قصة الحضارة - ول ديورانت - م 7 ك 1 ف 3

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 9418

قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلترا -> على سفوح بارناسوس -> الكتب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: على سفوح بارناسوس 1558 - 1603

الكتب

كانت الكتب يتزايد عددها بشكل رهيب، حتى قال برنابي رتش في 1600 "إن من الأمراض الفظيعة في هذا العصر هو هذا السيل الضخم من الكتب التي تثقل كاهل العالم غير القادر على هضم هذا القدر الكبير من المادة التافهة التي تخرج إليه كل يوم" كذلك كتب روبرت بيرتون (1628): إننا مهددون بفوضى وتشويش لا حد لهما من الكتب التي ترهقنا، فتصاب أعيننا بسبب القراءة، وتتألم أصابعنا بسبب تقليب الصفحات(1)". وهذان الشاكيان كلاهما من مؤلفي الكتب.

إن النبلاء، بعد أن تعلموا القراءة، أجزلوا العطاء وبسطوا رعايتهم على هؤلاء المؤلفين الذين قد كرموهم وتملقوهم بإهداء مؤلفاتهم إليهم. وكان سيسل، وايستر، وسدني، ورالي، واسكس، وسوثمبتون، وارل ودوقة بمبروك، كان هؤلاء جميعاً رعاة وحماة أفاضل أقاموا بين النبلاء الإنجليز وبين المؤلفين علاقة استمرت حتى بعد أن انتهر جونسون راعيه لورد تشستر فيلد، وكان الناشرون ينقدون المؤلفين نحو 40 شلناً عن كل كراسة، ونحو خمسة جنيهات عن الكتاب، وسعى بعض المؤلفين إلى أن يعيشوا على أقلامهم. وظهرت في إنجلترا هذه الصناعة البائسة إلا وهي "صناعة الأدب" وكانت المكتبات الخاصة كثيرة لدى الأغنياء. ولكن المكتبات العامة كانت نادرة. وفي طريق العودة إلى الوطن من قادس 1596، توقف اسكس في فارو بالبرتغال، واستولى على مكتبة الأسقف جيروم أوزوريوس، وأهداها إلى سير توماس بوداي الذي ضمها إلى مكتبة بودلي التي وهبها لجامعة أكسفورد 1589.

وكانت حياة الناشرين أنفسهم قلقة مضطربة، خاضعة لقوانين الدولة وهوى الجهور أو نزواته. وكان منهم في إنجلترا أيام إليزابث 250، حيث كان النشر وبيع الكتب حرفة واحدة. وقام معظمهم بعملية الطباعة لأنفسهم، لأن الفصل بين الطباعة والنشر بدأ حوالي نهاية عصر إليزابث. واتحد الناشرون والطابعون وباعة الكتب 1557 في "شركة القرطاسية"، وأنشأ تسجيل المطبوعات في هذه النقابة "حق الطبع"، على أن هذا لم يحم المؤلف بل الناشر فقط. وطبيعي أن هذه الشركة لم تسجل من الكتب إلا ما حصل على ترخيص قانوني بطبعه. فقد كان يعتبر جريمة كتابة أو طبع أو بيع أو اقتناء أية مادة تسيء إلى سمعة الملكة أو الحكومة، كذلك نشر أو استيراد كتب الإلحاد أو المراسيم والرسائل البابوية، أو اقتناء أية كتب تؤيد سيادة البابا على الكنيسة الإنجليزية(3). وكان ثمة جملة معاذير لخرق هذه المراسيم. وفوضت "شركة القرطاسية" هذه في تفتيش كل دور الطباعة وإحراق أية مطبوعة غير مرخص بها، وسجن ناشريها(4). وكانت الرقابة على المطبوعات في عهد إليزابث أقسى منها في أي وقت قبل الإصلاح الديني. ولكن الأدب ازدهر، كما شحذت العقول في فرنسا في القرن الثامن عشر، بفضل مخاطر الطباعة.

وكان العلماء قليلين، وكان عصر خلق وإبداع أكثر من أن يكون عصر نقد، وكان تيار الحركة الإنسانية (توكيد على قيمة الإنسان وقدرته على تحقيق الذات عن طريق العقل) قد جف في تلك السنين التي حفلت بالاهتمام باللاهوت. وظل معظم المؤرخين من كتاب الحوليات، يقسمون مدوناتهم حسب السنين. ولكن ريتشارد نولز Knolles أدهش برجلي ببراعته النسبية في كتاب "التاريخ العام للأتراك" 1603. وأضفت "حوليات" رافائيل هولنشد على صاحبها مزيداً من الشهرة لم يبذل فيه جهداً، ذلك أن هذه الحوليات أمدت شكسبير بسير ملوك إنجلترا. واصطبغت "حوليات إنجلترا" (1580) لجون ستو Stow "بظلال من الحكمة، ودعوات إلى الفضيلة وتنفير من الحقائق المرذولة(5)"، ولكن طابعها العلمي يرثى له، وأسلوبها قوي مؤثر. وكان كتابه "استعراض لندن" 1580 أدق بحثاً وأوسع علماً، ولكنه لم يدر عليه ربحاً، وكان حرياً به في سني شيخوخته أن يمنح رخصة للتسول(6). وفي لغة لاتينية جيدة سجل وليم كامدن "جغرافية إنجلترا ومناظرها وآثارها" في كتابه "بريطانيا" 1582. وفي كتابه "حوليات تاريخ إنجلترا في عهد إليزابث" (15-1627) الذي بنيت قصته على دراسة واعية للوثائق، مجد كامدن الملكة العظيمة دون حساب، وامتدح سبنسر وأثنى على روجر أسكام، ولكنه حزن لموت مثل هذا العالم الجليل فقيراً معدماً بسبب حبه للعب النرد ومصارعة الديكة(7).

وترك أسكام عند موته 1568 بوصف أنه كان سكرتيراً لماري اللعينة ومعلماً خاصاً لإليزابث، أشهر الرسائل الإنجليزية في التعليم، وهي "المعلم" (1570) وموضوعها الأصلي تعليم اللاتينية، ولكنها تضمنت في لغة إنجليزية قوية بسيطة، دعوة إلى إحلال الرحمة المسيحية محل صرامة كلية ايتون في التعليم. وروى أسكام كيف أنه كان يتناول الغداء يوماً مع بعض عظماء الرجال في حكومة إليزابث، وتطرقت المناقشة إلى موضوع التعليم في نقد لاذع، وكيف أن سيسل آثر الوسائل الرقيقة، وكيف أن سير ريتشارد ساكفيل اعترف سراً لأسكام "بأن معلماً أحمق صرفه عن حب التعليم بأسره، خوفاً من الضرب(8)".

إن أكبر وأنفع مهمة يضطلع بها العلماء الإنجليز كانت إخصاب العقل الإنجليزي بالفكر الأجنبي. وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر اكتسحت البلاد موجة من الترجمة، من اليونان وروما وإيطاليا وفرنسا. وكان على هوميروس أن ينتظر حتى 1611 لجورج، تشبمان وربما أسهم عدم وجود الترجمات الإنجليزية للروايات اليونانية في صبغ دراما عصر إليزابث بالرومانتيكية أكثر منه بالشكل التقليدي القديم، ولكن كانت هناك ترجمات لكتاب تيوكريتس "القصائد الرعوية"، وملحمة موزائيس Hero and Leander وكتاب ابكتيتس Enchiridion، ولكتابي الأخلاق والسياسة لأرسطو، وكتابي زينوفون Cyropaedia, Oeconomicus، وخطب دبموستين وايزوقراط، ومؤلفات هيرودوت وبولبيوس وتيودور الصقلي وجوزيفس وأبيان في التاريخ، وقصص هليودوروس ولونجوس، كما كان هناك ترجمة عن الفرنسية قام بها سير توماس فورت لكتاب بلوتارك "السير". وعن اللاتينية نقلت كتب فرجيل وهوراس وأوفيد ومارشال ولوكان، وروايات بلوتوس وتيرنس وسنكا، ومؤلفات ليفي وسالوست وتاسيتس وسوتونيس في التاريخ. وعن الإيطالية نقلت قصائد بنرارك (Sonnets) و Filocopo and Fiammetta لبوشكيو (ولكن لم يترجم ديكامرون حتى 1620)، ومؤلفات جوتشيارديني ومكيافللي في التاريخ، وأشعار بويارد وواريوستو، وكتاب كاستليوني "آداب السلوك"، وكتاب تاسو عن تحرير أورشليم، وكتاب جواريني "Pastor Fido" ومجموعة قصص خرافية لباندللو وآخرين دونت في مجموعات مثل كتاب وليم بينتر Palace Of Pleasur، (1566)، ولم ينقل كتاب مكيافللي "الأمير" حتى 1640، ولكن مادته كانت معروفة لرجال عصر إليزابث. ويذكر جبراييل هارفي أن جامعة كمبردج نبذت دونز سكوتس وتومان الأكويني وغيرهما من رعيل العلماء" واستبدلت بهم مكيافيللي وجان بودان(9). وترجم عن الأسبانية واحدة من أطول القصص الغرامية الخيالية Amadis De Gaula، وواحدة من أقدم القصص الأسبانية Lazarillo De Tormes وواحدة من الروايات الرعوية القديمة The Diana Of Montemayor. وكان ما أخذ عن الفرنسية قصائد البلياد Pleiades (بنات أطلس السبع اللائي وضعهن زيوس بين النجوم) ومقالات مونتاني التي ترجمها جون فلوريو إلى لغة إنجليزية رائعة (1603).

وكان أثر هذه الترجمات على الأدب في عصر إليزابث عظيماً جداً، وبدأت التلميحات القديمة-وظلت لمدة قرنين من الزمان-ترهق الشعر والنثر الإنجليزيين. وكانت اللغو الفرنسية معروفة لدى معظم المؤلفين الجديرين بالذكر فيعهد إليزابث، ومن ثم كان يمكن الاستغناء عن الترجمات. ولقد سحرت إيطاليا إنجلترا، واتجه الشعر الرعوي الإنجليزي بأفكاره إلى يانازورا وتاسو وجواريني. والقصائد الإنجليزية المشهورة بالسونيت إلى بترارك، والأدب القصصي إلى بوكاشيو والقصص، وهذه الأخيرة هي التي أمدت مارلو وشكسبير ووبستر وماسنجر وفورد بالفكر الرئيسية في رواياتهم، كما زودت الروايات في عهد إليزابث بمواقع إيطالية. إن إيطاليا التي نبذت الإصلاح الديني، كانت قد ذهبت بعيداً عنه لتحطيم اللاهوت القديم، حتى الأخلاق المسيحية، وعلى حين أن العقيدة في عهد إليزابث نازعت الكاثوليكية والبروتستانتية، نجد أدب ذاك العصر، وقد تجاهل هذا الصراع، عاد إلى روح النهضة وحيويتها. ولما أصابت إيطاليا النكسة لبعض الوقت، بسبب تحول طرق التجارة، أسلمت مشعل الميلاد الجديد لأسبانيا وفرنسا وإنجلترا.


حرب الأدباء

وفي وسط هذه الوفرة والحيوية في عصر إليزابث، كان ثمة فيضان جارف من الشعر والنثر كليهما. وإنا لنعرف أسماء مائتين من الشعراء في عهد إليزابث، ولكن النثر كان هو الذي يجذب انتباه الناس ويطرق أسماعهم بقوة في هذا العصر في إنجلترا، حتى أخرج سبنسر "فيري كوين The Faerie Queen" (1590).

وكان جون ليلي أول من عمد إلى هذا اللون في قصته الخيالية يوفيس Eupheus أو "تشريح الذكاء" في 1579. وعرض ليلي أن يظهر كيف أن العقل السليم والخلق الكريم يمكن تكوينهما عن طريق التعليم والتجربة والأسفار والنصح الحكيم. ويوفيس (الكلام الطيب) شاب أثيني تقدم مغامراته مسرحاً لمحادثات مسهبة عن التعليم والسلوك والصداقة والحب والإلحاد-ومما جعل هذا الكتاب أكثر الكتب رواجاً في عصره، هو أسلوبه-فيض من الجناس والطباق والتشبيه والتورية، والجمل المتوازنة والإشارات القديمة والأفكار، مما هاج حاشية إليزابث، وأصبح الأسلوب السائد لمدة جيل، مثال ذلك:

إن هذا الشاب الأنيق الذي يتحلى بالذكاء أكثر مما يملك مالاً، بل يملك من المال أكثر ما لديه من الحكمة، ومذ يرى أنه لا يقل عن غيره من حيث الأفكار الجميلة، فقد حسب أنه يفوق الجميع في التصرفات الأمينة، إلى حد حسب معه نفسه صالحاً لكل شيء، ومن ثم لم يتوفر على شيء قط(10).

ولا يعرف على وجه التحديد من أين أصاب ليلي هذا المرض، من ماريني الإيطالي، أو من جيفارا الأسباني أو من "بلاغة" الفلاندرز، فهذا محل مناقشة، ورحب ليلي على أية حال بهذه السموم العقلية ونقلها إلى كثير من رجال إليزابث فأفسدت كوميديات (ملهاوات) شكسبير الأولى، وتركت مسحة منها على أعمال بيكون، وأثرت في اللغة. لقد كان العصر يعنى باللفظ. وبذل جبرائيل هارفي-من أساتذة كمبردج-كل نفوذه ليحول الشعر الإنجليزي من النبرات والقوافي إلى الأوزان القديمة المبنية على التفاعيل أو المقاطع. وبتحريض منه أسس سدني وسبنسر في لندن نادياً أدبياً الآريوباجوس Areopagus، كافح لبعض الوقت ليحول النشاط والطاقة الحيوية في عصر إليزابث إلى أشكال فرجيل وصيغه. وقلد توماس ناش، هازئاً، أوزان هارفي السداسية التفاعيل "التي تشبه في وقعها الوثب على قدم واحدة"، وسخر منها واعتبرها غير جديرة بالنظر والاهتمام فعلاً. ولما جمع هارفي بين الشتائم والسباب والحذلقة في التنديد بأخلاقيات جرين صديق ناش، أصبح الهدف الرئيسي لحرب الكتيبات التي جلبت إلى إنجلترا كل ما عرف في عصر النهضة من تراشق وذم وقدح.

إن حياة روبرت جرين لتمثل ألفا من سير الحياة الأدبية البوهيمية التي لا تقيم وزناً للأعراف والقيم، ابتداء من فيللونVillon (شاعر فرنسي غنائي في القرن الخامس عشر) إلى فرلين Verlaine (شاعر رمزي فرنسي في القرن التاسع عشر، وكان رفيق دراسة لهارفي ومارلو في كمبردج)، وسط "أوغاد لا يقلون عنه دعارة وفجوراً"، "أفنى معهم زهرة شبابه":

كان يملؤني الزهو والتيه والغرور. كانت الدعارة رياضتي اليومية، وإدمان الشراب ملذتي الوحيدة... وكنت أبعد ما يكون عن أن أرجع إلى الله، وقليلاً ما كنت أذكره. ولكني كنت أجد لذة كبيرة في الحلف والتجديف على الله. وإذا حققت رغبتي وأنا على قيد الحياة، فإني راض قانع، فلآخذ طريقي إلى الموت بأية حال، إني لم أخش قضاة المحكمة أكثر مما أخشى حساب الله(11).

وجال جرين في إيطاليا وأسبانيا، ويقص علينا أنه هناك "رأى ومارس من أعمال الخسة والجرائم ما يندى الجبين لذكره." فلما عاد أصبح شخصية بارزة في حانات لندن، بشعره الأحمر ولحيته المحددة وجواربه الحريرية وبطانته الخاصة. وتزوج وكتب كتابة رقيقة عن الإخلاص في الزواج ونعمته. ثم هجر زوجته من أجل سيدة أنفق عليها كل ثروة الزوجة. ومن معرفته الخاصة المباشرة وصف أقانين حياة الرذيلة والإجرام في كتاب A Notable Discovery Of Cozenape، (1591) كشف فيه الغطاء عن الدجالين والمحتالين، وحذر فيه زوار لندن القرويين من أحابيل المخادعين والغشاشين في ورق اللعب، والنشالين والقوادين والعاهرات. مما حدا بهؤلاء أن يحاولوا قتله. وإنه لما يبعث على الدهشة أن جرين، مع انغماسه في حياة الرذيلة إلى هذا الحد، وجد وقتاً ليكتب في سرعة صحفية ونشاط وحيوية، اثنتا عشرة قصة (بأسلوب يوفيس) وخمسة وثلاثين كتيباً، وكثيراً من الروايات الناجحة. وعندما فتر نشاطه وقل دخله وجد للفضيلة بعض المعنى، وندم ندماً شديداً قدر ما كان يأثم إثماً فاحشاً، وعبر عن ندمه وإثمه أبلغ تعبير. ونشر في 1591 كتابه "وداعاً أيتها الحماقة". وفي 1592 نشر كتيبين لهما بعض الأهمية، أحدهما: "ملحوظة ساخرة لرجل البلاط الناشئ " حمل فيه على جبراييل هارفي، أما الثاني "ما يساوي بضعة بنسات من ذكاء جرين يشترى بمليون من التوبة والندم". وفيه هاجم شكسبير وأهاب برفاقه في الفسق والفجور- وواضح أنه يقصد مارلو وبيل وناش-أن يقلعوا عن الآثام والخطايا وينصرفوا معه إلى التقوى والندم. وفي 2 سبتمبر 1592 أرسل إلى زوجته التي هجرها يتوسل إليها أن تدفع عشرة جنيهات إلى صانع أحذية لولا صدقته وإحسانه "لكنت مت جوعاً في الطرقات" وفي اليوم التالي، وفي دار صانع الأحذية هذا، مات جرين- كما يقول هارفي- بسبب "تخمة أصابته من الإفراط في أكل سمك الرنجه المخلل وشرب نبيذ الراين". وتجاوزت صاحبة الفندق عن ديونه من أجل أشعاره، وتوجته بإكليل من الغار، ودفعت نفقات جنازته(13).

وكان توم ناش صديق جرين أشد مؤلفي الكتيبات في عصر إليزابث سلاطة لسان وأكثرهم قراءً. وكان ابناً لمساعد قسيس، وضاق ذراعاً بالحشمة والوقار، وما أن تخرج في أكسفورد حتى أخذ يسرح ويمرح في لندن، ويكسب قوته بنفثات قلمه، وتعلم كيف يكتب بسرعة "قدر ما تسعفه يده". وألف في إنجلترا قصص المتشردين بادئاً بقصته "السائح المنكود الحظ"-أو حياة جاك ولتون (1594). ولما مات جرين، وهاجم هارفي بعنف جرين وناش في كتيبه "أربع رسائل" ثأر ناش بسلسلة من الكتيبات بلغت الذروة في كتيب "خذ معك إلى سافرن والدن Saffron Walden مسقط رأس هارفي في 1596:

"ابتهجوا أيها القراء، فلن أدخر وسعاً في أن أدخل عليكم السرور والبهجة... إن هذا لن يكلفني إلا انحرافاً عن الطريق المستقيم، ولكنه سيطرد من الجامعة مدحوراً... قبل أن أكف عنه... ماذا تمنحونني لو أني أتيت به إلى المسرح في أهم الكليات في كمبردج(14)".

وعمر هارفي بعد هذه المحنة، وعمر بعد هؤلاء البوهيميين ومات في 1630 عن خمسة وثمانين عاماً. وأكمل ناش رواية صديقة مارلو "Diod" واشترك مع بن جونسون في "جزيرة الكلاب" 1597، واتهم بالتحريض على الفتنة، وانزوى في غمرة من الحرص والحذر، وتوج حياة العجلة بموت مبكر.


فيليب سدني 1554 - 1585

بعيداً عن هذا الحشد المخبول شق سدني طريقه في هدوء إلى نهاية أقرب، وإنا لتطالعنا صورته حتى اليوم في "قاعة الصور الوطنية" في لندن، حيث يبدو رقيقاً أكثر مما ينبغي للرجل أن يكون، نحيل الوجه، ذا شعر أسمر يضرب إلى الحمرة، وكما يقول لانجيه "ليس فيه شيء من إمارات التمتع بصحة جيدة(15)". وقال أوبري "كان آية في الجمال، لم تكتمل سمات الرجولة فيه كما ينبغي، ولكن يتميز بشجاعة عظيمة(16)". وذهب بعض المتذكرين إلى أنه يداخله بعض الغرور(17)، وأنه بالغ في الكمال والدقة إلى حد التطرف، ولكن نهايته البطولية هي وحدها التي غفرت له فضائله.

ولكن من ذا الذي لا يتيه عجباً بأن أمه هي ليدي ماري ددلي ابنة دوق نورثمبرلند الذي حكم لإنجلترا أيام إدوارد السادس، وان أباه هو سير هنري سدني رئيس ويلز، ونائب الملك في إيرلندا ثلاث مرات، وأنه أخذ اسمه المسيحي عن فيليب الثاني ملك أسبانيا بوصفه أباً له في التعميد. وقضى بعضاً من عمر الزهر الذي عاشه في قصر بنزهيرست الرحيب الذي سقوفه المصنوعة من خشب البلوط، والرسوم على جدرانه، وثرياته البلورية من أجمل مخلفات ذلك العصر. وعين وهو في سن التاسعة رئيساً علمانياً لاقطاعة كنسية تدر عليه ستين جنيهاً في السنة. والتحق في سن العاشرة بمدرسة شروزبري التي لم تبعد كثيراً عن حصن لدلو Ludlow مقر والده بوصفه رئيساً لويلز. وكتب سير هنري لولده وهو في الحادية عشرة من عمره كلمات حب واعتزاز تشع منها الحكمة(18). ووعى فيليب هذه الدروس جيداً. وأصبح أثيراً لدى خاله ليستر، وصديق والده وليم سيسل. وبعد سنوات ثلاث قضاها في أكسفورد أرسل إلى باريس في منصب ثانوي في بعثة إنجليزية. واستقبل في بلاط شارل التاسع وشهد مذبحة سانت برثلميو. وجال على مهل في فرنسا والأراضي الوطيئة وألمانيا وبوهيميا وبولندة والمجر والنمسا وإيطاليا. وفي فرنكفورت نشأت بينه وبين هيوبرت لانجيه صداقة العمر، وهو أحد قادة الفكر لدى الهيجونوت. وفي فينسيا رسم له باولو فيرونز صورته، وفي بادوا رضع تقاليد قصائد بترارك من نوع السونيت. فلما عاد إلى إنجلترا رحب به البلاط، وظل لمدة عامين تقريباً في معية الملكة، ولكنه خسر عطفها لبعض الوقت. لمعارضته مشروع زواجها من دوق ألنسون. وكان يتحلى بكل صفات الفروسية- الاعتداد بقدرته على الاحتمال، المهارة والبسالة في المبارزة، آداب اللياقة والسلوك في البلاط، الشرف في كل المعاملات والفصاحة في الحب ودرس كتب كستليوني "رجل البلاط" وحاول أن يضبط سلوكه على المثل الأعلى للرجل المهذب الذي وضعه الفيلسوف الأديب، وحاول آخرون أن يحاكوا سدني. وأطلق عليه سبنسر اسم "ملك النبل والفروسية".

وكان من مميزات هذا العصر أن الأرستقراطية التي كانت يوماً تحتقر معرفة القراءة والكتابة، نظمت الآن الشعر، وأذنت للشعراء في التردد عليهم. وأصبح سدني، ولو لم يكن ثرياُ، أعظم حماة الأدب في جيله. ومد يد المساعدة إلى كامدن وهاكلوت وناش وهارفي ودون، ودانيل وجونسون، وفوق كل شيء سبنسر الذي أزجى إليه آيات الشكر بوصفه "أمل العلماء جميعهم، وحامي عروس الشعر الصغيرة عندي"(19). ولم يكن يتفق مع طبيعة الأشياء أن يكون إهداء كتاب ستيفن جوسون "مدرسة الهجاء" موجهاً إلى سدني (1579)، وقد ورد في تقديم هذا الكتاب أنه "هجوم لطيف على الشعراء والزمارين والمغمرين والمهرجين، وأمثالهم من توافه الرجال السلابين في البلاد". وقبل سدني التحدي وكتب أول الروائع الأدبية في عهد إليزابث "دفاع عن الشعر" وإقتداء بأرسطو والنقاد الإيطاليين، عرف سدني الشعر بأنه "فن المحاكاة" فهو يمثل أو يزيف أو يجسد صورة ناطقة. "قصد بها أن تعلم وتدخل البهجة(20)". وسما بالأخلاق كثيراً فوق الفن، فبرر الفن على أنه معلم الأخلاق عن طريق النماذج المصورة يقول:

"إن الفيلسوف.. والمؤرخ... قد يصلان إلى الهدف، أولهما بالتعليم الأخلاقي، والثاني بضرب المثل، ولكن كلاهما لا يملكهما معاً. ومن ثم يتعثر كلاهما. فإن الفيلسوف، وهو يقرر الحقيقة المجردة للأخلاق، عن طريق الحجج الشائكة، قد يصعب عليه التعبير، ويغلب عليه الغموض فيدق على المرء فهمه إلى حد أن الإنسان الذي لا يتيسر لم مرشد غيره يخوض معه حتى يدركه الهرم قبل أن يجد مبرراً كافياً لأن يكون أميناً. ذلك أن علمه يقوم على التجريد والتعميم، حتى ليكون سعيداً من يستطيع أن يفهمه. أما المؤرخ من جهة أخرى، فإنه، وهو يعوزه القاعدة أو المبدأ الأخلاقي، مرتبط، لا بما يجب أن يكون، بل بما هو كائن... ومن ثم فإن المثل الذي ضربه يستتبع نتائج غير ضرورية، ولذلك يكون نظرية أقل جدوى.

أما الشاعر الفذ فانه يؤدي الاثنين معاً، لأنه يرسم صورة دقيقة لمن يظن أنه قام بما قاله الفيلسوف بوجوب عمله. وهو بذلك يكمل الفكرة العامة بالمثال المحدد. وأقول بأنها صورة كاملة متقنة لأنه لا يقدم إلى قوى العقل صورة لم يقدم عنها الفيلسوف إلا وصفاً كلامياً لا يستوقف النظر ولا ينفذ إلى الأعماق ولا يتسم بالرؤية الروحية قدر ما للصورة من هذا كله(21).

وعلى هذا فان الشعر، في نظر سدني، يشمل كل الأدب التخيلي التصويري: الدراما، النظم، النثر التصويري. "ليست القوافي والأوزان هي التي تصنع الشعر. وقد يكون ثمة شاعر بلا أوزان، وقد يكون ثمة ناظم دون أن يكون شاعراً". لقد جمع سدني بين التعليم الأخلاقي والنموذج. وفي نفس العام الذي أخرج فيه "الدفاع عن الشعر" شرع في كتابه "جنة كونتيس بمبروك". وكانت أخته هذه من أكثر سيدات هذا القرن جمالاً وجاذبية. ولدت 1561، أي أنها تصغر فيليب بنحو سبع سنوات. وتلقت من التعليم قدر ما احتملت، بما في ذلك اللاتينية واليونانية والعبرية، ولكن فتنتها لم تذبل. وأصبحت عضواً في آل بيت إليزابث ورافقتها في رحلتها الملكية. وأسهم خالها ليستر في المهر الذي مكنها من الزواج من هنري ارل بمبروك. وكما يقول أوبري "كانت داعرة شديدة الشهوة للرجال فاتخذت بعضاً من الخلان أو العشاق لتكمل زوجها"، ولكن هذا لم يمنع فيليب من تقديسها، وكتابة "الجنة" بناء على طلبها.

واتخذ فيليب من "جنة" سانازارو (1504) مثلاً يحتذيه، فتخيل في تفصيل شديد وفي يسر، عالماً من الأمراء والشجعان والأميرات الرفيعات التهذيب، ومعارك الفروسية والأقنعة المحيرة والمناظر الطبيعية الساحرة. "إن جمال أفروديت (يورانيا) هو أعظم شيء يمكن أن يعرضه العالم، ولكنه أقل ما يمدح فيها(22)" وكان بللاديوس يتمتع ببصيرة نافذة مجردة من التباهي والتفاخر، وأفكار عالية تتسم باللياقة وحسن الأدب، وكانت الكلمات تخرج من فيه في فصاحة عذبة ولكنها لا تسعفه في التعبير. كما كان يتحلى بسلوك نبيل إلى حد أنه أضفى جلالاً على المحنة(23). "ومن الواضح أن سدني قرأ يوفيس، فالقصة متاهة غزلية، لقد تنكر بيروكليز في زي امرأة ليكون قريباً من فيلوكليا الجميلة، ولكنها تخيب أمله بحبها إياه على أنه أخت لها، ويقع أبوها في غرامه حين حسب أنه سيدة، وتقع أمها أيضاً في غرامه حين أدركت أنه رجل، ومهما يكن من أمر فان كل شيء ينتهي طبقاً لما أمرت به الوصايا العشر. ولم يأخذ سدني الحكاية مأخذ الجد كثيراً. ولم يصحح قط الوراق التي سلمها لأخته. وأمر بإحراقها وهو على فراش الموت، ولكن احتفظ بها وطبعت ونشرت (1590) وظلت لعقد من السنين أعظم ما يعجب به الناس من النثر في عهد إليزابث.

وبينما كان سدني يكتب هذه القصة الرومانتيكية "الدفاع عن الشعر"، وسط حياته الدبلوماسية والعسكرية نظم مجموعة قصائد من السونيت (14 بيتاً) مهدت الطريق أمام قصائد شكسبير التي من هذا النوع. وكان في حاجة إلى شيء من الحب الفاشل، فعثر عليه في بنلوب دفريه Penelope Devereu ابنة ارل اسكس الأول، ورحبت بآهاته وأشعاره على أنها لهو مشروع، ولكنها تزوجت من بارون رتش (1581). واستمر سدني يوجه قصائده إليها، وحتى بعد زواجه هو من فرانس ولسنهام. ولم يصعق من رجال عصر إليزابث لهذا الفجور الشعري إلا نفر قليل، ولم يتوقع أحد أن يكتب رجل شعراً حتى لزوجته هو، التي أخمد كرمها شاعريته، ونشرت المجموعة 1591، بعد وفاة سدني، تحت عنوان Astrophel and Stella- (عاشق النجم والنجم) وقد نهجت نهج بترارك الذي استبقت محبوبته لورا بشكل عجيب عيني يلوب وشعرها وحاجبيها وخديها وبشرتها وشفتيها. وكان سدني يدرك تماماً أن هواه ليس إلا تقنية أو عملية شعرية. وكان هو نفسه قد كتب: "لو كنت أنا نفسي محظيه لما استطاع الشعراء كتاب السونيت أن يقنعوني بأنهم يحبونني(24)" وما أن قبلت قصائد السونيت على أنها لهو بريء حتى باتت أحسن شيء من نوعها قبل سونيتات شكسبير. وحتى القمر كان مريضاً بالحب:


بأية خطى حزينة تصعد إلى السماوات أيها القمر، وفي



أي صمت، وبأي وجه شاحب؟



ماذا، هل حتى في السموات.



يحاول رامي السهام النشيط أن يجرب سهامه الحادة.



حقاً، لو أن هذه العيون التي خبرت الحب طويلاً


تستطيع أن تحكم على الحب. لشعرت بقضية حبيب،



لقد قرأتها في نظراتك وفي جمالك الذي يذبل.



إن حالتك لتكشف لي عن بعد، أنا الذي أحس بمثل



ما تحس به إذن، حتى بحق الزمالة أيها القمر خبرني.



أيعتبر الحب الدائم هناك نقصاً في العقل، وهل



ذوات الجمال هناك مزهوات كما هن هنا، هل



يحظين بما هو فوق الحب، ومع ذلك يحتقرن المحبين



الذين يأسرهم الحب.



وهل يسمون الفضيلة هناك ضرباً من الجحود(25)؟


وفي 1585 أرسلت إليزابث فيليب سدني لمساعدة ثوار الأراضي الوطيئة ضد أسبانيا، وعين حاكماً على فلشنج، ولو لم يبلغ الحادية والثلاثين من العمر، وأغضب الملكة المقترة يطلب مزيد من المؤن والأجور لجنوده الذين كانوا يتقاضونها عمل مزيفة مخفضة القيمة(26). وقاد جنوده إلى الاستيلاء على آكسل بالقرب من فلشنج (6 يوليه 1586)، وحارب في المقدمة. ولكنه في معركة زوتفين (22 سبتمبر) أتى من ضروب البسالة أكثر مما ينبغي، فقد قتل جواده في الهجوم، وقفز سدني إلى جواد آخر، وشق طريقه في صفوف العدو، فنفذت طلقة بندقية إلى فخذه، وهرب جواده جافلاً إلى معسكر ليستر . ومن ثم أخذ سدني إلى دار خاصة في آرنهيم، ولمدة خمسة وعشرين يوماً عانى من عجز الجراحين وجهلهم وسرى التسمم، وفي 17 أكتوبر استقبل عجيبة زماننا الموت بصدر رحب (كما رثاه سبنسر). وقال في يومه الأخير "لن استبدل بابتهاجي إمبراطورية العالم(28)" ونقل جثمانه إلى لندن، وأودع مقره الأخير في جنازة لم تشهد لها إنجلترا مثيلاً قبل وفاة نلسون.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إدموند سبنسر 1552 - 1599

وكتب سبنسر "مات سدني، مات صديقي بهجة الدنيا وزينتها(29)" إن سدني هو الذي أمد سبنسر بالشجاعة لينظم القريض. نشأ إدموند ابناً لا يبشر بحسن المستقبل لصانع ملابس باليومية، وكان ينتمي من بعيد لآل سبنسر الإرستقراطيين، مما لم يتح للصبي أية فرصة للظهور. ومكنته أموال البر والصدقات من اللحاق بمدرسة Merchant Taylors ثم كلية بمبروك في كامبردج حيث عمل ليكسب أجر إقامته بالقسم الداخلي بها. وما أن بلغ سن السابعة عشرة حتى كان يكتب، بل حتى ينشر، شعراً. وحاول هارفي أن يوجهه إلى القوالب والموضوعات الكلاسيكية القديمة. وحاول سبنسر في تواضع أن يرضيه، ولكن سرعان ما تمرد على القيود التي فرضتها الأوزان البغيضة على عروس الشعر عنده. وفي 1579 عرض على هارفي القسم الأول من ملحمته "الفيري كوين"، ولم يتذوق هارفي محتواها المجازي الذي يشبه أسلوب العصور الوسطى، ولم يقدر وزنها الشعري الرقيق، ونصح الشاعر أن يتخلى عن مشروعه، ولكن سبنسر تابع العمل.

إن هارفي، النكد المجهم المشاكس، هو الذي هيأ لسبنسر مكاناً في خدمة ارل ليستر. وهناك التقى الشاعر بسدني وأحبه وأهدى إليه "تقويم الراعي" (1579) قلد فيها من حيث الشكل تيوكريتس، ولكنه اتبع فيها خطة التقاويم الشعبية المألوفة التي تحدد أعمال الرعاة تبعاً لفصول السنة. وقامت فكرتها الرئيسية على حب غير مرغوب فيه من جانب الراعي كولين كلوت لروزيلاند القاسية. وليست مما يوصي أحد بقراءتها، ولكن إطراء سدني لها أكسب سبنسر شيئاً من الإقبال عليها أو التهليل لها. وارتضى الشاعر، رغبة منه في كسب العيش، منصب سكرتير آرثر لوردجراي نائب الملكة الجديد في إيرلندا (1579)، ورافقه إلى ساحة القتال. وشهد وأقر ما عمد إليه آرثر من ذبح من استسلموا من الإيرلنديين في سمروك. وبعد سبع سنوات من الخدمة الكتابية للحكومة الإنجليزية في إيرلندا، منح من الأملاك المصادرة من الثوار الإيرلنديين، قصر كلكولمان Kilcolman على الطريق بين مالو وليمرك، بالإضافة إلى 3000 فدان.

وهناك أخلد سبنسر إلى حياة الزراعة الهادئة وانصرف إلى الشعر الرقيق. وخلد ذكرى موت سدني بمرثية بليغة ولكنها مطولة عنوانها "أستروفيل" (1586)، ثم صقل وطول في ملحمته "فيري كوين" وعبر البحر، وهو ممتلئ حماسة إلى إنجلترا، وقدمه رالي إلى الملكة، فكتب لها إهداء "الأجزاء" الثلاثة الأولى، "لتبقى في ظل خلود شهرتها. "وليضمن الترحيب بالقصيدة صدرها ببضعة أبيات في المديح موجهة إلى كونتيس بمبروك، وليدي كارو، وسير كرستوفر هاتون، ورالي، وبرجلي، ووالسنهام، واللورد داث هنزدن وبكهيرست وجراي وهوارد افنجهام، وارل إسكس ونرثمبرلند وأورمند وكمبرلند. ولما كان بيرجلي يناصب ليستر العداء ويحمل له الأضغان، فانه قال عن سبنسر إنه شاغر خامل، ولكن كثيراً من الناس هللوا له بوصفه أعظم شاعر منذ عهد تشوسر. وتلطفت الملكة فمنحته معاشاً سنوياً قدره خمسون جنيهاً، وتلكأ بيرجلي، بوصفه وزير الخزانة، في دفعه. وكان سبنسر يأمل في شيء أكثر سخاء. فلما خاب أمله عاد أدراجه إلى قصره في إيرلندا ليتابع ملحمته المثالية، وسط الهمجية والكراهية والخوف.

وكانت خطته أن تكون القصيدة في أثني عشر جزءاً، نشر الثلاثة الأولى منها في 1590، وثلاثة أجزاء أخر في 1596. ولم يذهب إلى أبعد من هذا. ومع هذا فإن الفيري كوين ضعف الإلياذة وثلاثة أمثال "الفردوس المفقود". وقدم كل جزء على أنه قصة رمزية- للقداسة والاعتدال وضبط النفس والعفة والصداقة والعدالة واللياقة والكياسة، وقصد الأجزاء جميعها "أن تصوغ أو تشكل سيداً ماجداً" أو إنساناً نبيلاً ذا خلق فاضل وديع(30)، بتزويده بالأمثلة التي تعين على تشكيله، وكل هذا يتفق مع فكرة سدني في أن الشعر عبارة عن تعاليم أخلاقية تنقلها نماذج متخيلة. وإذ التزم سبنسر جانب الحشمة والوقار، فانه لم يجز لنفسه إلا يضع قطع قليلة شهوانية أو حسية. فهو يلقي نظرة عجلى على "صدر عاجي عار للانقضاض عليه غنيمة باردة(31)"، ولكنه لا يذهب إلى أبعد من هذا. وإنه في ستة من الأقسام الرئيسية ليشدو بأعلى أنغام حب الفروسية والشهامة، باعتباره خدمة خالية من الأثرة للسيدات والجميلات.

أما نحن الذين نسينا الفروسية والشهامة، فإننا نضيق ذراعاً بالفرسان وتربكنا المجازات والاستعارات والقصص الرمزية، فان ملحمة الفيري كوين، تكون لنا في أول الأمر بهيجة سارة يشل غريب، ولكنها أخيراً شيء لا يحتمل. إن تلميحاتها السياسية التي فرح بها أو استاء لها المعاصرون، فقدت قيمتها لدينا، وإن المعارك اللاهوتية التي تشير إليها لهي الإرهاصات الراسبة في صبانا، وإن قصصها لهو في أحسن الأحوال، أصداء شجية لفرجيل وآريستو وتاسو، وليس ثمة قصيدة في الأدب العالمي تفوق "الفيري كوين" في أفكارها المتكلفة، وتغييراتها الكئيبة في الأوضاع السوية للكلمات والأسلوب، وألفاظها المهجورة وتعبيراتها الجديدة الطنانة، ومبالغاتها الرومانتيكية الحمقاء التي لم تلطفها ابتسامة آريستو. ومع ذلك فان كيتس وشللي أحبا بنسر وجعلاه "شاعر الشعراء" فلماذا؟ ألان شيئاً من الجمال الحسي للشكل عوض عن سخف العصور الوسطى وأسلوبها، أم لأن فخامة الوصف زركشت شيئاً زائفاً غير واقعي؟ وكان المقطع الجديد ذو الأبيات التسعة صعباً من ناحية التعبير الفني، وكثيراً ما يروعنا سبنسر بإتقانه الكامل وسهولته الدافقة. ولكنه، كم من مرة أفسد منطقه من أجل قافية! وانقطع عن ملحمة "فيري كوين" لينظم قصائد موجزة ربما كانت تبرر شهرته، من ذلك قصيدته "حبي الصغير"، على شكل السونيت، التي كانت تشبه هوى بترارك ونزواته وخيالاته. أو إنها ربما كانت تعكس أيام خطبته التي دامت عاماً لإليزابث بويل. وقد تزوجها في 1594، وشدا بأفراح الزفاف في أرق قصائده Epithalamium وإنه ليقتسم معنا مفاتن العروس، دون أثرة أو أنانية.

يقول:


أنبئوني يا بنات التجار هل رأيتم



مخلوقاً جميلاً مثل هذا في بلدكم من قبل



بمثل هذه الملاحة والوسامة والرقة مثلها.



تزينها نعمة الجمال وكنز الفضائل



وعيناها الواسعتان وكأنهما لؤلؤتان تشعان نوراً،



وجبهتها الناصعة البياض كالعاج



ووجنتاها وكأنهما تفاحتان كستهما الشمس بحمرة الورد،



وشفتاها كثمرتين من الكريز تسحران الرجال ليقضموهما.



وصدرها الذي يشبه وعاء من قشدة لم تتخثر بعد،



وثدياها أشبه بزنبقتين تفتحتا



وعنقها الناصع البياض مثل عمود من المرمر،



وجسمها بأسره وكأنه قصر جميل...


ولما انتهى الحفل والولائم أمر مدعويه أن ينصرفوا دون إبطاء، قائلاً:


هيا، الآن اكففن أيتها الآنسات، لقد انتهت مسراتكن،



كفى، إن النهار كله كان لكن



والآن ولى انهار، والليل يرخي سدوله.



فأحضرن العروس إلى منزل العريس...



وضعنها في مخدعها



وأحطنها بالزنبق والبنفسج



وضعن الأستار الحريرية فوقها،



مع الملاءات المعطرة والأغطية المزركشة.



وليكن الليل هادئاً ساكناً



دون زوابع عاصفة أو شجارات صاخبة محزنة.



كما رقد جوبيتر مع ألكمينا...



ولتكف الآنسات والشبان عن الغناء،



ولا تدعن الغابات يجبنهم أو يرجعن أصداءهم.



فهل ثمة عذراء زفت بمثل هذه العذوبة والحلاوة؟


ودعم سبنسر هذا التحليق، وهذه الانطلاقة "بأربع ترانيم" (1596) يمجد فيها الحب الدنيوي والجمال الدنيوي، والحب الإلهي والجمال الإلهي. ونهج نهج أفلاطون وفيسينو، وكاستليوني، ومهد الطريق للشاعر كيتس، فأقر بما اقترف من "أعمال شريرة كثيرة"، فقرر في نفسه أن ينفذ إلى أعماق الجمال الطبيعي ليجد ويشعر بالجمال الإلهي الذي يكمن بدرجات متفاوتة في كل ما هو على الأرض.

ولما كان سينسر يعيش على بركان من الشقاء في إيرلندا، فانه كان من الموت قاب قوسين أو أدنى، في كل يوم. وقبل أن ينفجر بركان الثورة ثانية، كتب في نثر رقيق (لأن الشاعر وحده هو الذي يستطيع أن يكتب نثراً جيداً) "رأيه في الحالة الراهنة في إيرلندا" يدافع عن طريقة أفضل لاستخدام الأموال وترتيب الجنود الإنجليز لإخضاع الجزيرة. وفي أكتوبر 1598 قام الايرلنديون الذين جردوا من أملاكهم في مونستر بثورة وحشية، وطردوا المستوطنين الإنجليز وأحرقوا حصن كلكلمان. ونجا سبنسر وزوجته بحياتهما وهربا إلى إنجلترا. وبعد شهور ثلاثة، وقد انتهى رصيد الهوى والمال، قضى الشاعر نبه (1599)، ودفع ارل اسكس الأصغر- الذي قدر له أن يلحق بسبنسر بعد فترة وجيزة، ودفع نفقات الجنازة، التي سار فيها النبلاء والشعراء الذين نثروا الأزهار، وألقوا المراثي على قبره في كنيسة وستمنستر.

وسادت إنجلترا الآن لهفة جنونية على نظم "السونيت"، نافست اللهفة على الدراما، وكلها تقريباً غاية في براعة الشكل، ذات قالب واحد من حيث الموضوع الرئيسي والعبارة، وكلها تقريباً موجهة إلى العذارى أو الحماة، تنعى عليهم أنهم يغلون أيديهم إلى أعناقهم أو لا يبسطونها إلى الشعراء، وكانوا يستحثون الجمال على أن يأذن بقطف ثماره قبل أن تذبل عن سوها. وقد تقتحم القصيدة في بعض الأحيان نغمة مبتكرة ويبشر العاشق سيدته بمولود مكافأة لها على الاقتران السريع. وينقب كل شاعر فيجد فتاة أحلامه- دانيل: دليا، لودج: فيليس، كونستابل: ديانا، فولك جريفيل: ساليا. وكان أشهر ناظمي السونيت هؤلاء، هو صمويل دانيل، على أن بن جونسون- الذي كان "قاسياً" أكثر منه "لذاً"- قال عنه إنه "رجل أمين وليس شاعراً(32)" وحرمت قصيدة ميشيل درايتون "Pegasus" حول كل أشكال الشعر، بما كان له من قدم في النثر. ولكن إحدى قصائده ضربت على نغمة جديدة، فوخزت الفتاة ونبهتها إلى مغبة صدودها، بأن آذنها بالوداع- "إذا لم يكن ثمة رجاء أو عون، تعالي، نتبادل القبل ثم نفترق".


وكان الأدب الإنجليزي في جملته في عهد إليزابث- فيما خلا الدراما- متخلفاً جيلاً عن الأدب الفرنسي. كان النثر قوياً مرناً، وفي الغالب معقداً مطنباً إلى حد الضجر، خيالياً، ولكنه أحياناً يحرك المشاعر بجلاله الملكي أو إيقاعه الفخم. ولم ينتج النثر الإنجليزي أحداً مثل رابليه أو مونتاني، وقلد الشعر الأشكال الأجنبية في حرص وحذر، باستثناء The Faerie Queen, Eoithalamium ولم يجد بسنسر قراء له في القارة قط، كما لم يجد رونسار (شاعر فرنسي في القرن السادس عشر) قراء له في إنجلترا. فان الشعر يخلق من اللغة والعاطفة موسيقى لا يمكن الاستماع إليها خارج حدود الكلام، لقد اتصلت الأغاني الشعبية البسيطة بالناس ووصلت إليهم، بشكل أشد وثاقاً مما فعل شعر القصور والبلاط، فان الغاني كانت معلقة على جدران البيوت والحانات، وكانت تغنى وتباع في الشوارع، وما زالت أغنية "لورد راندال" تهز مشاعرنا بلحنها الحزين(33). وربما كان هذا الشعر الشعبي- لا المحسنات البارعة اللطيفة- في قصائد السونيت، هي التي مهدت عقول الناس في عصر إليزابث ليقدروا شكسبير.

المسرح

كيف إذن، صعد الأدب الإنجليزي التافه إلى هذا الحد في فترة الجفاف الطويل بين تشوير وسبنسر، نقول إذن كيف صعد هذا الأدب إلى شكسبير؟ لعله بسبب نمو الثروة وانتشارها، والسلام الطويل المثمر، وبسبب الحرب المثير الظافرة، والآداب الأجنبية والأسفار التي وسعت عقول الإنجليز. وكان بلوتس وترنس Terence يعلمان إنجلترا فن الملهاة كما يعلمها سنكا أسلوب معالجة المأساة. ومثل الممثلون الإيطاليون في إنجلترا (1577 وما بعدها) وأجريت آلاف التجارب. وفيما بين عامي 1592 و1642 شاهدت إنجلترا 435 ملهاة تمثل. وتطورت الهزليات والفصول الإضافية إلى ملهاة. وتخلت الأسرار الدينية والتعاليم الأخلاقية عن مكانها للمسرحيات المأساوية الدنيوية، كما فقدت الأساطير المقدسة سلطانها على القصيدة. وفي 1553 أخرج نيقولا يودال في Ralph Roister Doister أول ملهاة إنجليزية في شكل كلاسيكي قديم. وفي 1562 مثل المحامون في The Lnner Temple مسرحية Gorboduc وهي أول مأساة في شكل كلاسيكي.

وبدا لبعض الوقت أن ذلك الشكل، المنحدر من روما، كان محتوماً عليه أن يصوغ المسرحية الإنجليزية في قالبها، في عصر إليزابث. ودافع الجامعيون مثل هارفي، والمحامون الشعراء مثل جورج جاسكوين، والذين تلقوا تعليماً كلاسيكياً مثل سدني-دافعوا عن ضرورة ملاحظة ثلاث "وحدات" في الرواية، أي أنه لا بد أن يكون هناك "عمل" (موضوع)، وان هذا لا بد أن يجري في "مكان" واحد، ويتمثل في "يوم" واحد لا أكثر. ومبلغ علمنا أن هذه الوحدات صاغها لأول مرة لودوفيكو كاستلفترو (1570) في تعليق على "شعريات" أرسطو. إن أرسطو نفسه لا يتطلب إلا وحدة العمل، ويوصي بأن يجري هذا العمل خلال دورة واحدة للشمس" ويضيف ما يمكن أن نسميه وحدة الحالة النفسية بمعنى أن الملهاة "التي تمثل الطبقة الدنيا من الناس" لا يجوز أن تختلط بالمأساة "وهي تمثل العمل البطولي(34)". وأخذ سدني في كتابه "دفاع عن الشعر"، نظرية وحدات المسرحية عن كاستلفترو، وطبقها بدقة، ولكن في مرح لطيف، على الروايات في عصر إليزابث، تلك التي كانت الجغرافية طاغية فيها:

فترى فيها آسية من ناحية، وأفريقية في الناحية الأخرى، وكذلك ممالك سفلى كثيرة، حتى أن الممثل حين يدخل، لا بد أن يبدأ بأن يخبرك أين هو.... أما عن الزمن فهم أكثر تحرراً، وأنه لأمر عادي أن يقع أميران شابان في شرك الغرام، وبعد عوائق جمة تحمل العشية في طفل من شاب وسيم... ثم ينمو حتى يصبح رجلاً يقع في شراك الغرام، مستعداً لأن ينجب طفلاً آخر، وكل هذا على مدى ساعتين(35).

واتبعت فرنسا القواعد الكلاسيكية وأنجبت راسين، أما إنجلترا فنبذتها وهيأت لمسرحياتها المأساوية حرية رومانتيكية ومجالاً يغلب عليه المذهب الطبيعي، وأنجبت شكسبير. وكان المثل الأعلى لعصر النهضة في إنجلترا فكان الحرية والإرادة والمرح والحياة. وكان جمهور النظارة في عصر إليزابث يتألف من صغار اللوردات ومن متوسطي الحال ومن محتلي مقاعد الدرجة الثالثة، وكان ينبغي أن يقدم لهذا الجمهور غذاء دسم متنوع، حيث كان له قدرة على الضحك ملء أشداقه، ولم يكن يعبأ بحفاري قبور يتجاذبون أطراف الحديث في المذاهب الفلسفية مع أمير، وكان لهذا الجمهور خيال لم يروض بعد، يمكن أن يقفز من مكان إلى مكان ويعبر قارة بأسرها، لأية إشارة أو تلميح. وكانت المسرحية في عهد إليزابث تمثل الإنجليز في أيامها، لا الإغريق في عهد بركليز، ولا الفرنسيين في عهد البوربون، ومن ثم أصبحت الفن القومي، على حين أن الفنون التي اتبعت نماذج أجنبية لم تتغلغل جذورها في إنجلترا. وكان على المسرحية الإنجليزي أن تخوض معركة أخرى قبل أن تخطو إلى مارلو وشكسبير، فقد نبذت الحركة البيوريتانية الناشئة مسرح إليزابث على انه وكر للوثنية والتجديف والدنس، واستنكرت وجود النساء والبغايا بين الجمهور، واقترب المواخير من المسارح. وفي 1577 نشر نورثبروك نقداً لاذعاً عنيفاً ضد "لعب النرد والرقص والروايات. والفصول الضاحكة":


إني مقتنع بأن الشيطان ليس لديه وسيلة أسرع ولا مدرسة أصلح،



لينفذ رغبته، ويلقنها، ويوقع الرجال والنساء في شراك الغواية



والفسق والشهوات الدنيئة لدى بنات الهوى الداعرات والشريدات،



من هذه الروايات والمسارح. ومن ثم فانه من الضروري أن تحظر



هذه الأماكن ويمنع هؤلاء الممثلون، وأن يقضي عليهم، وأن



تهدم المسارح بأمر السلطات، كما هو الحال بالنسبة للمواخير وبيوت الدعارة(36).


وكان كتاي ستيفن جوسون "مدرسة الهجاء" معتدلاً نسبياً. واعترف بأن ثمة رواية وممثلين، "لا غبار عليهم". ولكنه عندما رد لودج، أقلع جوسون عن أي تمييز. وفي كتابه "Players Confuted In Five Actions"، وصف الروايات بأنها "غذاء للخطيئة وللشغب وللزنى"، والممثلين بأنهم "أساتذة الرذيلة ومعلمو الخلاعة والفجور(37)." ورأى النقاد في الملهاة صوراً للرذيلة تفسد الأخلاق، وفي المأساة أمثلة مثيرة للقتل والخيانة(38) والتمرد. وفي السنوات الأولى من حكم إليزابث كان يوم الأحد هو اليوم المخصص للتمثيليات. وكانت الأبواق تعلن عنها، كما تدعو أجراس الكنائس الناس إلى صلوات المساء. وكم فزع رجال الدين من تسلل جمهور الكنيسة خلسة من صلواتهم ليزاحموا المسرح. وتساءل أحد الوعاظ: أليست رواية قذرة تستحث بنفخة من بوق ألفا من الناس للحضور بأسرع مما تحضر دقات الناقوس لمدة ساعة مائة منهم لسماع موعظة(39)؟" وذهب نورثبرك إلى أبعد من ذلك فقال: "إذا كنتن تعرفن كيف تخدعن أزواجكن، أو خداع الأزواج لزوجاتهم، وكيف تمثلن دور بنات الهوى، وكيف يكون الملق والمداهنة والكذب والقتل والتجديف على الله، وترديد الأغاني القذرة... فهلا تتعلمن كيف تمارسن كل هذا في مثل هذه الفصول الماجنة؟(40)".

ورد الكتاب المسرحيون على هذا بنشرات أصدروها، وبالسخرية من البيوريتانيين في مسرحياتهم. من ذلك ما أورد مالفوليو في رواية "الليلة الثانية عشرة"، حيث يسأل سير توبي بلش لمهرج في تلك الرواية: "هل تظن أنه لن يكو ن هناك كعك وجعة لأنك رجل متمسك بأهداب الفضيلة؟" فيجيب المهرج "نعم، وبحق سانت آن، وسيكون الزنجبيل كذلك ساخناً في الفم(41)." واستمر هؤلاء الكتاب، حتى شكسبير نفسه، يملحون رواياتهم بشيء من أعمال العنف والغضب وسفاح ذوي القربى والزنى والدعارة. وهناك في رواية شكسبير "بركليز" مشهد عرض حجرة في ماخور يشكو مديره العام من أن: "العاملات عنده بتن من العمل المتواصل، في أسوأ حال(42)". وذهبت سلطات مدينة لندن0وكان بعضهم من البيويتاريين- إلى أن البيوريتانيين ألزموا معارضيهم الحجة. وفي 1574 حرم "المجلس العام" تمثيل الروايات إلا بعد فحصها وإجازتها، ومن هنا جاء بيت شكسبير "لقد كممت السلطات أفواه الفن(43). ولكن، لحسن الحظ، كانت إليزابث ومجلس شورى الملكة مغرمين بالمسرحيات، وكان لبعض اللوردات فرق من الممثلين، وفي ظل رقابة متراخية على المصنفات، أجيزت ست فرق لإخراج الروايات في المدينة.

وقبل 1576 كانت الأعمال المسرحية تجرى أساساً على منصات مؤقتة في أفنية الفنادق. ولكن في تلك السنة بنى جيمس بوربدج أول مسرح دائم في إنجلترا،وأطلق عليه ببساطة اسم "المسرح". وللإفلات من سلطان الجهات المسئولة في لندن أقيم المسرح خارج حدود المدينة نفسها، في ضاحية شوردتش، وسرعان ما أقيمت مسارح أخرى: (1577؟) The Black Friars, The Curtain، (1596) The Fortune، (1599). وفي تلك السنة الخيرة هدم ريتشارد وكوثبرت بوردبدج مسرح والدهما، وأقاما المسرح المشهور Globe في سوثوراك على نهر التاميز تماماً. وكان مثمن الأضلاع في شكله الخارجي، ولكن ربما كان مستديراً في الداخل، ومن ثم أطلق عليه شكسبير "هذه الدائرة الخشبية This Wooden O،(44). وكانت كل مسارح لندن من الخشب قبل 1623. وكان معظمها عبارة عن مدرجات كبيرة تتسع لنحو ألفين من المتفرجين جالسين في صفوف من شرفات محيطة، ويمكن لألف آخرين أن يشاهدوا الرواية وقوفاً في الساحة التي حول المنصة أو خشبة المسرح. وهؤلاء "الألف" هم "جمهور الدرجة الثالثة" الذين وبخهم هملت بأنهم "المشهد الصامت والضجيج(45)" وكان المشاهد الواقف يدفع بنساً واحداً، أما الجالس في الشرفات فيدفع بنسين أو ثلاثة، أما المقعد على المنصة فكان يكلف أكثر من ذلك قليلاً. وكانت هذه المنصة عبارة عن منبسط يخرج من أحد الجدران إلى وسط الساحة. وفي المؤخرة كانت غرفة الملابس، وفيها يرتدي الممثلون ملابسهم، ويتولى "خازن المسرح" أمر أدوات التمثيل والإخراج المسرحي، وكانت تشمل قبوراً وجماجم وصناديق أشجار، وشجيرات الورد، وعلب مجوهرات وستائر ومراجل، وسلالم وأسلحة، وأدوات، وقوارير دم وبعض رؤوس مفصولة وكان يمكن بواسطة الآلات إنزال الآلهة والإلهات من السماء، أو رفع العفاريت والسحرة من الأرض، كما يمكن إسقاط المطر بشد حبل، وتعليق الشمس في السماء "بحزام مزدوج(46)". وكان على هذه الأدوات أن تعوض عن جهاز المسرح. وعوقت المنصة المكشوفة غير المحجوبة سرعة تغيير الوضع. وعوضاً عن ذلك كان التمثيل وسط الجمهور تماماً، حتى ليكاد يحس بأنه جزء من الحدث.

ولم يكن النظارة يشكلون جزءاً صغيراً من المسرح، وكان متعهدو الحفلات يبيعون التين والتفاح والبندق والكتيبات للمتفرجين، وفيما بعد ذلك- إذا صدقنا وليم برين البيوريتاني،-كانت الغلايين تقم للنساء(47). وجاءت النساء إلى الروايات أفواجاً، لا يعوقهن عن ذلك تحذيرات المنابر بأن مثل هذا الاختلاط يحرض على الغواية. وفي بعض الأحيان-حين كان الصراع الطبقي يعترض المسرحية، كان جمهور الدرجة الثالثة يقذفون بمخلفات طعامهم على المتأنقين الجالسين على المنصة، ويجدر بنا، لكي نفهم الرواية في عصر إليزابث، أن نذكر هذا الجمهور: العاطفة التي تهلل لقصة الحب، والمرح القلبي الحماسي الذي تلهف على رؤية المهرجين مع الملوك، والخيلاء التي استساغت البلاغة، والحيوية الفظة التي استمتعت بمشاهد العنف- كما نتذكر قرب المنصة المثلثة الجوانب التي تعزى بالمناجاة والكلام على انفراد.

وكثر الممثلون، وكاد الممثلون جوابو الآفاق أن يظهروا في أية مدينة تقريباً في أيام الأعياد والاحتفالات، يمثلون في ميدان القرية، أو في فناء الحانة، أو في حظيرة للماشية أو في قصر من القصور، وفي أيام شكسبير لم يكن هناك ممثلات، وكان الأولاد يمثلون الأدوار النسائية، فكان يمكن للمشاهدين في أيام إليزابث أن يروا ولداً يمثل امرأة متنكرة في زي فتى أو رجل. وفي المدارس الخاصة الأرستقراطية قدم الطلبة مسرحيات كجزء من تدريبهم أو دراساتهم. ونافست فرق الممثلين الأولاد هذه فرق الممثلين الكبار، عن طريق عرض الروايات في مسارح خاصة للجمهور وللمتفرجين الذين يدفعون أجوراً، وشكا شكسبير من هذه المنافسة(48)، وتوقفت بعد 1626. وحتى يتفادى الممثلون البالغون إدراجهم في مصاف المتشردين، نظموا أنفسهم في فرق تحت رعاية وحماية النبلاء الأثرياء- ليستر، سسكس، أكسفورد، اسكس وكان للورد أمير البحر فرقة، وكذلك للورد كبير الأمناء، وكان هؤلاء الرعاة والحماة يدفعون أجور الممثلين عن العروض التي يقدمونها في قاعات البارونات والنبلاء. وفيما عدا هذا عاش الممثلون مزعزعين غي مستقرين على أنصبتهم في فرقتهم.

ولم تكن الأنصبة توزع توزيعاً عادلاً، فكان للمدير الثلث، واستولى نجوم الممثلين على نصيب الأسد من الباقي. وترك ريتشارد بوريدج- وهو أشهر هؤلاء النجوم- أملاكاً تدر 300 جنيه سنوياً، أما منافسه إدوارد اللين Alleyn فقد شاد وتبرع بكلية دلوتش في لندن. وكوفئ مشاهير رجال المسرح بإعجاب الجمهور الأعمى بهم، ويتهافت السيدات عليهم يخطبن ودهم.

ويروي لنا جون ماننجهام في مذكراته عن مارس 1602 قصة مشهورة:

ذات مرة، حين مثل بوريدج "ريتشارد الثالث"، كانت هناك مواطنة قريبة الشبه به إلى حد بعيد، لدرجة أنها قبل أن تنصرف من الرواية حددت له موعداً ليحضر إليها تلك الليلة باسم ريتشارد الثالث. وكان شكسبير يسترق السمع إلى الحديث، فسبقه إليها، ولقي ترحيباً ونفذ خطته قبل حضور بوريدج. ثم جاء رسول يقول إن ريتشارد الثالث بالباب، فرد شكسبير الرسول ليقول إن وليم الفاتح سبق ريتشارد الثالث(49).



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كرستوفر مارلو 1564 - 1593

لم يجن كتاب المسرح من الربح قدر ما جنى الممثلون، ذلك أنهم باعوا رواياتهم دون تحفظ إلى الفرق المسرحية لقاء مبلغ يتراوح بين 4 و8 جنيهات، ولم يحتفظوا بحقهم في المخطوطة أي في أصل الرواية، وحظرت الفرقة عادة نشر النص لئلا تستخدمه فرقة منافسة. وسجل كاتب الاختزال الرواية أحياناً في الوقت الذي تمثل فيه. وربما أصدر صاحب المطبعة من هذا التسجيل طبعة مسروقة محرفة لا يصيب المؤلف منها إلا ضغط الدم الشديد. ولم تحمل مثل هذه الطبعات دوماً اسم المؤلف ومن ثم، فان الروايات مثل Arden Of Faversham، (1592) عمرت عدة قرون دون أن تحمل اسم مؤلفها.

وبعد 1590 عاش المسرح الإنجليزي على روايات لها بعض القيمة، ولو أن عدداً قليلاً منها فقط الذي عمر لأكثر من يوم. وزخرف جون ليلي ملهياته بأغان شعبية ساحرة فقد مهد السحر الرقيق في روايته Endymino لرواية "حلم منتصف ليلة صيف".

وربما تبادلت رواية روبرت جرين "Friar Bacon and Friar Bungay"، (1598) التي عالجت عجائب السحر، نقول ربما تبادلت الفكرة مع رواية مارلو "دكتور فاوست" (1588؟-1592؟). وروت "المأساة الأسبانية" لتوماس كد (1859؟) قصة قتل دامية كادت لا بقي على أحد في النهاية، وأوحى نجاحها إلى كتاب الرواية في عصر إليزابث ودفعهم إلى منافسة القواد والأطباء في سفك الدماء. وهنا، كما هو الحال في هملت نجد "شبحاً" يطالب بالثأر، كما نجد رواية داخل رواية.

وعمد كريستوفر مارلو قبل تعميد شكسبير بشهرين اثنين، وهو ابن صانع أحذية في منتربري، ومن ثم فانه ما كان ليحظى بالتعليم الجامعي لولا أن رئيس الأساقفة باركر قدم له منحة دراسية. وطوال سني دراسته بالكلية استخدمه سير فرانسيس ولسنهام جاسوساً للتحري عن أية مؤامرات ضد الملكة. ولقد زعزعت دراسته لآداب الإغريق والرومان من عقيدته الدينية، كما أضفى إطلاعه على أراء مكيافللي على تشككه اتجاها إلى المذهب الكلبي (السخرية). وانتقل إلى لندن بعد الحصول على درجة الأستاذية (1587)، وأقام في غرفة مع توماس كد، وانضم إلى حلقة المفكرين الأحرار التي تزعمها رالي وهاريوت. ورفع ريتشارد بارنز-أحد عمال الحكومة-إلى الملكة في 3 يونية 1589 تقريراً جاء فيه أن مارلو كان قد أعلن أن أول أصل في الدين لم يكن إلا إبقاء الناس في رعب وفزع..وان المسيح كان ابن زنى... وأنه إذا كان ثمة ديانة حقه فهي الكاثوليكية، لأن عبادة الله تقوم على المزيد من الطقوس، وأن جميع البروتستانت حمير مراءون منافقون... وأن العهد الجديد (الإنجيل) كله مكتوب بشكل قذر بذيء. ويضيف بارنز "ثم أن مارلو هذا... في كل اجتماع يحضره تقريباً... يحرض الناس على الإلحاد، ويريدهم ألا يخشوا "البع بع" والغيلان، مزدرياً كل الازدراء الرب ورسله(50)." كما أن بارنز (الذي أعدم شنقاً في 1594 لفعلة شائنة) أضاف- ليحكم التدبير- أن مارلو دافع عن اللواط(51)، ووصف روبرت جرين في دعوته أصدقائه إلى الصلاح، وهو على فراش الموت، نقول "وصف مارلو بأنه ميال إلى التجديف والإلحاد(52) وقرر توماس كد- وقد قبض عليه في 12 مايو 1593- تحت تأثير التعذيب، أن مارلو كان مارقاً مدمناً للخمر، قاسي القلب"، معتاداً على "السخرية من الكتب المقدسة" و"الإستهزاء بالصلوات(53)".

وقبل أن تصل هذه التقارير إلى الحكومة بوقت طويل، كان مارلو قد كتب وأخرج للمسرح روايات تشير إلى كفره وشكوكه في الكتب الدينية. ومن الواضح أنه ألف Tamburlaine The Great في الكلية وانه أخرجها في عام تخرجه، وإن تمجيدها للمعرفة والعلم والجمال والقوة ليكشف عن مزاج الشاعر المصطبغ بمبادئ فاوست (فيلسوف يبيع نفسه للشيطان مقابل حصوله على العلم والمعرفة).


إن نفوسنا التي تستطيع بما أوتيت من مواهب



أن تدرك عجيب صنع العالم،



وتقيس مدار كل كوكب سيار،



ولا تزال تصعد وراء المعرفة اللانهائية،



وتنتقل دائماً مثل الأجرام التي لا يقر لها قرار



تريدنا أن نفني أنفسنا، وألا نهدأ،



حتى نصل إلى أنضج الثمار في كل شيء(54).


وكانت الروايتان اللتان كتبهما تيمور تنمان عن فجاجتهما، وكان تصوير الشخصيات مبسطاً أكثر مما ينبغي التبسيط- فكل شخص يمثل صفة واحدة، فتامبورلين هو الزهو بالقوة، ويكاد الزهو أن يكون غرور طالب جامعي منتفخ الأوداج ببدع وأشياء جديدة لم يتمثلها جيداً في عقله، لا أن يكون ثقة هادئة بالنفس لدى ملك ظافر. وتجري القصة على أنهار من الدماء تعترضها السدود أو الاحتمالات البعيدة. والأسلوب ينزع إلى الكلام المنمق الرنان. ماذا إذن أكسب هذه الرواية أعظم النجاح، إلى هذا الحد، في عصر إليزابث؟ يحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى ما فيها من عنف وسفك دماء وتنميق، ولكنا أيضاً قد نؤمن بأنه يرجع إلى ما فيها من زندقة وهرطقة وفصاحة، ففيها أفكار تدوي بجرأة أكثر، وصور يحس بها المرء إحساساً أعمق، وعبارات استخدمت بذكاء أكثر مما سمع أو عرف في المسرح الأليزابيثي من قبل. وهنا كانت عشرات من "الأبيات العظيمة" مما حدا بجونسون أن يمتدحها، وقطع تتسم بجمال شجي، حتى لقد ذهب سوينبرن إلى أنها فريدة من نوعها.

وأعجل التهليل والهتاف مارلو، فأسرع الخطى، وكتب بكل ما أوتي من قوة الروح أعظم أعماله: "التاريخ الفاجع لدكتور فاوست" (1588؟). إن أخلاق العصور الوسطى التي ربما أقرت "أن بهجة المعرفة ببجة يعروها الحزن والأسى(55)، وأن في المزيد من الحكمة مزيداً من البلية(56)" كانت قد دمغت اللهفة الجامحة على المعرفة بأنها إثم عظيم، بيد أن طموح العصور الوسطى تحدى هذا الخطر، حتى إلى حد مناشدة السحر والشيطان بغية الوقوف على أسرار الطبيعة وقواها. وإن مارلو ليمثل فاوست على أنه طبيب ويتنبرج العالم الشهير الذي يتميز غيظاً من الحدود الضيقة لمعرفته وعمله، ويحلم بوسائل سحرية تجعله يحيط بكل شيء علماً.


إن كل شيء يتحرك بين القطبين الساكنين



سوف يكون تحت أمري...



وهل أجعل الرواح تأتيني بكل ما أريد،



وتبدد كل غموض والتباس.



وتقوم بكل مغامرة يائسة أبتغيها؟



سأجعلها تطير إلى الهند من أجل الذهب



وتنقب في المحيطات وراء لآلئ الشرق



وتفتش في كل أركان الدنيا المكتشفة حديثاً



من أجل الفاكهة الشهية وكل ألوان النعيم والترف،



وسأجعلها تتلو على غرائب الفلسفة.



وتقص على أنباء الملوك الأجانب(57).


وبناء على نداء منه، يظهر مفستوفيلس، ويعرض عليه أربعاً وعشرين سنة من السعادة والقوة، شريطة أن يبيع نفسه إلى لوسيفر ويوافق فاوست ويوقع العقد بدم ذراعه المقطوعة. وكان أول مطلب له هو أن يأتيه بأجمل فتاة في ألمانيا لتكون زوجة له، "أنني شهواني لعوب داعر"، ولكن مفستوفيلس يثنيه عن الزواج، ويقترح بدلاً منه مجموعة متعاقبة من الخليلات والمحظيات. ويطالب فاوست بهيلين غادة تراوده، فتاتي إليه ويغرق هو في غمرة النشوة والابتهاج:


هل هذا هو الوجه الوحيد الذي هاجم ألف سفينة



وأحرق أبراج ترواده الشاهقة؟



أيتها الجميلة هيلين امنحيني الخلود بقبلة منك...



آه... إنك أحلى من نسم المساء



مكسوة بجمال ألف من النجوم


وعولج المشهد الأخير في قوة هائلة: التوسل الأخير إلى الله في شيء من الرحمة، أو على الأقل في فترة من اللعنة والعذاب-"فليعش فاوست ألف سنة بل مائة ألف سنة في الجحيم، لينجو في النهاية"-ثم اختفاء فاوست عندما آذنت الساعة بحلول منتصف الليل، وسط ضجة هائلة من السحب المعتمة المصطدمة بعضها ببعض. وتنشد الفرقة الموسيقية كلمات تخليد ذكراه- وذكرى مارلو:


انقطع الغصن الذي نما وترعرع مستقيماً عالياً،



واحترق فرع الغار الذي يكلل أبوللو


ربما استطاع مارلو، في هذه الروايات ، أن يظهر ميوله الخاصة نحو المعرفة والجمال والقوة، ولكن تطهير العواطف، أو أثر التنقية والتنظيف- ذلك الذي عزاه أرسطو إلى المسرحية المأساوية، كان يظهر في المؤلف أكثر منه في الجمهور المشاهدين. وفي مسرحية "يهودي مالطه" (1589؟) تأخذ الرغبة في القوة شكلاً متوسطاً من جشع المال والثروة، وتدافع عن نفسها في الخطبة التي ألقاها مكبافل:


إني لأعجب لأولئك الذين يبغضونني كل البغض.



وعلى الرغم من أن بعضهم يندد علانية بكتبي



فانهم، سيقرؤونها، ومن ثم يصلون



إلى كرسي بطرس، وعندما يتخلصون مني



سيكون أعدائي الصاعدون خطراً عليهم



وإني لأعتبر الدين لعبة أطفال،



وأعتقد أنه ليس ثمة خطيئة غير الجهل.


ومرة أخرى نجد أن بارباس مقرض النقود صفة واحدة مجسدة، هي الجشع إلى حد الكراهية لكل من يعوق سبيل مكاسبه في صورة ساخرة بغيضة عولجت برذائل مهيبة.


لقد تعلمت في فلورنسة كيف أقبل يدي



وأرفع ذراعي عندما ينادونني يا كلب،



وأتوارى ذليلاً مثل أي أخ عاري القدمين



أملاً في أن أراهم يموتون جوعاً في حظيرة(58).


وإنه، وهو يدقق التأمل في مجوهراته، يهتز طرباً "لثروته التي لا حد لها، في غرفة صغيرة(59)" وعندما تستعيد ابنته حقائب أمواله المفقودة، يصيح في خليط من المشاعر، سبق بها شيلوك، "آه يا ابنتي، ذهبي، ثروتي، بهجتي(60)"، وفي هذه الرواية قوة تكاد تكون ضراوة، وفيها وخز بالألقاب وقوة في العبارة، أدت بمارلو، بين الحين والحين، إلى الاقتراب كثيراً من شكسبير.

وكان أشد اقتراباً منه في رواية إدوارد الثاني (1592)، فلما أن توج الملك الصغير أرسل إلى صديقه الإغريقي "جافستون، وأغدق عليه بسخاء القبلات والمناصب والموال، فثار النبلاء الذين أهملهم وخلعوا إدوارد الذي اتجه إلى الفلسفة، فنادى رفاق الباقين:


تعال يا سبنسر، تعال يا بالدوك، اجلسا إلى جواري



جربا الآن تلك الفلسفة،



التي في بيوت حضانتنا المشهورة للفنون



كنتم ترضعونها من أفلاطون وأرسطو.


إن هذه الرواية (إدوارد الثاني)- بهذا البنيان المحكم، وبالشعر المفعم بالحساسية والخيال والقوة، وبهذه الشخصيات التي رسمت في وضوح وتماسك، وبهذا الملك الممزوج من اللواط والزهو، ومع ذلك يمكن الصفح عنه في بساطة صباه وجماله الغض- نقول إن هذه الرواية بكل ما ذكرنا، كانت قيد خطوة من رواية شكسبير "ريتشارد الثاني" التي أعقبها بسنة واحدة.

وماذا كان عساه ينجر هذا الكتاب المسرحي الذي بلغ من العمر سبعاً وعشرين سنة، إذا اكتمل نموه. في مثل تلك السن كان شكسبير يكتب توافه مثل :Two Gentlemen Of Verona, Acomedy Of Errors Love's Labour's Lost وفي "يهودي مالطة" كان مارلو يعرف كيف يجعل كل منظر يدفع أمامه مكيدة مرتبة، وفي "إدوارد الثاني" تعلم كيف يعرف الشخصية الواحدة على أنها أكثر من صفة واحدة مجسدة، وربما تيسر له في عام أو عامين تطهير رواياته من الكلام المنمق الطنان والأحداث المثيرة، ولربما سما إلى فلسفة أرحب أفقاً، وإلى تعاطف أعظم مع أساطير بني الإنسان ونقاط الضعف فيهم. وربما كانت نقيصته المعيبة هي الحاجة إلى الفكاهة، فليس ثمة ضحك لطيف في رواياته، فاللهو العارض-كما هو الحال في روايات شكسبير، لا يؤدي مهمته الصحيحة في المأساة- ألا وهي تهدئة روح المستمع قبل الارتفاع به إلى ذروة المأساة. وكان يستطيع أن يقدر الجمال الحسي أو المادي في النساء، ولا يقدر ضعفهن وقلقهن وكياستهن. وليس في رواياته شخصية نسوية قوية نشيطة، حتى في الروايتين اللتين لم يكملهما "ديدو" و"ملكة قرطاجة".

ولم يبق أمامنا إلا الشعر. وأحياناً تغلب الخطيب على الشاعر، فصاح الخطيب "بخطبة عظيمة مدوية(61). ولكن كم من مشهد كان الشعر المشرق ينساب فيه بصور حية وألفاظ متناغمة إلى حد أن الإنسان قد يخطئ بعض السطور فيظنها من فيض خيال شكسبير. وأثبت الشعر المرسل عند مارلو أنه الأداة الصحيحة للمسرحية الإنجليزية، وقد يكون أحياناً مملاً على وتيرة واحدة، ولكنه عادة متنوع من أوزانه، محقق لاتصال وترابط يبدوان طبيعيين.

وأسدل الستار الآن فجأة على "تاريخه الفاجع" الخاص،ففي 30 مايو 1593، اجتمع ثلاثة من جواسيس الحكومة- انجرام فريزي، نيقولا سكيرز، روبرت بولي-بشاعرنا مارلو- وربما كان هو الآخر لا يزال جاسوساً- اجتمع الأربعة للعشاء في منزل أو حانة في دتفورد، على بعد أميال من لندن. وطبقاً لما جاء في تقرير وليم دانوبي- المحقق في أسباب الوفيات المشتبه فيها- "تراشق فريزر ومارلو بألفاظ نابية قبيحة في تبيان السبب الذي من أجله لم يتفقا... على دفع نفقات العشاء. فما كان من مارلو إلا أن استل خنجراً من حزام فريزر وطعنه به فأصابه ببعض جروح سطحية. فأمسك فريزر بيد مارلو وسدد الخنجر إليه فوراً، وأصابه بجرح قاتل عمقه بوصتان في عينه اليمنى، ... مات المدعو كرستوفر مورلي متأثراً به في الحال"، حيث وصل النصل إلى المخ. وقبض على فريزر فترافع بأنه كان في حالة دفاع عن النفس، وأفرج عنه بعد شهر. أما مارلو فقد وورى التراب في أول يونيه في قبر غير معروف الآن(62). وقد بلغ من العمر تسعة وعشرين ربيعاً.

وبالإضافة إلى Dido ترك مارلو شذرتين غاية في السمو. أما Hero and Leander فهي قصيدة رومانتيكية، من المقاطع ذوات البيتين من نوع الملحمة، عن قصة موزائيس التي حكت في القرن الخامس عن شاب قطع الدردنيل سبحاً ليوفي بموعد لقاء. وإن أنشودة "الراعي المشبوب العاطفة في الطريق إلى حبيبته". لهي واحدة من أعظم الغاني الشعبية في عهد إليزابث. واعترف شكسبير اعترافاً جميلاً بفضل مارلو، فأجرى فقرات من هذه القصيدة على لسان سير هيو أيفانز في رواية "الزوجات المرحات في وندسور"، كما أشار إليها رقيقة في رواية "على هواك As You Like It":


أيها الراعي الذي قضى نحبه، إني أرى الآن قولك المأثور في القوة



"من ذا الذي أحب، إذا لم يكن أحب لأول نظرة؟"


وهذا هو البيت رقم 76 من رواية مارلو Hero and Leander لقد أنجز مارلو الشيء الكثير في العمر القصير. ولقد جعل من الشعر المرسل كلاماً مرناً قوياً. وأنقذ المسرح على أيام إليزابث من دعاة القديم ومن البيوريتانيين وأضفى أشكالهم المحددة الواضحة على مسرحيات الأفكار ومسرحيات التاريخ الإنجليزي. وترك بصماته على شكسبير في روايتي تاجر البندقية وريتشارد الثاني، وفي شعر الغزل، وفي الأسلوب البليغ الفخم. وبظهور مارلو، وكد Kid؛ ولودج، وجرين، وبيل Peele، كانت الطرق قد فتحت، وكان شكل المسرحية وبنيانها وأسلوبها ومادتها قد هيئت كلها. فلم يكن شكسبير معجزة، بل كان منفذاً ومنجزاً لما بدأ به هؤلاء جميعهم.