برنارد، بعد أن وصلته الإمدادات على هذا النحو، حملة جديرة بأن تسجلها حوليات الحرب، من أجل التشبث بالهدف ودقة الاستراتيجية، وهزم الإمبراطوريين في ويتنوير. وأجبر قلعة بريساخ العظيمة على الاستسلام، وأنهكت قواه وهو في الرابعة والثلاثين فقضى نحبه (1639) وذهب جيشه وفتوحاته، بما فيها اللورين. إلى فرنسا.

وفارق الإمبراطور العجوز الحياة، وخلا من المسرح 1637. وورث فرديناند الثالث إمبراطورية تعاني فقراً وحرماناً لا سبيل للخروج منهما، يكاد أن يكون من المستحيل معهما الإنفاق على جيوش تقف في وجه ريشليو الذي مازال قادراً على ابتزاز الفرنكات من فرنسا المعدمة. وفي 1642 وصل تورستنسون بجيش السويد إلى مسافة 25 ميلاً من فيينا، وأحرز نصراً مبيناً في معركة برتينفيلد الثانية، حيث فقد الإمبراطوريون نحو 10 آلاف رجل، مما حدا بالأرشيدوق المنهزم ليوبولد وليم، أخي الإمبراطور الشاب إلى محاكمة ضباطه أمام مجلس عسكري، بتهمة الجبن والخور، وقطع رؤوس ذوي الرتب الكبيرة، وشنق من هم أقل منهم رتبة، وأطلق الرصاص على عشر الباقين على قيد الحياة من سائر الرتب(74).

وبدا الآن أن كل عام يأتي بضربات جديدة تنصب على رأس الإمبراطور الجديد. ففي 1643 تحطمت أسبانيا بانتصار دوق انجين في ركروا. وفي 1644 غزا أنجين وتورن أراضي الراين حتى شمال ماينز، وفي 1645 تقدم تورستنسون حتى صار على أبواب فيينا تقريباً، وانتصر الفرنسيون في معركة دامية عند الليرهيم، واجتاح جيش سويدي بقيادة كونت هانس كريستوف فان كونجز مارك سكسونيا واستولى على ليبزج، وأرغم جون جورج على الخروج من الحرب. وكان الجيش البافاري قد طرد من البلاتينات في 1634 أما الآن، في 1646 فقد غزا تورن بافاريا نفسها وخربها، وتوسل مكسيمليان الذي كان قد ركبه الغرور يوماً، إلى عقد الصلح، والتمس من الإمبراطور أن يفاوض فرنسا من أجل الصلح. ولم يكن فرديناند الثالث صلباً لا ينثني، مثل أبيه، وكانت تصل إلى مسامعه صرخات الإمبراطورية المنهوكة، فأرسل أقدر مفاوضيه إلى وستفاليا وسعيا وراء شيء من التوفيق بين العقائد وبين الأسرات.

كان الإمبراطور الشاب أصغر من أن يدرك أن المذبحة والخراب ربما كانا أفظع ما اقترفته أيدي البشر في جيل واحد في أي بلد من قبل. فلم يكن هناك جيشان، بل ستة جيوش-الألماني والدنمركي والسويدي واليوهيمي والأسباني والفرنسي معظمهما من الجيوش المرتزقة أو الأجانب الذين لا تربطهم أية صلة بالشعب أو التراب أو التاريخ الألماني، يقودهم عسكريون مغامرون يقاتلون من أجل أية ملة نظير أجر، وهي جيوش تعيش على استسلاب الحبوب والفاكهة والماشية من الحقول، تقيم أو تأوي في الشتاء إلى مساكن الشعب، جزاؤها هو حقها في السلب والنهب، وابتهاجها بالقتل والغضب. وكان مبدأ مقبولاً مسلماً به لدى كل الأطراف المتحاربة، أن تذبح أية حامية كانت قد رفضت الاستسلام "بعد أن أصبح الاستسلام أمراً لا مناص منه"، وأحس الجنود أن المدنيين فرائس أو ضحايا مشروعة، فأطلقوا الرصاص على أقدامهم في الشوارع، وجندوهم لخدمتهم. وخطفوا أطفالهم من أجل الحصول على الفدية وأشعلوا النار في مخازن التبن وأحرقوا الكنائس لمجرد التسلية واللهو. لقد قطعوا أيدي وأرجل قسيس بروتستانتي لأنه قاوم تحطيم كنيسته، وربطوا القساوسة تحت العربات، وأجبروهم على الزحف على أيديهم وأرجلهم حتى خارت قواهم من الإعياء(75)، وكان حق الجندي في اغتصاب النساء أمراً مسلماً به، فإذا طلب والد أن يحاكم جندي اغتصب ابنته وقتلها، أبلغه الضابط المختص أنه لو لم تكن ابنته ضنينة بعذريتها إلى هذا الحد لبقيت على قيد الحياة(76).

وعلى الرغم من الاختلاط المتزايد تناقص عدد سكان ألمانيا بسرعة أثناء الحرب، وكان التناقص مبالغاً فيه وكان مؤقتاً، ولكنه كان فاجعاً. وتقول التقديرات المعتدلة بأن عدد سكان ألمانيا والنمسا هبط من 21 إلى 15 مليوناً(77). وقدر الكونت فون لوزو أن عدد سكان بوهيميا هبط من ثلاثة ملايين إلى 800 ألف(78). وبين 35 ألف قرية في بوهيميا 1618، هناك نحو 29 ألف قرية هجرها أهلوها أثناء الصراع(79). وهناك في مختلف أنحاء الإمبراطورية مئات من القرى لم يبق فيها ساكن واحد، وقد يقطع المرء في بعض الأقاليم ستين ميلاً دون أن يرى قرية أو بيتاً(80)، وكان في 19 قرية في ثورنجيا في 1618 نحو 1717 بيتاً، لم يتبق منها في 1649 سوى 627 بيتاً، لم يكن كثير منها آهلاً بالسكان(81).

وتركت آلاف الأفدنة الخصبة دون فلح أو زرع بسبب نقص الرجال أو الدواب أو البذور، أو لأن الفلاحين لم يكونوا على ثقة من أنهم سوف يحصدون نتاج ما يزرعون. واستخدمت المحصولات لإطعام الجيوش، وكان ما تبقى يحرق لئلا يستفيد من الأعداء. وأضطر الفلاحون في كثير من الأماكن إلى أكل الفضلات المخبأة، أو الكلاب أو القطط أو الفئران، أو جوز البلوط أو الحشائش، وقد وجد بعض الموتى وفي أفواههم بعض الحشائش وتنافس الرجال والنساء مع الغربان والكلاب على لحم الخيول الميتة. وفي الألزاس انتزع المعتدون المشنوقين من المشنقة، تلهفاً على التهام جثثهم. وفي أراضي الراين كانت القبور تنبش وتباع الجثث لتؤكل. واعترفت امرأة في زويبركن بأنها أكلت طفلها(82). وتعطلت وسائل النقل إلى حد تعذر معه نقل الفائض في جهة إلى جهة أخرى بعيدة محرومة. وتهدمت الطرق بسبب المعارك، أو بات من الخطر ارتادها بسبب قطاع الطرق، أو ازدحمت بالمهاجرين واللاجئين.

وعانت المدن الصغيرة أقل مما عانت القرى. وهبط عدد سكان كثير منها إلى نصف ما كان عليه من قبل. وأصبحت المدن الكبرى أطلالاً خربة-مجدبورج، هايدلبرج، نورمبرج، نوي شتات، بايرويت. وتدهورت الصناعة لعدم وجود المنتخبين والمشترين والحرفيين، وكسدت التجارة. وصار التجار الذين كانوا يوماً أثرياء يتسولون أو يسرقون من أجل لقمة العيش. وامتنعت المكوميونات عن دفع ديونها بعد أن أعلنت إفلاسها. وأحجم الممولون عن الإقراض خشية أن تتحول القروض إلى هبات أو منح. وأفقرت الضرائب كل الناس، اللهم إلا القواد والجباة والقساوسة والملوك، وبات الهواء ساماً بسبب الفضلات والنفايات والجثث المتعففة في الشوارع. وانتشرت أوبئة التيفوس والتيفود والدوزنتاريا والأسقربوط بين السكان المذعورين، ومن بلدة أخرى. ومرت القوات الأسبانية بمدينة ميونخ فتركت وراءها طاعوناً أودى بحياة عشرة آلاف ضحية في أربعة شهور(83). وذوت وذبلت في أتون الحرب الفنون والآداب التي كانت تضفي على المدن شرفاً ومجداً.

وانهارت الأخلاق والروح المعنوية على حد سواء، فإن اليأس المقرون بالإيمان بالقضاء والقدر دعا إلى الوحشية المقترنة بالسخرية. واختفت كل المثل الدينية والوطنية بعد جيل ساده العنف، وكان البسطاء من الناس يكافحون الآن من أجل الطعام أو الشراب، أو يقاتلون بسبب الكراهية. على حين عبأ سادتهم عواطفهم في التنافس على اقتناء الأراضي التي يمكن أن يجمعوا منها الضرائب، وعلى السلطة السياسية. وهنا وهناك ظهرت بعض النواحي الإنسانية، فكان الجزويت يجمعون الصدقات ليطعموا الأطفال الذين لا عائل لهم، كما كان الوعاظ يطلبون إلى الحكومات وضع حد لسفك الدماء والدمار. وكتب أحد الفلاحين في مذكراته اليومية "اللهم إنا نتوسل إليك أن تعيد لنا السلام. يا إله السموات أنزل علينا السلام(84)".

7- صلح وستفاليا

كان الحكام ورجالهم الدبلوماسيون منذ 1635 يجسون النبض ويتحسسون الرأي من أجل السلام. وفي تلك السنة اقترح البابا أربان الثامن عقد مؤتمر لبحث شروط المصالحة، واجتمع المندوبون واجتمع المندوبون للتفاوض في كولون. ولكنهم لم يصلوا إلى نتيجة. وفي همبرج في 1641 صاغ ممثلو فرنسا والسويد والإمبراطورية اتفاقية مبدئية لينعقد مؤتمر مزدوج في وستفاليا في 1642، ففي مونستر تلتقي فرنسا مع الإمبراطورية لمعالجة مشاكلهما في ظل وساطة البابا والبندقية، وفي أوسنابروك، على بعد ثلاثين ميلاً، تلتقي فرنسا والإمبراطورية مع السويد لإجراء المفاوضات في ظل وساطة كريستيان الرابع ملك الدنمرك. وكان هذا الفصل "المطهر" ضرورياً بسبب عدم رغبة المندوبين السويديين في الاجتماع تحت رياسة ممثل البابا، ورفض ممثل البابا أن يجلس في صعيد واحد مع "الزنادقة".

وجاء التأخير نتيجة إجراءات الأمن وقواعد البروتوكول، واستحث انتصار تورستنسون في بريتنفيلد الإمبراطور إلى الوعد بأن مندوبيه سيصلون في 11 يوليه 1643، وتلكأ المندوبون الفرنسيون بينما كانت فرنسا تدبر التحالف مع المقاطعات المتحدة (في الأراضي الوطيئة) ضد أسبانيا. وافتتح مؤتمر وستفاليا شكلاً في 4 ديسمبر 1644، وضم 135 عضواً بما فيهم رجال اللاهوت والفلاسفة. وانقضت منذ ذاك اليوم ستة شهور في تحديد نظام الأسبقية في دخول المندوبين إلى القاعات وجلوسهم وما كان السفير الفرنسي ليدخل في المفاوضات إلا إذا خوطب بلقب "صاحب الفخامة". وعندما وصل السفير الأسباني تجنب السفير الفرنسي ونأى بنفسه عنه، لأن أياً منهما لا يعترف للآخر بالأسبقية، واتصل كل منهما بالآخر عن طريق شخص ثالث. ورفضت فرنسا الاعتراف لفيليب الرابع بلقب ملك البرتغال وأمير قطالونيا. كما رفضت أسبانيا الاعتراف بلقب ملك نافار للويس الرابع عشر. وتنازع المندوبون السويديون فيما بينهم وأضاعوا الوقت حتى صدرت إليهم أوامر الملكة الشابة الجزئية كريستينا بأن يصلحوا فيما بينهم. ثم يعقدوا مع العدو. وفي الوقت نفسه كان الرجال يذهبون إلى الحرب ليلقوا حتفهم.

وعلى قدر ما كانت جيوش كل فريق منتصرة أو مقهورة، تلكأ المندوبون في المفاوضات أو عجلوا بها، وشغل المحامون أيما شغل بخلق الصعوبات أو ابتداع الحلول الوسط ووسائل التوفيق، يحلون العقد أو يزيدونها تعقيداً. وكان قواد فرنسا يسيرون بخطى واسعة، ومن ثم فإنها أصرت على تمثيل كل أمراء ألمانيا في المؤتمر، على الرغم من أن معظمهم كان قد عقد الصلح مع الإمبراطور منذ أمد طويل. وطلب إلى الزمن أن يتوقف حتى يرسل كل الناخبين والأمراء والمدن الإمبراطورية ممثليهم، ورغبة في إضعاف مركز فرنسا، عمدت أسبانيا (8 يناير 1648) إلى توقيع صلح منفرد مع المقاطعات المتحدة-التي كانت لتوها قد وعدت فرنسا بعدم توقيع صلح منفرد، ولكن الهولنديين لم يكونوا ليضيعوا الفرصة التي لاحت لهم ليكسبوا بجرة قلم ما قاتلوا من أجله طيلة ثمانين عاماً. فكان جواب فرنسا على هذا أنها رفضت عقد الصلح مع أسبانيا، واستمرت الحرب بينهما حتى صلح البرينز 1659.

وكان يمكن أن ينفض المؤتمر دون نتيجة، لولا اجتياح تورن لبافاريا، وهجوم السويد على براغ (يوليه 1648) وهزيمة الأسبان في لنز (2 أغسطس) فإن هذه الأحداث كلها أقنعت الإمبراطور بالتوقيع، على حين أن ثورة الفروند في فرنسا (يوليه) أكرهت مزران على تقديم بعض التنازلات التي تطلق يده للحرب في الداخل. وعلى هذا، وقعت آخر الأمر معاهدة وستفاليا في مونستر وأورنابروك معاً في 24 أكتوبر 1648-واستمر سفك الدماء تسعة أيام أخر، حتى وصلت الأنباء إلى جبهات القتال، وتعالت صيحات "الشكر لله" خاشعة مبتهجة، من ألف قرية ومدينة.

ولا بد من التسليم بأن المفاوضات واجهت من مشكلات التوفيق ما هو أكثر تعقيداً من أية مشكلات واجهها مؤتمر صلح قبل القرن العشرين، وأنها عملت على تسوية المطالب المتعارضة بحكمه، قدر ما سمحت الكراهية والغرور والكبرياء والقوة والسلطة بين المجتمعين. ولا بد من تلخيص بنود هذه المعاهدة التي أعادت تشكيل أوربا من جديد، لأنها أوجزت وأخرجت قدراً كبيراً من التاريخ.

1- حصلت سويسرا والمقاطعات المتحدة على اعتراف رسمي باستقلالهما.

2- حصلت بافاريا على البالاتينات العليا (الجنوبية)، مع صوتها الانتخابي.

3- أعيدت البالاتينات الدنيا (الشمالية)، بوصفها موطناً انتخابياً ثامناً، إلى شارل لويس بن فردريك المتوفى.

4- حصلت براندنبرج على بوميرانيا الشرقية وأسقفيات مندن وهالبرستاد وكامين، ووراثة أسقفية مجدبرج. وعاونت فرنسا أسرة هوهنزلرن الناشئة في الحصول على هذه الثمار اليانعة، بفكرة إقامة قوة أخرى ضد آل هبسبرج، وما كان منتظراً من فرنسا أن تتنبأ بأن براندنبرج ستصبح بروسيا التي سوف تتحداها على عهد فردريك الأكبر، ثم توقع بها الهزيمة على يد بسمارك.

5- ونالت السويد، بفضل انتصارات جيوشها أساساً، وبفضل مساندة فرنسا لها في المؤتمر، بشكل جزئي، أسقفيتي بريمن وفردن، ومدينتي ويزمار واستتن، ومنطقة مصب نهر الأودر، ولما كانت هذه كلها إقطاعيات إمبراطورية، فقد حصلت السويد على مقعد في الديت الإمبراطوري، ولما استولت بالفعل على ليفونيا وأستونيا وأنجريا وكاريليا وفنلندة فقد أصبحت الآن في عداد الدول العظمى، وسيدة البلطيق حتى جاء بطرس الأكبر.

6- واحتفظت الإمارات الألمانية بما كان قبل الحرب من "حريات" في مواجهة الأباطرة.

7- وكان على الإمبراطور أن يقنع بالاعتراف بحقوقه الملكية في بوهيميا والمجر. ومن ثم اتخذت إمبراطورية النمسا والمجر شكلها على أنها حقيقة واقعة في هيكل الإمبراطورية المقدسة. لقد انهارت اقتصاديات الإمبراطورية المعمرة، من جهة بسبب نقص السكان وتدهور الصناعة والتجارة أثناء الحرب، ومن جهة أخرى بسبب مرور المنافذ النهرية الكبيرة إلى دول أجنبية من منافذ الأودر والألب إلى السويد، والراين إلى المقاطعات المتحدة.

8- وكان أكبر الغنم لفرنسا التي مولت ثروتها السويديين المنتصرين، وفرض قوادها الصلح فرضاً. فسلمت إليها الألزاس فعلاً، مع أسقفيات متزوفردون وتول وحصن بريزاك على الجانب الألماني من الراين. وسمح الآن للويس الرابع عشر بالاستيلاء على فرانشن كونتية واللورين، وفق هواه وتحقيق هدف ريشليو-الذي كان الآن قد فارق الحياة-كسر شوكة آل هبسبرج ومد حدود فرنسا، وتمكين وحدة فرنسا ودفاعها، والإبقاء على فوضى الإمارات في الإمبراطورية، وعلى الصراع بين الأمراء والإمبراطور، وعلى النزاع بين الشمال البروتستانتي والجنوب الكاثوليكي، مما يحمي فرنسا من خطر ألمانيا موحدة. وحلت فرنسا محل أسبانيا- أو احتلت أسرة البورون مكان آل هبسبرج بوصفها قوة عظمى مسيطرة على أوربا، وسرعان ما علا لويس الرابع عشر إلى منزلة الشمس.

أما الضحية الخفية للحرب فهي المسيحية، لقد كان على الكنيسة الكاثوليكية أن تتخلى عن قرار إعادة أملاك الكنيسة، وأن تعود سيرتها الأولى إلى الوضع الذي كانت عليه ممتلكاتها في 1624، وترى الأمراء مرة أخرى يقررون عقيدة رعاياهم. ومهما يكن من أمر، فإن هذا مكن الكنيسة من إخراج البروتستانتية من بوهيميا موطن إصلاح هس. لقد قضى على الإصلاح المضاد، ومثال ذلك أنه لم يكن محل نزع أن تقيم بولندة المذهب الكاثوليكي في السويد البروتستانتية، بضعف ما كان عليه من قوة من قبل. ورفض ممثل البابا في مونستر أن يوقع المعاهدة. وفي 20 نوفمبر 1948 أعلن البابا إنوسنت العاشر "أنها غير ذات قوة شرعية ملزمة، ملعونة بغيضة، ليس لها أي أثر أو نتيجة على الماضي أو الحاضر أو المستقبل"(85). وتجاهلت أوربا هذا الاحتجاج. ومنذ تلك اللحظة لم تعد البابوية قوة سياسية عظمى، وأنحط شأن الدين في أوربا.

وكذلك احتج بعض البروتستانت، وخاصة أولئك الذين فقدوا مساكنهم في بوهيميا والنمسا. ولكن المعاهدة في جملتها-وهي ثمرة جهود كاردينال توفي وآخر حي-كانت نصراً للبروتستانتية التي أنقذت ألمانيا. لقد ضعفت في الجنوب وفي الراين، ولكنها في الشمال قويت عن ذي قبل، واعترفت المعاهدة رسمياً بكنيسة الإصلاح أو الكنيسة الكلفنية. وبقيت خطوط التقسيم الديني التي أقرت في 1648، دون تغيير جوهري حتى القرن العشرين، حين بدأ التغاير في معدلات المواليد أو نسب تزايد السكان، يوسع من رقعة الكثلكة بطريقة تدريجية سليمة.

ولكن على الرغم من إن الإصلاح الديني قد أنقذ، فإنه عانى، مع الكاثوليكية، من التشكك الذي شجعته بذاءة الجدل الديني. ووحشية الحرب، وقساوة العقيدة. وأعدم أثناء المعمعة آلاف من الساحرات. وبدأ الناس يرتابون في المذاهب التي تبشر بالمسيح وتقترف قتل الأخوة بالجملة. وكشفوا عن الدوافع السياسية والاقتصادية التي تسترت تحت الصيغ الدينية، وارتابوا في أن حكامهم يتمسكون بعقيدة حقة، بل أنها شهوة السلطة هي التي تتحكم فيهم-ولو أن فرديناند الثاني بسلطانه المرة بعد المرة، من أجل عقيدته. وحتى في أظلم العصور الحديثة هذه، ولى كثير من الناس وجوههم شطر العلم والفلسفة للظفر بإجابات أقل اصطباغاً بلون الدم من تلك التي سعت العقائد أن تفرضها في عنف بالغ. وكان جاليليو يفرغ في قالب مسرحي ثورة كوبرنيكس. وكنا ديكارت يثير الجدل حول كل التقاليد وكل السلطة. وكان برونويشكو إلى أوربا آلامه المبرحة وهو يساق إلى الموت حرقاً. لقد أنهى صلح وستفاليا سيطرة اللاهوت على العقل في أوربا، وترك الطريق إلى محاولات العقل واجتهاداته، غير معبد، ولكن يمكن المرور فيه.