قصة الحضارة - ول ديورانت - م 7 ك 2 ف 20
صفحة رقم : 10191
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على السلطة -> الإسلام يتحدى -> الأتراك
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل العشرون: الإسلام يتحدى 1566 - 1648
الأتراك
في غمرة الصراعات الداخلية-سياسية ولاهوتية-في العالم المسيحي أحس بعض المفكرين بالإزعاج والقلق من أن العناية الإلهية أطلت، في حياد ظاهر، على الصراع الأكبر بين المسيحية والإسلام. ولقد تم طرد الإسلام من أسبانيا، ولكن "دار السلام" (العالم الإسلامي) كانت لا تزال شاسعة مترامية الأطراف، ضمت أندونسيا وشمال الهند. والحق أن هذا كان عصر أسرة المغول الزاهر في دلهي (1526-1707). وضم الإسلام أفغانستان وآسيا الوسطى وإيران كلها "حيث آذنت عظمة الفن الفارسي بالغروب في هذه الحقبة. وإلى الغرب من إيران كانت دولة الإسلام هي الإمبراطورية العثمانية أو التركية-التي لم يكن ينافسها آنذاك في أتساع أطرافها الإمبراطورية الأسبانية، واحتفظت بالسيطرة على شواطئ البحر الأسود، وتحكمت في مصاب الدانوب، والدنيبر والدينستر، وساعدت حلفاءها خانات التتار، على السيطرة على القرم ومصب نهر الدون. واستولى الأتراك على أرمينيا وآسيا الصغرى وسوريا وبلاد العرب-الشرق الأدنى بأسره-وهناك كان في حوزتها أشهر مدن العالم القديم والوسيط، بابل، نينوى، بغداد، دمشق، أنطاكية طرطوس، أزمير، نيقية، مكة وبيت المقدس-حيث كان المسيحيون، بترخيص من المسلمين، يحجون إلى قبر المسيح. واستولوا في شرق البحر الأبيض على الجزر العظيمة قبرص ورودس وكريت، وكانت الأغلبية الساحقة في شمال أفريقية من المسلمين، من البحر الأحمر إلى الأطلسي، فكان يحكم مصر باشوات يعينهم السلاطين، وكان يحكم طرابلس وتونس والجزائر ومراكش أسرات مسلمة محلية يختلف خضوعها للسلاطين باختلاف البعد بينها وبين الآستانة، وكان هذا هو عهد أسرة السعديين (1500-1668) في المغرب، وكانت عاصمتها مراكش تعج بالتجارة وتتألق بالفن. وامتدت الدولة العثمانية في أوربا من البسفور عبر اليونان (بما فيها أثينا وإسبارطة) والبلقان والمجر، على بعد مائة ميل من فيينا، وعبر دالمشيا إلى أبواب البندقية، وعبر البوسنة وألبانيا، وما كان ثمة إلا قفزة واحدة عبر الأدرياتيك حتى تصبح في إيطاليا البابوية. وهناك وفي فيينا الواقعة تحت الحصار، لم يكن الحوار الكبير بين البروتستانت والكاثوليك بل بين المسيحية والإسلام. وداخل هذا النطاق الإسلامي عاشت المسيحية حياتها الممزقة.
ومهما كان من أمر امتداد الإسلام غرباً فإنه ظل شرقياً. وكانت القسطنطينية نافذة على أوربا ولكن جذور العثمانيين امتدت كثيراً إلى الوراء، إلى آسيا وبذلك استطاعت تركيا المزهوة المبتهجة أن تقلد أوربا. وفي بعض بقاع العالم الإسلامي قتلت حرارة الصحراء أو الحرارة المدارية روح الحيوية. وعوقت المسافات الشاسعة غير المسكونة التجارة، ولم يجد الناس في أنفسهم تحمساً إلى كسب المعرفة وتحصيلها مثل الأوربيين الغربيين، فشجعوا الجمود وعدم التحرك، وكانوا أكثر استعداداً للقناعة ولم يتصفوا بالطموح. وكانت الحرف والصناعات غير المتغيرة في الإسلام متقنة، ولكنها كانت تتطلب وقتا، وكان يعوزها الذوق، ولم تتجه إلى الصناعة على نطاق واسع وكانت القوافل مثابرة صابرة، ولكنها لم تقو على منافسة الأساطيل التجارية التابعة للبرتغال وأسبانيا وإنجلترا والأراضي الوطيئة التي كانت تجوب كل المسالك المائية إلى الهند. على أن بعض الثغور الواقعة على البحر المتوسط مثل أزمير، ازدهرت بفضل نقل البضائع بين السفن والقوافل. وينفخ الإسلام في الناس روح الشجاعة المفعمة بالأمل زمن الحرب، ولكنه كان يغرس في نفوسهم وقت السلم روح التسليم بالقضاء والقدر التي تثبط من عزائمهم وأغراهم بحلقات الذكر والأحلام الصوفية. وعلى الرغم من أن الإسلام في عصر الفتوة والشباب أجاز قدراً كبيراً من العلوم. فأنه هبط آنذاك بالفلسفة إلى حذلقة جوفاء قوامها التعاليم والأساليب التقليدية. وعمل العلماء من رجال الدين الذين سنوا القوانين على أساس القرآن الكريم-على تنشئة الأطفال على الدين القويم، وحرصوا على كل الحرص حتى لا يطل عصر العقل برأسه على العالم الإسلامي وهناك هيأ الصراع بين الدين والفلسفة نصراً حاسماً للدين.
أضف إلى ذلك أن هذا الدين تيسر له غزو البلاد التي اقتطعت من العالم المسيحي. فقد كان للكنيسة الشرقية بطاركتها في القسطنطينية وإنطاكية، وأورشليم والإسكندرية، ولكن عدد المسيحيين فيها كان يتناقص بسرعة، وظل الأرمن في آسية الصغرى والأقباط في مصر على عقيدتهم المسيحية، ولكن الجماهير عامة في آسيا وإفريقية والبلقان اعتنقت الإسلام. وربما كان لهذا أسباب عملية، فلو بقوا على عقيدتهم المسيحية لحرموا من الوظائف العامة، ودفعوا ضرائب باهظة مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية وسلموا واحد من كل عشرة من أبنائهم ليربى تربية إسلامية يؤهله للانضمام إلى الإنكشارية ليعمل في الجيش، أو ليتولى الوظائف الحكومية.
وفيما عدا هذا، تمتع المسيحيون في العالم الإسلامي بتسامح ديني ما كان حاكم مسيحي ليحلم بمنحه للمسلمين في أي بلد مسيحي. من ذلك، على سبيل المثال، أن المسلمين كان لهم في أزمير 15 مسجداً، وللمسيحيين 7 كنائس ولليهود 7 معابد(1). وكانت السلطات في تركيا والبلقان تتولى حماية الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية ضد أي تحرش أو إزعاج أثناء العبادة والصلوات(2). وذهب صموئيل بيبس في يومياته إلى أن معظم المجر استسلم للأتراك لأن البلاد نعمت في ظل الحكم العثماني بحرية دينية أكبر مما نعمت به في ظل الأباطرة الكاثوليك. وهذا حق كل الحق من جانب المسيحيين المهرطقين. فقد ذكر سير توماس أرنولد: "أن الكلفنيين في المجر وترنسلفانيا والموحدين في هذا البلد الأخير آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع تحت نيران آل هبسبرج المتعصبين وأن البروتستانت في سيليزيا تطلعوا إلى الأتراك، وربما ارتضوا عن طيب خاطر أن يشتروا حريتهم الدينية مقابل الخضوع للحكم الإسلامي(4) "ومما يلفت-النظر أو يثير الدهشة أكثر من ذلك، حكم السلطات المسيحية القيادية على تاريخ اليونان الحديث:-
إن كثيراً من اليونان ذوي المواهب العظيمة والخلق الرفيع كانوا أكثر إدراكاً لتفوق المسلمين، حتى أنهم، حين نجوا من سوقهم إلى خدمة السلطان في نطاق "صريبة الأطفال"، اعتنقوا الإسلام طواعية واختياراً. ولابد من التسليم بأن السمو الخلقي في المجتمع العثماني كان له دخل كبير في هذا التحول إلى الإسلام، قدر ما كان الطموح الشخصي لدى الأفراد(5).
ولكن من الصعب تحديد هذا "السمو الخلقي" لدى أتراك القرن السابع عشر. فإن تافرنيه الذي تجول واشتغل بالتجارة في البلاد الإسلامية في 1631-1633، 1638-1643 وما بعدها، قال: "في تركيا لصوص كثيرون يتجمعون في عصابات تقطع طريق التجار(6)" وكان الأتراك معروفين بنزعتهم الهادئة إلى الخير ولكن نفس الديانة التي روضت دوافعهم غير الاجتماعية وقت السلم، أطلقت لهم العنان في ضراوة وعنف في حربهم مع "الكفار" وكان استرقاق الأسرى المسيحيين مباحاً. ووقعت غارات في الأراضي المسيحية القريبة من الحدود العثمانية لاصطياد المسيحيين واسترقاقهم، ومهما يكن من أمر، فإن اتجار العثمانيين في الرقيق كان أقل بكثير، عدداً وقساوة، من الحملات التي قام بها المسيحيون لجمع الرقيق في القارة السوداء. وكان الانغماس في الشهوة الجنسية في العالم الإسلامي أشد وأكثر إرهاقاً منه في العالم المسيحي، ولو أنه كان عادة في نطاق الحدود المنظمة لتعدد الزوجات. وكان المجتمع التركي، على وجه التحديد، مجتمع رجال، ولما كان اتصال الرجال بالنساء محظوراً خارج البيت، فقد أنس المسلمون بمعاشرة الغلمان، عشرة عذرية (أفلاطونية) أو جسدية. وانتشر السحاق داخل الحريم(8).
وسادت حياة عقلية نشيطة، ولو أنها مقيدة، بين أقلية كبيرة من المسلمين. وربما كانت نسبة معرفة القراءة والكتابة تركية أوربا في القرن السابع عشر أعلى منها في العالم المسيحي وربما حكمنا على وفرة الكتب من ثبت جمعه حاجي خليفة (1648)، يضم أكثر من 25 ألف كتاب في اللغات العربية والتركية والفارسية. وكانت هناك مئات المجلدات في الدين والفقه والعلوم والطب والبلاغة والسير والتاريخ(9). وكان من أشهر المؤرخين أحمد بن مجمد، غالباً ما استندنا في كتابنا هذا إلى مؤلفه "تاريخ الأسرات الإسلامية في أسبانيا" (نفح الطيب). وقد عرفناه أساساً باسم "المقري" وقد أشتق أسمه من اسم مسقط رأسه في قرية في الجزائر. ومعظم كتابه عبارة عن قطع منقولة أو مختصرة من كتب قديمة، ومع ذلك فهو إنتاج جديد بالذكر في عصره، لم يزودنا بأخبار السياسة والحرف فقط، بل أمدنا كذلك بشيء عن الأخلاق والقانون والنساء والموسيقى والأدب والطب. وأحيى مدونته بالتفاصيل الممتعة والحكايات والنوادر التهذيبية.
ونظم الشعر كل من عرف القراءة والكتابة في تركيا تقريباً. واشترك الحكام بحماسة في هذه المباراة (كما هو الحال في اليابان). وألف محمد سليمان أوغلوا المعروف "بالفضولي" (وهو اسم أخف على السمع)، أرق أغاني الحب في ذاك العصر، وربما بدت سخيفة ساذجة في الترجمة. الإنجليزية الرديئة التي توفرت لنا، ولكنا ندرك مراميه-تميزت غادات بغداد بالدفء والحرارة والطراوة ونعومة الملمس، والخفة والرقة حتى يتزوجن. أما محمود عبد الباقي (المتوفى 1600) وهو أعظم الشعراء الغنائيين العثمانيين، فإنه بعد أن كان المغني الأثير لدى سليمان القانوني، ظل يشدو لمدة أربعة وثلاثين عاماً بعد وفاة راعيه. وكتب نافع الذي عاش في أرضوم. هجاء لاذعاً، لابد أن شيئاً منه صعد إلى السماء، فإنه بينما كان السلطان مراد الرابع يقرأ قصيدة منه نزلت صاعقة على قدميه، فمزق السلطان الكتاب ونفى الشاعر من القسطنطينية، وسرعان ما أعيد إليها، ولكن قصيدة هجائية أخرى لذعت الوزير بيرم باشا، فأمر بقطع رأسه(10).
وظل الفن العثماني ينتج التحف والروائع، فقد بنى مسجد أحمد الأول في 1610 ليشرف على العاصمة بمآذنه الست المحلقة في الجو، وسلسلة قبابه المنتفخة (البصلية الشكل)، وأعمدته المحززة الضخمة في الداخل، وأقواس الفسيفساء، والكتابات الفخمة والزخارف المتألقة. وبعد ذلك بخمسة أعوام أهدى السلطان لزوجته ذات الحظوة لديه مسجد بيتي فالدي جاميسي الرائع. وبنى في هذه الحقبة في دمشق مسجدان فخمان. أما في أدرنه فإن المهندس المعماري الذي لا نظير له، سنان الذي كان قد وضع تصميم مسجد سليمان شاد للسلطان سليم الثاني مسجداً يعده بعض الناس أعظم من أي مسجد آخر في القسطنطينية.
ولم تتفوق أية حضارة على الإسلام في صنع تربيعات القرميد الجميلة التي نشاهدها، على سبيل المثال في مسجد أحمد الأول، وأجمل منها تلك التي تزين مدخل ضريح سليم الثاني بالقرب من أيا صوفيا بباقات من الأزهار البيضاء والزرقاء وسط أغصان وأوراق خضراء وزرقاء وحمراء، ولا يمكن أن تكون الزهور الحية أجمل من ذلك، بل قد تحسد نظيراتها المصنوعة على طول بقائها. وكانت أزنيق-حيث رأس قسطنطين منذ ثلاثة عشر قرناً المجمع التاريخي الذي ثبت العقيدة المسيحية-نقول كانت مشهورة بتربيعاتها البراقة وثمة نماذج مقنعة منها في متحف المتروبوليتان للفن.
وكان رسم المنمنمات في تركيا يحاكي نظيره في فارس التي سنتحدث عنها وشيكاً أما الخط فقد ذاع صيته (يقال أن سطر واحد بخط مير عماد بيع بقطعة من الذهب أثناء حياته)(11) إلى حد أنه لم يطبع أي كتاب في تركيا قبل عام 1728. وفي النسيج كذلك كان الأتراك تلاميذ الفرس، ولكن لم يتفوق عليهم فيه إلا هؤلاء. ولم يبلغ السجاد التركي درجة الإيراني في رقة النسيج ودقة التصميم والرسم أو الثراء في الألوان. ولكنهم يحتلون مكانة عالية في تاريخ هذا الفن. وكان السجاد التركي في القرن الخامس عشر قد كسب شهرته بالفعل في الغرب لأننا نراه في لوحات الرسام الإيطالي أندريا مانتنيا، وبعده في بنتوريكيو، وفي باريس ورودن وهولبين. وكسى كثير من قصور التيودور بالسجاد التركي، بل إن كرومول المتشدد نفسه كان لديه اثنتان وعشرون قطعة منه(12). وإننا لنجد هذا السجاد ممثلاً في قطع النسيج المزركش (الكانفاه، الجويلان)، يوضح للناس حياة لويس الرابع عشر. لقد كان الغرب يدرك أن الشرق لديه الفنون والمدافع سواء بسواء.
معركة ليبنتو
ومهما يكن من شيء، فقد كان على حكام الغرب أن يرقبوا المدافع، لأن سلاطين آل عثمان كانوا قد أعلنوا عن عزمهم على تحويل أوربا بأسرها إلى الإسلام. أن رصيدهم البشري وثروات مملكتهم الزاحفة في كل مكان هيأت لهم أكبر جيش وأحسنه عتاداً وعدة في أوربا. وكان عدد الانكشارية وحدهم خمسين ألفاً. وربما كان خلاص الغرب وخلاص المسيحية في ترامي أطراف الإمبراطورية العثمانية على هذا النحو، فما كانت المسافات البعيدة لتساعد على تجميع الموارد المبعثرة في الوقت المناسب، كما أن السلاطين، ولو أنهم شكلوا أسرة حاكمة أبقى على الزمن من أية أسرة حاكمة مسيحية، دب فيهم الفساد وانتابهم التدهور حيثما تهيأت "للحريم" فرصة لتحقيق مآربهن، وكانوا يكلون أمور الحكم إلى وزراء مؤقتين سريعي الزوال، نزع بهم تزعزع مراكزهم إلى التخفيف من وطأة سقوطهم واعتزال مناصبهم، بجمع الثروات أيام سطوتهم.
وهكذا كان سليم الثاني الذي خلف سليمان القانوني 1566، حاكماً منحلاً خاملاً، لم تتجل عبقريته إلا في أنه عهد بالإدارة والسياسة إلى وزيره القدير محمد سوكللي. وانقطعت غارات الأتراك على الإمبراطورية الرومانية المقدسة لأن الإمبراطور مكسيمليان الثاني اشترى السلام مقابل جزية سنوية قدرها 30 ألف دوكات. وحول سوكللي وجهة نظر فريسة أقرب. فقد احتفظت بلاد العرب من قبل "باستقلالها الديني" ولكن تم الآن للباب العالي فتحها (1570) وكانت ممتلكات البندقية لا تزال متناثرة في بحر إيجة، تعوق أساطيل تركيا وتجارتها. وقصد لالا مصطفى على رأس 60 ألف مقاتل لمهاجمة قبرص وأهابت البندقية بالدول المسيحية لنجدتها، فلم يستجب لندائها إلا البابا وأسبانيا. فإن بيوس الخامس لم يكن قد نسي أن الأسطول التركي في 1566 هدد أنكونا ثغر البابا وقلعته على الأدرياتيك. كما علم فيليب الثاني أن عرب الأندلس استرخصوا السلطان لإنقاذهم من ويلات الحكم الأسباني (1561) وأن السلطان رجب بمبعوثيهم إليه. وكان الموقف الدبلوماسي مواتياً. ذلك أن الإمبراطور لم يكن يشترك في الحرب ضد تركيا، لأنه كان قد وقع من فوره معاهدة سلام معها ولم يكن من الشرف ولا في مصلحة أمنه أن ينقضها وعارضت فرنسا أية خطة تزيد من قوة أسبانيا وترفع من شأنها. ووثقت عرى الصداقة مع الأتراك عوناً لها على مواجهة الإمبراطور. وخشية إنجلترا مغبة الدخول في مغامرة مشتركة مع فيليب يجعلها تحت رحمة أسبانيا الكاثوليكية في حالة انتصارها. وساور البندقية بعض القلق من أن الانتصار قد يأتي بالقوات الأسبانية إلى الأدرياتيك. فتقضي على احتكار البندقية لهذا البحر وسيطرتها عليه. وقضى بيوس عاماً كاملاً في التغلب على هذه الحيرة والتردد. وكان عليه أن يرضى باستخدام البندقية وأسبانيا لأموال الكنيسة. وأخيراً في 20 مايو 1571 انضمت الثلاث في "عصبة مقدسة" واستعدت للحرب.
وفي أثناء هذه المفاوضات تقدم الهجوم التركي على قبرص. مع خسائر جسيمة تكبدها الطرفان. وسقطت نيقوسيا بعد حصار دام خمسة وأربعين يوماً. وأعدم بحد السيف عشرون ألفاً من سكانها، وقاومت فاما جوستا زهاء عام. وعندما سقطت (6 أغسطس 1571) سلخ البطل المدافع عنها، مارك أنطونيو براجادينو، حياً، وحشي جلده بالقش وأرسل إلى القسطنطينية تذكاراً للنصر.
وكانت الظروف تستحث العصبة المقدسة على العمل، فجمعت قواتها. وأسهمت بالسفن والرجال، كل من فلورنسة وبارما ولوكا وفرانا وأربينو وجنوه، عدو البندقية القديم. وفي نابلي تسلم دون جوان النمساوي لواء القيادة في احتفال مهيب من الكاردينال جرنفل. وفي 16 سبتمبر، بعد أن تناول البحارة والجنود القربان المقدس من يد الجزويت والكيوشيين الذين التحقوا بالحملة، أبحر الأسطول الضخم (الأرمادا) من مسينا إلى جزيرة كورفو في محاذاة جنوبي إيطاليا، عبر مضيق أوترانتو. وهناك ترامت أنباء المذابح والفظائع التي اقترنت بسقوط قبرص. وتعالت صيحات "النصر النصر" فليحي المسيح، عندما أصدر دون جوان أوامره بالانطلاق إلى القتال.
وفي 7 أكتوبر 1571 تحرك الأرمادا عبر خليج بتراس إلى خليج كورنت. وكان الأسطول التركي ينتظر بعيداً عن ثغر ليبنتو، وهو يضم 222 سفينة شراعية كبيرة، و60 سفينة صغيرة، و570 مدفعاً، و24 ألف جندي، و13 ألف ملاح، و41 ألف مجدف. وكان المسيحيين 207 سفن شراعية، وست سفن شراعية فينيسية ضخمة تحمل المدافع، و30 سفينة صغيرة و 1.800 مدفع و30 ألف جندي و13 ألف وتسعمائة ملاح، و43 ألف جندي(13). ورفع الأسطول المسيحي علم المسيح مصلوباً. ورفع الأسطول التركي علم السلطان يحمل لفظ الجلالة "الله" موشى بالذهب. وتراجع جناح المسيحيين الأيمن أمام الأتراك، ولكن الجناح الأيسر الذي كان يقوده البنادقة حول المقاومة الضارية إلى هجوم منظم، وأودت مدفعيتهم بحياة آلاف من الأتراك, وأصدر دون جوان أمره بأن تتحرك سفينة قيادية قد مانحو سفينة أمير البحر التركي موسيناد علي. فلما التقت السفينتان، قفز ثلاثمائة من جنود جوان الأسبان المحنكين إلى السفينة التركية بقيادة راهب كبوشي، يلوح بالصليب عالياً. وتقرر مصير المعركة، عندما أسرت السفينة، ورفع رأس علي المفصول عن جسده فوق سارية علمه(14). وانهارت الروح المعنوية لدى الأتراك. وهربت 40 من سفنهم، وأسرت 117 أخرى، كما أغرق أو حرق خمسون سفينة. ولقي حتفه في المعركة أكثر من ثمانية آلاف رجل من الأتراك، وأسر عشر آلاف، وزع معظمهم رقيقاً على المنتصرين. وحرر نحو 12 ألفاً من الأرقاء المسيحيين الذين كانوا يقومون بالتجديف على المراكب التركية. وفقد المسيحيون، وقتل منهم 7500 رجل من بينهم أفراد من أعرق وأشهر الأسرات في إيطاليا. ولا نزاع في أن معركة ليبنتو كانت أعظم معركة بحرية في التاريخ الحديث. ووصفها سرفنتيز الذي كان من بين الجرحى المسيحيين البالغ عددهم 7500 بأنها "أعظم حدث بارز جدير بالذكر شهدته العصور الخوالي أو العهود الحاضرة. وقد لا يكون له نظير في المستقبل "(15).
وكان يجدر أن تكون هذه أكبر معركة فاصلة في التاريخ الحديث، لولا أن استنزاف المجدفين والأضرار التي لحقت بالأسطول المنتصر، وهبوب عاصفة عنيفة، حال دون تعقب الأتراك. فقد ثار النزاع بين المسيحيين حول اقتسام المجد والغنائم. ولما كانت أسبانيا قد أسهمت في القتال بنصف السفن والنفقات، والبندقية بثلثها والبابا بالسدس، فقد وزعت الغنائم بقدر هذا الإسهام. ووزع الأسرى الأتراك بهذه النسبة، فخص أسبانيا 3600 عبد مكبلين في الأصفاد، ومن نصيب البابا منح دون جوان 17 عبداً مكافأة شريفة لقاء خدماته(16). ورغب بعض الزعماء المسيحيين في الاحتفاظ بالأرقاء المسيحيين الذين حرروا من السفن التركية، ولكن البابا بيوس الخامس حرم هذا التصرف(17).
وابتهجت أوربا الكاثوليكية بأسرها حين وصلت أنباء النصر. وازدانت البندقية بأكاليل الزهر والتحف الفنية، وتبادل الرجال القبلات في الشوارع، ورسم تيشيان وتنتورنو وفيرونيز لوحات ضخمة عن المعركة، واحتفل بالقائد الفينيسي سباستيان فنييرو أياماً وليالي كثيرة، وأخيراً اختبر لتولي منصب "الدوج" (القاضي الأول في جمهورية البندقية). أما في روما، حيث قضى رجال الدين وعامة الناس ساعات كل يوم في الصلوات وأحر الدعوات منذ غادر الأرمادا مسينا، فقد تعالت صيحات "الشكر للرب" في مرح وابتهاج وارتياح، وكاد البابا بيوس الخامس، منظم النصر، أن يرفع دون جوان إلى مرتبة القديسين وأطلق عليه عبارة الإنجيل "هناك رجل أرسل من عند الله اسمه يوحنا" (إنجيل يوحنا، 1:6) وتليت القداسات وأطلقت الألعاب النارية، ودوت طلقات المدافع. ورجا البابا من المنتصرين أن يحشدوا أسطولاً آخر، وتوسل إلى حكام أوربا أن ينتهزوا الفرصة ليتحدوا في حرب صليبية لطرد الأتراك من أوربا ومن الأرض المقدسة. وأهاب بشاه إيران، وبأمير اليمين السعيد أن ينضما إلى المسيحيين للانقضاض على الأتراك(18). ولكن فرنسا الحاقدة على أسبانيا اقترحت على السلطان، عقب ليبنتو مباشرة، تحالفاً مباشراً ضد فيليب الثاني(19) .
واشتركت أبناء هذا العرض مع عوامل أخرى في ثني فيليب عن عزمه على القيام بعمل جديد ضد القوة العثمانية الرئيسية. وتورط في النزاع مع إنجلترا، وفي المأزق الذي أوقعه فيه دوق ألفا في الأراضي الوطيئة، كما استاء من إصرار البندقية على احتكار التجارة في الأدرياتك، وخشي من أن انتصار ثانيا على الأتراك قد يبعث القوة والحياة في الإمبراطورية البندقية المتداعية، فتصبح منافساً قوياً لأسبانيا. أما بيوس الخامس الذي أرهقته الانتصارات والهزائم معاً، فإنه لقي ربه في أول مايو 1572، وماتت معه العصبة المقدسة.
اضمحلال السلاطين
وفي نفس الوقت، وبنشاط أفزع الغرب، بنى العثمانيون أسطولاً آخر، في مثل ضخامة الأسطول الذي كاد أن يدمر عن آخره. وفي بحر ثمانية أشهر بعد معركة ليبنتو، كان ثمة أسطول تركي مكون من 150 سفينة يجوب البحار بحثاً عن الأسطول المسيحي الذي بلغ من سوء النظام حداً لم يجرؤ معه على الخروج من مكمنه. وشجع الجميع البندقية على استئناف الحرب، ولكن أحداً لم يمد لها يد المساعدة، ومن ثم فإنها عقدت مع السلطان (7 مارس 1573) صلحاً لم تتنازل بمقتضاه عن قبرص فحسب، بل دفعت كذلك للسلطان تعويضاً يغطي ما تكبده من نفقات في فتح الجزيرة. لقد خسر الأتراك المعركة ولكنهم كسبوا الحرب، ويبدو كيف أنهم لم يصبهم أي وهن، من العرض الجريء الذي تقدم به سوكوللي إلى البندقية (1573)، وهو أنها إذا انضمت إلى الأتراك في حربهم ضد أسبانيا، فلسوف يساعدونها في غزو مملكة؛ بلي لتكون تعويضاً سخياً لها عن ضياع قبرص. ورفضت البندقية هذا العرض لأنه يشجع السيطرة التركية على إيطاليا والعالم المسيحي. وفي أكتوبر أحيا دون جوان مجده بالاستيلاء على تونس لحساب أسبانيا، ولكن في بحر عام واحد استطاع الأتراك بأسطول ضخم آنذاك (250 سفينة) استعادة المدينة وذبح الأسبان الذين كانوا قد استوطنوها حديثاً. وعلى سبيل الاحتياط أغاروا على سواحل صقلية. ومات سليم الثاني في 1574، ولكن ظل سوكوللي يتولى شؤون الدولة ويدير دفة الحرب.
وقد يدعو إلى حيرة الفلاسفة أن يرى المؤرخون اضمحلال الدولة العثمانية في عهد مراد الثالث (1574-1595) على حين أنه كان يحب الفلاسفة، ولكنه كان مولعاً بالنساء كذلك. وأنجب مائة وثلاثة أطفال من عدد غير كبير من الزوجات. وكانت "بافو" الزوجة ذات الحظوة لديه، وهي أمة من أسرى البندقية، أسرته بمفاتنها، وتدخلت في شؤون الدولة، واشترى نفوذها بالمال، وتقلص نفوذ سوكللي، ولما أقترح بناء مرصد ثارت ثائرة الشعب ضده في نعرة تعصب ذميم، فقتلوه (1579)، وربما كان هذا بأمر السلطان مراد. وعمت الفوضى، وانخفضت قيمة العملة، وتمرد الانكشارية لهبوط أجورهم لأنهم يتسلمون نقداً رديئاً، وأفسدت الرشوة الموظفين، بل أن أحد الباشوات كان يفاخر بأنه رشا السلطان. وانغمس مراد في ملذاته الجنسية ومات متأثراً بالإفراط فيها.
وسيطرت "بافو" على أبنها محمد الثالث (1595-1603) قدر سيطرتها على الدولة. وبدأ حكمه بالعملية التقليدية، فقتل تسعة عشر من أخوته، إغراء وحثاً لآل بيته على أن يركنوا إلى الهدوء والمسالمة، ولكن أخصاب مراد، أو ذريته الكبيرة، جعلت من هذا السلام المنشود مشكلة عسيرة، فإن كثيراً من أبناء السلطان بقوا على قيد الحياة تحدق بهم الأخطار. وأنتشر الفساد وسادت الفوضى. وضيعت الهزيمة في الحرب مع النمسا وفارس قيمة الانتصارات التركية. وواجه أحمد الأول خطر ظهور الشاه عباس الأول حاكماً قوياً على فارس، فقرر حشد قواته على الحدود الشرقية، ورغبة في التخفيف منها في الغرب، وأمر السلطان وكلاءه بتوقيع صلح "زتفانوروك" (1906)، وهي أول معاهدة تنازل الأتراك المزهوون بتوقيعها خارج القسطنطينية. ودفعت النمسا للسلطان مائتي ألف دوكات، ولكنها أعفيت من أية جزية بعد ذلك. وقبلت ترنسلفانيا السيادة التركية طواعية واختياراً، كذلك عقدت فارس الصلح (1611)، وأعطت تركيا مليون رطل من الحرير، تعويضاً عن الحرب. وتميز هذا العهد في جملته بالتوفيق والسلامة لولا ما شابه من استمرار الانكشارية في تمردهم. وكان السلطان أحمد رجلاً تقياً حسن النية، وبذل للجهد، ولكنه أخفق في القضاء على قتل الأخوة اخوتهم في الأسرة المالكة. وأقترح عثمان الثاني (1617-1622) تنظيم الانكشارية والإصلاح من شأنهم، ولكنهم اعترضوا وقتلوه، وأجبروا أخاه الأبله المعتوه مصطفى الأول على اعتلاء العرش، ولكن مصطفى أوتي من رجاحة العقل ما جعله يتخلى عنه (1623) لبن أخيه مراد الرابع البالغ من العمر اثني عشر عاماً (1623-1640). واختار الانكشارية كبار الوزراء، وكانوا يذبحونهم كلما لاح لهم أنه قد آن الأوان لإحداث تغيير. واقتحموا القصر الملكي وأجبروا السلطانة قسيم على أن تفتح لهم أقبية الكنوز استرضاءً لهم. وفي 1631 عادوا إلى القصر ثانية، وتعقبوا السلطان الشاب إلى جناحه الخاص وطالبوا برؤوس سبعة عشر موظفاً. وقدم أحدهم-حافظ-نفسه للجماعة، فداء للباقين، فمزقوه إرباً، وقابلهم مراد، وهو لا يزال بعد غض الإهاب، بما بدا أنه تهديد هين لين: "إني لأرجو أن يمدني الله بعون من عنده: يا رجال الدم، يا من لا تخشون الله، ولا تستشعرون الخجل أمام رسوله، سيحل عليكم أشد الانتقام(20) "وانتهز الفرصة الملائمة ليشكل قوة موالية له، ودبر قتل الواحد تلو الأخر من زعماء التمرد. وسحقت محاولات أخرى للثورة والعصيان، بقسوة شديدة. وفي بعض الأحيان، شارك السلطان بنفسه، مثل- بطرس الأكبر- في تنفيذ أحكام الإعدام. وقتل كل أخوته فيما خلا واحداً ظنه أبله لا يخشى منه شيء. وفي نشوة سلطته الملكية فرض عقوبة إعدام على تناول التبغ أو القهوة، والأفيون أو الخمر. وقيل أن جملة من أعدموا في عهده مائة ألف شخص، باستثناء من لقوا حتفهم في الحرب(21). واستتب لبعض الوقت النظام الاجتماعي ونزاهة الإدارة. ولما أحس الآن بأنه في مأمن إلى حد معقول، استأنف الحرب مع فارس؛ وقبل أن يتحداه محارب فارسي في نزال فردي، فأرداه قتيلاً، واستولى على بغداد (1638)، وجاد بصلح على نصر، ولدى عودته إلى القسطنطينية استقبله أهلوها استقبال المنتصر الظافر. ومات بعد ذلك بعام واحد متأثراً بداء النقرس الذي سبب له الإدمان على الخمر. وكان في الثامنة والعشرين من العمر.
وبعد وفاة مراد الرابع، عاد اضمحلال تركيا سيرته الأولى. فإن إبراهيم الأول نجا من موت محقق بيد أخيه، لكونه مخبولاً، أو لتظاهره بالخبل، وتجددت الفوضى والفساد في ظل حكمه الضعيف الطائش. وشن الحرب على البندقية وأرسل حملة إلى كريت. وسد البنادقة منافذ الدردنيل. وتضور أهالي القسطنطينية جوعاً. وثار الجيش وشنق السلطان. وعادت إلى ذاكرة الغرب المسيحي قصة الحرس البريتوري في روما، وانتهوا إلى أنه لم يعد ثمة مبرر لأن يرهبوا قوة الأتراك وفي بحر خمس وثلاثين سنة أخرى كان الأتراك على أبواب فيينا من جديد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الشاه عباس الأكبر 1587-1629
أنه لمن حسن حظ الغرب المسيحي أنه فيما بين عامي 1577 و1638، حين كانت فرنسا أولاً، ثم ألمانيا من بعدها، قد شلت حركتها الحروب الدينية، أن الأتراك الذين كان يمكن أن يمدوا حدودهم الغربية إلى فيينا، وجهوا كل همهم وطاقتهم إلى فارس. وهنا أيضاً كان الدين مبرراً يستر وراءه شهوة السلطان والسيطرة. فإن الأتراك الذين كانوا يتبعون المذهب السني، رموا الفرس بالمروق لأنهم اتبعوا مذهب الشيعة، ودمغوا من ولي الخلافة بعد عليّ، وهو زوج بنت الرسول، بأنه مغتصب لها. وكانت ذريعة الحرب بطبيعة الحال دنيوية أكثر منها دينية-وهي الرغبة في حكم الأقليات طعماً في مزيد من الأراضي والموارد والسكان الذين يمكن أن تفرض عليهم الضرائب. ونتيجة لسلسلة من الحروب المتواصلة تقدم الأتراك نحو الفرات والقوقاز وبحر قزوين، مستحوذين على العاصمة الفارسية الجديدة تبرز، والعاصمة العربية القديمة وصفها بيدور تكسيرا (1615) بأنها مدينة غنية عامرة بالأتراك والفرس والعرب واليهود، الذين يعيشون في 20 ألف بيت من الآجر، تزحمها حركة الثيران والجمال والخيل والحمير والبغال المحملة، والرجال نظيفي الثياب، وكثير من النساء المليحات الوسيمات، وعيونهن، كلهن تقريباً، جميلة تحدق فوق خمرهن أو من خلالها(22). وقد كلف أحد الموظفين بالسهر على حماية الغرباء هناك.
وإلى الشرق من بغداد والفرات كانت تقع الولايات الفارسية الممزقة، وتمتد إلى القوقاز وبحر قزوين في الشمال الغربي، وإلى تركستان في الشمال الشرقي، وإلى أفغانستان شرقاً، وإلى المحيط الهندي جنوباً، وإلى خليج العرب (الخليج الفارسي) في الجنوب الشرقي، وكأنها أجزاء مبعثرة لجسم واحد، تنتظر أن تحل فيها روح تضم شتاتها.
وكان عباس الأكبر خامس شاه، أو ملك، من الأسرة الصفوية التي كان قد أسسها إسماعيل الأول في تبريز 1502. وفي عهد الشاه الثاني طهما سب الأول الذي امتد حكمه طويلاً (1524 ت1576) تعرضت الدولة الجديدة لغارات كبيرة من الأتراك. وبعد موته فتح الأتراك الولايات الفارسية: العراق ولورستان وخوزستان وضموها إلى أملاكهم. وفي نفس الوقت جاء الأزبكية من بلاد فيما وراء النهر، واستولوا على هرأة ومشهد ونيسابور، واجتاحوا الولايات الفارسية الشرقية. ولما ارتقى عباس العرش (1578) وهو في الثلاثين من العمر، دون أن يكون له عاصمة، عقد الصلح مع الأتراك، وتقدم شرقاً ليقابل العدو الأصغر شأناً وأقل نفراً. وبعد حروب دامت أعواماً استرد هرأة وطرد الأزبكية من فارس، ومات بعد ذلك متلهفاً على ملاقاة الأتراك، ولكن الخسائر والأحقاد القبلية كانت قد استنزفت جيشه الذي كان كذلك تعوزه أحدث وسائل الفتك والتدمير.
وحوالي هذه الفترة (1598) وصل من إنجلترا إلى فارس في بعثة تجارية إنجليزيان مغامران هما سير أنطوني شيرلي وأخوه الأصغر روبرت، يحملان هدايا ثمينة وخبرة عسكرية. وكان برفقتهما خبير في صنع المدافع. وتمكن الشاه عباس بمساعدتهما من إعادة تنظيم جيشه، وزوده بالبنادق والسيوف معاً، وسرعان ما توفر لديه 50 مدفعاً. وقاد قواته الجديدة ضد الأتراك وطردهم من تبريز (1603)، واسترد أريفان وشروان وكادن. فأرسل إليه الأتراك جيشاً عروماً قوامه مائة ألف رجل، هزمه عباس بستين ألفاً فقط (1605)، واسترد بذلك أذربيجان وكردستان والموصل وبغداد وامتد حكم عباس من الفرات إلى السند.
وحتى قبل هذه الحملات الشاقة، كان الشاه عباس قد شرع (1598) في تشييد عاصمة جديدة، أبعد منالاً على الغزاة من تبريز، وأقل تدنساً بذكريات الأجانب وأقدام السنين، كانت أصفهان موغلة في القدم لمدة ألفين من السنين (ولم لم تكن تحمل هذا الاسم)، وكان عدد سكانها ثمانين ألفاً. وعلى مسافة نحو ميل من المدينة القديمة أقام مهندسوه رقعة مستطيلة اسمها ميدان الشاه أو الميدان الملكي، طولها 1674 قدماً وعرضها 540 قدماً، تحوطها الأشجار وعلى جانبين منها متنزهات مغطاة اتقاء المطر والشمس. وفي الناحية الجنوبية شيد مسجد الشاه أو المسجد الملكي؛ وإلى الشرق بني مسجد لطف الله والقصر الملكي؛ وشغلت بقية المساحة بالحوانيت والخانات والمدارس. وإلى الغرب من الميدان شق طريق باتساع مائتي قدم "شاهار باع" (البساتين الأربعة) تحف به الأشجار والحدائق تزينه البرك ولنافورات وعلى جانبي هذا الطريق المزدان بالأشجار قامت قصورا الوزراء. وجرى عبر المدينة نهر زاياند الذي بنيت عليه ثلاثة جسور، كان أحدها "الله فردي خان" تحفة جميلة في فن البناء، يمتد 1164 مع طريق عريض ممهد؛ وممر مقنطر على الجانبين للمشاة؛ وكانت المدينة الجديدة تروى ويبرد بواسطة القنوات والخزانات والنافورات والشلالات. وكان التصميم في مجموعه قطعة رائعة في تخطيط المدن، تضارع أروع ما عرفه ذاك العصر في أي مكان آخر(23).
وعندما زار الرسام الفرنسي سيمون أصفهان (1673) دهش عند رؤية حاضرة على مثل هذا النسق في الإدارة والتجارة والصناعات والفنون تحوطها 1500 قرية، ويسكنها 300 ألف نسمة. وكان بالمدينة وضواحيها 162 مسجداً و48 كلية و273 حماماً عاماً و1800 خان (فندق صغير).ووصف تافرنييه أصفهان عندما رآها في 1664 بأنها تضارع باريس في الاتساع ولكن سكانها يبلغون عشر سكان العاصمة الفرنسية، لأن أسرة في أصفهان كان لها بيتها وحديقتها، وأن الأشجار كانت كثيرة إلى حد أنها بدت "غابة لا مدينة"(24) أنها صورة جميلة لولا أن تافرنييه يستطرد فيقول: "وأمام كل بيت حوض تلقي فيه كل أسرة فضلات بطونها. ثم يأتي الفلاحون يومياً ليحملوها ليستخدموها في تسميد أراضيهم، ولا بد أن تقابل في كل البيوت فتحات في الجدران تطل على الشارع. يقبع فيها الناس، ولا يخجلون من المخاط والتبول على مرأى من الدنيا بأسرها"(25).
وكان الشاه عباس يدرك تمام الإدراك أن أوربا الغربية تحمد له شغله الأتراك في الشرق، فأرسل سير أنتوني شيرلي في بعثة لإقامة العلاقات بينه وبين الحكومات المسيحية، وفتح الطريق أمام صادرات فارس من الحرير دون تدخل الوسطاء الأتراك. وعندما قدم المندوبون الأوربيون إلى أصفهان أكرم وفادتهم وأباح الحرية الدينية. وكان قد أسر خمسة آلاف من الأرمن أثناء حروبه مع تركيا، فلم يستعبدهم، ولكن أباح لهم النهوض بمقرهم في جولفا بالقرب من أصفهان، وأفاد من نشاطهم التجاري ومن مهاراتهم. وهناك شادوا كنيستهم الخاصة بهم وزينوها بخليط من الصور المقدسة المسيحية والزخارف الإسلامية ولعبت برأس الشاه عباس فكرة صهر الأديان كلها في دين واحد "وفرض السلام على السموات والأرض"(26).وبطريقة أكثر واقعية استغل الشاه الحماس الشيعي لدى الفرس كأداة لرفع معنوياتهم وروحهم القومية، وشجع شعبه على الحج إلى مشهد على أنها مكة مسلمي فارس، وسعى هو بنفسه ثمانمائة ميل من أصفهان إلى مشهد ليؤدي المناسك ويوزع الهبات والصدقات.
ومن ثم فإن العمارة التي جعل أصفهان تتألق بها، كانت دينية أساساً، مثل كنيسة العصور الوسطى في الغرب. فكان يحول أموال الفقراء إلى أماكن للعبادة تكون عظمتها وجمالها وهدوءها مفخرة وملكاً للجميع. وكان أعظم ما يثير الإعجاب في مباني العاصمة الجديدة الشاه الذي بناه عباس (1611-1629). وكان "الميدان" مدخلها الرائع وطريقها الفاخر، وبدا الميدان كله وكأنه يؤدي إلى البوابة التي ترحب بالداخلين إليها. وأول ما يبهر العين المآذن التي تطوق المدينة بأبراجها الناتئة المخرمة التي يوحد المؤذنون فيها الله، والخزف اللامع الذي يكسو إطار الأبواب، ثم الأفريز وما عليه من عبارة منقوشة. يتقرب بها عباس إلى الله بهذا الضريح. حتى حروف الهجاء في فارس كانت فناً. وكانت الحوائط داخل العقود مزدانة بعناقيد موشاة بزهور بيضاء. ثم الساحة الداخلية المكشوفة للشمس، ومنها عبر أقواس أخرى إلى الحرم المقدس تحت القبة الكبرى. ويجدر بالمرء أن يقصد إلى الخارج مرة أخرى ليتفحص القبة، والخط الكوفي الرائع عليها. وشكلها المنتفخ، وهي مع ذلك رشيقة جميلة، مغطاة بالتربيعات المطلية بالميناء، في لون أزرق وأخضر في زخرفة عربية بديعة فوق أرضية لازوردية. وعلى الرغم من جور الزمان فإن هذه "حتى في يومنا هذا من أجمل المباني في العالم"(17). وثمة مسجد قد لا يثير الإعجاب بمثل هذا القدر، ولكنه أدق وأرق، وهو الذي شاده الشاه عباس تخليداً لذكر والد زوجته، وهو من أولياء الله الصالحين، وهو مسجد الشيخ لطف الله، وله باب رشيق، وحرم ومحراب من الفسيفساء الفاتنة، وفوق كل هذا، فإن جماله من الداخل يجل عن الوصف، وأبعد عن التصديق-الزخارف العربية، والأشكال الهندسية والزهور والحليات الدرجية في رسم متقن موحد. وهذا هو فن تجريدي، ولكن في منطق وتكوين واتساق لا يربك العقل أو يشوش الذهن، بل في نظام يسهل إدراكه، يبعث في النفس الارتياح والهدوء.
وفي الجانب الشرقي من الميدان بنا الشاه عرشاً مكشوفاً تحت قوس كبير "الباب العالي". وفيه استقبل الناس أو شهد سباق الخيل أو مباريات البولو في الميدان . وخلف هذه البوابة كانت تقع الحدائق الشاهانية، وهي تضم عدة قصور استخدمها الشاه لأغراض خاصة. ولا يزال أحد هذه القصور موجوداً، ولكن نال من الزمن كثيراً. أربعون عموداً، قاعة الاستقبال، حجرة العرش قائمة على عشرين عموداً من شجر الدلب، مكسوة بالمرايا، وقاعة طويلة تزينها رسوم تحكي أحداث عصر الشاه. وكانت أبواب القصر مصنوعة من الخشب المصقول المزدان بمناظر الحدائق ومجموعات الزهر. وفي متحف المتروبوليتان للفن اثنان من هذه الأبواب. ولا تزال قائمة في مكانها الزخارف الجصية اللامعة، مذهبة، وفي ألوان أخرى، من سقف قاعة الاستقبال. وهنا أيضاً نجد الفن التجريدي، وقد بلغ حد الكمال. في المنطق وفي التصميم.
ووجه الشاه عباس من قصوره المتعددة ومن معسكره حياة مملكته الآخذة في الاتساع. لقد أهتم، مثل معظم الحكام العظام، بكل الجوانب في حياة شعبه. فبنى الطرق والجسور، ومهد الأميال الكثيرة من الطرق ورصفها بالحجارة. وشجع الصناعات والتجارة الخارجية واستخراج المعادن من بطن الأرض. وبنى السدود، وتوسع في ري الأراضي، وأمد المدن بالماء النقي. وجدد المدن التي لحقت بها أضرار-مشهد، قزوين، تبريز، همذان قال تافرنييه: "كثيراً ما تنكر الشاه وجاب أنحاء أصفهان، كأي مواطن عادي، مدعياً أنه يبيع ويشتري. وكل همه أن يكشف عن التجار المطففين الذين يستخدمون موازين ومقاييس زائفة...فرأى اثنين مجرمين منهم، فأمر بدفنهما أحياء،(28) تلك هي الطرقة الشرقية لغرض احترام القانون وتدعيمه وعند قصور الأشراف الراقية والشرطة، يكون الهدف من صرامة العقوبة كبح جماح النزعة الطبيعية في الإنسان إلى التحلل من القانون أو خرقه. وربما كانت الحياة الحافلة بالحروب هي التي جنحت بالشاه عباس إلى اللجوء إلى هذه القسوة أداة لكبح جماح الناس أو للانتقام. فقتل أبنائه وسمل عيني آخر(29). ومع ذلك فإن هذا الرجل نفسه نظم الشعر، وقام بكثير من أعمال البر والإحسان، ورعى كثيراً من الفنون.
وبموت الشاه عباس (1629) انقضى العصر الذي بلغ فيه الحكم والفن وفي ظل الأسرة الصفوية ذروة المجد. ولكن النظام الذي أرسى دعائمه نشاطه المتصل في كل الميادين، ظل سائداً قرابة قرن من الزمان بعده. وعلى الرغم من تعاقب عدد من الملوك الضعاف احتفظت الأسرة الصفوية بالعرش حتى دهمها غزو الأفغان المفاجئ العنيف لبلاد الفرس (1722-1730) وعلى الرغم من فترة الانحلال السياسي هذه، ظل فن الصفويين محتفظاً بمكانته بين أعظم نتاج لذوق الإنسان ومهارته.
فارس تحت حكم الأسرة الصفوية 1576-1722
والآن نلقي بنظرة على عهد الصفويين، من وفاة طهماسب الأول (1576)، حتى نهايته (1722)، لأن هذا تطور ثقافي لا يمكن اقتطاعه، تمشياً مع تسلسل الأحداث في أوربا. لقد ترك لنا كثير من السائحين الغربيين بيانات مشرقة عن هذا العصر في فارس. منهم بدور تكسييرا الذي كان هناك 1600 والأب الجزويتي كيوتسنسكي الذي أقام في أصفهان من 1702-1722 وكتب "تاريخ الثورة في فارس" وهو يتناول الأسرة الصفوية بأسرها؛ وجان تافرنييه الذي وصف بالتفصيل رحلاته (1631-1668) في تركيا وفارس والهند وجزر الهند الشرقية، وجان شردان الذي دون في عشرة مجلدات أنباء إقامته في فارس (1664-1677) فإنه على الرغم مما لاقاه من ريح السموم بالقرب من الخليج، وقع في غرام فارس؛ وآثر أصفهان على باريس وقت الصيف، ووجد في جو أصفهان من "الروعة والجمال" ما جعله يقول "أنا نفسي لا أستطيع أن أنساها أو أمسك عن ذكراها لكل إنسان". وقال أن سماء فارس الصافية كان لها أثرها على الفن الفارسي، فأضفت عليه بهاء ورواء ولوناً براقاً. كما كان لها أثرها الطيب على أجسام الفرس وعقولهم(30) واعتقد أن الفرس أفادوا من اختلاطهم بأهل جورجيا والقوقاز الذين أعتبرهم أجمل وأشجع أهل الأرض-ولكنهم لا يضارعون الجياد الفارسية في رشاقتها وجمالها(31).
ولكن هذه البلاد كانت يوما جنة عدن، ومقر الخلفاء الذين ازدانوا بالجواهر الثمينة، والشعراء الذين نظموا أعذب الشعر، دمرتها غارات المغول وتمزق الحكومة، وإهمال الترع وهي شرايين الحياة، وامتلاؤها بالطمي، وتحول طرق التجارة، فإن اكتشاف طريق مائي في كل أجزاء من غرب أوربا إلى الهند والصين قد أصاب تجارة فارس بالكساد. على أن بعض التجار انتقل عبر الأنهار إلى الخليج. وفي 1515 استولى البرتغاليون على هرمز وهي أهم الثغور على الخليج، وظلوا فيها لمدة قرن. وفي 1622 طردهم منها جيش الشاه عباس بمعونة سفن شركة الهند الشرقية الإنجليزية، وبنى الشاه بالقرب منها مرفأً تجارياً هو بندر عباس (ثغر عباس)، فساعدت التجارة التي نمت فيه على تمويل الفن والبذخ في عهده. وظلت القوافل تسير من الغرب إلى الشرق عبر فارس، وخلقت شيئاً من الثراء في المدن الواقعة على طريقها، ووصف تكسسيرا حلب بأنها مدينة تضم 26 ألف بيت، كثير منها مبني من الحجر المصقول، وبعضها يليق لسكنى الأمراء، كما تظم المسلمين والمسيحيين واليهود جنباً إلى جنب، كما كان بها حمامات عامة نظيفة جميلة، وعدة شوارع مرصوفة بالبلاط المصنوع من الرخام(32).
ولم تكن الصناعة قد تجاوزت بعد طور الصناعات اليدوية-صناعة العصور الوسطى التي تتسم بالمثابرة على بذل الجهد والتذوق الرفيع مع الأناة والبطء-ولكن كان في حلب مصنع للحرير، وكان التبغ يزرع في كل مكان ويقول شاردان أنه كان للفرس طريقة في ترشيح التبغ، فكان الدخان يمر بالماء، ومن ثم "ينقى التبغ من كل العناصر الزيتية والضارة(33)" وأصبح التدخين ضرورة ملحة لدى الفرس، "فكانوا يغفلون الطعام ولا يغفلون النرجيلة(34)" وكان الشاه على النقيض من ذلك، فكره عادة التدخين، وحاول أن يشفي منها رجال حاميته بحيلة، فأتى بروث الخيل وجففه، ووضعه بدلاً من التبغ في الأواني التي يملأون منها الأراجيل، وأوضح لهم أن هذا تبغ غالي الثمن أهداه همذان، فدخنوه، وبالغوا في امتداحه. وأقسم أحد الضيوف أن له رائحة تعدل عبير ألف من الزهور، فصاح الشاه "بئس هذا العقار، أنه لا يمكن التمييز بينه وبين روث الخيل(35)".
وكان أي رجل وهبه الله المقدرة والكياسة يستطيع أن يحتل مكاناً في حاشية الشاه، فلم يكن هناك اعتبار لأرستقراطية المولد، أو الحسب والنسب(36). فثياب الجنسين من كل الطبقات كانت في أساسها واحدة. رداء يصل إلى الركبتين، ذو أكمام ضيقة، وحزام عريض (مصنوع أحياناً من الحرير الموشى بالزهور) حول الخصر، وقميص من القطن أو الحرير تحت الرداء، وسروال مضموم عند رسغ القدمين، وعمامة تتوج هذا كله. وكتب تافرنييه:
"كانت الملابس النسائية ثمينة، وفيما عدا هذا لا يفترقن عن الرجال في شيء كثير، فارتدين السراويل مثلهم"(37). وأقمن في عزلة في الحريم، وقلما غادرن البيت، فإذا فعلن فنادراً ما سرن على الأقدام. وكان ثمة ثلاثة أجناس، فكان الرجال يوجهون كثيراً من شعر الغزل إلى الغلمان. ورأى توماس هربرت، وهو إنجليزي في بلاط الشاه عباس-"سقاة من الغلمان في صدرات من الذهب، وعمامات مزدانة باللمع (الترتر)، وأخفاف فاخرة، تتدلى خصلات الشعر على أكتافهم، عيونهم يقظة تحوم في كل زاوية، ووجناتهم متوردة"(38). ولحظ شاردان نقصاً في السكان في زمانه، ونسبه إلى:
أولاً: النزعة النكراء لدى الفرس إلى إتيان الفعلة البغيضة، ضد الطبيعة مع الجنسين كليهما.
ثانياً: الترف المفرط (الحرية الجنسية) السائد في البلاد، فالنساء هناك يبدأن الحمل في سن مبكرة، ويستمر الإنجاب لفترة قصيرة، وما أن يجاوز سن الثلاثين حتى ينظر إليهن على أنهن عجائز تقدمت بهن السن. ومن ثم يسرع الرجال إلى التردد على النساء في معية الصبا والشباب، في إفراط شديد، وعلى الرغم من أنهم يستمتعون بعدد كبير من النساء، فإنهم لا ينجبون منهم مزيداً من الأطفال قط. وهناك كذلك نساء كثيرات جداً يعمدن إلى الإجهاض، ويلجأن إلى مختلف أنواع العلاج ضد الحمل، لأنهن إذا بلغن الشهر الثالث أو الرابع من الحمل، ينصرف عنهن أزواجهن إلى نساء أخريات حيث يرون أنه ينافي اللياقة أن يقربوا امرأة تقدمت بها أيام الحمل إلى هذا الحد.
وكان هناك، على الرغم من تعدد الزوجات، عاهرات أو بغايا كثيرة وانتشر شرب الخمر انتشاراً واسعاً، رغم تحريم الإسلام للخمر. وكثرت المقاهي واشتق اللفظ الأوربي من نظيره العربي "قهوة". وكانت النظافة أكثر شيوعاً في المظهر منها في الحديث. وكانت الحمامات-منتشرة، وكانت أحياناً مزخرفة بشكل جميل. ولكن كثر هناك الابتذال والفحش. وقال عنهم تافرنييه "أنهم مخادعون مراءون كبار". ويقول شاردن أنهم اعتادوا كثيراً على الغش، ولكنه يضيف أنهم ألطف الناس في الدنيا، متسامحون كرام، أساليبهم جذابة غاية الجاذبية، وطباعهم لينة غاية اللين، وحديثهم ناعم غاية النعومة...وهم في مجموعهم أكثر الشعوب تمدناً في الشرق وكانوا مولعين بالموسيقى وكان شعراؤهم، في العادة يغنون-القصائد التي ينظمونها.
ويمكن أن نحكم على تفوق الشعراء الفارسيين من مبلغ شعبيتهم وحظوتهم في بلاط المغول في دلهي، ولكن لم يتهيأ لأحد منهم في تلك الحقبة مترجم مثل فنز جرالد لينقل إلى أسماع الغرب قصيدهم. وإنا لنعلم أن (عرفي الشيرازي) كان على رأس الشعراء في القرن السادس عشر. وكان يرى أنه أعلى مكانة من (سعدي) على الأقل، ولكن من منا، نحن المحليين في تفكيرنا واهتماماتنا سمع عنه؟. وكان شعره أحب إلى الناس من شخصه، كما نستلخص من (الأصدقاء) الذين جاءوا ليستمتعوا بعلته القتالة.
لقد انحطت قواي إلى هذا الحد، ووقف أصدقائي الفصحاء كالمنابر حول فراشي ووسادتي. واحد منهم يداعب لحيته بيده، وينصب رقبته ويقول. (وا أبتاه)، لمن دامت الدنيا؟ (سبحان من له الدوام).
جدير بالإنسان ألا يتعلق قلبه بالمراتب الزائفة والثروة الزائلة. أين إمبراطور جمشيد وأين الإسكندر؟. ثم يأتي آخر، ويمسح بأكمامه عينيه المبللتين بالدموع، ويقول في صوت رقيق ولفظ حزين: "أيتها الحياة كلنا يسير على هذا الطريق لنرحل عن هذه الدنيا. كلنا مسافرون نعبر عليه، ويمضي بنا الزمن".
وآخر ينمق كلامه بألفاظ أرق فيقول: استجمع قواك، وهون عليك فإني، لهدف واحد، سوف أجمع أشعارك ونثرك وبعد نسخها وتصحيحها، أقدمها عقوداً من الدر تعزز من شأنك وترفع من قدرك..فلعل الله يمن عليَّ بالشفاء فأسترد عافيتي. ولسوف ترى كيف أصب جام غضبي على رؤوس هؤلاء المنافقين التعساء.
وكان منافس "عرفي" في الشعر هو "صائب الأصفهاني" الذي أخذ بسنة الهجرة إلى دلهي، كما هاجر الفنانون الفرنسيون والفلمنكيون في ذاك العصر إلى روما. ولكنه عاد بعد عامين إلى أصفهان، وأصبح شاعر البلاط لدى الشاه عباس الثاني (1632-1666)، وكان ينحو قليلاً نحو الفلسفة، فنظم أبياتاً تفيض بالحكمة:
أن الحديث عن الكفر والإيمان كليهما يؤدي في النهاية إلى نفس المكان والحلم هو الحلم، ولكن المفسرين هم الذين يختلفون...وإن العلاج الوحيد لهذه الدنيا التي لا تقتسم أمورها، هو إغفالها وتجاهلها، فإن اليقظ فيها هو الذي يستغرق في سبات عميق. وأن الموج ليجهل الطبيعة الحقة للبحر. وكيف يدرك الفاني العابر حقيقة الخالد الباقي، أن أشد ما يقض مضجعي حول يوم البعث هو إنه لزام علينا أن نرى ثانية وجوه البشر.
وإذا فاتنا أن ننعم بموسيقى الشعر الفارسي، ففي مقدورنا أن نستمتع بفن فارس ففي الفن. حديث يمكن استيعابه وفهمه، فإن البراعة والأناقة والذوق، أي كل ما تشكل في فارس على مدى ألفي سنة. وأينع وأتى أكله الآن في العمارة والخزف والتذهيب والخط وحفر الخشب وأشغال المعادن والنسيج والأقمشة المزركشة والسجاد، وكل أولئك روائع تزدان بها متاحف العالم اليوم. وقد علمنا من قبل أن أحسن عمارة هذا العصر شيدت في عهد الشاه عباس الأول في أصفهان. وهناك بنى عباس الثاني (مسجد الأشرف (1642)، وهناك في غروب شمس الصفويين شاد الشاه حسين (مدرسة أم الشاه) التي قال عنها لورد كيرزون أنها من أفخم أطلال فارس، وثمة مدن أخرى كانت تفاخر بمنشآت جديدة: مثل مدرسة الخان في شيراز، والضريح الضخم لخوجة ربيع في مشهد، والمقبرة المخربة الآن، ولو أنها لا تزال جميلة، وهي مقبرة (قدم جاه) في نيسابور، والجامع الأزرق في يريفان.
وأسس الشاه عباس في أصفهان أكاديمية للرسم، كان مطلوباً من الطلبة فيها-كجزء من برنامجهم، وأن ينسخوا أشهر المنمنمات حيث يغلب جمال التصميم ودقة الرسم على الموضوعات والأشخاص. والآن، وواضح أنه نتيجة لأثر أوربا، استباح الرسامون العلمانيون التحول عن التقليد الإسلامي، برسم منمنمات يبرز فيها إنسان على أنه الفكرة الرئيسية والتسلسل هنا قلب الطراز الإيطالي رأساً على عقب. ففي الرسم في عهد النهضة أهملت المناظر الطبيعية أول الأمر، ثم أصبحت خلفية ثانوية، (وربما باضمحلال النزعة الفردية في ظل الإصلاح المضاد) طغت على الأشخاص. ولكن في التصوير الإسلامي كانت رسوم الأشخاص مستبعدة أول الأمر، ثم أبيحت على أنها شيء ثانوي عارض، وفي المراحل المتأخرة فقط (ربما بنمو النزعة الفردية نتيجة للثروة) طغت رسوم الأشخاص وبرزت في الرسم. ومثل هذا في "مدرب الياز"(46): رجل عظيم يرتدي ثوباً أخضر يعبث بطائر على معصمه مع خليفة أقل بروزا من زهور ذهبية اللون. وفي "شاعر يجلس في الحديقة(47) تكشف كل التفاصيل عن الرشاقة الفارسية المتميزة، وثمة ابتداع آخر في الرسوم الحائطية، التي رأينا مثالاً لها في "شهيل سوتون". ولكن الأساتذة العظام تخصصوا في زخرفة القرآن الكريم، أو تذهيب الآثار الأدبية القديمة مثل الشاهنامة للفردوسي، أو جولستان لسعدي، التي ذهبها "مولانا حسن" البغدادي بماء الذهب.
وتفوق في الرسم في هذه الفترة الصفوية الثانية، رضا العباسي، الذي أضاف اسم الشاه إلى اسمه تقديراً واعترافاً بالرعاية الملكية. وفاقت شهرته شهرة بهزاد لمدة جيل. وتدهور بعده الفن، فإن حساسية الفن وصفاء الرسم أو دقته، انتهينا إلى إفراط مخنث. وفي نفس الوقت فإن الطراز الفارسي الذي تأثر بالفن الصيني، أثر بدوره في رسم المنمنمات في بلاط المغول، بل حتى في عمارتهم. وذهب حروسيه إلى أن "تاج محل" لم يكن إلا فصلاً جديداً في فن أصفهان(48).
وظل الخط فنا رئيسياً في فارس. وكاد مير عماد لنسخه الدقيق للمخطوطات القديمة، أن يظفر بمثل الحب الذي حظي به لدى الشاه عباس رضا العباسي من أجل منمنماته. وكانت الكتب موضع إعزازا وحب لشكلها قدر ما هي لمحتوياتها. فالتجليد الرائع يبهج العينين واليدين كما تفعل الزهرية الرقيقة ووقع الفنانون تجليدات الكتب بمثل الفخر الذي وقعوا به الصور، فنقش على جلدة كتاب مذهبة من أوائل القرن السابع عشر، "من صنع محمد صالح التبريزي"(49). وثمة غلاف آخر مصنوع من الورق المعجن، وعليه رسوم "بورنيش الملك"، موقع عليه باسم على الرضا. ومؤرخة في 1713(50) وكلاهما جميل إلى حد مغر.
إن التربيعات المحلاة بالرسوم في المدن الفارسية لتبهر الأنظار، بعد القباب أو عليها، إن طول عمرها ليثير الدهشة من فن صناعة الخزف، الذي يهيئ طول البقاء لمثل هذا البريق. وإطالة عمر اللون بتزجيجه بالنار كانت من المهارات القديمة في فارس. لقد كانت التربيعات المزججة في سوسة عاصمة دارا الأول ملك الفرس (400 ق.م.) فريدة من نوعها بالفعل. وكانت سبائك الذهب والفضة والنحاس وسائر المعادن تصهر لتخرج ألواناً أكثر لمعاناً، وخاصة الأحمر الياقوتي والأزرق الفيروزي، وكانت مضاعفة الإحراق تزيد من صلابة الصلصال والتزجيج ليقاوم فعل الزمن. ويحتمل أن يكون الأرمن قد استخدموا الخزافين الفرس لصنع التربيعات في كنيستهم المسيحية في جولفا وهي تبلغ في دقتها دقة المنمنمات. وربما كان أجمل منها، التربيعات المحلاة بالرسوم في مجموعة كوركيان، المنسوبة إلى أصفهان في النصف الثاني من القرن السابع عشر(51).
واستمر الخزافون في أصفهان وكاشان وغيرهما، يبدعون أشكالاً من الخزف-القاني والزيديات والأباريق والأطباق والفناجين، مطلية تحت التزجيج بألوان مختلفة على أرضيات متنوعة. وأصبح الخزف المزخرف الفسيفساء مادة أثيرة لتغطية الجدران في المساجد والقصور. واستورد الشاه عباس الخزف الصيني، وحاول خزافوه أن ينسخوه طبق الأصل، ولكن أعوزتهم الطينة والمهارة. ومرة أخرى بفضل استحثاث الحاكم وتشجيعه بذلت المحاولات في أصفهان وشيراز لمنافسة زجاج البندقية. وتفوق صناع الأشغال المعدنية في نقش النحاس وتطعيمه، وثمة نموذج جميل منها يرجع إلى 1579 شمعدان موجود في متحف متروبوليتان للفن، وفي الارمتياج في لننجراد غمد سيف من الذهب مرصع بقطع كبيرة من الزمرد دقيقة الصنع.
وكانت صناعة النسيج صناعة رئيسية وفناً. وشغل الرسامون والنساجون والصباغون حيزا كبيراً في أصفهان. وكانوا يعدون بالآلاف. وكان إنتاجهم هو السلعة الرئيسية في تجارة الصادرات. كما أنه أكسب فارس شهرة عالمية في أقمشة الأطلس والمخمل والتفتة والمطرزات والحرائر. وكان الشاه عباس كلما أراد أن يقدم هدية خاصة ثمينة، اختار بعض التحف من إنتاج الأنوال الفارسية. ويقول شاردان "أن الثياب التي أهداها بهذه الطريقة لا حصر لها"(52) والثياب التي يرتديها الشاه ورجال حاشيته من الحرير والأقمشة المقصبة والمطرزة كانت رائعة الجمال إلى حد ذهب معه شاردان إلى أنها لا مثيل لها في ملابس أي بلاط في أوربا. وكتب يقول "إن فن الصباغة أدخل عليه في فارس تحسين أكثر منه في أوربا، فكانت الألوان أكثر ثباتاً ولمعاناً، ولا تحول بسرعة"(53). ولم يكن لمخمل كاشان نظير في أي مكان آخر. ولا تزال بعض قطع منه من أروع المعروضات في متاحف بوسطن ونيويورك وسان فرانسيسكو وواشنطن. ومن بين التحف التي استولت عليها القوات المسيحية بعد ارتداد الأتراك عن فيينا بساط من المخمل الحريري المقصب، من الواضح أنه صنع في أصفهان في عهد الشاه عباس(45).
وبلغ النسيج الفارسي ذروته في التصميم وصنع الجلد، وشهد عصر الشاه عباس غاية مجد هذا الفن في فارس. وكاد السجاد أن يكون ضرورياً للفارسي قدر حاجته إلى الملابس، وقال توماس هربرت في القرن السابع عشر: "كان في بيوت الفرس قليل من الأثاث والأدوات المنزلية، اللهم إلا السجاجيد وبعض أشغال النحاس...وكانوا يتناولون الطعام وهم متربعون على السجاد على الأرض، مثل حائكي الملابس. وليس ثمة إنسان مهما قل شأنه إلا جلس على سجادة ثمينة أو غير ثمينة. وكل الدار أو الحجرة...مغطاة بالسجاد(55) وساد آنذاك اللون القرمزي القاتم أو الأحمر الخمري الداكن، ولكن التصميم أو الرسم كان هادئاً مريحاً للنظر، بغية إحداث التوازن بين هذه الوفرة التي تزخر بها السجادة، ولو أنها صممت لإبراز موضوع رئيسي بمنطق مقبول. وقد يكون هذا التصميم هندسياً، وهنا تكون متنوعات لا حصر لها، تضفي على إقليدس جمالاً وبهاء. وكثيراً ما قام التصميم على الأزهار، وهنا تستمتع العين بتشكيلة غنية من الأزهار، ولكنها منسقة تنسيقاً جميلاً، تمثل النتاج المحبب إلى الناس في حدائقهم: أزهار مصفوفة في أصص، أو منثورة هنا وهناك، أو أزهار يصورها الخيال ولا تراها العين، مع زخارف عربية تنساب هنا وهناك في رشاقة وروية. وفي بعض الأحيان كانت الحديقة نفسها تزود بالتصميم: الأشجار والشجيرات والمزاهر، والمياه الجارية، رتبت كلها في شكل هندسي، وقد يتركز التصميم حول رسم كبير نافر تتدلى منه نتوءات في كل الأطراف، وقد يعرض الزخارف الحيوانية أو مناظر الصيد. ويأتي بعد ذلك الجهد المضني والصبر الطويل: مد الخيوط طولاً في اللحمة على النوال ونسجها مع خيوط السداة العرضية، وحياكة عقد صغيرة من الصوف أو الحرير الملون في اللحمة، لتلوين "الوبر" والرسم، وقد يكون في البوصة المربعة 1200 عقدة، أو 90 مليوناً من العقد في سجادة مساحتها 23 قدماً مربعاً(56). ويبدو أن العبودية قد نسجت هذا الفن أو ارتبطت به، ولكن العامل كان يتيه عجباً بدقة وجمال ما أخرجت يداه، محولاً هذه التشكيلة العجيبة من المواد إلى كل منتظم متناسق متسلسل الأجزاء. وكان هذا السجاد يصنع في اثني عشر مركزاً في فارس وأفغانستان والقوقاز ليضفي رواء وبهاء على القصور والمساجد والبيوت، أو ليقدم هدايا ثمينة إلى الملوك والأصدقاء.
ومر السجاد الفارسي والتذهيب الفارسي بتطورات مشابهة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتأثراً "بأشرطة السحاب" وغيرها من الرسوم من الصين. وكان لهما بدورهما أثر على الفنون في تركيا والهند. وبلغا ذروة التفوق والامتياز على عهد الصفويين وما أن جاء عام 1790 حتى أنتج السجاد الفارسي على أساس الكم، فتسرعوا في تصميمه ونسجه لسوق أوسع وأقل إلحاحاً على البراعة والإتقان، وبخاصة السوق الأوربية. ومهما يكن من أمر، فإنه حتى في هذه الحقبة، كانت هناك قطع نادرة فريدة، لا نظير لها من حيث النسيج واللون والرسم في أي مكان آخر في العالم.
وهكذا كانت فارس، وهكذا كان الإسلام في آخر ازدهار لسلطانهما وفنهما-حضارة تختلف اختلافاً عميقاً عن حضارتنا في الغرب، وفي بعض الأحيان معادية عداء مقروناً بالازدراء، تدمغنا بأننا مشركون ماديون، وتسخر من أخذنا بنظام الزوجة الواحدة وهو أشبه ما يكون بنظام الأمومة، وأحياناً انقضت علينا تقتحم أبوابنا كالسيل الجارف، وما كان ينتظر منا أن نتفهمها أو نعجب بفنها حين كان الجدل شديداً بين المسلم والمسيحي، ولم يكن قد ثار بعد بين دارون والمسيح، ولم تنته المنافسة بين الثقافتين بعد، ولكنها في الكثير الغالب توقفت عن سفك الدماء، ولكل منهما مطلق الحرية في الامتزاج بالأخرى عن طريق التأثير المتبادل، فالشرق يأخذ عنا صناعاتنا وأسلحتنا، ويصبح غربياً. ولقي الغرب نصباً من الثراء والحرب، وبات يلتمس شيئاً من هدوء البال وطمأنينة النفس. وربما ساعدنا نحن الشرق على التخفيف من الفقر والخرافة، وأعننا الشرق على التواضع في الفلسفة والتهذيب في الفنون. فالشرق غرب، والغرب شرق، ولا بد عاجلاً أن يلتقي الاثنان.