قصة الحضارة - ول ديورانت - م 7 ك 2 ف 17
صفحة رقم : 10045
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على السلطة -> ثورة الأراضي الوطيئة -> مسرح الأحداث
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل السَّابع عَشَر: ثورة الأراضي الوطيئة 1555 - 1648
مسرح الأحداث
في يوم 25 أكتوبر 1555 نقل الإمبراطور شارل الخامس مقاليد الحكم في الأراضي الوطيئة إلى ابنه فيليب، وفي السادس والعشرين، وأمام الجمعية التشريعية في بروكسل، تلقى فيليب أيمان الولاء، وأقسم بدوره أن يحافظ على حقوق المقاطعات السبعة عشر وامتيازاتها، وفق ما تقضي به التقاليد والمعاهدة والقانون ولقد هيأت هذه العهود والمواثيق المتبادلة المسرح لإحدى المسرحيات الكبرى في تاريخ الحرية. وكان المشهد معقداً. كانت الأراضي الواطئة آنذاك تضم بلجيكا الحالية ومملكة هولندا القائمة الآن. ولم تكن الهولندية- وهي أصلاً إحدى اللهجات الألمانية السائدة في وهاد شمال ألمانيا والأراضي الواطئة- وهي اللغة التي تتحدث بها المقاطعات السبع الشمالية (وهي هولندا، زيلندة، أوترخت، فريزلند، جروننجن، أوفريجسل، جلالند، فحسب، بل كانت كذلك لغة أربع مقاطعات أخرى (هي فلاندرز، برابانت، مكلين، لمبرج) في شمالي "بلجيكا"، على حين كانت "الوالون"- وهي إحدى اللهجات الفرنسية- هي اللغة لتي يتحدث بها الأهالي في ست مقاطعات جنوبية (هي أرتوا، وألون، فلاندرز، كمبراي، تورني، اينو، نامور). وكانت هذه المقاطعات كلها، بالإضافة إلى دوقية لكسمبرج المجاورة، تحت حكم آل هبسبرج.
وكانت الكاثوليكية(1) هي ديانة الأغلبية الساحقة من الأهالي في 1555 ولكن- كاثوليكيتهم- كانت من النوع العطوف الموسوم بالروح الإنسانية الذي نادى به أرزم قبل ذلك بنصف قرن من الزمان، والذي كانت تدين به روما في عصر النهضة بصفة عامة، وليست من ذلك النوع الكئيب المتشدد من الكاثوليكية الذي ساد في أسبانيا لعدة قرون كانت تحارب فيها المسلمين "الكفار". وبعد 1520 تسربت اللوثرية ومذهب القائلين بتجديد عماد البالغين ورفض عماد الأطفال من ألمانيا، تسربت بعد ذلك بشكل أكبر الكلفنية من ألمانيا وسويسرا وفرنسا. وحاول شارل الخامس أن يقضي على غارات هذه المذاهب الغربية التي أقحمت عليه كاثوليكيته، بإدخال محاكم التفتيش البابوية أو الأسقفية، وبنشر إعلانات تتوعد بأشد العقوبة أي انحراف خطير عن الكاثوليكية الصحيحة. ولكن قلَّ أن نُفِذت هذه العقوبات بعد أن أضعف صلح باسو 1552 من قوته. وفي روتردام 1558 تمكن حشد من الأهالي من إنقاذ عدد من أنصار تجديد العماد من الإعدام حرقاً. فجزع فيليب لتفاقم الهرطقة وجدد نشر الإعلان عن العقوبات..وساد الخوف من أنه يعتز إدخال محاكم التفتيش الأسبانية بكل ما فيها من قسوة ونكال.
كان مذهب كلفن يلتئم كل الالتئام مع عنصر الروح التجارية "المركنتلية" في النظام الاقتصادي وكان ثغرا أنتورب وأمستردام هما المركز الرئيسي لتجارة شمال أوربا، وكانا ينبضان بالحياة بفضل التصدير والاستيراد والمضاربة وسائر ألوان المعاملات المالية، حتى أن التأمين وجده عاد بأوفر الثراء على 600 من وكلائه(2). وجرت في انهار الراين وماسي وأيسل- وشلدت ووال وليس إلى جانب مئات من القنوات- جرت في هذه كلها مجموعة متنوعة كبيرة من سفن النقل، وأذكت التجارة روح البراعة من المهن والصناعات في بروكسل وغنت واييرس وتورني وفالنسين ونامور ومكلين وليدن وأوترخت وهارلم. ونظر رجال الأعمال الذين تحكموا في هذه المدن بعين الإجلال والإكبار إلى الكاثوليكية على أنها ركيزة دعمتها التقاليد للاستقرار السياسي والاجتماعي والروحي، ولكنهم لم يسيغوا سلطانها الكهنوتي بأبهته وفخامته. كما أحبوا الدور الذي تهيئه الكلفنية لجمهور العلمانيين المتعلمين، في إدارة المجامع والسياسة الكلفنية. وكرهوا بصفة أخص الضرائب التي فرضتها الحكومة الأسبانية على اقتصاد الأراضي الواطئة. ووقع على الفلاحين أفدح الغرم وأصابوا أقل الغنم من الثورة. ذلك أن معظم الأراضي كان ملكاً لذوي النفوذ والمكانة الذين كانوا أقرب شبها بأمراء الإقطاع في ألمانيا وفرنسا، وهؤلاء هم الذين نظموا الكفاح من أجل الاستقلال. فكان فيليب دي مونموارنس، كونت هورن، يمتلك أراضي شاسعة في المقاطعات الجنوبية. كما كان لكونت اجمونت لامورال، ضياع واسعة في فلاندرز ولكسمبرج، فكان مركزه يخول له أن يطلب يد دوقة بافاريه، وحارب في عدة حملات ببسالة فائقة حتى أصبح أُيراً لدى شارل وفيليب، وهو الذي قاد جيش فيليب إلى النصر في سانت كوبتن (1557).وأظهر في قصره الفخم من ضروب الإسراف والكرم الباذخ ما ورطه الدين. ونظر مثل هؤلاء الرجال، ونبلاء كثيرون آخرون أقل منهم شأناً، نظروا في شره ونهم إلى ثروة الكنيسة، وسمعوا والحسد يملأ قلوبهم بالبارونات الألمان الذين أثروا بالاستيلاء على أملاكها(3). واتجه تفكيرهم إلى أن الملك يحسن صنعاً لو أنه اقتطع من- أملاك الكنيسة أجزاءً معقولة يخصصها لقيادات عسكرية "وبذلك يخلق" أسلحة فرسان رائعة...في مكان هذه الجماعة الخاملة من الأبيقوريين المنغمسين في ملذات الطعام والشراب والذين لا شغل لهم إلا "التسبيح"(4).
أما أكثر كبار الملاك قدرة وكفاية وثراء فكان وليم ناسو، أمير أورانج وكان للأسرة أملاك شاسعة في المقاطعة الألمانية "هس ناسو"، وفي الأراضي الواقعة حول ويزبادن، كذلك في الأراضي الواطئة، على حين اشتق لقب الأسرة من إمارة أورانج الصغيرة في جنوب فرنسا. ولما كان وليم قد رأى النور في دللنبرج الألمانية (1533) فإنه نشأ على مذهب لوثر حتى بلغ الحادية عشر من عمره، وحينئذ أنتقل إلى بروكسل وتحول إلى الكاثوليكية حتى يكون له الحق في أملاك ابن عمه رينيه. وقد أعجب به شارل الخامس، وزواجه من آن دوقة أجمونت (وارثة كونت بورن) وأختاره ليكون بين كبار من شهدوا تنازله التاريخي عن العرش (1555) وأوفده فيليب- وكان وليم آنذاك شاباً غض الأهاب لم يجاوز الثانية والعشرين، ولكنه كان يتقن الفلمنكية والألمانية والأسبانية والفرنسية والإيطالية- بين مبعوثيه للمفاوضة في عقد صلح كاتو- كمبرسيس، وهناك تميز وليم بسداد الرأي وقوة الحجة وشدة الحرص في الكلام حتى لقبه الفرنسيون "بالصامت". وعينه فيليب عضواً في مجلس الدولة، وفارسان من فرسان الجزة الذهبية، ونائباً للملك في هولندا وزيلند وأوترخت. ولكن وليم اختط لنفسه نهجاً لم يغتفره له فيليب قط.
ولقد نعم الأمير الشاب اليافع بمزايا في شخصه كما نعم بوفرة المال، وكان فارع الطول رياضياً نحيل القوام، سحر بفصاحته وكياسته كل الناس إلا أعداءه. وكان الإخفاق حليفه قائداً عسكرياً، أما في مجال التدبير أو التخطيط السياسي فإن إصراره بالمرونة وشجاعته الموسومة بالثبات خلقت منه برغم نقائصه، شخصاً آخر في وجه أعتى القوى السياسية والدينية في أوربا. وساس الرجال أفضل مما قاد الجيوش، وثبت على الأيام أن هذه موهبة أعظم. واتهمه أعداؤه بتغيير عقيدته الدينية وفق ما تقتضيه مآربه الشخصية أو السياسية(5). وربما كان هذا صحيحاً، ولكن كل الزعماء في هذا القرن استخدموا الدين- أداة للسياسة .
وعاب عليه الكثيرون تعدد زوجاته فإنه عند وفاة زوجته الأولى أخرى مفاوضات للزواج من "آن" أخرى ثرية، وهي ابنة موريس أمير سكسونيا البروتستانتي، وعقد قرانه عليها وفق الطقوس اللوثرية في 1561، ولكنه لم يعلن تحوله إلى البروتستانتية إلا عام 1753. وأصابت آن بعض لوثة من الجنون 1567، فاحتجزت في معزل مع بعض الأصدقاء ليرعوها.
وكانت ل تزال على قيد الحياة حين حصل وليم من خمسة من القساوسة البروتستانت على إذن بالزواج من شرلوت البروبونية، من الأسرة المالكة الفرنسية (1575)، وكانت قد هربت من دير الراهبات واعتنقت مذهب الإصلاح، وتوفيت شارلوت 1583. ولبس وليم الحداد عليها لمدة عام، تزوج بعده للمرة الرابعة من لويز دي كوليني لبنة أمير البحر الذي كان قد قضى نحبه في مذبحة سانت برثلميو. وعلى الرغم من هذه الزيجات- وربما كان بسببها- كان وليم غنياً بما لديه من أراضي، خاوي الوفاض من المال. وفي عام 1560 بلغت ديونه مليون فلورين(7). وغلبت عليه ذات يوم نزعة إلى الاقتصاد فطرد ثمانية وعشرين من طباخيه(8).
وتخبط فيليب بشكل هدام في التعامل مع النبلاء في الأراضي الواطئة. وأن أباه الذي نشأ وترعرع في بروكسل، عرف هؤلاء الرجال وتكلم لغتهم وساسهم في حزم. على حين أن فيليب تربى في أسبانيا فلم يتكلم الفرنسية ولا الهولندية، وعز عليه أن ينحني لهؤلاء الأقطاب في لباقة وسماحة، ويحترم عاداتهم وديونهم، بل أنه عبس واستاء من إسرافهم وتبذيرهم وإدمانهم على الشراب، وتبذلهم مع النساء، وتهافتهم عليهن، وفق هذا كله لم يتفهم فيليب دعاواهم في الحد من سلطانه. على أنهم بدورهم كرهوا منه كبريائه الكئيب وولعه بمحاكم التفتيش وتعيينه الأسبان المناصب التي تدر ربحاً في الأراضي الوطيئة، وتزويد مدنهم بحاميات أسبانية. وعندا طالب بدفع الأموال هؤلاء النبلاء ورجال الأعمال، وهم الذين يشكلون الجمعية التشريعية، استمعوا- عن طريق المترجمين- في فتور إلى دعواه ودفاعه بأن والده وبأن الحروب الأخيرة قد خلفت في الخزينة عجزاً كبيراً، وتولاهم الجزع لمطالبته بمليون وثلاثمائة ألف فلورين، وبضريبة أخرى قدرها 1% على العقارات، و2% على الأموال المنقولة، ورفضوا التصديق على هذه الضرائب، ولكنهم أقروا فقط مبالغ قدروا أنها تكفي لتغطية النفقات الجارية. وبعد ثلاث سنوات من ذلك دعاهم إلى الاجتماع ثانية وطلب منهم ثلاثة ملايين جيلدر، فوافقوا، على شرط انسحاب القوات الأسبانية من الأراضي الوطيئة. فأقر هذا الشرط، ولكنه محا ما في هذا التنازل من ترضية بالحصول على إذن من البابا بإنشاء أحد عشرة أسقفية جديدة في الأراضي الوطيئة، على أن يعين في هذه الأسقفيات رجالاً يرتضون تنفيذ القوانين التي سنها والده ضد الهرطقة وعندما أبحر فيليب إلى أسبانيا في 26 أغسطس 1559- إلى غير رجعة إلى الأراضي الوطيئة- كانت قد تشكلت خطوط الصراع الاقتصادي الديني الكبير.
مارجريت بارما 1559 - 1567
كان فيليب قد عين مرجريت دوقة بارما نائبة له. وهي ابنة شرعية لشارل الخامس من أم فلمنكية. وكانت قد نشأت وترعرعت في الأراضي الوطيئة، وعلى الرغم من طول مقامها في إيطاليا، فإنها استطاعت أن تلم بالفلمنكية. إن لم يكن بالهولندية كذلك. ولم تكن ضيقة الأفق ولا متعصبة، ولكنها كانت كاثوليكية ورعة، حرصت على أن تغسل في الأسبوع المقدس من كل عام أقدم اثنتي عشرة من العذارى وتمنحهن مهور الزواج. وكانت مرجريت امرأة قديرة عطوفة، ولكن عصفت بها بشكل مزعج رياح الثورة.
لقد حد المستشارون الذين عينهم فيليب من سلطان مرجريت. وكان أجمونت وأورنج من بين أعضاء مجلس الدولة لديها. ومذ رأى هذان العضوان أنهما ينهزمان دائماً أمام رأى الأعضاء الثلاثة الآخرين في المجلس فإنهما امتنعا عن الحضور. وفي هذا الثالوث الناشئ برزت وسيطرت شخصية أنطوان برينو أسقف آراس. المعروف في التاريخ باسم الكاردينال دي جرانفل. وكان رجلاً كريماً وفقاً لفلسفته وتفكيره، وكان ينزع- كما تنزع مرجريت-إلى الوسائل السلمية في معالجة الهرطقة، ولكنه كان مخلصاً للكاثوليكية والملكية إلى حد تعذر معه أن يسيغ الانشقاق أو الخلاف الديني. وقد غلت أيدي الكاردينال ومرجريت بإصرار فيليب على عدم اتخاذ أي إجراء هام إلا بموافقة الملك، وكان وصول هذه الموافقة الملكية من مدريد إلى بروكسل يتطلب عدة أسابيع. وضحى الكاردينال بشعبيته في سبيل طاعة الملك. وعارض تعدد الأسقفيات سراً، ولكنه خضع لإلحاح فيليب على أن أربع أسقفيات لا تكفي لسبع عشرة مقاطعة. ولحظت الأقلية البروتستانتية في استياء وغضب أن الأساقفة الجدد ينشرون محاكم التفتيش البابوية ويتشددون في إجراءاتها. وفي مارس 1563 كتب أورلنج وأجمونت وهورن-وهم أنفسهم كاثوليك-كتبوا إلى فيليب يتهمون جرانفل بانتهاك حرمة الحقوق الإقليمية التي تعهد الملك بالإبقاء عليها واحترامها، ورأوا أن الكاردينال مسئول عن الأساقفة الجدد، وحضوا على عزله من منصبه. ولم تستسغ مرجريت نفسها استيلاء الكاردينال على السلطة، وتاقت إلى شيء من التراضي مع النبلاء الساخطين الذين كانوا ذوي أهمية لديها للمحافظة على النظام الاجتماعي، وأخيراً في سبتمبر 1563 أوصت هي كذلك بنقل جرانفل إلى مكان آخر. وبعد مقاومة طويلة خضع الملك، ودعا القسيس العظيم إلى التمتع بإجازة ينقطع فيها عن عمله. وغادر جرانفل بروكسل في مارس 1564، ولكنه ظل واحد من أعظم المستشارين الموثوق بهم لدى الملك. وعاد النبلاء إلى مجلس الدولة الخاص بمرجريت، وباع بعض موظفيهم المناصب وأحكام القضاء وأوامر العفو، ويبدو أن نائبة الملك، مرجريت، شاركت في الغنائم(9).
وانتشرت محاكم التفتيش، وكان فيليب يراقبها وهو في أسبانيا، ويشجع على استمرارها، ويبعث إلى مرجريت بأسماء الهراطقة المشتبه فيهم. وما كاد يمر يوم دون إعدام. وفي ؤ1561 أحرق جلين دي مولر في أودينارد، وأحرق توماس كولبرج في تورني، وقطع أحد أنصار تجديد العماد أرباً حتى الموت بسبع ضربات من سيف عتيق صدئ، في حضور زوجته التي قضت نحبها فزعاً من هول المنظر(10) وأثارت هذه الأعمال الوحشية حفيظة برتران لبلاس فهاجم كاتدرائية تورفي، أثناء قداس عيد الميلاد واندفع إلى المذبح وانتزع القربان المقدس من يد القسيس ووطئه بقدميه، وصاح في جمهور المصلين "أيها المضللون، هل تظنون أن هذا هو المسيح إلهكم ومخلصكم؟ " وعذب الرجل فأحرقت يده اليمنى وقدميه حتى لم يبق منها إلا العظام، وقطع لسانه، وعلق فوق نار وشوي على محصل حتى لفظ أنفاسه، وفي ليل أحرق روبرت أو جيبه وزوجته وأبناؤه لأنهم قالوا بأن عبادة القربان المقدس ليست إلا تجديفاً وثنياً (1).
أما توركيادا الأراضي الوطيئة أول قاض للتحقيق وعضو في محكمة التفتيش في أسبانيا "يضرب به المثل في القسوة والتعصب الذميم. فهو بيتر تيتلمان الذي بلغت أعماله من التعسف والوحشية حداً اتهمه معه مجلس مدينة بريجز-وكله من الكاثوليك-لدى مرجريت، بأنه متوحش انتزع الناس من بيوتهم وحاكمهم دون أية ضوابط قانونية، وأجبرهم على أن ينطقوا بما يريده هو، وحكم عليهم بالإعدام، كما أن القضاة في الفلاندز وجهوا إلى الملك فيليب كتاباً مثيراً يرجون فيه وضع حد لهذه الأعمال الشائنة. وطلبت مرجريت في شيء من الجبن إلى هذا المحقق أن يتذرع "بالحزم والاعتدال"، ولكن الإعدام لم يتوقف. وأيد فيليب تيتلمان، وأمر مرجريت أن تنفذ دون رحمة ولا إبطاء القرارات التي أصدرها مجمع ترنت (1564). واحتج مجلس الدولة بأن عدداً من هذه القرارات انتهك حرمة الامتيازات المعترف بها للمقاطعات، وأوقف نشرها.
وكان وليم أورانج تواقاً إلى الإبقاء على الأرض الوطيئة متحدة في سبيل المحافظة على حريتها السياسية التقليدية، فاقترح انتهاج سياسة التسامح سابقة كثيراً لعصره وأوانه. فأعلن في مجلس الدولة "أن الملك يخطئ إذا ظن أن الأراضي الوطيئة سوف تحتمل وتساند هذه المراسيم الدموية بلا حدود. ومهما كنت شديد التمسك بعقيدتي الكاثوليكية، فأني لا أقر محاولة الأمراء أن يتحكموا في ضمائر رعاياهم، ورغبتهم في أن يسلبهم حرية العقيدة(11) "وأنظم الكاثوليك إلى البروتستانت دمغ هذه المراسيم بالظلم والطغيان(12) وأرسل أجمونت إلى مدريد ليلتمس التخفيف من شدة هذه المراسيم، وعززت مرجريت هذا المطلب سراً. ووجه أساقفة ايبرس ونامور وغنت وسانت أومر ملتمساً إلى فيليب (يونية 1565) يرجون فيه أن يخفف الملك المراسيم "وأن يوجه النصح إلى الشعب في شيء من الرفق والحب الأبوي، لا بالقساوة الشرعية(13)، ورد فيليب على كل هذه الاحتجاجات بأنه يؤثر أن يضحي بمائة ألف من الأرواح على أن يغير سياسته(14). وفي أكتوبر 1565 أرسل توجيهاته الصريحة إلى وكلاء محكمة التفتيش:
أريد فيما يتعلق بمحكمة التفتيش أن تطبق إجراءاتها وأحكامها...كما كان الحال من قبل، وكما تقتضيه كل القوانين وضعية كانت أو إلهية. أن هذا يقع من نفس أحسن موقع. أريد منكم أن تنفذوا أوامري. أعدموا كل المسجونين، ولا تتركوا لهم بعد اليوم فرصة للإفلات نتيجة تقصير القضاة وضعفهم وعقيدتهم الفاسدة، وإذا قعد الجبن ببعضهم عن تنفيذ المراسيم فإني استبدل بهم رجالاً أكثر جرأة وحماسة(15).
وأذعنت مرجريت لفيليب وأصدرت أوامرها بتطبيق المراسيم تطبيقاً كاملاً (14 نوفمبر 1565). وانسحب أورانج واجمونت ثانية من مجلسها. ورفض أورانج وغيره من النبلاء وكثير من القضاة تطبيق المراسيم: وانهالت نشرات البروتستانت وإعلاناتهم التي يستنكرون فيها الاضطهاد. واشتم التجار الأجانب رائحة الثورة في الجو. فبدءوا ينزحون من الأراضي الوطيئة، وأغلقت المخازن وكسدت التجارة، وخيم شبح الموت على أنتبورب وفر كثير من البروتستانت من الأراضي الوطيئة إلى إنجلترا وألمانيا. وفي إنجلترا ساعدوا على النهوض بصناعات النسيج التي نافست "المقاطعات المتحدة" في القرن السابع عشر، وقادت الانقلاب الصناعي في القرن الثامن عشر.
واعتنق كثير من صغار النبلاء المذاهب البروتستانتي خفية. وفي ديسمبر 1565 اجتمع بعض هؤلاء-لويس كونت ناسو (وهو الشقيق الأصغر الشهم أوليم)، وفيليب فان مارنكس أمير سانت ألديجوند، وأخوه جان فان مارنكس أمير تولوز، وهندريك كونت بردرود، وغيرهم اجتمعوا في قصر كولمبرج في بروكسل، وحرروا "وثيقة" يستنكرون فيها إدخال محاكم التفتيش إلى الأراضي الوطيئة، وشكلوا عصبة تعهدت بإخراجها من البلاد. وفي إبريل 1566 سار 400 من صغار النبلاء إلى قصر مرجريت وقدموا لها "ملتمساً" بأن تطلب إلى الملك أن يضع حداً لمحاكم التفتيش والمراسيم في الأراضي الوطيئة، وأن توقف تطبيق المراسيم حتى يصل جواب الملك. وأجابت مرجريت بأنها سترسل ظلامتهم إلى الملك، ولكن ليس من سلطتها أن توقف المراسيم، وأنها ستبذل كل ما في مقدورها للتخفيف من مفعولها. ولما رأى أحد أعضاء مجلسها شدة فزعها من عدد مقدمي الظلامة وقوة عزيمتهم طمأنها بقوله "عجباً يا سيدتي" هل تخشين يا صاحبة العظمة المتسولين؟ وتقبل المتحالفون هذا اللقب تحدياً. وارتدى كثير منهم البدلة الرمادية الخشنة، وحملوا الحقيبة والطاس اللذين تميز بهما المتسولين آنذاك. وأصبحت عبارة "فليحي المتسولين" صيحة الحرب في الثورة. ولمدة عام كان هؤلاء النبلاء الصغار هم الذين قادوا الثورة وأذكوا نارها.
وأبلغت مرجريت نبأ "الملتمس، إلى فيليب، كما أبلغته ما يلقاه من تأييد شعبي كبير. وجددت مساعيها لحملة على الاعتدال، فكان جوابه يحمل في الظاهر معنى الترضية (6 مايو 1566)، وعبر عن أمله في إمكان قمع الهرطقة دون إراقة مزيد من الدماء، ووعد بزيارة الأراضي الوطيئة في موعد قريب وأرسل إليه مجلس الدولة فلورنت مونمورنس، والبارون مونتيني، ومركيز برجون، لتعزيز رجاء مرجريت. فاستقبلهم فيليب استقبالاً حسناً. وفي 31 يولية كتب إليها بموافقته على إلغاء محاكم التفتيش الأسقفية في الأراضي الوطيئة، وبأنه يصدر عفواً عاماً عمن توصي هي بالعفو عنهم. وانتهز الكلفنيون واللوثريون وأنصار تجديد العماد في الأراضي الوطيئة فرصة هذا الهدوء في العاصفة ليجهروا بعبادتهم، وعاد اللاجئون البروتستانت أفواجاً من إنجلترا وألمانيا وسويسرا، وقام الوعاظ من مختلف الطبقات-الرهبان السابقون، علماء اللاهوت، صانعو القبعات، ممشطو شعر الخيل، دباغو الجلود-يخطبون في الجموع الغفيرة من النساء والرجال، وكثير منهم مسلحون، وكلهم يرتلون المزامير ويهتفون "فليحي المتسولون". وبالقرب من ثورني، ألقى أمبروزويل الذي كان قد درس مع كلفن-ألقى موعظة في ستة آلاف شخص (28 يونيه 1566)، وبعد ذلك بيومين وفي نفس المكان، خطب قسيس آخر في عشرة آلاف، وبعد أسبوع واحد استمع لموعظته عشرون ألفا(16). وبدا أن نصف سكان الفلاندرز أصبحوا بروتستانت. وكادت الكنائس والمدن أن تخلو من الناس في أيام الآحاد لأنهم هرعوا إلى جماعات البروتستانت. وإذا سمع الناس في مقاطعة هولندا بأن بيتر جبرييل الخطيب المفوه سوف يلقي موعظة في أوفرين بالقرب من هارلم، وهرع آلاف البروتستانت إليه، وهزوا أجواء الفضاء في الحقول بمزاميرهم. وبلغت جموع البروتستانت بالقرب من أنتورب خمسة عشر ألفاً، وقال بعضهم ثلاثين ألفاً، وكان كل الرجال مسلحين تقريباً. وأمرت مرجريت حكام أنتورب بمنع هذه التجمعات لأنها خطر على البلاد، فأجابوا بأن قواتهم المسلحة غير كافية ولا يعتمد عليها، ولم يكن تحت تصرف مرجريت نفسها قوات منذ رحيل الحاميات الأسبانية ح. وبلغ الاضطراب في أنتورب حداً ساءت معه الحياة الاقتصادية بشكل خطير. وطلب مرجريت إلى وليم أورانج أن يشخص إلى المدينة لإجراء تسوية سليمة بين الكاثوليك والبروتستانت هناك. فعمل على تهدئة الأمور بحض الوعاظ على قصر اجتماعاتهم على الضواحي ألا يحمل المجتمعون سلاحاً.
وفي الشهر نفسه (يوليه 1566) اجتمع كونت لويس ناسوا ألفان من "المتسولين" في سانت تروند، في أسقفية لييج، وسط هذا الصخب البهيج، وضعوا الخطط للمضي قدماً في قضيتهم. وقرروا الاتصال بالبروتستانت الألمان ليشكلوا بينهم جيشاً يهب لنجدة البروتستانت في الأراضي الوطيئة إذا هوجموا. وفي 26 يوليه قدم لويس واثني عشر آخرون، وهم في زي المتسولين، إلى مرجريت، طلباً بعقدة الجمعة العمومية، وأن تحكم هي نفسها في نفس الوقت. بتوجيه من أورانج وأجمونت وهورن، ولما كان ردها ملتوياً غير واضح فأنهم لمحوا إلى أنهم قد يضطرون إلى التماس مساعدة أجنبية، ومن ثم شرع لويس، بالتواطؤ مع أخيه الأحرص منه وليم، في تجهيز أربعة آلاف من الخيالة وأربعين سرية من المشاة في ألمانيا(17).
وفي 9 أغسطس وقع فيليب وثيقة رسمية يعلن فيها أن العرض الذي قدمه للعفو العام قد انتزع منه رغم إرادته، وأنه لا يلزمه بشيء، وفي 12 أغسطس أكد للبابا أن إيقاف محاكم التفتيش مرهون بموافقة البابا(18). وفي 14 أغسطس اقتحمت جمهرة من البروتستانت بتحريض من الوعاظ الذين استنكروا الصور الدينية، كنائس سانت أومر الواحدة بعد الأخرى فحطموا الصور والمذابح ودمروا كل الزخارف. وفي نفس الأسبوع قامت جموع شبيهة بمثل هذه الأعمال في ايبز وكورتراي وأودينارد وفالنسيان. وفي يومي السادس عشر والسابع عشر دخلت الجماهير الكاتدرائية الكبرى في أنتورب وحطموا المذبح والزجاج الملون والصلبان وغيرها من الصور، ودمروا الآلات الموسيقية والزخارف وكؤوس القربان والأوعية المقدسة، وفتحوا الأضرحة وجردوا الجثث من حليها، وشربوا النبيذ المقدس، وأحرقوا كتب القداس الثمينة، ووطئوا بأقدامهم التحف الفنية. وأرسلوا في طلب السلام والجبال، فتسلقوا وجذبوا التماثيل من أماكنها وهشموها بالمطارق الثقيلة، وأخترق الجمع أنتروب وهم يهتفون منتصرين، وحطموا الصور والزخارف في ثلاثين كنيسة وديراً، وأحرقوا مكتبات الرهبان، وأخرجوا الرهبان والراهبات من الأديار(19) ولما ترامت أنباء هذه "الضراوة الكلفنية" إلى تورني انطلقت نشوة تحطيم الصور المقدسة من عقالها هناك، وأعمال السلب والنهب في كل الكنائس. وفي الفلاندرز وحدها جردت 400 كنيسة من الصور. وفي كولمبرج أشرف الكونت المبتهج المرح على أعمال التخريب وأطعم ببغاواته على القرابين المقدسة(20). وفي جهات أخرى قام بعض الكهنة السابقين بتحميص رقائق الخبز على شوكات(21). ومن الفلاندرز أمتد الهياج إلى المقاطعات الشمالية، وإلى امستردام وليدن ودلفت وأوترخت، ثم جروننجن وفريزلند. واستنكر معظم زعماء البروتستانت أعمال التخريب هذه، ولكن بعضهم ممن رأوا أن الأفراد لم يلحق بهم أيسر الأذى والضرر. ذهبوا إلى تحطيم التماثيل والصور أقل إجراماً من إحراق الأحياء "الهراطقة".
وخارت قوى مرجريت بارما أمام العاصفة. فكتبت إلى فيليب تقول "أن أي شيء وكل شيء مختل في هذا البلد عدا العقيدة الكاثوليكية"(22). وبات فيليب يتحين الفرصة للانتقام. ولكن مرجريت التي تواجه الجماهير المسلحة والزعماء المغامرين أحست بأنها مرغمة على بعض التنازلات. فوقعت في 23 أغسطس، مع ممثلي المتسولين، اتفاقاً تباح بمقتضاه العبادة الكلفنية في الأماكن التي كانت تمارس فيها بالفعل، بشرط عدم التعرض للطقوس الكاثوليكية، وألا يحمل البروتستانت سلاحاً خرج بيوتهم. ووافق ممثلو المتحالفين على حل "عصبتهم" إذا أوفت الحكومة بهذا الاتفاق. وتوقف الاضطهاد وساد السلام لبعض الوقت.
ولكن أياً من وليم أورانج وملك أسبانيا لم يقنع بهدوء الحال. فإن وليم كان يرى في البروتستانتية الثائرة أداة لتحقيق استقلال الأراضي الوطيئة، وعلى الرغم من أنه كان لا يزال كاثوليكياً اسما فإنه تخلى عن كل مناصبه الحكومية، ونظم وسائله الخاصة للتجسس، وقصد (22 أبريل 1567) إلى ألمانيا يلتمس المدد من الرجال والمال. وبعد ذلك بخمسة أيام غادر دوق ألفا أسبانيا، مفوضاً من الملك فيليب، في جمع ما يلزم من القوات لاستخدامها في الانتقام من المشاغبين الكلفنيين، والقضاء بلا وهادة على أية حال هرطقة وثورة وحرية في الأراضي الوطيئة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
دوق ألفا في الأراضي الوطيئة 1567 - 1573
هو فرناندو ألفا رز دي توليدو، دوق ألبا أو ألفا، وكان آنذاك في التاسعة والخمسين من العمر، وكأنه صورة أبدعتها ريشة الرسام الجريكو: طويل القامة، نحيل القوام، ذو عينين سوداوين، وبشرة صفراء، ولحية بيضاء فضية، وكان قد ورث، وهو في سن العشرين، لقبه اللامع الذائع الصيت، وضياعه الشاسعة، وبدأ العمل العسكري في سن مبكرة، وامتاز بالشجاعة والذكاء والقسوة. وألحقه فيليب بأخص مجالسه واستمع مغتبطاً إلى مشورته وكان حكمه في هذه الساعة العصيبة ما يقضي به جندي درج على النظام الأسباني والورع الأسباني: اسحق الثوار العصاة دون شفقة ولا رحمة، فإن أي تنازل يقوي المعارضة. وأطلق فيليب يده ومنحه كل السلطة ودعا له بالتوفيق.
شق ألفا طريقه إلى إيطاليا، وهناك جمع أساساً من الحاميات الأسبانية في نابلي وميلان صفوة الجند ليشكل جيشاً قوامه عشرة آلاف رجل، ألبسهم أفخر الثياب وزودهم بأحدث العدة والعتاد، وأثلج صدورهم بألفين من بنات الهوى أحسن اختيارهن وإعدادهن وقاد الجيش عبر جبال الألب، وعبر برجندي واللورين ولكسمبرج وفي 22 أغسطس 1567 دخل بروكسل وتلقاه اجمونت في كل الخضوع والخشوع. وقدم له جوادين نادرين هدية. ولقيته مرجريت يعروها الآسى والأسف وهي تشعر بأن أخاها حل محلها وفرض سلطانه عليها في نفس الوقت الذي كانت قد أعادت فيه نظاماً إنسانياً. واحتجت مرجريت عندما أقام ألفا حاميات أسبانية في كل المدن. وأجاب في فتور "إني على استعداد لاحتمال كل الخزي والوزر".
واستأذنت مرجريت الملك فيليب في الاستقالة من منصبها، فأجابها إلى طلبها مع منحها معاشاً سخياً يضمن لها الهناءة، وفي ديسمبر رحلت عن بروكسل إلى موطنها في بارما، وقد حزن من أجلها الكاثوليك الذين أجلوها واحترموها، والبوتستانت الذين تنبأوا بأنه سيتضح وشيكاً أن أشد قساوتها كانت ليناً واعتدالاً إلى جانب وحشية ألفاً المنتظرة.
وأقام نائب الملك الحاكم العام الجديد في قلعة أنتورب، وأعد نفسه لتطهير الأراضي الوطيئة من الهرطقة، ودعا اجمونت وهورن إلى العشاء وأكرم وفادتها. ثم ألقى القبض عليهما وأرسلهما في حراسة مشددة إلى أحد الحصون في غنت (7 سبتمبر) وعين "مجلس القلائل" الذي أطلق عليه البروتستنت الجزعون من جديد اسم "مجلس الدم" وكان سبعة من أعضائه التسعة من الأراضي الوطيئة واثنان من الأسبان، وكان لهذين العضوين فقط حق التصويت. واحتفظ ألفا لنفسه بالقرار الحاسم في أي موضوع يعنيه بخاصة. وأمر المجلس بالبحث عن المشتبه في معارضتهم للكنيسة الكاثوليكية أو الحكومة الأسبانية، واعتقالهم ومحاكمتهم سراً، ومعاقبة من يحكم عليهم دون ترفق أو إبطاء. وانبث الوكلاء للتجسس، وشجع المخبرين على الغدر بأقاربهم وأعدائهم وأصدقائهم وحظرت الهجرة، وأعدم ربانية السفن الذين يساعدون على ربانية عليها شنقاً(23). وحكم على كل مدينة عجزت عن قمع الثورة أو معاقبة العصاة بأنها مذنبة، وأودع موظفوها السجن أو فرض عليهم الغرامة. وأعتقل آلاف الأفراد. وذات صباح واحد قبض على نحو 1500 في مضاجعهم ونقلوا إلى السجون. وكانت المحاكمات قصيرة عاجلة، وكان الحكم بالإعدام يصدر أحياناً بالجملة، على ثلاثين أو أربعين أو خمسين دفعة واحدة(24). وفي شهر واحد-(يناير 1568) أعدم 84 شخصاُ من سكان فالنسيان. وسرعان ما كان من العسير أن تجد الفلاندرز أسرة غير حزينة على فرد منها قتل أو أعتقل بأمر من "مجلس القلائل". وندر أن كان في الأراضي الوطيئة من يجسر على الاحتجاج، فإن أيسر النقد كان يعني الاعتقال.
وأحس ألفا بأن نجاحه قد تلطخ بعجزه عن إيقاع وليم أورانج في حبائله. وأصدر مجلس المتاعب قراراُ باتهام الأمير وأخيه لويس، وزوج أخته كونت فان دن برج، والبارون مونتيني وغيرهم من الزعماء، بتشجيع الهرطقة والثورة. وكان مونتيني لا يزال في أسبانيا، فأودعه فيليب السجن. وكان ابن وليم، وهو فيليب وليم كونت بورن طالباً في جامعة لوفان. فاعتقل وأرسل إلى أسبانيا، وهناك نشئ تنشئة كاثوليكية متحمسة، وتبرأ من مبادئ أبيه. وصدر إعلان بأن وليم خارج على القانون، أحل لأي إنسان قتله دون التعرض لعقاب القانون.
وعمل وليم أورنج على تنظيم جيش، ووجه أخاه لويس إلى أن يحذو حذوه. والتمس العون من الأمراء اللوثرين فكم يتحمسون للاستجابة له، ومن الملكة إليزابث التي أمسكت عن مساعدته في حذر. وجاءته الأموال من أنتورب وأمستردام وليدن وهارلم وفلشنج، وأرسل إليه كل من الكونت فان دن برج وكولمبرج وهو جستراتن ثلاثين ألف فلورين، وباع مجوهراته وأوانيه الفضية ومطرزاته وأثاثه الفاخر، وجمع نحو خمسين ألف فلورين، وتوافر الجنود، لأن المرتزقة الذين تفرقوا نتيجة بعض الهدوء في الحرب الدينية في فرنسا، عادوا إلى ألمانيا مفلسين. وكان لزاماً أن ينتهج وليم سياسة التسامح، فكان عليه أن يكسب اللوثريين والكلفيين تحت لوائه، كما كان عليه أن يؤكد للكاثوليك في الأراضي الوطيئة أن عبادتهم لن تمس بسوء بتحرير البلاد من ربقة إسبانيا.
ووضح أورانج خطة العمل لثلاثة جيوش في وقت واحد، قوة من الهيجونوت من فرنسا تهاجم أرتوا من الجنوب الغربي، ويقود هوجستراتن جيشه ضد ماسترخت في الجنوب، ويقتحم لويس ناسو من ألمانيا في الشمال الشرقي. وصدت هجمات الهيجونوت وهو جستراتن، وكن لويس انتصر على الجنود الأسبان في هيلجرلى (23 مايو 1568). وأمر دوق ألفا بإعدام أجمونت وهورن (5 يونية) ليطلق ثلاثة آلاف من الجنود كانوا يتولون حراستها وحماية مدينة غنت، ليستفيد منهم. وتقدم بهذه الإمدادات إلى فريزلند، ودحر جيش لويس الذي أصابه الوهن في جمنجن (21 يولية) وأودى بحياة 7000 رجل وهرب لويس سبحاً في مصب نهر امز. وفي أكتوبر قاد وليم جيشاً قوامه 25 ألف رجل إلى برابانت، وقد عقد العزم على ملاقاة ألفا في معركة حاسمة. ولكن ألفا بجيشه الأقل عدداً والأحسن نظاماً أحبط خططه، وتجنب اللقاء في معركة، وعمد إلى تعويق عدوه بهجمات في مؤخرته ورفض القتال جنود وليم الذين لم تدفع رواتبهم. فقادهم إلى مكان آمن في فرنسا وسرحهم. ثم تنكر في زي فلاح وشق طريقه من فرنسا إلى ألمانيا حيث تنقل من مدينة إلى مدينة، فراراً من القتل. وبهذه الحملات المشئومة الممتلئة بالكوارث بدأت "حرب الثمانين عاماً" التي خاضتها الأراضي الوطيئة في ثبات ومثابرة لم يسبق لهما مثيل، حتى قدر لها النصر في النهاية في 1648.
كان ألفا آنذاك سيد الموقف المزهو في الميدان، ولكنه كان خاوي الوفاض إلى أحد بعيد. وكان الملك فيليب قد دبر أصحاب المصارف في جنوة أن يمدوه بحراً بأربعمائة وخمسين ألف دوكات. ولكن القرصان الإنجليز أجبروا السفن على الاتجاه إلى ميناء بليموت، وهناك وضعت اليزابيث يدها على المال، مع أرق الاعتذارات، حيث لم تكن تكره مساعدة وليم مقابل هذا الثمن. عندئذ دعا ألفا الجمعية العمومية المكونة من النبلاء وممثلي المدن للاجتماع في بروكسل، واقترح عليهم (20 مارس 1569) فرض ضريبة فورية قدرها 1% على الممتلكات وضريبة دائمة قدرها 5% على أية عملية نقل للعقارات، وضريبة دائمة قدرها 10% على المبيعات فاحتجت الجمعية بأنه لما كانت مواد كثيرة قد غيرت الملكية عدة مرات في العام الواحد فإن ضريبة المبيعات هذه تقارب أن تكون مصادرة، وأحالت المقترحات إلى جمعيات المقاطعات، وهناك كانت المعارضة شديدة إلى حد اضطر معه ألفا إلى إرجاء ضريبة الـ 10% إلى 1572، والاكتفاء بضريبة الواحد في المائة، وبمنحة قدرها مليوني فلورين سنوياً لمدة عامين. ولكن حتى ضريبة الواحد في المائة كانت جبايتها شاقة باهظة التكاليف ورفضت أوترخت دفعها. فأطبقت فرقة من الجند على المنازل والممتلكات، واستمرت المقاومة، ورمى ألفا كل الأقاليم بالخيانة وألغى كل إعفاءاته وامتيازاته، وصادر كل ممتلكات سكانه لصالح الملك.
وأن هذه الضرائب والإجراءات التي اتخذت لفرضها هي التي هزمت ألفا الذي لم يهزم حتى ذلك اليوم. وبات كل السكان تقريباً كاثوليك وبروتستانت، يقاومونه، في استياء يتفاقم أمره، كلما عوقت وعرقلت ضرائبه نشاط الأعمال التي بنت عليها الأراضي الوطيئة ازدهارها ورخاءها. ولما كان ألفا أبرع في الحرب منه في شئون المال فإنه انتقم لاستياء إليزابث على الأموال التي كانت في طرقها إليه من جنوة، بالاستيلاء على الممتلكات الإنجليزية في الأراضي الوطيئة، وحظر التجارة مع إنجلترا. وردت إليزابث على هذا بمصادرة بضائع الأراضي الوطيئة في إنجلترا، وتحويل التجارة الإنجليزية إلى همبرج. وسرعان ما أحست الأراضي الوطيئة بوطأة الكساد الاقتصادي. فأغلقت المتاجر أبوابها، وازداد التعطل، وفكر رجال الأعمال الأقوياء الذين احتملوا في صبر وتجلد شنق البروتستانت ونهب الكنائس، فكروا ملياً وسراً في الثورة وأخيرهاً مولوها. وحتى رجال الدين الكاثوليك الذين خشوا انهيار الاقتصاد الوطني، انقلبوا على ألفا، وحذروا الملك فيليب من أن الدوق يعمل على تخريب البلاد(25)، بل أن البابا-بيوس الخامس الذي كان قد اغتبط أيما اغتباطاً بانتصارات ألفا، نراه الآن يشاطر الكاردينال دي جرانفل أسفه لقساوة ألفا(26). ويوصي بالعفو العام عن العصاة والهراطقة النادمين التائبين-ووافق فيليب على هذا الإجراء وأبلغ به ألفا (فبراير 1569)، ولكن الدوق طلب التمهل، ولم يعلن العفو إلا في 16 يوليه 1570..وفي تلك السنة خلع البابا على ألفا القبعة والسيف المقدسين، وأنعم "بالوردة الذهبية" على زوجته(27)، كما أعدم فيليب مونتيني الذي كان سجيناً-(16 أكتوبر 1570).
وفي نفس الوقت ظهرت على المسرح قوة جديدة. وذلك أنه في مارس 1568 قامت من اليائسين المستميتين عرفوا باسم "المتسولين المتطرفين"، وجهوا همهم إلى نهب الكنائس والأديار وقطع أنوف القساوسة والرهبان أو آذانهم، وكأنهم عقدوا العزم على مباراة "مجلس الدم، وفي وحشيته وفظاعته(28). وفيما بين عامي 1569-1572 ظهرت جماعة أخرى أطلقوا على أنفسهم اسم "متسولي البحر"، وضعوا أيديهم على 18 سفينة، وتلقوا عمولة من وليم أورانج، وأغاروا على شواطئ الأراضي الوطيئة، ونهبوا الكنائس والأديار، وسيطروا على المراكب الأسبانية، وزودوها ثانية بالمؤن من الثغور الإنجليزية الصديقة-بل حتى من لاروشيل النائية-التي كانت في يد الهيجونوت آنذاك. وأغار "متسولو البحر على أية مدينة ساحلية لا توجد بها حامية أسبانية، واستولوا على المواقع الحصينة، وبفضل قدرتهم على فتح السدود بات من أخطر الأمور على القوات الأسبانية أن تقترب منهم أو تصل إليهم. فلم يعد في مقدور ألفا أن يتلقى أية امدادات أو مؤن من البحر وهكذا صارت المدن الرئيسية في هولندا وزيلند وجلدرلند وفريزلند آمنة محمية، ومن ثم قدمت ولاءها لوليم أورانج، وقررت تزويده بالإمدادات من أجل الحرب (يوليه 1572) ونقل وليم مقر قيادته إلى دلفت وأعلن أنه "الأصلع الكلفني، وهو لقب أصدق على رأسه منه على عقيدته، وفي تلك الآونة كتب فيليب فان مارنكس أغنية "وليم ناسو" التي أصبحت، ولا تزال، الترنيمة الوطنية في الأراضي الوطيئة.
ومنذ لقي وليم أورانج التشجيع على هذا النحو جهز جيشاً آخر وغزا برابانت. وفي نفس الوقت قام لويس ناسو، بمعونة كوليني، بإعداد قوة في فرنسا، ودخل هيبوت، واستولى على فالنسيان ومونز (23 مايو 1572). وتقدم ألفا ليسترد مونز، وهو يأمل بذلك أن يثني فرنسا عن مساعدة لويس. وتقدم وليم جنوباً لنجدة أخيه، وأحرز بعض انتصارات يسيرة، ولكن سرعان ما استنفذ ما لديه من مال، فتقاضى جنوده أجورهم بنهب الكنائس، وتسلوا بقتل القساوسة(29). فثارت ثائرة الكاثوليك، حتى أنه عندما اقترب جيش وليم بروكسل وجد الأبواب موصدة والأهالي يحملون السلاح لمقاومته واستأنف الجيش سيره، ولكن على مسافة فرسخ من مونز فوجئ الجند، وهم نيام، بستمائة جندي أسباني، وقتلوا من جنود وليم ثمانمائة قبل أن يتمكنوا من تهيئة أنفسهم للدفاع. واستطاع وليم الهرب بشق النفس مع بقايا قواته، إلى مكلين في برابانت. وفي نفس الوقت قضى قتل كوليني ومذبحة سانت برتلميو على كل أمل في العون من فرنسا. وفي 17 سبتمبر سقطت مونز في يد ألفا الذي هيأ للويس وفلول جيشه أن يرحلوا دون أن يمسهم أذى. ولكن قائد جيش ألفا، فيليب دي نوفارم، شنق من تلقاء نفسه مئات من الأهالي، وصادر ممتلكاتهم وباعها بثمن عال(30).
أن فشل استراتيجية وليم وإفراط قواته التي يصعب قيادها ووحشية "المتسولين" وفظائعهم، كل أولئك خيب آماله في توحيد الكاثوليك والكلفنيين واللوثرين ليقاوموا جميعاً طغيان ألفا. فإن "المتسولين". وكانوا كلهم تقريباً كلفنيين متحمسين أبدوا ضد الكاثوليك من ضروب الوحشية والضراوة ما أبدته محاكم التفتيش ومجلس الدم نحو الثوار والهراطقة. وفي كثير من الحالات لم يتركوا للأسرى الكاثوليكية إلا الخيار بين الكلفنية أو الموت، وكانوا يقتلون دون تردد، وفي بعض الأحيان بعد تعذيب لا يصدق، كل من تمسك بأهداب العقيدة القديمة(31). وأعدم كل ن طرفي النزاع كثيراً من أسرى الحرب. وكتب مؤرخ بروتستاني يقول:
في أكثر من مناسبة رئي الرجال يشنقون...اخوتهم هم أنفسهم الذين وقعوا أسرى في صفوف الأعداء... ووجد سكان الجزر لذة وحشية في ضروب القسوة هذه، ولم يعد الأسباني في نظرهم فرداً من بني الإنسان. وذات مرة انتزع أحد الجراحين قلب سجين أسباني، وثبته بالمسامير في مقدم السفينة ودعا الأهالي ليغرسوا أسنانهم فيه، وفعل كثير منهم هذا في ارتياح وحشي(32).
أن هؤلاء "المتسولين" القساة القلوب هم الذين هزموا دون ألفا. وأخلد الدوق إلى شيء من الراحة بعد الحملات التي قام بها، وورث أبنه دوق فدريجو ألفارث دي توليدو مهمة استعادة ومعاقبة المدن التي كانت قد أعلنت تأييدها لوليم أو استسلمت له. فبدأ ألفارث بمدينة مكلين التي أبدت أقل مقاومة، حيث خرج القساوسة والأهالي في موكب نادمين، يرجون الصفح والإبقاء على المدينة، ولكن ألفا كان قد أمر بانتقام تكون فيه موعظة وعبرة. فظل جنود فدريجو لمدة أيام ثلاثة ينهبون البيوت والأديار والكنائس، ويسرقون الحلي والأردية الثمينة من التماثيل المقدسة. ويطأون الفطائر المقدسة تحت الأقدام، ويذبحون الرجال ويستحيون النساء، كاثوليك أو بروتستانت على حد سواء وفي طريق تقدمه إلى جلدرلند، تغلب جيشه على الدفاعات الهزلية في زوتفن، وقتل كل رجال المدينة تقريباً. وعلق بعضهم من الأقدام، وأغرق خمسمائة منهم يربطون زوجاً زوجاً، ظهراً لظهر، والإلقاء بهم في نهر ايسل. واستسلمت بلدة ناردن الصغيرة بعد مقاومة قصيرة، وحيت الأسبان الغزاة بموائد زخرت بألوان الطعام، فأكل الجنود وشربوا ثم اعملوا القتل في كل الأهالي في المدينة وتقدموا إلى هارلم، وهي مركز كلفني أبدى حماساً خاصاً للثورة. وقد دافعت حامية قوامها أربعة آلاف رجل عن المدينة دفاعاً مجيداً، إلى حد أن دوق فدريجو اقترح الانسحاب منها، ولكن ألفا هدد بأن يتبرأ منه إذا لم يستمر في الحصار، فتصاعدت أعمال العنف، وعلق كل من الطرفين أسراه على أعواد المشانق في مواجهة عدوه. وأثار المدافعون حنق المحاصرين بأن مثلوا على الأسوار الطقوس الكاثوليكية بطريقة تدعو إلى السخرية والضحك. وأرسل وليم ثلاثة آلاف جندي لمهاجمة جيش دوق فدريجو، ولكنهم أبيدوا وأخفقت كل محاولة لتخليص هارلم بعد ذلك. وفي 11 يولية 1573، بعد حصار دام سبعة أشهر اقتات فيها الناس على الأعشاب والجلود، استسلمت المدينة. ولم يبق على قيد الحياة سوى 1600 رجل أعدم معظمهم. كما أعدم 400 من المواطنين المتزعمون، أما بقية الأهالي فقد على حياتهم بعد موافقتهم على دفع غرامة قدرها مائتان وخمسون ألف جلدر.
وكان هذا آخر انتصارات حكومة دوق ألفا وأبهظها تكلفة. وهلك أكثر من اثني عشر ألفا من أفراد الجيش الذي تولى الحصار متأثرين بالجراح أو بالمرض. واستنزفت الحرب كل ما حصل من ضرائب بغيضة، واكتشف فيليب الذي كان يعد النقود أكثر مما يحسب حساب الأنفس والأرواح، أن ألفا لم يكن محبوب لدى الناس فحسب، بل أنه كان كذلك ينفق أموالاً طائلة، وأن أساليب قائده كانت تعمل على توحيد الأراضي الوطيئة ضد أسبانيا وأحس دوق ألفا بأن الرياح غير مواتية له، وأن التيار قد انقلب ضده. فطلب تنحيته وتباهى بأنه قتل 18 ألف ثائر(34). ولكن الهراطقة كانوا في مثل القوة التي كانوا عليها عندما جاء هو إلى الميدان، بل أكثر من ذلك أنهم سيطروا على الثغور وعلى البحر، وأن الملك فقد مقاطعتي هولندا وزيلندة تماماً. وقدر أسقف نامور أن ألفا في سبع سنين، وألحق من الأذى بالكاثوليكية أكثر مما ألحقه بها لوثر والكلفنية في جيل بأسره(35). وقبلت استقالة ألفا وغادر الأراضي الوطيئة (18 ديسمبر 1573) وأستقبله الملك فيليب استقبالاً حسناً. وقاد، وهو في سن الثانية والسبعين الجيوش الأسبانية لغزو البرتغال (1580). ولدى عودته من هذه الحملة انتابته حمى متقطعة، ولم يحفظ عليه حياته إلا إرضاعه اللبن من ثدي امرأة. وفاضت روحه في 12 ديسمبر 1582، بعد أن عاش عاماً على اللبن. ونصف قرن على الدم.
ركويسانس ودون جوان 1573 - 1578
وأرسل فيليب دون لويس دي ركويسانس ليحل محل ألفا، وهو الذي كان منذ عهد قريب نائب الملك في ميلان. ودهش الحاكم الجديد لعدد الثوار والروح التي سادتهم، فكتب إلى الملك: "لم أكن أدرك قبل وصولي كيف استطاعوا الاحتفاظ بمثل هذه الأساطيل الضخمة، على حين أن جلالتكم لم تستطيع الإنفاق على أسطول واحد فقط. ومهما يكن من أمره، فإنه يبدو أن الرجال الذين يقاتلون من أجل حياتهم وديارهم وأملاكهم وعقيدتهم الزائفة، وجملة القول عن قضيتهم-يقنعون بالطعام دون أجور(37). ورجا فيليب في أن يرخص له في إصدار عفو عام عن الجميع باستثناء الهراطقة العنيدين، مع السماح لهم بالهجرة، وإلغاء ضريبة العشرة في المائة على البيوع. ولم ير وليم أورانج في هذه المقترحات إلا لعبة لكسب الوقت، ووسيلة جديدة لاستئصال البروتستانتية من الأراضي الوطيئة، ولم يكن يقبل السلام إلا على أساس الحرية الكاملة للعبادة، واستعادة امتيازات المقاطعات، وانسحاب الأسبان من الوظائف المدنية والعسكرية. واستمرت الحرب. وفي معركة (13 أبريل 1577) قضى نحبه كل من أخوي وليم: لويس في سن السادسة والثلاثين، وهنري في سن الرابعة والعشرين.
وثمة حادثان شدا من أزر الثورة في هذه الآونة: إفلاس فيليب (1575) وموت ركويسانس في أثناء حصار زيركزي (5 مارس 1576). عين الملك أخاه غير الشقيق، دون جوان النمسوي، في هذا المنصب البغيض. ولكنه لم يصل إلى لكسمبرج إلا في نوفمبر. وفي هذه الأثناء وقع ممثلو هولندا وزيلندة، وفي دلفت (25 إبريل) "قانون التهدئة" الذي خول وليم السلطة العليا في البر والبحر، وحق التعيين في الوظائف السياسية. وعند الضرورة حق العهد بحماية الاتحاد إلى أمير أجنبي. وأهاب وليم، من مركز السلطان الجديد، بسائر المقاطعات أن تشارك في طرد الأسبان من الأراضي الوطيئة. ووعد بحرية الفكر والعقيدة للكاثوليك وللبروتستان على حد سواء.
وربما لقي نداؤه بعض الاستجابة في المقاطعات الجنوبية لولا أن الجنود الأسبان وقد خدعهم السلب والتهب في زيركزي، تمردوا (يولية) وبدءوا، دون تمييز، حملة من السلب والنهب والعنف أرهبت فلاندرز وبرابانت. ووجه إليهم مجلس الدولة في بروكسل تأنيباً قاسياً ولكنهم تحدوه، فأعلن المجلس أنهم خارجون على القانون، ولكن لم يكن لديه قوة يقاومهم بها. فعرض وليم أن يرسل قوات عسكرية لحماية هذه البلاد، وجدد تعهده بالحرية الدينية. وتردد المجلس، فأطاح به أهالي بروكسل، وشكلوا مجلساً آخر تحت رياسة فيليب دي كروي الذي بدأ المفاوضات مع الأمير. وفي 26 سبتمبر رحبت غنت بفرقة عسكرية أرسلها وليم لحماية المدينة من المتمردين الأسبان. واجتمع في غنت في 19 أكتوبر، ممثلون عن برابانت وفلاندرز وهينوت، وكانوا يكرهون تحالف ولاياتهم مع الأمير المحروم من حماية القانون، ولكن في 20 أكتوبر اجتاح المتمردون ما سترخت، وفي 28 منه، وقع المجتمعون للبحث والتشاور رغبة في حماية قوات وليم لهم، "قانون التهدئة" الذي صدر في غنت، والذي اعترف بوليم حاكماً على هولندا وزيلندة، وأوقفوا كل اضطهاد للهرطقة، واتفقوا على التعاون في طرد الجنود الأسبان من مقاطعاتهم. ورفضت الجمعية العمومية للمقاطعات الجنوبية التي انعقدت في بروكسل، التوقيع على "قانون التهدئة"، حيث اعتبرته إعلاناً للحرب ضد الملك.
ودعم المتمردون مرة أخرى من حجج وليم، ذلك أنهم في 4 نوفمبر 1576 استولوا على أنتورب، وأعملوا فيها السلب والنهب، على أسوأ شكل عرفه تاريخ الأراضي الوطيئة. وقاوم المواطنون ولكنهم غلبوا على أمرهم، وقتل منهم سبعة آلاف، وأحرق ألف مبنى كان بعضها من روائع العمارة. وذبح الرجال والنساء والأطفال في طوفان من الدماء بأيدي الجنود وهم يرددون الصيحات: "سان جيمس، أسبانيا، الدم، الموت، النار، السلب، النهب" وطوال تلك الليلة عاث الجنود في المدينة الغنية، وسلبوا كل بيت فيها تقريباً، ورغبة في انتزاع الاعتراف بالذخائر المخبأة، أصيلة أو زائفة، عذبوا الآباء على مرأى من أطفالهم، وذبحوا الصبية وهم في أحضان أمهاتهم، وضربوا الزوجات بالسياط حتى الموت أمام أعين أزواجهن. واستمر هذا العنف "العنف الأسباني" يومين حتى أتخم الجنود بالذهب والحلي والملابس الثمينة، وبدأ الواحد منهم يقامر الآخر بغنائمه في الشوارع المكتظة بجثث الموتى. وفي 28 نوفمبر صدقت الجمعية العمومية على "قانون التهدئة" الذي وضع في غنت.
وكان هذا نصراً مبيناً أحرزه الأمير في الوقت المناسب. وعندما أرسل دون جوان من لكسمبرج يقول أنه على وشك أن يدخل بروكسل، أجابت الجمعية العمومية بأنها لن تستقبله بوصفه حاكماً إلا إذا وافق على "قانون التهدئة" وأعاد امتيازات المقاطعات، وطرد كل القوات الأسبانية من الأراضي الوطيئة. وقضى دون جوان، الباسل في ميدان المعركة، القليل الخبرة بالسياسة والذي أعوزه الرجال والمال، شتاءه متلكئاً في لكسمبرج، ثم وقع في 12 فبراير 1577 "المرسوم الدائم" الذي أدى به إلى التهدئة وحريات المقاطعات. وفي أول مارس دخل دون جوان بروكسل في احتفال رسمي، واغتبطت المدينة إذ رأت مثل هذا الحاكم الوسيم الأعزل الضعيف. ورحلت القوات الأسبانية. وساد السلام لفترة وجيزة ربوع البلاد المخربة.
وكانت أحلام جوان أكبر من إمكاناته المالية. وبعد مآثره وبطولاته في ليبانتو وتونس أوهنت العظمة اليائسة العاجزة فورة الدم الهادر بأوهام البطولة. وعلى مقربة منه كانت ماري ستيوارت الجميلة سجينة لدى إليزابث العملاقة الرهيبة. فلم لا يحشد جوان جيشاً وأسطولاً، ويعبر البحر، ويطيح بعرش ملكة ويتزوج الأخرى، ويصبح ملكاً على إنجلترا وإسكتلندة، ويعيد هذه الأقاليم الغافلة إلى أحضان الكنيسة الأم، أن فيليب الذي خشي الهوة بين الأموال والأحلام، اعتبر أخاه ساذجاً مخدوعاّ. وقدم جوان البرهان على ذلك، فإنه غادر بوركسل فجأة (11يونية)، على رأس فرقة من الوالون (سكان جنوب بلجيكا) الكاثوليك، وأنكر "قانون التهدئة). وبعد مفاوضات عميقة مع جوان، دعت الجمعية العمومية وليم إلى العاصمة، ولدى وصوله (23 سبتمبر) رحب به جمهور كبير من المواطنين الكاثوليك على أنه الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يقود الأراضي الوطيئة إلى الحرية. وفي 8 أكتوبر أبلغت الجمعية العمومية دون جوان أنها لم تعد تعترف به حاكماً يمكن أن تقبل في مكانه أمير من الأسرة المالكة. وفي 10 ديسمبر 1577 انضمت المقاطعات كلها-عدا نامور-إلى "اتحاد بروكسل". وطلب الأعضاء الكاثوليك في الجمعية العمومية، الذين كانوا يخشون كلفنية وليم، إلى ماتياس أرشيدوق النمسا أن يكون حاكماً على الأراضي الوطيئة. وقدم الشاب ابن العشرين وتقلد المنصب (18 يناير 1578) ولكن أنصار وليم أعزوا الحاكم الجديد بتعيين وليم نائباً له-ومن الوجهة الفعلية صاحب الأمر والنهي في الإدارة والسياسة.
وكان يمكن للتسامح المتبادل في الخلافات الدينية وحده يبقى على هذا الاتحاد أو الترابط، ولكن التعصب مزقه. فإن الكلفنيين في هولندا والكاثوليك في أسبانيا اعتقدوا جميعاً بأن الكفار وحدهم الذين يستطيعون أن يبدوا تسامحاً. وقال كثير منهم صراحة بأن وليم أورنج ملحد(38)، واتهمه الواعظ الكلفني بيتر داتينوس، بأنه جعل من السلطة معبوده الوحيد، وأنه يغير عقيدته كما يغير الناس ملابسهم(39). وكان المكلفنيون (وظلوا حتى 1587) يشكلون عشر السكان فقط في مقاطعة هولندا، ولكنهم كانوا نشيطين طموحين ومسلحين. وكانت لهم السيطرة على الجمعيات السياسية، فأحلوا حكاماً وقضاة بروتستانت محل الكاثوليك، وفي 1573 حظر مجلس المقاطعة العبادة الكاثوليكية في هولندا(40)، على أساس أن أي فرد كاثوليكي يحتمل أن يكون خادماً لأسبانيا. ولن تأت 1578. إلا وقد عمت الكلفنية زيلندة تقريباً، وكانت م الوجهة السياسية-لا العددية-متسلطة في فريزلند واكتسحت موجات تحطيم الصور المقدسة هولندا وزيلندة 1572، ومقاطعات أخرى، حتى الفلاندرز وبرابانت ، بعد 1576. وأنكروا أي ربط بين الدين والفن باعتباره عملاً وثنياً دنساً. وجردت الكنائس من الصور والتماثيل والصلبان والزخارف، وصهرت الأواني الذهبية والفضية، ولم يبق إلا الجدران العارية، وعذب "المتسولون" القساوسة الكاثوليك، وأعدموا نفراً منهم(41).
واستنكر وليم كل هذه التصرفات، ولكنه تغاضي(42) عن استيلاء الأقليات الكلفنية المسلحة السياسية في بروكسل وايبر وبروجز وكل شمال الفلاندرز(43). وفي غنت سجن الكلفنيون أعضاء المجلس، ونهبوا الكنائس والأديار وأتلفوا أجزاءها الداخلية، وصادروا أملاك الكنيسة، وحرموا إقامة الطقوس الكاثوليكية، وأحرقوا الرهبان في ساحة السوق(44)، وأقاموا جمهورية ثورية (1577). وفي امستردام اقتحم الكلفنيون المسلحون دار البلدية (24 مايو 1578)، وطردوا القضاة والموظفين، وأحلوا محلهم كلفنيين، وخصصوا الكنائس التي جردوها لمذهب الصلاح. وفي اليوم التالي قامت ثورة مماثلة بمثل هذا العمل في هارلم. وفي أنتورب التي كانت آنذاك مقر قيادة وليم أخرج البروتستانت القساوسة والرهبان من المدينة (28 مايو)، وأنب الأمير أتباعه تأنيباً شديداً على هذا العنف. وخصهم على السماح باستثناء الطقوس الكلثوليكية. ولكن في 1581 حرمت كل عبادة كاثوليكية في أنتورب وأوترخت. واتهم الكلفنيون القساوسة بأنهم كانوا يخدعون الناس بالمخالفات الزائفة والكرامات التي يفتعلونها-وعرض قطع من "الصليب الحقيقي، وعظام قديمة للتعبد على أنها رفات القديسين، وإخفاء الزيت في رؤوس التماثيل حتى ترشح في الوقت المناسب(45).
على أن وليم تولاه الحزن والأسى حين رأى سنوات كفاحه من أجل الوحدة تختتم بالفرقة والفوضى والبغضاء. وإن الديمقراطية الكلفنية التي كانت قد استولت على جملة مدن الآن في وهدة من الفوضى، بدأ معها الملاك البروتستانت والكاثوليك على حد سواء يتساءلون هل كان المذهب الجديد وكل ما يتصل به من دعايات أشد وبالاً عليهم من الديانة القديمة. وسرى شعور الاستياء وواجه وليم هذه الرغبة المتزايدة في إعادة النظام بالتفاوض مع فرنسوا دوق أنجو ليتولى منصب الحاكم العام بدلاً من ماتياس الماجز التافه. ولكن اتضح أن أنجو خائن حقير. وزاد الطين بلة في محنة وليم، أن جيشاً أسبانياً جديداً قوامه عشرون ألفا من الجنود المدربين أحسن تدريب، كان يتجه شمالاً بقيادة أقدر قواد العصر. ذلك أنه في ديسمبر 1577 قدم الساندرو فارنيز دوق بارما بجيشه إلى دون جوان في لكسمبرج. وفي يناير 1578 هزموا القوات التي كان يعزوها النظام، التابعة للجمعية. العمومية، في جمبلو. وفتحت لوفان واثنتي عشرة مدينة صغيرة أخرى، أبوابها أمام الفاتح الجديد، وفرت الجمعية العمومية الأراضي الوطيئة من بروكسل إلى أنتورب. إلا أن دون جوان الذي استشعر مجداً جديداً، انتابته حمى خبيثة، وقضى نحبه في نامور، في أول أكتوبر 1578، وهو في سن الثالثة والثلاثين. وعين فيليب دوق بارما حاكماً عاماً مكانه، وبدأ فصل جديد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بارما وأورانج 1578 - 1584
الساندرو فارنيزي، الذي يبلغ الثالثة والثلاثين، هو ابن نائبة الملك السابقة مرجريت بارما. تربي في أسبانيا وأقسم يمين الولاء لفيليب، وحارب في ليبنتو وقضى الأربعة عشر عاماً الأخيرة من حياته في الإبقاء على الأراضي الوطيئة الجنوبية في حوزة الملك فيليب. وفي 1586 وروث دوقية بارما ولقبها، ولكنه لم يجلس على عرش الدوقية قط. وكان له عينان حادتان، ووجه أسمر، وشعر أسود قصير، وأنف كأنف النسر، ولحية كثة، كل أولئك كشف عن شيء يسير من مقدرته وشجاعته وبراعته، وجمع بين كل الفن العسكري الذي امتاز به دوق ألفا، مع إثارة من قسوته، وقدراً أكبر بكثير من المهارة في المفاوضة والحديث. وبات القتال من أجل الأراضي الوطيئة، آنذاك، صراعاً بين دبلوماسية بارما وأسلحته تسانده أموال الكاثوليك وآمالهم، بين صمود أمير أورانج البطولي، يموله التجار الهولنديون ويشدون أزره. ويعرقل جهوده، في وقت معاً، تعصب أصدقائه.
وفي 5 يناير 1579 شكل جماعة من النبلاء الكاثوليك، من هينوت ودوا وأرتوا وليل، بإيحاء من أسقف آراس، شكلوا عصبة آراس لحماية عقيدتهم وممتلكاتهم وفي 29 يناير شكلت مقاطعات هولندا وزيلندة وجروننجن وأوترخت وجلدرلند، "اتحاد أوترخت، للدفاع عن عقيدتهم وحرياتهم. وسرعان ما انضم إليها فريزلند، وأوفريسل. ومن هذه "المقاطعات المتحدة" السبع تتكون اليوم الأراضي الوطيئة الهولندية، وأصبحت المقاطعات الباقية هي "الأراضي الوطيئة الأسبانية"، وصارت في القرن التاسع عشر بلجيكا وحدد تقسيم المقاطعات السبع عشرة إلى أمتين على هذا النحو. سيطرة الكاثوليكية في الجنوب والبروتستانتية في الشمال، من ناحية. إلى جانب الفصل الجغرافي بينهما، لوجود الخلجان والأنهار الكبيرة التي هيأ اتساعها وسدودها التي يسهل التحكم فيها، ثغوراً يمكن الدفاع عنها، وتأوي إليها الأساطيل والأسلحة الأسبانية.
وفي 19 مايو وقعت عصبة آراسي مع بارما اتفاقاً، التزمت فيه بألا تقبل غير الكاثوليكية مذهباً، وارتضت بمقتضاه السيادة الأسبانية شريطة استعادة امتيازات المقاطعات والوحدات الإدارية الصغيرة (الكوميونات) وسرعان ما أعاد الدوق، بالإغراء أو الرشوة أو القوة، كل المقاطعات الجنوبية تقريباً إلى حضيرة أسبانيا، وتخلى الزعماء الكلفنيون في بروكسل وغنت وإيبر عن فتوحاتهم وولوا الأدبار إلى الشمال البروتستانتي. وفي 12 مارس 1579 قاد بارما جيشاً كبيراً ضد ماسترخت الواقعة في موقع حصين على النهر المسمى باسمها. وأتى الفريقان كلاهما بالأعاجيب من أعمال البطولة وضروب الوحشية وحفر المهاجمون أميالاً من الممرات تحت الأرض ليبثوا الألغام ويفتحوا المدينة، كما حفر المدافعون-النساء والرجال جنباً إلى جنب-ممرات ليقابلوهم؛ ودارت رحى القتال حتى الموت في باطن الأرض. وصب الماء المغلي في الأنفاق، وأشعلت الحرائق لتملأها بالدخان. واحترق مئات المحاصرين المهاجرين أو اختنقوا حتى الموت. وانفجر أحد الألغام قبل أوانه فأودى بحياة خمسمائة من رجال بارما. وعندما حاول جنوده تسلق السور قابلتهم الجمرات المحترقة، وقذفت حول أعناقهم النار الملتهبة. وبعد أربعة أشهر من الجهد المضني والضراوة والعنف، أحدث المحاصرون ثغرة في السور، نفذوا منها خفية في الليل، وفاجأوا المدافعين المنهوكين وهم نيام وذبحوا منهم ستة آلاف من الرجال والأطفال والنساء ولم يبقَ من سكان المدينة البالغ عددهم ثلاثين ألفاً، على قيد الحياة آنذاك سوى أربعمائة. وعمرها بارما من بعدهم بالموالون الكاثوليك.
تلك كانت كارثة عظمى حلت بالبروتستانت. ووجه اللوم فيها بحق إلى حد ما، إلى وليم الذي حاول عبثاً إنقاذ المدينة، لعجزه وإبطائه. واتهمه الآن نفس المتطرفين الذين أحبطوا سياسة التوحيد التي انتهجها، بتعصبهم وعنفهم-اتهموه بخيانة قضيتهم مع دوق أنجو الكاثوليكي، وأشاروا إلى أنه لم يؤدِ الشعائر الدينية طوال العام الماضي، وانتهز الملك فيليب هذه الفرصة ليصب اللعنة على أورانج (15 مارس 1581). وبعد أن أسهب فيليب في بيان عقوق الأمير وخيانته وزيجاته وجرائمه، استرسل يقول:
ومن ثم... بسببه الأعمال السيئة الشريرة التي رتبها وأنه يعكر صفو السلام العام، وأنه شخص بغيض، فإننا نحرمه من حماية القانون، ونحظر على كل رعايانا أن يتعاملوا معه أو يتصلوا به في السر أو العلن، أو أن يزودوه بالطعام أو الشراب أو الوقود أو غيرها من الحاجيات الضرورية. أننا نعلن على الملأ أنه عدو للجنس البشري. ونبيح ممتلكاته لمن يضع يده عليها. ورغبة في الإسراع في تخليص شعبنا من طغيانه وظلمه، فإننا نعد، وعد ملك خادم للرب، أي فرد من رعايانا، وأتى من النخوة والشهامة ما يستطيع معه أن يجد الوسيلة لتنفيذ هذا المرسوم، وتخليصنا من هذا الإنسان البغيض، سواء بتسليمه لنا حياً أو ميتاً، أو بإزهاق روحه على الفور، نعد بأن نمنحه هو أو ورثته من الأرض أو المال، وفق مشيئته، ما قيمته خمسة وعشرون ألف كراون ذهباً. ولسوف نصدر العفو عن أية جريمة ارتكبها أياً كان نوعها، ونرفعه إلى مرتبة النبلاء إذا لم يكن نبيلاً(46).
وكان جواب مجلس المقاطعات على هذا "الجرم"، تعيين وليم حاكماً عاماً على هولندا وزيلنده (24 يولية 1581) وبعد ذلك بيومين وقع ممثلو هولندا وزيلندرز وجلدرلند وأوترخت وفلاندرز وبرابانت، في لاهاي "قرار الاستنكار الذي طرحوا فيه بشكل مهيب ولاءهم لملك أسبانيا. وفي وثيقة مشهورة في التاريخ الهولندي، شهرة وثيقة "إعلان الحقوق" التي أصدرها برلمان إنجلترا 1689 في التاريخ الإنجليزي، أعلنوا أن الحاكم الذي يعامل رعاياه معاملة العبيد ويقضي على حرياتهم، يجب ألا يعتبر بعد اليوم مليكهم الشرعي ويحق قانوناً عزله(47). وكان رد وليم على هذا الحرمان في صيغة دفاع حرره له قسيسه، أرسل إلى الجمعية العمومية وإلى كل بلاط في أوربا، ورحب بالحرمان على أنه وسام شرف له. واتهم فيليب بسفاح ذوي القربى والزنى وقتل زوجته وابنه. وأبدى استعداده للتخلي عن كل مناصبه ومغادرة الأرضي الوطيئة بل حتى للتضحية بحياته، إذا كان هذا في مصلحة بلده، ومهر الوثيقة بشعاره "سوف أتشبث".
ولم يلبث فيليب طويلاً حتى جنى ثمار "الحرمان" الذي أصدره (18 مارس 1582)، فإن جين جوريجي أغرته الجائزة الموعودة، فتسلح بمسدس واستعان بالله، ونذر للعذراء بعض الغنيمة. واتخذ سبيله إلى وليم أورانج في أنتورب. وأطلق الرصاص على رأسه، فدخلت الرصاصة تحت الأذن اليمنى ونفذت إلى الفم، ثم إلى الخد الأيسر. ولقي القاتل على الفور حتفه بيد أتباع وليم، ولكن بدا أن المهمة قد نفذت. ولعدة أسابيع بدا أن الأمير على شفا الموت. ودعا فارنيزي المقاطعات الثائرة، وقد مات زعيمها العنيد، إلى المصالحة مع مليكهم الرحيم. ولكن وليم تماثل للشفاء في بطء بفضل سهر زوجته شارلوت على العناية به. وهي التي قضت نحبها في 5 يونية بسبب الإرهاق والحمى. وفي يولية وضع متآمران مغموران خطة لدس السم لأمير أورانج ودوق أنجلو كليهما. واكتشفت المؤامرة واعتقل المجرمان وانتحر أحدهما في السجن، وأرسل الثاني إلى باريس وحوكم وأدين، ومزق إرباً بربطه في أربعة خيول، تتجاذبه في كل اتجاه.
وفي أثناء عام 1582 جمع أنجو حوله بعض قوات فرنسية في أنتورب. ولم يكن الدوق ليقنع بلقبه، وداعبه الحلم بأن ينصب نفسه ملكاً. وهب أتباعه فجأة في 17 يناير 1583، وهم يهتفون "فليحيا القداس" وحاولوا أن يسيطروا على المدينة. فقاومهم الأهالي، وهلك في هذه "الثورة الفرنسية" قرابة ألفي شخص. وأخفقت هذه الثورة وهرب أنجو. وعانى وليم من فقدان قدر آخر من شعبيته لأنه ظل طويلاً يؤيد أنجو ويسانده. ووقعت في مارس محاولة أخرى للقضاء عليه. فلم يطمئن للإقامة في أنتورب ونقل مركز قيادته إلى دلفت. عندئذ عقدت مقاطعتا جروننجن وجلدرلند الصلح مع بارما، ولم يبقَ مع وليم إلا اثنتين من المقاطعات "المتحدة"، وهما هولندا وزيلندة، ولكنهما أثبتتا ولاءهما بأن جعلتا منصب "الحاكم العام" وراثياً في أسرته (ديسمبر 1583)، وبهذا وضعت أسس بيت أورانج الذي كان يمكن أن يغزو وأن يرث نصف إنجلترا في 1688.
وأصر القتلة ولم تفتر عزيمتهم. وفي أبريل 1584 حاول هانز هانزون من فلشنج أن يودي بحياة الأمير، ولكنه أخفق وأعدم. واستبد الحماس الديني ببلتازار جيرار من برجندي، كما اشتد به التفكير في الخمسة والعشرين ألف كراون وقصد إلى دوق بارما يعرض عليه قتل أمير أورانج، ولكن الدوق قدر أن شاباً في العشرين من عمره غير صالح للاضطلاع بهذه المهمة، وأبى عليه المبلغ المتواضع الذي طلبه سلفاً، ولكنه وعده بالجائزة كاملة إذا حالفه التوفيق. وقصد جيرار إلى دلفت، وتنكر في زي كلفني مسكين تقي، وتلقى من وليم اثني عشر كراون صدقة. وصوب إلى جيده ثلاث رصاصات (10 يولية 1584) فصرخ وليم "يا إلهي، رحمتك بي وبالشعب المسكين". وفاضت روحه في بضع دقائق. وقبض على جيرار وحوكم أمام قضاة المدينة، وأبدى فرحه واغتباطه بنجاحه فيما قصد إليه، ثم لقي أشد العذاب وقتل شر قتلة. ووري وليم التراب في دلفت، بأسمى مظاهر التكريم بوصفه "أبا البلاد". ولما كان قد ضحى بكل ما يملك في سبيل الثورة فإنه لم يخلف لأبنائه الاثنى عشر شيئاً تقريباً. وهذا شاهد صامت على ما درج عليه من نبل وشرف.
ودفعت الجائزة كاملة لأبوي جيرار، وابتهج كاثوليك الأراضي الوطيئة، قائلين إن الجريمة انتقام إلهي لانتهاك حرمة الكنائس وقتل القساوسة. وأرسلوا رأس القاتل إلى كولون باعتباره من المخلفات الثمينة، ولمدة نصف قرن بذلوا أقصى الجهد لإعلانه قديساً(49).
النصر 1584-1648
وهنت بموت وليم روح من بقي من أتباعه في الفلاندرز وبرابانت. واستولى بارما على بروجز وغنت وبروكسل وملكين وأنتورب، ولم ينته 1585 حتى وقعت الأراضي الوطيئة جنوب نهر ماس-فيما عدا أوستند وسليز-في يد الأسبان، على أن "المتسولين" ظلوا يسيطرون على الثغور والبحر.
وكم أهابت المقاطعات الشمالية بالملكة إليزابث لنجدتهم. واستجابت الآن للنداء. فقد أدركت أن ثورة الأراضي الوطيئة منعت أسبانيا من إعلان الحرب على إنجلترا، وما كان في مقدورها أن توقف هذه الفرصة التي هيأتها العناية الإلهية-منع أسبانيا من إعلان الحرب-هذا بالإضافة إلى أن الهولنديين سيطروا على سوق الصدف الإنجليزي. وفي ديسمبر 1585 أرسلت إلى هولندا قوة كبيرة بقيادة ليستروسير فيليب سدني. وأخذ ليستر لنفسه، باعتباره حاكماً عاماً للمقاطعات الثائرة، كل سلطة الملك تقريباً. ومذ رأى أن المقاطعات الجنوبية تستورد كل الحاجيات الضرورية للحياة من المقاطعات الشمالية فأنه حرم كل اتجار مع الممتلكات الأسبانية، ولكن التجار الهولنديين كانوا يعيشون على هذه التجارة، وصدروا بضائعهم إلى أسبانيا أثناء حربهم معها. ومن ثم رفضوا الخضوع لما نهى عنه ليستر، الذي حلت به الهزيمة في زوتفن (22 سبتمبر 1586) فغادر هولندا مشمئزاً، شاعراً بالخزي والعار. وسادت الفوضى في الشمال لمدة عام كامل. وأنقذت الجمهورية الصغيرة بفضل اشترك فيليب لدوق بارما في خطته لغزو إنجلترا، وبفضل هجمات بارما المظللة ضد هنري نافار في فرنسا، وتحكم الهولنديين في البحار، وثروة التجار الهولنديين وصمودهم، وعبقرية جان فان أولدنبار السياسية، ثم بفضل ما أوتي موريس ناسو-ابن وليم الصامت، من عبقرية عسكرية.
وفور وفاة وليم الصامت اختير ابنه موريس حاكماً عاماً على هولنده وزيلنده وفي1588، وهو في الحادية والعشرين، عين قائداً عاماً وأمير للبحر في المقاطعات المتحدة. وفي 1590 أسلمته أوترخت وأفريحسل وجلدرلند مقاليد الحكم فيها. وأفاد موريس من محاضرات سيمون ستيفن في الرياضيات في ليدن، فطبق العلم الحديث على القذائف والهندسة والحصار. ودرب الجيش الهولندي على أساليب جديدة للالتحام والنظام. وفي سلسلة من الحملات التي اشتهرت بسرعة الحركة والاستراتيجية المفاجئة (1590-1594) استرد موريس زوتفن ودفنتر وتيميجن وجروتنجن. أما بارما الذي ضيع مهاراته وأمواله في هجمات فيليب العقيمة على إنجلترا وعلى هنري الرابع، فإنه قضى نحبه في "سبا" بسبب الإعياء والجراح (20 فبراير 1952).
وعين فيليب خلفاً له الأرشيدوق ارنست النمسوي الذي لم يلبث أن أدركته المنية، ثن الكاردينال الأرشيدوق البرت الذي تخلى عن منصبه الديني، وتزوج إيزابل كلارا أوجينيا، ابنه الملك. وقبل وفاة فيليب (1598) بفترة وجيزة، منح البرت وإيزابل حق السيادة على الأراضي الوطنية، شريطة أن يعود هذا الحق إلى أسبانيا إذا ماتا دون عقب. وأثبت الاثنان أنهما حاكمان قديران رحيمان. عجزا عن إخضاع المقاطعات الشمالية، ولكنهما أقاما في الجنوب حكماً متحضراً ازدهرت في ظله الفنون الكنسية في انسجام جميل مع صور روبنز العارية.
وظهر على مسرح الحوادث في 1603 شخصية جديدة. وكان البرت قد استمر يحاصر أوستند عامين كاملين دون أن يصيب أي نجاح، وجاء أحد رجال المصارف الإيطاليين، هو امبروزيودي سبينولا، ووضع كل ثروته في خدمة أسبانيا، وجمع جيشاً قوامه ثمانية آلاف رجل، وجهزه بالسلاح وبالعتاد، وحاصر أوستند واستولى عليها. ولكن ثراءه العريض لم يعدل ثروة التجار الهولنديين، الذين ثابروا على بناء وتجهيز الأساطيل التي أقضت مضاجع البحرية الأسبانية، وهددت بقطع شريان الذهب الذي يتدفق بين أمريكا وأسبانيا. وإذا أرهق الحصار والقتل البرت وإيزابل فإنهما استحثا المفاوضات مع الهولنديين، وأقرهما عليها الملك فيليب الثالث الذي أرهقه العمر والإملاق. وبرغم اعتراضات موريس حض أولدنبار نفلدت الهولنديين على المصالحة. وفي 1609 عقدت هدنة هيأت الأراضي الوطيئة الراحة من عناء الحرب لمدة اثني عشر عاماً.
بيد أن الوئام في الداخل شيء يختلف كل الاختلاف عن السلام الخارجي. لقد حنق موريس على أولندنبار نفلدت هيمنته على مقاليد الأمور في الجمهورية. ومن الوجهة العلمية كان لأكبر الموظفين راتباً في هولنده السلطان والسيطرة على هذه المقاطعة وحدها، ولكن مذ كانت ثروة هولنده والضرائب التي تدفعها للجمعية العمومية تعدل ما تملكه وما تدفعه سائر المقاطعات المتحدة مجتمعة، فإن أولندنبار نفلدت مارس في الاتحاد سلطة تتكافأ مع تلك الثروة، كما تتكافأ رجاحة عقله وشخصيته وخلقه. أضف إلى ذلك أن الملاك الذين حكموا المقاطعات والتجار والأغنياء الذين حكموا الكوميونات أحسوا بانعطاف نحو أولدنبار نفلدت الذي نبذ الديمقراطية مثلهم، وقال "إنه لمن الأفضل أن يحكمني سيد مطلق من أن يحكمني الرعاع"(50) وولى موريس وجهه شطر الشعب ليحصل على تأييده، ووجد أنه يمكنه أن يكسب الشعب إلى جانبه إذا جعل من القساوسة الكلفنيين أصدقاء له.
وكانت القضية الدينية التي أهاجت الجمهورية الآن قضية مثلثة الجوانب: فهناك المعارضة المتزايدة بين الكنيسة الدولة، وهناك الصراع بين الكاثوليك البروتستانت، وهناك أخيراً النظريات بين البروتستانت أنفسهم. وسعت المجامع الكنسية الكلفنية إلى أن تحدد النهج السياسي، وتتخذ من الحكومة أداة لتقوية مذهبهم. وارتابت الجمعية العمومية في المجامع الكلفنية على أنها سيئة وبذور خطيرة لمؤامرة الديمقراطية. وقد جلب أولدنبار نفلدت على نفسه عداوات كثيرة حين أمر رجال الدين بأن يتركوا الحكومة للسلطات المدنية. وقد يكون غريباً أن نقول أن الغالبية الساحقة من السكان في 1609 كانوا من الكاثوليك حتى في المقاطعات الشمالية(51). كانت القوانين تحرم العبادة الكاثوليكية، ولكنها لك تكن تنفذ، وكان هناك 232 قسيساً يتلون الشعائر الكاثوليكية(52)، وأمر مجلس المقاطعة في أوترخت القساوسة أن يتزوجوا النساء اللائى يستخدمونهن في إدارة شؤون منازلهم، ولكن الامتثال لهذا الأمر لم يكن تاماً، ولك يلقَ إقبالاً.
وحدث الصراع داخل المجموعات البوتستانتية بين الكلفنيين و "المتحررين"، وهم أقلية. وأطلق هذا الاسم على هؤلاء، لا لأنهم إباحيون في حياتهم. بل لأنهم حبذوا الحرية الدينية حتى للكاثوليك، كما أيدوا تفسيراً إنسانياً متحرراً للاهوت البروتستانتي. هؤلاء هم ورثة تقاليد ارزم (الذين كان ينتسب إليهم وليم أورانج). وكان المتزمتون معتنقوا الكلفنية القديمة، الذين تمسكوا بمذهب الجبرية الصارمة، وأحسوا بأن عقيدتهم يحب أن تكون إجبارية في كل المقاطعات المتحدة(53)-نقول كان هؤلاء المتزمتون يرمون المتحررين بأنهم "بابويون" في الخفاء. ودافع ديرك كورنهرت الذي كان سكرتيراً لدى وليم أورانج. عن حرية العبادة في كتاباته التي أرست أسس اللغة الأدبية في هولنده. وانبرى واعظ من أمستردام، هو جاكوبس أرمنيوس، لتفنيد آراء كورنهرت، ولكنه تحول إليها واعتنقها بينما كان يدرس ليرد عليها، وحينما عين أستاذاً للاهوت في ليدن، صدم المتزمتين بارتيابه في الجبرية، وإثباته أن الإنسان تنقذه أعماله الصالحة بقدر ما ينقذه إيمانه، وهذا يخالف ما قال به لوثر وكلفن. وسلم بأن الوثني المتمسك بأهداب الفضيلة قد ينجو من الجحيم. وذهب إلى أن كل الناس في النهاية سيخلصون ودمغة أستاذ زميل له في الجامعة، فرانسيسكس جوماروس، بأنه مهرطق ماكر.
ومات أرمنيوس 1609، وكان قد كسب إلى جانبه آنذاك أتباعاً من ذوي النفوذ، من بينهم أولدنبار نفلدت وهوجو جروتيوس أكبر موظفي روترذام وفي 1610 صاغ هؤلاء "المتحررون" احتجاجاً على نظريات الجبرية ولاصطفاء والرفض أو الإخراج من زمرة الأبرار، واقترحوا عقد مجلس وطني يضم رجال الدين وغيرهم من العلمانيين لإعادة تحديد عقيدة الإصلاح وتعريفها. وصاغ المتزمتون "احتجاجاً مضاداً" أكدوا فيه من جديد المذهب الكاثوليكي:
"إن الرب، بعد خطيئة آدم، حفظ نفراً معيناً من البشر من الدمار، وقدر لهم الخلاص في المسيح...وفي هذا الاصطفاء لم يعتبر الرب الإيمان أو الارتداد، ولكنه يعمل كيف يشاء. وأرسل الرب ابنه يسوع لتخليص هؤلاء المصطفين وحدهم(54)".
وأصر أتباع جوماروس على أن هذه القضايا لا يعالجها إلا رجال الدين وحدهم، وبذلك نجحوا في دمغ المحتجين بأنهم من أنصار البابا أو من أتباع بلاجيوس (الذين ينكرون نظرية الخطيئة الأصلية ويرون أن الإنسان مخير) أم من الموحدين (الذين لا يدينون بالتثليث، إلى حد أغلبية كبيرة من السكان البروتستانت انحازت إلى جانب المتزمتين، وكان موريس ناسو يغفل شأن هذه المنازعات اللاهوتية احتقاراً لها، ولكنه تحرك الآن ليصادق مؤقتاً جماعة المذهب القديم، لأنهم يهيئون لأه ركيزة شعبية لمحاولة استعادة الزعامة الوطنية.
وأعقبت ذلك معركة بالخطب والعظات والنشرات قاربت أن تكون حرباً. وعكرت الاضطرابات العنيفة صفو الهدنة، وهوجمت بيوت المتحررين في لاهاي، وأخرج الوعاظ الكلفنيون المتشددون من روتردام. وجهزت هولندا جيشاً للدفاع عن ديانتها، وسرعان ما تبعتها مقاطعات أخرى، وبدا أن الحرب الأهلية توشك أن تقضي على الجمهورية في مهدها، وفي 4 أغسطس 1617 اتخذ أولدنبار نفلدت في مجلس هولندا قراراً خطيراً-رآه موريس خطيراً حقاً-يعلن فيه سيادة الدولة على الأمور الدينية، ويوجه مدن المقاطعة إلى تسليح نفسها حماية لها من عنف أنصار الكلفنية، وقصد إلى أوترخت حيث أقنع مجلسها بإعادة القوات لتأييد هولندا. وفي 25 يولية 1618 دخل موريس ناسو بوصفه القائد الشرعي للجيش، أوترخت على رأس قوة مسلحة. وأرغم الفرق المجندة حديثاً على أن يتفرقوا. وفي 29 أغسطس أصدرت الجمعية العمومية للمقاطعات المتحدة أمراً بالقبض على أولدنبار نفلدت وجروتيوس وغيرهما من زعماء المحتجين. وفي 13 نوفمبر اجتمع كنيسة الإصلاح في دور درخت (دورت)، واستمع لآراء اللاهوتيين المحتجين وحكم بأنهم مهرطقون، وأمر بطرد قساوسة المحتجين من وظائف الكنيسة والتعليم. وصبت اللعنة على أنصار أرمنيوس-مثلهم في ذلك مثل الكاثوليك-وحرم عليهم عقد الاجتماعات أو إقامة الصلوات العامة. وفر كثيرون منهم إلى إنجلترا حيث أحسنت الكنيسة الرسمية استقبالهم ودعموا أهم مركز الأنجليكانيين المتحررين.
وحوكم أولدنبار نفلدت أمام محكمة خاصة لم تهيئ له أي سند قانوني. واتهم بأنه بطريقة مدموغة بالخيانة أشاع الفرقة في الاتحاد وعرضه للخطر، وبأنه سعى إلى تكوين دولة داخل الدولة. وفي خارج المحكمة انهال سيل من النشرات تذيع على الملأ أخطاء حياته الخاصة. ودافع هو عن نفسه دفاعاً قوياً بليغاً إلى حد أن أبناءه أقاموا أمام سجنه عمود مايو المزدان بالأشرطة والزهور واحتفلوا بالإفراج المرتقب عنه، وكلهم ثقة في ذلك. وفي 12 مايو 1619 أقرت المحكمة إدانته ونُفذ فيه حكم الإعدام في اليوم التالي. وحكم على جروتيوس بالسجن مدى الحياة، ولكنه بفضل براعة زوجته هرب من السجن وعاش ليؤلف كتاباً يستحق الذكر.
وعلى الرغم من هذا الانتصار الذي أحرزه التعصب، نمت الحرية في المقاطعات. وبلغ الكاثوليك من الكثرة حداً يتعذر معه وقف نموهم. ولم يكن من المستطاع تنفيذ القرارات النظرية التي صدرت عن مجلس دورات. وفي عام 1619 نفسه أسس المنونايتين (يعارضون حلف اليمين وعماد الأطفال والخدمة العسكرية وقبول الوظائف العامة)، في حرية تامة، طائفة الطلبة الجامعيين، وهي تشبه الكويكرز، في ريجنسبرج وقد وجد عندهم سبينوزا ملجأ آمناً. وفي 1629 امتدح ديكارت حرية الفكر التي نعم بها في أمستردام، وفي نهاية القرن السابع عشر أصبحت هولندا ملاذ المهرطقين الذين لجأوا إليها من بلاد كثيرة.
وفي 9 أغسطس 1621 استُأنفت الحرب مع أسبانيا. ذلك أن الأرشيدوق ألبرت مات دون أن يخلف عقباً. فعادت المقاطعات الجنوبية إلى أسبانيا. وأغار سبينولا على المدن الهولندية الواقعة على الحدود. فسار إليه موريس ناسو، ولكن سنوات النضال كانت قد أنهكت قواه، فمات فجأة (1625) وهو في سن السابعة والخمسين. واستولى سبينولا على بريداً، وبذلك فتح الطريق إلى امستردام، وهيأ للمصور فيلاسكويز موضوع لوحة.
ونهض الهولنديون من كبوتهم واستردوا قوتهم في إصرار وعناد. وأدهش فردريك هنري الذي خلف أخاه في منصب الحاكم العام، الأعداء والأصدقاء على السواء، بما كان يخفي حتى الآن من مواهب رجل دولة وقائد وبفضل دبلوماسية فرانسيس آرسنز استطاع أن يحصل من ريشيليو على منحة سنوية قدرها مليون ليرة، وجمع حشداً جديداً، وبعد حصار طويل استولى على هرتوجنبوخ وماسترخت وبريدا. ولحسن الحظ كان سبينولا قد استدعى إلى لومبارديا.
وفي نفس الوقت استخدم التجار الهولنديون أموالهم في بناء السفن، لأن كل انتصار في البحر كان يعني توسيع مجال التجارة. وفي عام 1628 أسر أسطول هولندي صغير تحت إمرة بيبت هين أسطولاً أسبانياً كان يحمل الذهب من المكسيك. وهاجم أسطول هولندي آخر قوة أسبانية مكونة من 13 سفينة في نهر سلاك، فدمرها وأسر 5000 رجل (1631). ولكن أروع هذه الانتصارات البحرية هي المعركة التي خاضها قائممقام أمير البحر مارتن هاربوتزون ترومب في القنال الإنجليزي (بين دوفروديل) وكان الأسبان قد عقدوا العزم على استعادة السيطرة على ثغور الأراضي الوطيئة من الهولنديين. فأعدوا أسطولاً ضخماً جديداً من 77 سفينة عليها 24 ألف رجل فلما أبصر به ترومب في القنال، وأرسل في طلب المدد، وفي 21 أكتوبر 1639 أبحر ومعه 75 سفينة حتى صار على مقربة من مواقع العدو، فأغرق أو أعطب أو أسر كل الأسطول الأسباني فيما عدا سبع سفن. وقتل 15 ألفا من الملاحين الأسبان في المعركة أو أغرقوا. وتحتل معركة القنال الإنجليزي في تاريخ هولندا نفس المكانة التي تحتلها هزيمة الأرمادا (1588) في تاريخ إنجلترا. فقد وضعت حداً لكل دعاوى أسبانيا في السيادة على البحار، وقطعت شريان الحياة بين أسبانيا ومستعمراتها، وأسهمت مع أنصار فرنسا على أسبانيا في معركة روكروا (1643) واختتمت الحقبة التي هيمنت فيها أسبانيا على أوربا.
مذ انهمكت أسبانيا انهماكاً تاماً في حرب الثلاثين عاماً فإنها قررت أن تنزل للهولنديين عن كل شيء، حتى تتفرغ للحرب مع فرنسا. وفي مونستر في 30 يناير 1648 وقع المندوبين الأسبان معاهدة وستفاليا التي أنهت ثمانين عاماً من الحرب في الأراضي الوطيئة. وأعلن أن المقاطعات المتحدة غير متقيدة بأي رباط مع أسبانيا. وتم الاعتراف بفتوحاتها. ولا تصل تجارة الراين إلى بحر الشمال إلا عن طريق الثغور الهولندية وحدها. وخول التجار الهولنديون حرية التجارة في جزر الهند الشرقية والغربية. وهكذا انتهى أطول وأشجع وأقسى صراع من أجل الحرية في التاريخ بأسره.