قصة الحضارة - ول ديورانت - م 7 ك 2 ف 18

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 10090

قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على السلطة -> من روينز إلى رمبرانت -> الفلمنكيون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثامن عشر: من روبنز إلى رمبرانت 1555 - 1660

1- الفلمنكيون

أنه لما يثير الدهشة أنه في قطعة صغيرة من أوربا، مثل الأراضي الوطيئة نشأت ثقافتان متضادتان مثل الفلمنكية والهولندية، وعقيدتان متنافرتان مثل الكاثوليكية والكلفنية، وفنانان مختلفان كل الاختلاف في المزاج والأسلوب مثل روبنز ورمبرانت، وفانديك وهالس. ولا نستطيع أن نفسر التباين باختلاف اللغة لأن نصف الفلاندرز ، مثل كل المقاطعات المتحدة، تحدثوا اللغة الهولندية. وربما نبع بعض التباين من اقتراب هولندة من ألمانيا البروتستانتية واقتراب الفلاندرز من فرنسا الكاثوليكية. وربما ينجم من الاختلاف من ارتباط أسبانيا الكاثوليكية الملكية الأرستقراطية ارتباطاً وثيقاً ببروكسل وأنتورب. وورث إقليم الفلاندرز ديانة العصور الوسطى وفنها وأساليبها، على حين كانت هولندة أفقر، حتى هذا الوقت، من أن تكون لها ثقافة خاصة بها. ويمكن أن تكون الشمس المشرقة في المقاطعات الجنوبية قد نزعت بأهلها إلى حياة شهوانية غير متمسكة بقواعد الأخلاق، على حين أن الغيوم والمصاعب في الشمال شجعت أهله على اعتناق عقيدة صارمة رواقية رزينة. أو على الأرجح، أن الجيوش الأسبانية انتصرت في الجنوب، واندحرت في الشمال نتيجة الأنهار المعترضة والثورة الهولندية؟

لابد أن أنتورب كانت جميلة عندما أكتمل صرح كاتدرائيتها بأبراجها وواجهاتها وفنها الزخرفي، على حين على حين على مقربة منها ضجت البورصة بكل حيوية التجارة وحيلها، ورقصت المياه بكل سفن العالم. ولكن الحرب اندلعت بعد ذلك، فإن ضراوة دوق ألفا ومحاكم التفتيش أخرجت الصناع الهرة والتجار البروتستانت إلى هولندة ألمانيا وإنجلترا، وصرامة الكلفنية أتلفت الكنائس، وعنف الأسبان نهب البيوت وأحرق القصور، كما أن ضراوة فرنسا أفرغت عجزها في الدماء، والحصار الذي ضربه فانز لمدة أربعة عشر شهراً أمات الكاثوليك والبروتستانت جوعاً على حد سواء. وأخيراً انضم الكاثوليك إلى البروتستانت في الخروج من المدينة، وانتقلت تجارة أنتورب إلى أمستردام وروتردام وهارلم وهمبرج ولندن وروان.

ولكن وحشية الإنسان متقطعة، وسهلة التكيف عنده باقية. وقد يكون لنا بعض السلوى في أن نتبع كيف أن بعض الأمم والمدن استطاعت بسرعة أن تنهض من دمار الحرب ووبالاتها. وتلك كانت حال الفلاندرز بعد 1579. بقيت صناعة النسيج، وظل الطلب كبيراً على المخرمات الفلمنكية، وظلت الأمطار يحي الأرض وأضفى كدح الناس البهاء والفخامة على الحاشية. واستمتعت أنتورب وبروكسل، تحت حكم الأدواق الذين أحبوا حياة الترف ولكن مع روح إنسانية، ببعث ونشور جديرين بالذكر. وعادت الفلاندرز إلى كاتدرائياتها وأعيادها الدينية ومهرجاناتها الوثنية. وربما بالغ روبنز في هذا في "مهرجان اللوفر العاصف" ولكن استمع أيها القارئ إلى تقرير الكاردينال أنفانت فرديناند، من أنتورب إلى فيليب الرابع 1639: "أقاموا بالأمس احتفالهم الكبير...أنتقل موكب طويل إلى الريف مع عربات كثيرة تحف بها مظاهر النصر. وبعد العرض هرع الناس إلى الطعام والشراب، حتى شمل الجميع آخر الأمر، وبدون هذا لا يعتبرون أنه احتفال أو عيد(1)، بل أن الكاردينال نفسه عندما قدم من أسبانيا إلى بروكسل (1635) استقبلوه بالمهرجانات التي دامت لعدة أيام، وسط زخارف فخمة صممها روبنز نفسه. ووصف زائر إيطالي مدن الفلاندرز قبل الثورة بأنها "سلسلة لا تنقطع من الاجتماعات البهيجة والأعراس وحلبات الرقص، مع أنغام الموسيقى والأغاني المرحة في الشوارع(2)"، ولم تستلم كل هذه الروح للحرب. فإن الألعاب التي صورها بروجل كانت لا تزال تقام في الشوارع، واستمعت الكنائس مرة أخرى للقداسات المتعددة النغمات والأصوات التي كانت قد جعلت المنشدين الفلمنكيين، يوماً، مرغوباً فيهم في كل البلاد. ودخلت الفلاندرز أبهى عصورها.


2- الفن الفلمنكي

تضافرت الحاشية والكنيسة، والنبلاء وأبناء الشعب في البذل من أجل إحياء الفن الفلمنكي، ورعى البرت وإيزابل وشجعا كثيراً من الفنانين، إلى جانب روبنز. وكانت أنتورب لفترة من الزمن مركز الفن في أوربا، واستعاد قماش بروكسل المزركش (النسيج المطرز بالكانفاه) امتيازه وتفوقه، مستعيناً برسوم روبنز البطولية. وكان صانعو الزجاج البنادقة قد جلبوا فنهم إلى الأراضي الوطنية في 1541، وأنتج الصناع المهرة المحليون منه الآن قطعاً هشة آية في الإعجاز، كان بعضها محل إعزاز وإعجاب إلى حد أنها غالبت قروناً من الفتنة والشغب فغلبتها، وأبدع صناع المعادن أعاجيب من نسج أفكارهم وأيديهم، مثل الآنية المعدنية الفاخرة التي تحفظ فيها الذخائر الدينية، التي يمكن أن توجد في الكنائس الكاثوليكية في بلجيكا، وألحت الأرستقراطية التجارية في طلب القطع الفنية: وجلسوا أمام المصورون، وشيدوا قصوراً فخمة، ودوراً للبلدية، لمثل تلك التي شادها كرنيلي دي فرندت تمجيداً لأنتورب (1561-1565) قبل العاصفة. ولما جرد المتعصب الذميم الكنائس من آيات الفن، بات هؤلاء التجار الأرستقراطيون يشدون من أزر المراسم ويرعونها في لهفة وحماس، يلحون في طلب التماثيل واللوحات ليصوروا العقيدة للشعب.

ولم يزدهر فن النحت هنا، لأن فرنسوا دوكيسنوى، ابن بروكسل، أنجز معظم أعماله في رومة حيث نحت تمثالاً ضخماً لسانت أندروز بداخل كنيسة القديس بطرس، وإن نفراً قليلاً من السائحين الذين يحرصون على رؤية "أقدم مواطني بروكسل"، نافورة مانكن بس Manneken Pis (1619)-تمثال برونزي لصبي يزيد في مياه المدينة من موارده الخاصة-يعملون أن هذا هو أبقى روائع دوكيسنوي على الزمن. أما المصورون الفلمنكيون فإنهم يجلون عن الحصر، وواضح أن كل بيت في الأراضي الوطيئة كان عليه أن يقتني لوحة أصلية، وأنكب ألف فنان في مائة مرسم على تصوير الأشخاص والمناظر الطبيعية والحيوانات والمؤن والأساطير والعائلات المقدسة وصلب المسيح، أما إسهامهم المتميز في تاريخ الفن فهو صور جماعية للهيئات البلدية، وصور تمثل الحياة المنزلية أو القروية وتأثير هؤلاء الفنانون في أول الأمر بالطرز الإيطالية، فقد أبحرت السفن الإيطالية كل يوم إلى أنتورب، وافتتح التجار الإيطاليون متاجر لهم فيها. وجاء الفنانون الإيطاليون ليهزأوا ويسخروا فأقاموا ليرسموا، وقصد كثير من الرسامين الفلمنكيين إلى إيطاليا للدراسة، واستقر المقام ببعضهم هناك، ومن هؤلاء جوستوس سوستر مانزا أحد أبناء أنتورب، الذي أصبح مصوراً للأشخاص، مقر باوذا حظوة لدى أدواق تسكانيا العظام، وأن بعضاً من أجمل اللوحات في قصر بتي هي ريشة هذا الفلمنكي المفعم بالحيوية، وعاد فرانس فلوريس من دراسته مع ميكلأ نجلو في روما، وأطلق على نفسه بصراحة أنه "روماني" واستساغ التشريح وأخضع اللون للخط، وظل مرسمه في أنتورب لمدة جيل (1547-1570) كعبة للتصوير الفلمنكي وذروته، وقد يكون جديراً أن نزور كلين لنري في متحفها لوحته الرائعة الضخمة "زوجة صياد الباز" وعاش فرانس في بحبوحة من العيش. وشاد لنفسه قصراً، وأسرف في العطاء وفي الشراب، وبات فقيراً، وكان كورنلس دي فوز أقدر أفراد أسرة كبيرة من المصورين، وعندما كان يتزاحم ذوي المكانة أمام روبنز ليصورهم كان يرسل بعضهم إلى فوز، مؤكداً لهم أنهم سيظفرون منه بمثل ما يرجون من روبنز نفسه، ولا يزال في مقدورنا أن نشاهد لوحة تمثيل كورنلس وزوجته وابنتين لهما؛ معلقة في متحف بروكسل.

وذبلت الفتنة الإيطالية حوالي نهاية القرن السادس عشر، واستأنف الفنانون الفلمنكيون موضوعاتهم وأساليبهم المحلية. وعاد دافيد تنيبر الأكبر إلى أنتورب. برغم أنه درس في روما ليرسم "المطبخ الهولندي" و"مهرجان القرية(3)"، ثم عاد ابنه حتى تفوق عليه، وشكل سليل العجوز درول بيزانت بيتر بروجل أسرة من المصورين توفرت على تصوير المناظر الطبيعية المحلية والمشاهد الريفية، ومنها ولداه بيتر بروجل "الجحيم" وجان بروجل "المخمل"، وحفيداه جان الثاني وأمبروز، وحفيده أبراهام، وحفيده الأكبر جان بابتس بروجل، وقد امتد بالأسرة العمر قرابة قرنين من الزمان (1525-1719)، ولنوضح سجل أعمالهم هنا نقول بأنهم ورثوا عن سلفهم العظيم النزعة إلى المشاهد الريفية والمهرجانات القروية،ورسم بعضهم خلفيات مناظر طبيعية لروبنز المثقل بالممل.

وأخرج فنانو الأراضي الوطيئة الفن من الكنيسة والدير إلى البيوت والحقول والغابات ورسم دانيل سيجرن الأزهار والفاكهة في تفصيل محبب إلى النفس، وخص العذراء بأكاليله المصورة، وأنضم إلى الجزويت، وبعث فرانس ستيدرز الحياة والتعبير في جوانب العديد من المتاحف بمناظر الصيد المثيرة، والمفزعة أحياناً، وبالكثير من أطباق لحم الطرائد والفاكهة، ولا يزال، كما وصفه روبنز، أعظم مصوري الحيوان. لم ينافسه أحد في روعة تظليل فراء الحيوان أو ريش الطير.

وعاد أدريان بروور Brouwr إلى فلاحي بروجل، فأبدعت فرشاته تصويرهم وهم يأكلون، ويشربون، ويغنون، ويرقصون، ويلعبون الورق، والنرد، ويقاتلون أو يعربدون في احتفال صاخب، أو يغطون في النوم. ومر أدريان نفسه بأطوار كثيرة في حياته التي لم تتعد اثنين وثلاثين عاماً، فإنه درس مع هالس لفترة وجيزة؛ وفي سن الواحدة والعشرين أصبح أستاذاً مسجلاً في نقابة الرسامين في أنتورب، وكان ينفق أكثر مما يحتمل دخله، وسرعان ما غرق في الديون، وأودعه الأسبان السجن لأسباب غير معروفة الآن، ولكنه كان يحيا فيه مترفه، ثم استرد حريته وسدد ديونه بفضل صور صغيرة، زاخرة بالحياة ممتازة فنياً من ناحية الرسم الحسي وحركة الضوء الرقيقة، إلى حد أن روننز ابتاع منها سبعة عشرة رسماً، ورميرانت ثمانية، ولا يبدو فلاحوه سعداء قط إلا إذا ثملوا بالنبع القوي أو الخمور الرخيصة، على أن بروور آثر فلاحاً يغني مع كأسه على أمير منافق يرفل في الحرير، وفي سن الثانية والثلاثين عثر عليه وقد فارق الحياة خارج باب إحدى الحانات. وكان جاكوب جوردانز أكثر وقاراً واتزاناً، نقش في إحدى لوحاته "تحذيراً للظمأ": "إن أشبه شيء بالجنون هو الخمور". واختار أن يرسم رجالاً يستطيعون احتساء الخمر دون هذيان أو خبل، ونساء يرفلن في حفيف الحرير في إجلال وعظمة. ولد جاكوب في 1593 وعمر حتى الخامسة والثمانين مع كمال الوعي والإدراك. ورسم لنا شخصه في لوحة "الفنان وأسرته"(4)، رجل منتصب القامة. واثقاً بنفسه، رشيقاً، ثرياً، يمسك بمزهر، وزوجته مطمئنة في الطوق المكشكش الخانق حول رقبتها، وابنة لطيفة بدأت لتوها ريعان شبابها كما تبدأ تتفتح أزهار الغلاندرز، وبنتاً صغيرة سعيدة بالبيت الهادئ والمذهب المريح أنظر إلى الصليب المتدلي على صدرها. وتحول جوردانز إلى البروتستانتية، ولكن في سن الثانية والستين. ورسم عدة لوحات دينية، ولكنه آثر مشاهدة الحياة اليومية والأساطير "وفيها يستطيع أن يبرز الرؤوس الضخمة والصور المتألقة التي كان قد رآها في أروقة البيوت في أنتورب مثل لوحة "الملك يحتسي الخمر(5)"، أو أفضل منها لوحة "قصة الخصب(6)"، وهنا، وسط الفاكهة (التي رسمها سنيدرز صديق جاكوب) والفراشات تروعنا فتاة فتاة عارية فاتنة، تشاهد من مسقط خلفي فقط، ولكنها في كل نضارة الشباب ورشاقته، ترى أين عثر جوردانز على نموذج لهيفاء مثل هذه في الفلاندرز على عهد روينز؟


3- روبنز 1577 - 1640

ولد أعظم المصورين الفلمنكيين في 1577، من سلسلة طويلة من رجال أعمال موفقين، وتابع هو السلسلة. ودرس أبوه، جان روبنز، القانون في بادوا، وتزوج من ماريا بيبلنكس. وانتخب عضواً في المجلس التشريعي في أنتورب وهو في سن الحادية والثلاثين وأتهم البروتستانتية فاستبعد بالذات من العفو العام الذي صدر 1574، وهرب مع زوجته وأطفاله الأربعة إلى كولين، وهناك اختارته مستشاراً قانونياً، آن السكسونية (زوجة وليم أورانج التي افترقت عنه)، وارتكب معها الفحشاء، فأودعه الأمير السجن في ولنبرج ولكن ماريا غفرت لزوجها زلته وبعثت إليه برسائل رقيقة مؤثرة ، وقدمت الالتماسات وكافحت من أجل الإفراج عنه، حتى تم لها ذلك بعد عامين من المحاولة، شريطة أن يبقى جان تحت المراقبة في سجن في وستاليا ولحقت به هناك في 1573، ومن المحتمل أن بيتربول رأى النور هناك، وعمد الطفل وفق الطقوس اللوثرية، ولكن، وهو لا يزال في المهد، تحولت الأسرة إلى الكاثوليكية. وفي 1578 انتقل جان مع أسرته إلى كولون حيث اشتغل بالقانون وأثرى وازدهر، وعند موته (1578) قصدت ماريا مع أطفالها إلى أنتورب للإقامة فيها.

وتلقى روبنز تعليمه الرسمي حتى سن الخامسة عشر فحسب، ولكنه زاد عليه بالدأب على القراءة وبالخبرة والتجربة. وظل لمدة عامين وصيفاً في خدمة كونتس لالنج في أودينار، والمفروض أنه تعلم هناك الفرنسية والسلوك الرفيع الذي تميز به عن معظم فناني عصره. ولما لحظت أمه ميله إلى الرسم، ألحقته للتدريب على يد طوبيا فرهاخت، ثم آدم فإن نورت، وأخيراً أوتوفاينوس، وكان رجلاً واسع الثقافة لطيف الحديث، وبعد قضاء ثمان سنوات في كنف هذا المعلم الممتاز، قصد روينز، وهو الآن في سن الثالثة والعشرين، إلى إيطاليا ليدرس الروائع التي هزت شهرتها النفوس المتعلقة بالتصوير. وفي فينيسيا عرض أعماله الخاصة على رجل في حاشية فنسنزو جونزاجا دوق مانتوا. وسرعان ما التحق روبنز بقصر الدوق في مانتوا، رساماً للبلاط وهناك أبدع لوحتين قاربتا الكمال الفني: "جوستوس لبسيوس وتلاميذه"(8) وكان بين التلاميذ فيها بطرس وأخوه فيليب، ثم لوحة تمثله هو نفسه(9)، أي روبنز، وهو نصف أصلع في الخامسة والعشرين. ولكنه ملتح جريء يقظ. وقام برحلات قصيرة إلى روب لينسخ للدوق بعض الصور، وإلى فلورنسه حيث شهد (ورسم فيما بعد بشكل مثالي) زواج ماريا مديتشي من هنري الرابع الغائب. وفي 1603 أوفده الدوق في مهمة دبلوماسية إلى أسبانيا يحمل هدايا إلى دوق ليرما، وتقبل الوزير الرسوم التي كان روبنز قد قام بنسخها على أنها لوحات أصلية، وعاد الفنان إلى مانتو دبلوماسياً ناجحاً.

وفي رحلة ثانية إلى روما استقر به المقام فيها مع أخيه الذي كان أمين مكتبة كاردينال. وأبدع بيتر آنذاك عدة لوحات للقديسين، منها لوحة "القديس جريجوري يصلي للعذراء(10)". وقد اعتبرها أولى روائعه. وفي 1608 سمع بمرض أمه، فاستحث السير شمالاً إلى انتورب، وتأثر أشد التأثر حين وجد أنها قد فارقت الحياة. وكان حبها الموسوم بالحكمة والصبر قد ساعد على خلق مزاجه المرح الذي سعدت به حياته. وفي نفس الوقت كان قد تعلم الكثير في إيطاليا. فإن لون البنادقة المغري البديع، والشهوانية الحسية في لوحات جيوليو رومانو الجصية في مانتوا. والجمال الأخاذ الهادئ في رسوم النساء التي أبدعتها يد كوريجيو في بارما، والفن الوثني في روما الوثنية المسيحية معاً وارتضاء المسيحية للاستمتاع بالخمر والنساء والغناء-كل أولئك امتزج بدمه وفنه. حتى أنه عندما عينه الأرشيدوق ألبرت مصور البلاط، في أنتورب 1609، اختفت كل بقايا الفن القوطي في التصوير الفلمنكي، واكتمل انصهار الفن الفلمنكي والفن الإيطالي معاً.

وكان ضرباً من الحكمة على غير قصد من أنه كان متغيباً عن الأراضي الوطيئة طوال ثمانية أعوام الحرب، وأنه تلقى قرار تعيينه في أول أعوام الهدنة، ففي السنوات الأثنتي عشر التالية على وجه التحديد استعادت أنتورب وبروكسل حياتهما الثقافية. ولم يكن روبنز بالعنصر اليسير في هذا البعث. ويحصي مؤرخ سيرته 1204 من اللوحات الزيتية و380 من الرسوم له(11)، ولا يستبعد أن كثيراً غير هذه وتلك لم يسجله التاريخ. وليس لهذا الخصب مثيل في تاريخ الفن. ويكاد الأمريكيون كذلك بالنسبة لتنوع الموضوعات وسرعة التنفيذ. وكتب روبنز يقول: "إن موهبتي من طراز معين، ولم تروعني معه أية مهمة مهما عظم حجمها أو تشعبت موضوعاتها(12)"-لقد أنجز في خمسة وعشرين يوماً الثلاث التي تمثل "النزول عن الصلب" لكاتدرائية أنتورب، وفي ثلاثة عشر يوماً لوحة "عبادة الملوك" الضخمة الموجودة الآن في متحف اللوفر. وبالإضافة إلى راتبه السنوي في البلاط وقدره 500 فلورين كان يتقاضى أجراً عن كل إنتاج فردي. أنه قبض مبلغاً ضخماً، 3800 فلورين (47.500 دولار؟) عن التحفتين السابق ذكرهما، أي بمعدل اجر يومي قدره 100 فلورين (1250 دولاراً؟). وذهب جزء من هذا المبلغ بطبيعة الحال إلى المساعدين العديدين الذين كان كثير منهم مسجلاً في نقابة الفنيين بوصفهم أساتذة. ورسم جان بروجل "المخمل" الأزهار في لوحات روبنز ورسم جان ولدنز المناظر الطبيعية والحواشي الثانوية، ورسم بول دي فوز المعادن والفاكهة، أما فرانس سنيدرز فقد صور بطريقة نابضة بالحياة الرأس المستدق بشكل دقيق للكلب في لوحة "ديانا عائدة من الصيد(14)" ولسنا ندري نصيب سنيدرز ونصيب روبنز في مناظر الصيد الهائلة في قاعات درسن وميونيخ ومتحف المتربوليتان في نيويورك. وفي بعض الحالات رسم روبنز الأشخاص، وترك لمساعديه الدهان. وكان روبنز يقدم لزبائنه بياناً صادقاً عن درجة إسهامه بنفسه في اللوحات التي باعهم إياها(15). وبهذه الطريقة وحدها استطاع أن يواجه الطلبات التي انهالت عليه. وأصبح مرسمه مصنعاً يعكس أساليب العمل في اقتصاد الأراضي الوطيئة، وأدى الخصب في اٌلإنتاج والسرعة في الإنجاز إلى الحط من نوعيته، ولكنه قارب الكمال إلى حد يصبح معه إله الفن الفلمنكي.

وأحس روبنز بالطمأنينة فتزوج في 1609. وكانت إزابلا برانت ابنة محام وعضو المجلس التشريعي في أنتورب، ومن ثم كانت شريكة صالحة لابن محام وعضو في المجلس التشريعي في المدينة نفسها. وأقام روبنز في بيت أبيها حتى يتم إعداد داره الفخمة المطلة على قناة وابنز. وفي واحدة من أجمل لوحاته(16) نرى بيتر وايزبللا تغمرهما سعادة الأيام الأولى من الزواج، أما هي فتراها مكسوة بأردية فضفاضة مشدودة الخصر بصدار مزدان برسوم الأزهار، وقد وضعت يدها على يده في ثقة واستشار، وبرز وجهها المفعم بالحيوية من طوق رقية مكشكش أزرق هائل، وتوج رأسها بقبعة فارس، أما هو فتراه مكتمل الرجولة والنجاح، ذا ساقين قويتين ولحية بيضاء وملامح وسيمة، يرتدي قبعة مزدانة بالأشرطة. ولم تعمر إيزابلا بعد الزواج أكثر سبعة عشر عاماً، ولكنها أنجبت له أبناء سهر على تربيتهم ورسمهم في حب وإعزاز، فهناك لوحة الولد المجعد الشعر في متحف قصر فريدريك، برلين، وهو ممتلئ الجسم جميل سعيد، يلعب بيمامة، ويمكن أن نراه مرة أخرى في لوحة "أبناء الفنان"(17)، وقد كسته السنوات السبع التي سلخها من عمره بالرصانة، ومل يتسنى إلا لرجل فاضل بارع أن يرسم مثل هذه اللوحات.

وكان روبنز في نفس الوقت وثنياً أساساً، ولو عاد دون تورغ أو خجل بجسم الإنسان ذكراً أو أنثى، في كل نشوة الفتوة عند الرياضي القوي، أو في هدوء المتقوس المنحني، وكان معروفاً عن الفلاندرز أو رمزاً عليها أنها استمتعت بأساطير الوثنية الدنسة-طقوس وعادات الجسم الطليق-على حين رحبت الكنائس بتأويله للموضوعات الدينية أو تفسيره لها. ولم يستطع أن يفرق بين مريم العذراء وفينوس: ولعله لم يحس بأي تعارض بينهما، فكلتاهما جلبت له المال. وفي لوحة "عبادة فينوس"(18) كان العنصر الوثني غير مقيد-مجموعة من كاهنات إله الخمر باخوس، يخفين في تواضع وخفر معصماً أو ركبة، يعانقهن آلهة معربدون شهوانيون، على حين يرقص اثني عشر غلاماً حول تمثال آلهة الحب. ولو أن هذه الموضوعات الوثنية تعكس أثر مقامه في إيطاليا، إلا أن صور فينوس يعزوها الخط الكلاسيكي، فهي لا تستطيع الحياة في الشمال، على الشمس والهواء والخمر كما كان حالها في الجنوب، بل أنها يجب أن تأكل وتشرب لتتقي المطر والضباب والبرد. والطبيعة البشرية التيوتونية، مثل الويسكي البريطاني-إنجليزي أو اسكتلندي-دفاع مناخي وكان عنوان إحدى لوحات روبنز-وفيها ثلاث نساء عاريات متورمات-"فينوس بلا خبز ولا نبيذ تشعر بالبرد والضعف(19)، وتلطف الفنان فلم يقل "بلا لحم ولا جعة" وكذلك لم ير مفاجأة للياقة في لوحته "راع يغازل"(20) وهي تمثل راعياً يحاول أن يغوي فتاة بدينة تزن ثلاثمائة رطل، فليس ثمة حسن أو رديء، جميل أو قبيح، ولكن البيئة هي التي تحدد هذا أو ذاك: وليس في لوحة "اغتصاب السابين"(21) إلا كل ما يستطيع أن يفعله جباران قويان رومانيان ليرفعا على ظهر جواد امرأة تسحر اللب من أسرارهم. وحتى في لوحة "عواقب الحرب"(22) ليس ثمة ضعف. و"ديانا عائدة من الصيد(23)" لم تكن إلهة إغريقية أنيقة طاهرة، بل ربة بيت فلمنكية عريض الكتفين قوية العضلات ذات مكانة اجتماعية، وفي كل هذه الصورة الضخمة الممتلئة لا ترى تحيلاً إلا الكلب. وغابات روبنز ملأى بآلهة يعتصرون أثقالاً، كما في "أكسيون وهيرا(24)" و "أربعة أركان الدنيا(25)"، وكما يمكن أن نكون قد توقعنا لم يكن "أصل المجرة(26)"-فرضية مستديمة، بل ربة بيت بدينة تفيض سيلاً من اللبن من ثدي ممتلئ. أما "الربات الأخوات الثلاث(27)" فهن نحيلات رشيقات، نسبياً، على أية حال. وفي "محاكمة باريس(28)" (ابن ملك تروادة الذي خطف هيلانه-في الأساطير اليونانية) نرى سيدتين فقط - يشاكل زيهما الأزياء المتأخرة، أخرى تعد من أجمل صور النساء في الفن. وفي هذه الرسوم الوثنية عادة يوجد شيء أبعد كثيراً من الجسد، فإن روبنز أسبغ عليها من فيض خياله الخصيب الممتلئ بالحيوية والمرح، فهناك مائة من الملحقات الكمالية تملأ المنظر، مخططة في حرص ولكن دون دراسة، تبهر عين الناظر إليها باللون والدفء والحياة. وكما أنه ليس ثمة شيء يثير الشهوة في العرض المنتفخ، وأنه مجرد حيوية حيوانية، فليس هناك رسم واحد يثير الشهوة الجنسية. أن روبنز نفسه كان يتحلى بسلوك قويم إلى حد غير قياسي، بالنسبة لفنان شديد التأثر والحساسية بالضرورة للون والشكل، وعرف عنه أنه زوج فاضل و "رب أسرة موثوق"، لم تمسسه شائبة من التودد للنساء أو المخادعة(29).

واعترف رجال الكنيسة في الفلاندرز ببراءة الناحية الحسية في رسوم روبنز، فلم يحسو بالحرج أو بوخز الضمير في أن يطلبوا منه أن يصور ثانية قصص العذراء والمسيح والقديسين، وقد أجابهم إلى سؤالهم، ولكن بطريقته غير المبتذلة، ومن خلفائه الذين لا يحصى عددهم استطاع أن يصور في خيال أوسع، أو يرسم في مهارة أدق، الفكرة القديمة "عبادة الملوك " ومن كان يجرؤ على تركيز العمل في تشكيل البطن السمين للأثيوبي المعمم ذي اللون البرونزي، وهو ينظر في ازدراء واضح إلى الوجوه الشاحبة حوله، ومن كان يحلم أن الوثني الذي يحدق النظر بعينه وبفرشاته إلى كل ركن وكل زاوية في جسم المرأة، يمكن أن يحب الجزويت وينظم إلى طائفتهم المريمية، ويؤدي التمارين التي وضعها أجنات ليولا لتطهير النفس برؤى الجحيم(31).

وفي مارس 1620 تعاقد مع الجزويت على أن يضع قبل أن ينصر العام، تصميمات لتسعة وثلاثين رسماً تغطي سقوف كنيسة الباروك الفخمة التي كانوا قد بدأوا بتشييدها في أنتورب في 1614. وأنجز روبنز الرسوم التي حولها فان ديك آخرون معه إلى لوحات، دمرت كلها تقريباً في 1718، وقام روبنز نفسه بعمل صورتين عظيمتين للمذبح الرئيسي: إحداهما "أجنات يبرئ الذين مسهم الشيطان:، والثانية "معجزات سانت فرانسيس"، وكلتاهما الآن في متحف تاريخ الفن في فيينا.

ومع ذلك فإن روبنز كان كاثوليكياً على النحو الذي كانت تعنيه الكاثوليكية في عصر النهضة. ومسيحياً بحكم الموطن. وعاشت وثنية في ظل تقواه. ولم تكن مريمانة (صور السيدة العذراء في لوحاته) سوى نسوة داعرات غليظات يبدو واضحاّ أنهن أصلح لإيقاع الرجال في حبائلهن. منهن لإنجاب إله. وفي لوحة "العذراء في إكليل من الزهو(33)" تمثل السيد المسيح صبياً أجعد الرأس، ومريم في زي ربة بيت فلمنكية ترتدي قبعة جديدة في يوم الأحد في أحد المتنزهات. وحتى في لوحة "رفع الصليب" (الموجودة في كاتدرائية أنتورب) نجد أن اهتمام وبنز بالتشريح يتغلب على الفكرة الدينية فالمسيح رجل رياضي مكتمل القوة والنشاط، لا إلهاً يعاني سكرات الموت.

وفي "طعنة الرمح(34)" مرة أخرى نجد التشريح هو كل شيء: فالمسيح واللصان شخوص ضخمة، والنساء تحت الصليب يتخذن وضعاً خاصاً أمام فنان، أكثر منهن مغمى عليهن من الحزن، فإن روبنز لم يستشعر هول الموقف.

وفي خمس مرات على الأقل تحدى روبنز الرسام الفينيسي تيشيان في "صعود العذراء"، وفي أشهر هذه المحاولات(35)، تبدو العذراء ميتة لا حياة فيها، والأفراد الأحياء هم المجدلية والحواريون الجزعون عند المقبرة الخالية، وأجمل منها اللوحة الثلاثية(36) التي أهدتها الأرشيدوقية إيزابل إلى جمعية الدفونسو الدينية في بروكسل: ففي الصورة الوسطى نزلت العذراء من السماء لتقدم لرئيس أساقفة توليدو. رداءاً من الجنة مباشرة، والقديس في خشوع تام "يلهث من العبادة"، على حين أنه في الصورتين الجانبيتين نرى إيزابل وألبرت قد وضعا تاجيهما جانباً "وركعا للصلاة، وهنا في هذه اللوحة الثلاثية. أضفى روبنز لوهلة قصيرة، بعض الحياة على التقوى أو صورها أحسن تصوير. وفي لوحة سانت أمبروزو الإمبراطور تيودوسيوسي(37)"-أدرك روبنز ونقل إلى الصورة سطوة الكنيسة وسلطانها الخفيين: ففيها ترى رئيس أساقفة ميلان الذي لم يتسلح إلا بعدد من الكهنة وقندلفت (مساعد كاهن)، ولكنه متسم بالجلال والعظمة، يطرد من الكاتدرائية الإمبراطور الذي يحف به حرس رهيب، ولكنه مثقل بالقساوة التي لا تغتفر وقلما أخفق روبنز مع كبار السن من الرجال، ففيهم، وبخاصة في الوجه، تبرز قصة حياتهم، كما أن الوجه يعرض الشخصية والخلق واضحتين أمام الفن المدرك الواعي. أنظر إلى رأس الأب لوحة "لوط وأسرته يغادرون سودوم(38)". وهي واحدة من أروع لوحات روبنز في أمريكا.

وعاد في حيوية بالغة إلى الموضوعات الدنيوية، مختلطة بالأساطير عندما عرضت عليه ماري دي مديتشي أكثر العقود إغراءً في حياته. ووقع في 16 فبراير 1622 اتفاقية، يرسم بمقتضاها، في مدى أربعة أعوام، إحدى وعشرين صورة كبيرة وثلاث صور شخصية، تخلد ذكرى الأحداث في حياة ماري وزوجها هنري الرابع، ودعته الملكة للحضور ليعيش في البلاط الفرنسي ولكن هداه تفكيره السليم إلى البقاء في وطنه. وفي مايو 1623 صحب معه إلى باريس اللوحات التسع الأولى، وأحبت ماري هذه اللوحات. كما أعجب بها ريشليو. وأكملت المجموعة في 1624، وقصد روبنز بالبقية إلى باريس حيث رآها موضوعة في قصر لسمبرج. وفي 2802 نقلت اللوحات إلى اللوفر، حيث انفردت تسع عشرة لوحة منها بقاعة خاصة بها. ولن ينكر كل من رآها أو درسها على برونز العشرين ألف كراون (250.000 دولار) التي تقاضاها في مقابل عمله، أو يحسده عليها، ولا ريب أن مساعديه قاسموه فيها. وهذه اللوحات في جملتها هي أسمى منجزاته. وإذا تجاوزنا عن بعض هنات السرعة، وارتضينا القصة التي لاتصدق-كما نفعل في أوفد، وشكسبير وفردي-فإننا سنجد هنا روبنز بكل سماته، اللهم إلا تقواه العارضة. ولقد أحب فخامة طقوس البلاط، وجلال السلطة الملكية، ولم يسأم قط النساء الممتلئات الأجسام، والثياب الفاخرة، والستائر وأغطية الأثاث البهية، وكان قد عاش نصف أيامه مع الأرباب والربات في الأساطير القديمة، ونراه الآن يضم هؤلاء جميعاً في قصص فياض، مع قدرة فائقة على ابتداع الأحداث العارضة، وغزارة في اللون وبراعة فائقة في التأليف والتصميم، ومما جعل هذه ملحمة وأوبرا في تاريخ الرسم.

ولم يكن يعوز روبنز إلا مرتبتين اثنتين من مراتب الشرف ليبلغ ذروة التمجيد-التعيين في الوظائف الدبلوماسية، والحصول على براءة النبالة. وفي 1623 أوفدته الأرشيدوقية إيزابل ليفاوض، على أمل تجديد الهدنة مع هولندة، وكان لدى روبنز ما يحمله على توطيد السلام، فإن زوجته كانت طموحة في أن ترث عن عمها الهولندي مالاً(39). وأخفت هذه الجهود، ومع ذلك أقنعت إيزابل الملك فيليب الرابع بأن يخلع على روبنز النبالة (1624) وعينه "رئيس الديوان الخاص لصاحبة العظمة" أي إيزابل نفسها. ولكن الملك اعترض بعد فترة من الوقت على استخدامها لمثل هذا الشخص الوضيع المحتد غير الكريم، في استقبال البعثات الأجنبية، وبحث مسائل على قدر كبير من الأهمية(40)، ومع ذلك أوفد إيزابيل روبنز بعد ذلك بعام (1628) إلى مدريد ليساعد على عقد الصلح بين فيليب الرابع وشارل الأول. وأخذ الفنان معه رسومه، وعدل الملك من رأيه في موضوع الحسب والنسب وجلس إلى روبنز ليرسم له خمس صور شخصية، وكأن الفنان الأسباني فيلا كويز لم يقم بما يكفي الملك في هذا الصدد. وتوثقت أواصر الصداقة بين الفنانين، وأسلم الفنان الأسباني، وهو آنذاك في التاسعة والعشرين، القيادة للفلمنكي العبقري الأنيس، وهو إذ ذاك في سن الواحدة والخمسين. وأخيراً عين فيليب روبنز "الوضيع النسب" مبعوثاً له في إنجلترا، وفي لندن نجح روبنز في عقد معاهدة صلح، على الرغم مما دفع ريشليو من رشوة وبث من جواسيس لعرقلة الصلح. وفي لندن رسم روبنز بعض صور شخصية إنجليزية دوق ودوقة بكنجهام(41)، والوجه المهيب لتوماس هوارد أرل أروندل ولحيته ودرعه(42)-وبعد أن مهد الطريق أمام فانديك عاد إلى أنتورب (مارس 1630) وقد منحته جامعة كمبردج درجة علمية، ومنحه شارل لقب فارس.

وفي الوقت نفسه كانت زوجة روبنز الأولى قد توفيت (1626) وطبقاً للتقاليد الفلمنكية أقيمت للاحتفال بجنازتها مأدبة باذخة كلفت الدبلوماسي الفنان 204 فلورينات (2500 دولار) أنفقها على "الطعام الشراب وأدوات المائدة(43)"، فالموت في المجتمع الفلمنكي كان ترفاً يورث الحرمان والفقر. وأغرق روبنز شعوره بالوحشية والوحدة في الدبلوماسية. وفي 1630، وكان قد بلغ الثالثة والخمسين، تزوج من هيلينا فورمنت ذات الستة عشر ربيعاً. أنه كان في مسيس الحاجة إلى جو من الجمال يحيط به، وكان له بالفعل من دفئها ودعتها ما فاض على فنه وأحلامه. ورسمها المرة بعد المرة، في أي زي، دون ثياب: في ثوب الزفاف(44)، وهي ممسكة بقفاز(45)، تعلوها ابتسامة السعادة في قبعة أنيقة(46)، وهي تخفي وركيها فقط تحت معطف من الفراء(47). أما أروع الصور فهي تلك التي تمثلها تتنزه مع روبنز في حديقتها(38)-وهذه الأخيرة هي إحدى القمم في التصوير الفلمنكي، ثم صورها وليدهما الأول(49)، وبعد ذلك مع طفليهما(50)-مبشراً بالفنان دنوار (مصور فرنسي 1149-1919). وحدث ولا حرج عن اللوحات التي تمثلها في وضع مثير للشهوة مثل فينوس، أو متسم بالحشمة مثل "أم الإله-العذراء".

ورسم بيرنز عاهليه المحبوبين البرت وإيزابل، بغير ما نفاق ولا رياء. وإنا لنراها في متحف فيينا وبتي، في أغلب الظن كما كانا-يحكمان بلداً قلقاً مضطرباً، بكل النيات الطيبة التي تلتئم مع المثل العليا الأسبانية، لقد عثر الفنان في الفلاندرز على أنماط ممتازة للرجال والنساء، فرسمها في تصويره لجان تشارلزدي كورد وزوجته الجميلة المتجهمة(51)، وفي صورة ميكائيل أو فينوس(52) أسقف هرتو جنيبوخ، وترك لنا صورة ضخمة لاسبينولا الجبار(53). ولكن رسم الصورة الشخصية لم يكن موطن التفوق والامتياز في روبنز، فهو لم يقدم لنا نظرات نافذة دقيقة أو إيحاءات صادرة من الأعماق، كما فعل رمبرانت. وأعظم صوره الشخصية هي تلك التي رسمها لنفسه في 1624 من اجل من صار فيما بعد شارل الأول(54): قبعة ضخمة ذات أشرطة ذهبية لا تكشف إلا عن جبهة عريضة لرأس أصلع، مع عينين محدقتين في نظرة فضولية. والأنف الطويل الحاد يبدو أنه يتفق مع العبقرية، والشارب المتصلب الخشن واللحية الحمراء الجميلة، وهذا يمثل رجلاً يدرك أنه في ذروة البراعة في حرفته ومع ذلك فإن شيئاً من حيويته الطبيعية ومتعته الحسية وقناعته الهادئة، مما أشرق وتألق في صورته مع إيزابللا برانت (زوجته الأولى) قد ذهب على مر السنين. إن الإخفاق وحده الذي يرهق الإنسان ويفنيه بأسرع مما يفعل النجاح. كان روبنز ثرياً، وعاش عيشة باذخة، وكان بيته الفخم في أنتورب أحد مشاهد المدينة. وفي 1635 اشترى بمبلغ 93 ألف فلورين ضيعة واسعة وقصراً إقطاعياً في مقاطعة ستين، تمتد 18 ميلاً، واتخذ لقب لورد ستين، وقضى الصيف هناك، ورسم المناظر الطبيعية وجرب يداه المتعددة المهارات في رسم أحداث الحياة اليومية. ووسط ضروب الترف والرفاهية، مع خادمات ثلاث وسائسين وثلاثة جياد، استمر يبذل أقصى الجهد في العمل، وهو يجد سعادته في أسرته وفي عمله، وأحبه زوجاته وأولاده ونصراؤه ومساعدوه لصفاء روحه وسخائه ومشاركته الوجدانية العطوفة(55).

ويجدر بمن هم أقدر منا أن يحللوا المزايا الفنية في فنه، ولكنا نستطيع مطمئنين أن نصفه بأنه نموذج رئيسي لتصوير الباروك: أي اللون الحسي، والحركة التي لا تحصى، والخيال الخصيب، والزخرفة المنمقة المترفة، على عكس ما عرف في التصوير القديم من الهدوء وتقييد الفكر والحظ. ولكن في فوضى الجمال هذه، يقول النقاد بأن هناك براعة فائقة في التخطيط والتصميم وغذت صور روبنز مدرسة من الحفارين والنقاشين الذين صنعوا الطراز الأول من اللوحات المعروفة في أوربا المسيحية، كما فعل ريموندي مع رسوم رافائيل، ومن يد روبنز أو من مرسمه خرجت الرسوم المشهورة إلى نساجي الأقمشة المزركشة في باريس وبروكسل، وصنعوا هدايا ملكية أو زخارف للويس الثالث عشر وشارل الأول والأرشيدوقية إيزابل.

وشهد العقد الأخير من سني حياته نصراً مبيناً عكره انحطاط قواه الجسمية ولم يضارعه في شهرته الغنية سوى برنيني، ولم يحلم أحد بأن ينازعه تفوقه في الرسم وهرع إليه التلاميذ من كل الأنحاء، ووفدت إليه بعثات لبلاط من ست مماليك، حتى من الحاكم فردريك هنري عبر خطوط القتال. وفي 1636 طلب إليه فيليب الرابع أن يرسم بعض مشاهد "متامور فوزس" للشاعر الروماني أوفيد لقصر الصيد في باردو. وأنجز مرسم روبنز خمسين صورة لهذه المجموعة، منها واحد وثلاثون مشهداً في متحف برادو، وبدا للكاردينال انفانت فرديناند أن مشهد منها هو "محاكمة باريس" أروع ما أبدعته يدا روبنز على الإطلاق(56). وقد نوثر عليه "المهرجان(57)" الصاخب الذي كان قد صوره في 1636-وهو مطاردة مسعورة، ليس فيها امرأة عجوز أو بدينة إلا اختطفها رجل ما.

أما صورته الشخصية في سن الستين(58) فهي الوجه الآخر لخواتيم حياته رجل لا يزال مزهواً. يقبض بيده على سيف النبالة، ولكن التحول يعرو وجهه النحيل، ويتدلى جلده، وتحيط التجاعيد بعينه-وهو رسم أنيق أمين وفي 1635 ألزمه داء النقرس الفراش شهراً. وفي 1637 شل يده لفترة من الزمن، وفي 1639 عاقه هذا الداء عن التوقيع باسمه. وفي 1640 شلت كلتا يديه. وفي 30 مايو 1640، وقد بلغ الثالثة والستين، قضى نحبه متأثراً بالتهاب المفاصل وتصلب الشرايين.

لقد كانت حياة روبنز تدعو إلى الدهشة. أنه لم يكن النموذج الشامل للمثل الأعلى للنهضة الأوربية، ولكنه حقق طموحه في أن يلعب دور في الدولة وفي الرسم على حد سواء. ولم يكن فناناً شاملاً مثل ليونارد ميكل أنجيلو، فلم يخلف لنا نحتاً، ولم يصمم أي مبنى سوى داره. ولكنه في الرسم بلغ ذروة الامتياز في كل مجال. فإن الصور الدينية، والصخب الوثني والآلهة والإلهات، والعاريات والمكتسيات، والملوك والملكات، والأطفال والعجائز، والمناظر الطبيعية والمعارك - كانت كلها تنساب من فرشاته، وكأنها معين متعدد الموارد لا ينضب من اللون والشكل. ولقد وضع روبنز حداً لخضوع الرسم الفلمنكي للرسم الإيطالي، ولكن بدون الثورة أو التمرد، بل عن طريق الاستيعاب والاتحاد.

ولم يكن روبنز في مثل عمق رمبرانت، ولكن أوسع أفقاً لقد نفر من الأعماق الخفية التي كشف عنها رمبرانت، وآثر عليها الشمس والهواء الطلق، وتراقص الضوء، واللون، ومتعة الحياة وسحرها، وكافأ حظه السعيد بالابتسام للدنيا، إن فنه تعبير عن الصحة، مثلما أن فننا اليوم يوحي باعتلال الفرد أو اعتلال الروح العامة. ويمكن، إذا وهنت نفوسنا أو افترت حيويتنا أن نفتح كتاب روبنز في أي مكان لننتعش ونجدد قوانا.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- فانديك 1599 - 1641

لقد كان من عادة روبنز أن يرحب ويشجع الموهبة المبكرة النضج لدى الشباب اليافع الوسيم، الذي التحق بمرسمه حوالي 1617. وكان أنطوني فانديك قد بدأ تدريبه وهو في سن الثامنة عند هندريك فإن بالمن، معلم سنيدرز. وفي سن السادسة عشر كان له تلاميذه هو نفسه، وفي سن التاسعة عشر سجل أستاذاً في نقابة الفنانين، ولم يكن تلميذاً لروبنز بقدر ما كان مساعداً ذا قيمة كبيرة له. وقدر روبنز أحد أعمال فانديك الأولى بأنه يساوي في قيمته لوحة "دانيال" التي أنجزها روبنز في نفس العام. واحتفظ في مجموعته الخاصة بلوحة فانديك "المسيح يتوج بالأشواك"، ثم تنازل عنها في وقت متأخر، وهو كاره، لفيليب الرابع. ليضعها في الأسكوريال(59). وتأثر فانديك في شغف بالغ بروبنز، ولكنه كانت تعوزه حيوية الفنان العجوز في الحركة واللون، ومن ثم قصر عن اللحاق به في كل شيء، فيما عدا رسم الأشخاص. وفي صورته الشخصية الأولى (1615)(60) كشف عن الخصائص التي كان يجب أن تميز وتحدد عبقريته-رقة ورشاقة وجمال ناعم، مما لا يكاد يليق بالرجل. وكان زملاؤه الفنانون سعداء بالجلوس إليه لتكون الصورة التي يرسمها لهم، سياجاً إضافياً يحميهم من نسيان الناس لهم. وقد رسم صوراً شخصية محببة لسنيدرز(61) ودوكونسوي(64) تورجان دي وال(64)-وجسباردي كريبر(65) ومارتن ببين(66)، وكان من صفات فانديك المحمودة الكثيرة أنه أحب منافسيه. وتوحي تلك الصور الشخصية في مرسم روبنز بروح طيبة من الزمالة لا توجد دائماً في مملكة الفن.

وفي 1620 تلقى أرل أروندل من أنتورب رسالة جاء فيها: "أن فانديك يقيم مع برونز، وتقدر أعماله بأنها تكاد تضارع أعمال أستاذه(67)" فدعا الفنان الشاب إلى إنجلترا، فذهب فانديك وهناك تقاضى من جيمس الأول معاشاً زهيداً قدره مائة جنيه، ورسم قليلاً من الصور الشخصية، وتمرد على ما طلبه منه الملك من نسخ حقير لصور أصلية، وطلب منحة إجازة لمدة ثلاثة أشهر يتغيب فيها عن البلاد، فأجيب إلى طلبه، ولكنه مد الغياب إلى اثني عشر عاماً. وفي أنتورب دبر لزوجته وطفلها سبل العيش، ثم أسرع إلى إيطاليا (1621). وهناك لول مرة أسرع الخطى وشمر عن ساعد الجد، وترك صوراً شخصية رائعة في كل مكان نزل به تقريباً، وعكف على تأمل أعمال البنادقة العظام، لا ليدرس اللون والضخامة لديهم، كما فعل روبنز من قبل، ولكن ليكتشف الأسرار الشاعرية في الرسوم الشخصية عند جيور جيوني وتيشيان وفيرونيز. وقصد كذلك إلى بولونيا وفلورنسة وروما، بل حتى إلى صقلية. وفي روما أقام مع الكاردينال جيد وبنتيفوجليو، وكافأه بصورة شخصية(68) وكره الفنانون الفلمنكيون الذين كانوا يتضورون جوعاً في إيطاليا، من فانديك كياسته، وإن شئت تملقه وتودده، فنعتوه بأنه "مصور الفرسان"، وأتوا بأعمال قبيحة، إلى حد أنه رحل مسروراً بصحبة ليدي أروندل إلى تورين. وكان الترحيب به كبيراً بصفة خاصة في جنوة التي تذكرت روبنز، وكانت قد سمعت بميل فانديك إلى تمجيد النبلاء، حتى ليجعل من كل جالس أمامه أميراً. وفي متحف متروبوليتان للفن في نيويورك نموذج لهؤلاء الأرستقراطيين الجنوبيين: "المركيزة دورازو": وجه حساس ويدان رشيقتان ناعمتان (كما هو الحال دائماً في رسوم فانديك)، كما يحتفظ المتحف الوطني واشنطن بلو حتى "المركيزة بالبي" و"المركيزة جريما لدي"- وهي مزهوة حبلى. وفي برلين ولندن نماذج أخرى. واستطاعت جنوة أن تحتفظ في قصر روسو فيها بلوحة "المركيز والمركيزة" برينولي سالي وعاد فانديك إلى أنتورب (1628)، وقد امتلأت جيوبه وانتفخت أوداجه وتأنق في مظهره.

وصرفه مسقط رأسه عن النبلاء إلى القديسين، وحتى يهيئ نفسه لهؤلاء ندم على ما أقترف من فحشاء، وأوصى بثروته الصغيرة لأختين من الراهبات، وأنظم إلى "الرابطة الجزويتية لغير المتزوجين"، وتحول إلى الموضوعات الدينية. ولم يستطع أن ينافس روبنز في هذا المضمار، ولكنه تجنب مبالغات الأستاذ العزيز الإنتاج وتألقه الشهواني، وأضفى على رسومه هو لمسات من الأناقة التي تعلمها في إيطاليا. وذهب رينولدز إلى أن لوحة فانديك "صلب المسيح" في كاتدرائية مكلين واحدة من أعظم الصور في العالم، وعلى أية حال ربما كانت هذه هي طريقة سير جوشوا في الوفاء بالدين.

وجرب فاندريك يده في صور الأساطير. وعلى الرغم من أنه لاحق نساء كثيرات فإنه لم يقبل على رسم الصور العارية ولم يبرع فيه. وكان موطن قدرته وامتيازه في الصور الشخصية. وفي هذه السنوات الأربع في أنتورب أنقذ من زوايا النسيان، بما رسم من لوحات "البارون فيليب لوري والكلب الأمين(69)"، و"الجنرال فرانسيسكو دي مونكادا وجواده(70)" و"الكونت رودوكاناكس(71)" الذي بدا كأنه سوينبرن، و"جان منتفورت" الذي بدا مثل فولستاف (إحدى شخصيات شكسبير)، وأروع رسوم فانديك في فيينا هي صورة "روبرت الشاب الأمير البلانين الفاتن" الذي سرعان ما خاض غمار الحرب دفاعاً عن شارل الأول في إنجلترا. ومن الرسوم الفاتنة كذلك صورة "ماريا لوبزا أوف تاسيس(73)" غارقة في ثيابها الفضفاضة المصنوعة من الأطلس الأسود والحرير الأبيض. ولا يقل روعة عن هذه الرسوم كلها لوحة فانديك لبيتر "الجحيم" بروجل (الأصغر)، وهو رجل عجوز لا يزال يضطرم قلبه بحيوية لم ينضب معينها في أسرة تثير الدهشة.

وأخذ فانديك بعض هذه الصور إلى إنجلترا حين دعاه شارل الأول إليها ليجرب حظه فيها ثانية. وكان شارل-على عكس أبيه-ذواق للفن. وظن أن هذا الفلمنكي الوسيم هو الرجل الذي يستطيع أن يصنع له ما كان يصنع فلاسكويز الأسباني للملك فيليب الرابع. وذهب فانديك وسجل للأجيال القادمة صور الملك والملكة هنزيتا ماريا وأطفالهما، وهي صور برزت فيها روعة فن فانديك بشكل لا يمحى أثره. وأشهر هذه اللوحات الملكية الخمس، هي اللوحة الموجودة في متحف اللوفر-وهي تمثل الملك المزهو العاجز مرتدياً زي الفروسية، واضعاً يده على خصره، شاهراً سيفه، وعلى رأسه قبعة أنيقة، بالإضافة إلى لحية فانديك، ولكن الجواد المنهوك الذي يقضم شكيمته أثناء فترات الصيد، قد يشغف به الناظر إلى الصورة قبل أن يشغف براكبه. وتوجد في درسن وتورين لوحات تباري هذه، وهي تمثل أبناء شارل، وهم بعد أبرياء ولا يخشى منهم أذى. وكان شارل أكثر إنسانية في مخبره منه في مظهره. وبرزت حرارة العاطفة عنده في تعلقه بفانديك وإعزازه له، فقد ضمه إلى طبقة الفرسان، ووهبه دوراً فخمة في لندن وفي الريف ومنحه معاشاً سنوياً قدره مائتا جنيه، ومبلغاً إضافياً عن كل رسم، وعن كل زيارة للبلاط.

وعاش الفنان السعيد حياة تتفق مع دخله، فأولع بالثياب الأنيقة، وكانت له عربته التي تجرها أربعة من الخيل، وجياده الأصيلة وخليلاته، وملأ بيوته بالموسيقى والفن. وبز توجيهات روبنز في تفويض غيره في العمل-فترك رسم الملابس لمساعديه، وأنجز صورة شخصية في ساعة واحدة من رسم تخطيطي تم في جلسة واحدة وكان يسارع إلى اغتنام الفرص قبل فوات الأوان ويروى أن شارل الأول، حين كان يعاني من تقتير البرلمان عليه، سأل الفنان المبذر مرة: هل تعرف ماذا يقصد بقولهم أن الإنسان يعوزه المال "فأجاب فانديك" نعم يا مولاي، إذا مد المرء مائدة مفتوحة لأصدقائه، وأغدق من كيس مفتوح عل خليلاته، فسرعان ما يصل المرء إلى قاع الكيس ليجده فارغاً(74).

وإذا كان فانديك قد غرق في الديون أحياناً، فإن ذلك لم يكن لافتقاره إلى النصراء والمحبين ورعاة فنه. فقد انتظر الأرستقراطيون الإنجليز دورهم في الحصول على موافقته: مثل جيمس ستيوارت، ودوق لينوكس(75)، الوسيم مثل كلبه، وروبرت زتشي أرل ودورك(76)، ولورد دربتي وأسرته(77) وتوماس ونتورت أرل سترافورد(78) الذي تحدى القدر. كذلك جاء دور الشعراء من كارو، وكلجرو، وسكلنج. وأخيراً جاء دور أولدبار(79) الذي زعم أنه بلغ من العمر مائة وخمسين عاماً، وكان يبدو عليه ذلك. لقد رسم فانديك 300 صورة شخصية في إنجلترا، تميزت كلها تقريباً بالكياسة والوقار اللذين رآهما في أحد اللوردات، حتى ولو لم يوجد شيء منهما. وتبارت خليلته مرجريت ليمون مع الأرستقراطية في توفير الخدمات له مما كلفه غالياً. واقترح الملك أن الزواج أيسر تكلفة، وعاونه (1639) في طلب يد ليدي ماري روثفن وهي سلسلة أسرة مشهورة في تاريخ إسكتلندة ورسم الفنان لعروسه صورة جميلة(80) ولكنها لا تقارن بالوجه الجميل الذي رسمه لنفسه في "الصورة الشخصية للفنان"(81) التي يعرفها العالم كله-شعر غزير متموج، وعينان حادتان، وتقاطيع دقيقة، ولحية مقصوصة، وسلسلة ذهبية تنبئ بأنه فارس. هل كان فانديك يتملق سير أنطوني (نفسه) إذا كان الأمر كذلك، فليس ثمة جدوى، لأن صحته التي أسرف في استنزافها، بدأت الآن تتدهور، وكره فانديك أن يذكر بمجرد رسم الصور الشخصية فحسب، فطلب إلى شارل أن يسمح له برسم مناظر تاريخية على جدران قاعة الولائم في قصر هويتهول، ولكن الملك كان يعاني العوز. فعبر فانديك البحر إلى باريس (1640) أملاً في تكليفه بتصوير القاعة الكبرى في اللوفر، وكان لويس الثالث عشر قد اختار بالفعل بوسان لهذه المهمة، ولكنه تخلى عنها بعد فوات الأوان، فقد مرض فانديك فأسرع إلى لندن حيث كانت تقيم زوجته وفاضت روحه (1641)، بعد أحد عشر يوماً من مولد ابنته، ولم يكن قد بلغ بعد الثانية والأربعين.

لم يؤسس فانديك مدرسة، ولم يترك بصمات على الفن في القارة، ولكن أثره في إنجلترا كان بالغاً. فإن الرسامين المحليين مثل وليم دويسون، وروبرت ووكر، وصمويل كوبر، أسرعوا في تقليد أسلوبه المتملق الذي يدر ربحاً. وعندما سادت موجة عارمة من الصور الشخصية بظهرو رينولدز وجينزبرو فإن تراث فانديك كان مصدر كل تعليم وتثقيف وإثارة. ولم تكن الصور الشخصية التي رسمها فانديك عميقة. لقد كان متعجلاً إلى درجة لم تتح له البحث عن الروح. وتوقف في بعض الأحيان عند الوجه أو اللحية. إن الفرسان الذين أحاطوا بالملك شارل الأول اشتهروا بسلوكهم الحميد، وما كان متوقعاً أن يبدوا كثير منهم وكأنهم شعراء، وكان من المنتظر أن تصل إلينا، من خلال عيني فانديك وفرشاته بعض أخيلة البطولة التي نجدها في وقفتهم إلى جانب مليكهم. وليس من العدل أن نتوقع من هذا الشاب الهزيل المحظوظ حيوية روبنز العارمة، أو عمق رمبرانت المؤثر. ولكنا سنبقى على اعتزازنا بهذه الصور الشخصية الجنوسية والفلمنكية والإنجليزية، على أنها "معالم دقيقة ثمينة" متألقة في تراثنا.


5- الاقتصاد الهولندي

أية قفزة تلك التي تنقلنا من اللوردات الإنجليز الذين يفوح منهم شذا العطر إلى مواطني هارلم ولاهاي وأمستردام الأجلاف الأقوياء: هناك عالم فريد خلف السدود، عالم ماء اكثر منه عالم أرض، عالم سفن ومغامرات تجارية أكثر منه عالم قصور وبلاط وفروسية. ولا يكاد يوجد في تاريخ الاقتصاد شيء أشد إزعاجاً من ظهور الهولنديين باعتبارهم قوة دولية، أو في تاريخ الثقافة شيء يبعث على الرضا والارتياح أكثر من تحول هذه الثروة إلى فن.

وفي 1600 بلغ عدد سكان المقاطعات المتحدة نحو ثلاثة ملايين نسمة، كان نصفهم فقط يفلح الأرض، وفي 1523 أقام نصفهم في المدن، وصار كثير من الأرض ملكاً لملاك من سكان المدن الذين آمنوا بأن أرباحهم التجارية يمكن أن تزال رائحتها الكريهة باستثمارها في الأرض. وحتى في مجال الزراعة أحرز النشاط والبراعة الهولنديتان قصب السبق على أوربا، وكانت السدود والخزانات الجديدة تستصلح دوماً الأرض من البحر، وأخصبت القنوات المزارع وأنعشت التجارة، وقامت فلاحة البساتين جنباً إلى جنب، مع تربية الماشية، وكلتاهما على نطاق واسع، لتكمل كل منهما الأخرى. وفي أخريات القرن السادس عشر بلغ المهندسون الهولنديون بطاحونة الهواء ذروة الإتقان مثلما فعل الرسامون الهولنديون بالفن. وكان نصف الصناعة لا يزال يدوياً اللهم إلا في التعدين ومعالجة المعادن ونسج الأقمشة وتكرير السكر وصنع الجعة، فإن هذه الصناعات تتقدم على نطاق أكبر وأكثر ربحاً وأقل إسعاداً للناس، وأبحر في كل عام من الثغور الهولندية 1500 سفينة ذات صاريين لصيد السردين. وكان بناء السفن من الصناعات الكبيرة. وفي أثناء الهدنة مع أسبانيا (1609-1621) أرسلت الأراضي الوطيئة 16 ألف سفينة حمولة كل منها 57 طناً في المتوسط، عليها من الملاحين نحو 160 ألفاً-أكثر من إنجلترا وأسبانيا وفرنسا مجتمعة(82). وتلهب الربابنة الهولنديون على المنافذ التجارية والمواد الخام فارتادوا البحار المجهولة. وفي 1584 وطد التجار الهولنديون أنفسهم في أركنجل، وتقدموا برغم الثلوج المتجمدة في محاولة عقيمة للعثور على "طريق شمالي شرقي" إلى الصين، ومن ثم يفوزون بجائزة قدرها 25 ألف فلورين قدمتها الحكومة الهولندية. وإن الأسماء الهولندية في الخرائط الحديثة لأرخبيل سبتسبرجن (في النرويج) لتعيد إلى الذاكرة رحلات وليم بارنت الذي فقد حياته في الشتاء على ثلوج جزر نوفايا زمليا (1697). وفي 1593 أبحر الهولنديون المغامرون عبر أنهار غانة (ساحل الذهب) في إفريقية، وعقدوا أواصر الصداقة مع المواطنين هناك، وبدأوا معهم تجارة واسعة نشطة.

وحتى 1591 كان التجار الهولنديون يشترون المنتجات الشرقية من أرصفة لشبونة ليعيدوا بيعها في أوربا الشمالية. ولكن فيليب الثاني غزا البرتغال في ذلك العام فحرم الاتجار مع الهولنديين، ومن ثم عقدوا العزم على أن يقوموا هم بأنفسهم برحلاتهم إلى الهند والشرق الأقصى. وكان اليهود اللاجئون من أسبانيا والبرتغال أو ذراريهم على علم تام بمراكز تجارة البرتغال في الشرق، فانتفع الهولنديون بعلمهم(83). وعبر التجار الهولنديون، حتى أثناء الحرب مع أسبانيا مضايق جبل طارق، وسرعان ما اتجروا مع إيطاليا، ثم مع العرب، متجاهلين الفوارق الدينية في إصرار وثبات. وشقوا طريقهم إلى القسطنطينية، وعقدوا معاهدة مع السلطان، وباعوا بضاعتهم إلى الأتراك وإلى أعدائهم الفرس، على حد سواء، ثم ساروا إلى الهند. وفي 1595 قاد كورنيلس دي هوتمان حملة حول رأس الرجاء الصالح ومدغشقر إلى جزر الهند الشرقية. وفي 1602 قامت خمس وستون سفينة هولندية برحلة العودة إلى الهند. وفي 1601 أسست شركة الهند الشرقية الهولندية برأس مال قدره ستة ملايين وستمائة ألف فلورين-خمسة أمثال رأس مال الشركة الإنجليزية التي أسست قبلها بثلاثة شهور(84). وفي 1610 بدأ التجار الهولنديون التجارة مع اليابان، وفي 1613 مع سيام، وفي 1615 سيطروا على جزر ملقا، وفي 1623 على فرموزا. أنهم في جيل واحد فتحوا إمبراطورية من الجزر حكموها من عاصمة جاوة: جاكرتا التي سموها باتافيا. وفي هذه الحقبة أدت الشركة لحملة الأسهم ربحاً سنوياً قدره 22% وكان الفلفل يستورد من جزر البهار، ويباع في أوربا بعشرة أمثال الثمن الذي يدفع للمنتجين المحليين(85).

وحسب الهولنديون أن الأرض ملكاً خاص لهم. فأرسلوا سفناً للبحث عن طريق شمالي غربي إلى الصين. وفي 1609 استأجروا إنجليزياً هو هنري هدسن، ليرتاد نهر هدسن. وبعد ذلك باثني عشر عاماً كونوا شركة الهند الغربية الهولندية. وفي 1623 أسسوا مستعمرة الأراضي الوطيئة الجديدة وكانت تضم الولايات الحالية: كنكتيكت ونيويورك ونيوجرسي وبنسلفانيا ودلاوير. وفي 1626 اشتروا من الهنود "أمستردام الجديدة" (منهاتان) مقابل بعض الحلي الصغيرة التي قدرت قيمتها بأربعة وعشرون دولاراً. وكانوا جادين في تطهير وتطوير هذه الأراضي، ولكن كان ممتلكاتهم في أمريكا الشمالية وقعت غنيمة في أيدي الإنجليز (1664) نتيجة للحرب، وكذلك وقعت ممتلكاتهم في أمريكا الجنوبية في أيدي الأسبان والبرتغال، ولم يبقَ لهم إلا سورينا، تحت اسم غيانا الهولندية.

وعلى الرغم من هذه الخسائر أسهمت الإمبراطورية الهولندية مع تجارة هولندة في أوربا في تهيئة دعامة مالية للسلطان السياسي للتجار الهولنديين، ودورهم الفخمة ورعايتهم للفنون. وطول النصف الأول من القرن السابع عشر عقد للمقاطعات المتحدة لواء الزعامة التجارية على كل أوربا، وكانت ثروة الفرد فيها أكبر من مثيلتها في سائر بلاد العالم. وقد انزعج رالي من تفوق الهولنديين على الإنجليز من حيث مستوى المعيشة والأعمال والمشروعات(86) وقال أحد سفراء فينيسيا (1618) أن كل هولندي عاش في رخاء، ولكن يحتمل أنه لم يكن يعرف إلا القليل عن الطبقات الدنيا، التي أدرك رمبرانت فقرها إدراكاً تاماً. أن أصحاب الملايين كثيرون في هولندة، وقد جمع بعضهم ثروته من بيع النفايات والبضائع الرديئة إلى الجيش والأسطول الهولنديين اللذين يدافعان عن هولندة(87)، ومثل هؤلاء كافحوا جاهدين للحيلولة دون إقرار السلام(88).

وتركزت معظم الثروة الهولندية في مقاطعة هولندة التي كانت تجارتها في المياه المجاورة أضعاف تجارة سائر المقاطعات الشمالية. وكان ثمة برجوازية مزدهرة في عدة مدن في مقاطعة هولندة-روتردام، لاهاي، هارلم، أوترخت-ولكن أياً منها لم يجرؤ على مباراة أمستردام. وأن نمو عدد سكانها ليحي قصتها، فقد كان 75 ألفاً في 1500، وقفز إلى 300 ألف في 1620، وهرع إليها التجار والصناع المهرة وأصحاب المصارف أفواجاً من أنتورب التي دمرتها الحرب. وبعد 1576 نقل يهود أنتورب إلى أمستردام أنشطتهم المالية وتجارتهم وصناعة الحلي-ولا يزال صياغ الماس في هذه المدينة يتزعمون هذه الصناعة في العالم. وأباح حكام المدينة للتجار قدراً كبيراً من الحرية الدينية لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لتشجيع التجارة مع الشعوب ذوات المذاهب المتباينة وكان بنك أمستردام الذي أسس 1609، أقوى مؤسسة مالية في أوربا في ذاك العصر. وكانت العملة الهولندية مطلوبة وموضع ثقة في كل الأنحاء.


6- الحياة والأدب في هولندة

اتهم الهولنديين منافسوهم بروح تجارية مسرفة وبحمى جمع المال، وبطباع جافة خشنة، ترتبط أحياناً بالانهماك في الحياة الاقتصادية، ويسلم المؤرخون البولنديون بهذه المزاعم عن طيب خاطر(89). ومع ذلك فهل نستطيع أن نقول عن ثقافتهم بأنها تجارية، مع أنها أولعت ولعاً كبيراً بالنظافة والزنبق (التوليب) والموسيقى والفن. وشيدت مدرسة في كل قرية ومحت الأمية، وخلقت جواً فكرياً مكهرباً بالجدل والأفكار، وأباحت حرية الفكر والكلام والصحافة، حتى أن هولندة سرعان ما أصبحت ملجأ عالمياً للعقول الثائرة؟ المتمردة وقال ديكادرت:

"ليس ثمة بلد غير هذا البلد، فيه الحرية أكمل. وألمن أعظم، والجريمة أندر، وبساطة العادات القديمة أروع(90)". وفي 1660 كتب فرنسي آخر:

ليس في العالم مقاطعة تنعم بهذا القدر من الحرية مثل مل تنعم هولندة وفي اللحظة التي يأتي فيها أي سيد إلى هذا البلد بأي أرقاء أو عبيد، فإنهم يصبحون أحراراً، ويستطيع أي فرد أن يغادر البلد متى شاء ويأخذ معه من الأموال ما يشاء. والطرق آمنة ليل نهار، حتى لو سار الإنسان بمفرده. ولا يباح للسيد أن يحتفظ بخادم دون إرادته. ولا يضار إنسان بسبب دينه. وكل إنسان حر في أن يتفوه بما يشاء "حتى عن الحكام(91)".

وكان أساس هذه الحرية هو النظام. ويعكس صفاء الذهن في أناقة المنزل وحسن ترتيبه. وتميز الرجال بالشجاعة والجد والعناد، كما تميزت النساء بالاجتهاد والبراعة الفائقة في الأعمال المنزلية. ويتسم الجنسان كلاهما بهدوء الطبع وروح المرح. وأعتزل كثير من رجال الأعمال الهولنديين العمل بعد جمع ثروة معقولة، وانصرفوا إلى السياسة والأدب والجولف والموسيقى والهناءة المنزلية. وكتب لودوفيكو جوتيشيارديني "إن الهولنديين يفزعون من الزنى" وأن نساءهم على أكبر قدر من الحرص والحذر، ومن ثم منحن قسطاً كبيراً من الحرية، فيخرجن وحدهن للقيام بالزيارات بل والرحلات، دون أن يأتين بما يخدش سمعتهن...إنهن مديرات المنازل ، وإنهن يحببن بيوتهن(93). وكان ثمة نساء كثيرات ذوات ثقافة رفيعة، مثل ماريا شورمان "منيرفا هولندة" (ربة الحكمة والمهارة الفنية والاختراق عند الرومان) التي قرأ أحد عشرة لغة، وتحدثت وكتبت بسبع لغات، ومارست الرسم والنحت جيداً، وبرعت في الرياضيات والفلسفة. ونظمت ماريا تسلشيد شعراً جميلاً في مثل جمال شخصها. وترجمت قصيدة تاسو "تحوير أورشليم" ترجمة نالت ثناء العالم، ورسمت ونحتت وحفرت، وعزفت على القيثارة.، وغنت فأطربت إلى حد أن ستة من الأعيان من بينهم قسطنطين هوجنز، وجوست فان دن فوندل، وجرير أند بريديرو، كانوا يركعون تحت قدميها متوسلين إليها أن تغني لهم. وتزوجت قبطاناً بحرياً، وأصبحت ربة بيت وأماً مخلصة وفية. وتركت وراءها ذكريات لازالت غزيرة لدى الهولنديين، عن الذكاء والمآثر والنبل(94).

وكان حب الموسيقى أوسع انتشاراً من تقدير الفن. إن جاك بيترزون سويلنك أحد أبناء أمستردام، وأعظم عازف هولندي على الأرغن هو الذي علم هنريج تسيديمان، الذي علم بدوره جوهان آدم رينكن. وهذا الأخير هو الذي درس على يديه جوهان سبستيان باخ. ومع كل هذا التفوق والامتياز دب في التجارة الهولندية بعض الفساد، والإدمان على الخمر، والبغاء، والإقبال على الميسر بجميع أشكاله(95) إلى حد المضاربة بأسعار الزنبق المستقبلة(96).

وكانت هارلم مركز زراعة الزنبق. وكانت الأبصال تستورد من إيطاليا وجنوب ألمانيا، حوالي نهاية القرن الخامس عشر؛ كذلك انتشرت الزهرة في باريس وصارت بدعة محببة ورمزاً للامتياز والسمو. حتى أنه في 1623 رفض أحد الهواة اثني عشر ألف فرنك (30 ألف دولار) ثمناً لاثني عشرة بصلة من الزنبق(97). وفي 1636 صار كل السكان تقريباً يضاربون في أزهار الزنبق وقامت أسواق خاصة يمكن لأي إنسان أن يشتري أو يبيع فيها محصولات الزنبق الحاضرة أو المستقبلة وكان للتوليب "انهياره" المالي 1637، ففي تلك السنة بيعت نحو 120 زهرة توليب ثمينة في مزاد علني لمصلحة أحد ملاجئ الأيتام بمبلغ 90 ألف فلورين.

وإلى هذا الجو البهيج جاء اللاجئون من فلاندرز وفرنسا والبرتغال وأسبانيا والتجارب الأجانب من نصف أمريكا المعمودة بتشكيلة مثيرة من الأساليب الغريبة الدخيلة، وضمت جامعات ليدن وفرانكر وهاردرفيك وأوترخت وجروننجن مشاهير علماء العالم، وأنجبت بدورها آخرين. فكان جوستوس لبسيوسي وجوزيف سكاليجر ودانبل هنسيوسي وجيرار فوسيوسي يعملون جميعاً في ليدن في النصف الأول من القرن من بداية افتتاحها (1575-1625) وما جاءت سنة 1640 حتى كانت ليدن أشهر مركز للعلم والدرس في أوربا. وكانت نسبة معرفة القراءة والكتابة بين جمهور سكان المقاطعات المتحدة أعلى منها في أي مكان آخر في العالم. وكانت الصحافة الهولندية أول صحافة حرة. وكانت صحيفة "الأخبار " الأسبوعية في ليدن، وصحيفة "الجازيت" في أمستردام تقرآن في سائر أنحاء أوربا الغربية، لأنهما كانتا تتحدثان في حرية تامة، على حين كانت الصحافة في تلك الأيام في أية بقعة أخرى خاضعة لسيطرة الحكومة ورقابتها. وكانت الهشة تتولى أي ملك فرنسي يطلب كبح جماح أي صحفي هولندي أو وقفه عند حده، إذا علم أن هذا مطلب مستحيل تنفيذه(98).

وكان رجال الأدب في هولندة كثيرين، ولكن كان من سوء حظهم أنهم كتبوا باللاتينية التي كانت في طريقها إلى الفناء، أو بالهولندية التي ضيقت نطاق قرائهم. فإن الهولنديين لم يتسن لهم أن يجعلوا من لغتهم، على غرار بحريتهم واسطة مشتركة لنقل الأدب والفكر. واعتقد ديرك كورنهرت وهيدريك سبيجل أن اللغة الوطنية المفعمة بالحيوية أداة لنقل الفكر والأدب، وكافحا لتنقيتها من الإضافات الغريبة الدخيلة غير المتجانسة وغير الملائمة-وكان كونهرت-وهو فنان، وكاتب، ورجل دولة وسياسة، وفيلسوف-أول وأقوى شخصية في التفتح الثقافي الذي توج الثورة السياسية. وبوصفه أميناً عاماً للمدينة صاغ بيان 1566 لوليم أورانج، فأودع السجن في لاهاي، ثم هرب إلى كليفز وكسب قوته من مهارته في الحفر على الخشب والمعادن، وترجم الأوديسة وأعمال بوكاشيو وشيشرون والعهد الجديد (الإنجيل). ولما عاد إلى هولندة كافح في سبيل التسامح الديني، ورمز إلى التاريخ الفكري في القرن التالي-السابع عسر-حين تخلى عن عقيدته التي رأى أنها قد تشوهت وتلوثت بالصراعات الدامية إلى حد كبير. وأصبح "لا أدرياً" معترفاً بأن الإنسان لم يستطيع أن يعرف الحقيقة(99)، وعرض في كتابه الأساسي "فن الحياة الطيبة" مسيحية بغير لاهوت، أي منهاجاً أخلاقياً مستقلاً عن المذاهب الدينية. ونتيجة لشيء من الأعضاء أتيح له أن يموت ميتة طبيعية (1590).

وتميزت هولندة بأن رجال الأعمال فيها كثيراً ما خلطوا بين الأدب وبين شئونهم المادية، ومن ذلك أن رومرفسكر. وهو تاجر ثري في أمستردام، ساعد صغار الكتاب وأكرم وفادتهم، وجعل من بيته منتدى (صالوناً) يباري منتديات فرنسا، ونظم هو نفسه شعراً أكسبه لقب "الهولندي الشجاع" أما بيتر هوفت فقد جعل من قصره في ببدون على الزيدرزي ملاذاً لعصر النهضة في هولندة، فاستقبل بالترحاب في "حلقة ميودين" الشعراء ورجال العلم والدبلوماسيين والقواد والأطباء. وفي العشرين سنة الأخيرة من حياته، كتب هو نفسه "تاريخ الأراضي الوطيئة" روى فيه قصة ثورة الأراضي في نثر قوي رائع، جعل هولندة تكرمه وتحتفل به وكأنه يمثل المؤرخ الروماني "تاسيتس" في هولندة.

ومن بين مائة شاعر في هولندة سما باللغة العامية إلى ذروتها الأدبية. منهم جاكوب كاتس المتقاعد الكبير لمدة اثنتين وعشرين عاماً، الذي بسط حكمه الأمثال السائرة في شعر متبل بالحكايات الطريفة المفعمة بالحيوية، حتى ظلت كتابات "الأب كاتي" لعدة قرون، من مقتنيات كل بيت يعرف أهله القراءة والكتابة في هولندة، أما جوست فان دن فوندل فقد تغلب على كل المحن وكل الأعداء، حتى تبوأ مكانة عالية في الأدب الهولندي. وكان أبوه صانع قبعات نفي من أنتورب بسبب آرائه المؤيدة لمذهب تجديد العماد. وولد جوست في كولون. وفي 1597 استقر بالأسرة المقام في أمستردام، وافتتح الوالد، الذي تقلب من مذهب إلى مذهب، محلاً لصناعة الجوارب، وورث جوست عمل أبيه ولكنه ترك إدارته لزوجته وابنه، على حين عمل هو على تعويض ما فاته من التعليم الرسمي بدراسة اللاتينية والإيطالية والفرنسية والألمانية، وكتب رواياته الثمان والعشرين وفق نماذج إغريقية وفرنسية، وحرص فيها على أتباع نظام الوحدات بدقة. وسخر من فكرة الجبرية أو القضاء والقدر ومن الجدل بين الشيع البروتستانتية, وافتتن بجمال الشعائر الكاثوليكية، وبماريا تسلكاد التي كانت كاثوليكية وجميلة معاً. وبعد موت زوجها (1634) وموت زوجته هو (1635) توثقت أواصر الصداقة بينهما: وفي 1640 اعتنق المذهب الكاثوليكي. واستمر ينتقد بشدة الأحقاد الدينية والمخادعات والحيل الاقتصادية والفساد السياسي، وكسب قلوب الهولنديين بالتغني بشجاعة الأرض الوطيئة ومجدها. وفي 1657 أفلست صناعة الجوارب التي أساء ابنه إدارتها، وهرب الابن إلى جزر الهند الشرقية، وباع كل ممتلكاته المتواضعة ليرضى دائنيه، وظل لعشر سنين يكسب قوت يومه من العمل بوظيفة كاتب لدى مقرض نقود، وأخيراً أجرت عليه حكومته معاشاً، وقضى في هدوء الثلاثة عشر عاماً الأخيرة من عمره الذي بلغ اثنين وتسعين عاماً.

أما أعظم الشخصيات جاذبية في أدب الأراضي الوطيئة في هذا العصر، فهو قسطنطين هميوجنس، وهو هولندي جمع بين كل مظاهر وجوانب النهضة في إيطاليا. وكان أبوه كريستيان جنس سكرتير مجلس الدولة في لاهاي أما ابنه كريستيان فكان أعظم رجال العالم في القارة على عهد نيوتن، وبين الوالد والولد حافظ قسطنطين على ما اشتهرت به الأسرة من قدرات ومواهب ولد قسطنطين في لاهاي في 1596. ونلقي فيها وفي ليدن وأكسفورد وكمبردج قسطاً وافراً من التعليم، وكتب الشعر باللاتينية والهولندية، وبرع في الألعاب الرياضية، وأصبح موسيقياً وفناناً عظيماً. وفي سن الثانية والعشرين التحق ببعثة دبلوماسية إلى إنجلترا، وعزف على العمود أمام جيمس الأول، وأحب جون دون الذي ترجم فيها بعد قصائده إلى الهولندية. وفي سن الثالثة والعشرين أرسل في بعثة دبلوماسية إلى البندقية، ولدى عودته كاد يفقد حياته عندما كان يرقى قمة برج الكاتدرائية في ستراسبورج. وأصبح في 1625 سكرتيراً لطائفة من الحكام على التعاقب. وفي 1630 عين في المجلس المخصوص. وفي نفس الوقت أصدر عدة دواوين من الشعر تميزت بجزالة الأسلوب ورقة الشعور. وآذن موته في سن التسعين (1687) بانتهاء أزهى عصور الأراضي الوطيئة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

7- الفنون الهولندية

أحس الهولنديون البروتستانت بأن عمارة كنيسة العصور الوسطى وزخارفها كانت أشكالاً تغذي النفوس بما يؤيد الأساطير ويدعمها، وتثبط الفكر وتعويقه، ومن ثم عقدوا العزم على أن يعبدوا الله بالصلوات والعظات. لا بالفن، ولم يحتفظوا في طقوسهم إلا بفن الإنشاد. ولذلك كانت هندسة بناء الكنائس عندهم تكاد لا تهدف إلا إلى البساطة الصارمة المطلقة. بل إن الكاثوليك أنفسهم لم يشيدوا في المقاطعات، المتحدة كنائس جديرة بالذكر وفي القرن السادس عشر جلب تجار ما وراء البحار، ربما من سوريا أو من مصر، فكرة القباب البصلية الشكل. وانتشر هذا الطراز من هولندة وروسيا إلى ألمانيا، وأصبح أحد معالم عصر الباروك في أوربا الوسطى.

إن رجال الأعمال، لا رجال الدين، هم الذين سيطروا على هندسة البناء. وعمدوا أول ما عمدوا إلى تشييد مساكن راسخة البناء لأنفسهم-تكاد تكون كلها متشابهة، لا تبعث على الخوف مثل قصور فلورنسة، ولا تثير الحقد والحسد، لأن كل مظاهر البذخ والترف والفن كانت داخل جدران البيت، وفي حدائق الزهور التي عنوا بها أكبر عناية. أما المنشئات المدنية فقد أباحوا فيها بعض الزخرف والأبهة. ففي دار البلدية التي شادها ليفن دي كي لمدينة أنتورب، جمع في انسجام تام بين عناصر من فرنسا ومن ألمانيا ومن عصر النهضة، ودار نقابة القصابين في هارلم، التي شادها ليفن نفسه، تضارع في فخامتها وأبهتها أية كاتدرائية قوطية. وتظهر دار البلدية في هارلم كيف أن هولندة طوعت الطراز الكلاسيكي (القديم) تماماً حتى بات يتمشى مع أهدافها ونزعاتها.

وكان ميكل أنجيلو هولندة في العمارة والنحت في ذاك العصر هو هندريك دي كيزر الذي أصبح وهو في سن التاسعة والعشرين المهندس المعماري لمدينة أمستردام (1494)، وهناك صمم الكنيسة الغربية وسوق المال ومبنى شركة الهندسة الشرقية في طراز يجمع بين طراز إيطاليا وهولندة وعصر النهضة. وفي دلفت بنى دار البلدية والنصب التذكاري لوليم الأول، وفي 1627 في روتردام، صب من البرونز تحفته الرائعة. ألا وهي تمثال أرزم الرائع الذي قبع ساكناً لم يمس بأذى لعدة سنوات بين أنقاض الحرب العالمية الثانية. ودمر بعض من أجمل المنشآت الهولندية التي يرجع تاريخها إلى تلك الحقبة نتيجة الإخفاق في إدارة شؤون الدولة.

وتألقت صناعة الخزف بين الفنون الصغيرة. وفي روتردام ودلفت سما الذوق الرفيع بصناعة القرميد حتى جعل منها فناً. وأقبل الناس على استخدام خزف دلفت المزخرف في كل بيت في الأراضي الوطيئة تقريباً. وحوالي 1610، فور افتتاح التجارة الهولندية مع الشرق، بدأ خزافو دلفت في تقليد الخزف الصيني، وانتخبوا نوعاً من السيوليق (خزف مزخرف مطلي بالمينا) الرقيق الأزرق أسموه "البورسلين الهولندي(100)" وسرعان ما عرض نصف أوربا الغربية خزف دلفت على الجدران أو على الأرفف.

أما أعظم الفنون جميعاً في الأرض الوطيئة فكان الرسم. وليس في التاريخ المعروف لدينا بلد غير هذه البلد-ولا نستثني من ذلك إيطاليا النهضة-حظي فيه أي فن يمثل هذه الشعبية العارمة. وتضم فهارس الفن فيما بين عامي 1580-1700 خمسة عشر ألف رسم هولندي(101)، وتأثر الفن الفلمنكي تأثراً شديداً بالفن الإيطالي، ولكن في المقاطعات الشمالية أثارت المقاومة الموفقة لسلطان أسبانيا روحاً قومية وكبرياء قومية، لم تكونا تحتاجان إلا إلى الثروة المستمدة من التجارة فيما وراء البحار، لتحدثا انفجاراً ثقافياً. فتحولوا بالفن إلى معارج جديدة من التطويع لحياتهم ومن الواقعية بعد أن كانت تتقلص عنه تماماً الرعاية الكنسية والأرستقراطية، وأصبح رعاة الفن وحماته الجدد هم التجار وعمد المدن والمحامون والمؤسسات والنقابات والكوميونات والمستشفيات، بل حتى المنشآت الخيرية، ومن ثم كانت الرسوم الشخصية والرسوم الجماعية ومشاهد الحياة اليومية. وكان لكل مدينة هولندية تقريباً مدرسة الفنانين الخاصة بها، تحت رعاية محلية: هارلم، ليدن، أوترخت، أمستردام، دوردرخت، دلفت، لاهاي. أما المواطنون البسطاء الذين ربما كانوا في بلاد أخرى أميين من حيث الفن، عالة على الكنيسة، فإنهم هنا زينوا بيوتهم بلوحات اشتروها أحياناً بثمن عال، ومن ذلك أن خبازاً أثبت سلامة ذوقه، بدفع 600 فلورين (57.000 دولار؟) ثمناً لصورة واحدة للفنان فريمير(102)، وكادت النزعة الدنيوية أن تكون عامة شاملة، فلم يعد للقديسين وجود في الرسوم، وجاء التجار، وانتصرت رسوم البيت والحقل على الكنيسة وازدهرت الواقعية، فنظر البرجوازي بشيء قليل من التقدير إلى لوحة تمثله هو وزوجته، ولكن السدود والكثبان الرملية وطواحين الهواء والأكواخ والسفن الشرعية والأرصفة الزاخرة بالبضائع، كل هذه أحيت صورها على الجدران في سرور بالغ، ذكريات أشياء فعلية عامة. ولقيت مناظر السكارى المرحين ورواد الحانات بل حتى المواخير، ترحيباً في بيوت ربما كانت تعلق منذ قرن مضى صور الشهداء القديسين وأبطال التاريخ أو آلهة الوثنيين. ولم تكن الصور العارية من سمات هذا العصر، حيث لم يبتهج لها الناس في مثل هذا المناخ الرطب مع الأجسام الضخمة. وبدا في هذه البيئة الجديدة أنه ليس ثمة محل تميز به الفن الإيطالي من عبادة الجمال والرقة والتهذيب والوقار، حيث لم تتطلب هذه البيئة من الفن شيئاً أكثر من إخراج الحياة اليومية والمشاهد المألوفة.

وثمة جانب كئيب حزين في صورة الأمة التي أغرمت بالرسوم إلى حد الجنون. وذلك أن الفنانين الذين رسموا لها عانوا في أغلب الأحياء من الفقر ولم يحظوا إلا بأقل التقدير. على حين أن الأرشيدوق واللوردات والأساقفة في الفلاندرز أجزلوا العطاء لمن اصطفوا من الفنانين. أما في هولندة فكانت المنافسة بين الفنانين فردية، فأنتجوا للسوق العامة، ووصلوا في معظم الأحوال إلى العملاء عن طريق وسطاء نشأوا بين المنتخبين والمستهلكين المشترين، وعرفوا كيف يشترون بثمن بخس ويبيعون بسعر عال. وقلما حصل الفنانون الهولنديون أثماناً عالية، فإن رمبرانت في ذروة شهرته لم يقبض إلا 1600 جيلدر ثمناً للوحته "حراسة الليل" ولم يحصل فإن جوبين إلا على 600 جيلدر ثمناً للوحة "منظر لاهاي"، وحصل الباقون على أقل من هذا بكثير، فإن جان ستين رسم ثلاث صور شخصية مقابل 27 جيلدر، وباع ايزاك فان أوستاد ثلاث عشرة صورة مقابل مبلغ مماثل. وكان على الفنانين الهولنديين أن يلجأوا إلى مختلف الأعمال ليكسبوا قوت يومهم، فباع فان جويين الزنبق، واشتغل هوبيما بجباية الضرائب، وأدار ستين نزلاً، وكان الفنانون أنفسهم من الكثرة إلى حد أنهم أغرقوا سوقهم وأتخموها. أن قائمة بأسماء مشاهيرهم لتملأ صفحات، وأن ثبتاً بأعمالهم المكنوزة ليزحم كتباً، فهلا أزجينا لهم الشكر في الهامش .


8- فرانس هالس (1580 - 1666)

عاش أسلافه لمدة قرنين من الزمان في هارلم. وكان أبوه قاضياً هناك، ولكن لأسباب غير معروفة ولد فرانس في أنتورب، ولم يعد إلى هارلم ليقوم فيها إلا بعد بلوغه التاسعة عشرة من العمر. ولم نسمع عنه شيئاً قط إلا في 1611، حيث سجلت إحدى كنائس هارلم تعميد هرمان بن فرانس هالس وزوجته آنك. أما ما عرف عنه بعد ذلك، فكان من سجلات محكمة شرطة (1616) حيث تروي أن فرانس هالس قبض عليه بتهمة ضرب زوجته ضرباً مبرحاً، فأنب تأنيباً قاسياً، ثم أفرج عنه بعد تعهده بأن يكون مهذباً وأن يتجنب صحبة السكارى. وماتت آنك بعد ذلك بسبعة شهور. وبعد خمسة أشهر أخرى (1617) تزوج فرانس من ليزبث رينيرز. وبعد تسعة أيام أنجبت له أول أولاده العشرة(104). وقد خلف لنا لوحة رائعة تمثله مع زوجته الثانية(105) التي عاشت معه طوال السنوات الأربع والسبعين التي بقيت في حياته، واحتملت إملاقه وعوزه وسكره وعربدته. وليس ثمة ما يجذب الانتباه فيه إلا أنه كان رساماً عظيماً ذا روح مرحة. وكان قد بلغ السادسة والثلاثين حين حقق نجاحاً هائلاً في لوحته "مأدبة نقابة رماة سانت جوريس(106)"، وهي إحدى لوحات "دولين" الخمس التي هيأت لفرانس مكانته العالية، ويقصد بلفظ "دولين" مقر المتطوعين الذين مارسوا الرماية وأقاموا المباريات وعقدوا الندوات الاجتماعية، وكانوا بمثابة قوات نظامية في الكوميونات. وكان ضباط مثل هذه النقابات أحياناً يأجرون فناناً ليرسم لهم صور جماعية، ولكن يصر كل واحد منهم على أن يتناسب بروزه في الصورة مع رتبته في الجماعة ومع إسهامه تكلعتها.فهنا هؤلاء الضباط في أبهى حلة، يتجمعون حول مأدبة، ويرفع أحدهم علم فرقته الغني بالألوان. وحصل هالس على أجره لأن كلا من هذه الرؤوس فرد يمثل شخصية قوية، تختلف عن الأخرى، كما يمثل سيرة حياته وتحفة رائعة.

ولم نسمع عن مهمة مماثلة أخرى إلا بعد إحدى عشرة سنة من ذاك التاريخ، ولكن هالس أنتج في هذه الحقبة رسوماً تعد من روائع الفن الهولندي. من ذلك "بائع السردين(107)" وهي مرة أخرى تاريخ يتمثل في وجه، و"الثلوث المرح" "يونكر رامب وصديقته" وكلاهما في نيويورك، واللوحة المشهورة "الفارس الضاحك(108)"-تتجسد فيها الثقة بالنفس، في ثياب ذات أهداب مع طوق مكشكش حول العنق. وعباءة مزدانة بالأزهار، وابتسامة تكاد تشبه ابتسامة الجيوكندا في رقتها. وفي هذه الفترة (1654؟) رسم فزانس "صورته الشخصية(109)" وجه قوي مليح، وعينان حزينتان تنكران زهو الملابس الجميلة والذراعين المطويين. لقد كان الرجل منهوكاً تتقاذفه اللهفة على الإتقان والكمال، والظمأ إلى الخمر.

وفي 1627 جاءت مجموعة دولين الثانية: لوحة أخرى "لنقابة ضباط سان جوريس(110)" ولم تكن في صفاء وإشراق اللوحة الأولى، فإن هالس تحول عمداً، ولبعض الوقت، عن البريق الهادئ للألوان القوية إلى التلاعب الأشق بالأساليب الثانوية-الألوان النصفية (لا داكن ولا فاتح) والضلال الرمادية ومخطوط الكفافية الرقيقة. وثمة لوحة دولين أخرى في هذا العام "نقابة رماة سانت أوريان(111)"، وهي كذلك في أساليب مخففة. ولا بد أن الرماة اغتبطوا لأنهم كلفوا هالس أن يرسم لهم لوحة أخرى(112). وهما أسترد الفنان ألوانه وأبرز عبقريته ليجعل من كل وجه شيئاً ممتعاً فريداً. وفي 1639 رسم لوحة أخرى "لضباط نقابة سانت جوريس"(113) ولكن في هذه اللوحة ضاع الفرد في زحمة المجموع. ولكن لوحات الدولن هذه في جملتها أروع صور المجموعات في كل العصور، هي توضح انطلاق الطبقة الوسطى على مدلونج الظهور الموسوم بالفخار والزهور.

وفي الفترة الثانية (1626-1650) رسم هالس صوراً تنادي بتخليد ذكراها، منها "السكير المرح(114)" يضع وق رأسه قبعة كبيرة تكفي لتغطية رؤوس حشد من السكارى: و"الذي يعدو فوق الرمال"(115)، وهو أشعث أغبر، في أسمال بالية، ولكنه فاتن، و"المتشردة أو الغجرية" تبتسم وتنتفخ في اللوفر، و"المهرج" في أمستردام "وبلتزارا كريمان الوهمي، في واشنطن أما تحفة فترة ذروة النضج هذه، فهي لوحة هالس البالغة الامتياز "القائمون على مستشفى سانت إليزابث(116)"، وهي تماثل، أولاً تماثل لوحة رمبرانت مندوبو نقابة تجار الأقمشة التي رسمت بعدها بإحدى وعشرين سنة.

أن إسراف هالس في الشراب بغير حدود. ولو أنه يبدو أنه لم يسئ إلى فنه، أضر بموقفه حتى في بلد وفي عصر لجأ فيه الناس إلى الشراب بين الحين والحين إبتعاثاً للمرح والفرح. وظل يرسم صوراً ربما كانت كفيلة بأن ترفع أي فنان إلى قمة الشهرة: "ساحرة هارلم(117)"، و"ديكارت(118)" والذي يحرر من الوهم، في حاجبين كبيرين وأنف ضخم وعينين تنمان عن الشك، ثم رسم في سن الثمانين صورة "شاب في قبعة مترهلة(119)". ولكن في الوقت نفسه تكاثرت الأرزاء على الفنان، ففي 1639 أرسل ابنه بيتر إلى مصحة الأمراض العقلية على نفقة البلدية، وفي 1641وضعت ابنته الكبرى المتمردة في إصلاحية الأحداث بناء على طلب أمها. وما جاء عام 1650 حتى كان فرانس معمداً. وفي 1654 أقام الخباز المحلي ضده الدعوى يطالبه بسداد مائتي جلدر وحجز على أدوات الرسام. وفي 1662 توسل الشيخ الهرم المتهدم للحصول على معونة وأجيب إلى طلبه. وبعد ذلك بعامين قرر له مجلس مدينة هارلم معاشاً سنوياً، ووهبه فوراً ثلاثة أحمال من الخث ليوقد مدفأته. ويحتمل أنه رغبة في منح فرانس مزيداً من الصدقات، كلف في هذا العام (1664) برسم لوحتين: "مديروا ملجأ الفقراء" و"مديرات ملجأ الفقراء". ويظهر في لوحة الرجال أثر اليد المضطربة للفنان في سن الرابعة والثمانين، فإن معظم التقاطيع والملامح فيها ملطخة بشكل غامض، على نقيض اللوحة الأخرى التي تمثيل النساء، فإنه مما يثير الدهشة أ، المهارة القديمة عادت سيرتها الأولى:

فهنا خمس أنفس ارتسمت على خمسة وجوه ممتثلة مذعنة، لخمس نساء عجائز أرهقتهن الأعمال غير العادية، عابسات متجهمات متزمتات، كما يقتضي نظامهن البيوريتاني، وقد نسين مرح الشباب وبهجته. ومع ذلك، يتألق بشكل ما في هذه التقاطيع الكالحة عطف هادئ ومشاركة وجدانية حزينة. وهاتان الصورتان الأخيرتان هما آخر لمسات جرت بها يد الفنان أو ومضات لمعت في فنه، وهما الآن، إلى جانب لوحات مجموعات "الدولين"، موجودتان في متحف فرانس هالس الذي شادته مدينة هارلم في مكان ملجأ الفقراء.

مات هالس فقيراً معدماً (1666) ولكنهم احتفلوا بدفنه احتفالاً مهيباً في هيكل كنيسة سانت بافون في المدينة التي اعتمدت شهرتها على الحصار الذي قاومته طويلاً، وعلى أعمال أعظم أبنائها. ولمدة قرنين من الزمان بعد وفاته كاد النسيان يجر عليه ذيوله، وبيعت لوحاته بأبخس الأثمان، أو في المزادات، أو بلا شيء مطلقاً، وإذا كان مؤرخو الفن قد تذكروه، فما ذاك إلا لأنهم تنبهوا إلى ضيق مجال فنه-فلم يكن ثمة صور دينية ولا أساطير ولا صور تاريخية ولا مشاهد طبيعية ولا صور عارية-أو إلى العجلة المدموغة بالإهمال والتهاون في طريقة عمله، حيث لم يكن ثمة مخططات تمهيدية، بل لطخات من ألوان متناثرة اعتمدت على التخمين وعلى ذاكرة الرائي ليملأها بالتفاصيل. واليوم يتعالى الهتاف للفنان، بشكل قد يكون مبالغة فيه، مما يتوازن مع طول إغفال شأنه كما يعتبر نقد كريم أن هالس ألمع رسام للصور الشخصية رآه العالم(120)". وما دام الزمن، وهو أجدر القضاة بالثقة، يتذبذب في حكمه، فلنقنع نحن بالإعجاب.


9- رمبرانت هارمنز فان رين 1606 - 1669

ولد في ليدن لأب طحان ثري. وهو جريت هامنز الذي أضاف إلى أسمه "فان رين" ربما لأن بيته كان يطل على نهر الراين. ولابد أن الفنان أحب أباه حباً جماً لأنه رسمه إحدى عشرة مرة أو أكثر، في قبعة وسلسلة فخمتين(121) وكصراف نقود(122) وكسلا في نبيل(123)-وجه قوي حسن التقاطع يحف به الوقار-ورسمه في 1629 رجلاً علته السنون بالكآبة والإرهاق(124). كما رسم أمه اثني عشرة مرة، أجدرها بالذكر لوحة "المرأة العجوز" في متحف فيينا قلقة منهوكة ونراها في متحف أمستردام منكبة على الكتاب المقدس. وإذا كانت الأم-كما يعتقد البعض-"منونية" (تنتسب إلى طائفة بروتستانتية متزمتة) فقد ندرك من هذا ميل رمبرانت إلى التوراة، وصلته الوثيقة باليهود. وفي سن الرابعة عشرة التحق بجامعة ليدن ولكنه أنعم النظر في أشكال أخرى غير الأفكار أو الألفاظ، وترك الجامعة بعد عام واحد، وأقنع أباه بالسماح له بدراسة الفن. وخيراً ما فعل، فإنه في 1623 أرسل إلى أمستردام ليتتلمذ على بيتر لاستمان الذي كان يعتبر آنذاك آبللر (رسام إغريقي) العصر وكان لاستمان قد عاد من روما إلى هولندة بتوكيد كلاسيكي على الرسم الصحيح ويحتمل أن رمبرانت تعلم منه أن يكون مخططاً ممتازاً. ولكن بعد قضاء عام واحد في أمستردام عاد الشاب القلق مسرعاً إلى ليدن متلهفاً على الرسم بطريقته الخاصة. فرسم أو صور كل ما وقعت عليه عيناه تقريباً، بما في ذلك الحماقات الصاخبة والقذارات المخزية(125)، وتابع النهوض بفنه عن طريق تجارب عزيزة لديه في تصوير شخصه فكانت المرآة هي النموذج أمامه وترك لنا صوراً شخصية (62 على الأقل) أكثر مما ترك كثير من كبار الرسامين من صور. ومن بين هذه الصور الشخصية الأولى رأس جميل في لاهاي: وهي لوحة تمثل رمبرانت في الثالثة والعشرين، وسيماً مليحاً بطبيعة الحال (وهذا هو شأن كل المرايا-تظهرنا في أجمل صورة) يتطاير شعره هنا وهناك دون مبالاة، في ترفع الشباب عن التقاليد والأعراف، تنبئ عيناه عن اليقظة والزهو بما ثبت من قدرته وكفايته.

والحق أنه كان بالفعل قد وطد مركزه. وفي 1629 نقّده أحد الخبراء 100 فلورين أجراً لصورة-وهذا أجر مناسب لمنافس صغير في بلد كان فيه عدد الرسامين كبيراً مثل عدد الخبازين، ولكنهم لا يشبعون بطونهم مثلهم. وكانت موضوعاته-بعد شخصه ووالديه-مأخوذة من الكتاب المقدس. وفي لوحته "أرميا-يرثي لخراب أورشليم(126)" تجلت الهالة الصوفية التي تميزت بها لوحات رمبرانت الدينية. أما لوحة "سمعان في الهيكل(127)" فإنها تعبر تعبيراً صادقاً عن روح ما جاء على لسان هذا الشيخ في الإنجيل: "الآن نطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام" (إنجيل لوقا 59:5). وكلف من أمستردام بأعمال كثيرة إلى حد أنه عاد إليها في 1638. وقضى هناك بقية أيام حياته.

وفي خلال سنة مكن وصوله إليها رسم إحدى روائع الدنيا وهي "درس التشريح للأستاذ نيقولا تولب(128)"، وكان ثمة تشريحات كثيرة في التصوير الهولندي، ولم تمتهن السوابق، أو يخدش التواضع حين كلف الجراح الممتاز الذي كان أربع مرات عمدة لمدينة أمستردام، رمبرانت أن يرسمه، وهو يقدم عرضاً في التشريح في قاعة نقابة الجراحين، معتزماً أن يهدي الصورة إلى النقابة تذكاراً لأستاذيته، وربما كان دكتور تولب هو الذي اختار سبعة من "الطلبة" ليكونوا معه في الصورة، وواضح أنهم لم يكونا طلبة، بل رجالاً ناضجين من ذوي المكانة في الطب أو في مجال آخر، وانتهز رمبرانت الفرصة، كل الفرصة، ليبرز الوجوه متألقة بالشخصية والذكاء. وتبدو الجثة منتفخة على نحو غير ملائمة، واتخذ اثنان من المتفرجين وضعا تشهده الأجيال القادمة، ويمضي دكتور توليب في عمله في هدوء رجل متمرس واثق. أما الرجلان اللذان يحدقان النظر فوق رأس الجثة فكانا يمثلان حب الاستطلاع والانتباه بأجلى معانيهما، وكان التلاعب بالضوء على اللحم والأطواق إعلاناً عن ميزة رامبت.

وانهالت الطلبات على رمبرانت، حتى بلغت أربعين في عامين. أما وقد أمتلأت الآن جيوبه بالمال، واستبد به الظمأ إلى النساء "فقد حان الأوان للزواج (1634). وكانت ساسكيا أو لنبرخ ذات وجه جميل وعينين راقصتين وشعر حريري ناعم اللون وقوام أهيف وثراء كاف، وما أجمل صورة "ساسكيا" في مدينة كاسل الألمانية، وكانت الابنة اليتيمة لمحام وقاض ثري. وربما كان عمها-وهو وسيط في تجارة التحف الفنية-هو الذي أغواها بالجلوس أمام رمبرانت ليرسمها، وكانت جلستان فقط كافيتين للتقدم لطلب يدها. وقدمت العروس صداقاً قدره أربعون ألف جيلدر، أصبح بذلك مفلس المستقبل واحداً من أغنى الفنانين في التاريخ. وأصبحت ساسكيا زوجة صالحة على الرغم من ثروتها. وتحملت في صبر وجلد عبقرية شريك حياتها المستغرقة في العمل. وجلست إليه ليرسم لها صوراً كثيرة، ولو أنها أبرزت جسمها الآخذ في التفتح والامتلاء، وكان يدثرها في أزياء غريبة ليرسم لها "فلورا آلهة الأزهار" المشرقة الباسمة الموجودة الآن في لندن، و"فلورا" الحزينة، الأبسط شكلاً، الموجودة الآن في نيويورك. وفي إحدى اللوحات في درسن نراه وقد غمرته السعادة، وهو يمسك بها وهي جالسة على ركبته، وتفيض منه الابتسامة على اللوحة، رافعاً كأساً عالية ابتهاجاً بموفور الصحة والمال.

وفي سنين اليسر هذه (1634-1642) أخرج الفنان التحفة تلو التحفة. واستمر يرسم نفسه. فنراه في "صورة الفنان" (1634) وهي الآن في اللوفر-وسيما مبتهجاً، في قبعة مزدانة بالجواهر. وسلسلة ذهبية على صدره.ورسم في السنة نفسها "الضابط(129)"- وهو فيها جميل مهيب يضع على رأسه قبعة تغزو العالم، ورسم لنفسه في 1635 صورة في قبعة رائعة يكاد ريشها يداعب السماء. وسعياً وراء الشخصية الأجمل، (1634 "السيدة العجوز" التي لا تبالي بنا وهي معلقة في المتحف الوطني بلندن في وجه ملأته السنون بالتجاعيد. وبعد ذلك بعام واحد رسم "المرأة العجوز على الكرسي ذي الذراعين" وهي موجودة في نيويورك. وعثر في خرائب أمستردام على رجل في الثمانينات، ألبسه عمامة وثياباً ورسم له لوحة "رجل شرقي(130)": وكان له ولع بجمع الثياب والمجوهرات والسيوف والقبعات والأحذية الغريبة، تستطيع أن تراها جميعاً، فيما عدا السيف في لوحة "مارتن داي(131)" بالأربطة والأشرطة على قفازه، والأهداب على ثيابه والتروس فوق حذائه. والآن أيضاً، رسم موضوعات دينية عتيقة في صورة صادقة جديدة متخذاً نماذجه من الرجال العجائز والشابات اللائى قابلهن في الشوارع-كل منها تلفت النظر في أسلوب من معالجة التفاصيل، تأخذ بالألباب في التلاعب بالضوء، وتثير المشاعر بتدفق العاطفة فيها إلى حد أن أية لوحة منها يمكن الدفع بأنها أبدع ما رسم الفنان، ومثال ذلك لوحة "تضحية إبراهيم(132)"، الملاك روفائيل يهجر طوبيا(133)". وجاءت هذه السنوات المباركة بعدد من أشهر الصور الشخصية مثل "السيدة ذات المروحة(134)"، و"الرجل ذو القفاز(135)" وكلتاهما تجل عن الوصف، وتقصر عنها أية ألفاظ.

وآخر الرسوم في هذه الحقبة، وربما أعظم إنجازات رمبرانت على الإطلاق، هي اللوحة الضخمة (14×12 قدماً) تعرف بالتاريخ باسم "حراسة الليل"، والأكثر احتمالاً أن اسمها "جماعة كابتن كوك الرماة(136)" (1643). ولا ينقص هذه الرقعة الهائلة أية تفاصيل، وليس فيها أي ظل للظلام أو أي مسقط إلا حسب حسابه، أو أي تباين في اللون إلا وهو مدروس. ويقف الكابتن المزهو في الوسط في لون أسمر وأبيض وأحمر، وإلى يساره قائمقام في أحذية عالية وسترة وقبعة صفراء ذهبية اللون، والسيوف تبرق والرماح تلمع والأعلام ترفرف، وإلى يمين الكابتن فرقة الناي والطبول. وتغادر الجماعة مقرها إلى ما يبدو واضحاً أنه عرض في أحد المهرجانات. وتعاقد رمبرانت مع كل من الأشخاص الستة عشر الذين سيصورهم، على أن يدفع كل منهم مائة فلورين. وأحس كثير منهم بأن المساواة في الأجر لم تقابلها مساواة في التألق والعظمة في اللوحة، وشكا بعضهم من أنه وضعهم في الظل ولم يسلط عليهم الأضواء، أو أنه قصر في تحديد ملامحهم حتى يسهل على أصدقائهم التعرف عليهم. ولم يشتد الطلب بعد ذلك على الصور الجماعية في مرسمه، وبدأ نجمه يأفل.

ولا بد أن المال كان وفيراً لديه في 1639 لأنه اشترى في تلك السنة داراً فسيحة في شارع جودن-يريد الذي كان يقطنه أثرياء اليهود. وكلفته الدار ثلاثة عشر ألف فلورين. وهو مبلغ ضخم لم ينجح قط في دفعه كاملاً. وربما قصد ألا تتسع لأسرته فحسب، بل لتلاميذه ولمرسمه ومجموعته المتزايدة من التحف القديمة والأشياء الغريبة والفن. وبعد دفع نصف ثمن الشراء في السنة الأولى من شغل الدار، وبقاء النصف الثاني ديناً عليه، ارتفعت فائدته التي لم تدفع إلى حد جره إلى هاوية الإفلاس.وفي الوقت عينه كانت صحة حبيبته ساسكيا آخذة في التدهور، وكانت قد أنجبت له ثلاثة أولاد، مات كل منهم في سن الطفولة. وهدت ولاتهم العسرة ونهايتهم الأليمة من كيانها. وفي 1641 أنجبت له أبناً أسماه تيتوس، وقد بقي على قيد الحياة، ولكن أمه فارقت الحياة في 1642. وأوصت بكل ما تملك إلى رمبرانت، شريطة أن تؤول بقية التركة إلى ولدها إذا تزوج والده ثانية. وبعد سنة من وفاتها رسم لها رمبرانت صورة من الذاكرة العامرة بحبها. وكدرت هذه الخسارة صفو حياته. وبدأ من ذلك الوقت أن فكرة الموت تستبد به وتقلقه. وعلى الرغم من أنه كان شديد التعلق بأسرته، فإنه كان دائماً يؤثر الوحدة على الرفقة، أما "الآن فقد" آوى إلى عزلة كئيبة.وكان وهو يرسم يصرف المشاهدين الأغرار عنه قائلاً "أن رائحة الطلاء تضر بالصحة(137)". ولم يكن رجل الدنيا المثقف أو المهذب مثل روبنز. وقرأ قليلاً: ولم يكد يقرأ شيئاً سوى الكتاب المقدس، وعاش في مملكة اللون والظل والضوء التي لا تنبس ببنت شفق. وهي متنوعة مثل دنيا الأدب ولكنها غريبة عنها فريدة. وكان من الصعب عليه أن يقوم بالواجبات الاجتماعية إذا قدم عليه من يجلسون أمامه ليرسمهم، أو أن يتبادل معهم أحاديث قصيرة بقصد تسليتهم والاحتفاظ بسكوتهم وهدوئهم. وقل المترددون عليه حين وجدوا أن رمبرانت مثل معظم أسلافه، لم يكن يرضى أن يرسم له مرسماً تخطيطياً في جلسة أو جلستين، ثم يكمل الصورة من هذا الرسم التخطيطي، بل آثر أن يرسم على القماش، الأمر الذي يتطلب جلسات كثيرة، هذا فوق أنه كان له طريقة انطباعية في أن يرسم ما يفكر فيه أو يحس به، لا مجرد ما يرى، ولم تكن النتيجة دائماً مرضية.

ولم يكن عوناً له أن تقع داره في حي اليهود. وكان قد عقد منذ ذاك الوقت صداقات مع كثير منهم. وكان قد نقش صورة لمنسة بن إسرائيل (1636). والآن في 1647 حفر على الخشب الوجه الداكن للطبيب اليهودي أفرايم يونس. ولما كان الفنان محاطاً من كل جانب تقريباً، وواضح أنه أحبهم، فإنه وجد موضوعات تتزايد يوماً بعد يوم، بين اليهود الأسبان والبرتغاليين في أمستردام. وربما تعرف على باروخ سبينوز الذي عاش في هذه المدينة من 1635. وذهب بعضهم إلى أن رمبرانت نفسه كان يهودياً. وهذا غير صحيح لأنه عمد ونشأ على المذهب البروتستانتي. وكانت ملامحه تنطق بأنه هولندي، ولكن لم يعرف عنه أي تحيز ملحوظ بالنسبة للدين أو للجنس. وثمة عمق خاص لتفاهمه الموسوم بالعطف في رسومه لليهود. لقد افتتن بشيوخهم ولحاهم التي تقطر منها الحكمة وعيونهم التي تشف عن الحزن والأسى. وإنك لتجد نصف العذاب النفسي عند العبرانيين مائلاً في وجه "اليهودي العجوز" وهي اللوحة التي رسمها رمبرانت 1654 والموجود الآن في الأرميتاج (لننجراد)، وفي لوحة "الحبر" (الحاخام) (1657) في لندن وفي هذه اللوحة الأخيرة صورة الحبر الذي واسى رمبرانت بعد وقوعه في الضائقة المالية وأمده بمعونة مادية.

ونراه في 1649 يرسم "هندريكا ستفلز في المخدع"(138)، وندرك أنه اتخذ خليلة. وكانت وصيفة ساسيكا، وبقيت مع الفنان الأرمل وعنيت به عناية فائقة، وسرعان ما سرت بحرارة جسمها. أنه لم يتزوجها لأنه كره أن يتخلى عن تركة ساسكيا لابنه تيتس الذي كان بعد صبياً في الثامنة من العمر. وعندما رسم هندريكا 1955(139)، وكانت جميلة بدرجة مقبولة ذات عينين تلازمهما لهفة مكتئبة، وربما كانت هي التي جلست أمامه مرتين لتجربة أو دراسة فن رسم العاريات: في 1654 "باشيبا في الحمام"(140) و"امرأة تخوض"(141) وكلتاهما آية في العظمة من حيث الألوان والاتساع. وفي يولية من هذا العام دعيت للمثول أمام شيوخ الكنيسة، حيث أنبت تأنيباً قاسياً على اقترافها الزنى، وحرمت من تناول القربان المقدس. وفي أكتوبر وضعت له طفلاً اعترف رمبرانت ببنوته، ودبر أمر تعميده بسلام، وعرف كيف يحب خليلته حباً عميقاً كما احب زوجته، وإلا كيف كان يتسنى له أن يملأ وجهها بكل هذه الرقة حين صورها 1658 في رداء أحمر يلتئم مع شعرها(142). وكانت زوجة أب فاضلة لتيتس الذي أخذ يترعرع صبياً فاتناً. ويمكن أن تراه في متحف متربوليتان للفن، وهو في الرابعة عشرة، جميلاً كالبنت، ذا عينين تتمثل فيها حيرة الشباب، تربكه الحياة، يجد شيئاً من الطمأنينة والأمان في حب أبيه، وتراه مرة أخرى في مجموعة ولاس، وقد سلخ عاماً آخر من العمر. وقد نتصور كل التصور كيف أنه كان عزاء وسلوى لأبيه رامبرنت الذي أنصب على رأسه الكوارث المالية في هذه السنة.

وبذل الفنان جهداً جباراً ليقتصد في الإنفاق ويصل إلى الموازنة بين موارده ونفقاته. وثمة لوحات دينية عظيمة يرجع تاريخها إلى هذه الحقيقة - حقبة الزنى والديون (1649-1656) منها "يعقوب يبارك حفدته(143)"، و "المسيح عند النبع(144)"، و "المسيح وامرأة سامراً(145)"، و"النزول من الصليب(146)". ومهما يكن من آمن فإن الصور الكنسية لم تكن مطلوبة في هولندة البروتستانتية. ومن ثم جرب يده في الأساطير، ولكنه لم ينجح إلا حين استطاع أن يكسو الأشخاص. ولم تكن لوحة "داناي(147)" جذابة. أما "أتينا(148)" و"مارس(149)" فكانتا فييدتين في بابهما. وظل يرسم صور شخصية تأخذ بمجامع الألباب. فإن صورة "نيقولا برونتج(150)" قد التقطت في لحظة مشرقة بالحياة والفكر، وصور "جان سكس(151)" تمثيل عمدة المدينة الهولندي في ذروة قوته وأسعد أوقاته، كذلك فإن رمبرانت رسم في هذه الفترة أشخاصاً غير ذوات أسماء، بعد دراسة عميقة: "الرجل ذو الخوذة الذهبية(152)"، و"الراكب البولندي(153)"، و"كوزيليوس قائد المائة(154)"، وتبدو معظم اللوحات الشخصية الأخرى إلى جانب هذه، ذات بريق سطحي.

وكان رمبرانت في سن الخمسين حين وقعت الكارثة. أنه قلما اهتم بأن يحسب ما له وما عليه، واشترى دون مبالاة الدار والفن، بل أسهم شركة الهند الشرقية(155). والآن وقد تخلفت معونات نصرائه ورعاته كثيراً عن الوفاء بمتطلباته، فإنه وجد نفسه وقد أثقلته الديون لدرجة تدعو إلى اليأس. وفي 1656، ورغبة في حماية تيتس، نقلت "محكمة الأيتام" في أمستردام، ملكية البيت الأبيض إلى الابن، ولو أنه سمح للوالد في الإقامة هناك لبعض الوقت. وفي شهر يولية أعلن إفلاس رمبرانت، وبيع أثاثه ولوحاته ورسومه ومجموعاته في عجلة كلفته كثيراً (1567-1658). ولكن العائدات كانت أقل كثيراً من أن تفي بالتزاماته. وفي 4 ديسمبر 1657 طرد من الدار، فتنقل من بيت إلى بيت حتى استقر به المقام في روزنبراخت في "حارة اليهود". وأنقذ من هذا الحطام نحو سبعة آلاف فلورين من أجل تيتس، الذي كون مع هندريكا رغبة منها في حماية رمبرانت، شركة بواسطتها بيع أعماله الباقية دون أن تؤول إلى دائنيه. ويبدو أنهما أوليا الفنان الذي تتقدم به السنون، عناية كبيرة.

واستمر رمبرانت وسط هذه البلايا والمحن ينتج الروائع: "رجل على ظهر جواد" وقد بيعت حديثاً إلى المتحف الوطني في لندن مقابل 400 ألف دولار، واللوحة العجيبة "رأس رجل عجوز(156)"-وكأنه كارل ماركس في الثمانينات متحرراً من الأوهام، واللوحة الطبيعية المفعمة بالحيوية بدرجة مدهشة "امرأة تقص أظافرها(157)"-وربما تطلبت بعض الطقوس الدينية تنظيف الجسم كله ليلة السبت. وربما رسم آنذاك أيضاً بعض صور مروعة للفنان نفسه مثل: "رمبرانت وكراسة التخطيطية" (1657)، وهي موجودة في درسدن، ثم اللوحة الأكثر شهرة التي يبدو فيها وجهه العابس المتجهم وجسمه البدين المدثر (1658) وهي في مجموعة فريك في نيويورك، وصورته بكامل جسمه (1659) وهي فيينا، وصورة الوجه يعروه القلق والهموم (1659) في واشنطن.

وفي العقد الأخير من عمره (1660-1669) سهر للإبقاء على حياته ابنه وخليلته. ولكن كان مسكنه ضيقاً ومرسمه سيئ الإضاءة، ولا بد أن يديه فقدتا بعض اتزانهما نتيجة كبر السن والشراب، فلوحة "القديس متي الإنجيلي(158)" غير مصقولة في تركيبها، ولكن الملاك الذي يهمس في أذنه لم يكن سوى تيتس الذي يلغ الآن العشرين من العمر، ولا يزال جميلاً كالعروس. ثم جاءت في تلك السنة (1661) آخر روائع الفنان: "خبراء نقابة تجار الأقمشة(159)" فإن فاحصي القماش والمراقبين كلفوا الفنان بأن يخلد ذكرهم بصورة جماعية تعلق في دار رابطتهم. وربما كنا نغتفر بعض التردد في التركيب، وبعض الفجاجة في التفاصيل وبعض التقصير في إسقاط الضوء ولكن النقد في حيرة من الأمر ليعثر على غلطة في الصورة. فأن أمامية الصورة وخلفيتها اللتين تمكن منهما تمكن منهما الرسام جعلتا الشخوص الخمسة الرئيسية تقفز إلى عين الرائي "كل منها شخص واحد منفصل"، ولكنهم جميعاً التقطوا في نفس اللحظة الحية التي التقى فيها تفكيرهم. وفي كثير من اللوحات التي رسمت في سنوات التهدم والتدهور هذه، يجد الخبراء علامات على انهيار الطاقة وانحطاط الأسلوب، بساطة الألوان، إهمال التفاصيل، العجلة في جريان الفرشاة وعدم الصقل. ولكنا، حتى في هذه الأيام نجد صوراً أخاذة، مثل "عود السخي(160)"-وهي تشخيص لا ينسى للصفح المحبب إلى النفس، و"العروس اليهودية(161)" وتلك ثمرة عجيبة مدهشة تأتي من شجرة تذوي وتذبل. ولكنا لم نذكر شيئاً عن مناظر الطبيعة ورسومه وحفره. ولم يبرز أو يتفوق إلا القليل من المناظر الربيعية، ولكن الرسوم بلغت القمة بين مثيلاتها وثمة رسمان مشهوران: "مشهد أمستردام" بالقلم والحبر، الموجود في فيينا، و"المرأة العجوز جالسة" في برلين. ويعد إنتاجه في الحفر مضارعاً لأحسن ما أنتج في ناونج هذا الفن الشاق المجهد. وعرف أحد أعماله في هذا الفن "المسيح يشفي المرضى"، باسم "القطعة ذات المائة جيلدر" لأنها اشتريت بثمن لم يسبق له مثيل (1200 دولار؟). على أن نسخة منها على أية حال قدرت 1867 بمبلغ 35 ألف فرنك (20 ألف دولار؟).

أن 300 من أعمال الحفر، 200 من الرسوم و650 من اللوحات منجزات رمبرانت لا تزال باقية، تكاد تكون مشهورة مثل شهرة روايات شكسبير، وتكاد تكون متنوعة أصلية عميقة مثلها. وكلها تقريباً من صنع يديه. فعلى الرغم من أنه كان مساعدون، فإن أحداً منهم لم يشاركه سره في الكشف عما خفي وما لا يرى(162). وكانت بعض أعماله رديئة وبعضها منفراً، مثل "الثور المسلوخ" في اللوفر. وكان أحياناً يستنفذ كل جهده في الأسلوب الفني وفي أحيان أخرى يتجاوزه من أجل الرؤيا، أي رؤيا الفنان نفسه..وكان، مثل الطبيعة، يتخذ موقفاً محايداً بين الجمال والقبيح، لأن الصدق عنده كان قمة الجمال، وإن الصورة التي تمثل القبح حقاً هي صورة جميلة. وأبى أن يضفي أشكالاً مثالية على الشخوص في لوحاته الدينية، وأرتاب في أن يكون العبرانيون الوارد ذكرهم في التوراة على مستوى جمال اليهود في أمستردام، فصورهم على هذا النسق، ومن ثم انبعثوا من عالم الأساطير أو التاريخ إلى الحياة. وازداد شيئاً فشيئاً مع تقدمه في السن، حبه للبسطاء من الناس حوله، لا حب من جردهم السعي وراء الكسب من الروح الإنسانية. وعلى حين أن بعض الفنانين، مثل روبنز، التمسوا موضوعاتهم بين أرباب الجمال أو السعداء أو الأقوياء وأصحاب السلطان، فإن رمبرانت كان يسخو بفنه الحنون على المنبوذين والمرضى والبؤساء، حتى المشوهين ذوي العاهات، وعلى الرغم من أنه لم يسخر من الدين أو لم يهزأ به، فقد بدا أنه على غير وعي منه، يجسد موقف السيد المسيح وويتمان تجاه أولئك الذين أخفقوا، أو أبو أن يشتركوا، في صراع كل إنسان مع سائر بني الإنسان. ولنلق نظرة أخيرة عليه في صوره الشخصية في شيخوخته. وليس هنا زهواً أو خيلاء، بل على النقيض، أنها قصة حياة الفنان بفرشاته هو، في أيام الخيبة والهزيمة. أنه عندما صور نفسه 1660(163)، كان لا يزال يواجه الحياة بمزيج من الشجاعة والاستسلام، فإن الوجه القصير السمين غير الحليق كان ساخراً لم يكن حزيناً، وكان لا يزال يتحرك قدماً. ولكن في صورة أخرى(174)في نفس العام، كانت ثمة نظرة قلقة حائرة تعتم الوجه وتكسوه بالتجاعيد حول الأنف الضارب للحمرة وفي 1661 رأى نفسه(175) في نفس الحيرة والارتباك. ولكنه لم يبال بالتجاعيد بطريقة فلسفية. وصور نفسه في عامه الأخير(166)، وكأنما وجد الطمأنينة وهدوء البال في ارتضاء قيود الحياة وحدودها ومرحها الساخر. وماتت هندريكا 1662، ولكن ظل تيس يمتعه بمنظر الشباب، وفي 1668 ابتهج الشيخ العجوز بزواج ابنه. ولما لحق الابن بالخليلة في هذا العام نفسه، فقد الفنان قدرته على التشبث بالحياة. وجاء في سجل الوفيات في الكنيسة الغربية في 8 أكتوبر 1669 رمبرانت فان رين-الرسام ... يترك طفلين.

وكاد معاصروه أن لا يلحظوا وفاته. ولم يحلم أحد منهم قط بوضعه في مرتبة روبنز، أو حتى فانديك, وكتب عنه معاصروه-جويشم (يواقيم) فون ساندرات أن ما كان يعوزه أساساً هو المعرفة بإيطاليا وغيرها من الأماكن التي تهيئ الفرص لدراسة القديم ودراسة نظرية الفن. (ويبدو لنا الآن أن هذا هو سر عظمته). ولو أنه عالج أموره بمزيد من الحزم والتعقل، وأبدى مزيداً من اللباقة في المجتمع، فلربما أصبح أكثر ثراء، ولقد عانى فنه من ميله إلى صحبة السوقة(167). واتفق رسكين مع مؤرخ الفن الألماني حيث قال: "أن الفظاظة والتبلد والتجرد من التقوى تعبر دائماً عن نفسها في الألوان السمراء والرمادية، كما هز الحال مع رمبرانت...أن هدف أحسن الرسامين أن يصوروا ما تقع عليه أعينهم في وضح النهار أو في ضوء الشمس، ولكن رمبرانت كان يسعى إلى رسم أقذر الأشياء التي يراها وأبشعها-في ضوء شمعة(168). ولكن يوجين دي لاكروا الذي عكس التطورات الديمقراطية في فرنسا قال "ربما يأتي يوم نجد فيه رمبرانت رساماً أعظم من رافاييل. وأني لأكتب الآن-دون تحيز-هذا التجديف الذي لابد سوف يسبب انتصاب شعر الأكاديميين غضباً ودهشة(169). وينزع النقاد اليوم إلى رفع رمبرانت فوق مرتبة رافلييل وفلاكويز ومساواته فقط بالفنان الجريكو(170) وإنا لندرك أن "الصدق" هو وظيفة الزمن وتابعه. أية سلسلة وأية هوة من روبنز إلى رمبرانت-بين الضوء البهيج والظل الكئيب بين الهاوية والحاشية، بين نبيل أنتورب السعيد بانغماسه في اللهو والفجور في وطنه في القصور مع الملوك، ومفلس أمستردام الذي عرف أحط الأعماق، ولازم الحزن والأسى. إنك إذ ترى هذين الرجلين على أنهما عنصري طباق في تناغم قوي، إنما تحس بطريقة أخرى بعظمة أمة صغيرة صارعت إمبراطورية عملاقة، كما تحس بتعقد المدنية التي استطاعت أن تنتج، في ناحية، ثقافة كاثوليكية تزين ابتهاج مذهبها الذي لا يرقى إليه الشك، بالأساطير وأضرحتها العزيزة عليها بالفن، وفي الناحية الأخرى ثقافة بروتستانتية استطاعت أن تفدي وتربي أعظم فنان وأعظم فيلسوف في ذاك العصر.