قصة الحضارة - ول ديورانت - م 7 ك 2 ف 16
صفحة رقم : 9973
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على السلطة -> فرنسا إبان الحرب -> الأخلاق
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل السادس عشر: فرنسا إبان الحروب 1559 - 1643
الأخلاق
بدأ الدين، الذي اتخذت ألوانه ذرائع كاذبة لحروب كثيرة، يعاني من تسخيره في السياسة؛ وازداد المتشككون في قداسة عقائد تحاج بالمباراة في سفك الدماء؛ وبدأت في الطبقات العليا الشكوك حول الآداب المسيحية تختلط بالتشكك في العقيدة. وكان من علامات الزمن أن يبين قسيس تقي مثل بيير شارون جدارة الغريزة الجنسية وجهازها المضحك بالاحترام(1). أما الفلاحون فقد احتفظوا بإيمانهم، وقدسوا الناموس المسيحي حتى وهم ينتهكونه؛ فقد يقتلون بعضهم بعضاً في غضبة عابرة، وقد ينحرفون عن سنة الزواج بواحدة إذا واتتهم الفرصة ونامت أعين الرقباء، ولكنهم فيما عدا ذلك يحيون حياة مهذبة إلى حد محتمل. ويستمعون إلى القداس بانتظام، ويتناولون جسد المسيح ودمه مرة في العام على الأقل. وأما الطبقات الوسطى-سواء من الكاثوليك أو الهيجونوت-فقد ضربت خير مثال للفضيلة المسيحية. كان أفرادها يحتشمون بأعمالهم وأطفالهم، ويختلفون إلى الكنيسة، ويعطون الدولة كهنتها وأطباءها ومحاميها وقضائها واستقرارها. وكان هناك نساء مثاليات حتى في الطبقة الارستقراطية، وقد وصف شارل التاسع امرأته اليزابث النمسوية بأنها أكثر نساء العالم فضيلة؛ ولكن يمكن القول عموماً إن العلاقات الغرامية في الطبقات ذات الفراغ في العاصمة، وفي الصناع المهرة في المدن، أخذ زمامها يفلت. كان عصر حوافز جسدية لا خفاء فيها. وقد بقي أثر من الحب الأفلاطوني، الذي تسلى به بيميو وكاستليوني في يوليا ومرجريت نافار في فرنسا، في ندوة مدام درامبوييه (وهي ذاتها إيطالية)، ولكنه كان في أكثره حيلة نسائية، ومقاومة في العمق لإضفاء المجد على القلعة.
كانت كاترين مديشي-على قدر علمنا-زوجة مخلصة وأماً شديدة الاهتمام بأبنائها، ولكن الشائعات اتهمتها بتدريب النساء الجميلات على إغراء أعدائها حتى يخضعوا(2)، وقد وصفت جان دلبيير (وفيها بعض خلق المحتشمات) بلاط كاترين بأنه »أفسد المجتمعات قاطبة وألعنها(3)«. وكان برانتوم مروجاً للفضائح، ولكن شهادته يجب أن تدخل الصورة: »أما نساؤنا الفرنسيات الجميلات... فقد تعلمن في السنين الخمسين الأخيرة قدراً كبيراً من اللطف والرقة، وكثيراً من الجاذبية والفتنة في ملبسهن، وفي نظراتهن الجميلة وأساليبهن الفاجرة... بحيث لا يستطيع أحد الآن أن ينكر تفوقهن على جميع النساء من كل وجه... ثم إن لغة الحب اللعوب هي في فرنسا أشد خلاعة وأكثر إثارة وأحلى منطقاً مما هي في اللغات الأخرى. وفوق هذا كله، فإن هذه الحرية الماكرة التي أتيحت لنا في فرنسا... تجعل نساءنا مرغوبات، ساحرات، لينات، طيعات أكثر من جميع النساء يضاف إلى هذا أن الزنى لا يلقي عموماً من العقاب ما يلقاه في أقطار أخرى... وباختصار فإن ممارسة العشق في فرنسا شيء لطيف(4)«.
وقد ضرب الملوك المثل في الخلق الفاشي في المجتمع. فقد مات فرنسيس الثاني قبل أوانه بسبب شهواته. وكان لشارل التاسع محظيته ماري توشيه. وانتقل هنري الثالث من الغانيات إلى المرد. أما هنري الرابع فثبت على عشق المرأة. ويبدو أنه لا هو ولا خليلته جابرييل دستريه اعترضا على تصويرها عارية حتى خصرها(5). ولما تزوجت ابنته هنريتا ماريا الفرنسية البالغة سبعة عشر ربيعاً، من تشارلز الأول، بلغت اتصالاتها الغرامية من الكثرة مبلغاً حمل كاهن اعترافها على أن ينصحها بأن تتخذ المجدلية مثالاً لها، وإنجلترا كفارة عن ذنوبها(6).
ولكن حتى مع هذه الأوضاع كان لطف النساء ولين جانبهن متخلفاً عن نهم الرجال، وجهدت المومسات لإشباع الطلب المتزايد عليهن. وقد عرفت باريس منهن ثلاثة أنواع: »العنزة المصففة الشعر« للبلاط، و »الطير الصداح« للبورجوازية، و »الحجرية« التي تسد مطلب الفقراء وتسكن بدروماً من الحجر. كان هناك غانيات متعلمات لرجال الطبقة الارستقراطية، مثل ماريون ديلورم، التي اعترفت عشر مرات وهي تحتضر، لأنها بعد كل حل ذكرت نفسها بخطايا لا حصر لها(7). وقد أصدر شارل التاسع وهنري الثالث مراسيم بحظر المواخير، ونص أمر أصدره لويس الثالث عشر (1635) على أن كل بغي تضبط يجب أن »تضرب بالسوط ويجز شعرها وتنفى« وأن كل الرجال المشتركين في هذه التجارة يجب أن يرسلوا إلى سفن تشغيل المجرمين مدى الحياة(8). واحتج عدة رجال، ومنهم مونتيني وقسيس هيجونتي، على مثل هذه الإجراءات وطالبوا بإجازة المواخير صيانة للأخلاق العامة(9). وظلت هذه القوانين في السجلات القانونية حتى أواخر القرن الثامن عشر، ولكنها لم تكن تطبق إلا نادراً. وحاولت قوانين أخرى عبثاً أن تقضي على انحرافات الطبيعة ونزواتها ويروي مونتيني قصة فتاة تحولت رجلاً في الثانية والعشرين(10). ووجد الأدب الفاحش سوقاً رائجة، وعرضت نوافذ حوانيت المطابع صوراً فاجرة دون أن تلقى أي تدخل مما نعرفه اليوم.
وعانت الفضيلة الاجتماعية والسياسية من الحروب. وتوسع في بيع الوظائف العامة حتى أوشك أن يكون رشوة شاملة. وكانت الإدارة المالية قبل أن يطهرها صلى فاسدة إلى حد الفوضى(11). ولم تكن الحرب تدمر تدميراً أعمى كما أصبحت بعد قليل في عهد لويس الرابع عشر، ومع ذلك نسمع بجيوش، من الهيجونوت والكاثوليك على السواء تشتبك في جرائم بالجملة من قتل ونهب واغتصاب وتعليق المواطنين من أباهمهم أو إشعال النار تحت أقدامهم لانتزاع الذهب الذي يخفونه. وزاد انتشار المبارزة في القرن السادس عشر، ربما لأن السيف أصبح جزءاً مألوفاً من ملبس الرجال. وقد حرمها شارل التاسع بحض ميشيل لوبيتال، ولكنها كادت تصبح وباءً متفشياً في عهد هنري الثالث، وكان ينتظر أن يشتبك الشاهدان كما يشتبك الخصمان الرئيسيان، يقول مونتيني إن المبارزات غدت الآن معارك. واختلف مرسوم ريشليو الذي حرم المبارزة عما سبقه في أنه نفذ تنفيذاً صارماً لا تحيز فيه. ولكن العادة انتعشت بعد موته.
وكانت الجريمة مألوفة. وكان أكثر باريس لا يضاء ليلاً، وأفرخت السرقة والقتل، وأشاعت المشاجرات العنيفة الفوضى في الشوارع، وكان السفر في الريف خطراً يهدد الحياة والأوصال. أما العقوبات فوحشية، ولسنا على ثقة من أنها كانت معوقات ناجعة للجريمة، ولكن لعل الجريمة كانت بدونها تستشري. وأما السجن فكان لطيفاً للسادة، ففي استطاعة النبلاء نزلاء الباستيل أن يدفعوا ثمناً لمساكن مريحة تفرش بأثاثهم وتنزلها نساؤهم. أما عامة المجرمين فقد يزج بهم في زنزانات خانقة أو يرحلون إلى المستعمرات أو يحكم بتشغيلهم في سفن العبيد والمجرمين. وترجع آثار هذه العقوبة إلى عام 1532، ولكن أول تشريع لها في القانون الفرنسي يرجع إلى عام 1561. وكان يحكم على نزلاء هذه السفن عادة بعشر سنين، وتدمغ ظهورهم بالحروف الثلاثة الأولى لمجرمي السفن »جال«. وكانوا في الشتاء يمكثون في سفنهم حبيسين أو يحشرون كالأنعام في السجون لاسيما في طولون أو مارسيليا. وفي أثناء الحروب الدينية حكم على كثير من الوحشية ما يحلو أمامه الموت. وتفجرت أوبئة الانتحار في تلك السنين المرة، وعلى الأخص بين نساء ليون ومارسيليا.
آداب السلوك
تحسنت آداب السلوك بينما تحطمت الأخلاق. فقد جلبت كاترين دي مديتشي معها الأدب الإيطالي، واحساساً بالجمال، وولعاً بالأناقة، ورهافة في الأثاث والملبس. وكان من رأي برنتوم أن بلاطها أروع بلاط وجد، »فردوس أرضي حقيقي« يتألق بثلاثمائة سيدة وآنسة على الأقل«(12) مرتديات أغلى الثياب وأفخرها. وأزاحت مراسم البلاط الفرنسي التي أرساها فرنسيس الأول لمراسيم الإيطالية من مكان الصدارة والقدوة لأوربا. وأنشأ هنري الثالث منصب المدير الأكبر للمراسم الفرنسية، وأصدر مرسوماً يفصل مراسم السلوك في البلاط وبرتوكوله، ويحدد الأشخاص الذين يسمح بمثولهم بين يدي الملك، وطريقة مخاطبته، وخدمته في يقظته وزينته، وطعامه، ونومه، ومن يرافقه في نزهته أو صيده، ومن يحضر مراقص البلاط. وقد أصر هنري الثالث، الخجول النيِّق، على هذه القواعد، وانتهكها هنري الرابع في غير تحرج، وتجاهلها لويس الثالث عشر، وتوسع فيها لويس الرابع عشر حتى أصبحت طقوساً تنافس القداس المطول.
أما ملابس القصر فقد ازدادت غلاء وزخرفاً. فقد ارتدى المرشال باسومبيير سترة قماشها من الذهب أثقلتها لآليء تزن خمسين رطلاً وثمنها أربعة عشر الف إيكو(13) ولبست ماري مديسي في حفل عماد ولدها عباءة مرصعة بثلاثة آلاف ماسة واثنين وثلاثين ألف حجر كريم آخر(14). وكان الرجل من رجال البلاط يعد نفسه فقيراً ما لم يملك خمساً وعشرين سترة من مختلف الطرز. وتعددت القوانين المقيدة للانفاق على الطعام والكساء ولكنها سرعان ما كانت تهمل. فحظر قانون منها أصدره هنري الرابع »على جميع سكان هذه المملكة أن يلبسوا الذهب أو الفضة على ثيابهم، إلا البغايا واللصوص(15)«. ولكن حتى هذا الربط الذكي كان عديم الجدوى. وشكا الوعاظ من المجازفة المبيتة التي أقدمت عليها السيدات حين لم يسترن ما استدار من أعضائهن إلا بمقدار. ويزعم مونتيني، الذي لم يكن كثير الوقوع في خطيئة خداع النفس بالأوهام، »أن سيداتنا (وأن كن أنيقات رقيقات) يرين مراراً مكشوفات الصدر حتى السرة(16)« ورغبة في تأكيد بياض البشرة أو حمرة الخدود، بدأت النساء في القرن السابع عشر تزيينها ببقع أو رقع سماها أصحاب الأمزجة غير الشعرية »الموش« أو الذباب. وقسين مشداتهن بعظم الحوت وفردن تنانيرهن المطوقة بالسلك. ورفعن شعورهن في العديد من الأشكال المغرية. أما الرجال فأطلقوا شعورهم المجعدة طويلة مرسلة، وتوجوا رؤوسهم بقبعات عريضة يزينها ريش مرح. وأفشى لويس الثالث عشر بدعة الشعر المستعار لما أصابه من صلع مبكر. وهكذا تبارى الجنسان في غرور المظهر وخيلائه.
ولم تمنعهم آدابهم من تناول الطعام بأصابعهم. ولم تحل الشوك محل الأصابع، حتى بين النبلاء، إلا عام 1600، وليس قبل عام 1700 تقريبا في غيرهم من الطبقات. وقد حقق مطعم عصري يدعو لاتور دراجن الشهرة بتقديمه الشوك لزبائنه، وكان هنري الثالث يتغذى فيه وهو عائد من صيده، وكان الفرنسيون يأكلون الضفادع والقواقع في القرن السابع عشر. أما شرابهم المفضل فهو النبيذ. وقد بدأوا يستعملون القهوة ولكنها لم تكن بعد شراباً لا غنى عنه. وكان الكاكاو قد دخل فرنسا من المكسيك بطريق أسبانيا، وذمه بعض الأطباء زاعمين أنه ملين في وقت غير مناسب، ووصفه غيرهم دواء للأمراض التناسلية، وروت مدام دسفيتي أن سيدة حاملاً اسرفت في شربه إسرافاً جعلها تلد »ولداً صغيراً أسود كالشيطان«(17). وانعكس التحسن في آداب السلوك على وسائل الانتقال والترفيه. فشاع الآن استخدام المركبات العامة في غرب أوربا، وبدأ الميسورون من الفرنسيين يسافرون في عربات فخمة مجهزة بالستائر والزجاج. وفشت لعبة التنس، وأولعت كل الطبقات بالرقص. ودخلت رقصة البافان من إسبانيا، وقد اشتقت اسمها من كلمة »بافو« الأسبانية ومعناها الطاووس، وأضفت عليها حركاتها الرشيقة المتعالية نزعة أرستقراطية، وأعان التقبيل الذي كان جزءاً منها على إثارة الدم في العروق، وفي عهد كاترين مديتشي أصبح الباليه قمة أسباب الترفيه في البلاط، إذ جمع بين الموسيقى والرقص ليقص قصة بالشعر أو الإيماء (البانتوميم)، وشاركت فيه أجمل نسائها، في ملابس ومشاهد صممت تصميماً فنياً، وقد أقيم حفل من حفلات الباليه هذه في التويلري غداة مذبحة القديس برتلميو.
وكان الموسيقيون أبطال الساعة العابرة. افتتن بهم الفرنسيون فتنة كبرى، حتى أن رجلا من الحاشية كان يحضر حفلة موسيقية عام 1581 ضرب سيفه بيده وأقسم أنه متحد رجل يقابله للمبارزة، وهنا قاد قائد الفرقة فرقته في لحن رقيق هدأ من هياجه(18). وظل العود الآلة كمان شهير في التاريخ، جلب فرقة من عازفي الكمان إلى بلاط كاترين وأشاع موسيقى الكمان. وفي عام 1600 تبع أوتافيو رينوتشيني ماري مديسي إلى فرنسا، وأدخل فيها فكرة الأوبرا. وكان الغناء لا يزال الموسيقى المفضلة، وقد رأى الأب مرسين يحق أنه ليس في الطبيعة صوت يضارع جمال صوت المرأة(19).
واجتمعت الآن الموسيقى، والأدب، والسلوك المهذب، والحديث المثقف-لتؤلف كلها إضافة من أهم الاضافات التي أغنت بها فرنسا الحضارة-وهي الصالون. وكانت إيطاليا، الأم الراعية للفنون الحديثة، قد مهدت له باللقاءات المهذبة، كتلك المنسوبة لأوربينو في كتاب كاستليوني »رجل البلاط«، ومن إيطاليا انتقل الصالون إلى فرنسا-كما انتقل إليها الكمان، والقصر الريفي (الشاتو)، والباليه، والأوبرا، والزهري. وقد ولدت مؤسسة الصالون بفرنسا في روما (1588) لجان دفيفون، السفير الفرنسي لدى البابا، وجوليا سافيللي إحدى وريثات أورسيني . وتلقت كاترين دفيفون تعليما لم تألفه الفتيات في القرن السادس عشر. وحين بلغت الثانية عشرة تزوجت من شارل دانجين، وكان يشغل في عهد هنري الرابع ولويس الثالث عشر منصباً كبيراً يلقب بالمركيز رامبوييه. وشكت المركيزة الشابة من قصور لغة الحديث وآداب السلوك في فرنسا عنها في إيطاليا سلامة وتهذيباً، ولاحظت في استنكار ذلك الفصل بين الطبقات المفكرة-من شعراء وأدباء وعلماء-وبين النبلاء. وفي عام 1618 صممت لأسرتها »الأوتيل درامبوييه« في شارع سان-توما-دلوفر بباريس. وفي غرفة منه علقت لوحات من المخمل الأزرق حواشيها من الفضة والذهب. في هذا »الصالون الأزرق« الفسيح استقبلت المركيزة ضيوفها في ما أصبح أشهر صالون في التاريخ. وقد حرصت على أن تدعو إليه رجالا ونساء ذوي آداب متجانسة وميول متنوعة: نبلاء مثل كونديه الكبير ولاروشفوكو، وكنسين مثل ريشليو واوريه، وقواداً مثل مونتوسييه وباسومبيير، وسيدات من ذوي النسب العريق كالأميرة كونتي ودوقتي لونجفيل وروهان، وأديبات مثل مثل مدام دلافاييت ومدام دسفني والآنسة دسكوديري، شعراء مثل ماليرب وشابلان وجي دبالزاك، وعلماء مثل كونرار وفوجلا، وظرفاء مثل فواتور وسكارون. هنا وعظ بوسويه عظة وهو في الثانية عشرة، وقرأ كورني تمثيلياته. هنا تعلم النبلاء أن يهتموا باللغة والعلم والدرس والشعر والموسيقى والفن، وتعلم الرجال من النساء آداب المجاملة، وتعلم المؤلفون أن يخفوا غرورهم، والفقهاء أن يهذبوا فقههم، والتقى الظرفاء بذوي النسب، وناقش القوم الكلام الصحيح واكتسبوه، وأصبح الحديث فناً من الفنون.
وتناولت المركيزة هذه الأسد والنمر بلباقة قلمت مخالبها دون أن توجعها. ومع أنها ولدت سبعة أطفال، إلا أنها احتفظت بجمالها فترة كفت لإلهام فولتير وماليرب العاطفة المشبوبة، فكان الشاعران يلتهبان لكل ابتسامة ولكنها برغم ضعف صحتها ضربت لضيوفها المثل في البشاشة والذكاء المفعم بالحيوية، وبرغم فقدانها ولدين اختطفهما الموت وثلاث بنات اختطفهن الدين أسكتت حزنها حتى كتبت قبريتها. وفي جل من الإباحية الجنسية والحديث الجامح أشاعت من حولها جواً من الأدب واللياقة. وأصبحت »سلامة الذوق« جواز الدخول لصالونها. وكان القواد والشعراء يتركون سيوفهم ورماحهم في البهو، وخفف الأدب من حدة الخلافات، وازدهر النقاش وأقصى الجدل العنيف.
وأخيراً أسرف القوم في هذا التهذيب. لقد رسمت المركيزة قانوناً يتوخى الدقة في القول والفعل، ولكن الذين طبقوه في تزمت سموا »المتحذلقين« و »المتحذلقات«، وفي عام 1659 حين كانت المركيزة قد اعتزلت وأصبحت وحيدة، انقض فولتير على هذه الرواسب الغربية المتخلفة من فنها وقضى عليها بسخريته القضاء المبرم. ولكن حتى الإسراف كان له نفعه، فهؤلاء »المتحذلقات« ساعدن على جلاء معنى الألفاظ والعبارات ومدلولها، وتنقية اللغة من الإقليمية، والنحو الرديء والتقعر، هنا بذرة الأكاديمية الفرنسية. وفي الأوتيل درامبوييه طور ماليرب وكونرار و فوجلا قواعد الذوق الأدبي التي أفضت إلى بوالو والعصر الكلاسيكي. وقد ساهمت »المتحذلقات« في ذلك التحليل للعواطف الذي أطال الروايات الغرامية وفتن به ديكارت وسبينوزا، وساعدن على توشية علاقات الجنسين باستراتيجية الانسحاب والتمنع، وما يتبعها من تصور الكنز الرواغ تصوراً مثالياً مما أفضى إلى الحب الرومانسي. وبفضل هذا الصالون وما جاء بعده من صالونات أصبح التاريخ الفرنسي أكثر منه في أي وقت مضى ثنائي الجنس. وارتفع مقام النساء، وازداد أثرهن في الأدب واللغة والسياسة والفن. وعظم احترام المعرفة والفكر. وانتشر الاحساس بالجمال.
ولكن أكانت الصالونات والأكاديمية جاعلة رابليه مستحيلاً؟ أكانت موصدة العقل الفرنسي أمام فسيولوجية مونتيني المرحة، وأخلاقياته السمحة، وحذلقته المتزايدة؟ أم كانت موجهة هذين العبقريين قسراً ورافعة إياهما إلى فن أكثر رهافة وعلواً؟.
ولكننا سرنا شوطاً أبعد مما يجب. فحين فتحت مدام درامبوييه صالونها كان قد مضى على موت مونتيني ستة وعشرون عاماً. فلنرجع في مسيرتنا ونستمع ساعة إلى أعظم كاتب ومفكر فرنسي في هذا الجيل.
ميشيل دي مونتيني 1533 - 1593
تعليمه
وصف جوزف سكا: ليجر مونتيني بأنه بائع رنجة. ولكن هذا العالم الكبير قفز جيلاً ذلك أن الجد، وأسمه جريمون إيكيم، هو الذي كان يصدر الأنبذة والأسماك المجففة من بوردو. وقد وردت هذه التجارة من جد ميشيل الأكبر ريمون إيكيم، الذي جمع المال للأسرة بهذه الطريقة، ثم اشترى (1447) القصر والضيعة المعروفين باسم مونتيني على تل خارج المدينة. ووسع جريمون ميراثه بزواج حكيم. أما ابنه بيير غيكيم فقد فضل الحرب على الرنجة، وانخرط في الجيش الفرنسي، وقاتل في إيطاليا مع فرنسيس الأول، وعاد بندوب وبآثار من النهضة، وارتقى إلى منصب عمدة بوردو. وفي عام 1528 تزوج انطوانيت، أبنة تاجر غني من تولوز يهودي المولد، مسيحي العماد، إسباني الثقافة. وولد ميشيل إبكيم، الذي أصبح السيد الإقطاعي على مونتيني، لبيير وانطوانيت، وقد اختلط في رأسه الدم الغسقوني واليهودي. ثم زاد أفقه اتساعاً أن أباه كان كاثوليكيا تقياً، وأمه على الأرجح بروتستنتية، وأخته وأخاه كالفنيين. وكان لبيير آراء في التعليم يقول عنه ميشيل "إن هذا الأب الطيب أرسلني حتى وأنا بعد في المهد لأنشأ في قرية فقيرة يمتلكها، وأبقاني فيها طوال الرضاع وبعده بقليل، لأتربى أفقر وأبسط تربية شائعة(20) ". وبينما كان الصبي في الحضانة عين له تابع ألماني لم يكلمه بغير اللاتينية. "ناهزت السادسة وأنا لا أفهم من الفرنسية أكثر مما أفهم من العربية(21) ".
فلما دخل كلية جيين كان أساتذته (فيما عدا جورج بوكاتان) يكرهون التحدث إليه باللاتينية، لأنه يتكلمها بطلاقة. وقد برز فيها إلى هذا الحد "دون كث " أو قواعد، أو نحو، أو ضرب بالسياط، أو أنين ونواح ". ولعل الأب كان قد قرأ ما قاله رابليه في التعليم. فحاول أن ينشئ ولده على لمبادئ التحررية، مؤثراً الحب على القسر. واستطاب مونتيني هذا النظام وأوصى به في خطاب طويل عن التعليم(22)، وصرح أنه كتب إلى الليدي ديان دفورا، ولكنه أنكره في مقال متأخر وأوصى بالعصا معيناً مقنعاً للمنطق(23). كذلك لم يحذ حذو أبيه في تفضيله اللاتينية أو الدراسات الكلاسيكية. ومع أن ذاكرته كانت فياضة بالشواهد والمثل الكلاسيكية، إلا أنه أستنكر الاقتصار على التعليم الكلاسيكي، واحتقر التعليم من الكتب والمكبين على الكتب، وآثر على هذا كله الاهتمام بتدريب الجسد لنيل الحكمة والفضيلة. "لسنا في حاجة إلا لقليل من التعليم لكي تكون لنا عقول سليمة(24) ". وقد نتعلم من مباراة في التنس أكثر مما نتعلم من خطاب لاذع ضد كاتلين. وينبغي أن يربى البدن على أن يكون جلداً شجاعاً، قادراً على تحمل الحر والبرد دون تذمر، وعلى إساغة مخاطر الحياة التي لا مفر منها. كان مونتيني يستشهد بالكتاب الأثينيين، ولكنه آثر طرق الأسبرطين في العيش، مثله الأعلى فضيلة رجولية، تقريباً بالمعنى الروماني الذي جعل هذه العبارة نافلة- وأضاف إليه المثل الأعلى الإغريقي "لا إفراط "- الاعتدال في كل شيء، حتى في الاعتدال، فعلى المرء أن يشرب الخمر في اعتدال، على أن يكون قادراً إن دعته المناسبة على الشرب الكثير دون أن يغيب عن وعيه.
وقد يكون السفر جزءاً هاماً من التعليم إذا تركنا أهوائنا وراءنا. "قيل لسقراط إن فلاناً لم يفده السفر مثقال ذرة، فأجاب: أجل، لأنه حمل نفسه معه في سفره "(25). فإذا استطعنا أن نفتح عقولنا وعيوننا وجدنا الدنيا خير كتاب نقرأه، لأن "الكثير جداً من الأمزجة الغريبة والملل المتعددة ... والآراء المتنوعة، والقوانين المختلفة، والعادات الظريفة، تعلمنا أن نصدر الحكم السليم على نظائرها عندنا(26) ". ثم بعد السفر يأتي التاريخ يحيط بأفضل العقول في خير العصور... فأي فائدة لا تجنيها... بقراءة "تراجم " بلوتارخ؟(27) " وأخيراً يجدر بالطالب أن يتلقى بعض الفلسفة- لا "جدليات المنطق الشائكة " بل الفلسفة التي تعلمنا كيف نعيش... وما يجب معرفته وما لا يجب، وما الشجاعة، والاعتدال ، والعدل، وأي فرق بين الطموح والجشع، والرق والحرية، وما العلامات التي يتبين الرجل بها القناعة الصادقة الكاملة؛ وإلى أي حد يجب أن يخاف... الموت أو الألم أو العار.... إن الطفل القادم من الحضانة أقدر على تلقي (هذه الدروس) من تعلم القراءة والكتابة(28) ".
وبعد أن أنفق مونتيني سبع سنين في كلية جيبن دخل الجامعة ليدرس القانون. وما من شيء كان أقل من هذه الدراسة تجانساً مع عقله المستطرد وحديثه الواضح. فهو لا يمل من إطراء العادة وذم القانون. وقد لاحظ في ابتهاج أن فرديناند الثاني ملك اسبانيا لم يبعث محامين إلى أمريكا الأسبانية مخافة أن يضاعفوا أسباب النزاع بين الهنود، وتمنى لو أنه منع الأطباء أيضاً مخافة أن يخلقوا بعقاقيرهم أمراضاً جديدة(19). وعنده أن شر البلاد ما استكثر من القوانين، وقدر أن بفرنسا منها "أكثر مما لدى بقية العالم ". ولم ير أي تقدم في نزعة القانون الإنسانية، وتساءل هل بين الهمج وحشية كتلك التي يمارسها القضاة ذوو العباءات، ورجال الكنيسة الحليقو الرؤوس، في غرف التعذيب بالدول الأوربية(30). وافتخر بأنه "حتى اليوم (1578؟) أنا بريء من جميع الدعاوى القانونية(31) ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
صداقته وزواجه
ومع ذلك نجده عام 1557 مستشاراً في محكمة الاعانات في بيريجو، وعام 1561 عضواً في برلمان بوردو- وهو المحكمة البلدية. وهناك لقى وأحب إتيين دلابويتي. وقد رأينا في موضع آخر من هذا الكتاب أن هذا الأرستقراطي الشاب كتب وهو بعد في الثامنة عشر، مقالاً مشبوب العاطفة ولكنه لم ينشره، واسمه "مقال عن الرق الاختياري "، وقد اشتهر باسم "كونتران "- أي ضد حكم الرجل الواحد؟ وقد دعا الشعب فيه بكل البلاغة التي أوتيها دانتون فيما بعد، إلى الثورة على الحكم المطلق. ولعل مونتيني نفسه شعر ببعض الحماسة الجمهورية في شبابه. على أي حال جذبه هذا المتمرد النبيل، الذي بدا له- وكان يكبره بثلاث سنوات- آية في الحكمة والنزاهة:
"لقد فتش الواحد منا عن صاحبه قبل أن يراه، ومن الأخبار التي سمعها عنه... أظن أننا بأمر سري من السماوات تعانقنا باسمينا. وعند أول لقاء لنا، وكان بالصدفة في وليمة كبيرة واجتماع مهيب لمدينة بأسرها، وجدنا نفسينا مندهشين، متعارفين،... مرتبطين، بحيث أن شيئاً من الأشياء لم يقترب منا بعد ذلك اقتراب كل منا من صاحبه(22). ما السر في هذه الصداقة العميقة؟ يجيب مونتيني "لأنه كان هو، ولأنني كنت أنا(23) "- لأنهما كانا مختلفين اختلافاً جعلهما يكمل الواحد منهما صاحبه. ذلك أن لابويتي كان المثالية كلها، والاخلاص الحار، والرقة والحنان، أما مونتيني فكان فيه من الثقافة والحصافة وعدم التحيز ما يمنعه من التفاني إلى هذا الحد، وقد وصفه هذا الصديق ذاته بأنه "يميل إلى الرذائل والفضائل البارزة على السواء(34) ". وربما كانت أعمق تجربة مر بها مونتيني في حياته هي مشاهدته صديقه يحتضر. ففي عام 1563، وخلال طاعون تفشى في بوردو، مرض لابويتي فجأة بالحمى والدوسنتاريا. وقد احتمل موته البطيء بجلد رواقي وصبر مسيحي لم يغب قط عن ذاكرة صديقه الذي ظل ملازماً لفراشه في تلك الايام الأخيرة. وورث مونتيني مخطوطة المقال الخطر وخبأها ثلاثة عشر عاماً، ثم نشرت منه نسخة في طبعة مسروقة (1576) وهنا نشر الأصل، وأوضح أنه تدريب في البلاغة لصبي "في السادسة عشرة ".
وجعلت هذه الصداقة كل علاقة إنسانية بعدها تبدو لمونتيني تافهة غثة. وقد اكتسب المرة بعد المرة أن نصفه مات مع لابويتي "لقد ألفت أن أكون دائما أثنين، ولم اعتد أن أكون وحدي قط، حتى ليخيل إلي أنني لست إلا نصف نفسي(35) ". وفي حرارة هذه الذكرى رفع الصداقة فوق الحب بين الوالد والولد، والفتاة والفتى، والزوج والزوجة، ويبدو أنه لم يكن يشعر بأي عاطفة رومانسية نحو أي امرأة. "في شبابي عارضت الأفكار الشائعة عن الحب، والتي أحسست أنها تغلبني على أمري، وجاهدت لأقلل من متعة مخافة أن... يسترقني في النهاية ويضعني تحت رحمته(36) ". ولا يعني هذا أنه لم تكن له أويقات غرام، فهو على العكس يعترف بعلاقات واسعة متعددة قبل زواجه(37). وقد وصف الحب الجنسي بأنه "ليس إلا لذة تدغدغ الجسم نتيجة إفراغ الأوعية المنوية، أشبه باللذة التي تعطينا إياها الطبيعة في إفراغ الأعضاء الأخرى. وروى أنه من المضحك أن الطبيعة "خلطت لذاتنا وأوساخنا معا(38) ".
وقد وافق الفلاسفة، على أن حافز الجماع ليس مبرراً للزواج. "لست أرى زيجات أسرع فشلاً وأكثر كدراً كتلك التي تعقد من أجل الجمال، أو تتم في عجلة إستجابة لرغبات الغرام(39) ". فالزواج يجب أن يرتبه "طرف ثالث "، وينبغي أن يرفض صحبة الحب (الجنسي) وشروطه "وأن يحاول شروط الصداقة "، ويجب أن يصبح الزواج صداقة إن أريد له البقاء. وكان يميل إلى رأي المفكرين اليونان القاتل بأن على الرجل ألا يتزوج قبل الثلاثين. وقد اجتنب هذا الرباط أطول ما استطاع. وإذ كان لا يزال أعزب وهو في الثامنة والعشرين، فإنه سافر إلى باريس، وافتتن بها(40)، واستمتع بحياة البلاط حيناً (1562)، ورأى الهنود الأمريكيين في روان، وتردد بين مفاتن الحضارة والهمجية المتنافسة، ثم عاد إلى بوردو، وتزوج فرانسواز دشاسين (1565).
ويلوح أنه تزوج لأسباب منطقية تماماً: هي أن يكون له بيت وأسرة، وأن يورث الأسرة ضيعته واسمه. وفي صفحاته الخمسمائة والألف لا يكاد يذكر شيئا عن زوجته- ولكن لعل هذا من قبيل حسن الأدب، وهو يزعم أنه كان وفياً لها، "مع أن الناس يذيعون عني أنني إباحي، إلا أنني (بنية صادقة) تقيدت بقوانين الزواج بدقة أكثر مما وعدت أو أملت(41) ". وكانت تغتفر استغراقات العبقرية في ذاتها، وتعني بكفاية بالبيت والأرض وحتى بالحسابات، لأنه لم يكن يميل إلى الأشغال التجارية. أما هو فقد أعطاها الاحترام كله، وأمارة حب أو كلمته بين الحين والحين- كاستجابة الشاكرة لمساعدتها السريعة له بعد سقوطه من ظهر جواده، وكاهدائه إياها طبعته للترجمة التي قام بها لابويتي لخطاب بلوتارخ "خطاب عزاء ". وكان زواجاً موفقاً، وعلينا ألا نأخذ مأخذ الجد الشديد تلك السخريات الموجهة ضد النساء في "مقالات مونتيني "، فقد كانت بدعة فاشية بين الفلاسفة. وولدت له فرانسواز ستة أطفال، كلهم بنات، متن جميعا في طفولتهن إلا واحدة، يتكلم عنها في حنان(43). وحين بلغ الرابعة والخمسين تبنى في أسرته فتاة في العشرين اسمها ماري دجورنيه "أحببتها حباً صادقاً يفوق حب الأب لابنته واعتبرتها جزءاً من خير أجزاء كياني، وهبت لي في بيتي وعزلتي(43) ". إنه لم يكن فوق مشاعر الانسانية المشتركة بين البشر.
مقالاته
في عام 1568 مات أبوه، فورث ميشيل الضيعة بوصفه الابن الأكبر. وبعد ثلاث سنوات أو أربع استقال من برلمان بوردو، واعتزل ضوضاء المدينة إلى ملل الريف. ولكن حتى في الريف كان السلام قلقاً، لأن الحرب الدينية كانت تقسم فرنسا ومدنها وأسرها، فالجنود يغيرون على القرى، ويدخلون البيوت ويسرقون، وينتهكون الأعراض، ويقتلون. "ذهبت إلى فراشي ألف مرة... وأنا أتخيل أنه قد يخونني من ائتمنت أو قد أذبح في فراشي(44) ". ورغبة في ثني القوم عن العنف كان يترك أبوابه غير موصدة ويأمر بأن يستقبل المغيرون إن أتوا دون مقاومة. على أنهم لم يأتوا، وترك مونتيني حراً ليعيش في ركنه الفلسفي بين صراع العقائد وصليل السيوف، وبينما كانت باريس وغيرها من الأقاليم تقتل البروتستنتية في مذبحة القديس برتلميو، كتب مونتيني أجل أثر في النثر الفرنسي.
وكان أحب الخلوات إليه مكتبته الكائنة بالطابق الثالث من البرج الذي يرتفع في واجهة قصره الريفي (دمرت النار القصر عام 1885 ولكن البرج باق). وقد أحب مكتبته كنفسه. فكانت ذاته الثانية. "شكلها مستدير، وليس فيها جانب مستو إلا ما يصلح لمكتبتي ومقعدي، وهو وضع... يتيح لي بنظرة واحدة أن أشتمل ببصري كل كتبي...هناك كرسي؛ هناك عرشي. وأنا احاول أن أجعل حكمي فيها مطلقاً؛ وأن أخص بذلك المركز الوحيد دون صحبة زوجتي، وأطفالي، ومعارفي(45) ".
وقل بين الرجال من استطاب مثله العزلة وهي أخوف ما نخاف:
"على المرء أن يفصل ويسترد نفسه من نفسه... علينا أن نحتفظ بمعين لأنفسنا... خاص بنا دون غيرنا... نختزن فيه حريتنا ونرسيها. إن أعظم شيء للإنسان في العالم أن يعرف كيف يكون نفسه(46). في مكتبته كان لديه ألف كتاب، أكثرها مجلد مزخرف، وكان يسميها "مواطن لذتي "، فيها استطاع أن يختار صحبته ويعيش مع أحكمهم وأخيرهم. ففي بلوتارخ وحده "لأنه يتكلم الفرنسية " (في ترجمة لآميو " استطاع أن يجد مائة عظيم يحضرون ويتحدثون إليه، وفي "رسائل " سنيكا استطاع أن يتذوق رواقية لطيفة صيغت في عبارات رخيمة؛ هذان (ربما فيهما كتاب بلوتارخ "موراليا " ) كانا أحب المؤلفين اليه، "منهما أستقي مائي كما فعلت الدنايديات، وأملأ دون توقف حالما يفرغ الماء(47) ... والألفة التي تمت بيني وبينهما، والعون الذي يمدانني به في شيخوختي، وكتابي الذي لم أصغه إلا مما غنت منهما، كل أولئك يلزمني صيانة شرفهما(48).
وهو لا يستشهد بالكتاب المقدس أبداً (ربما لأنه مشهور جداً)، وإن اقتبس مراراً من القديس أوغسطين. وهو في الاغلب يؤثر القدامى على المحدثين، والفلاسفة على الآباء المسيحيين. كان "إنساني " الفلسفة بقدر ما أحب آداب اليونان والرومان وتاريخهم، ولكنه لم يكن عابداً أعمى للكلاسيكيات والمخطوطات والمحفوظات، ورأيه في أرسطو أنه سطحي، وفي شيشرون أنه ثرثار دعي. ولم يكن مطلعاً كل الاطلاع على آثار اليونان، ولكنه استشهد بالشعراء اللاتين في تبحر طواف ألم حتى بواحد من أخص ابجرامات مارشال. وقد أعجب بفيرجل، ولكنه فضل عليه لوكريتيوس. وقرأ "الأقوال المأثورة " لأرزم في نهم. وكان في مقالاته الأولى متحذلقاً، يرصع كلامه بالعبارات الكلاسيكية المعادة. ومثل هذه الاقتباسات كانت تتفق وأسلوب العصر، وقد استطاب القراء ممن لم تسعفهم قدراتهم على قراءة الأصول هذه النماذج باعتبارها نوافذ صغيرة يلمحون منها العالم القديم، وشكا بعضهم من أنه لم يستكثر منها(49). ولكن من كل سرقاته الصغيرة خرج مونتيني هو هو على نحو فذ، ضاحكاً من الحذلقة، محدداً فكره وكلامه. فهو في ظاهره أشبه بالمقص واللصوق، ولكن مذاقه طيب كطعام الآلهة.
وهكذا، على مهل صفحة فصفحة، ويوماً بعد يوم، كتب "المقالات"، بعد عام 570 . والأسلوب هو الرجل، طبيعياً، حميماً، وثيقاً، وإنها لراحة أن يتحدث إلينا أحد أئمة الفكر بهذه الألفة. أفتح أي صفحة في مقالاته، تجده يمسك بذراعك ويسوقك معه دون أن تعرف، وقلما يهمك، إلى أين يمضي بك. كان يكتب جزءاً فجزءاً، في أي موضوع يخطر بباله أو يوافق مزاجه؛ ويستطرد في فوضى بعيداً عن الموضوع الاصلي أثناء تجواله، فترى مقاله "عن المركبات " مثلا ينطلق مخترقاً روما القديمة وأمريكا الجديدة. وفي المجلدات الثلاثة ثلاثة تتألف من استطرادات. لقد كان مونتيني كسولاً، وما من شيء أشق من خلق النظام وحفظه من الأفكار أو الرجال. وقد أعترف بأنه "متموج متنوع " ولم يقدس الثبات على الآراء؛ فكان يغير آراءه كلما تقدم به العمر، وإنما الصورة المركبة النهائية هي مونتيني.
ووسط تدفق أفكاره المضطرب تجد أسلوباً واضحاً كأنه البساطة بعينها. ومع ذلك تراه يتألق باستعارات عجيبة كاستعارات شكسبير، وبنوادر منيرة تحول المجرد فور الواقع. ويختطف فضوله الفاحص هذه الأمثلة أينما وجدها دون اكتراث لأي معوق خلقي. وهو يسلمنا في عناية ملاحظة تلك المرأة التولوزية التي شكرت الله بعد أن غشيها عدة جنود "لأنني مرة في حياتي ملأت بطني دون أن آثم(52).
الفيلسوف
إنه يزعم أن لديه موضوعاً واحداً- هو نفسه. "إني أنظر داخل نفسي، ليس لي شأن إلا مع نفسي، فأنا لا أكف عن النظر في أمر نفسي ... وتذوقها(53) ". وهو يعمد إلى دراسة الطبيعة البشرية مباشرة، عن طريق دوافعه، وعاداته، ومحابه، ومكارهه، وأسقامه، ومشاعره، وأهوائه، ومخاوفه، وأفكاره. إنه لا يقدم لنا ترجمة ذاتية، فهو لا يكاد يذكر في المقالات شيئاً عن اشتغاله مستشاراً أو عمدة، ولا عن أسفاره في زياراته للبلاط، وهو لا يكشف عن دينه أو مذهبه السياسي، بل يعطينا شيئا أثمن- ذلك التحليل الصريح النفاذ لجسمه وعقله وخلقه. وهو يبسط أخطاءه ورذائله واسهاب. وتحقيقاً لهدفه يستأذن في أن يتكلم بحرية، فهو عامد إلى انتهاك أصول الذوق السليم ليعرض علينا إنساناً عاري الجسد والروح. تراه يتحدث في صراحة صاخبة عن وظائفه الطبيعية، ويستشهد بالقديس أوغسطين وفيف في موضوع التطبل اللحني (امتلاء البطن بالغازات)، ويطيل التأمل في الجماع:
"كل منا يجتنب رؤية إنسان يولد، ولكن الجميع يهرعون لرؤيته يموت. فلهدمه نلتمس مكاناً ونوراً قوياً، ولكنّا لبنائه نختبئ في ركن مظلم ونعمل في تكتم ما استطعنا(54) ".
وحتى مع هذه الصراحة يزعم أنه مارس شيئا من التحفظ. "إني أقول الحق، لا كما أشتهي، بل على قدر ما أجرؤ(55) ". وهو يقول لنا الكثير عن نفسه الجسدية، ويرعى صحته من صفحة إلى صفحة. فالصحة هي الخير الاعظم "والشهرة والمجد يشتريهما رجل في مثل مزاجي بثمن غال، باسم الله(56) "، وهو يسجل تقلبات أمعائه في تفصيل المحب لها. لقد بحث عن حجر الفلاسفة ووجده مستكناً في مثانته. وكان يأمل أن ينزل هذا الحصى في نشوة من الحب، ولكنه بدلا من ذلك وجد أنه "يخونه إلى حد غريب(57) " ويهدده بالعجز في غير أوانه. وقد عزى نفسه بقدرة يفخر بها، هي "أن أقبض مائي عشر ساعات كاملة(58) وأن يظل على سرجه دون أن يناله الاعياء الشديد. كان بدينا قوياً، يأكل بنهم حتى كاد يعض أصابعه في شرهه. وقد أحب نفسه في لذة لا يعتريها الملل.
كان مغروراً بنسبه، وبشعار نبالته(59)، وبثيابه الفاخرة، وبما نال من تشريف حين أصبح أحد فرسان القديس ميخائيل- وكتب مقالاً "في الغرور ". وهو ينسب لنفسه أكثر الرذائل، ويؤكد لنا إن كان فيه فضيلة فإنها تسللت إليه خلسة. ومع ذلك فإن لديه الكثير من هذه الفضائل: الأمانة، والطيبة، وروح الفكاهة، والاتزان، والرحمة، والاعتدال، والتسامح. وكان يقذف بالأفكار المتفجرة في الهواء، ثم يلقفها ويطفئها قبل أن تسقط. وفي عصر المذابح العقائدية توسل إلى إخوانه في الإنسانية أن يعتدلوا في تعصبهم هذا الجانب من المقتلة، وأعطى العالم العصري مثالاً من أول أمثلته في العقل المتسامح. ونحن نغتفر له عيوبه لأننا نشاركه فيها، ونجد تحليله لنفسه ساحراً لأننا نعلم أننا نحن الذين يروي هذه القصة عنهم.
ولكي يحسن فهم نفسه درس الفلاسفة. وقد أحبهم على الرغم من دعاواهم المغرورة بأنهم يحللون الكون ويرسمون مصير الانسان وراء القبر. ونقل عن شيشرون قوله "ما من شيء سخيف قيل إلا سبق أن قاله أحد الفلاسفة(60). وقد امتدح سقراط لأنه "أنزل الحكم البشرية من السماء حيث طال ضياعها، ليردها إلى الإنسان من جديد(61) ". وردد نصيحة سقراط بدرس أقل العلوم الطبيعية، وأكثر للسلوك الإنساني. لم يكن له "مذهب " بعينه يدين به، فلقد كانت أفكاره في تطور دائم الحركة بحيث استحال على أي تسمية أن تقيد تحليقه الفلسفي.
ففي بواكير تفكيره الجريئة اعتنق الواقية. إن المسيحية التي تفرقت شيعاً يقتل فيها الناس أخوتهم ، ولطخت نفسها بدم الحرب والمذابح، قد اخفقت بجلاء في أن تعطي الإنسان قانوناً خلقياً قادراً على ضبط غرائزه، لذلك اتجه مونتيني إلى الفلسفة ملتمساً مبدأ خلقياً طبيعياً، وفضيلة لا ترتبط بقيام العقائد الدينية وسقوطها. وبد له أن الرواقية قريبة من هذا المثل الأعلى، فهي على الأقل شكلت بعضاً من أعظم الرجال في العصور القديمة. وجعلها مونتيني مثله الأعلى حيناً، فهو مدرب إرادته على التحكم في نفسه، وهو صادف عن كل العواطف التي تكدر سلامة سلوكه أو هدوء عقله، وهو مواجه صروف الدهر بجأش رابط، متقبل الموت ذاته على أنه نهاية طبيعية مغتفرة.
وبقي في عرق رواقي إلى النهاية، ولكن روحه الجياشة وجدت بعد قليل فلسفة أخرى تبرر ذاتها. لقد تمرد على رواقية تبشر باتباع "الطبيعة " وتحاول مع ذلك قمع الطبيعة في الإنسان، وقد فسر "الطبيعة " من خلال طبيعته هو، وقرر أن يتبع رغباته الطبيعية، ما دامت لاتحدث أذى محسوساً. وسرّه أن يجد أبيقور مدافعاً عاقلاً عن المتع السليمة، لا شهوانياً رخيصاً، وأدهشه أن يكتشف قدراً كبيراً من الحكمة والعظة في لوكريتيوس. فأعلن الآن في حماسة شرعية اللذة. أما الخطيئة الوحيدة التي تبنيها فهي الإفراط. " ان الإفراط هو الطاعون الذي يفتك باللذة، والاعتدال ليس سوط اللذة، بل الملطف لها(62) ". ومن تذبذب آرائه، ومن انحطاط المسيحية المعاصرة في فرنسا، انتهى إلى الشكوكية التي اصطبغ بها أكثر فلسفته بعد ذلك. وكان أبوه قد ثأر بكتاب "اللاهوت الطبيعي " الذي ألفه اللاهوتي التولوزي ريمون سبوند (مات 1437؟) والذي واصل جهد السكولستيين النبيل في البرهنة على معقولية المسيحية. وطلب الأب إلى ابنه أن يترجم البحث، نفعل، ونشر الترجمة (1569). واستنار به السنيون الفرنسيون، ولكن بعض النقاد اعترضوا على حجج ريمون. وفي عام 1580 أدخل مونتيني في "الكتاب " الثاني من "مقالاته " فصلاً مائتي صفحة فيه "دفاع عن ريمون سبوند " عمد فيه إلى الرد على الاعتراضات. ولكنه لم يفعل هذا إلا بالتخلي على هدف ريمون، محتجاً بأن العقل أداة محدودة لا يوثق بها، وأنه خير لنا أن نرسي الدين على الأيمان بالكتب المقدسة وبالكنيسة الأم المقدسة؛ وهكذا هدم مونتيني ريمون في واقع الأمر حين يفهم منه ظاهرياً أنه يؤيده. وقد رأى بعضهم، مثل سانت بوف، أن هذا "الدفاع " ليس إلا حجة ساخرة لتأييد عدم الإيمان(63). أياً كان الأمر، فهو أشد ما كتبه مونتيني هدماً، وربما كان أكمل عرض للشكوكية في الأدب الحديث.
ويؤكد لنا مونتيني، قبل لوك بزمن طويل، أن "المعرفة كلها توجه إلينا بواسطة الحواس(64) ". وأن العقل يعتمد على الحواس ولكن الحواس خداعة في تقاريرها محدودة جداً في رقعتها، ومن ثم كان العقل لا يعتمد عليه. "أن باطن الانسان وظاهره مملوءان ضعفاً وكذباً "(65). (وهنا، في بداية عصر العقل، وقيل بيكون وديكارت بجيل، يسأل مونتيني ذلك السؤال الذي لايقفان ليسألاه، والذي سيسأله بسكال بعد ثمانين عاماً، والذي لا يتصدى له الفلاسفة حتى مجيء هيوم وكانط، لم يجب أن نثق بالعقل؟) بل إن الغريزة مرشد أسلم من العقل. فأنظر كيف يحيا الحيوان بالغريزة حياة ناجحة- أحيانا على نحو أحكم من الانسان. هناك فرق بين بشر وبشر أكثر كثيراً من الفرق بين البشر والحيوان(66) ". وليس الانسان مركزاً للحياة كما أن الأرض ليست مركزاً للكون. ومن التبجح أن يظن الانسان أن الله يشبهه، أو إن شئون البشر هي مركز اهتمام الله، أو أن العالم وجد ليخدم الإنسان. ومن السخف أن نظن أن في إستطاعة عقل الانسان أن يسير طبيعة الله. "أيها الانسان الأحمق، يا من تعجز عن خلق دودة، ولكنك تريد أن تخلق أرباباً بالعشرات! "(67).
ويصل مونتيني إلى الشكوكية بطريق آخر- وهو التأمل في تنوع وتذبذب الإيمان بالقوانين والأخلاق، وبالعلم والفلسفة والدين، فأي هذه الحقائق هو الحق؟ وهو بفضل الفلك الكوبرنيقي على الفلك البطلمي، ولكن "من يدري، فلعل رأياً ثالثاً يأتي بعد ألف سنة قد يقلب هذين الرأيين " و "أليس أكثر احتمالاً أن الجرم الضخم الذي نسميه الدنيا شيء آخر غير ما نحكم به عليه؟(68) " و "ليس هناك علم "، إنما هي فروض دعية لعقول مغرورة(69). وخير الفلسفات قاطبة فلسفة برو- وخلاصتها أننا لا نعرف شيئاً. "أن أكبر مقدار فيما نعرفه هو أقل مقدار فيما نجهله(70) " "وما من شيء يؤمن الناس به إيماناً أرسخ من إيمانهم بما يعرفونه أقل معرفة " و "إن الاقتناع باليقينية شاهد واضح على الحمق(71) ". وبعبارة موجزة، ليس هناك وجود ثابت، لا لكياننا ولا للأشياء. ونحن، وحكمنا وكل الأشياء الفانية الأخرى، لا تكف عن الدوران، والتحول، ثم الزوال، فلا شيء يمكن إثباته على التحقيق. وليس بيننا وبين الوجود اتصال(72). إذن فشفاء لكل الجراح يختم مونتيني باعادة تأكيده لإيمانه المسيحي، والإشادة بالإله الذي لا يمكن استكناهه(73).
بعدها طبق شكوكيته على كل شيء، دائماً مع انحناءة احترام للكنيسة. وأصبح شعاره "ماذا أعرف "، محفوراً على خاتمه ومكتوباً على سقف مكتبته. وزينت شعارات أخرى عوارض السقف المماثلة "الحجج المؤيدة والمعارضة كلاهما ممكن "، "يجوز لا يجوز "، "لا أقرر شيئا، لا أفهم الأشياء؛ أعلق حكمي؛ أمتحن(74). "وبعض هذا الموقف آخذه عن شعار سقراط "لا أعرف شيئاً "، وبعضه عن برو، وبعضه عن كورنيليوس أجريبا، وكثير منه عن سيكستوس أمبيريكوس، قال، منذ الآن "سأقيد نفسي بما أرى وأمسك به، ولا أذهب بعيداً عن الشاطئ "(75).
ورأى الآن النسبية في كل مكان، والمطلقات في غير مكان، وأقلها في مقاييس الجمال، ويجد فيلسوفنا الشهواني متعة بالغة في ملاحظة مختلف الآراء بين مختلف الشعوب عن مقومات الجمال في ثدي المرأة(76). وهو يعتقد أن كثيراً من الحيوان يفوقنا جمالاً، ويرى أننا كنا حكماء حين اكتسينا بالثياب، وهو يدرك إن دين الإنسان وأفكاره الخلقية تقررها بيئته عادة. "إن طعم الخير أو الشر يتوقف إلى حد كبير على رأينا فيها "، وهو ما سيقوله شكسبير، و "إن الناس تعذبهم آراؤهم عن الأشياء لا الأشياء ذاتها "(77)، وقوانين الضمير لا تنبعث من الله بل من العادة. وما الضمير إلا القلق الذي نحسه حين ننتهك عرف قبيلتنا(78).
وكان لمونتيني من الفطنة ما منعه من الرأي بأن الأخلاق يصح إغفالها ما دامت نسبية. فهو على العكس منذ لك آخر من يمس ثباتها واستقرارها. وهو يتكلم بجرأة عن الجنس، ويطالب بكثير من الحرية- للرجال، ولكنك إذا دققت النظر فيه وجدته فجأة سيئاً. فهو يوصي بالعفة للشباب، وحجته أن الطاقة التي تبذل في الجنس مصدرها مستودع القوة المشترك في البدن، وهو يلاحظ أن الرياضيين الذين كانوا يتدربون للألعاب الأولمبية "أمسكوا عن جميع الأفعال الجنسية وامتنعوا عن ملامسة النساء "(79).
وكان بعض من يمد شكوكيته إلى الحضارة ذاتها، وأن يسبق في ذلك روسو وشاتوبريان. أوحى إليه الهنود الذين رآهم في روان بأن يقرأ تقارير الرحالة؛ ومن هذه الروايات كتب مقالة "عن أكلة لحوم البشر " وعنده أن أكل الموتى أقل همجية من تعذيب الأحياء. "لست أجد في هذه الأمة (أمريكا الهندية) شيئاً همجياً ولا وحشياً، إلا إذا سمي الناس ما لم يألفوه همجية "(80). وقد تخيل هؤلاء الوطنيين أصحاء لا يمرضون إلا نادراً، سعداء دائماً تقريباً، عائشين في سلام وطمأنينة دون قوانين(81) وامتدح فن الأراتكة وطرق الأنكا. وأجري على لسان هنود روان تنديداً بثراء أوربا وفقرها. "لقد أدركوا أن بيننا رجالاً اتخموا بكل أنواع السلع في حين يتضور غيرهم جوعاً، وعجبوا كيف تحمل الفقراء هذا الظلم ولم يأخذوا بتلابيب الآخرين "(82). وقارن بين أخلاق الهنود وأخلاق فاتحي بلادهم، واتهم هؤلاء إن المسيحيين المزعومين... جلبوا عدوى الرذيلة لنفوس بريئة تواقة للعلم، طيبة بطبيعتها(83) ". ونسي مونتيني لطفه لحظة فتفجر في غضبة مضرية للحق: "ما أكثر المدن العامرة التي نهبت وسويت بالتراب، وما أكثر الأمم التي دمرت أو أقفرت من أهلها. وكم من ملايين لا تحصى من الناس الأبرياء من الجنسين، ومن جميع المراكز، والأعمار، قتلوا ونهبوا وأعمل فيهم السيوف؛ وأغنى بقاع الأرض وأجملها وأفصلها قلبت ظهراً على عقب وخربت وشوهت من أجل تجارة اللؤلؤ والفلفل! إيه أيتها الانتصارات الآلية، ويا أيها الغزو الوضيع!(84) ".
أكان احترامه للدين مخلصاً؟ واضح أن تنقيبه في الكلاسيكيات قد قطعه منذ زمن طويل من تعاليم الكنيسة. لقد احتفظ بإيمان غامض بالله الذي تمثله آنا في الطبيعة، وآنا في روح الكون، ذلك العقل غير المفهوم للعالم. وهو أحياناً يحس إحساس لير في مسرحية شكسبير، "إن الآلهة تلعب بنا الكرة فتقذفنا علواً وسفلاً(85) ". ولكنه يتهكم بالألحاد لأنه "شيء غير طبيعي وبشع(86) "، ويرفض اللاأدرية باعتبارها نوعاً آخر من الجماطية، فأبى لنا أن نعرف أننا لن نعرف أبداً؟(87). وهو ينحي جانباً كل محاولات بذلت لتعريف النفس أو تفسير علاقتها بالجسد باعتبارها محاولات باطلة كلها غرور(88). وهو راغب في قبول خلود النفس بالإيمان، ولكنه لا يجد دليلاً عليه في التجربة أو العقل(89)؛ ثم أن فكرة الوجود الأبدي تروعه(90). "لولا الإيمان لما صدقت المعجزات(91) "، وهو يسبق حجة هيوم المشهورة؛ "كم أجده أكثر طبيعية واحتمالا أن يكذب رجلان، عن أن تحمل الريح رجلاً في اثنتي عشرة ساعة من الشرق إلى الغرب (92) " (ولعله كان باحثاً عن مثل آخر اليوم). وهو يسبق فولتير إذ يحكى قصة الحاج الذي حكم بأن المسيحية لا بد دين إلهي لأنها حافظت على نفسها هذا الزمن الطويل برغم فساد مديريها(93) وهو يلاحظ أنه مسيحي بمحض الصدفة الجغرافية، ولولا ذلك "لآثرت أن أكون أحد عباد الشمس(94) ". وهو لا يتكلم على المسيح غير مرة واحدة، على قدر ما يذكر أحد قرانه(95). ولم تستهو تلك القصة الجميلة، قصة أم المسيح، روحه غير العاطفية إلا بمقدار، ومع ذلك نراه يعبر إيطاليا ليضع أربعة تماثيل نذرية أمام مزارها في لوريتو. وكان يفتقر إلى ملامح الروح الدينية- وهي التواضع، والاحساس بالذنب وتبكيت الضمير والتكفير، والشوق إلى الغفران الإلهي والنعمة الفادية. لقد كان رجلاً حر الفكر، فيه حساسية ضد الاستشهاد.
على أنه ظل كاثوليكياً بعد أن كف طويلاً عن أن يكون مسيحياً(96). وكما كان أي مسيحي فطن من المسيحيون الأوائل ينحني لأحد الأوثان انحناءة عابرة، كذلك فإن مونتيني، أكثر المسيحيين وثنية، يتحول بين الحين والحين عن إثرائه اليونان والرومان ليقدم الاحترام لصليب المسيح أو حتى ليلثم قدم أحد البابوات. فهو لم ينتقل كما انتقل باسكال من الشك إلى الإيمان، بل من الشك إلى الطاعة. ولم يكن هذا بدافع الحذر فحسب، فلعله أدرك أن فلسفته التي شلت حركتها تررداته وتناقضاته وتشككه قد تصلح ترفاً لعقول هيئت من قبل للحضارة (بالدين؟)، وان فرنسا، حتى وإن أغرقت عقائدها في الدم، إلا أنها لن ترضى بديلاً عنها متاهة فكرية ليس فيها شيء يقيني غير الموت. ورأى أن الفلسفة الحكيمة تصالح الدين: "إن اصحاب العقول البسيطة، الأقل فضولاً، والأقل حظاً من التعليم، يجعلون مسيحيين طيبين، وهم بالتبجيل والطاعة يحتفظون بإيمانهم البسيط ويلتزمون بالقوانين. والعقول متوسطة القوة والكفاية هي التي يتولد فيها خطأ الآراء... أما خير العقول وأكثرها استقراراً وأصفاها نظراً فتخلق نوعاً آخر من خيار المؤمنين، الذين ينفذون بالبحث الطويل والتمحيص الديني إلى معنى أعمق وأعوص في الأسفار المقدسة ويكتشفون الأسرار الخفية الإلهية للنظام الكنسي... أن الفلاحين البسطاء قوم أمناء، وكذلك الفلاسفة(97).
وهكذا، بعد كل لذعاته للمسيحية، ولأن جميع الأديان على السواء إنما هي أستار تغطي جهلنا المرتعد، ينصحنا بأن نقبل دين زماننا ومكاننا. أما هو، ففي وفائه لجغرافيته، عاد إلى شعائر أبائه، فأحب الدين الطقسي العطر الحسي، لذلك فضل الكاثوليكية على البروتستنتية. ونفره من الكلفنية إصرارها على الجبرية(98)، وإذا كان إرزمي الأرومة فقد مال إلى كرادلة روما العالميين اللطفاء دون لويولا جنيف (كالفن) أو أسد فنبرج (لوثر). وأشد ما أسف له أن العقائد الجديدة كانت تقلد القديمة في تعصبها. ومع أنه سخر من المهرطقين لأنهم حمقى يثيرون ضجة حول ميثولوجيات متنافسة، إلا أنه لم يرى معنى لحرق هؤلاء الخوارج. "على أي حال إنه تقدير عال لآرائنا أن نشوي الناس أحياء بسببها(99) " أو أن نسمح للناس بأن يشوونا.
كذلك نراه في ميدان السياسة يختتم مسيرته محافظاً مطمئناً إذ لا جدوى من تغيير أشكال الحكومة؛ فستكون الحكومة الجديدة سيئة كالقديمة لأنها ستدار بأيدي البشر. فالمجتمع "إطار شاسع جداً "، وجهاز شديد التعقيد من الغريزة والعرف والأسطورة والقانون، يتشكل في بطئ بحكمة الزمن الحاصلة من التجربة والخطأ، بحيث يستحيل على أي عقل مفرد مهما أوتي من قوة وذكاء أن يفصصه ثم يعيد تركيبه دون فوضى وعذاب لا حصر لهما(100). وخير للناس أن يخضعوا لحكامهم الحاليين مع ما فيهم من سوء، إلا إذا حاولوا أن يغلوا الفكر ذاته، عندها قد يستجمع مونتيني شجاعته وينصح بالثورة، لأن "عقلي لم يشكل لينحني أو يذل، أما ركبتاي فنعم(101) "، والعاقل من ابتعد عن المنصب وإن احترمه، "أن أعظم وظيفة هي إنقاذ الدولة ونفع الكثيرين "، "أما أنا فمنصرف عنها(102) "، ومع ذلك فقد خدم الدولة في فترتي منصبه.
وقد أحزنه أنه عاش نصف حياته خلال تدمير فرنسا(103)، "في جيل شديد الفساد وزمان مغرق في الجهل " "اقرأ كل القصص القديمة، ما لم تكن من الفواجع، فلن تجد ما يعدل تلك التي نراها تمارس كل يوم(104) ". إنه لم يتخذ موقف الحياد في الصراع الدائر حول فرنسا، ولكن "ميلي لم ينسى لا صفات خصومنا المحمودة، ولا الصفات المعيبة التي وصمت من أؤيدهم(105) ". وهو يأبى أن يحمل بندقية، ولكن يجرد قلمه لمناصرة جماعة "السياسيين "، هؤلاء الكاثوليك المؤثرين للسلام والذين نادوا بقدر من التوفيق مع الهيجونوت. وقد امتدح ميشيل دلوبيتال لاعتداله الإنساني البعيد النظر، واغتبط حين تقدم صديقه هنري نافار إلى النصر على مبادئ لوبيتال. لقد كان مونتيني أعظم الفرنسيين تحضراً في ذلك العصر الهمجي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الحجر الدوار
لقد ضايقه حصى المثانة أكثر من حروب فرنسا. ففي يونيو 1580، عقب نشر أول طبعة من "مقالاته "، خرج في رحلة طويلة في أوربا الغربية، من جهة ليرى الدنيا، ومن جهة ليزور ينابيع المياه الطيبة أملاً في تلطيف "المغص " (كما سماه) الذي كان يعطله بالألم المرة بعد المرة. وترك زوجته لتعنى بشؤون الضيعة، ولكنه اصطحب معه أخاً أصغر، وزوج أخت يسمى البارون استيساك وسكرتيراً أملاه شطراً من يوميته في الرحلة، فإذا أضفنا بطانة من الخدم وسائقي البغال، لم نعد نعجب لفقر هذه المذكرات الفكري. لقد قصد بها الذكرى أكثر مما قصد بها النشر، فأخفاها مونتيني في صندوق بعد رجوعه، حيث اكتشفت بعد أن انقضى على موته 178 عاما.
وقصدت الجماعة أولاً باريس، حيث قدم المؤلف الفخور نسخة من مقالاته لهنري الثالث، ثم انطلقت على مراحل مريحة إلى بلومبيير حيث أخذ مونتيني نفسه يشرب نصف جالون من المياه الطيبة كل يوم طوال تسعة أيام، وأفلح في التخلص من بعض الحصى الصغير بألم شديد(106). ثم اتخذ سمته إلى سويسرة بطريق اللورين. جاء في يوميته التي تحكي ذكرياته عن شخص غائب "لقد وجد لذة لا تعد لها لذة في مشاهدة حرية هذه الأمة وحكومتها الصالحة(107) ". ثم استشفى بمياه بادن- بادن وواصل رحلته في ألمانيا. وحضر الخدمات الدينية عند الكلفنيين واللوثريين كما حضرها عند الكاثوليك، وناقش اللاهوت مع رجال الدين البروتستنت. وهو يروي حديث قسيس لوثري أقسم أنه يؤثر أن يستمع إلى ألف قداس عن أن يشارك في تناول القربان على مذهب كالفن(108)- لأن الكلفنيين أنكروا الوجود الجسدي للمسيح في سر القربان. وفي التيرول شعر بجلال الألب قبل روسو بزمن طويل. ومن إنزبورك صعدت الجماعة إلى ممر بريتر، وتخلص مونتيني في الطريق من "حصاة متوسطة الحجم "، ثم من ترنت إلى فيرونا وفنشنزا وبادوا والبندقية، حيث أضاف إلى القناة العظمى "حصاتين كبيرتين ". ورأى أن المدينة ليست بالروعة التي توقعها ولا مومساتها بالجمال الذي انتظره. ومضى إلى فيرارا، حيث زار تاسو المختلط العقل (كما ذكرت المقالات لا اليومية)، ثم إلى بولونيا وفلورنسة حيث تلقى نهر ارنو "حصاتين وكمية من الرمل(109) "، ومن سبينا إلى روما حيث "أنزل حصاة كبيرة كبزرة الصنوبر(110( " ولعل هذه الإضافات المفرزة التي سجل أخبارها كانت في مجموعها تبني هرماً لا بأس بحجمه.
وفي روما زار مجمعاً يهودياً، وشهد ختاناً، وناقش مع معلمي الناموس شعائر دينهم. وتبادل الفلسفات مع محظيات روما. ولم يكن (كما خيل لستندال) عديم الإحساس بالفن في روما(111). فقد راح يطوف اليوم تلو اليوم بين الآثار القديمة وعجبه لا ينتهي من بهائها. ولكن الحدث الكبير كان زيارته لجريجوري الثالث عشر. وكأي ابن للكنيسة ركع مونتيني ليلثم حذاء البابا، فتعطف البابا برفع حذائه تيسيراً للمهمة(112). ووجد موظفو الجمرك خلال ذلك نسخة من "المقالات" سلموها لمحكمة التفتيش، ودعي مونتيني إلى الهيئة المقدسة ونبه في رفق إلى أن فقرات في مقالاته تشم منها رائحة الهرطقة، أفلا يرى تغييرها أو حذفها في الطبعات المقبلة؟ فوعد "خيل إليّ أنني تركتهم راضين فيها كل الرضا، وهذا حق، بل لقد دعوه للحضور إلى روما والعيش فيها (ولكنه لم يبال بالوفاء بوعده، وفي عام 1676 أدرج كتابه في قائمة الكتب المحظورة من الكنيسة). ثم سافر عبر إيطاليا قاصداً مزار العذراء في لوريتو وأهداها لوحة نذرية، ربما ليطمئنهم ويطمئن نفسه. ثم عاد إلى عبور الابنين للاستشفاء بمياه لوكا.
وهناك (في 7 سبتمبر 1581) تلقى رسالة تقول أنه اختير عمدة على بوردو. فطلب إعفاءه، ولكن هنري الثالث أمره أن يقبل، ولم يستطع أن يتجاهل تقليد خدمة الدولة الذي خلفه له أبوه. على أنه لم يتعجل العودة إلى فرنسا، فلم ير قصره الريفي إلا في 30 نوفمبر، بعد سبعة عشرة شهراً من بدء جولته. وكانت واجبات العمدة خفيفة، ومكافأته التشريف دون الأجر. وقد أدى واجبات وظيفته على وجه مرضي، لأن انتخابه أعيد (أغسطس 1583) عامين آخرين. وفي ديسمبر 1584 زاره هنري نافار ومعه خليلة وأربعون تابعاً، ونام ملك فرنسا المقبل في فراش الفيلسوف. وقرب ختام فترة عمديته الثانية تفشى الطاعون في بوردو، فغادر مونتيني المدينة إلى الريف كما غادرها كل موظفي الدولة تقريباً. وفي 30 يوليو 1585 حول شارات منصبه لخلفه واعتزل في بيته.
لم يكن قد جاوز الثانية والخمسين، ولكن الحصى كان يعجزه في فترات دورية، وأحياناً يحصر بوله أياماً(113). وفي أوائل عام 1588 بقي فيه من القوة ما يكفي للقيام برحلة ثالثة إلى باريس. وهناك قبض عليه بأمر من الحلف الذي كان آنئذ يسيطر على العاصمة لاتهامه بالولاء لهنري الثالث، وأودع الباستيل (10 يوليو 1588)، ثم أفرج عنه في الليلة ذاتها بشفاعة كاترين دي مديتشي. وفي اكتوبر حضر اجتماع مجلس الطبقات في بلوا ولكنه عاد إلى بوردو في الوقت المناسب للنجاة من التورط في تقلبات هنري الثالث عقب اغتيال الدوق جيز.
وفي آخر مقالاته وأروعها "في الغجرية " أورد وصفاً لانحلال جسده. فأسنانه مثلاً وصلت فيما يبدو إلى "النهاية الطبيعية لبقائها(114) ". وهو يحتمل "انطلاقه " دون مرارة، فلقد عاش حياته كما رسمها، واستطاع أن يكتب في فخر: "راجع العالم القديم كله، مجد ومشقة في اختيار اثني عشر رجلاً وجهوا حياتهم في مجرى واحد... مستقر، أكيد، وهو أجمل توجيهات الملكة(115) ". فلما أنبيء بقرب منيته، جمع أهل بيته وورثته من حوله، وأعطاهم بشخصه المبالغ أو الأشياء التي أوصى لهم بها في وصيته. ثم تناول أسرار الكنيسة في تقوى رجل لم يكتب قط كلمة شك أو ارتياب. ومات في 13 سبتمبر 1592 بالغاً من العمر تسعة وخمسين عاماً.
وانتشر تأثيره طوال قرون ثلاثة وعمّ قارات أربعاً. وقد قبل ريشليو في ابتهاج إهداء الآنسة جورنيه إياه طبعة "المقالات " الأخيرة. وفي تاريخ مبكر (1603)، نسقها صديقه وتلميذه شارون في فلسفة شكلية منتظمة وجعلها فلوريو من عيون الأدب الانجليزي (1603)، ولكنه غشى بساطة المؤلف وإيجازه بالاطناب المفرط في التفقه. ولعل شكسبير رأى تلك الترجمة فأعانته على تشكيل شكوكية مآسيه الكبرى وصوغ عباراتها، وقد شعر بيكون بذلك التأثير، ولعل ديكارت وجد في "المقالات " الحافز لشكه العام الأول. أما بسكال فقد أشرف على الجنون وهو يحاول انقاذ ايمانه من تشكيكات مونتيني. ومن مونتيني انبثق بيل. وفوفنارج، وروسو، وديدرو، وفولتير- أما روسو فمن اعترافات مونتيني ومقالاته "في التعليم " و "في أكلة لحوم البشر "، وأما فولتير فمن باقي أعماله كلها.
لقد كان مونتيني جدّ حركة التنوير كما كان بيل أباها. وقالت مدام دو ديفان، أقل نساء جيلها اللامع أوهاماً. أن يودّها أن "تلقي في النار جميع مؤلفات الفلاسفة الضخمة إلا مونتيني، الذي هو أبوهم كلهم(117) ". وبفضل مونتيني دخل تحليل العقل والخلق النفسي إلى الأدب الفرنسي، من كورني وموليير، ولارشفوكو ولابرويير، إلى أناطول فرانس. أما ثورو فقد نهل الكثير من هذا المورد، كذلك استحم فيه إمرسون قبل أن يكتب "مقالاته ". ويمكن أن نقول في مونتيني مالا يصدق إلا على قلة من المؤلفين قبل القرن الثامن عشر، وهو أنه مقروء اليوم كأنه كتب بالأمس.
وتبين العالم عيوبه واغتفرها له منذ زمن طويل. وقد اعترف بالكثير جداً منها حتى لقد استنفد أسلحة نقاده. كان عليماً بأنه ثرثار مغرور. وقد يصيبنا الإعياء حيناً بعد حين من شواهده الكلاسيكية، وتقع لحظة في ذلك الحكم الظالم الذي أصدره مالبرانش على "المقالات " إذ زعم أنها "ليست إلا نسيجاً من النوادر التاريخية، والقصص الصغيرة، والكلمات الطريفة، والأشعار، والأقوال المأثورة.... التي لا تدل على شيء(118). وما من شك في أن مونتيني يخلط بضاعته في فوضى وكل خلطا يقلل من تأثيرها ومغزاها. وهو يناقض نفسه في مائة موضوع، فهو لابد إذن مصيب، لأنه يقول كل شيء ونقيضه. وفي الشكوكية الشاملة شيء يبتلي المرء بالشلل. فهي تحفظنا من قتل الناس باللاهوت، ولكنها تثبطنا بما تسبقنا إليه من حجة وتستنزف جلدنا. ونحن نتأثر بمحاولة بسكال البائسة أن ينقذ إيمانه من مونتيني، تأثراً أعمق من تأثرنا برغبة مونتيني في ألا يكون له إيمان على الإطلاق.
بيد أننا لا نستطيع أن نضع قلوبنا في نقد كهذا، فهو لا يقطع إلا مؤقتاً تلك البهجة التي نجدها في الثقافة الضاحكة، والفكر المرح المنبعث من هذا الثرثار الذي لا يمكن إسكاته وفي تفكيره السريع. فأين نجد مرة أخرى مثل هذا الموكب المفعم بالحياة، مركب الحكمة والفكاهة؟ إن بين هاتين الصفتين شبهاً دقيقاً، فكلتاهما منبثقة من رؤية الأشياء في أوضاعها الصحيحة، وهما في مونتيني تصنعان رجلاً واحداً. أما ثرثرته فتعوضها طرافته ووضوحه؛ وليس هنا عبارات ناصلة اللون، ولا سخف طنان رنان. ثم إننا ملكنا اللغة التي يستعملها أصحابها لاخفاء الفكر أو إخفاء انعدامه، بحيث نستطيع أن نغتفر الأنانية في هذه الكشوف عن النفس. ويدهشنا من هذا المحدث اللطيف معرفته الحميمة بقلوبنا، ويسري عنا أن نجد حكيما مثله يشاطرنا أخطاءنا، ثم يغتفرها لنا في غير تردد. ومن بواعث العزاء أن نرى أنه هو أيضاً يتردد ولا يعلم علم اليقين، ويبهجنا أن يقال لنا أن جهلنا - إذا أدركناه- يصبح فلسفة. ثم ياله من تفريج أن نصادف، بعد مذبحة القديس برتلميو، رجلاً لم تبلغ به الثقة بالعقيدة حداً يكفي لحمله على القتل!
وأخيراً، وبرغم هجومه على العقل، ندرك أن مونتيني يبدأ في فرنسا عصر العقل كما بدأه بيكون في إنجلترا. إن مونتيني، ناقد العقل، لم يكن شيئاً إن لم يكن هو العقل ذاته. وبرغم كل إنحناءاته للكنيسة، فإن هذا اللاعقلاني كان عقلانياً. ولم يرتض الطاعة إلا بعد أن بذر بذور العقل في فكر فرنسا. وإذا كان قد حاول كبيكون أن يفعل هذا دون أن يقلق إيمان الفقراء المعزى، فيجب ألا تأخذ حيطته أو ترفقه حجة عليه. إنه لم يخلق ليحرق. فلقد علم أنه هو أيضاً قد يكون مخطئاً، ولقد كان رسول الاعتدال كما كان رسول العقل، وكان فيه من النبل الكثير ما منعه من أن يشعل النار في بيت جاره قبل أن يوفر له ملجأ آخر. لقد كان أعمق من فولتير، لأنه تعاطف مع ما هدم.
وفي تقدير جيبون أنه "في أيام التعصب تلك لم يكن سوى رجلين متحررين (يدينان بأفكار حرة سمحة) في فرنسا: هنري الرابع ومونتيني(119) ". أما سانت- بوف، فبعد أن نظر إلى مونتيني نظرة غير متعاطفة خلال عيني بسكال(120)، ختم حديثه بأن حكم، في نوبة نادرة من الحماسة، بأنه أحسن من عاش من الفرنسيين قاطبة(121).
خالدون يوماً واحداً
بعد مونتيني اعتمد الأدب الفرنسي على مجذافيه جيلاً بأكمله. لقد أفلح تقريباً في النجاة من الحروب الدينية، فأخفى نفسه في نفسه حتى جاوزته الحروب. ولكن في غير مونتيني ابتلى الأدب في فرنسا بالحمى الحربية اللاهوتية، وبين مونتيني وكورني تخلفت فرنسا عن إنجلترا وإسبانيا في الأدب، تماماً كما تخلفت إنجلترا عن فرنسا بعد الحرب الأهلية. وعبرت سماء الأدب سلسلة من الشهب الغازية التي لم تخلف وراءها نجوماً ثابتة. وقد حاول ريشليو أن يغذو النبوغ بالرواتب، ولكنه عطله بالرقابة وأغراه بمديحه. فلما مات ألغى لويس الثالث عشر هذه الرواتب بجرة قلم، »لن يزعجنا هذا الأمر بعد اليوم«، وكان أكثر حفزاً للأدب تلك السهرات الأدبية في الأوتيل درامبوييه، وإنشاء ريشليو للأكاديمية الفرنسية.
بدأت الأكاديمية باجتماعات للأدباء المؤلفين في بيت خاص- هو بيت فالنتان كونرارا، وكان سكرتيراً للملك 01627)، وعرض ريشليو، وهو اليقظ للأدب يقظته للحرب، الغيور من أكاديميات إيطاليا وأدب اسبانيا، أن يؤسس الجماعة بوصفها هيئة عامة تعترف بها الدولة وعرض بعض الأعضاء الخطة باعتبارها رشوة للسنية، ولكن الشاعر شابلان (الذي كان يتمتع بمعاش من الكردينال) ذكرهم بأن »عليهم أن يتعاملوا مع رجل يمضي فيما يريد دون تردد(122)«. وانتصرت حيطة شابلان، وقررت الجماعة بالاجماع أن »تستجيب لمسرة نيافته«، وانشئت (1635) باسم »الأكاديمية الفرنسية« وقد أعلنت قوانينها ما يأتي:
»يبدو أنه لم يبقى لاكتمال سعادة المملكة إلا أن تحذف هذه اللغة التي تتكلمها من قائمة اللغات الهمجية... حتى يتسنى لها، وهي اليوم أكمل من أي لغة حية، أن تخلف أخيراً اللاتينية كما خلفت اللاتينية اليونانية لو أتيح لها من العناية أكثر مما تلقى إلى اليوم؛ وإن وظيفة أعضاء الأكاديمية ينبغي أن تكون تنقية اللغة من الشوائب التي شابتها سواء في أفواه الناس أو في حشود المحاكم... أو بفعل عادات رجال الحاشية الجهلة«(123).
وعهد إلى أحد الأعضاء الثلاثين الأول، ويدعى كلود فوجلا، بتصنيف قاموس، وكان لابد أن ينقضي ستة وخمسون عاماً قبل أن ينشر لأول مرة (1694). ورفعت الأكاديمية أثناء ذلك مكانة الأدباء بشكل ملحوظ، فأصبح انتماء إنسان إلى »الخالدين« الأربعين (عددهم عام 1637) شرفاً يضارع شرف المناصب الحكومية العليا؛ ولم تكرم أمة الأدب كما كرمته فرنسا. صحيح أن الأكاديمية، واكثر أعضائها شيوخ، كثيراً ما كانت كابحاً محافظاً يعطل التطورات الأدبية أو النمو الدنيوي. وكانت بين الحين والحين توصد أبوابها في وجه العبقرية (موليير وروسو)؛ ولكنها رفعت رأسها فوق الأحزاب، وعلمت أعضائها أن يتسامحوا بأدب مع مختلف الأفكار؛ وقد كافأتها فرنسا باستقرار ثبت لصدمات التغير في الوقت الذي تهاوي فيه الكثير.
بعد أن جمع ريشليو الشعراء والأدباء وسيج من حولهم، نظر بعينه اليقظة إلى الصحفيين. ففي مايو 1631 بدأ تيوفراست رينودو، بمعونة من الكردينال، نشر أول صحيفة فرنسية سميت فيما بعد »غازيتة فرنسا«. وكانت تظهر أسبوعياً في هيئة فرخ يطوي ثماني صفحات، وتنشر من الأنباء الرسمية ما يسمح به ريشليو أو يمدها به، وأضافت بعض صفحات من »الأخبار العادية«. وكان لويس الثالث عشر من كتابها المألوفين. ورد فيها على ناقدي الحكومة ودافع عن نفيه أمه، وكان أحياناً يأخذ الفقرات التي يكتبها بشخصه ليشرف على صف حروفها، ولا عجب فالمرء -حتى إذا كان ملكاً-يستهويه أن يجد كلامه مطبوعاً. وكانت الصحافة الفرنسية منذ بدايتها أداة دعاية- وفي هذه الحالة وسيلة لشرح سياسات الدولة للقلة القارئة. وسرعان ما فقد الناس ثقتهم في الغازيتة وفضلوا أن يشتروا الورقات البذيئة التي يبيعها في الطرق أجراء أعداء الكردينال.
أما أروج نتاج العصر الأدبي فقصة رومانسية. كانت روايات الفروسية آخذة في الزوال، لا لمجرد تهكم سرفانتس وغيره من الكتاب عليها، بل لأن الاقطاع الذي خضع الآن للملكية، كان يفقد المزيد من امتيازاته ومكانته. وحل محل قصص الفروسية أيام ازدهارها روايات رومانسية أليمة عن الرغبة المعوقة. وهكذا قرأ كل من ألم بالقراءة وملك الفراغ في عهد لويس الثالث عشر رواية »آستريه« (1610-19) التي ألفها أونوريه دورفيه. أما عبقرية المؤلف فانبعثت من جرح أصاب حبه. ذلك ان زوجته، التي سميت ديانا بحق، آثرت عشرة الصيد على عشرة الزواج، فكانت تؤكل كلابها على مائدتها وتشاركها فراشها. وكانت تجهض كل سنة(124). وأعتكف أونوريه في ضيعته وأخفى سيرته الحزينة وراء رواية رومانسية رعوية. وقد وجد دواء الكلام هذا ناجعاً، فزاد روايته إلى 5.500 صفحة في خمسة مجلدات صدرت على فترات من 1610 إلى 1627. وفي قصة غرام الراعي كيلادون بالراعية آستريه نسمع صدى لا نهاية له لقصة مونتماريو »ديانا العاشقة« وقصتي سانازارو وسدني »أركاديا«، ولكن الصدى كان هنا شجياً، وكان للرعاة والراعيات كل جمال البلاط الفرنسي وزينته، وحققت اللغة كل مطالب ندوة الأوتيل درامبوبيه، ونافست تجارب العشق المتنوعة تجارب هنري الرابع، وأبهجت عبادة المرأة ربات الصالون اللائي جعلن الكتاب دستور سلوك الحب الأفلاطوني. هنا ذلك الينبوع الفوار الذي جرت منه الرومانسيات العاطفية التي كتبتها الآنسة سكودري، والأبيه بريفوست (انطوان بريفوست دجسيل)، وصموئيل رتشاردسون، وجان جاك روسو-الذي صرح بأنه كان يقرأ الكتاب مرة كل عام طوال أكثر حياته. وظل سادة القصور الفرنسية والألمانية والبولندية وسيداتها، قرابة قرن من الزمان، يتخذون أسماء »لاستريه« ويلعبون أدوارها، وكرس نصف النثر المكتوب في فرنسا نفسه للرومانس.
أما النصف الآخر فاشتمل على بعض النثر الجدير بالذكر. فكانت »رسائل« جان لوي جي دبالزاك (1614 وما بعدها) في حقيقتها مقالات، قصد بها أن تعجب »المتحذلقات«، وشاركت فوجيلا وماليرب في تنقية اللغة، وساعدت على إعطاء النثر الفرنسي شكل العصر الكلاسيكي ومنطقه... أما بيير دبوردبي دبرانتوم، الذي عاش حياة مرحة في الجيش والبلاط، فقد ترك عند موته (1614) حزمة من المذكرات تفصل في ذوق غراميات النساء الفرنسيات، وفضائل كاترين مديتشي، وجمال ماري ستيورات، وظرف مارجريت فالوا، ومن المؤسف أن أروع قصصه لا يمكن التحقق من صحة نسبتها إليه. وكان يرى »أنه لا يحسن بالمرء أن يشيخ وهو في ذات الجحر، وما من إنسان شجاع فعل هذا قط، وعلى المرء أن يغامر بجرأة في جميع النواحي، في الحب كما في الحرب«. وفي لحظة أكثر حكمة اعترف بأن »أعظم ما ينعم الله به علينا في زواجنا هو الذرية الصالحة لا التسري«... وأما جاك أوجست دتو، القاضي ومستشار الدولة أيام صديقه هنري الرابع فقد ساعد في صياغة مرسوم نانت والمفاوضة على إصداره، وكرس نصف حياته لكتابة »تاريخ عصره« (1604-8)، وهو كتاب يتميز بعمق الدرس، وبالحياد والشجاعة في دمغ مذبحة القديس برتلميو لأنها »تفجر للجنون لا نظير له في تاريخ أي أمة«... وألف الدوق صلى، في شيخوخته وبمساعدة سكرتيره، كتابه المشهور »مذكرات عن الاقتصاديات الداخلية والسياسية والحربية، الحكيمة، الملكية، لهنري الأكبر، الذي أهداه »إلى فرنسا«، وإلى جميع الجنود الطيبين، وإلى جميع الشعب الفرنسي«. وفي آخر سني لويس الثالث عشر بدأت جماعة من اليسوعيين الفلمنكيين يتزعمهم جان دبولان نشر كتاب »اكتا سانكتورم« (أعمال القديسين) الذي أورد في نقد حذر سير القديسين حسب الترتيب الذي تخلهم به الكنيسة الكاثوليكية. وتابعت الجماعة هذا الجهد في حماسة على الرغم مما اعترى جمعية اليسوعيين من غير، حتى بلغت مجلدات الكتاب خمسة وستين عام 1910. وأحتج عليه بعض مروجي الأساطير، ولكن الكتاب مفخرة لعلم أعظم الطوائف الدينية تفقها. وأخيراً يجب أن ندرج في هذه القائمة للمرة الثانية ذلك الرجل المدهش كلي الوجود، ريشيلو، الذي غمس قلمه في كل ينبوع أدبي وترك لنا »مذكراته« - وفيها شيء من التحيز للكردينال، ولكن مكانها رفيع في ذلك الرتل الرائع من المذكرات الفرنسية التي لا ضريب لها في أي لغة اخرى.
ولم يكثر صغار الشعراء مثل هذه الكثرة من قبل. فما زال الفرنسيون الأوفياء يقرءون، ولو في المدارس، تيوفيل دفيو، وفنسان فواتور، و أونورا دبويل، مركيز راكان. وقد جعلت غراميات تيوفيل الإباحية وشكوكه الفاضحة منه »فيون« عصره، وقد حكم عليه بالحرق ثم خفف الحكم إلى النفي. أما ذكاء فواتور المرح فقد جعله أكبر ظرفاء الأوتيل درامبوييه (وقد أوشكنا أن نقول أكبر ساخريه). وحين وعظ بوسويه وهو بعد في الثانية عشرة من عمره ذلك الصالون في منتصف الليل، قال فواتور أنه لم يسمع في حياته عظة تلقى مبكرة متأخرة كهذه.
وشرف هذه العهود الملكية شاعران كبيران. أما فرانسوا ماليرب فقد شرح المبدأ القائل بأن واجب كل عصر أن يرفض الماضي ويعكسه لكي يستمتع بنفسه. وكان رونزار العظيم لا يزال يغني في شباب ماليرب، وكان هو وجماعة البليارد قد هذبوا الشعر الفرنسي بتوجيهه صوب المثل والموضوعات الكلاسيكية، ولكن خلفاءهما كانوا الآن يهدهدون فرنسا وخليلاتهم بسونيتات حافلة بالألفاظ الأثرية، والعبارات الخيالية، والشحطات الإيطالية، والتقديمات والتأخيرات السقيمة، والتلميحات الغامضة، والأساطير العويصة. واستقر رأي ماليرب على أن الشعر الفرنسي قد أتخم بهذا كله.
وقد درس هذا الشاعر، الذي ولد في كان (1555)، في بازل وهايدلبرج، وأنفق سنوات في الأسفار، وكان قد بلغ الخمسين حين وصل إلى البلاط الفرنسي. وقد شق طريقه اليه برغم وقاحاته وكفرياته، وأصبح الشاعر الأثير لدى هنري الاكبر، ولكن هذا على أي حال اعطاه »من التحيات أكثر مما أعطاه من المال(125)«. وعاش يبيع شعره لمن يدفع أغلى الاثمان، وروج لبضاعته بالإطاحة بمن سبقوه. فقد أعلن الحرب - كما أعلنتها متحذلقات صالون رامبوييه - على الألفاظ التي تشتم منها الحلافة الريفية أو عمليات البدن الأقل شاعرية، فحرم التقديمات والتأخيرات، والألفاظ الغامضة، والتعبيرات العامية، والكلمات الريفية والغسقونية (شق على هذا الملك) والحشو، وتنافر النغمات، واللحن، والدخيل واللاتيني والفني من الالفاظ، والجواز الشعري، والقوافي الناقصة. وقال إنه يجب أن يكون منذ الآن جلال في الافكار، وبساطة ووضوح في التعبير، وتوافق في الايقاع، واتساق في الاستعارات، وترتيب في العرض، ومنطق في العبارة، والكتابة الجيدة يجب تنشر عبيرها وأن ترتاح لها الأذن، والتقاء الحرفين الصوتيين جريمة سمعية، ومرض تنفسي. وكان ماليرب يجرب أشعاره على آذان خادمه(126).
فلنستنشق عبير إحدى قصائده - وهي »تعزية«، وجهها لصديق فجع بموت ابنته:
»ولكنها كانت ربيبة هذه الدنيا، حيث تنتهي أجمل الاشياء أتعس نهاية. وردة عاشت كما تعيش الورود، إشراقة صبح ... إن للموت أحكاماً لا شبيه لها، وعبثاً نتوسل إليه، فهذا القاسي يصم أذنيه ويتركنا نصرخ. يخضع لناموسنا الفقير في كوخه الحقير، ولا يقف الحارس الساهر على أبواب اللوفر سداً بينه وبين ملوكنا(127)«.
على أن تطبيق ماليرب كان أقل فاعلية من مبادئه؛ وعانت أشعاره برودة الصقيع من قواعده ولم يرجى دبالزاك في شعر ماليرب إلا نثرا جيداً، وكان يحاول في ذلك الوقت إصلاح النثر. ولكن الأوتيل دارمبوييه احتضنه، واعتنقت الأكاديمية مبادئه. وورثها بوالو أساساً للأسلوب الكلاسيكي، وقد أصبحت مدى قرنين قميصاً مقدساً صارماً من شعر وزرد يلبسه شعراء فرنسا الغنائيون. وانتفخ ماليرب في شيخوخته حتى أصبح إماماً حقيقياً للشعر، وحجة يستفتى في مسائل اللغة والاسلوب؛ وحياه بعض المعجبين بوصفه »أبلغ إنسان في جميع العصور«. وقد وافق على أن »ما يكتبه ماليرب سيخلد إلى الابد(128)«. وحين كان على فراش الموت (1628) أيقظ نفسه من غيبوبته الاخيرة ليوبخ ممرضته على استعمالها فرنسية غير سليمة(129).
أما ماتوران رينييه فقد رأى فيه شاعراً مملاً، وتجاهل قواعده، وأطلق الشعر كما أطلقه فيون بخارا مندفعاً من حر المواخير. هذا الرجل الذي نذر للقسوسية ضيع نفسه في فينوسبرج حتى شاخ، وشاب قرناه وهو بعد في شرخ شبابه. ففي الحادية والثلاثين عجزه النقرس والزهري. وكان لا يزال يجد »كل امرأة تروقني«، ولكنهن كن أكثر منه تأنقاً في الاختيار. وقد كتب بعضاً من أقوى الشعر في اللغة، فيه حديث مستهتر عن الجنس، وهجو وحشي، ومباراة مع هوراس في الشكل ومع دوفينال في المرارة، وحركة تزخر بالأشخاص أو الأماكن بما يحس أو يرى. وقد هزأ بصفائية »المتحذلقات« اللغوية وصرامة ماليرب الكلاسيكية، وبدا له أن الحرارة المشبوبة من شعلة باطنة أهم للشعر من التمسك بأصول النحو والبلاغة والعروض. هنا في فجر العصر الكلاسيكي نشطت الرومانسية. حتى العلم والفلسفة نالا منه ما يستحقان من قصاص وتوبيخ على تبجحاتهما:
»أيها الفلاسفة الحالمون، تكلموا في استعلاء، وحلقوا في النجوم وأنتم لا تتحركون من الارض، واجعلوا السماوات كلها ترقص على لحنكم، وزنوا أحاديثكم في ميزانها ... واحملوا مصباحاً في زوايا الطبيعة ...واعرفوا من يعطي الزهور هذا اللون البديع ... وحلوا ألغاز الأرض والسماء، إن عقلكم يخدعكم كما تخدعكم عيونكم(130)«.
وفي عام 1609 أصبح شاعر البلاط لهنري الرابع. وبعد أربع سنوات مات وقد أضناه فسقه المشجي، بعد أن كتب قبريته. »لقد عشت دون ما تفكير، تاركاً نفسي أسير في رفق ووفق قانون الطبيعة الطيب، ولا أدري لم يفكر الموت فيّ، وأنا الذي لم أتنازل إلى التفكير فيه(131)«.
بيير كورنبي 1606 - 1684
كان بيير كورنبي نجم الادب في سماء ريشيلو، ففي صحبته أصبحت التمثيلية الفرنسية أدباً، وأصبح الأدب الفرنسي قرناً من الزمان تمثيلية في أكثره.
وقد مهدت له الطريق تجارب كثيرة. ففي عام 1552 أخرج إتيين جوديل أول مأساة فرنسية. وتلتها تمثيليات مشابهة تقلد سنيكا، وتقوم كلها على طريقته في قصص العنف، والدراسات النفسية، وتدفقات البلاغة، وقد جردت من الجورس الكلاسيكي ولكنها حشرت في وحدات أرسطو المزعومة، وحدة الحركة المعروضة على أنها تحدث في مكان واحد وزمان يوم واحد. ولكن ارسطو (كما رأينا في غضون نقاشنا للتمثيلية الأليزابيثية) كان قد اشترط وحدة الحركة أو الحبكة، ولم يطلب وحدة المكان، ولم يصر على وحدة الزمان. غير إن كتاب العالم جوليوس سيزار سكاليجر Poetices librispetem »الكتب الشعرية السبعة« (1561) طالب جميع الكتاب المسرحيين باتباع القوالب اليونانية واللاتينية، وكرر جان شابلان هذا الطلب عام 1630. هذه الحجج التي تهاوت في إنجلترا أما عبقرية رجل علمه باللاتينية قليل وباليونانية أقل، انتصرت انتصاراً كاملاً في فرنسا وريثة اللغة والثقافة اللاتينيتين، وبعد عام 1640 سيطر القالب السنيكي ذو الوحدات الثلاث على مسرح المأساة الفرنسية خلال كورنبي وراسين، وخلال فولتير والقرن الثامن عشر، وخلال الثورة، والإمبراطورية، وعودة الملكية، إلى أن كسبت الدراما الرومانتيكية في مسرحية هيجو»ايرناني« (1839) نصرها التاريخي المتأخر.
لم يكن للمسرحية الفرنسية وطن ثابت في القرن السادس عشر، فكان عليها أن تربي نفسها في الكليات وتطوف من بلاط إلى بلاط، ومن صالة الى صالة. وفي عام 1598 أنشئ أول مسرح فرنسي دائم في الأوتيل دبورجون بشارع مونوكسي. وفي عام 1600 افتتح »التياتر دي ماريه« في ما هو اليوم شارع »التاميل» القديم. وفي المسرحين كان الشكل قاعة طويلة في الوسط، حيث كانت الطبقات الأقل يسراً تقف، وتأكل، وتشرب، وتقامر، وتتشاجر، وتشاهد التمثيل وتحرس جيوبها، بينما صف على الجدران صفان من الألواح يجلس فيها السادة الميسورون. وقبل عهد ريشيلو لم يكن يحضر المسرحيات من النساء غير من لا يملكن شيئاً يخشين على فقده. أما المسرح الذي كان مرفوعاً عند أحد طرفي المستطيل فقد بعد عن نصف المشاهدين بعداً جعل تمثيل الفكر او الشعور بتعبيرات الوجه أمراً عديم الجدوى تقريباً للممثلين، لذلك شجعوا الخطابة التي تستطيع الوصول إلى أبعد الآذان. وكانت الحفلات تقام بعد الظهر، من الخامسة إلى السابعة عادة، واشترط القانون أن تنتهي قبل حلول الظلام، لأن المسرحين كانا يقعان في أحياء خطرة من المدينة. أما الممثلون فكانوا قبل موليير يستقدمون عادة من إيطاليا وأسبانيا. وكان النساء يؤدين أدوار المرأة. وفرضت الحاجة إلى تدخل الاتكاء الجريء على الجنس في التمثيليات الفكاهية. وحاولت الكنيسة والبرلمان عبثاً تنقية المسرح الفكاهي أو حظره. ونهض بالمستوى الخلقي للدراما الفرنسية ببسط حمايته وإشرافه على بعض كتابها، وبحضور الحفلات التمثيلية بشخصه، وبالتعاون مع روترو، وسكارون، وغيرهما في تأليف التمثيليات. وهكذا، وتحت بصره الشامل، مهد أسلاف كوريني - وهم جارنييه وآردي و روترو - الطريق للنجاح الحقيقي الذي حققته مسرحية »السيد«.
لقي كورنبي ما يلقاه كل مكافح في طريقه إلى التفوق من تقلبات. ولد في روان (1606)؛ وعوقته نشأته في عاصمة إقليمية بمنأى عن حوافز باريس وفرصها الادبية، ولكن أباه كان قاضياً نابهاً استطاع أن يوفر لبيير أفضل ما أتيح من تعليم في كلية اليسوعيين المحلية. وقد استخدم هؤلاء المربون الغيورون المسرحية أداة للتعليم. وعلموا الطلاب أن يمثلوا باللاتينية مسرحيات كلاسيكية وغيرها، وقد أثر هذا التقليد اليسوعي في المسرحية الفرنسية موضوعاً وتقنيةً وأسلوباً. وبالطبع لم يقصد أحد ببيير أن يكون كاتباً مسرحياً، فقد نشئ في القانون ومارسه فترة، ولعل فن الفصاحة القانونية واعتياده عليها شاركا في صوغ البيان الذي يجلجل في مآسيه.
وحين ناهز الحادية والعشرين وقع في غرام المرأة والشعر في وقت معاً تقريباً، ولكن السيدة صدته، فوجد ملاذه في القوافي. وقد خلف الجرح فيه اكتئاباً وإحجاماً دائمين، فمثل بالمداد المسرحيات التي حرمت على دمه. وانقضت إحدى عشرة سنة قبل ان يجد له زوجة (1640) - ولم يجدها إلا بمساعدة من ريشيلو، ولكنه خلال ذلك تصور العدد الكبير من مآسي أو مهازل فيها تودد المحبين أو شهامة الأبطال. وفي عام 1629 حمل إلى باريس أولى تمثيلياته »مليت«، فمثلت في الأوتيل دبورجون، وكانت رباعية سخيفة من الحب والدسيسة ولكن حوارها المفعم بالحياة أعانها على النجاح، واصطلى كرونبي في دفء الشهرة. وكلفه ريشيلو هو وأربعة غيره بكتابة تمثيليات في موضوعات وبطرق اقترحها الكردينال. غير أن كورنبي أدخل على هذه الخطة الموضوعة له تعديلات في استقلال كثير. وعبس »صاحب النيافة الأحمر«، فانسحب كوريني غاضباً إلى روان، ولكنه ظل يتسلم من ريشيلو معاشاً قدره خمسمائة كراون في العام.
وحركه وجرح كبراءه نجاح مأساة »سوفونيسب« التي كتبها ميريه فهجر التمثيلية الفكاهية، ودرس سنيكا، وحمل إلى باريس عام 1635 تمثيلية »ميديه«. هنا ظهرت صفاته الجوهرية لأول مرة-وهي قوة الفكر وسمو الحديث. وراح منذ الآن، مع بعض الاستثناءات، يملأ مسرحه برجال ونساء رفيعي المقام، ويضفي عليهم العواطف الرفيعة التي يعرب عنها في لغة جزلة وحجة قوية. وحين استمع وولر، الشاعر الإنجليزي المعاصر، إلى »ميديه« نادى به إماماً جديداً، »فغيره ينظم الشعر، ولكن كورني هو الوحيد الذي يستطيع أن يفكر(132)«.-وأسمى ضروب الفن ما اشرّب بالفلسفة. ومن مسرحية الرومان واليونان الملحمية، ومن معلميه اليسوعيين، ومن تأملاته الحزينة الموحشة-هذه الأبيات الجليلة، السداسية التفاعيل، تزحف الجيش في أحلامه-بلغ كورني مستوى من الفكر والأسلوب لم يعهد قط في التمثيليات الفرنسية من قبل وندر أن عرف بعده. يضاف إلى هذا أدب درامي آخر اجتذبه وشكله. إنه لم يستطع أن يستقي من المسرح الأليزابيثي غير القليل، لأن هذا المسرح أغفل القواعد الكلاسيكية إغفالاَ لا يناسب قالباً كلاسيكياً. ولكن أسبانيا كانت في هذا العصر مجنونة بالمسرح، تغدق التكريم على لوبي دي فيجا وتيرسو دي مولينا كالديرون دي لاباركا كأنهم الورثة الأكفاء الوحيدون لسوفوكليس وبوربيديس، وتيرينس وسينكا. وفي المسرحية الأسبانية وجد كوريني موضوعاً درامياً بطبيعته-قانون الشرف أو العرض، الذي فرض الموت جزاء لكل إهانة أو إغواء. فتعلم الأسبانية، وقرأ »مغارمات السيد« بجيين دي كاسترو (1599؟)، واستعار الحبكة دون اعتذار أكثر من اعتذارات شكسبير، وكتب أشهر تمثيلية في الأدب الفرنسي .
ومثلت السيد عام 1636. وشعر النظارة أنه لم يظهر على خشبة المسرح الغالي بعد شيء بهذه القوة. قال معاصر »جميل جداً أنها ألهمت بالحب حتى أكثر السيدات بروداً، فتفجرت عاطفتهن أحياناً في المسرح العام. وشوهد في الألواح ناس قل أن بارحوا قاعاتهم المذهبة ومقاعدهم المكسوة بالزنبق شعار الملكية(133)«. ولم يعرف الكثيرون أن فكرة المسرحية مستعارة مع أن كوريني اعترف بهذا صراحة، وتعجب الجميع من لطافتها المتشابكة. فشيمين الفتاة العريقة المولد، ورودريج النبيل، عاشقان متيمان. ولكن أبا شيمين. وهو الدون جوميز، يتشاجر مع والد رودريج ويسبه وهو شيخ عليل؛ ويتحدى رودريج جوميز للمبارزة ويقتله. وتشعر شيمين، وهي مبقية على حب رودريج، بأن داعى الشرف يدعوها لرجاء الملك فرديناند أن يقطع رأسه أو ينفيه، وهذا الصراع الذي يعتمل فيها بين »واجب الشرف« ودعاء الحب يفضي على القصة عواطفها المتشابكة قوة وحدة فائقتين. أما رودريج فيقدم سيفه لشيمين ويدعوها لقتله، ولكنها لا تستطيع الانتهاء إلى قرار. فينطلق إلى محاربة المسلمين، ويعود إلى إشبيلية وفي موكبه الملوك والأسرى وهالات المجد، وتتغنى باسمه إشبيلية كلها، ولكن شيمين لا تزال تطالب بموته. وحين يرفض فرديناند، تعد بأن تتزوج أي رجل يتحدى حبيبها ويقتله. ويضطلع سانشو بالمهمة. ويقترح رودريج أن يدع سانشو يقتله. ولكن شيمين تندم على انتقامها، وتتوسل إليه أن يدافع عن نفسه. فيهزم سانشو، ولكنه يبقى عليه، وأخيراً يتم استرضاء قانون الشرف، وتقبل شيمين حبيبها، وينتهي كل شيء نهاية سعيدة. واحتفلت باريس طوال نصف موسم بجمال شيمين وناقشت سلامة عقلها. وسمعت نغمات سياسية صاحبت النقاش. ذلك أن ريشليو حرم المبارزات، ولكنها تبدو في التمثيلية جزءاً من القانون الأعلى. أما النبلاء الكارهون لريشليو فقد تهللوا لتمثيل أرستقراطية ما زالت تتولى العقاب بنفسها. كذلك لم يسر الكردينال كثيراً لنجاح رجل توقف عن تلقي توجيهاته الدبية، فطلب إلى اكاديميته الوليدة أن تصدر نقداً منصفاً للتمثيلية، ولم يكد يخفي أمله في أن يكون الحكم ضدها. وأطالت الأكاديمية مناقشاتها حتى تهدأ الأعصاب؛ وأخيراً وبعد خمسة شهور، نشرت رأيها، وكان حكمها في جملته معتدلاً منصفاً. فقد اعترضت على الإشادة الواضحة بالحب الرومانسي، ورأت أن حل عقدة التمثيلية لا يحتمل التصديق، ووجدت في كلمات شيمين الخيرة لرودريجو وهو ماضٍ إلى قتال سانشو بعض الجلافة والغرور السخيف »عد ظافراً من قتال جائزته شيمين«. على أن هذا النقد لطفته الفقرة الختامية في حكم الأكاديمية تلطيفاً جميلاً:
»يجب أن يغتفر الناس، حتى العلماء منهم، بعض الاغتفار شوائب عمل ما كان يحظى بابتهاج المجتمع إلا هذا الحد لولا ما فيه من مواطن جمال غير عادية... وأن طبيعة عواطفه وعنفها، وقوة الكثير من أفكاره ورقتها، والسحر الفائق الوصف الذي يمتزج بكل عيوبه-كل أولئك قد كسب له مكاناً عالياً بين القصائد الفرنسية التي من هذا النوع(134). ولم تتخذ الأكاديمية صفة القاضي الأدبي بعد ذلك إطلاقاً. أما كوريني فقد لطف من الموقف باهدائه تمثيلية »السيد« عند نشرها إلى ابنة أخت الكردينال المحبوبة، ورائعته التالية »أوراس« (1640) للكردينال نفسه، وكان ليفي قد روى هذه الأسطورة في »تاريخه«. ففي اليوم ذاته ولدت أختان توأمان، في مدينتين مختلفين، كل منهما ثلاثة توائم ذكور-أبو الأولين هورانيوس في روما، وأبو الآخرين كورياتوس في ألبا لونجا. وبعد جيل ارتبطت الأسرتان برباط أوثق، وذلك بزواج سلبينا ابنة كورياتوس، بأوراس وهو ابن هوراتيوس ، وبحب كاميللا ابنة هوراتيوس لأحد توائم كورياتوس. ولكن المدينتين تنزلقان إلى الحرب، ويلتقي جيشاهما وجها لوجه. أما سابينا وكاميللا فترتعدان في المعسكر الروماني، وتحدد سابينا الموضوع النسائي الذي تردده التمثيلية.
»أنني وا اسفاه رومانية ما دام أوراس رومانياً، فقد اتخذت لقبه حين قبلت يده، ولكن هذا الرباط سيسترقني لو حجب عن ناظري مسقط رأسي-ألبا، حين بدأت أتنفس الحياة، ألبا، وطني العزيز وحبي الأول، أنني حين أرى الحرب تنشب بيننا وبينك أخاف النصر خوفي من الهزيمة. فإذا شكوت يا روما من أن هذا خيانة لك، فاصنعي لنفسك أعداء أستطيع أن أكرههم. فانىّ لي وأنا اشهد من أسوارك جيشهم وجيشنا، وأرى أشقائي الثلاثة في جيش وزوجي في الآخر، أن أصوغ صلواتي وألح على السماء في أن تسعدك دون أن يكون في هذا خروج على الولاء(136)«.
وهكذا لا يعرض كوريني موضوعا هو مجرد معركة سلاح ورجال، إنما هو صراع الولاءات المشبوبة، ومأساة الحق يصارع الحق، فإذا تلقى قلمه هذا الإلهام. انطلقت منه عبارات محكمة القوة؛ وأبيات تسير بخطى عسكرية وأنغام مجلجلة. أما قائد ألبا فيذكر الرومان بأنهم هو وأهل ألبا أبناء دم واحد ووطن واحد (أكان في ذهن كوريني الكاثوليك والهيجونوت؟)، وأن من الاجرام تقطيع أوصال إيطاليا (فرنسا؟) بالحرب الأهلية، ويقترح انهاء الحرب بنزال ثلاثة من أهل ألبا مع ثلاثة من أهل روما. ويقبل الاقتراح، وتتاح للنساء ساعة من السعادة المرتجفة. ولكن قائد ألبا يختار توائم كورياتوس الثلاثة، ويختار القائد الروماني توائم هوراتيوس. وتبكي النساء، ويرق الأبطال لحظة لدموعهن؛ لكن هوراتيوس الأب يوبخهم وهو يعلن الفكرة الرجولية، لأنهم يضيعون الوقت مع النساء بينما يدعوهم داعي الشرف:
"أدوا واجبكم، واتركوا الباقي للآلهة(137)".
ولكن الآلهة تخطيء. فيقتل توائم كورياتوس، ولا يبقى على قيد الحياة من توائم هوراتيوس سوى أوراس. وتعنفه شقيقته كاميلا لقتله خطيبها، وتندد بروما وبناموس شرفها وحربها. فيقتلها وهو بعد سكران بنشوة المعركة لأنها ليست جديرة بأن تكون رومانية. وتوبخه زوجته سابينا على قسوته، وتبكي أشقاءها القتلى، وتدعو أوراس ليقتلها هي أيضاً. أما هو فيحاول اقناعها بأن الوطنية أسمى من الحب.
وفكرة التمثيلية بالطبع لا تصدق، ولكنها في هذا لا تزيد عما في شيكسبير. إن الدرامي بحكم تعريفه شاذ؛ والمسرحية مقضى عليها، هي وصفت الواقع في غير تحيز. وهي ترتفع إلى مقام الفن إذا استطاعت بتجاهلها ما ليس متصلاً بموضوعها واختيارها للمهم أن تزيدنا عمقاً بفهم أكمل للحياة. لقد ورث كوريني تمجيد النهضة لروما القديمة، وأيد المفهوم الصارم للواجب أمام انحلالات الحب التي سيطرت على المسرح الفرنسي قبله، فصمم ألا يكون أبطاله عشاقاً أولا، بل وطنيين أو قديسيين.
وقد اختار من التقويم الكاثوليكي قديساً يسيطر على تمثيلية أقوى حتى من هذه. يقول سانت-بوف: »كل الناس يعرفون »بوليوكت«، ويعرفونها عن ظهر قلب(138)«. والبناء في هذه التمثيلية كلاسيكي على نحو صارم، إذ يتقبل الوحدات كلها، ولكنه يبني داخلها مأساة معقدة ذات قوة مركزة. ولا يصلنا اليوم سوى فصاحة التمثيلية في مكاتبنا، ولكن يجب أن نسمعها منطلقة من افواه الممثلين الفرنسيين يتحركون في جلال على خشبة المسرح، أو تحت النجوم في فناء الانفاليد أو اللوفر، وحتى مع توافر هذه الشروط يجب أن نملك ناصية الفرنسية وتكون لنا أرواح فرنسية. ويجب أن نكسو أنفسنا من جديد بإيماننا الشاب. أما الحبكة فتدور حول تصميم بوليوكت، الروماني المثقف، المعتز بنفسه، حديث العهد باعتناق المسيحية، على تحطيم مذبح الآلهة الوثنية. أما زمن التمثيلية فهو الاضطهاد الديني (249-51م)، وأما مكانها فمليتين، وهي مخفر أمامي روماني في أرمينيا، ومشهد الدراما كلها قصر فيلكس الوالي الروماني. وقد دعي المسيحيون جميعاً، منذرين بالموت عقابا للمخالفين، أن يشتركوا في صلاة تنتظم الإمبراطورية بأسرها وقربان للآلهة القديمة طلبا لتأييدها للجيوش الرومانية ضد الهمج المغيرين المحدقين بها. ويشتعل بوليوكت بغيرة المؤمن المهتدي، فيبغي بعمل مثير أن يشجع المسيحيين على مقاومة الأمر الإمبراطوري. ويعوقه عن هذا حبه لزوجته بوليني، ابنة الوالي، ولكنه يضحي بالحب في سبيل الواجب كما يفعل أبطال موريني الصادقون. وفي حضرة فيلكس ذاته يقطع وهو صديق له الطقوس الوثنية، ثم يناشدان العابدين أن ينصرفوا عن جوبيتر الفاجر إلى إله المسيحيين، »الملك الواحد القهار للأرض والسماء«، ولكي يفضحا »المسوخ العاجزة« التي يتألف منها مجمع الآلهة الروماني يرتقيان المذبح ويحطمان آنية الشعائر وتمثال جوبيتر، ويأمر فيلكس بالقبض على منتهكي هذه المقدسات. وتتوسل بولين إلى بوليوكت أن يتوب عن تدنيسه المعبد، ولكنه يدعوها بدلاً من ذلك إلى اعتناق دينه الجديد. وتناشد بولين أباها أن يعفو عنه فيأبى، وتجهر هي باعتناقها المسيحية وتستعد لمرافقة زوجها إلى الموت. ويتأثر فيلكس تأثراً يحمله على اعتزال منصبه واعتناق المسيحية. ثم ينتهي الاضطهاد فجأة، ويرد فيلكس إلى منصبه، ولكن بوليوكت قاسى أثناء ذلك عذاب الاستشهاد.
وكل ما في التمثيلية تحلية للتاريخ من قلم كوريني، فيما عدا الاستشهاد وتدنيس المذبح، كذلك هو خالق وقاحة القديس المتعالية وعنف الفعل، وحين قرأ المؤلف التمثيلية في الأوتيل درامبوييه، أدان عدد من السامعين، ومنهم أحد الأساقفة، بوليوكت لخشونته وتطرفه في غير ضرورة. وفكر كوريني حيناً في وقف التمثيلية، ولكن نجاحها على المسرح رفعه إلى أوج حياته الأدبية (1643). وبقى له في أجله آنذاك واحد وأربعون عاماً سنرى أنه أنفقها في منافسة مع راسين، ولكنه لم يؤت العلم بأنه قد كتب أعظم أعماله في هذه المسرحيات الثلاث-بل يرى البعض أنها افضل المسرحيات في تاريخ المسرح الفرنسي كله. وهي تختلف عن الدراما »الرومانسية«، التي شاعت في إنجلترا الأليزابيثية أو فرنسة القرن التاسع عشر اختلافاً يقتضينا إعانة التاريخ بالخيال لتعليل سلطانها على زمانها وعلى مسرح اليوم. إن في كوريني روحاً رومانسية أيضاً بقدر ما في شكسبير، وعواطف مدروسة بأكثر من عناية ديكارت ورهافته، ولكن أتباع مثل العصر الكلاسيكية اقتضى اخضاع العواطف-على ما فيها من تعبير قوي-»للعقل«-أو للحجة. والإسراف في الحجج هو ثقل الموازنة لهذه التمثيليات. بحيث قل أن تحلق التحليقات التي تكثر جداً في راسبين. أما الحركة فتبعد عن خشبة المسرح، فليس عليها سوى السرد، والحضّ، والفصاحة، وكل شخوص كوريني محاجون بارعون. أما الفرنسيون فتتلاشى في نظرهم هذه العيوب في بهاء الأسلوب وجلال الموضوعات. فإذا عن لنا في أي عمل فني أن نلتمس السمو، أو نبحث عن فكرة أو شعور يرفعنا فوق ذواتنا وزماننا. وجدنا هذا مردداً في كوريني. لقد كتب وكأنه يكتب للساسة والفلاسفة. ونظم أبياته وكأنه يلحن موسيقى، وتحت عبارات ما زالت ملازمة لذاكرة فرنسا. وامتزجت الآن الروح الكلاسيكية والأرستقراطية-روح العقل يكبح العاطفة، والشكل يسيطر على المضمون-بضبط النفس الرواقي، وبالشرف الأسباني، وبالذكاء الفرنسي، ليخرج من هذا كله مسرح بعيد عن المسرح الأليزابيثي بعد السماء عن الأرض، وهو مع ذلك، بفضل رسبين وموليير أيضاً، بعدله قيمة وتألقاً في تراث البشرية.
العمارة
أكان انتصار المزاج الكلاسيكي ملحوظاً في الفن كما في الأدب. إنه يطالعنا في كل واجهة بناء فرنسي تقريباً في ذلك العصر. لقد رممت بعض الكنائس القومية ترميماً قوطياً، مثل كاتدرائية أورليان، ولكننا نجد في الأكثر كنائس قديمة- ككنائس سان جرفيز-إتيين-دومون- زينت من جديد بواجهات من طراز النهضة. وقد نلحظ في الكنائس الجديدة طرازاً إيطالياً جديداً يعملها كلها؛ وهكذا صمم جاك لوميرسييه كنيسة السوربون على غرار كاتدرائية القديس بطرس - أعمدة، وقواصر، وقبة. ففي العمارة، كما في الأخلاق، والأدب، والفلسفة، أضفى الإحياء الوثني على المسيحية وجهاً جديداً جريئاً. وطوى تيار النهضة الكل حتى اليسوعيين، وكانوا أسرع استجابة له لأنهم وهم طائفة دينية لم تقيدهم جذور من العصر الوسيط. ففي أجيالهم الأولى حين تزعمهم لويولا ولينيز، كانوا مبشرين صارمين لا يخشون أحداً، ومنافحين مخلصين عن المعتقد السليم والبابوات، ولكنهم استبقوا قدراً من النزعة الكلاسيكية في مجمع ترنت، وكما جعلوا الدراسات الكلاسيكية لب برامج التعليم في كلياتهم، كذلك اختاروا في العمارة الواجهات الشبيهة بالكلاسيكية لأهم معابدهم. ومن كنيستهم الرائعة في روما، »كنيسة يسوع«، حملوا طراز الزخرف الفاخر عبر الألب وفوق البرانس. على أنهم لم يكونوا ملتزمين بدرجة متماثلة بالزخرفة الفياضة. من ذلك أن أشهر معماريهم - الذي شيد واجهة جناح كاتدرائية أورليان - صمم كنائس وكليات متوخياً البساطة الشديدة التي تناسب خلقه وما تحت يده من مال. ولكن حين أثرت الطائفة بنت في وفرة بهيجة. ففي عام 1627 بدأت بناء الكنيسة الجميلة التي تعرفها باريس عادة بإسم »الجزويت« - وواجهتها رومانية، وداخلها مزين زينة أنيقة بالتيجان والأقواس والكرانيش، وأقبية الخورس تلتقي في انسجام لتدعيم قبة مضيئة؛ وقد وصف جول افلين الذي كان يجوب باريس عام 1644 هذه الكنيسة بأنها »من أكمل قطع العمارة في أوربا(139)«. إنها لم تكن باروكا على نحو منفر، ولم تحتو على أي شيء مشوه أو غريب. فالباروك في فرنسا رصّنه الذوق الأرستقراطي-تماماً كما هذّب زونزار وماليرب قباحات رابليه.
وتخلفت العمارة الدينية خلال الحروب الدينية، وفي فترات السلام التي تخللتها نمت العمارة المدنية، فارتفعت قاعات المدن في لاروشيل، وليون، وتروا، ورانس. وفي باريس أرادت كاترين دي مديتشي أن تخلي قصر اللوفر لشارل التاسع ومليكته، فاستأجرت فيليبير ديلورم ليبني لها ولمساعديها قصر التويلري 01564)-الذي اشتق اسمه من مصانع القرميد (التويل) الفخاري القريبة. وارتفع القصر الجديد، الذي قامت في واجهته العمد الكورنثية وفق طراز النهضة، غربي اللوفر عند ميدان كاروسل الحالي، وامتد 807 قدما بطول السين. وقد أحرق في فتنة الكومون عام 1871، ولم يبق منه سوى الحدائق-حدائق التويلري اللذيذة.
واستعادت العمارة المدنية نشاطها سريعاً في عهد هنري الرابع. وأصبح البون نوف، الذي افتتح للمرور عام 1604، أحب الجسور التي تمتد فوق السين. أما الأوتيل دفيل الذي أنجز في السنة التي مات فيها هنري، فقد ظل إلى عام 1871 مفخرة للشعب تنافس النوتردام واللوفر. وكما فعل فرنسيس الأول ولويس الرابع عشر، أظل هنري الفنانين برعايته، وفهمهم ونسق عملهم. فوسعوا له اللوفر بإضافة البافيون دفلور ووصلوا بينه وبين التويلري بالرواق الكبير. وفي فونتبلو بنوا المصلى، ورواق الوعول، والفناء والصالون البيضي، والبورت دوفين، ورواق ديان. ولقد كانت فونتبلو في عهد هنري الأكبر ذروة النهضة الفرنسية.
أما أرملته ماري دمديسي، فقبل أن تصطدم بريشليو، كلفت سالومون دبروس أن يصمم لها قصر لكسمبورج، في شارع فوجيرار جنوبي السين (1613-20). ولما تحرر لويس الثالث عشر وريشليو من نفوذها عهدا إلى لومرسييه أن يوسع اللوفر مرة أخرى بوصفه مقر الحكومة، فأنجز الآن البافيون دلورلوج، ووسع الجناحان الكبيران، واتخذ البناء الفخم شكله الحالي في أساسه ومن تصميمات لومرسييه بنى ريشليو في باريس »الباليه كردينال« الأنيق حيث جمع مجموعاته في التصوير والنحت وغيرهما من الفنون، هنا كانت أعمال مانتينا، ودافنشي، وفيرونيزي، و »عبيد« ميكل أنجيلو. وقد انتقل أكثر هذا الكنز إلى لويس الثالث عشر والرابع عشر، ثم إلى اللوفر، ثم إلينا.
أما في عمارة البيوت فقد أعاد فرانسوا مانزار تشكيل أفق باريس بتطويره »سقف مانزار«-وهو سقف ذو منحدرين، أسفلهما أحد من أعلاهما، مما يتيح تصريف الثلج والمطر بسرعة، ويفسح فراغاً أكبر في الطابق العلوي، وكم من طالب أو فنان باريسي سكن هذا »المانزار« أو العلية. وصمم مانزار عدة كنائس في باريس، وعدة قصور ريفية في فرنسا-وأنجحها في حي يعرف اليوم بميزون لافيت، وهو ضاحية من ضواحي العاصمة. وفي عام 1635 عهد إليه »مسيو« جاستون دورليان أن يعيد بناء قصر الأسرة في بلوا؛ ولم ينجز مانزار سوى الجناح الشمالي الغربي، وما زالت واجهته المبنية بطراز النهضة وسلمه الفاخر رائعة »أبرع معماري أنجبته فرنسا في تاريخها«(140).
فنون كثيرة
وبهذا المزاج نفسه، مزاج التقاليد الكلاسيكية التي يرقق منها الصقل الشعور الفرنسيان، زين النحاتون الكنائس، والقصور، والحدائق، ومقابر العظماء. وقد ورث جرمان بيلون رشاقة النهضة التي اتسم بها تشلليني، وبريماتيكيو، وجان جوجون، ولكنه لم ينس المزيج القوطي من الرقة والقوة. أما روائعه فثلاث مقابر، إحداها-وهي المقامة في كنيسة دير القديس دني-جمعت في الموت بين كاترين دي مديتشي وهنري الثاني، زوجها لفترة ما-وقد أضفى الفنان على الملكة جمالاً مثالياً كان خليقاً بأن يدفئ قلبها الموحش. والثانية، الموجودة الآن في اللوفر، كرمت رينيه دبيراج، مستشار فرنسيس الثاني وشارل التاسع-وهي صور للكبرياء الخاضعة للتقوى، ومعجزة من الثياب الطبيعية التقطها المثال في البرونز. وإلى جوارها مقبرة زوجة رينيه، فالنتين بالبياني، وفي أعلاها ترى السيدة في شرخ شبابها وقد خلعت عليها الجلال أرواب تعلوها الوجوه، وفي أسفلها هذا الجمال ذاته منحوتا بغير رحمة في هيئة جثة لها وجه وأيد عجاف وصدر متغضن وثديان فارغان غائران، إنها صيحة غضب قوية على الدهر وانتهاكه الساخر للجمال. وهذه المقابر وحدها كانت تكفي لرفع بيلون إلى مقام أعلى من مقام أي نحات في عصره، ولكنه أضاف إليها العدد الوفير من التماثيل، وكلها ذات محاسن أخاذة، وأكثرها جمع في اللوفر، خزانة فرنسا التي لا ينضب لها معين.وهناك ايضاً، وعلى بضع خطوات، نستطيع أن نرى أعمالا لحلفاء بيلون: تمثالاً بالحجم الطبيعي لهنري الرابع من صنع بارتلمي تريمبليه، وعلى فمه ابتسامة غامضة كابتسامة مونا ليزا، ومقبرة آن دمونمورنسي التي نحتها بارتلمي بريور، وتمثالاً حيا يسمى »الشهرة« لبيربريار-هو امرأة عارية تنفخ أنفاسها من خدين منتفخين وتكتب في الهواء كأنها تضيف تحسينا إلى كلمات كيتس »هنا يرقد إنسان كتب اسمه في الريح«. وفي مصلى شانتي أثر يذكر للكردينال دبيرول صنعه جاك سارازان. وقد درس بعض هؤلاء النحاتين في روما وجلبوا معهم من برنيني ميلا باروكيا للزخرف والحركة والعاطفة المسرفة، ولكن هذا الاسراف سرعان ما تلاشى تحت نظرات ؤيشليو الباردة وذوق لويس الرابع عشر الكلاسيكي. ويبدأ ظهور ذلك الكمال الناعم الذي طبع »القرن العظيم« في ميداليات جان فاران، الذي وفد من لييج ليعيش في فرنسا، والذي بلغ فنه في الصور الصغيرة التي رسمها لريشليو ومازران وآن النمسوية براعة لم يبزه فيها أي رسام مداليات جاء بعده.
ولو لم تخلف لنا فرنسا أي نحت أو عمارة أو تصوير لحق لها برغم هذا أن تحوز احترامنا وحبنا لما أنجزته في ميدان الفنون الصغيرة. فحتى في هذه الفترة المضطربة بين حكم فرنسيس الأول وحكم لويس الرابع عشر، نافست فرنسا-بل فاقت في رأي البعض- إنتاج معاصريها من فلاندر إلى إيطاليا، سواء في الرسوم، أو المحفورات، أو أشغال المينا، أو الصياغة، أو قطع الأحجار الكريمة، أو مشغولات الحديد أو الخشب، أو المنسوجات، أو السجاد المرسوم، أو تصميم الحدائق. فرسوم جاك كاللو للغجر، والشحاذين، والمتشردين، تحمل معها ريح الحياة ذاته؛ أما سلسلة كلشيهات »آلام الحرب« فقد سبقت جوبا بقرنين. وحسبنا حكماً على براعة أشغال الحديد في ذلك العصر حاجز القضبان المؤدي إلى قاعة أبوللو في اللوفر. أما السجاد المرسوم فكان صنعه فنا لا يقل أهمية عن النحت أو التصوير. كان جان جوبلان قد افتتح مصانع للصباغة بباريس في القرن الخامس عشر؛ وفي القرن السادس عشر اضافت المؤسسة مصنعاً للسجاد المرسوم، وأنشأ فرنسيس الأول مصنعا آخر في فونتنبلو، وهنري الثاني مصنعاً ثالثاً في العاصمة. وحين ذهبت كاترين دي مديتشي للقاء المبعوثين السبان في بايون أخذت معها اثنتين وعشرين سجادة نسجت لفرنسيس الأول لتعرض ثراء فرنسا وفنها. ثم اضمحلت هذه الصناعة التي جمعت بين الحرفة والفن في عهد هنري الثاني، ولكن هنري الرابع أصلح من شأنها بجلب جيل جديد من الرسامين والصباغين والنساجين الفلمنكيين لمصنع جوبلان في باريس. وهناك خمسة نماذج ممتازة ترجع إلى عهده-موضوعها صيد ديانا-تزين مكتبة مورجان بنيويورك.
وأحست الزخرفة الداخلية تأثير البارك يتسرب إليها من إيطاليا. فتفشت الكراسي، والموائد، والصناديق، والبوفيهات، والدواليب، ومناضد الزينة، والسرر-ونقشت في بذخ، ورصعت في كثير من الحالات بالأبنوس او اللازورد أو اليشب أو العقيق، أو زينت بالتماثيل الصغيرة. وفي عهد لويس الثالث عشر نجد الكثير من المقاعد بالمخمل، أو أشغال الابرة، أو النسيج المرسوم. وقد تنقش الجدران والكرانيش والأسقف أو ترسم بمهرجان من صور النبات والحيوان. وفقدت المدافئ بعض صرامة العصر الوسيط، وحليت أحياناً بنقوش عربية في ألوان متعددة.
أما في الزخرف فكان العصر قمة فن رجلين عجوزين: ليونار ليموزان، الذي استمر حتى عام 1574 ينتج أشغال المينا أذاعت شهرته أيام فرنسيس الأول ، ثم برنار باليسي الذي ولد عام 1510 وعمر حتى عام 1589. وكان باليسي مجنوناً بالخزف، فيه فضول قوي ينتظم ميادين الزراعة والكيمياء والدين، وله ولع بكل شئ من تكون الأحجار إلى طبيعة الإله. درس كيمياء أنواع التربة المختلفة ليحصل على أفضل الطفل لقمينته، وأجرى تجاربه سنين عديدة لينتج مينا بيضاء تتقبل الألوان الرقيقة وتحتفظ بها. وأحرق نصف متاعه وقوداً لفرن حرارياته، وقد روى القصة وكأنه يتحدى تشلليني. وكان يقوم بالعمل كله بنفسه لأن فقره أعجزه عن أن يستأجر من يساعده، وكثيراً ما كانت يداه تمتلئان بالقطوع حتى قال »كنت أضطر لأكل حسائي ويداي مربوطتان بأسمال«. وبعد أن مضيت في مثل هذا عشر سنوات نحل جسمي حتى لم يبد على ذراعي وساقي أي عضلات، وبلغ النحول بساقي مبلغاً استحال معه علي رباط جواربي أن يثبت فوقها... فإذا مشيت سقطت جواربي على حذائي البالي(141)«. واتهمه جيرانه بأنه يمارس السحر ويهمل أسرته. وأخيراً، وحوالي عام 1550، وجد المزيج الذي ينشده، وصنع مينا من طلاء متقزح اللون، واستعملها في تشكيل الآنية والتماثيل الصغيرة المزينة تزييناً بديعاً بالسمك، والسلاحف، والأفاعي، والحشرات، والطيور، والأحجار-كل غنى الطبيعة الوافر. وأبهج كاترين دي مديتشي أن تضع هذه المتحفرات الصناعية في حديقتها وأحواض أزهارها، ووهبت الخزاف العجوز مصنعاً في التويلري، فأضاف في بيئته الجديدة الحوريات المختلفة لزخارفه. ومع أنه كان هيجونوتياً غيوراً، إلا أنه اعفي من مذبحة القديس بارتلميو، لأن كاترين وحاشيتها بهرتهم زهرياته وكئوسه وأطباقه وشمعداناته وأفكاره الطريفة. ولكن في عام 1588 أمر الحلف الكاثوليكي بمحاكمة البروتستنت من جديد، فأودع باليسي سجن الباستيل. قال أحد كتاب اليوميات في عام 1590:
»في هذا العام (عام 1589 في واقع الأمر) مات في حجرات سجن الباستيل الأستاذ برنار باليسي، السجين بسبب دينه، بالغاً من العمر ثمانين عاماً، وقد خرّ تحت وطأة الألم، وسوء المعاملة، والحاجة. وحين ذهبت عمة هذا الرجل الطيب لتسأل عنه... قال لها السجان إنها إن أرادت رؤيته فستجده جثة مع الكلاب على الأسوار، حيث أمر بإلقائه كما يلقى كلب مثله(142)«.
بوسان والمصورون
كان التصوير الفرنسي لا يزال أسيراً لفلاندر وإيطاليا. فسيطر رسامو السجاد الفلمنكيون على فنهم في باريس، وزكا المصورون الفلمنيكيون في باريس، وليون، وتولوز، ومونبلييه، وبوردو. وكانت أفضل لوحات هذه الفترة من صنع الفلمنيكيين في فرنسا، كصورة إليزابث النمسوية البديعة (الموجودة باللوفر) بريشة فرانسوا كلويه، وصورة هنري الرابع المعتز بنفسه (في شانتي) بريشة فرانز بوربي الابن، وأهم من ذلك كله صورة ريشليو التي رسمها فليب دشامبين. ولكن التأثير المسيطر على التصوير الفرنسي في هذه الحقبة كان إيطاليا، كان طلاب الفن يذهبون إلى روما، على نفقة الحكومة الفرنسية أحيانا، ويعودون مترددين بين مثالية فناني القرن السادس عشر الفلورنسيين، وواقعية فناني القرن السابع عشر البولونيين والنابوليين القاتمة. وقد وفق أحد الفنانين الفرنسيين واسمه سيمون فوييه، وهو بعد في الرابعة عشرة (1604)، إلى إذاعة اسمه بين المصورين حتى تنافست عليه ثلاث دول. وحاول تشارلز الأول أن يحتفظ به في لندن، ولكن بارون سانسي أخذه في بعثة إلى القسطنطينية، حيث رسم سيمون صورة رائعة للسلطان أحمد الأول، بعد أن درس ملامحه خفية خلال ساعة مثل فيها السفير بين يديه. وفي عودته مخترقاً إيطاليا، وقع فوييه في حب البندقية وفيرونيزي، ثم أحب كارافادجو في روما، حيث بسط عليه أدواقها وكرادلتها من الرعاية ما أغراه بالبقاء في إيطاليا خمسة عشر عاماً. وفي عام 1627 دعاه لويس الثالث عشر ليكون مصور البلاط، وكان يجري عليه معاشاً سنوياً قدره أربعة آلاف جنيه، ثم أعطاه سكناً في اللوفر. وسرعان ما تهافتت فرنسا كلها عليه. فزين مصلى قصر ريشيلو الريفي، ورسم لوحة مذبح لكنيسة سانت أوستاش، وصمم رسوماً للسجاد الملكي، وصور لوحات للحاشية. وإذا اغرقته هذه المهام كلها فقد جمع حوله معاونيه في مدرسة نمت حتى أصبحت الاكاديمية الملكية للتصوير والنحت، وهناك درب واستخدم لوسويور، ومينار، وبوردون، ولوبرن. ولا تكاد أعماله الباقية تبرر هذه الشهرة، ولكن له في تاريخ فرنسا مكاناً خطيراً هو مكان إعداد مصوري عصر القمة. اما الأخوة الثلاثة، أنطوان، ولويس، وماتيولونان، فقد أدخلوا تنويعاً على لوحات عصرهم بتصوير حياة الفلاحين تصويراً تشيع فيه الشفقة المعتمة، إذ وجدوا فيهم ذلك الفقر الصامت والقوة الشرسة التي اتسمت بها فرنسا في القرن السابع عشر. كذلك وهب جورج دلاتور فرشاته للمساكين (وقد نبش عنه مؤخرا تقريظ النقاد)، وصورتاه المقابلتان »فلاح« و »فلاحة« اقرب إلى قمة التصوير في العهود الملكية التي نحن بصددها؛ ونستطيع أن نحكم على شهرته السائرة من مبلغ الـ 500.000 دولار أو أكثر التي دفعها متحف المتروبوليتان للفنون بنيويورك ثمناً لصورته »العرافة« (1960). وقريب من هذا التحول من القصر إلى الكوخ، ذلك الانجاز الخاص الذي حققه التصوير الفرنسي في هذا العصر - وهو تطوير المنظر الطبيعي بوصفه عنصراً كبيراً في فن التصوير.
أما نيكولا بوسان فكان أبوه جندياً في جيش هنري الرابع. وبعد أن أسكن منزل نيكولا دليزمان عقب معركة إفرى، تزوج ابنة نيكولا - وهي فلاحة لاتعرف كيف تكتب اسمها - وفلح مزرعة بقرب ليزاندليس في نورمانديا. وتعلم ابنهما حب الحقول والغابات، واقتناص لحظات يسجلها فيها بالقلم الرصاص أو الحبر. ثم وفد كنتا فاران على ليزاندليس ليزين كنيسة بها، وراقبه الفني نيكولا في شغف وانتزع منه بالملاطفة دروساً في الرسم والتصوير. فلما رحل فاران، هرب نيكولا إلى باريس ليدرس الفن (1612) وكان يومها في الثامنة عشرة. وهناك توجت الشهور التي كاد يتضور فيها جوعاً بعثوره على محفورات ريموندي لأعمال رفائيل. هنا تكشف لنيكولا أمران أولهما أن الخط لا اللون أداة للفن، وثانيهما أن روما عاصمة الفن. وظل ثمانية أعوام يكافح للوصول إلى تلك القلعة. ومرة وصل في رحلته حتى فلورنسة، ولكن الفقر واليأس والعلة ردته إلى باريس. ثم حاول ثانية، ولكن دائناً عطله في ليون، فزحف راجعاً ليدفع ديونه ويكسب قوته بأشغال تصوير صغيرة في قصر اللكسمبورج. وفي عام 1622 استخدمه الشاعر الإيطالي جوفاني باتيتستا مارينين الذي وفد وقتها على باريس، ليرسم له رسوماً لقصيدته »ادوني«، وظفرت رسوم بوسان باستحسان ماريني وببعض التكليفات. ورسم نيكولا صوراً للأشخاص على مضض واقتصد فرنكاته في حرص، وأخيراً اكتحلت عيناه برؤية روما في عام 1624.
وأوصى به ماريني الكردينال فرانشسكو باربريني: »ستجد هنا شاباً فيه عنف شيطاني« - شاب »مجنون بالتصوير« (خلافاً لتحليل ايروشيج لنفسه). ولكن مجنوناً إيطالياً أيضاً، غير أنه لم يجن بصور أئمة فناني النهضة بقدر جنونه بكمال القطع المتخلفة في الساحة الرومانية (الفورم)، ولا جنّ بالصور الجصية المتخلفة في العصور القديمة بقدر جنونه بروما نفسها - بآفاقها، وحقولها، واشجارها، وتلالها، وتربها ذاتها. ولا بد له أن تساءل كما تساءل بعض المتحمسن لها ممن أتوا بعده. لا لم يكتب الله له أن يولد في إيطاليا ؟
وامتحنه الكردينال باربريني بتكليفه رسم لوحة »موت جرمانيكوس«، فسرته النتيجة، وسرعان ما اشتد الطلب على فن بوسان حتى جاهد لكي يلبيه. كان رعاته - سواء العلمانيون أو الكنسيون - يتوقون للصور العارية، فاسترضاهم فترة بعروض لجسم امرأة كتلك التي نجدها في »انتصار ربة الزهر « التي رسمها للكردينال أوموديو، وفي »منظر باخوسي« لريشيلو. واتخذ مقامه في روما، وتزوج فتاة في السابعة عشرة وهو يناهز السادسة والثلاثين، وأنفق عشر سنوات سعيدة معها ومع ألوانه. ثم دعاه ريشيلو ولويس الثالث عشر إلى باريس (1640). فقال بوسان »سأذهب كإنسان حكم عليه بنشر جسده نصفين(143)« ولقى هناك التكريم العظيم وتلقى معاشاً من ألف كراون، ولكنه لم يرتح لمنافسة الفنانين الباريسيين المفعمة بالحقد، فأسرع بالعودة إلى إيطاليا (1643) مضحياً بمستقبل عريض. واشترى بيتاً على التل البنسي بجوار بيت كلود لوران، وهناك عاش حتى مات، هادئاً، مهتماً بأسرته، مستغرقاً في فنه، قانعاً بحظه.
كانت حياته كصورة مزيجاً كلاسيكياً، نموذجاً للنظام، والاعتدال، وضبط النفس. ولم يكن له من أمارات الفنان غير القليل. اللهم إلا أدواته. فلا هو بالعاشق النهم كرفائيل، ولا برجل الدنيا كتيشان، ولا بالعبقري الشيطاني كميكل أنجيلو (برغم رأي ماريني فيه)، إنما هو رجل بورجوازي يعني بأسرته ويدفع ديونه. وحين رأى الكردينال ماسيمو بيته المتواضع قال له: »كم أرثي لك لأنه ليس لديك خادم!« فأجاب بوسان »وكم أرثي لك لأن لديك الكثير منهم(144)«. وفي كل صباح يتمشى على تلة، ثم يرسم سحابة نهاره، معتمداً على الجهد لا على الوحي. قال في فترة لاحقة من حياته رداً على سائل سأله عن السر في امتلاكه ناصية الفن »لم أهمل شيئاً(145)«.
وإذا أخذنا في الاعتبار طرقه الكثيرة الجهد، التي لم يستعن فيها بأحد، وجدنا إنتاجه ضخماً. فلا بد أنه رسم أربعمائة صورة، لأننا نعرف أن بعضها فقد، وبقي منها 342، أضف إلى هذا الفاً وثلاثمائة رسم تعتز قلعة وندرز بمائة منها لما به من دقة ونقاء في الخطوط. ولم يتفوق في تنويع صوره. وكثيراً ما تكون صوره العارية تماثيل عديمة الحياة، ولو كان فيها شهوانية أكثر لأسغناها. لقد كان نحاتاً يستعمل فرشاة، ينحو إلى النظر للنساء على أنهن أشكال تصلح للنحت - ولو أنه أحياناً كان يرى فيهن الأصول الإلهية للفن. قال»إن الفتيات الجميلات اللائي نراهن في شوارع نيم يبهجن عيوننا ونفوسنا بهجة لا تقل عن أعمدة »الميزون كاريه« البديعة، لأن هذه ليست إلا نسخاً قديمة من تلك(146)«. كذلك لم ينطلق على سجيته في موضوعات الكتاب المقدس. وقد أجاد تصوير بعضها - مثل »الفلسطيني صريعاً عند الابواب« و »عميان أريحا«، وما أجمل النساء، وأجلهن في الوقت نفسه، في »اليعازر ورفقة«! كان تفوقه يتجلى في الأساطير الكلاسيكية، مصورة وسط الخرائب الكلاسيكية ومن خلفها منظر طبيعي ذو هدوء كلاسيكي. ولم يكن يرسم من نماذج حية، بل من خيال أشرب يحب العالم القديم وتوهمه - العالم الذي كان فيه كل الرجال أقوياء وكل النساء جميلات. تأمل ذلك الكمال الذي نراه في الأنثى الوحيدة في لوحته »رعاة أركاديا« التي رسمها بوسان للويس الرابع عشر تلبية لطلب كولبير. ولاحظ في مرورك الكتابة المنقوشة على قبر الراعي: »أنا أيضاً كنت مرة في أركاديا«، أهذا بوسان يحلم بأنه هو أيضاً عاش في اليونان القديمة مع أورفيوس والأرباب ؟
و»مأتم فوكيون« أقوى لوحات بوسان الاسطورية، ولكن »أورفيوس ويوريديسي« أشدها وقعاً في النفس، ربما لاننا نتذكر الحان جلوك اليائسة. ومما يزعج الروح الرومانسية أن تجد القصة تائهة في المنظر الطبيعي على هذا النحو. فالحقيقة إن بوسان لم يحب الرجل، ولا حتى المرأة، بل المشهد المهذب للنفس، مشهد الحقول والغابات والسماء المنبسطة - كل ذلك المنظر العريض المحيط باللوحة، حيث يكون التغيير متمهلاً، أو خجلاً أما الدوام والاستمرار، وحيث تذوب أوصال البشر في منظورات المكان والزمان. لذلك كانت أعظم صوره هي مشاهد الطبيعة، التي يكون الإنسان فيها عرضا ضئيلا، شأنه في التصوير الصيني أو البيولوجيا الحديثة.
هذه المشاهد جليلة، ولكنها رتيبة. ولولا أن بوسان أضاف هنا وهناك أشكالاً مميزة او عنواناً خطه في إهمال لشق علينا أن نفرق بين الواحد منها والآخر. لقد أحب الخط في حكمة ولكنه أسرف في حبه، وأهمل سلم اللون، مستغلاً اللون البني فوق ما ينبغي؛ لا عجب أن أراد الفنانون الذين أتوا بعده على هذه »الصلصلة البنية« المتساقطة من أشجاره. ومع ذلك فأن هذه الآفاق الخافتة الاضواء، الخافتة الالوان، التي لم يرض عنها رجل مثل رسكن افتتن بوهج تيرنر، هي تفريج لنا بعد ما أصاب التصوير في أيامنا من اهتياج وقلق أيديولوجي، فهنا المفهوم الكلاسيكي للجمال بوصفه اتساق الأجزاء في كل، لا الفكرة الحديثة عن الفن بوصفه »تعبيراً« - قد يكون صورة طفل لم يتقن رسمها أو صيحة بائع متجول. وفي وسط اللازمية والباروك، وفي معارضة لقوة التصوير الإيطالي في القرن السابع عشر وعاطفيته، تشبث بوسان بالمثل الكلاسيكي الأعلى، الذي لا يغلو في شيء، فلا ألوان صارخة، ولا دموع، ولا إغرابات، ولا مقابلات مسرحية بين الضوء والظل، بل فن ذكوري أشبه بكوريني منه براسين وبباخ منه ببيتهوفن.
والصورة التي رسمها لنفسه عام 1650 تطالعنا منها عينان فيهما كلال، ربما من الرسم أو القراءة على ضوء ضليل. كان يقرأ كثيراً، محاولاً الإلمام بحياة اليونان والرومان في تفصيل مثابر، ولم يصب فنان مثل هذا العلم منذ ليوناردو. فلما أقبل على شيخوخته وجد عينيه تضعفان ويده تهتز, وقطع موت زوجته في الحادية والخمسين (1664) رباطاً حياً؛ فلم يعمر بعدها سوى سنة واحدة كتب صديق يقول »مات ابيلليس«. وعلى المقبرة أو قربها في كنيسة أبرشية سان لورينزو، أقام شاتوبريان (1829) نصباً من الرخام كتب عليه كما يكتب أحد الخالدين من البشر الفنانين لآخر:
ف. أ. دشاتوبريان إلى نيكولا بوسان لمجد الفنون وشرف فرنسا
وكان أكبر منافسيه في تصوير مناظر الطبيعة جاره، وصديقه، كلود جيلليه، الملقب لوران نسبة إلى مسقط رأسه. وقد شعر هو أيضاً بدافع يدفعه نحو إيطاليا، وقبل أي وظيفة مهما حقرت ليصل إليها ويعيش فيها. حين تكشف كل لفتة للعين الباحثة عن أثر ما للفن المسيحي أو قطعة ملهمة من الفن القديم. وفي روما تتلمذ لأجوستينو تاسي، ومزج له الألوان، وطهي له طعامه، وتعلم على يديه. وقد رسم على سبيل التجربة ألف رسم، وحفر كلشيهات يقدرها اليوم الخبراء العارفون. وكان يشتغل ببطىء وتدقيق، وقد يستغرق أسبوعين في تفصيل واحد. وأخيراً أصبح هو أيضاً مصوراً، يرتزق من الطلب على صورة من الكرادلة والملوك الذين يقدرون فنه. وبعد قليل كان له بيته فوق التل البنسي، وشارك بوسان في اشباع الطلب الجديد للمناظر الطبيعية.
وكان يستجيب لهذا الطلب عن طيب خاطر، لأنه أحب أرض روما وسماءها حباً دفعه أحياناً إلى الاستيقاظ قبل طلوع الفجر ليشهد بزوغ النور كل صبح، ويقتنص تغيرات الضوء والظل التي تحدثها كل بوصة طالعة من الشمس. لم يكن الضوء عند كلود مجرد عنصر في الصورة، إنما كان موضوعه الأهم، ومع أنه لم يحب-كما أحب تيريز-أن ينظر في عين الشمس ذاتها، فإنه كان أول من درس ونقل غلاف الضوء المنتشر. وقد التقط حركة الهواء غير الملموسة على الحقول، وورق الشجر، والماء، والغمام، كانت كل لحظة من السماء جديدة، وبدا أنه عقد نيته على جعل كل لحظة سائلة تسكَّن نفسها في فنه. وقد أحب ارتعاش القلوع وهي تقابل الريح، وجلال السفن وهي تمخر البحر. وأحس فتنة المسافات، ومنطق المنظور وسحره والحنين إلى رؤية لانهائية الفضاء وراء المرئي.
كانت المناظر الطبيعية لذته الوحيدة. ثم أدخل التراكيب الكلاسيكية في صوره عملاً بنصيحة بوسان-كالمعابد، والخرائب، وقواعد الأعمدة- ربما ليضفي وقار الشيخوخة على المشهد العابر. وافق على إضافة بعض الوجوه البشرية إلى مشهد الطبيعة العريض، ولكن قلبه لم يكن في هذه الزوائد. فهذه الوجوه، »أضيفت دون مقابل«، فكان »يبيع مناظره الطبيعية، ويهب وجوهه(148)«. وكانت العناوين والقصص التي توحي بها هذه الوجوه تنازلات منه للعقول التي لم تستطع الإحساس بمعجزة الضوء وسر الفضاء دون جمال الأسطورة المسيحي أو بغير بطاقة من القصص الكلاسيكية. أما الواقع فهو أن كلود كان له موضوع واحد لا سواه- عالم الصباح، والظهر، والمساء. وقد وهب متاحف أوربا تنويعات حبيبة من الصور، لا تعنى أسماؤها شيئا، ولكن في وحدة وجودها تزاوج صوفي بين الشعر والفلسفة.
وقد نسلم لرسكن(149) بأن كلود وبوسان يرياننا الطبيعة على نحو خداع وهي في حالاتها الأرقّ، غافلين عن جلالها، مغفلين نوبات تدميرها الرهيب. ولكن بفضل جهودها أرسى تقليد عظيم في رسم المشهد الطبيعي. وسنرى أنه سينافس صور الأجسام والوجوه، والمناظر الكتابية والأسطورية. لقد فتح الطريق لموكب الطبيعة من يعقوب وسليمان رويزدال إلى كورو. وهكذا نجد أن ريشليو والوحدة القومية، وكورني والأكاديمية، ومونتيني وماليرب، ودبروس ومانزار، وبوسان ولوران-كل هذا لم يكن حصيلة تافهة أنتجها بلد مشتبك في الحروب. وها هو لويس الرابع عشر يتأهب للوقوف فوق ذلك التراث الصاعد والتسيد على فرنسا في أعظم عصورها.