قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 5 ف 39

صفحة رقم : 9271

قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> معارضة الإصلاح البروتستانتي -> البابوات والمجتمع -> البابوات يكرهون على الدفاع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل التاسع والثلاثون: البابوات والمجمع 1517-1565

البابوات يكرهون على الدفاع

لقد أرجأنا إلى آخر هذا المجلد هذه المهمة الشاقة على كاتب غير كاثوليكي، مهمة فهم رد فعل البابوات للتحدي الذي واجههم به الإصلاح البروتستنتي، ثم وصفه في غير ميل ولا تحيز.

لقد كان رد فعل أول الأمر دهشة متألمة. ولا عجب، فبابوات فترة الإصلاح البروتستنتي، ربما باستثناء واحد، كانوا رجالاً طيبين، على قدر ما يتاح لرجال دولة أن يكونوا، لا مجردين من حب الذات أو خالين من الخطايا، بل في جوهرهم مهذبين رحماء أذكياء، مقتنعين في إخلاص بأن الكنيسة مؤسسة ليست رائعة في إنجازاتها فحسب، ولكنها ما زالت ضرورة لا غنى عنها لصحة الإنسان الأوربي الخليقة وسلامه النفسي. وإذا سلمنا بأن خدام الكنيسة البشريين قد سقطوا في رذائل خطيرة، أفلا نجد عيوباً كهذه أو شراً منها في كل إدارة علمانية؟ وإذا كنا نحجم عن الإطاحة بالحكومة المدنية عقاباً لها على جشع أمرائها واختلاسات موظفيها، فهل يكون إحجامنا أقل من هدم كنيسة ظلت ألف سنة الأم التي غذت الحضارة الأوربية بالدين والتعليم والأدب والفلسفة والفن؟. وأي ضير في أن تبدو بعض العقائد التي رؤى عنها معوان على النهوض بالفضيلة والنظام عسيرة الهضم على المؤرخ أو الفيلسوف- وهل التعاليم التي يقترحها البروتستنت أكثر منطقاً أو أسهل تصديقاً إلى الحد الذي يبرر أن تقلب أوربا رأساً على عقب بسبب هذا الخلاف؟. إن التعاليم الدينية على أية حال لا يحددها منطق القلة بل حاجات الكثرة، إنها إطار للعقيدة يمكن في نطاقه تنشئة الإنسان العادي الميال بطبيعته إلى ارتكاب عشرات الأفعال غير الاجتماعية، ليكون مخلوقاً يملك من الدربة وضبط النفس ما يكفي لجعل المجتمع والحضارة أمراً ممكناً. ولو أن هذا الإطار حطم، لكان لزاماً بناء إطار آخر، ربما بعد قرون من الفوضى الخلقية والمادية. أليس دعاة الإصلاح البروتستنتي متفقين مع الكنيسة على أه لا جدوى من الدستور الخلقي ما لم يعززه الإيمان الديني؟ أما الطبقات المفكرة فهل تراها حققت أي مزيد من الحرية أو السعادة تحت إمرة الأمراء البروتستنت عنها تحت إمرة البابوات الكاثوليك ؟ ألم يزدهر الفن تحت زعامة الكنيسة، وألا يذوي تحت خصومة المصلحين البروتستنت الذين أرادوا أن ينتزعوا من الناس تلك العصور التي تغذي ما في حياتهم من شعر وأمل؟ وأي مبررات قاهرة تدعو في رأي العقول الناضجة إلى تفتيت العالم المسيحي إلى مذاهب لا تحصى، متنابذة، مبطل بعضها للبعض، عاجزة بمفردها أمام غرائز البشر؟.

إننا لا نستطيع أن نعرف هل كانت هذه مشاعر البابوات المعاصرين لحركة الإصلاح البروتستنتي، لأن القادة النشطين قلّما يذيعون على الناس فلسفاتهم. ولكن لنا أن نتصور الموقف النفسي للبابا ليو العاشر (1513-21) على هذا النحو، إذ وجد البابوية تهتز تحت قدميه بمجرد أن دعي للاستمتاع بها. كان رجلاً يشبه الكثيرين منا-مذنب بالخطيئة وبالإهمال الإجرامي، ولكنه في جملته جدير بالصفح عنه. كان عادة ألطف الناس وأكثرهم عطفاً، عليه رزق نصف شعراء روما، ومع ذلك فقد لاحق مهرطقي بريشة حتى الموت، وحاول أن يؤمن بأن الأفكار الممزقة للكنيسة يمكن أن تنتزع من البشر بحرق أصحابها. وقد أظهر من الحلم مع لوثر قصارى ما ننتظر من بابا ومن عضو في أسرة مديتشثي، ولنتصور أن الوضع انعكس، وكيف كان البابا مارتن يمحق المتمرد ليو محقاً! لقد حسب ليو حركة الإصلاح البروتستنتي نزاعاً غير مهذب بين رهبان أجلاف. ومع ذلك ففي بواكير عام 1517، وفي بدايته رياسته البابوية، ألقى جيانفرانشسكو بيكو ديللا ميراندولا (ابن أخي بيكو الأشهر منه) أمام البابا والكرادلة خطاباً يسترعي الاهتمام "يرسم فيه بأحلك الألوان ذلك الفساد الذي تسلل إلى الكنيسة" ويتنبأ بأنه "لو أن ليو... أبى إبراء الجراح، فإنه يخشى أن الله نفسه لن يستعمل بعد اليوم علاجاً بطيئاً، بل سيبتر ويبيد الأعضاء المريضة بالنار والسيف"(1). ولكن ليو انصرف على الرغم من هذا الإنذار إلى الاحتفاظ بتوازن للقوى بين فرنسا والإمبراطورية حماية للولايات البابوية. يقول مؤرخ كاثوليكي: "لم يفكر قط في إصلاح على النطاق الواسع الذي أصبح ضرورياً... وظلت الإدارة البابوية في روما دنيوية شأنها في أي وقت مضى(2)".

وخير برهان على أنه لم يعد سبيل للإصلاح إلا أن يأتي بضربة من الخارج هو إخفاق أدريان السادس (1522-23). ذلك أنه سلم بهذه المفاسد واضطلع بإصلاحها في القمة، ولكن أهل روسا سخروا منه وسبوه لأنه يهدد مواردهم من ذهب الأقطار الواقعة وراء الألب. وبعد عامين من النضال ضد هذه الأنانية الجاهلة مات أدريان قهراً.

بيد أن العاصفة المتجمعة تفجرت على رأس كلمنت السابع (1523-34). لقد كان من خيرة البابوات فكراً وخلقاً، رحيماً كريماً، دافع عن اليهود المطاردين، ولم يشارك في الانحلال الجنسي أو المالي المحيط به، وواصل غلى نهاية حياته المضطربة تغذية الفن والأدب الإيطاليين برعايته الذكية المميزة. ولعل ما حظي به من تعليم رفيع حال بينه وبين أن يكون إدارياً ناجحاً، وكان في ذكائه من الحدة ما أتاح له رؤية المبررات الحسنة لكل مسلك في كل أزمة؛ وأوهن علمه من شجاعته، وأغضبت ذبذباته الدولة تلو الدولة. على أننا لا نملك إلا التعاطف مع رجل توافر له حسن النية الشديد، رجل رأى روما تنهب تحت بصره، ورأى نفسه سجين غوغاء وإمبراطور؛ رجل منعه ذلك الإمبراطور من محاولة الوصول إلى صلح معقول مع هنري الثامن؛ رجل أكره على أن يختار بين أمرين أحلاهما مر، أن يخسر إما هنري وإنجلترا، وإما شارل وألمانيا؛ رجل قيل له حين احتج على تحالف فرانسوا مع العثمانيين، والقائل هو ذلك الملك. "المسيحي جداً"، إنه إذا بدر منه مزيد من الاحتجاج فإن فرنسا ستطلق البابوية. إن أحداً من البابوات لم يتجرع مثله كأس المنصب حتى هذه الثمالة المرة.

وكانت أخطاؤه وبيلة. فهو حين أساء تقدير خلق شارل وموارده، وبهذا شجع على "نهب روما" أصاب البابوية بلطمة شجعت شمال ألمانيا على نبذ الولاء لروما. وحين توج الرجل الذي أذن بذلك الهجوم فقد احترام العالم، حتى العالم الكاثوليكي. وقد أذعن لشارل من جهة لافتقاره إلى القوة المادية اللازمة للمقاومة، ومن جهة أخرى لخشيته من أن إمبراطوراً أقصاه البابا عن وده قد يدعو مجمعاً عاماً من العلمانيين ومن رجال الدين، ويمسك بزمام السلطتين الكنسية والزمنية جميعاً، ويتم إخضاع الكنيسة للدولة المتمردة، بل ربما يخلعه باعتباره ابناً غير شرعي(3). ولو أتيحت لكلمنت الشجاعة التي أبداها عمه لورنزو مديتشي في نابلي عام 1479، لبادر بدعوة مجمع قد يوفق تحت قيادته المتحررة في إصلاح أخلاقيات الكنيسة وتعاليمها، وفي إنقاذه وحدة العالم المسيحي الغربي.

أما خليفته فقد بدا لأول وهلة حائزاً على جميع شروط الذكاء والخلق. وأقر الجميع بأن أليساندرو فارنيزي، الذي اتخذ اسم بولس الثالث، هو الرجل الصالح لأرفع منصب في العالم المسيحي، فقد ولد في أسرة غنية مثقفة، وتعلم الآداب القديمة على يد بومبونيوس لايتوس، ونضج أديباً إنسانياً وسط أسرة مديتشي بفلورنسة، وقربه بابا أوقعته أخته من قبل في شباك شعرها الذهبي، ورسم كردينالاً في الخامسة والعشرين (1493)، وأثبت كفايته في مهام دبلوماسية عسيرة، وارتقى إلى مقام مرموق وغير منازع في مجمع الكرادلة، ثم انتخب للبابوية بالإجماع في عام 1534. ولم ينل من قدره كثيراً إنجابه أربعة أبناء قبل أن يرسم قسيساً في عام 1519، ومع ذلك فقد ظهر في خلقه، كما ظهر في مجرى حياته العملية، تقلب وتناقضات، وبعض هذا راجع لأنه وقف كعمود مهزوز بين النهضة التي أحبها وبين حركة إصلاح بروتستنتي لم يستطع فهمها أو اغتفارها. ومع أنه كان رفيق البدن، فقد سلخ خمسة عشر عاماً من الزعازع السياسية والداخلية. ومع أنه تزود بكل ثقافة عصره، فإنه كان يلجأ بانتظام إلى المنجمين ليحددوا له أكثر الساعات مواتاة لرحلاته أو قراراته بل ومقابلاته(4). ومع أنه كان رجلاً شديد الحساسية، ميالاً بين الحين والحين غلى نوبات الغضب، فقد كان معروفاً بضبطه لنفسه. وقد وصفه تشلليني-الذي اضطر لإيداعه السجن-بأنهر جل "لا إيمان له بالله ولا بغيره"(5). وهذا يبدو غلواً في الحكم عليه، فما من شك في أن بولس كان يؤمن بنفسه، غلى أن أضعف مسلك ذريته في سنوات عمره الأخيرة إرادة الحياة فيه. وقد عوقب حيث أثم، فقد أعاد محاباة الأقرباء التي كانت طابع بابوية عصر النهضة، وأعطى بياتشنزا وبارما لولده بيرلويجي، وكاميرينو لحفيده أوتافيو، وخلع القبعة الحمراء على ابني أخيه البالغين من العمر أربعة عشر وسبعة عشر عاماً ورقاهما على الرغم مما ذاع عنهما من فساد خلق. لقد كان يملك شخصية بلا خلق، وذكاء بلا حكمة.

وقد اعترف بعدالة النقد الذي وجهه دعاة الإصلاح البروتستنتي إلى إدارة الكنيسة، ولو كان الإصلاح الكنسي هو العقبة الوحيدة في سبيل المصالحة لجاز أن ينهي حركة الإصلاح هذه. ففي عام 1553 أوفد بيير باولو فرجيريو ليسبر القادة البروتستنت حول حضورهم مجمعاً عاماً، ولكنه أبى أن يعد بالسماح بأي تغيير جوهري في العقيدة المعرفة أو في سلطة البابوات. وعاد فيرجيريو من ألمانيا بخفي حنين، فقد أبلغ البابا أن الكاثوليك هناك انضموا إلى البروتستنت في التشكك في إخلاص البابا في اقتراح عقد المجمع(6)، وأن الأرشيدوق فرديناند شكا من أنه لا يستطيع العثور على أب اعتراف لم يكن زانياً أو سكيراً أو جهولاً(7). وكرر بولس المحاولة في عام 1536، وكلف بيتر فان درفورست أن يتفق مع اللوثريين على شروط عقد مجمع، ولكن ناخب سكسونيا صد بيتر فلم يظفر بشيء. وأخيراً بذل بولس قصارى جهد الكنيسة في الوصول إلى تفاهم مع ناقديها، فأرسل إلى مؤتمر براتسبون الكردينال جاسبارو كونتاريني، وكان رجلاً لا يتطرق الشك إلى إخلاصه في الحركة الكاثوليكية الداعية للإصلاح.

ونحن لا نملك غير العطف على الكردينال الشيخ الذي اقتحم ثلوج الأبنين والألب في فبراير ومارس 1541 وهو يتوق لتتويج حياته بتنظيم السلام الديني. وقد تأثر كل من كان في راتسبون بتواضعه، وبساطته، وحسن نيته. وقد توسط في صبر القديسين بين الكاثوليك إيك وفلوج وجروبر، والبروتستنت ملانكتون وبوكر وبيستوريوس. وأمكن التوصل إلى إنفاق حول الخطية الأصلية، والإرادة الحرة، والعماد، والتثبيت، والرسامة. وفي 3 مايو كتب كونتاريني إلى الكردينال فارنيزي مغتبطاً "حمداً لله؛ بالأمس وصل اللاهوتيون الكاثوليك والبروتستنت إلى اتفاق حول عقيدة التبرير"، ولكن لم يتيسر الوصول إلى حل وسط مقبول حول سر القربان، فقد أبى البروتستنت الاعتراف بأن في استطاعة قسيس أن يحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وشعر الكاثوليك أن التخلي عن عقيدة التحول هذه معناه التخلي عن صميم القداس وطقوس كنيسة روما. وقفل كونتاريني عائداً إلى روما وقد أضناه الإخفاق والحزن، ليدمغه أتباع الكردينال كارافا المتزمتين في الكثلكة التقليدية بتهمة اللوثرية. ولم يفصح بولس نفسه عن استطاعته قبول الصيغ التي وقع عليها كونتاريني، على أنه استقبله استقبالاً ودياً وعينه ممثلاً للبابا في بولونيا. وهناك مات بعد وصوله بخمسة أشهر.

وأصبحت سياسة الدين أشد اكفهراراً واختلاطاً. وتساءل بولس ألا يظفر الإمبراطور شارل الخامس من وراء تصالح البروتستنت مع الكنيسة بدولة ألمانية موحدة، يسود السلام ربوعها، بحيث تطلق يده في أن يولي وجهة صوب الجنوب، ويربط أملاكه في شمالي وجنوبي إيطاليا بالاستيلاء على الولايات البابوية والقضاء على سلطة البابوات الزمنية؟ أما فرانسوا الأول فإنه لخشيته أيضاً من تهدئة ألمانيا اتهم كونتاريني بالاستسلام المخزي للمهرطقين، وتعهد بتأييد بولس تأييداً كاملاً إن هو رفض في حزم مصالحة اللوثريين(8)-الذين كان فرانسوا يسعى إلى التحالف معهم. ويبدو أن رأي بولس استقر على أن التفاهم الديني سيكون مجلبة خراب سياسي. وفي عام 1538 استطاع بالدبلوماسية البارعة أن ينع شارل وفرانسوا بتوقيع هدنة في نيس، ولما أمن شر شارل في الغرب على هذا النحو حرضه على الهجوم على اللوثريين. وحين قارب شارل الانتصار 1546 سحب بولس الفرقة البابوية التي كان قد أرسلها إليه، لأنه هنا أيضاً أي ارتعد فرقاً من أن يكون في خلاص الإمبراطور من وجود مشكلة بروتستنتية في مؤخرته ما يغريه بإخضاع إيطاليا كلها لسلطانه. وأصبح البابا بروتستنتياً مؤقتاً، ونظر إلى اللوثرية كأنها حامية إلى البابوية-تماماً كما كان سليمان القانوني حامياً للوثرية. وفي هذه الأثناء كان فرانسوا الأول-درعه الثاني ضد شارل-يحالف العثمانيين الذين هددوا المرة بعد المرة بغزو إيطاليا والهجوم على روما. ولعلنا نغتفر بعض هذا التذبذب لبابا أرهقه الخصوم وأحدقت به المشكلات على هذا النحو، وما من عدة لديه غير حفنة من الجند، ولا دفاع غير إيمان لا يعمر فيما يبدو إلا قلوب الضعفاء. وفي وسعنا أن ندرك ضآلة الدور الذي لعبه الدين في هذه الصراعات على القوة حين نسمع تعليق شارل للسفير البابوي إذ علم أن بولس حول وجهه شطر فرنسا: قال الإمبراطور إن البابا أصابته في شيخوخته عدوى مرض يصيب الناس عادة في شبابهم، هو المرض الفرنسي(9).

ولم يصد بولس البروتستنتية ولا أدخل أي إصلاحات جوهرية، ولكنه نفخ الحياة في البابوية ورد لها عظمتها ونفوذها، وظل إلى النهاية واحداً من بابوات النهضة. فقد شجع جهود ميكل أنجيلو وغيره من الفنانين وأمدهم بالمال، وجمل روما بالمباني الجديدة، وزين الفاتيكان بـ "الصالاريجيا" و "الكابيلاباولينا"، وشارك في حفلات الاستقبال الفخمة، ورحب بالجميلات من النساء على مائدته، واستقبل الموسيقيين والمهرجين والمغنيات والراقصات في بلاطه(10)، وحتى في ثمانيناته لم يكن سليل فارنيزي هذا ليفسد اللعبة على لاعبيها. وقد نقله لنا تيشان في سلسلة من اللوحات القوية. وفي أفضل هذه اللوحات (المحفوظة بمتحف نابلي) يبدو هذا الحبر الأعظم، الذي سلخ من عمره خمسة وسبعين عاماً، محتفظاً بقوته، على وجهه أخاديد حفرتها مشكلات الدولة والأسرة، ولكن رأسه لم ينحن بعد للزمن. وبعد ثلاث سنوات رسم تيشان لوحة لبولس وابني أخيه أوتافيو والسندرو (محفوظة هي الأخرى بنابلي) كادت تتنبأ بمصيره، فالبابا الذي انحنى الآن ظهره ونال منه الإعياء، يبدو فيها وكأنه يستجوب أوتافيو مستريباً في أمره. ذلك أن بييرلويجي، بن بولس، اغتيل عام 1547، وفي عام 1548 تمرد أوتافيو على أبيه، ودخل في اتفاق مع أعداء بولس ليجعل بارما ولاية إمبراطورية. وأسلم البابا العجوز نفسه للموت (1549) بعد أن هزمه حتى أبناؤه.

وقد أخطأ خليفته في تسمية نفسه بيوليوس الثالث (15500-55)، إذ لم يكن فيه شيء من فحولة يوليوس الثاني ولا قوته ولا أهدافه الطموحة. بل إنه استأنف أساليب ليو العاشر السهلة الهينة، واستمتع بالبابوية في إسراف لطيف، وكأن حركة الإصلاح البروتستنتي ماتت بموت لوثر. فخرج للصيد، واحتفظ بندماء البلاط، وقامر بمبالغ كبيرة، ورعى مصارعات الثيران، ورقى لمنصب الكاردينالية تابعاً له يعنى بنسناسته، وأعطى روما على الجملة آخر رشفة رشفتها من وثنية النهضة سواء في الأخلاق والفن(11). وقد كلف فينولا وغيره بأن يشيدوا له خارج "البورتا ديل بوبولو" بيتاً جميلاً "فيللا دي بابا جوليو" (1553) جعله مركزاً للفنانين والشعراء والاحتفالات. ثم كيف نفسه في هدوء وفق سياسات شارل الخامس. وشكا النقرس في غير أوانه، فحاول علاجه بالصوم، ويبدو أن هذا البابا الأبيقوري مات من الزهد في الطعام(12)، وقيل من الانغماس في اللذات(13).

وجاء البابا مارتشيللوس الثاني، وكان أقرب إلى القديسين. فحياته الخلقية بلا لوم، وتقواه عميقة، واختياره لشاغلي المناصب مثالي، وجهوده لإصلاح الكنيسة مخلصة، ولكنه مات في اليوم الثاني والعشرين من تقلده منصب البابوية (5 مايو 1555). وكأن الكرادلة أرادوا أن يعلنوا على الملأ أن معارضة الإصلاح البروتستنتي قد وصلت إلى البابوية، فقلدوها رجلاً كان روح حركة الإصلاح في الكنيسة وصوتها، وهو الناسك جوفاني بييترو كارفا، الذي سمى نفسه بولس الرابع (1555-59). وكان وقد بلغ التاسعة والسبعين ثابتاً على آرائه لا يحيد عنها قيد أنملة، مكرساً نفسه لتنفيذها برسوخ في الإرادة وحدة في العاطفة لا يكادان يناسبان رجلاً في سنه. كتب السفير الفلورنسي يقول: "إن البابا رجل قد من حديد، بل إن الأحجار التي يمشي فوقها تنفث الشرر"(14). كان مولده في بينيفنتو، لذلك حمل حرارة جنوبي إيطاليا في دمه، وبدت النار دائمة التوقد في مقلتيه الغائرتين. وكان في طبعه فورة البركان، ولم يجرؤ على معارضته سوى السفير الأسباني تدعمه فرق الدوق ألفاً. وقد كره بولس الرابع أسبانيا لأنها سيطرت على إيطاليا، وكما حلم يوليوس الثاني وليو العاشر بطرد الفرنسيين، كذلك كان أول أهداف هذا الثمانيني النشيط تحرير إيطاليا والبابوية من السيادة الأسبانية-الإمبراطورية. فاتهم شارل الخامس بأنه ملحد مقنّع(15)، وابن مجنون لأم مجنونة، وشخص "كسيح جسداً وروحاً"(16)، ودمغ الشعب الأسباني بأنه حثالة من الساميين(17)، وأقسم أنه لن يعترف بفيليب والياً على ميلان. وفي ديسمبر 1555 عقد معاهدة مع هنري الثاني ملك فرنسا وإيركولي الثاني أمير فرارة لطرد جميع القوات الأسبانية أو الإمبراطورية من إيطاليا، فإذا تم للحلفاء النصر أخذت البابوية سيينا، والفرنسيون ميلان، وحكموا نابلي بوصفها ولاية بابوية، ووجب عزل شارل وفرديناند لقبولهما شروط البروتستنت في أوجزبورج(18).

وبمهزلة من هذه المهازل التي يمكننا رؤيتها، ونحن على بعد كاف، في مآسي التاريخ، وجد فيليب الثاني نفسه في حرب مع البابوية وهو أشد أنصار الكنيسة غيرة وتحمساً، فأمر الدوق ألفاً على مضض بأن يزحف بجيش نابولي على الولايات البابوية. ولم تمض أسابيع حتى هزم الدوق بجنوده المتمرسين بالقتال، البالغ عددهم 10.000، قوات البابا الضعيفة، واستولى على المدينة تلو المدينة، ونهب أناني، واستولى على أوستيا، وهدد روما (نوفمبر 1556). وبارك بولس معاهدة بين فرنسا والعثمانيين، ولجأ وزير خارجيته، الكردينال كارلو كارافا، إلى سليمان القانوني ليهاجم نابلي وصقلية(19). وأرسل هنري الثاني جيشاً إلى إيطاليا يقوده فرانسوا دوق جيز، فاستعاد أوستيا، وهلل البابا، ولكن هزيمة الفرنسيين في سان-كنتان أكرهت جيز على العودة برجاله سريعاً إلى فرنسا، وزحف ألفاً على أبواب روما دون مقاومة. وولول أهل روما فرقاً، وودوا لو أن حبرهم الديني الطائش كان نزيل قبره(20)، ورأى بولس أن المزيد من القتال قد يعيد "نهب روما" الرهيب، بل قد يحمل أسبانيا على الانفصال عن كنيسة روما. لذلك وقع في 12 سبتمبر 1557 معاهدة صلح مع ألق، الذي عرض شروطاً سخية، واعتذر عن انتصاره، ولثم قدم البابا المغلوب(21). وردت إلى البابا جميع أراضيه التي سبق الاستيلاء عليها، ولكن السيادة الأسبانية على نابلي وميلان والبابوية تأكدت. وبلغ انتصار الكنيسة على الدولة منتهاه، حتى أن الأمراء الناخبين هم الذين توجوا فرديناند حين تسلم لقب الإمبراطور من شارل الخامس (1558)، ولم يسمح لأي ممثل للبابا بالقيام بأي دور في مراسيم الاحتفال. وهكذا كانت نهاية تتويج البابوات لأباطرة الدولة الرومانية المقدسة، وتحقق آخر المطاف انتصار شارلمان في خلافه مع ليو الثالث.

والآن وقد تخفف بولس الرابع طوعاً أو كرهاً من أعباء الحرب، فإنه فرغ فيما بقي له من فترة بابويته للإصلاحات الكنسية والأخلاقية التي ذكرناها من قبل. وقد توجها بطرد وزيره الإباحي الكردينال كارلو كارافا، وإن جاء هذا الطرد متأخراً، وبنفي ابني أخ آخرين من روما؛ وكانا قد شوها سمعة بابويته. وأجليت عن الفاتيكان أخيراً سبة محاباة الأقرباء التي استشرت فيه قرناً من الزمان.


الرقابة ومحكمة التفتيش

وهذا البابا الحديدي هو الذي بلغت رقابة المطبوعات في عهده غاية الصرامة واتساع المدى، وأصبحت محكمة التفتيش ضرباً من الإرهاب كادت تبلغ وحشيته في روما ما بلغته في أسبانيا. ولعل بولس الرابع شعر بأن رقابة المطبوعات وقمع الهرطقة واجبان لا مندوحة عنهما لكنيسة أجمع الرأي البروتستنتي والكاثوليكي على أن مؤسسها هو ابن الله. لأنه إذا كانت الكنيسة من الله، فخصومها إذن لا بد عملاء للشيطان، والحرب الدائمة على هؤلاء الشياطين التزام ديني قِبل إله مهان.

والرقابة قديمة قدم الكنيسة نفسها تقريباً. فالمسيحيون في أفسس أحرقوا في عصر الرسل كتباً في "فنون غريبة" قيل إن قيمتها بلغت "50.000 قطعة من الفضة(22)"، وحرم مجمع أفسس (150) تداول "أعمال بولس"(23) غير القانونية. وفي فترات مختلفة أمر البابوات بحرق التلمود أو غيره من كتب اليهود. وحظرت ترجمة ويكليف وما تلاها من الترجمات البروتستنتية للكتاب المقدس لاحتوائها مقدمات وهوامش وتصحيحات معرضة للكاثوليكية. وزاد اختراع الطباعة من حرص الكنيسة على ألا تفسد أبناءها التعاليم الباطلة. فأمر مجمع اللاتيران الخامس (1516) بألا تطبع بعده كتب دون أن تفحصها الكنيسة وتوافق عليها. وأصدرت السلطات الزمنية بيانات بمحظوراتها من المطبوعات غير المرخصة: مجلس شيوخ البندقية في 1508، ومجلس نواب فورمز ومراسيم شارل الخامس وفرانسوا الأول في 1521، وبرلمان باريس في 1542. وفي 1543 وسع شارل الرقابة الكنسية على المطبوعات فشملت أمريكا الأسبانية. وفي عام 1544 نشرت السوربون أول فهرس عام بالكتب المحرمة، ونشرت محكمة التفتيش أول قائمة إيطالية في عام 1545.

وفي عام 1559 نشر بولس الرابع أول فهرس بابوي بالكتب المحظورة، وقد ورد فيه ثمان وأربعون طبعة مهرطقة للكتاب المقدس، وأوقع الحرم على واحد وستين طابعاً وناشراً(24). وقد فرض على كل كاثوليكي الامتناع عن قراءة أي كتاب نشر منذ سنة 1519 دون أن يحمل اسمي المؤلف والطابع ومكان النشر وتاريخه، وحرمت قراءة أي كتاب بعد ذلك لم يحصل على إذن كنسي "impramtur" بطبعه. وشكا باعة الكتب وطلاب العلم من أن هذه الإجراءات معطلة لهم أو قاضية عليهم، ولكن بولس أصر على الطاعة التامة. وأحرقت آلاف الكتب في روما وبولونيا ونابلي وميلان وفلورنسة والبندقية-10.000 في البندقية في يوم واحد(25). وبعد موت بولس انتقد نفر من قادة الكنيسة إجراءاته لما فيها من مغالاة في العنف وعدم التمييز، ورفض مجمع ترنت فهرسه، وأصدر تحريماً أكثر تنظيماً، هو "الفهرس الثلاثي" (1564). وشكلت لجنة خاصة للفهرس في 1571 لمراجعة القائمة وإعادة نشرها بصفة دورية.

ومن العسير الحكم على أثر هذه الرقابة. وعند باولو ساربي، وكان راهباً سابقاً، ومعارضاً للأكليروس، أن الفهرس "هو أبدع سر كشف إلى الآن... لفرض البلاهة على الناس(26)". ولعله شارك في إحداث اضمحلال إيطاليا الفكري بعد عام 1600، واضمحلال أسبانيا بعد عام 1700، ولكن العوامل الاقتصادية والسياسية كانت أهم. والفكر الحر، كما يقول أقوى مؤرخ إنجليزي له، عاش في الدول الكاثوليكية خيراً مما عاش في الدول البروتستنتية، وتبين حتى عام 1750 أن الحكم المطلق للكتب المقدسة الذي فرضه اللاهوتيون البروتستنت أشد إيذاء للبحث والتفكير المستقلين من فهارس الكنيسة ومحكمة تفتيشها(27). أياً كان الأمر فإن الحركة الإنسانية ذبلت، في الدول الكاثوليكية والبروتستنتية على السواء. وخف التأكيد على الحياة في الأدب، واضمحلت دراسة اليونانية ومحبة الآداب الوثنية، ورمى اللاهوتيون المنتصرون الإنسانيين الإيطاليين (ولهم بعض العذر في هذا) بأنهم كفرة متغطرسون فاسقون.

ونفذت الرقابة على الكتب في تراخ حتى وكلها بولس الرابع إلى محكمة التفتيش (1555). وكانت هذه المؤسسة التي أنشئت أولاً عام 1217 قد انتكست سلطتها وسمعتها نتيجة لتساهل بابوات النهضة. ولكن حين أخفقت آخر محاولة للمصالحة مع البروتستنت في راتسبون، وظهرت التعاليم البروتستنتية في إيطاليا ذاتها، حتى بين رجال الأكليروس، وخيف أن تتحول مدن بأسرها مثل لوكا ومودينا إلى البروتستنتية(28) اشترك الكردينال جوفاني كارافا، وإجناتيوس لويولا، وشارل الخامس في الإلحاح على إعادة محكمة التفتيش. وأذعن بولس الثالث (1542)، وعين كارافا وخمسة كرادلة آخرين لإعادة تنظيم المؤسسة، وخول لهم سلطة تفويض كنسيين خاصين في أرجاء العالم المسيحي، وشرع كارافا في التنفيذ بما عهد فيه من صرامة، وأنشأ مقراً للمحكمة وسجناً، ووضع هذه القواعد لمرءوسيه:

1- حين يكون الإيمان موضع شك يجب ألا يكون هناك أي تأجيل، ولابد من اتخاذ الإجراءات الصارمة بكل سرعة إذا قامت أقل شبهة.

2- يجب ألا يكون هناك أي اعتبار لأي أمير أو حبر مهما علا منصبه.

3- الصرامة المتناهية أولى أن تستعمل مع أولئك الذين يحاولون الاحتماء بأي حاكم. ولا يعامل بالرفق والعطف الأبوي إلا من اعترف اعترافاً كاملاً.

4- يجب ألا يحط إنسان من قدره بإبداء التسامح نحو المهرطقين أياً كان نوعهم، ونحو الكالفنبين على الأخص(29).

فأما بولس الثالث ومارتشيللوس الثاني فقد قيدا حماسة كارافا، واحتفظا بحق العفو عند الاستئناف. وأما يوليوس الثالث فكان أهن من أن يتدخل في عمل كارافا، فأحرق في عهده نفر من المهرطقين في روما.

وفي عام 1550 أمرت محكمة التفتيش الجديدة بمحاكمة أي كاهن كاثوليكي لا يعظ ضد البروتستنتية. فلما ارتقى كارافا نفسه عرش البابوية باسم بولس الرابع، انطلقت المؤسسة إلى العمل بكل طاقتها، "واكتسبت المحكمة بفضل صرامته الخارقة سمعة واسعة، بحيث لم يكن هناك كرسي قضاء آخر في الأرض يتوقع الناس منه إصدار أحكام أشد بشاعة وإرهاباً" على حد قول الكردينال سيريباندو(30). ووسع اختصاص محكم التفتيش حتى شمل التجديف والمتاجرة بالرتب الكهنوتية (السيمونية)، واللواط، والزواج المتعدد، وهتك العرض، والقوادة، وانتهاك نظم الكنيسة في الصوم، وغير هذه من الذنوب التي لا تمت للهرطقة بسبب. ونحن نسوق أيضاً هذه الفقرة من كلام مؤرخ كاثوليكي عظيم:

"كان البابا العجول السريع التصديق يعير أذناً صاغية لكل اتهام ولو كان شديد السخف... وكان رجال محكمة التفتيش الذين لم يفتر البابا عن حضهم يشمون الهرطقة في حالات كثيرة ما كان المراقب الهادئ الحذر ليكشف فيها أثراً لهرطقة... وحرض الحاسدون والمفترون على بذل الجهد في تسقط الكلمات المريبة من شفاه رجال كانوا عمداً راسخة للكنيسة ضد المبتدعين، وعلى تلفيق تهم الهرطقة لهم... وبدأ عصر إرهاب فعلي ملأ روما كلها بالخوف"(31).

وفي قمة هذا العنف (31 مايو 1557) أمر بولس بالقبض على الكردينال جوفاني موروني، أسقف مودينا، وفي 14 يونيو أمر الكردينال بولي بأن يتخلى عن سلطة الممثل البابوي في إنجلترا ويحضر إلى روما ليواجه محاكمته بتهمة الهرطقة. وقال البابا إن مجمع الكرادلة نفسه سرت إليه دعوى الهرطقة. أما بولي فقد بسطت عليه الملكة ماري حمايتها ومنعت تسليم الاستدعاء البابوي له. وأما موروني فقد اتهم بأنه وقع اتفاق راتسبون حول عقيدة التبرير بالإيمان، وبأنه تهاون مع المهرطقين الداخلين في نطاق سلطته، وبأنه كان صديقاً لبولي، وفتوريا كولونا، وفلامينيو، وغيرهم من الشخصيات الخطرة، وبعد أن قضى ثمانية عشر يوماً سجيناً في قلعة سانت أنجيلو أصدر قضاة التفتيش حكمهم ببراءته، وأمروا بالإفراج عنه، ولكنه أبى أن يبرح زنزانته حتى يقر بولس ببراءته. ولكن بولس رفض، فظل موروني سجيناً حتى أطلقه موت البابا. وأما فلامينيو فقد فوت على محكمة التفتيش غرضها بموته، "ولكننا أحرقنا أخاه شيزاري في الميدان المواجه لكنيسة المينرفا"(32)، كما قال بولس. وراح الحبر المجنون يطارد أقرباءه هو بشبهات الهرطقة في عناد لا يعرف التحيز. قال "لو أن أبي ذاته كان مهرطقاً لجمعت الحطب لحرقه"(33).

كان بولس لحسن الحظ بشراً نهايته الموت، فمضى لحسابه. بعد أربع سنوات من الحكم. واحتفلت روما بموته بأربعة أيام من الشغب المرح، حطمت خلالها الجماهير تمثاله، وجرته في الشوارع، ثم أغرقته في نهر تيير، وأحرقت مباني محكمة التفتيش، وأطلقت سجناءها، وأتلفت وثائقها(34). ولعلع البابا كان يرد على هذا بأنه ما كان في استطاعة رجل أن يصلح أخلاق روما ومفاسد الكنيسة إلا إذا أوتي صرامته وشجاعته اللتين لا هوادة فيهما، وأنه وفق في هذه المغامرة بينما أخفق أسلافه. ومن أسف أنه في محاولته إصلاح الكنيسة تذكر توركويمادا ونسي المسيح.

وتنفس غرب أوربا كله الصعداء حين اختار مجمع الكرادلة سنة 1559 جوفاني أنجيلو دي مديتشي حبراً أعظم باسم البابا بيوس الرابع. لم يكن مليونيراً مديتشياً، بل ابن جاب للضرائب ميلاني، اشتغل بالمحاماة ليكسب قوته، وظفر بإعجاب بولس الثالث وثقته، فعين كردينالاً، واشتهر بالذكاء والميل إلى أعمال البر، فلما ارتقى عرش البابوية ابتعد عن الحرب ووبخ أولئك الذين كانوا يشيرون بالسياسات العدوانية، ولم يقض على محكمة التفتيش، ولكنه أشعر قضاتها بأنهم "يسرونه أكثر لو باشروا عملهم بلطف السادة المهذبين لا بجلافة الرهبان"(35). وأراد اغتياله متعصب حسبه مفرطاً في اللين، ولكنه شل رهبةً حين مر به البابا هادئاً مجرداً من أسباب الدفاع. وقد برهن على ما أوتي من روح المصالحة إذ سمح لأساقفة ألمانيا الكاثوليك بمناولة سر القربان بالخبز والخمر كليهما. وأعاد عقد مجتمع ترنت، وقاده إلى خاتمة اتسمت بالنظام، ثم فارق الحياة عان 1565 بعد رياسة دعمت في هدوء حركة المعارضة للإصلاح البروتستنتي.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مجمع ترنت (1545-1563)

قبل أن يأتي لوثر بزمن طويل ارتفعت مئات الأصوات مطالبة بعقد مجمع يصلح الكنيسة. وطالب لوثر بعرض نزاعه مع البابا على مجمع عام حر، وطالب شارل الخامس بعقد مجمع كهذا بأمل نفض يده من المشكلة البروتستنتية، وربما بأمل تأديب البابا كلمنت السابع، واستطاع ذلك البابا الذي أنهكته الهجمات المتكررة أن يجد مائة عذر لتأجيل مثل هذا المجمع حتى يصبح بعيداً عن متناوله. فقد تذكر ما حدث للسلطة البابوية في مجمعي كونستانس وبازل، وما كان ليسمح لأساقفة معادين له، أو لمندوبي الإمبراطور، بدس أنوفهم في سياساته أو مصاعبه الداخلية أو مولده. ثم كيف يستطيع مجمع أن ينقذ الموقف؟ ألم يرفض لوثر الاعتراف بالمجامع كما رفض الاعترافات بالبابوات؟ ولو قبل البروتستنت في مجمع وسمح لهم بحرية الكلام فإن النزاع الذي سيسفر عنه هذا القبول سيوسع الانشقاق ويزيده مرارة ويزعج أوربا بأسرها؛ ولو حيل بينهم وبينه لأثاروا غضب التمرد والعصيان. وأراد شارل أن يعقد المجمع على أرض ألمانية، ولكن فرانسوا أبى السماح للأكليروس الفرنسي بحضور اجتماع خاضع لسيادة الإمبراطور. يضاف إلى هذا رغبة فرانسوا في الإبقاء على النيران البروتستنتية مشتعلة في المؤخرة الإمبراطورية. لقد كان الموقف مختلطاً أشد الاختلاط.

فلما جاء بولس الثالث ساورته كل مخاوف كلمنت، ولكنه كان أشجع منه. في عام 1536 أصدر دعوة لمجمع عام يجتمع في مانتوا في 23 مايو 1537، ودعا البروتستنت لحضوره. وافترض أن جميع الأطراف التي ستحضره ستقبل النتائج التي يخلص إليها المجمع؛ ولكن ما كان للبروتستنت وهم أقلية في مؤتمر كهذا أن يقبلوا مثل هذا الالتزام. وأشار لوثر بعدم الحضور، ورد مؤتمر البروتستنت المنعقد في شمالكالدين دعوة البابا دون أن يفتحها. وواصل الإمبراطور إصراره على عقد المجمع في أرض ألمانية، وكانت حجته أنه لو عقد في أرض إيطاليا لازدحم بالأساقفة الإيطاليين ولأصبح لعبة في يد البابا. وبعد الكثير من المفاوضات والتأجيلات وافق بولس على عقد المجمع في ترنت، وكانت تقع في أرض إمبراطورية وتخضع لشارل على الرغم من غلبة الإيطاليين على سكانها. ودعا المجمع للانعقاد فيها في أول نوفمبر 1542.

ولكن ملك فرنسا رفض أن يلعب دوره. وأبى نشر دعوة البابا في أرجاء ملكه، وهدد بالقبض على أي فرد من الأكليروس الفرنسي يحاول حضور مجمع منعقد على أرض عدوه، فلما افتتح المجمع لم يكن حاضراً سوى بضعة أساقفة كلهم إيطاليون، وأجل بولس الاجتماع حيناً حتى يسمح شارل وفرانسوا بانعقاد المجمع بكامل عدده. وبدا أن صلح كريبي قد أزاح العقبات من الطريق، ودعا بولس إلى عودة انعقاد المجمع في 14 مارس 1545. ولكن تجدد الخطر على الإمبراطور من العثمانيين أكرهه ثانية على مصالحة البروتستنت، فطلب تأجيل المجمع مرة أخرى، ولم يبدأ "المجمع المسكوني التاسع عشر للكنيسة المسيحية" دوراته النشيطة إلا في 13 ديسمبر 1545.

ولكن حتى هذه البداية لم يحالفها التوفيق، ولم تبلغ قط مبلغ "نصف العمل". ذلك أن البابا الذي قارب الثمانين ظل في روما، يرأس المجمع "غيابياً"، ولكنه ندب عنه ثلاثة كرادلة يمثلونه: ديل مونتي، وتشرفيني، وبولي. وكان قوام المجمع كردينال ترنت مادروزو، وأربعة رؤساء أساقفة، وعشرين أسقفاً، وخمسة من قادة الطرق الديرية، ويعض رؤساء الأديار، وبضعة لاهوتيين؛ ولم يكن في وسع المجمع حتى ذلك الحين الزعم بأنه "مسكوني"-أي عالمي(36). وبينما كان حق التصويت في مجمع كونستانس وبازل متاحاً للقساوسة، والأمراء، وبعض العلمانيين، كما كان متاحاً للأساقفة، وكان التصويت بالمجموعات القومية، فإن هذا الحق قصر هنا على الكرادلة والأساقفة والقواد ورؤساء الأديار، وكان التصويت بالأفراد، ومن ثم فإن الأساقفة الإيطاليين-وأكثرهم مدين للبابوية أو موال لها لأسباب أخرى-سيطروا على المجمع بأغلبيتهم العددية. وحضّرت اللجان المجتمعة في روما بإشراف البابا المسائل التي لا يمكن عرض غيرها للمناقشة(37). وقد لاحظ مندوب فرنسي أنه ما دام المجمع يزعم بأنه يعمل بإرشاد الروح القدس، فإن الأقنوم الثالث كان يأتي إلى ترنت بانتظام في حقيبة البريد القادمة من روما(38).

ودارت أولى المناقشات حول الإجراءات: أمن الواجب البدء بتعريف الإيمان ثم البحث في الإصلاحات، أم العكس؟ فأما البابا ومؤيدوه الإيطاليون فأرادوا البدء بتعريف للعقائد، وأما الإمبراطور ومؤيدوه فأرادوا البدء بالإصلاح، أملاً من شارل في تهدئة البروتستنت أو إضعافهم أو إحداث مزيد من الانقسام في صفوفهم، وأملاً من الأحبار الألمان والأسبان أن تقلل الإصلاحات من سلطة البابا على الأساقفة والمجامع. وقد أمكن الوصول إلى حد وسط، فاتفق على أن تحضر لجان متزامنة القرارات حول العقيدة والإصلاح، وتعرض هذه القرارات على المجمع بالتناوب.

وفي مايو 1546 أوفد بولس اثنين من اليسوعيين هما لاينيز وسالميرون ليساعدوا مندوبيه في الشئون اللاهوتية وفي الدفاع عن البابا؛ ثم انضم إليهما بيتر كانيزيوس وكلود لوجي. وما لبث تفقه اليسوعيين الذي لم يضارعهم فيه أحد أن أكسبهم نفوذاً طاغياً في المناقشات، وقاد إصرارهم على سلامة العقيدة المجمع إلى إعلان الحرب على أفكار الإصلاح البروتستنتي بدلاً من التماس التوفيق أو الوحدة. وكان حكم الأغلبية فيما يبدو أن أي تنازلات للبروتستنت لن ترأب الصدع؛ وأن الملل البروتستنتية تعددت وتنوعت بحيث لا يمكن لأي حل وسط أن يرضي بعضها دون أن يغضب البعض الآخر، وأن أي تغيير جوهري في العقائد التقليدية من شأنه أن يضعف بنيان الكاثوليكية العقائدي واستقرارها كله؛ وأن السماح للعلمانيين بالسلطات الكهنوتية سيفوض السلطة الأدبية للكهنوت والكنيسة، وأن هذه السلطة لا غنى عنها للنظام الاجتماعي؛ وأن لاهوتاً يرتكز بصراحة على الإيمان سيحبط نفسه إذا خضع لأهواء التفكير الفردي. وبناءً عليه فإن دورة المجمع الرابعة (أبريل 1546) أكدت من جديد كل فقرة من فقرات العقيدة النقوية، وادعت سلطاناً متساوياً لتقليد الكنيسة وللكتاب المقدس، وأعطت الكنيسة الحق دون غيرها في شرح الكتاب وتفسيره، وأعلنت أن ترجمة جيروم اللاتينية هي الترجمة والنص النهائيان للكتاب. وتقرر أن القديس توما الأكويني هو الشارح العمدة للاهوت النقي من الشوائب، ورفع كتابه "خلاصة اللاهوت" إلى مقام لا يعلوه فيه إلا الكتاب المقدس والمراسيم البابوية(39). وهكذا نرى أن الكاثوليكية بوصفها ديناً ذا سلطان معصوم بدأت عملياً من مجمع ترنت، وتبلورت على هيئة استجابة عنيدة لذلك التحدي الذي واجهتها به البروتستنتية، والعقلانية، والرأي الفردي. وانتهى بذلك "اتفاق الجنتلمان" بين كنيسة النهضة والطبقات المفكرة.

ولكن إذا كان الإيمان حيوياً إلى هذا الحد. فهل كان أيضاً كافياً في ذاته لاستحقاق الخلاص كما زعم لوثر؟ لقد ارتفعت في الدورة الخامسة (يونيو 1546) مناقشات عنيفة حول هذه النقطة، وأمسك أحد الأساقفة بلحية آخر وانتزع منها حفنة من الشعر الأبيض، ولما سمع الإمبراطور بما وقع أرسل إلى المجمع يقول إنه لم يهدأ فسيأمر بإلقاء نفر من الأساقفة في نهر أديج ليهدئ ثائرتهم(40). ودافع ريجنالد بولي عن رأي قريب قرباً خطراً من رأي لوثر، حتى أن الكردينال كارافا (الذي أصبح بولس الرابع فيما بعد) دمغه بالهرطقة، وانسحب بولي من المعركة قاصداً بادوا، واعتذر بالمرض عن التخلف عن حضور المجمع(41). ودافع الكردينال سيريباندو عن الصيغة التوفيقية التي عرضها في راتسبون الكردينال كونتاريني، وكان قد مات، ولكن لاينيز أقنع المجمع بأن يشدد على أهمية الأعمال الصالحة وحرية الإرادة، معارضاً بذلك لوثر معارضة كاملة.

أما إجراءات الإصلاح الكنسي فكانت حركتها أقل نشاطاً من تعريفات العقيدة. كان أسقف كاتدرائية القديس مرقس قد افتتح دورة 6 يناير 1546 برسمه صورة قاتمة للفساد الذي استشرى في العالم، والذي لن يفوقه في ظنه فساد الأجيال القادمة إطلاقاً، وقد عزا هذا الفساد "إلى شر الرعاة دون سواه". وقال إن هرطقة لوثر سببها الرئيسي خطايا الأكليروس، وإن إصلاح الأكليروس خير سبيل لقمع هذا التمرد(42). ولكن الإصلاح الجوهري الوحيد الذي تحقق في هذه الدورات الأولى كان ذلك الذي حرم على الأساقفة الإقامة بعيداً عن أسقفياتهم، أو شغل أكثر من أسقفية. واقترح المجمع على البابا أن ينتقل إصلاح قسم الوثائق من التوصيات النظرية إلى الأوامر الفعلية، ولكن بولس كان يريد أن تترك شئون الإصلاح للبابوية، فلما أصر الإمبراطور على مزيد من السرعة في مناقشات الإصلاح في المجمع، أمر البابا مندوبيه بأن يقترحوا نقل المجمع إلى بولونيا-التي تسمح لروما بأن تشرف على أعمال المجمع إشرافاً أسرع لأنها واقعة في الولايات البابوية. ووافق الأساقفة الإيطاليون، أما الأساقفة الإسبان والإمبراطوريون فاحتجوا، وظهر في ترنت طاعون غير ذي بال في الوقت المناسب فقضى على أحد الأساقفة، وانتقلت الأغلبية الإيطالية إلى بولونيا، أما الباقون فظلوا في ترنت. ورفض شارل الاعتراف بدورات بولونيا. وهدد بعقد مجمع منفصل في ألمانيا. وبعد عامين من الجدل والمناورة خضع بولس وعطل مجمع بولونيا (سبتمبر 1549).

وخف توتر الموقف بموت بولس. ووصل يوليوس الثالث إلى تفاهم مع الإمبراطور، فدعا المجمع للانعقاد مرة أخرى في ترنت في مايو 1551 لقاء وعد من شارل بالامتناع عن تأييد أي إجراء من شأنه اختزال سلطة البابا، ووافق البابا على إعطاء اللوثريين فرصة الإدلاء بأقوالهم. ولكن هنري الثاني ملك فرنسا رفض الاعتراف بالجمع لأنه كره هذا التقارب بين البابا والإمبراطور. فلما اجتمع كان عدد الحاضرين ضئيلاً فاضطر إلى تأجيل اجتماعاته. ثم عاد إلى الاجتماع في أول سبتمبر بحضور ثمانية من رؤساء الأساقفة، وستة وثلاثين أسقفاً، وثلاثة رؤساء أديار، وخمسة قادة، وثمانية وأربعون لاهوتياً. ويواكيم الثاني ناخب براندنبورج، وسفراء يمثلون شارل وفرديناند.

وأكدت الدورة الثالثة عشرة للمجمع (أكتوبر 1551) من جديد عقيدة التحول الكاثوليكية، فالكاهن بتقديسه الخبز والخمر في سر القربان يحولهما فعلاً إلى جسد المسيح ودمه. بعد هذا لم يعد هناك جدوى من الاستماع إلى البروتستنت، ولكن شارل أصر على هذا. واختار دوق فورتمبرج، وموريس ناخب سكسونيا، وبعض مدن جنوبي ألمانيا-اختار هؤلاء أعضاء وفد بروتستنتي، ووضع ملانكتون بياناً بالعقيدة اللوثرية لرفعه إلى المجمع. وضمن شارل للمندوبين سلامة المرور، ولكنهم إذ تذكروا كونستانس وهس طلبوا أيضاً ضماناً بسلامة المرور من المجمع ذاته. وبعد نقاش طويل منحهم المجمع الضمان. ولكن راهباً دومنيكياً ذكر في عظة تدور حول مثل هذا الزوان، ألقاها في ذات الكاتدرائية التي انعقدت فيها دورات المجمع، أن زوان المهرطقين قد يمهلون إلى أجل، ولكن لا بد في النهاية من حرقهم(43).

وفي 14 يناير 1552 ألقى المندوبون البروتستنت كلمتهم في المجمع. فاقترحوا تأكيد المراسيم التي أصدرها مجمعاً كونستانس وبازل بشأن تخويل المجامع سلطاناً أعلى على البابوات، وأن يحل أعضاء المجمع الحاضر من عهد الولاء للبابا يوليوس الثالث، وأن جميع القرارات التي وصل إليها المجمع حتى ذلك التاريخ يجب إلغاؤها، وأنه يجب أن يعيد مجمع موسع يمثل فيه البروتستنت تمثيلاً كافياً مناقشة الموضوعات من جديد(44). ومنع يوليوس الثالث بحث هذه المقترحات. وقرر المجمع تأجيل البت فيها إلى 19 مارس، وهو التاريخ الذي يتوقع فيه وصول مزيد من المندوبين البروتستنت.

وفي أثناء هذه العطلة طرأت على اللاهوت تطورات حربية على نحو غير متوقع. ففي يناير 1552 وقع ملك فرنسا حلفاً مع البروتستنت الألمان، وفي مارس زحف موريس أمير سكسونيا على إنزيروك، وفر شارل، وما كان لأية قوة أن تمنع موريس إن شاء من الاستيلاء على ترنت والإطاحة بالمجمع. واختفى الأساقفة واحداً بعد الآخر، وفي 28 أبريل عطل المجمع رسمياً. ونزل فرديناند بمقتضى معاهدة باساو (2 أغسطس) عن الحرية الدينية للبروتستنت المنتصرين حربياً، فلم يعد المجمع يهمهم في شيء بعد هذا.

ورأى بولس الرابع أن من الحكمة أن يدع المجمع يسبت خلال رياسته. فلما جاء البابا بيوس الرابع، وكان شيخاً دمث الخلق، راودته فكرة مؤداها أن منح سر القربان بالخبز والخمر قد يهدئ البروتستنت كما هدأ البوهيميين من قبل. فطلب إلى المجمع أن ينعقد من جديد في ترنت في 6 أبريل 1561، ودعا إليه جميع الأمراء المسيحيين سواء الكاثوليك أو البروتستنت. وقد جلب المندوبون الفرنسيون إلى هذه الدورة الجديدة قائمة رهيبة بالإصلاحات التي ينشدونها: القداس باللغة القومية، والتناول بالخز والخمر، وزواج القس، وإخضاع البابوية للمجامع العامة، وإنهاء نظام الإعفاءات البابوية(45)، ويبدو أن مزاج الحكومة الفرنسية كان في تلك اللحظة شبه هيجونوتي. وأيد فرديناند الأول هذه المقترحات، وكان الآن إمبراطوراً، وأضاف أن "البابا يجب أن يتواضع، ويخضع لإصلاح شخصه ودولته وإدارته"، أما أساطير القديسين فينبغي أن تنقى من السخافات. وأما الأديار فينبغي إصلاحها حتى "لا تعود ثروتها الطائلة تنفق بمثل هذه السفه"(46). وأنذر الموقف بالخطر على بيوس، وترقب مندوبوه افتتاح الدورة في شيء من الذعر.

وبعد تأجيلات كان دافعها الروية أو الاستراتيجية التأم شمل الدورة السابعة عشرة للمجمع في 28 يناير 1562، بحضور خمسة كرادلة، وثلاثة بطارقة، وأحد عشر رئيس أساقفة، وتسعين أسقفاً، وأربعة قادة، وأربعة رؤساء أديار، ومختلف الممثلين العلمانيين للأمراء الكاثوليك. واستجابة لطلب من فرديناند عرض ضمان بسلامة المرور لأي مندوب بروتستنتي قد يرغب في الحضور، ولكن أحداً لم يحضر. وتزعم رئيس أساقفة غرناطة وشارل كردينال اللورين حركة ترمي إلى الحد من امتيازات البابا، فأكد أن الأساقفة لا يستمدون سلطانهم عن طريقه بل بـ "الحق الإلهي" المباشر، وردد أسقف سقوبية هرطقة من هرطقات لوثر، إذ أنكر أنه كان على البابا سيادة على غيره من الأساقفة في الكنيسة الأولى(47). على أن هذا التمرد الأسقفي أطفأته البراعة البرلمانية التي أبداها مندوبو البابا، وولاء الأساقفة الإيطاليين والبولنديين للبابا، وبعض المجاملات البابوية التي وجهت في الوقت المناسب إلى كردينال اللورين. وانتهى الأمر بتوسيع سلطة البابا لا بالحد منها، واشترط على أسقف أن يقسم يمين الطاعة الكاملة للبابا. وأمكن تهدئة فرديناند بوعده أن البابا سيسمح في ختام المجمع بأن يعطي القربان بالخبز والخمر كليهما.

أما وقد فرغ المجمع من أهم نزاع واجهه، فقد انتهى بسرعة من أعماله الباقية. فحرم زواج الأكليروس، وقرر توقيع عقوبات صارمة على تسري القساوسة. وشرع الكثير من الإصلاحات الصغيرة للنهوض بأخلاق رجال الأكليروس ونظامهم. وقرر إنشاء كليات لاهوتية يدرب فيها الراغبون في القسوسية على عادات التقشف والتقوى. أما سلطات الإدارة البابوية فقد اختزلت. ووضعت قواعد لإصلاح الموسيقى والفن الكنسيين، وتقرر تغطية صور العرايا بما يكفي لمنع إثارتها للخيال الحسي. ووضع الفارق بين عبادة الصور وعبادة الأشخاص الذين تمثلهم الصور، وتأييد استعمال الصور الدينية بالمعنى الثاني. أما المطهر والغفرانات والتوسل إلى القديسين فقد دوفع عنها وأعيد تعريفها. وهنا اعترف المجمع في صراحة بالمفاسد التي انبعثت عن شررها نار التمرد اللوثري، وقد نص أحد القرارات على ما يأتي:

"إن المجمع يقرر بصدد منح الغفرانات... إنه يجب القضاء كلية على كل كسب إجرامي متصل بها، باعتباره مصدراً لفساد محزن بين الشعب المسيحي؛ أما عن غير ذلك من ضروب الخلل والفوضى الناجمة عن الخرافة أو الجهل أو الاستهانة بالمقدسات أو أي سبب كائناً ما كان-فيما أن هذه كلها لا يمكن القضاء عليها بالتحريمات الخاصة نظراً إلى انتشار الفساد على نطاق واسع، فإن المجمع يلقى على عاتق كل أسقف واجب التعرف على ما يوجد في أسقفيته من مفاسد، وعرضها على المجمع الإقليمي التالي، وإبلاغها إلى الحبر الأعظم في وما بعد موافقة الأساقفة الآخرين(48).

وأجمع البابا والإمبراطور على أن المجمع قد بلغ الآن نهاية نفعه، وفي 4 ديسمبر 1563 فض نهائياً وسط ابتهاج المندوبين المرهقين، بعد أن حدد طريقة الكنيسة لقرون قادمة.

لقد نجحت معارضة الإصلاح البروتستنتي في أهدافها الأساسية. صحيح أن الرجال-سواء في الأقطار الكاثوليكية أو البروتستنتية-ظلوا يكذبون ويسرقون، يغوون العذارى ويبيعون الوظائف، يقتلون ويشنون الحرب(49). ولكن أخلاق الأكليروس تحسنت، وروّضت الحرية الجامحة التي اندفعت فيها إيطاليا النهضة فتكيفت تكيفاً مهذباً وفق مزاعم البشر. فالبغاء الذي كان صناعة كبرى في روما والبندقية أيام النهضة أخفى الآن رأسه، وأصبحت العفة طابع العصر. وتقرر اعتبار تأليف الكتب القذرة أو نشرها جريمة كبيرة في إيطاليا. وهكذا شنق نيكولو فرانكو، سكرتير أريتينو وعدوه، بأمر من البابا بيوس الخامس عقاباً على تأليفه كتاب Priapeia(50). أما أثر القيود الجديدة على الفن والأدب فلم يكن مؤذياً أذى مطلقاً لا خلاف عليه؛ مثال ذلك أن فن الباروك انبعث على استيحاء من مكانه المغمور؛ كذلك إذا نظرنا من زاوية أدبية خالصة فإننا لا نجد تاسو، وجواريني، وجولدوني، يهبطون هبوطاً عنيفاً عن مرتبة بوياردو، وأريوستو، ومكافيللي المسرحي. وقد أقبل أعظم عصور أسبانيا الأدبية والفنية في ملء "الرجعية الكاثوليكية". ولكن الفرحة التي كانت طابع إيطاليا النهضة انطفأت، وفقدت النساء الإيطاليات بعض ذلك السحر والابتهاج الذي أتاهن من حريتهن السابقة لحركة الإصلاح البروتستنتي. وساد إيطاليا عصر أقرب ما يكون إلى البيورتانية نتيجة لقيام أخلاقية قاتمة واعية. وانتعشت الديرية. وكانت خسارة للنوع الإنساني، من وجهة نظر العقل الحر، أن تقضي الرقابة الكنسية والسياسية على حرية الفكر النسبية التي سادت أيام النهضة، وكانت مأساة أن تعاد محكمة التفتيش في إيطاليا وغيرها من البلاد في الوقت الذي أخذ العلم ينبثق فيه محطماً قشرته الوسيطة، وضحت الكنيسة عن عمد بالطبقات المفكرة في سبيل الأكثرية المتدينة التي صفقت لقمع أفكار قد تذيب إيمانها المعزي.

كانت الإصلاحات الكنسية حقيقية ودائمة. وإذ كانت الملكية البابوية قد رفع مقامها فوق الأرستقراطية الأسقفية للمجامع ، فإن هذا كان يساير روح العصر، حيث كانت الأرستقراطيات في كل بلد، عدا ألمانيا، تفقد سلطانها ليتقلده الملوك. وأصبح البابوات الآن أرق من الأساقفة خلقياً، وأمكن تنفيذ النظام الذي تطلبه الإصلاح الكنسي على يد سلطة ممركزة خيراً من سلطة مقسمة، وأنهى البابوات محاباتهم لأقربائهم، وشفوا الإدارة البابوية من تسويفاتها الباهظة الثمن ورشوتها المفضوحة. وأصبحت إدارة الكنيسة بشهادة من فحصوا هذا الأمر من غير الكاثوليك نموذجاً للكفاية والنزاهة(51). وأدخل استعمال مقصورة الاعتراف المظلمة (1547) وجعل إجبارياً (1614)، ولم يعد القسيس عرضة لأن يفتنه جمال بعض المعترفات. أما باعة صكوك الغفران الجائلون قد اختفوا، وأما الصكوك فقد خصصت في معظم الحالات للعبادة الورعة ولأعمال البر لا التبرعات المالية، وبدلاً من أن يتقهقر رجال الأكليروس الكاثوليك أمام زحف البروتستنت أو الفكر الحر، انطلقوا ليعيدوا اقتناص فكر الشباب وولاء السلطان. وأصبحت روح اليسوعيين، تلك الروح الواثقة، الإيجابية، النشيطة، المدبرة على النظام، هي روح الكنيسة المجاهدة.

لقد كان شفاء الكنيسة في جملته شفاءً مذهلاً، وثمرة من أروع الثمرات التي جادت بها حركة الإصلاح البروتستنتي.