قصة الحضارة - ول ديورانت - م 7 ك 2 ف 11

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 9804

قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على السلطة -> العصر الذهبي للأدب الأسباني -> القرن الذهبي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الحادي عشر: العصر الذهبي للأدب الأسباني 1556-1665

1- السيجلودي أورو (القرن الذهبي)

كتب سرفانتس عام 1584 يقول »ما أكثر العباقرة الملهمين الذين يعيشون اليوم في وطننا اسبانيا(1) وأغلب الظن أنه هو، دون سواه الذي عرف أنه أعظمهم، ولم يكن بعد قد ألف »دون كخوته« (1604) فحين وافى هذا التاريخ فيما بعد كان »القرن الذهبي« (1560-1660) قد بلغ شأوه وتألق بكل سنائه ومجده. ترى ما الذي أطلق هذا التفجر الثقافي، هذا الحشد الرائع من نجوم الأدب والفن؟ لعله انتصارات أسبانيا في ميادين السياسة والاقتصاد والدين-فتح الأمريكتين واستغلالهما، وقوة أسبانيا ومكاسبها في إيطاليا، والأراضي المنخفضة، والبرتغال، والهند، والنصر على المسلمين في أسبانيا والترك في ليبانتو. ونحن لا نستطيع اليوم، لما بيننا وبين أزمات الروح الأسبانية من بعد الشقة، أن نفهم كيف أججت مخاطر هذه السنوات المثيرة وانتصاراتها حماسة الإيمان الكاثوليكي وجعلت أكثر الأسبان يفخرون بدينهم فخرهم. بأنسابهم؛ أما رقابة المطبوعات ومحكمة التفتيش اللتان قد نحسبهما خائفتين للحريات، فقد تقبلتهما الأمة على أنهما من الاجراءات الحربية الضرورية للوحدة القومية في الحرب الصليبية ضد الإسلام. وهكذا راح العقل الأسباني، الذي حظر عليه أن يشت بعيداً عن العقيدة المقدسة، يحلق داخل حدوده المقيدة، وسط عالم رفيع من القصص والشعر والدراما والعمارة والنحت والتصوير.

ولكنه كان إلى ذلك العصر العلماء الأمناء والمؤرخين الأجرياء، عصر المؤلفات البارزة في اللاهوت والحكم والقانون والاقتصاد والجغرافيا والدراسات الكلاسيكية والشرقية. وفي رأي العلامة الام أن »العلم كان في عهد فليب الثاني أكثر تقدما منه في عصر اليزابيث(2)«. ولا ريب في أن التعليم كان أوفر وأعم. فقد وجد الفقراء والأغنياء على السواء طريقهم إلى الجامعات الكثيرة، وأضيف إلى هذه الفترة عشرون جامعة جديدة إلى الجامعات المشهورة، وكانت جامعة سالامانكا وحدها تضم 5856 طالبا عام 1551(3). »لا يستطيع انسان أن يزعم »أنه كابالليرو (جنتلمان) ما لم يكن كذلك أديباً«.(4) وفتح الملوك والوزراء والنبلاء والأحبار خزائنهم للعلماء والشعراء والفنانين والموسيقيين. على أنه كان هناك بعض النشاز في هذا التصعيد؛ ذلك أن الكنيسة شهرت سوطاً فوق رءوس المعلمين، وحرم فليب الثاني على الشباب، حرصاً منه على الاحتفاظ للجامعات الأسبانية بملئها من الطلاب وجعل العقول الأسبانية نقية من الناحية اللاهوتية، حرم عليهم أن يدرسوا في أي جامعات أجنبية الا كواميرا وبولونيا وروما. ولعل هذا التزاوج الفكري المحصور لعب دورا في عقم أسبانيا الثقافي بعد العصر الذهبي.

وهناك رجلان بارزان من اليسوعيين يدخلان الصورة هنا. أما أولهما، بالتزار جراثيان، مدير كلية اليسوعيين في تاراجونا، فقد وجد الوقت ليكتب (1650 - 53) رواية من ثلاثة مجلدات تدعى »الكريتيكون« وصف فيها تحطيم سفينة لسيد أسباني على جزيرة القديسة هيلانة، وتعليمه للرجل المتوحش الوحيد الذي وجده هناك (أهذا مصدر لروبنسن كروزو ؟)، ثم أسفارهما معا في أرجاء العالم، ونقدهما النفاذ للحضارة الأوربية. وقد أطرب تشاؤمهما وكرههما للنساء شوبنهاور، فوصف الكتاب بأنه »من خيرة الكتب في العالم(5)« ونفح أحد الأصدقاء جرائيان بعض العملة الدولية إذ أختار من كتبه ثلاثمائة فقرة نشرها تحت هذا العنوان »الوحي لميسر، وفن الحكمة الدنيوية«. وقد قام شوبنهاور بترجمة من ترجماتها الكثيرة. وإلى القارئ عينات من هذه:


"حذار من أن يكسف ضوءك ضوء السيد ... لقد



كان التفوق دائما مكروها، وكلما عظم اشتد الكره له.



وشيء من الحذر كفيل بتغطية فضائلك العادية كما تخفي



حسنك باللباس المهمل(6).



إن التوسط في الكفاية يحرز بالاجتهاد تقدما أكثر مما يحرزه



التفوق بدونه(7).



للحظ قواعد، فالعقلاء لا يرون الأشياء كلها وليدة



الصدفة(8).



ليس الكما في الكم بل في الكيف ...



بعض الناس يحكمون على قيمة الكتب بركبهم، وكأنها كتبت لتمرين



الأذرع(9).



فكر كالقلة، وتكلم كالكثرة ... إن الحقيقة للقلة



... ليعتصم الحكيم بالصمت، فإذا سمح لنفسه أحيانا



بالكلام فليكن في حمى القليلين والفاهمين(10).



تعلم كيف تكون لا ... لا يكن الرفض قاطعا، فالحقيقة



تتجلى تدريجيا ... عليك بالمجاملة لتملأ به فراغ الرفض(11).



قد نتبين نضج أمرىء من البطىء الذي يصدق به ما يسمع(12)



هناك دائما متسع من الوقت تضيف فيه كلمة، ولا وقت



لسحب كلمة(13)".


كان المؤرخون الأسبان في هذه الفترة خير المؤرخين في أوربا. وجمع فليب في دار المحفوظات بسيمانكاس مجموعة هائلة من الأوراق الرسمية وغيرها من الوثائق، لأن »الاخباريين والمؤرخين قاصرو العلم بشئون الدولة، ورغبة في تفادي هذا العيب كان من المرغوب فيه جمع ما أمكن من مواد قد تكون ذات فائدة«(14). على حد قوله. وأصبحت هذه المحفوظات ذخرا للمؤرخين منذ ذلك الحين. وقد رجع جيرونيمو دي روريتا إلى آلاف الوثائق الاصلية في إعداد كتابه »حوليات مملكة أراجون« (1562 - 80)، واشتهر في أوربا بأسرها بـ »أعظم الكتاب تدقيقا«.

أما أعظم المؤرخين الأسبان قاطبة، وهو خوان دي مايانا، فقد بدأ حياته ابنا غير شرعي لكاهن في طلبيرة. وإذ ترك في صباه ليدير شئونه بنفسه، فقد شحذ ذكاءه على حجر الضرورة القاسية والفقر الطاحن. وزوده اليسوعيون بتعليم صارم بفضل ما عهد فيهم دائما من سرعة في تبيين الموهبة. فلما بلغ الرابعة والعشرين أرسلوه للتدريس في كليتهم بروما، ثم إلى صقلية، ثم إلى باريس، حيث اجتذبت محاضراته عن توما الأكويني جماهير المستمعين المتحمسين. على ان صحته انهارت، فسمح له وهو في السابعة والثلاثين (1574) بالاعتكاف في بيت الطائفة اليسوعية في طليطلة، فلزمه لا يبرحه إلا نادراً طوال سنيه التسعة والأربعين الباقية من عمره. وهناك كتب رسائل هامة أثارت إحداها ضجة دولية (كما سنرى)، ورسالة أخرى »في عملة المملكة« كانت هجوما جريئا على غش ليرما للعملة، وثالثة تركها دون نشر شرحت »الأخطاء في حكومة جمعية يسوع«. وقد أفرغ أكثر جهده في الأربعين سنة الأخيرة من حياته في تأليف »كتاب في تاريخ اسبانيا« (1592) - الذي كتبه باللاتينية ليتيح لكل الأوربيين المثقفين أن يعرفوا كيف ارتقت اسبانيا إلى مقام الزعامة والقوة. وقد ترجم أكثر الكتاب إلى أنقى اللهجات القشتالية يخص من الكردينال بمبو تحت عنوان »تاريخ أسبانيا« (1601)، وهو أجل المنجزات في تأليف التاريخ الرسمي الاسباني، نابض بالحياة في سرده، بديع في اسلوبه، متمكن في رسمه للأشخاص، جريء في أمانته - »أروع ما شهده العالم من جمع بين العرض الزمني المثير، والتاريخ الرصين(15)«.

وكما أن كتب الأخبار المعروضة حسب تسلسلها الزمني، تدرجت (كما نرى في مؤلفات كالتي ذكرنا) إلى كتب التاريخ بوصفه ضربا من الأدب والفلسفة، كذلك نرى القصص الأسباني في هذا العصر ينتقل من رواية الفروسية والقصة الرعوية ليبلغ في قفزة واحدة أرفع القمم في تاريخ القصة. لقد ظلت روايات الفروسية كثيرة يقبل عليها في نهم كل أسباني من القديسة تريزا إلى سرفانتس، وربما كانت عند بعض القراء تفريجاً من حدة الدين الأسباني المتسامية، لأن عقيدة هذه الروايات كانت الغرام، وولاء الفرسان لم يكن للعذراء مريم بل لمن اختاروا أو هووا من النساء؛ وفي سبيل الدفاع عنهن أو تملكهن تراهم على استعداد لتكسير النصال الكثيرة وتحطيم عدد غير قليل من نواميس الله والبشر. ولكن التهافت على مثل هذه القصص كان يتناقص حين كتب سرفانتس، وكان مونتيتي وخوان لويز فيفز قد سخرا منها، وكان مجلس قشتالة شكا منذ سنين طويلة (1438) من أن »كثيرا من الأذى يلحق بالرجال والفتيان والفتيات وغيرهم« بسبب هذه الروايات، وان الكثيرين »قد اضلتهم هذه القصص عن التعليم المسيحي الصحيح(16)«.

وبلغت الأمور الذروة بفضل تطور آخر، ففي عام 1553 كان كاتب مجهول الهوية قد كتب في »لاثاريللو« دي تورمس« أول قصة بأسلوب البيكارسك (أي التشرد) الذي جعل من أحد الوضعاء الظرفاء بطلا يكفر عن فقره بالتمرد على القانون، وعن تمرده على القانون بالفكاهة الذكية، وفي عام 1569 نشر ماتيو أليمان قصة مرحة سماها »حياة المتشرد جوثمان دي الفاراتشي«. وبعد خمس سنوات تناول سرفانتس هذين المزاجين-حلم الفارس الشهم الآخذ في الزوال، وحكمة رجل الشارع الممزوجة بالفكاهة، وجمع بينهما جنبا إلى جنب في أشهر القصص قاطبة وأروعها إطلاقاً.

2-سرفانتس 1547-1666

في 9 أكتوبر 1547، وجريا على العادة الأسبانية بتسمية كل طفل باسم القديس الذي يحتفل بذكراه في يوم ميلاده، عمد خالق دون كخوتة وسانشو بانزا باسم »ميجل دي سرفانتس« في »القلعة«. وقد اضاف-وربما اضاف أبوه أيضا- اسم سافيدرا، من الأسرة القشتالية التي تزاوج فيها أسلافه الغاليسيون في القرن الخامس عشر. وكان الأب طبيبا غير مرخص، ثقيل السمع قليل المال، ينتقل من بلد إلى بلد ليجبر العظام ويطبب الاصابات الخفيفة، ويبدو أن الصغير ميجل صحبه إلى بلد الوليد، ومدريد، واشبيلية. أما تعليم الصبي فلا نعرف عنه شيئا، فيلوح انه لم يحظ بتعليم عال برغم مولده في مدينة جامعية، ومن ثم لم تطهره الدراسات الكلاسيكية ولا زحمته، واضطر إلى التقاط معرفته بالحياة من العيش فيها. وأول ما نملك من الحقائق عنه بعد سجل عماده أن معلما من مدريد نشر عام 1569 مجلدا احتوى ست قصائد بقلم »تلميذنا العزيز المحبوب« سرفانتس. وفي سبتمبر من تلك السنة قبض على المدعو ميجل دي سربانتس بتهمة الاشتراك في مبارزة، ونفي من أسبانيا عشر سنوات يعاقب دونها بقطع يده اليمنى. وفي ديسمبر نجد فنانا ميجل يخدم في بيت كبير من رجال الكنيسة في روما. وفي 16 سبتمبر 1571 نرى ميجل هذا، ربما مدفوعا (مثل كامؤنش) بتفضيل الخدمة العسكرية فرارا من السجن، مبحرا من مسينا على السفينة »ماركيزا« في أسطول دون جوان النمساوي. وحين التحم الأسطول بالترك في ليبانتو كان سرفانتس مريضا بالحمى في عنبر سفينته، ولكنه وضع على رأس اثني عشر رجلا في زورق إلى جوار السفينة لأنه أصر على لعب دوره، وأصيب بثلاثة جروح من طلقات نارية، جرحين في صدره والثالث أعجز يسراه عجزا مستديما-»لنصرة الحق« على حد قوله. وأعيد إلى المستشفى بمسينا ودفعت له الحكومةالأسبانية اثنتين وثمانين دوكاتية. ثم شارك في معارك حربية أخرى- في نافارينو، وتونس، وجوليتا (لاجوليت). وأخيرا سمح له بالعودة إلى أسبانيا، ولكن قرصان البربر أسروه هو وأخاه رودريجو في رحلة العودة إلى الوطن (26 سبتمبر 1575) وباعوهما في سوق الرقيق بالجزائر. واقنعت الرسائل التي حملها من دون جوان وغيره آسريه بأنه رجل ذو حيثية، فطلبوا عنه فدية كبيرة. وظل ميجل أسرا خمس سنوات مع ان أخاه أطلق سراحه في عام 1577. وحاول الهروب غير مرة. ولكنه لم يجن من محاولاته غير تشديد النكير عليه. وصرح الداي وهو الحاكم المحلي، بأنه »إذا استطاع أن يؤمن حراسة ذلك الأسباني المعطوب الذراع فقد أمن عاصمته وعبيده وسفنه (17)« وكافحت أمه لتجمع الخمسمائة كراون التي طولب بها للافراج عنه، وضحت أخواته بمهورهن في هذا السبيل، وأخيرا (في 19 سبتمبر 1580) أفرج عنه، وبعد رحلة مضنية لحق بأسرة أمه في مدريد.

كان مملقاً عاجزاً، لذلك لم يكن أمامه من سبيل الرزق غير العودة إلى الانخراط في الجيش. وهناك من الدلائل ما يشير إلى أنه مارس الخدمة العسكرية في البرتغال والأزوره. ووقع في غرام سيدة نبيلة تصغره بثمانية عشر عاما ولا تملك غير أسمائها الكثيرة: كاتالينا دي بالاكيو سالازار إي فوزميديانو الإسكيفية. وتحت الحاح الحب والفاقة كتب سرفانتس رواية رعوية تسمى »غلاطية« باعها بمبلغ 1.336 ريالا (668 دولارا؟). وتزوجته السدة الآن (1584)، فقدم إليها ابنة غير شرعية وأقنعها بأن تربيها كأنها ابنتها، وكانت قد ولدتها له حسناء عابرة قبل سنة(18). أما كاتالينا نفسها فلم تنجب. وكانت تعنفه بانتظام على فقره، ولكنها ظلت وفية له فيما يبدو، وعمرت بعده، وحين ماتت طلبت ان تدفن إلى جواره.

ولم تأت غلاطية بمزيد من الريالات؛ كان رعاتها مسرفين في بلاغتهم. إلا حين ينطقون بالشعر، ومع أن سرفانتس كان ينوي كتابة بقية لها، ومع أنه ظل إلى النهاية يعتبرها اروع ما كتب، فإنه لم يجد قط الوقت أو الحافز لاتمامه. ثم جرب كتابة التمثيليات طوال خمسة وعشرين عاما، فألف نحو ثلاثين منها، وكان رأيه أنها ممتازة، وهو يؤكد لنا أنها »مثلت كلها دون ان يعرض عليه أي جزاء(19)« ولكن واحدة منها لم تستهو الجماهير أو تلمس عرقا من ذهب. لذلك ارتضى وظيفة متواضعة في إدارة تموين الجيش والبحرية (1587)، وسافر بصفته هذه إلى عشرات المدن تاركا زوجته في البيت. وقد ساعد في تموين الأرمادا الجبار. وفي عام 1594 عين جابياً لغرناطة. وسجن في أشبيلية لمخالفات في حساباته، وأفرج عنه بعد شهور ثلاثة، ولكنه طرد من خدمة الحكومية. ومكث عدة سنين في فقر مدقع بأشبيلية وهو يحاول الارتزاق من قلمه. ثم قبض عليه مرة أخرى في أرجا ماريللا وهو يجوب أسبانيا. وتقول الرواية أنه في سجنه وفي بؤسه واصل تأليف كتاب من أكثر الكتب مرحا في العالم. فلما عاد إلى مدريد باع لفرانسسكو دي روبلز مخطوطة »حياة ومغامرات دون كخوته دي لامانشا الأشهر« فنشرت عام 1605. وهكذا، وبعد ثمانية وخمسين عاما من الكفاح، بلغ سرفانتس شاطئ التوفيق.

ورحب كل الناس- عدا النقاد- بالكتاب مهرجانا من الفكاهة والفلسفة. وتقول رواية قديمة ان فيلب الثالث »لاحظ وهو واقف يوما بشرفة قصره في مدريد طالبا بيده كتاب على ضفة مانزاناريس المقابلة. وكان الطالب يقرأ، ولكنه بين الحين والحين كان يقطع قراءته ويلطم جبينه لطمات عنيفة تصحبها حركات لا حصر لها من النشوة والطرب. وقال الملك »إن الطالب إما ان يكون مجنوناً وإما إنه يقرأ... دون كخوته(20)«.

إن في هذه الصفحات الثمانمائة مآخذ كما في كل رائعة- فحبكة الرواية ليست غاية في البراعة- سلسلة من الأحداث المترابطة. تكشفها حكايات مقحمة غير متصلة بالموضوع، خلو من الخطة خلو الفارس الذي »يواصل سفره على ظهر جواده مرخيا له العنان ليمضي حيث شاء«. وبعض خيوط الحبكة متروك عند أطراف مفكوكة أو شديدة التعقيد، مثل ضياع حمار سانشو، وظهوره ثانية دون تعليل. ويصبح السرد بين الحين والحين مملا، والنحو غير دقيق، واللغة مفتقرة إلى الصقل. ويقول الجغرافيون إن جغرافية الرواية مستحيلة. ولكن ما اهمية هذا كله؟ فكلما مضينا في القراءة مشدودين بجذب لطيف خلال المعقول وغير المعقول، ازداد عجبنا من أن سرفانتيس استطاع وسط كل شدائده أن يجمع معا مثل هذا المشهد العريض من المثالية والظرف وأن يقرب قطبي الخلق الإنساني المتباعدين في مثل هذا التراكب المنير. أما الأسلوب فهو ما ينبغي أن يكون عليه أسلوب قصة طويلة-لا سيل مرهق من البلاغة، ولكن جدول صاف جار، يتألق هنا وهناك بعبارة حلوة، كقوله »كان له وجه كالبركة(21)« وأما القدرة على اختراع الأحداث فتمضي إلى النهاية، واما معين أمثال سانشو فلا ينضب، وآخر قطعة من الفكاهة او التفجع لا تقل جمالاً عن أولها. هنا، في هذا »التاريخ الجاد أعظم الجد، المجلجل، الدقيق، الناعم، الفكه« على حد قول سرفانتيس، نلتقي بحياة أسبانيا وشعبها، موصوفين بحب يبقى بعد أن ينقضي عدم التحيز، وبمئات التفاصيل الصغيرة التي تخلق هذا الكل الملهم، وتفعمه بالحياة.

ويلجأ سرفانتس إلى حيلة قديمة فيزعم لنا أن »تاريخه« مأخوذ عن مخطوطة لمؤلف عربي سماه السيد حامد بن أنجلي. وتفصح المقدمة عن هدفه، وهو أن يصف في »هجو للفروسية الجوابة... سقوط ودمار ذلك الكوم البشع من روايات الفروسية... التي افتتن به أكثر الناس على نحو عجيب«. وقد فعل تشوسر مثل هذا في حكايات كنتربري (»شعر السر توباس«)، ورايليه في »جرجانتوا«، وبولتشي في »المورجانتي مادجوري«، وهزأ تيوفيلو فولنجو وغيره من شعراء التخليط بين اللاتينية واللغة القومية بالفرسان، وسخر أريوستو في أورلندو فوريوزو« من أبطاله الرجال والنساء. على أن سرفانتس لا يرفض روايات الفروسية جملة، فهو ينقذ من النار بعضها، ومثل » روايته »غلاطية«ن وهو يدخل في قصته بعض مغامرات الفروسية. ونرى في نهاية القصة أن هذا الدون الفارس، بعد عشرات الهزائم والضربات المخزية، وهو بطل القصة الخفي.

وبصوره سرفانتس سيدا ريفيا خصب الخيال، أذهلته القصص التي جمعها في مكتبته، فدجج نفسه بالسلاح من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وارتدى سترة الفارس وخرج على فرسه روزاننتي ليذود عن حياض المظلومين ويصلح الفساد ويحمي العذارى والأطفال. أنه يمقت الظلم ويحلم بماض ذهبي يوم لم يكن هناك ذهب، »يوم كانت هاتان الكلمتان القتالتان »مالي« فوارق مجهولة، كل الأشياء كانت مشتركة في ذلك العصر المقدس... كله كان تآلفا واتحادا، كله كان حبا وصدقة في الدنيا«(22). وجريا على قواعد الفروسية ثراء يكرس سلاحه، لا بل حياته، لسيدة نبيلة تدعى دولتسينيا ديل توبوزو. ومع أن عينه لم تقع عليها قط، فقد كان في وسعه ان يتصورها تجسيداً كاملاً للطهارة المحتشمة والجمال الرقيق. »نحرها مرمر، وثدياها رخام، ويداها عاج. والثلج ينكسف بياضه إذا دنا من صدرها«(23) أما وقد ملأه هذا الرخام صلابة، وبعث فيه هذا الثلج دفئا، فهو ينطلق ليهاجم عالما حفل بالشرور. وهو في هذه المعركة غير المتكافئة لا يشعر بأن أعداءه أعز منه نفرا »فأنا وحدي أعدل مائة منهم« وبينما يلازم سرفانتس ذلك »الفارس ذا الوجه البائس« متنقلا بين الفنادق الصغيرة وطواحين الهواء، بين المصارف والقذرة والخنازير المذعورة، تنتهي به الصحبة إلى حبه قديساً كما يحبه مجنوناً، وفي كل هذه المغامرات الفاشلة والكبوات الأليمة يظل الدون المثال الحي للأدب والعطف والسماحة. وأخيرا يتغير المجذوب على يد خالقه، فيصبح فيلسوفا يتحدث-حتى وهو يتردى في الوحل-حديثا عاقلا سويا، ويغفر الإساءات للدنيا التي عجز عن فهمها، ثم يغيظنا من سرفانتس أنه يواصل خبطه وتحطيمه التزاما بخطته المرسومة. ثم نعطف على الفارس الذي ينقشع الوهم عن عينيه حين يؤكد له سانشو إن الدولتسنيا ديل توبوزو الوحيدة التي تعرفها بلدتها ليست سوى »خادمة متمنطقة«، هي صبية بدينة، مفتولة العضل، مسترجلة، من أصل متواضع. ويجيب الفارس بحكمة ذهبية، فيقول لسانشو، »إن الأصل يشرف بالفضيلة، إنما أصل الفتى ما قد حصل«(25).

والشيء الذي يفتقر إليه الدون هو روح الفكاهة، وهو خير جوانب الفلسفة. ومن ثم يعطيه سرفانتس تابعا مرافقا أصله عامل من عمال المدينة الأقوياء، وابن من أبناء الريف، هو سانشوبانزا، ويؤمن الفارس خدماته بأن يعده بالطعام والشراب، ويحكم ولاية في الممالك التي يزمعان فتحها. فأما سانشو فرجل ذو إدراك بسيط وشهية طيبة، يظل محتفظا بسمنته إلى آخر صفحة في القصة برغم إشرافه دائما على الموت جوعا، إنسان كريم النفس يحب بغلته كأنها »نفسه الثانية« ويقدر »عشرتها الحلوة«، أن ليس الفلاح الأسباني النموذجي، فهو سخي في النكتة زاهد في الوقار، إنما هو-كأي اسباني تحرر من سعار اللاهوت-طيب القلب محب للخير، حكيم دون ثقافة او تعليم، وفيّ لسيده في دنيا العذاب هذه وسرعان ما ينتهي إلى أن الدون رجل مجنون، ولكنه هو أيضاً ينتهي إلى أن يحبه، يقول في ختام القصة »لقد لازمت مولاي الطيب وصاحبته هذه الشهور الطوال، والآن اصبحنا نحن الاثنين واحداً«(26)، وهذا حق، لأنهما ليسا سوى جانبين لإنسانية واحدة.أما الفارس فينتهي هو أيضاً إلى احترام حكمة تابعة لأنها اعمق جذورا إن لم تكن نبيلة كحكمته. ويعبر سانشو عن فلسفته بأمثال يقفو بعضها بعضا حتى لتكاد تخنق تفكيره: »إن الدجاجة والمرأة تضيعان إذا سرحتا، »بين قول المرأة نعم وقولها لا، لا أوافق على أن اضع سن دبوس، فالواحد منهما قريب جداً من الآخر«، إن الطبيب يبذل نصيحته بجسه نبض جيبك«، »كل إنسان كما صنعه الله، وكثيرا ما يكون أسوأ«(27) ولعل سرفانتس استعمل مجموعة مختارة من هذه الأمثال التي عرفها بأنها »عبارات قصيرة صيغت من خبرة طويلة«(28) ويعتذر سانشو عن هذا »الاسهال« في الحكم بأن هذه المأثورات تسد حلقه ولا بد أن تنطلق، بترتيب ورودها على خاطره. ويستسلم الدون لهذا الفيض الدافق فيقول »حقا، يبدو انك لست أعقل مني... أشهد انك انسان مختلط العقل، إنني اصفح عنك، وقد فعلت«(29).

كان للتوفيق الذي أصابته »دون كيخوته« الفضل في ظفر سرفانتس براعيين لأدبه، الكونت ليموس وكردينال طليطلة، أجريا عليه معاشا صغيرا يسر له أن يعول زوجته، وابنته غير الشرعية، وأخته الأرملة، وابنة أخته. وبعد شهور من نشر كتابه قبض عليه هو وكل أفراد أسرته لشبهة اشتراكهم في مقتل جاسباردي ازبليتا على باب بيت سرفانتس. وأرجفت الشائعات بأن جاسبار كان يعشق ابنته، ولكن التحقيق لم يسفر عن شئ، فأفرج عنهم جميعا. ومضى سرفانتس يكتب الجزء الثاني من »دون كخوته« في غير عجلة. وفي عام 1613 قطع هذا الجهد المحبب بنشر اثنتي عشرة قصة »مثالية جديدة« جاء في مقدمتها »لقد وصفت هذه القصص بأنها مثالية، ولو تأملها القارئ لما وجد فيها قصة لا تعطيه مثالا نافعا«(30). وأولهما قصة عصابة من اللصوص تعمل في انسجام مثالي مع رئيس شرطة اشبيلية، وقصة أخرى اسمها »ندوة الكلاب« تصف سلوك تلك المدينة واخلاقها. وفي التمهيد للمجموعة صور سرفانتس نفسه بهذه العبارات: إن الرجل الذي ترونه هنا بمحياه النسري، وشعره الكستنائي، وجبينه الهادئ الطلق، وعينيه اللامعتين، وأنفه المعقوف المتناسب، ولحيته الفضية التي كانت ذهبية منذ أقل من عشرين عاما، وشاربه الكبير... واسنانه التي لا تستحق الاحصاء، وقامته الريعة؛ وكتفيه طفيفي الانحناء، وبنيته الثقيلة بعض الشىء... أجيز لنفسي أن أقول لكم إنه مؤلف »غلاطية« و »دون كخوته دلا مانشا«)31).

ولكنه فوجئ عام 1614 بظهور الجزء الثاني من »دون كخوته«، لا بقلمه، بل بقلم سارق مجهول انتحل اسم »أفيللانيدا«. وقد هزأت المقدمة من جراح سرفانتس، وطربت للحيلة المتقنة التي ستقضي على جزء سرفانتس الثاني. وعجل الكاتب المنزعج بانجاز كتابه ونشره عام 1615، وابتهج القراء الأسبان حين وجدوا هذه التتمة ترقي إلى مستوى الجزء الأول خيالا وقوة ومرحا، ففي كل هذه الصفحات الخمسمائة الجديدة احتفظ الكاتب بتشويقه للقارئ حتى النهائية، وهي نهاية حزينة ان لم تكن أليمة، وبدا للبعض أن حظ الدون وتابعه العاثر في بلاط الدوق، وملك شانسو على ولايته، والقصة المؤلمة التي روى فيها كيف ضرب عجزه- كل هذا من شأنه أن يجعل الجزء الثاني هو النصف الأفضل. فحين يولي سانشو حاكما على باراتاريا يتوقع الكل منه أن يتجاوز كل ما اثر عن الحكام من حماقات. ولكنا نجد على النقيض من ذلك أن طيبته وفطنته، وأن نظمه واصلاحاته البسيطة العادلة؛ وأن قراره الحكيم في دعوى هتك العرض(32)-كل هذا يخجل واقع الحكم المعاصر له. ولكن قوي البشر الذي لا يعرف رحمة ولا هوادة تطغى عليه؛ وأخيرا ترهقه ارهاقاً يكرهه على التخلي عن منصبه والعودة مرتاحاً إلى حياته تابعا للدون.

ولا يبقى بعد ذلك إلا أن يهرب الفارس مثل هذا الهرب من دنيا الأحلام إلى دنيا الواقع. إنه يخرج في طلب المغامرات الجديدة، ولكنه يهزم هزيمة عارمة؛ ينتزع المنتصر فيها تعهدا منه بأن يمضي إلى داره ويعيش سنة في هدوء لا شأن به بالفروسية. ويوافق المحارب المتعب، ولكن تبدد أوهامه يجفف ينابيع حياته. فيرسل في طلب أصدقائه إلى جواره، ويوزع الهدايا عليهم؛ ويكتب وصيته، وينبذ الفروسية الطوافة الباحثة عن المغامرات، ويدع روحه تنحسر انحسارا شديدا. ويعود سانشو إلى اسرته؛ ويفلح حديقته قانعا قناعة رجل خير من الدنيا ما يكفي ليجعله عارفا بقدر بيته. وفي النهاية يلوح أن هذه الواقعية الطيبة تنتصر على مثالية مولاء المغرقة في الأوهام برغم سماحتها. ولكن الأمر في حقيقته غير هذا. فروح الفارس هي صاحبة الكلمة الأخيرة في القبرية التي أوصى بأن تكتب له. »إذا كنت لم أحقق جلائل الأعمال فإنني مت في سبيلها«. وهكذا يتبين أن الواقعي يعيش إلى أن يدركه الموت؛ ولكن المثالي يبدأ عندها الحياة.

ونشر سرفانتس في السنة التي بقيت له في أجله ثماني تمثيليات، ولم يؤيد الزمن تقديره لها، ولكنه قدر تقديرا عظيما »لانومانسيا«ن وهي قصيدة تمثيلية فيها قوة وفيها جمال، تحي ذكرى مقاومة تلك المدينة الأسبانية للحصار الروماني (133 ق.م). وكان له كفارسه وهمه الذي يسنده؛ فظن أن الأجيال القادمة ستكرمه أولاً لتمثيلياته، وتكلم في غيرة لا تليق به وإن غفرناها له عن لوبي دي فيجا الذي وفق توفيقاً هائلاً، ثم كتب وهو يحتضر تقريباً، قصة أخرى من قصصه بعد أن هزأ بأكثر الروايات الغرامية »برسيليس وسجموندا«. وقبل أن يموت بأربعة أيام أهداها إلى كونت ليمور قائلا:

»مسحت بالأمس المسحة المقدسة الأخيرة، واليوم أخط هذا الإهداء، ليس في الوقت متسع، وعذابي يزيد، والآمال تتضاءل... فوداعاً للمزاح إذن، وداعاً فكاهاتي البهيجة، وداعاً أصدقائي المرحين، لأنني أشعر بأنني أموت، ولا أمنية لي إلا أن أراكم سعداء في الحياة الأخرى(33). ومات في 23 ابريل 1616 .

كان قد تنبأ على طريقته « المميزة أن كتابه »دون كخوته« سيباع منه ثلاثون مليون نسخة. وابتسم العالم لسذاجته، ثم اشترى ثلاثين مليونا. لقد ترجمت القصة العظيمة إلى لغات أكثر من أي كتاب باستثناء الكتاب المقدس. وفي أسبانيا يعرف أبسط القرويين من هو دون كخوته، وهو عموما، خارج الكتاب المقدس أيضاً، »أكثر شخوص الأدب كله حياة وفتنة وشهرة(34)«، وأكثر واقعية من ألف علم من أعلام التاريخ المستكبرين. وقد استطاع سرفانتس، بجعل قصته هذه صورة لآداب السلوك، أن يرسى أساس الرواية الحديثة، ويفتح الطريق لقصاصين مثل لوساج، وفيلدنج، وسموليت، وستيرن، ورفع هذا اللون الجديد إلى مقام الفلسفة إذ جعله يكشف عن طبائع البشر ويلقي الضوء على ما خفي من أخلاقهم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- الشعراء

إن رنين اللغة القشتالية الفحل، مثله مثل جمال الإيطالية التسكانية الرخيم، أسلم نفسه مختاراً للموسيقى والقافية، واستجابت روح الشعب للشعر بطبعها أكثر من استجابتها للنثر. وكثر الشعراء كثرة القساوسة. وفي قصيدته غار أبوللو (1630) وصف لوبي دي فيجا مهرجانا للشعر وتنافسا عليه اقتتل فيه، في خياله. شعراء أسبانيا المعاصرة الثلاثمائة على اكليل الغار. وكاد إقبال الشعب على هذه المباريات الشعرية يعدل إقباله على حرق المهرطقين. كانت هناك قصائد تعليمية منومة، وعظات دينية بالشعر، وروايات غرامية منظومة، وشعر رعوي، وشعر ساخر من البطولة، وقصائد قصصية، وشعر غنائي، وملاحم. ولم يؤت كل المؤلفين شجاعة فرانسسكو دي فيجوبروا، الذي حكم على أشعاره بالحرق لما فيها من هرطقات.

أما أروع الملاحم فملحمة »لاأروكانا« (1569-89)، التي تصف ثورة قبيلة هندية في امريكا الجنوبية، كتبها الونسو دي ارسيللا إي زونيجا الذي أبلى بلاءً حسناً في تلك الحرب وهو جندي أسباني. وربما كان أبدع الشعراء الغنائئين راهباً أوغسطينياً اسمه لويس بونسي دي لوين، لم يمنعه بعض الدم اليهودي الذي اختلط بدم اسلافه من تصوير أرق جوانب التقوى المسيحية، وأعجب منذ لك جمعه بين الشاعر واللاهوتي، ففي سنته الرابعة والثلاثين عين أستاذا للإلاهيات في جامعة سلامانكا، وما برح طوال حياته متعلقاً بهذه الجامعة، ومع ذلك لم تمنعه جهوده الدراسية وحياة النسك من التحليق في أجواء الشعر الغنائي. ودعته محكمة التفتيش لتحاكمه (1572) على ترجمة نشيد الإنشاد إلى شكل من اشكال الحوار الرعوي. واحتمل عذاب السجن خمس سنين، فلما أفرج عنه استأنف محاضراته في الجامعة بهذه الكلمات الساخرة »لاحظنا في آخر لقاء لنا...(35)« وقد وافق رؤساءه على أن قرض الشعر لا يليق برجل اللاهوت، فترك قصائده دون نشر، ولم تصل إلى المطبعة إلا بعد موته بأربعين سنة. وهي بالاجماع أقرب إنتاج اللغة القشتالية إلى الكمال.

وكان لويس دي جونجرا وفرانسسكو جومز دي كويفيدو أي فيلليجاس لا يزالان يفوقانه شهرة لأنهما أثارا الضجيج بالجدل كما أثاراه بالشعر، وخلفا بعدهما مردستين متفائلتين هما الجونجورية والكونسبتية، باعتبارهما فلسفتين من فلسفات الأسلوب. وقال سرفانتس-الذي لم يبخل بكلمة ثناء على كل منافسيه فيما عدا لوبي وأفيللانيدا- في وصف جونجورا إنه »عبقري نادر، مثير، لا ثاني له(36)« وفي هذا المقطع من قصيدة الشاعر القصصية »إلى الأرمادا« نلتقط صدى بعيدا لصيحة الكراهية والحقد:-


»إيه أيتها الجزيرة!



كنت يوماً وفية للكثلكة، قوية البأس،



حصناً للإيمان انقلب هيكلا بغيضا للهرطقة،



كنت معسكراً للحرب المدربة، ومدرسة للحكمة المقدسة،


أتى عليك زمن كان فيه هذا الجلال جلالك



وتغنى الشعراء أول ما تغنوا ببيرق تاجك،



أما الآن فالأعشاب الكئيبة التي تبنت عند بركة الجحيم



تصلح أكليلاً لك. يا وطن الكمأة



من كل أرثر، وإدور، وهنري! أين هم اليوم منك؟



أين أمهم التي سعدت يوماً ببأسهم



وثبتت في قوة الإيمان؟ إيه يا جزيرة المرأة



التي تحكمك الآن، لقد قضى عليك بالعار الأبدي



أيتها الملكة البغيضة يا قاسية القلب عابسة الجبين



أيتها الفاجرة الصارمة الشرسة الداعرة،



يا امرأة تربعت على العرش، يا لعنة الفضيلة الصادقة



يا شبيهة الذئبة في كل طباعها،



لتمطر السماء على ضفائرك الكاذبة لهيبها العادل(37)


هنا قلم جدير بالتودد له. لا عجب إذن أن جعل فليب الرابع هذا الشاعر الناري (الذي أصبح الآن قسيسا) كاهنه الملكي الخاص، فربط مواهبه بالعرش. وجهد جونجورا ليكتسب نعومة الأسلوب ودقة العبارة. وأعلن الحرب على الكتابات المتعجلة ككتابة لوبي دي فيجا، وأصر على وجوب تهذيب كل بيت من الشعر وتصفيته وصقله ليكون حجرا كريما. ولكنه في تحمسه غالي فجعل من الفن صنعة وتكلفا، واثقل أبياته بالكثير المسرف من الاستعارات، والنعوت، والتقديمات والتأخيرات، والطباقات، حتى بز لايلي في تأنقه وفاق ماريني في تكلفه. أنظر إليه يقول في مفاتن صبية يخلب حسنها الالباب:


عيناها التوأمان اللامعتان كالشمس



تحيلان صقيع النرويج صيفا،



وتلك العجيبة البيضاء، يدها الناصعة كالثلج،


تجعل الحبشي يبيض دهشة وذهولا،


وأنقسم شعراء الاسبان الآن معسكرات ثلاثة، ففريق اتبع الجونجورية (أو الكولتيه)، وفريق اعتنق مذهب كويفيدو (الكونسبتية)، وفريق ثالث قاوم الوبائين كما فعل لوبي ذي فيجا.

أما كويفيدو فقد نال في »القلعة« مراتب الشرف في القانون، واللاهوت، اللاتينية، واليونانية، والفرنسية، والعربية، والعبرية، والمبارزة. وكان برغم قصر بصره وتشوه قدميه رهيباً بسيفه وقلمه على السواء، وكانت هجائياته بتارة كحسامه. وقد فر إلى صقلية ونابلي بعد أن قتل عدداً من غرائمه. وحين بلغ الخامسة والثلاثين تقلد هناك وزارة المالية. وشارك في مؤامرة أوزونا على البندقية (16189، فلما فشلت أودع السجن ثلاث سنين. وعاد بعدها إلى مدريد، فلم تسكته وظيفة شرفية هي وظيفة السكرتير لفليب الرابع، وراح يسلق بشعره الحاد الملك والبابا وأوليفاريس والنساء والرهبان. وفي كتيبه المدقع »الكلب والحمى« (1615) نبح كل شيء، وأطلق على الكل عاصفة من الأمثال أكثف من أمثال سانشو بانزا وأشد لذعاً، وكانت نصيحته التي لم يعمل بها قط أن يقف المرء بعيدا عن المعركة و»يدع القاذورات تمر«(38). ولما أعوزه الخصوم والأهداف، هاجم »كوليتة« الجونجوريين، وعارضها بـ »الكونسبيتيه«، وقال إن الشاعر، بدلا من تصيد العبارات والألفاظ الخيالية، أن يبحث عن الافكار - لا الافكار العامة الظاهرة التي أبالها الزمن أو لوثها الإبتذال، بل المفاهيم الدقيقة، الحليلة، النبيلة، العميقة.

وقد اتهم ظلما بكتابة تنبه الملك إلى ضرورة الكف عن التبذير، وطرد وزرائه العاجزين. فأودع زنزانة رطبة خمس سنين، ولما أفرج عنه كان رجلا محطما، فلم يعش بعدها غير ثلاث سنين (1645). إنه لم يعش حياة أدبية هادئة مطمئنة، بل حياة كان فيها المداد دما، والشعر جريا، وإذ شارف نهايته أنذر بلاده بأنها هي ايضا في طريقها إلى الموت:


رأيت أسوار وطني



تتداعى بعد منعتها،



لقد أوهن من قواها اسلوب هذا الجيل الجديد



الذي ابلى كل جليل وأفسده،



مضيت إلى الحقول حيث رأيت



الشمس تلتهم مياه الثلوج الذائبة،



وفوق التلال تنبش الماشية النائحة الأرض،



لقد سلبني شقاؤها ضياء النهار،



ومضيت إلى بيتي فرأيت كيف افسدت



الاشياء القذرة البالية هذا البيت القديم،



لقد تقوس عكازي الذاوي الذي أتوكأ عليه



واحسست أن الشيخوخة انتصرت، رأيت سيفي صدئاً



ولا شيء تقع عليه العين



غلا ذكرني بالنهاية.(39)


4- لوبي دي فيجا 1562 - 1635

كثر كتاب المسرحية في ذلك العصر النشيط كثر الشعراء. كان المسرح هنا، شأنه في إنجلترا المعاصرة، بدعة مرتجلة إلى ذلك الحين، فالممثلون الجوابون يسرحون بفنهم على المدن مفلسين، ومحكمة التفتيش تصدر حظرا على جميع التمثيليات (1520) في كفاحها للهيمنة على جلافة تمثيلياتهم الفكاهية فلما أصبحت مدريد مقرا للملك (1516)، استأذنت فرقتان تمثيليان الملك في الاستقرار فيها، فأذن، ورفع الحظر الكنسي (1572)، وبنى مسرحان، تياترو دلاكروز (مسرح الصليب) وتياترو دلبرنسيبي (مسرح الملك) - يعبر الاسمان عن أهم ولاءات اسبانيا وأقواها. وما وافى عام 1602 حتى قامت المسارح أيضا بلنسية، واشبيلية، وبرشلونة، وغرناطة، وطليطلة، وبلد الوليد، وفي عام 1632 كان في مدريد ألف ممثل، وفي قشتالة ستة وسبعون من الكتاب المسرحيين، وكن الخياطون والباعة والرعاة يكتبون التمثيليات. ولم تحل سنة 1800 حتى كانت أسبانيا قد استمعت إلى ثلاثين ألفا من مختلف التمثيليات. ولا يذكر التاريخ بلدا آخر، حتى إنجلترا الاليزبيثية، انتشى بمثل هذه النشوة المسرحية.

وتطور شكل المسرح من الأفنية - المحاطة بالبيوت والمواقف المؤقتة - التي كانت تمثل فيها المسرحيات الأولى؛ وصممت المسارح الدائمة صفوفا من المقاعد وألواحاً تحيط بمكان مسيج، وكانت الملابس أسبانية أياً كان مكان التمثيلية أو زمانها، ولا نظارة خليطاً من جميع الطبقات، والنساء يختلفن إلى المسرح ولكنهن يجلسن في قسم خاص بهن ويلبسن الاقنعة الثقيلة. وكان الممثلون يعيشون عيشة قلقة هبطت بمعنوياتهم، بين المجاعات والولائم، يتعزون عن الفاقة والتشرد بالفوضى وحلو الاماني. ونال بعض »النجوم« الذكور من الثراء والشهرة ما أدار رؤوسهم، فراحوا يختالون في أهم شوارع مدريد وهم يصلحون سيوفهم ويفتلون شواربهم، ونامت بعض كبريات المغنيات مع الملوك في مضاجعهم. أما ملك المسرح الاسباني فهو لوبي فيلكس دي فيجر كاربيو. ففي عام 1647 اضطرت محكمة التفتيش إلى حظر»قانون إيمان« منشور مطلعه »أؤمن بلوبي دي فيجا ضابط الكل، شاعر السماوات والأرض«(40) ولعل كاتبا آخر في التاريخ لم يحظ بمثل هذه الشهرة في جيله. ولم يقتصر معظم هذه الشهرة على أسبانيا دون غيرها من الاقطار إلا لصعوبة ترجمة الشعر المقفى، ولكن حتى مع هذا القيد كانت مسرحياته تمثل بالاسبانية في نابلي وروما وميلان، وانتحل اسمه في فرنسا وإيطاليا لمسرحيات لم يكتبها، وذلك اغراء للجماهير بحضورها.

ولد في مدريد قبل مولد شكسبير بعامين لأسرة فقيرة ولكنها - كما يؤكدون - عريقة. فلما ناهز الرابعة عشرة هرب من البيت والمدرسة وتطوع في الجيش وشهد بعض المعارك الدامية في الازورة. ثم أحب، ولكنه أنقذ نفسه دون ان يصاب بجراح طفيفة، وكتب »ابجرامات« سافلة في حق السيدة النبيلة، فقبض عليه بتهمة القذف، ونفي من مدريد. ولكنه تسلل إلى المدينة، وفر مع ايزابيل دي أوربينا، وتزوجها، فطورد، والتحق بالارمادا تهربا من القانون. وقد شارك في هزيمة الاسطول، ومات أخوه القتيل في المعركة بين ذراعيه. وتركه موت زوجته حرا ولكنه تورط في مشاكل أخرى. فقد انجب طفلين من الممثلة ميكالا دي لوخان(41)، وتزوج ثانية، واصبح موظفا في محكمة التفتيش (1609)، ثم فقد زوجته الثانية، ورسم قسيسا (1614؟) ووقع في أكثر من غرام(42).

أما أسبانيا فقد اغتفرت له خليلاته لقاء مسرحياته. فقد كتب منها زهاء ألف وثمانمائة، بالإضافة إلى أربعمائة »فصول مقدسة« قصيرة تمثل في الاحتفالات الدينية. وذاع عنه أنه ألف عشر تمثيليات في أسبوع واحد، وتمثيلية قبل الفطور، وتقهقر سرفانتس يائسا امام هذا السيل الجارف، وسمى منافسه »وحش الطبيعة«. كان لوبي »كوميديا فنية« في ذاته؛ فهو يؤلف المسرحية وهو يرتجلها. وإذا كان ينجب بمثل هذه الخصوبة المستهترة، فأنه لم يزعم لنفسه تفوقا في الفن أو الفلسفة. وقد اعترف بلطف في كتابه »الفن الجديد في كتابة المسرحيات« انه إنما يكتب ليرتزق، ومن ثم فهو يزود الجمهور بما يروقه(43). وما كان ليطبع تمثيلياته لولا قراصنة الناشرين الذين درجوا على ايفاد رجال ذوي ذاكرة معجزة إلى حفلاته، وكان في استطاعة هؤلاء الرجال بعد الاستماع إلى المسرحية ثلاث مرات أن يتلوها عن ظهر قلب ويقدموا نصا محرفا للناشرين الذين لا يدفعون للمؤلف فلسا واحدا. وذات مرة أبت فرقة لوبي أن تمضي في تمثيل المسرحية ما لم يطرد عجيبة من عجائب الذاكرة هؤلاء خارج القاعة(44) - فنشرها قد يهبط بعدد روادها. على أن لوبي نشر في عناية وحب رواياته الشعرية - اركاديا« وسان ايسيدرو، واورشليم المفتوحة، ولاهور موسورا دي أنجليكا، ولا دوروتيا، وكلها مشجية متوسطة الجودة.

والحبكة في مسرحياته هي كل شيء، أما الشخوص فقلما تحظى من مؤلفها بدراسة وثيقة، ويخيل للمرء أنه يصدق على هذه المسرحيات ما قاله ثورو في الصحف - وهو أنك لو غيرت أسماءها وتواريخها لا أكثر، لوجدت المحتوى دائماً هو هو. فالقصة تدور في كل الحالات تقريباً حول عاملين: الدفاع عن العرض، ثم من يضاجع السيدة. أما جمهور النظارة فلم يكن يمل قط من معالجة الموضوع الثاني في صور متنوعة، لأنه حرم ممارسة أي من صوره هو. وكان خلال ذلك يستمتع بالفكاهة العارضة،والحوار لذكي، والشعر العاطفي الذي يتدفق سريعا رشيقا من أفواه النساء الحسان والرجال البواسل. وهكذا اتخذت روح الرومانسيات، التي لم تنقرض قط، حياة جديدة على المسرح الأسباني.

وأشهر مسرحيات لوبي هي »نجمة إشبيلية«. ففي هذه المسرحية يفد سانشو الشجاع ملك قشتالة على إشبيلية، فيطري بهاء شوارعها، ولكنه يطلب إلى مستشاره أرياس أن يزيده حديثا عن نسائها بنوع خاص:

»الملك: ثم نساؤها ذوات الحسن السماوي، لم لا تحدثني عنهن؟ ...قل لي، ألا تلتهب عواطفك ببهاء مفاتنهن؟ أرياس: أن الدونا ليونور دي بييرا بدت لي كأنها السماء المنيرة ذاتها، ففي وجهها أشق ضياء شمس الربيع. الملك: إن في وجهها شحوباً كثيراً ... أريد شمساً تحرق ولا تجمد. أرياس: إن المرأة التي ألقت إليك الورود هي الدونا منثيا كورونيل. الملك: سيدة جميلة، ولكني رأيت أجمل منها... واحدة منهن تفيض حسنا ولم تذكرها ... فمن تلك التي لفتت نظري من شرفتها، فخلعت لها قبعتي؟ من هي التي أرسلت عيناها البرق كصواعق جوبيتر وراشت سهامها الفتاكة في قلبي ؟ أرياس: اسمها الدونا ستيللا تابيرا، وتسميها اشبيلية نجمتها إطراء لها. الملك: وقد يخلق بها أن تسميها شمسها ... لقد قادني نجمي الهادي إلى اشبيلية ... فكيف السبيل إلى رؤيتها والتحدث إليها ايها الدون أرياس ؟

يا له من حلم تضطرم له أعماق نفسي!«(45)

على أن ستيللا تشق الدون سانتشو أورتيث، وهي تفرض في غضب ما عرضه عليها أرياس من السماح للملك بالتمتع بـ »حق السيد«. ولكن أرياس يرشو الخادمة لتدخل الملك إلى مخدع مولاتها، ويدخل بوستوس شقيق ستيللا الوفي في اللحظة التي يجب فيها الدفاع عن العرض، فيكف الملك، ويكاد يقتله، ولكنه إجلالاً لمنصبه يخلي سبيله، مزدري ولكن دون أن يمسه سوء. وبعد ساعة يشهد الملك جسد الخادمة التي قبلت الرشوة مشنوقا فوق سور قصره. ويرسل في طلب أورتيث، ويسأله هل ولاءه لمليكه لا يعرف الحدود، فيلتقي جواباً فخوراً مرضيا، ومن ثم يأمر بقتل بوستوس. ويلتقي أورتيث بوستوس ويتسلم منه رسالة من ستيللا تقول إنها تبادله الحب وتقبل تودده، فيشكره، ثم يقتله، ويكاد يختلط عقله، ويخشى الملك ثورة الشعب، فيخفي عنه أن اغتيال بوستوس كان بأمر منه. ويقبض على أورتيث ويكاد يعدم لولا أن ستيللا تجد الوسيلة لإطلاقه. ولكن القصة لا تنتهي نهاية سعيدة، فقد اتفق العاشقان على أن القتل قد سمم غرامهما إلى الأبد.

لقد أصبح لوبي معبود مدريد بعد أن أخرج ألف مسرحية من هذا النوع. وأغدق عليه الخاصة والعامة الاعجاب، وبعث إليه البابا بصليب مالطة ودرجة الدكتوراه في اللاهوت. وكان إذا خرج إلى الشوارع تزاحمت حوله الجماهير التواقة للقائه، وقبلت النساء والأطفال يديه طالبين منه البركة. وأطلق اسمه على كل شيء تميز في بابه: فهناك خيل لوبي، وشمام لوبي، وسيجار لوبي(46). اما الناقد الذي يجد فيه عيبا فيعيش كل يوم في خوف الموت على يد أنصار الشاعر الأوفياء. على أنه لم يكن سعيدا برغم هذا كله. كان ينقد أجرا لا باس به عن مسرحياته، ولكنه ينفق أو يهب ماله بمجرد كسبه، وبعد أن أصاب هذا التوفيق الكثير أدركه الفقر واضطر إلى التماس المعونة من فليب الرابع-الذي أرسل له مهرا سخيا برغم إفلاسه. ولكن أحزانه كانت أفتك به من فقره. فقد دخلت ابنته مارثيلا الدير، والتحق ابنه لوبي بالبحرية وغرق، وهربت ابنته انطونيا مع كريستوبال تونوريو آخذة معها عددا كبيرا من تحف أبيها القيمة. وتبرأ منها لوبي، وهجرها كريستوبال. ووقر في نفس لوبي أن هذه المحن ليست سوى عقاب من السماء على آثامه، فحبس نفسه في حجرة وأضعف جسده بفرط الصيام حتى تلوثت الجدران بدمه. وفي 23 أغسطس 1635 نظم آخر قصائده »السجلو دي أورو« (القرن الذهبي) ومات بعد أربعة ايام وقد بلغ الثالثة والسبعين. ومشت تصف مدريد في مشهده الذي عرج على الدير ليمكن ابنته من أن تقرئه تحية الوداع من نافذة صومعتها. وهكذا مُثَّل تمجيد الناس له على هذا المسرح الشعبي الكبير.

إننا لا نستطيع أن نعتبره ضريباً لشكسبير كما فعل فولتير. ولكننا تقول فيه إنه بعبقريته العامة، وشعره الجياش، وشخصيته المحببة المشرقة خلال ألف مسرحية، أرتفع إلى ذروة العصر الذهبي الأدبية التي لم يطاوله فيها سوى سرفانتس وكالديرون.


5-كالديرون 1600-1681

كان هناك كتاب آخرون تحدوا تفوق لوبي فترة وجيزة. ومن هؤلاء جوبللين دب كاسترو (1591) الذي ألف مسرحية »شباب السيد«، وقد فضلها بعضهم على مسرحية كورنبي »السيَّد« الأكثر شهرة. ثم لويس فيليز دي جويفارا الذي انقطع عن ممارسة القانون فترة أتاحت له تأليف أربعمائة تمثيلية، ومنها »الديابلو كوخوليو« وهي المصدر الذي استقى منه لساج مسرحيته »الشيطان الأعرج«. كذلك عرض تيرسو دي مولينا في برشلونة (1630) مسرحية »ساحر اشبيلية والضيف الحجري، التي ثبتت شخصية دون خوان مجدفاً شهوانياً، وزودت مولبير بحبكة مسرحيته »الوليمة الحجرية« وموتسرت بحبكة أوبراه »دون جوفاني« وأوحت إلى بيرون ملحمته »دون جوان« ففي هذه السطور القليلة لمحات عن التأثير الهائل الذي كان للمسرحية الأسبانية في الخارج. وفي عام 1803 فاجأ أوجست فلهلم فون شليجل ألمانيا بإعلانه أنه ليس بين كتاب المسرحية الحديثة من يعلو على بيذور كالديرون دي لاباركا سوى شيكسبير.

اختتم كالديرون العصر الذهبي وعمر بعده كما فعل موريللو. كان أبوه وزيرا للمالية على عهد فليب الثاني والثالث، وتلقى في سلامنكا كل ما استطاع اليسوعيون أن يعطوا ويسمحوا به من تعليم، وقد كان للاهتمام الشديد بالدين في تربيته أثر قوي في تلوين عمله وحياته. درس القانون في سلامنكا، ولكنه هجره حين اكتشف أن في قدرته الكتابة للمسرح بنجاح. وقد احتوت تمثيلياته على إشارة شديدة الوضوح إلى الحشو الجونجوري الذي شاب عظات واعظ ذي نفوذ، لذلك أودع كالديرون السجن حينا، ولكن اسمه ذاع بين الناس. ونشر مجلد بمسرحياته ومنها »لافيدا ايس سوينو« (الحياة حلم) عام 1636 فكفل له من فوره مكان الصدارة في المسرح الأسباني. وعينه فليب في ذلك العام ليخلف لوبي دي فيجا مسرحيا للبلاط. وفي عام 1640 انضم إلى فرق من الفرسان المدرعين واكتسب شهرة بفضل بسالته وشهامته في ترجونا. وكثيرا ما استطاع الأديب في أسبانيا-كما استطاع في البلاد الاسلامية- أن يحقق حلما يضمره، وهو أن يكون رجل أعمال لا أقوال فحسب. على أن صحة كالديرون تداعت بعد اشتغاله بالحرب سنتين، فتقاعد بمعاش حربي. ووجهه الحزن على فقد الأقرباء وجهة الدين، فأصبح عضوا علمانيا في طائفة الفرانسسكان، ثم رسم قسيساً (1651)، وظل عشر سنوات يخدم ابرشية في طليطلة وهو يواصل الكتابة للمسرح بين الحين والحين.وبعد أن نال كل ما تمنحه هذه لدنيا من مظاهر التشريف، مات في الحادية والثمانين وهو وطيد الأمل في أن ينال المئوية على تأليفه مئات »الفصول المقدسة« واكتفائه بخليلة واحدة دون سواها.

ومسرحياته الدينية أجمل ما كتب في بابها، ففيها وجدت قدرته العاطفية سندا من تقواه الصادقة. وقد حظيت مسرحياته الدنيوية زمنا طويلا بشهرة دولية أوسع من مسرحيات لوبي، لأنها تضارعها شعرا وتفوقها فكرا. وكان يعوزه بعض ما وهب لوبي من حيوية وتنويع هائلين، ولكنه هو أيضا كتب هذا اللون من مسرحيات »العباءة والسيف« بحيوية ومهارة. ولا يستطيع ايفاءه حقه الكامل من التقدير سوى خبير باللسان القشتالي، ولكننا نسجل هنا أن شاعرين من شعراء الإنجليز شعراً بعبقريته وناضلاً لابتعاثها من بوتقتها اللغوية. وأولهما شلي الذي ترجم بتصرف اجزاء من »الساحر الرهيب«، وكان متفقاً مع شليجل في رأيه في كالديرون، والثاني ادوارد فتزجير الذي حاول في كتابه »ست مسرحيات لكالديرون« (1853) أن يفعل للمسرحي الأسباني-دون أن يوافق-ما فعله بعد ست سنوات لعمر الخيام بتوفيق كبير.

و »الساحر الرهيب« صورة محورة لاسطورة فاوست. هنا نرى فقيها شهيرا من فقهاء انطاكية يدعى كبريان يقطع مبارزة بين اثنين من تلاميذه يشتهي كلاهما خوستينا, ويحملهما على أن يغمدا سيفيهما بعد أن يوافق على الذهاب إليها للتحقق من أيهما تختار. ويمضي إليهما، ولكنه يقع في غرامها لأول نظرة. أما هي فتطرده في ازدراء، ثم تحن إليه، وأما الطالبان اللذان صدتهما أيضا فتعزيان باختها ليفيا، ولكن كبريان لا يقوى على تخليص ذاكرته من فتنة خوستينا.

رائعة الجمال هي-


وأنا نهب بين حبي وغيرتي؛


يعتصرني الأمل والخوف؛


مهما بدا هذا شأننا-


ما أمر الحياة التي أحيا،



فأنصتي الآن يا جهنم!


إنني لأبذل لروحك البغيضة


نفسي ترثينها إلى الأبد،


وأحتمل العذاب والسقم،


نظير أن أملك هذه المرأة(47)


ويقول الشيطان »قبلت«، ولكن خوستينا تستعصي عليه. وأخيراً يأتي بها إلى كبريان، ولكن حين يحاول العالم ضمها إلى صدره ينكشف قناعها فلا يبدي غير جمجمة. ويعترف لوسيفر (ابليس) أن قوة المسيح وحدها هي التي استطاعت أن تجيز عليه هذه الحيلة. وأخيرا، وبينما يساق كبريان وخوستينا إلى الاستشهاد المسيحي، تعترف بحبها له.

ومن التمثيليات التي ترجمها فتزجيرالد ظفرت »عمدة سلاميا« بالاطراء الشديد لتفوقها التقني. ولكن لمسرحية »الحياة حلم« مسحات باطنة أكثر عمقا. فهي تنحي موضوعات الشرف والحب القديمة جانبا، وتعرض على المسرح في جرأة مشكلة تكاد تكون شرقية: فالى أي حد تكون صروف الدهر وانتصارات الحياة دائمة وحقيقية؟ ألعلها ليست سوى أوهام، وخدع، وجزء من القناع الذي يحجب ما خلفه من حقيقة جوهرية خالدة؟ هنا نرى باسليوس ملك بولندة يسجن ابنه الحديث الولادة، الذي تنبأ الطوالع بتمرده على أبيه، ويربي سجسموند في الأغلال وسط حيوات الغاية، ويشب أشد توحشا من أي وحش طليق. على أن الملك يلين في شيخوخته، فيدعو ولده للحضور ومشاركته العرش، ولكن سجسموند الذي لم يدرب على الحكم يقاتل بضراوة وفي عنف أخرق يكره أباه على تخديره حتى يخضع. فإذا افاق وجد نفسه قد عاد إلى كهفه واغلاله في الغابة. ويقال له إن سلطانه الأخير لم يكن غير أضعاف احلام، فيصدق، ويتكلم كما تكلم رتشرد الثاني المهزوم في مسرحية شكسبير:


لا ريب في أن الحياة في وميض



هذه الدنيا ليست سوى حلم!



يحلم النائم بما هو عليه ولا يفيق إلا



حين يفاجئه الموت بصحبه الحافل بالأسرار



فالملك يحلم بأنه ملك



وعلى هذا النحو الخداع



يعيش ويحلم بسطوة الملوك،



ولكن كل الهتافات التي تجلجل من حوله



تتخذ لها أجنحة وتطير في الهواء



لأنها وليدة الهواء



ثم يذيب الموت كبرياءه وأبهته



فيحيلها - وا أسفاه-رمادا في رماد



فمنذا الذي يشتهي التاج



وهو يرى أنه لا محالة مفيق



من حلمه وراء باب الموت؟



قصارى القول أن الناس في كل الأرض



يحلمون أيا كان مولدهم...



فما الحياة؟ خيال يتراءى،



سراب يترقرق كاذبا،


فرحة زائفة، راحة خداعة،



فالحياة على أحسن الفروض حلم،



وحتى الأحلام ذاتها ليست غير أحلام(48)


ثم يلقي سجسموند عنه وحشيته، بانقلاب آخر علله المؤلف تعليلا شديد القصور، ويغدو انساناً عاقلاً، فإذا أجلسته الثورة على العرش أصبح ملكاً صالحاً، واعياً في تواضع بأن هذا الارتقاء هو أيضاً حلم، فقاعة تافهة في زبد الحياة. والخطب في المسرحية طويلة طولاً مؤلماً، وتزويق العبارات »الجونجوري« يفسد خمر الشعر، ولكنها مسرحية قوية برغم هذا العيب، تمزج الحركة بالفكر وتحتفظ بالتشويق الدرامي إلى النهاية. وأغلب الظن أننا لو كان لنا وطن وتعليم غير وطننا وتعليمنا، ولو أتيح لنا الفهم الجيد للغة القشتالية، لاعتبرنا هذه التمثيلية من أعظم التمثيليات في العالم. ويستحيل علينا الآن أن نستعين بالخيال لنقتلع أنفسنا من سجن زماننا ومكاننا، وندرك قوة الدور الذي لعبته الدراما في اسبانية القرن السابع عشر، ومدى النفوذ الذي حظيت به. ففي ايطاليا كادت تطرد المأساة الإيطالية من خشبة المسرح. وفي فرنسا زودت بالحبكات كتابا كآردي وكورني وموليير وكثيرين غيرهم، وقد صاغت شكل المأساة الفرنسية قبل راسين، إذ شددت على الشرف واسقطت البلاغة فإذا ذكرنا إلى ذلك كله تأثير سرفانتس وغيره من الروائيين الأسبان على لوساج وديفو وفيلدنج وسموليت، ومن خلال هؤلاء على دكنز وتاكري، وإذا قارنا فن إنجلترا الاليزابيثية، أو حتى فن فرنسا المعاصرة، بعمارة أسبانيا ونحتها وتصويرها في اوجها ذاك-إذا فعلنا هذا كله بدأنا هذا ندرك لم تغلو شعوب العالم الناطقة بالأسبانية في الفخر بميراثها والاعتزاز بنسبها.