قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 5 ف 38

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 9225

قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> معارضة الإصلاح البروتستانتي -> الكنيسة والإصلاح -> المصلحون البروتستنت الإيطاليون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الخامس: معارضة الإصلاح البروتستنتي 1517 - 1565

الفصل الثامن والثلاثون: الكنيسة والإصلاح 1517 - 65

1- المصلحون البروتستنت الإيطاليون

ما كان المرء ليتوقع أن يجد في إيطاليا الوثنية مناخاً، المشركة بنية، المحبذة لإيمان لطيف فنان، الآهلة بالقديسين الخالدين تنتقل صورهم-سواء المرهبة منها والمحبوبة-كل سنة بين الشوارع، المثرية بفضل الذهب الذي يبعث به إلى الكنيسة العديد من الدول التابعة-نقول إن المرء ما كان ليتوقع أن يجد في بلد كهذا رجالاً ونساءً آلوا على أنفسهم أن يغيروا هذا الإيمان الجميل المقدس-ولو لقوا دون هذا حتفهم أحياناً-بعقيدة كابية ندها السياسي هو كره أمم الشمال أن تسمن إيطاليا بعائدات تدينها. ومع ذلك فقد ظهر في كل مكان بإيطاليا أناس شعروا بالمفاسد التي حطت من قدر الكنيسة شعوراً أحد وأصدق حتى من شعور الألمان أو السويسريين أو الإنجليز. وكانت الطبقات المتعلمة تطالب في إيطاليا أكثر منها في أي بلد آخر بتحرير العقل من الولاء للأساطير التي سحرت الجماهير وسيطرت عليها حتى ولو كان هذا الولاء ظاهرياً، هذا مع أن هذه الطبقات المتعلمة كانت تتمتع فعلاً بقسط من حرية التعليم والتفكير.

ظهرت بعض كتابات لوثر في أكشاك الكتب بميلانو في عام 1519، وبالبندقية في عام 1520. واجترأ راهب في كاتدرائية القديس مرقس نفسها (بالبندقية) على التبشير بتعاليم لوثر. وكتب الكردينال كارافا إلى البابا كلمنت السابع (1532) يقول إن الدين هبطت أسهمه في البندقية، وإن القليلين جداً من البنادقة يراعون الأصوام أو يجلسون على كرسي الاعتراف. وإن كتب الهرطقة رائجة هناك. ووصف كلمنت نفسه البدعة اللوثرية بأنها واسعة الانتشار بين صفوف الكهنة والعلمانيين في إيطاليا، وفي عام 1535 زعم المصلحون الدينيون الألمان بأن لهم ثلاثين ألفاً من الأتباع في موطن الكنيسة الكاثوليكية(1).

كانت أرفع السيدات مقاماً في فرارا بروتستنتية غيوراً. فقد تشربت رينيه ابنة لويس الثاني عشر الأفكار الجديدة من مارجريت النافارية من جهة، ومن مربيتها مدام سوبيز من جهة أخرى. وجاءت الأميرة بهذه السيدة معها حين تزوجت (1528) من إركولي دستي، الذي أصبح (1534) ثاني دوق بهذا الاسم يحكم فرارا. وزارها كالفن هناك (1536) وزاد معتقداتها البروتستنتية قوة وحدة. ووفد عليها كليمان مارو، ثم أوبير لانجيه الفقيه الهيجونوتي. وتلقاهم إركولي جميعاً بأسلوب النهضة المهذب إلى أن صاح أحدهم خلال عبادة الصليب في يوم السبت المقدس (1536) "idolatria!" (أي عبادة أوثان!)، وهنا سمح إركولي لمحكمة التفتيش باستجوابهم. فهرب كالفن ومارو، أما الباقون فيلوح أنهم نجوا بعد أن أكدوا سلامة عقيدتهم. ولكن رينيه جمعت بعد عام 1540 حاشية بروتستنتية جديدة وانقطعت عن حضور الصلوات الكاثوليكية. وهدأ إركولي ثائرة البابا بنفيها إلى فيلا الدوق في كونساندولو على نهر بو، ولكنها أحاطت نفسها هناك أيضاً بالبروتستنت، ونشأت بناتها على المذهب الإصلاحي الجديد. ولما خشي إركولي أن تصبح بناته البروتستنت بياذق عديمة القيمة في شطرنج الزيجات السياسية نقلهن إلى دير للراهبات. وأخيراً سمح لمحكمة التفتيش بتوجيه الاتهام إلى رينيه وأربعة وعشرين شخصاً من بيتها. فدينت بالهرطقة وحكم عليها بالسجن المؤبد (1554). وهنا أعلنت إنكارها للهرطقة، وتناولت القربان المقدس، وأعيدت إلى حظيرة الدين والسياسة(2)، ولكن آرائها الحقيقية وجدت تعبيراً صامتاً في تلك العزلة الحزينة التي أنفقت فيها سني عمرها الأخيرة. وبعد موت إركولي (1559) عادت إلى فرنسا، حيث جعلت من بيتها في مونتارجي ملاذاً يحتمي به الهيجونوت.

كذلك مرت مودينا بلحظة بروتستنتية مثيرة، وكانت هي أيضاً تحت حكم إركولي. وذلك أن أكاديمية العلماء والفلاسفة فيها سمحت بقسط كبير من حرية النقاش. واشتبه في هرطقة بعض رجالها ومنهم جابرييلي فاللوبيو تلميذ فيساليوس وخليفته. وكان راهب سابق يدعى باولو ريتشي يندد بالبابوية صراحة في عظاته. وراح الناس يناقشون الأفكار اللوثرية في الحوانيت والميادين والكنائس. وقبض على ريتشي وآخرين. وبسط الكاردينال سادوليتو حمايته على الأكاديميين بحجة أنهم موالون للكنيسة وأن من الواجب إطلاق البحث لهم بوصفهم علماء(3). وقنع البابا بولس الثالث بتوقيعاتهم على اعتراف بالإيمان، ولكن إركولي فض الأكاديمية (1546)، وأعدم لوثري عنيد في فرارا (1550). وفي عام 1567، حين عنفت الرجعية الكاثوليكية، أحرق ثلاثة عشر رجلاً وامرأة واحدة بتهمة الهرطقة في مودينا.

وفي لوكَّا أنشأ بييترو مارتيري فرميلي، رئيس دير الكهنة الأغسطينيين، أكاديمية رفيعة المستوى، وجلب لها أفذاذ المعلمين، وشجع حرية المناقشة، وقال لجمهوره الكبير من المصلين إن لهم أن ينظروا إلى سر القربان لا على أنه تحول معجز بل تذكر ورع لآلام المسيح، وكان في هذا لوثرياً أكثر من لوثر. فلما استدعي للمثول بين يدي مجلس رهبنته في جنوة لاستجوابه هرب من إيطاليا، وندد بأخطاء الكاثوليكية، ومفاسدها، وقبل وظيفة أستاذ للاهوت في أكسفورد (1548). وقد شارك في صياغة كتاب "الصلوات العامة" (1552) بقسط مختلف فيه، وغادر إنجلترا حين استعادت الكاثوليكية سلطانها فيها، ومات أستاذاً للعبرية بزيوريخ عام 1562. وقد حذا ثمانية عشر كاهناً من ديره في لوتشا حذوه، "فهجروا رهبنتهم ورحلوا عن إيطاليا".

كان الفضل في توجيه فرميلي وسورانو أسقف برجامو وكثيرين غيره هذين إلى الأفكار الجديدة لرجل يدعى جوان دي فالديس. ولعله هو وشقيقه ألفونسو، وهما من أسرة قشتالية عريقة، ألمع التوائم مواهب في التاريخ. أما ألفونسو، تلميذ إرزمس الوفي، فقد أصبح سكرتيراً لاتينياً لشارل الخامس، وكتب Dialogo de Lactaico (1529)، وفي هذا الحوار دافع عن "تهب روما"، وقال إن لوثر ما كان ليترك الكنيسة قط لو أنها أصلحت المفاسد التي ندد بها عن بدلاً من أن تحكم بإدانته. وأما جوان فقد شارك في هذا الكتاب ذاته بحوار سماه Dialogo de Mercurio y caron، كانت هرطقاته سياسية، من ذلك قوله إن من الواجب إلزام الأغنياء بكسب قوتهم، وإن ثروة الأمير ملك للشعب، وينبغي ألا تتبدد في حروب أمبريالية أو دينية(4). وآثر كلمنت السابع جوان بطبيعة الحال، فعينه أميناً بالقصر البابوي حين كان في الثلاثين من عمره. على أن جوان رحل إلى نابولي حيث انقطع للتأليف والتدريس، وظل على ولائه للكنيسة، ولكنه حبذ عقيدة لوثر في التبرير بالإيمان، ورأى للتصوف المخلص قدراً يسمو فوق أي طقس خارجي من طقوس العبادة. والتف حوله جماعة ممتازة من الرجال والنساء وارتضوا زعامته: كفرميلي، وأوكينو، والشاعر ماركانطونيو فلامينيو، وبيترو كارنيزيكي، وفيتوريا كولونا، وكوستانزا دافالوس دوقة أمالفي، وإيزابللا مانريكيز أخت رئيس محكمة التفتيش الأسبانية، وجوليا جونزاجا التي عرفنا ما كانت تتمتع به من جمال رائع. وبعد أن مات جوان فالديس (1541) تفرق تلاميذه في أرجاء أوربا. وظل بعضهم وفياً للكنيسة كفتوريا كولونيا، وطور آخرون تعاليمه فبلغوا بها الهرطقة السافرة. وقطعت رءوس ثلاثة من صغار تلاميذه وأحرقوا في نابلي عام 1564، وكذلك كانت نهاية كارنيزيكي بروما في عام 1567. أما جوليا جونزاجا فقد أنقذها موت البابا بولس الرابع، وكان رجلاً قاسياً لا يرحم، ودخلت ديراً للراهبات (1566) وهكذا انتهت جماعة الإصلاح النابولية.

أما برناردينو أوكينو فقد جاز بكل مراحل التطور الديني. عاش في مدينة سيينا بقرب مسقط رأس القديسة كاترين، حياة تضارع حياتها تقوى وورعاً. وانضم إلى رهبان الفرنسسكان ولكنه وجد نظامهم أكثر رخاوة مما يلائم مزاجه، فانتقل إلى رهبنة الكبوشيين الأكثر صرامة. وقد عجب الرهبان من نكرانه النسكي لذاته، وإذلاله العنيف لجسده، ولما نصبوه وكيلاً عاماً لهم أحسوا أنهم اختاروا قديساً. وترددت مواعظه في أرجاء إيطاليا-في سيينا، وفلورنسة، والبندقية، ونابلي، وروما؛ إذ لم تسمع البلاد نظيرها حرارة أو بلاغة منذ عهد سافونارولا قبل ذلك بقرن. وذهب شارل الخامس ليسمعه، وتأثرت فتوريا كولونا به أعمق التأثر، أما بيترو أريتينو، الذي جرب كل الخطايا تقريباً، فقد حركه الاستماع إليه فانقلب مفرطاً في تقواه. وضاقت كل الكنائس بسامعيه على رحابتها، ولم يخطر ببال أحد أن هذا الرجل سيموت مهرطقاً.

ولكنه التقى بفالديس في نابلي، وبفضله ألم بمؤلفات لوثر وكالفن. ووافقت عقيدة التبرير بالإيمان روحه، فبدأ يلمح لها في عظاته. وفي عام 1542 دعي للمثول أمام السفير البابوي في البندقية ومنع من الوعظ. وما لبث البابا بولس الثالث أن دعاه إلى روما ليناقش معه الآراء الدينية لبعض الرهبان الكبوشيين. ولعل أوكينو كان يثق بالبابا المستنير، ولكنه خاف ذراع محكمة التفتيش الطويلة، وحذره الكردينال كونتاريني من الخطر المحدق به. وفجأة قرر قديس إيطاليا ومعبودها هذا، بعد أن التقى ببيتر فرميلي في فلورنسة، أن يحذو حذوه ويعبر جبال الألب إلى بلد بروتستنتي، وأعطاه أخ لفتوريا كولونا جواداً، وفي فرارا أعطته رينيه ثياباً. ومضى مخترقاً إقليم جريزون إلى زيوريخ ومنها إلى جنيف. وقد أبدى استحسانه للنظام البيورتاني الذي كان كالفن يرسي أسسه هناك، ولما كانت ألمانيته أقوى من فرنسيته فقد انتقل إلى بازل ثم إلى استراسبورج ثم إلى أوزبورج، محاولاً كسب قوته بلسانه أو قلمه. وفي عام 1547 دخل شارل الخامس أوجزبورج سيداً على ألمانيا بعد أن سحق البروتستنت في مولبرج. ونمى إليه أن الراهب الكبوشي الذي سمعه في نابلي يعيش هناك رجلاً متزوجاً، فأمر القضاة بالقبض عليه، ولكنهم تستروا على فرار أوكينو، الذي هرب إلى زيوريخ وبازل. ولما أوشك زاده على النفاد، تلقى دعوة من رئيس الأساقفة كرامر للذهاب إلى إنجلترا. وهناك عكف على العمل بوصفه كاهناً فخرياً يتقاضى معاش تقاعد في كنتربري ست سنوات (1547-53)، وقد ألف كتاباً كان له أثر قوي في قصيدة ملتن "الفردوس المفقود"، ولكنه عجل بالعودة إلى سويسرة حين اعتلت ماري تيودور العرش.

وحصل على وظيفة راع للكنيسة في زيوريخ، ولكن الشعب استاء من آرائه التوحيدية، وطرد حين نشر حواراً بدا فيه المدافع عن تعدد الزوجات أقوى حجة من نصير الزواج الواحد. ومع أن ذلك كان في شهر ديسمبر (1563)، فقد أمر بمغادرة المدينة خلال ثلاثة أسابيع. ورفضت بازل الإذن له بالإقامة فيها. وسمح له بالمكث فترة وجيزة في نورمبرج، وما لبث أن خرج بأسرته قاصداً بولندة، وكانت يومها بالقياس إلى غيرها ملاذاً للمريبين من المفكرين. واشتغل بالوعظ في كركاو زمناً ولكنه طرد حين نفى الملك جميع الأجانب غير الكاثوليك (1564). وفي الطريق من بولندة إلى مورافيا قضى الطاعون على ثلاثة من أبنائه الأربعة. ولم يعش بعدهم سوى شهرين، ومات في شاكاو في ديسمبر 1564. وكانت آخر كلماته تقريباً "لست أريد أن أكون بولنجرياً ولا كالفيناً ولا بابوبياً، بل مسيحياً فقط"(5). ولم يكن هناك أشد من هذا خطراً.

أما أن تتحول إيطاليا إلى البروتستنتية فكان بالطبع ضرباً من المحال. فقد كان عامة الشعب هناك برغم عدائهم للأكليروس متعلقين بالدين وإن لم يؤموا الكنائس. كانوا يحبون الاحتفالات والمراسيم التي قدسها مرور الزمن، ويحبون القديسين المعينين أو المعزين، ويحبون العقيدة التي ندر تشككهم فيها، والتي رفعت حياتهم من فقر بيوتهم إلى سمو أعظم الدرامات التي تصورها عقل الإنسان-وهي افتداء الإنسان الساقط بموت إلهه. وأعان خضوع إيطاليا السياسي لأسبانيا المغالية في التدين على إبقاء شبهي الجزيرة كاثوليكيتين. وكانت ثروة البابوية ميراثاً إيطالياً ومصلحة إيطالية راسخة، وأي إيطالي يرى القضاء على هذه المنظمة الجابية للجزية كان يبدو في نظر معظم الإيطاليين مشرفاً على الجنون. وقد اختلفت الطبقات العليا مع البابوية باعتبارها قوة سياسية تتسلط على وسط إيطاليا، ولكنها اعتزت بالكاثوليكية عوناً لا غنى عنه للنظام الاجتماعي والحكومة الحافظة للسلام، وأدركت أن عظمة الفن الإيطالي مرتبطة بالكنيسة بفضل إلهام أساطيرها ومعونة ذهبها. لقد أصبحت الكاثوليكية ذاتها فناً، وطغت عناصرها الحسية على عناصرها النسكية واللاهوتية؛ فالزجاج المعشق، والبخور، والموسيقى، والعمارة، والنحت، والتصوير، وحتى الدراما-هذه كلها كانت في الكنيسة ومن الكنيسة، وبدت في مجموعها المعجز جزءاً لا ينفصل عنها. ولم يكن بفناني إيطاليا وعلمائها حاجة إلى التحول عن الكاثوليكية، لأنهم حولوا الكاثوليكية إلى العلم والفن. وكان المئات بل الألوف من العلماء والفنانين يتمتعون بمعونة الأساقفة والكرادلة والبابوات، وارتقى الكثير من الإنسانيين، وبعض الشكاكين المؤدبين، إلى مكانة مرموقة في الكنيسة. وأحبت إيطاليا الجمال القريب المنال حباً جماً لم يسمح لها أن تسلب نفسها في سبيل الحقيقة البعيدة المنال. وهل وجد الحقيقة هؤلاء التيتون المتعصبون، أو ذلك البابا المصغر، المتجهم، الحاكم لجنيف، أو ذلك الغول القاسي المتربع على عرش إنجلترا؟ وأي هراء محزن يتصايح به هؤلاء المصلحون-في الوقت الذي نسيت فيه الطبقات المثقفة في إيطاليا الجحيم والهلاك كل النسيان! كان في وسع المرء أن يفهم الرفض الصامت المستتر للاهوت المسيحي إيثاراً لربوبية غامضة لطيفة، أما تغيير سر التحول (تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه) ليحل محله هول جبرية محتومة فذلك أشبه بالانتقال من رمزية مبهجة إلى سخافة انتحارية. وفي هذا الوقت بالذات، بعد أن بسطت الكنيسة جناحيها الغافرين على نزعات الإيطاليين الوثنية، كان كالفن يطلب الدنيا بأن تكفل نفسها بأغلال بيورتانية تهدد بتجريد الحياة من كل فرح وتلقائية. وأتى للبهجة والفن الإيطاليين أن يدوما إذا كف هؤلاء التيوتون والإنجليز الهمج عن إرسال نقودهم أو جلبها إلى إيطاليا؟.


2- المصلحون الكاثوليك الإيطاليون

ونتيجة لهذا كله اتجه الإجماع في إيطاليا إلى ضرورة الإصلاح داخل الكنيسة. والحق أن رجال الكنيسة المخلصين ظلوا قروناً يسلمون بالحاجة إلى الإصلاح الكنسي بل ويطالبون به. ولكن تفجر حركة الإصلاح البروتستنتي وتقدمها أضافا إلحاحاً جديداً على الحاجة والمطالبة "وانصب على رأس الأكليروس سيل غامر من الشتائم في المئات والألوف من النبذ والصور الساخرة"(6). ومس "نهب وما" ضمير الكرادلة وجماهير الشعب المرتاعين كما س دخولهم. وأعلن عشرات من القساوسة أن هذه الكارثة نذير من الله. وفي عظة للأسقف ستافيليو أمام الروتا (وهو فرع قضائي من الإدارة البابوية) عام 1528 علل ضرب الله لعاصمة العالم المسيحي بعبارات أشبه ما تكون بلغة البروتستنت فقال "لأن البشر كلهم فسدوا؛ إننا لسنا مواطني مدينة روما المقدسة، بل مواطني بابل، مدينة الفساد"(7). وهو ما قاله لوثر.

قبيل عام 1517، في تاريخ غير مؤكد، أسس جوفاني بييترو كارافا والكونت جاتانو داتيني "مصلى الحب الإلهي" في روما للصلاة وإصلاح الذات. واختلف إلى المصلى الخمسون من الرجال النابهين، منهم إياكوبو سادوليتو، وجانماتيو جيبرتي، وجوليانو داتي. وفي عام 1524 أسس جاتانو طريقة للأكليريكيين النظاميين، وهم قساوسة علمانيون يخضعون نفسهم للنذور الديرية. وفض المصلى بعد "نهب روما"، والتحق كارافا وآخرون بالطريقة الجديدة التي اتخذت لها اسماً هو التياتية، نسبة إلى تياتي أوتشييتي، مقر أسقفية كارافا. وقبل في الطريقة رجال مرموقون مثل: بييتر وبيميو، وماركانطونيو فلامينيو، ولويجي بريولي، وجاسبارو كونتاريني، وريجينالد بولي... وكلهم نذروا أنفسهم للفقر، والعناية بالمرضى، وحياة الفضيلة الصارمة، وكان هدفهم كما قال أول مؤرخ لهم: "تعويض ما في الأكليروس من نقص، بعد أن أفسدت رجاله الرذيلة والجهل مما أفضى إلى خراب الشعب"(5). وانتشر أعضاء الطريقة في شتى أنحاء إيطاليا، وأسهم المثل الذي ضربوه كما أسهمت الإصلاحات البابوية والمجمعية، والمثل الذي ضربوه الكبوشيون والجزويت، في إصلاح خلق الأكليروس الكاثوليكي والبابوات. وضرب كارافا المثل بالتخلي عن كل وظائفه الكنسية ذات الموارد، وتوزيع ثروته الكبيرة على الفقراء.

وكان جيبرتي في شخصه وسيرته صورة للإصلاح الكاثوليكي. فهو في بلاط ليو العاشر من أئمة الإنسانيين، وفي عهد كلمنت السابع أمين أول للإدارة البابوية. وإذ هزته كارثة عام 1527، اعتكف في أسقفيته بفيرونا، وعاش عيشة الراهب المتقشف وهو بدير أسقفيته. وأزعجه انحلال الدين هناك-فالكنائس متهدمة، والوعظ نادر، والقساوسة يجهلون اللاتينية التي يتلون بها القداس، والشعب لا يجلس إلى كرسي الاعتراف إلا نادراً. واستطاع بالقدوة الحسنة والمبدأ القويم والنظام الحازم أن يصلح أكليروسه. يقول مؤرخ كاثوليكي "وسرعان ما ملئت السجون بالقساوسة ذوي الخليلات"(9) وأعاد جيبرتي إنشاء أخوة البر Confraternita della Carita التي أسسها الكردينال جوليانو دي مديتشي عام 1519، وبنى ملاجئ للأيتام، وفتح مصارف الشعب لإنقاذ المقترضين من براثن المرابين. وقام بمثل هذه الإصلاحات الكردينال إركولي جوزانجا (ابن إيزابللا دستي) في مانتوا، وماركو فيدا في ألبا، وفابيو فجيلي في سبوليتو، وكثير غيرهم من الأساقفة الذين أدركوا أن على الكنيسة أن تصلح ذاتها أو تموت.

وسلكت الكنيسة في تاريخ لاحق العديدين من أبطال الإصلاح الكاثوليكي، الذين عاونوا على إنقاذها، في عداد قديسيها. ومن هؤلاء القديس فيليب نيري، وهو نبيل فلورنسي شاب، أسس في روما (حوالي عام 1540) جماعة غريبة تدعى Trinita de Pellegrini ويقضي نظام هذه المجموعة أن يحضر اثنا عشر علمانياً قداس الأحد، ثم يحجون إلى إحدى الباسلقات، أو إلى أحد المروج الريفية، وهناك يلقون أو يسمعون أحاديث التقوى والورع، ويرنمون بالموسيقى الدينية. وقد أصبح كثير من أعضاء الجماعة قساوسة، وسموا أنفسهم "آباء المصلى"، ومن ميولهم الموسيقية أضافت كلمة oratorio- التي تعني في الأصل مكان الصلاة-معنى جديداً إلى معناها القديم، وهو الترنيمة الكورالية. ومنهم القديس شارل بوروميو-ابن أخي البابا بيوس الرابع- الذي استقال من وظيفة الكردينال الرفيعة في روما ليطهر الحياة الدينية في ميلانو.

فأقر النظام بين رجال الأكليروس بوصفه رئيساً للأساقفة هناك، وكان لهم في تقشفه وتعبده الأسوة الحسنة. وقد لقي في سبيل الإصلاح بعض المقاومة. ذلك أن طريقة دينية تدعى "أوميلياتي"، كانت من قبل تفخر بتواضعها، انحدرت إلى درك الراحة والدعة بل الإباحية. وأمر الكردينال رهبانها أن يطيعوا قانون رهبنتهم، فأطلق أحدهم النار عليه وهو يصلي في الكنيسة. وكانت نتيجة هذه الفعلة أن تحولت رهبة الشعب إلى إجلال لهذا الرجل الذي رأى في الإصلاح خير رد على حركة الإصلاح البروتستنتي. وبفضل جهوده إبان حياته وفي أرجاء أبرشيته أصبح الخلق المهذب القاعدة الفاشية بين الأكليروس والعلمانيين على حد سواء. وأحس الناس بتأثيره في جميع أنحاء إيطاليا، وقد أسهم هذا التأثير في تحويل الكرادلة من نبلاء متعلقين بنعيم الدنيا إلى كهنة أتقياء.

وبدأ البابوات يوجهون اهتمامهم الصادق إلى الإصلاح الكنسي بعد أن حفزهم أمثال هؤلاء. ففي وسط عهد البابا بولس الثالث قدم له الفقيه الشهير جوفان باتيستا كاتشيا بحثاً في إصلاح الكنيسة قال في ديباجته "أرى أن الكنيسة أمنا المقدسة... قد اعتراها من التغير الكبير ما تبدو معه وقد تجردت من سمات طابعها التبشيري؛ وليس فيها أثر للتواضع وضبط النفس والتعفف والقوة الرسولية"(10). وأظهر البابا بولس ميله بقبوله إهداء الكتاب إليه. وفي 20 نوفمبر 1534 عهد إلى الكرادلة بيكولوميني، وسانسفيرينو، وتشيزي، أن يضعوا برنامج تجديد خلقي للكنيسة، وفي 15 يناير 1535 أمر بتنفيذ مراسيم الإصلاح التي أصدرها البابا ليو العاشر عام 1513 تنفيذاً دقيقاً. على أنه أجل الإصلاح الإيجابي بعد أن وقع في شراك السياسة البابوية والإمبراطورية، وأحدق به خطر زحف العثمانيين، وكره وسط هذه الأزمات أن يهز بنيان الإدارة البابوية أو أداءها لوظيفتها بتغييرات جذرية؛ ولكن الرجال الذين رفعهم إلى مرتبة الكردينالية كانوا كلهم تقريباً معروفين بالنزاهة والتقوى. وفي يوليو عام 1536 قرر عقد مؤتمر إصلاحي في روما دعا إليه كونتناريني، وكارافا، وسادوليتو، وكورتيزي، وألياندر، وبولي، وتومازو باديا، وفيديريجو فريجوزي أسقف جوبيو، وكلهم رجال ملتزمون بالإصلاح، وأمرهم أن يكتبوا تقريراً عن الرذائل الفاشية في الكنيسة، والوسائل التي يشيرون بها للتخفيف منها. وافتتح سادوليتو المؤتمر بأن قرر في جرأة أن البابوات أنفسهم كانوا أهم سبب في تدهور الكنيسة بخطاياهم وجرائمهم وشرههم للمال(11). وظل المؤتمر يجتمع يومياً على مدى ثلاثة شهور. أما روحه الكبير، وهو جاسبارو كونتاريني، فكان ألمع رجال الإصلاح الكاثوليكي. ولد في البندقية (1483) من أسرة شريفة، وتلقى علومه في بادوا المتحررة، وما لبث أن تقلد منصباً مرموقاً في حكومة البندقية. وقد أوفد سفيراً لدى شارل الخامس في ألمانيا، وصحبه إلى إنجلترا وأسبانيا، ثم مثل مجلس الشيوخ في البلاط البابوي (1527-30). واعتزل السياسة وانقطع للدرس، وجعل من بيته ملتقى لخيرة رجال الدولة والكنيسة والفلاسفة والإنسانيين في البندقية. ومع أنه كان علمانياً فإنه كان يطيل التفكير في الإصلاح الكنسي، وتعاون تعاوناً نشيطاً مع كارافا. وجيبرتي، وكورتيزي، وبولي. وعرفته إيطاليا كلها مزيجاً نادراً من الذكاء والخلق، وفي عام 1535، ودون أي التماس منه، عينه بولس الثالث كردينالاً مع أنه لم يلتق به قط(12).

وفي مارس 1537 قدمت اللجنة للبابا "نصيحة الكرادلة المعينين لإصلاح الكنيسة"، وقد فضحت هذه النصيحة الاجتماعية، بحرية مذهلة، مفاسد الحكم البابوي، وعزتها بشجاعة أولاً "إلى مغالاة الفقهاء الكنسيين عديمي الضمير في سلطة البابا مغالاة مستهترة". ورأى التقرير "أن بعض البابوات ادعوا الحق في بيع الوظائف الكنسية، وقد أفشت هذه المتاجرة بالرتب الكهنوتية الرشوة والفساد في الكنيسة على نطاق واسع بحيث أشرفت هذه المنظمة العظمى على الخراب بسبب انعدام الثقة في نزاهتها. وحث التقرير على فرض رقابة صارمة على كل نشاط تقوم به الإدارة البابوية، وعلى فرض رقابة على الإعفاءات الكنسية، وعلى وقف دفع المال لنيلها، وعلى مستوى أعلى في جميع الوظائف وفي شروط اختيار الكرادلة والقساوسة، وحظر الجمع بين عدة وظائف كنسية ذات دخل أو الانتفاع بهذه الوظائف غيابياً. وأضاف التقرير "لقد هجر معظم الرعاة قطعانهم في العالم كلها ووكلوها إلى الأجراء". أما الطرق الديرية فيجب تجديدها، وأما أديار الراهبات فيجب إخضاعها للرقابة الأسقفية، لأن زيارة الرهبان لها أفضت إلى الفضائح وتدنيس المقدسات. وأما صكوك الغفران فيجب الإعلان عنها مرة واحدة في العام فقط. واختتم التقرير بهذا النداء الحار للبابا.

"لقد أرضينا ضمائرنا، ولنا وطيد الأمل في أن نرى كنيسة الله وقد صلحت حالها تحت رياستكم.... لقد تسميتم باسم بولس، فلعلكم تحاكونه في محبته. لقد اختير أداة لحمل اسم المسيح إلى الوثنيين، وأملنا أن تكونوا قد اخترتم لتحيوا في قلوبنا وأعمالنا ذلك الاسم الذي نسى منذ أمد بعيد بين الوثنيين ومنا نحن الأكليروس، ولتشفوا علتنا، وتجمعوا خراف المسيح من جديد في حظيرة واحدة، ولتصرفوا عنا غضب الله وانتقامه الذي يتهددنا"(13).

وتقبل بولس بروح طيبة هذه "النصيحة الذهبية" كما سماها الكثيرون، وأرسل صورة منها لكل كردينال. أما لوثر فقد ترجمها إلى الألمانية، ونشرها تبريراً كاملاً لاختصامه روما، على أنه حكم على كاتبي الوثيقة بأنهم "كذابون... وأوغاد يائسون، يصلحون الكنيسة بالتملق"(14). وفي 20 أبريل 1537 عين بولس أربعة كرادلة-كونتاريني، وكارافا، وسيمونيتا، وجينوتشي-لإصلاح قسم الوثائق، وهو ذلك القسم من الإدارة البابوية الذي استشرت فيه الرشوة في منح تلك الإعفاءات، والإنعامات، والامتيازات، والترخيصات، والوظائف ذات الدخل، المحجوزة لتصرف السلطة البابوية. وكانت المهمة تتطلب الشجاعة، لأن قسم الوثائق كان يسلم البابا كل سنة 50.000 دوكاتية (1.250.000 دولار؟)-وهي نصف دخله تقريباً(15). وللفور تعالت صرخة ألم من موظفي القسم ومن يلوذ بهم، فشكوا من غلاء المعيشة في روما، وزعموا أن أسرهم سيحل بها العوز سريعاً لو أنهم أكرهوا على مراعاة حرفية القانون. ومضى بولس في حذر، ومع ذلك كان "عمل الإصلاح يسير بهمة" كما كتب ألياندر إلى موروني (27 أبريل 1540). وفي 13 ديسمبر دعا بولس ثمانين من رؤساء الأساقفة والأساقفة المقيمين بروما، وأمرهم بالعودة إلى كراسيهم. وهنا ارتفعت مئات الاعتراضات مرة أخرى. وحذر موروني البابا من أن العجلة في تنفيذ هذا الأمر قد تحمل بعض الأساقفة على الانضمام إلى اللوثريين إذ يعودون إلى مناطق غلب عليها الآن المذهب البروتستنتي، وهذا ما حدث فعلاً في عدة حالات. وسرعان ما تاه بولس في ميدان السياسة الإمبراطورية، وترك الإصلاح لخلفائه من بعده.

وانتصرت الحركة المطالبة بالإصلاح الداخلي حين ارتقى زعيمهما كارافا كرسي البابوية (1555) باسم بولس الرابع. وصدر الأمر إلى الرهبان الغائبين عن أديارهم دون موافقة رسمية وضرورة واضحة بالعودة إليها فوراً. وفي ليلة 22 أغسطس 1558 أمر البابا بإغلاق جميع أبواب روما والقبض على جميع الرهبان الآبقين. واتبعت إجراءات مماثلة في جميع الولايات البابوية، وأرسل بعض المدنيين للعمل في سفن تشغيل الأسرى.

وأبطل الاحتفاظ برياسة الأديار لإعالة الموظفين الغائبين بدخولها. وطلب إلى الأساقفة ورؤساء الأديار الذين لا يخدمون الإدارة البابوية فعلاً في وظيفة ثابتة أن يعودوا إلى وظائفهم وألا حرموا من دخلهم. وحظر الانتفاع بالدخول الكنيسة المتعددة. وأمرت كل أقسام الإدارة البابوية بخفض رواتبها، وإبعاد كل شبهة اتجار في التعيين للوظائف الكهنوتية، وبعد أن خفض البابا بولس موارده على هذا النحو، بذل تضحية أخرى فوقع دفع رسم التثبيت الذي كان يؤديه من يرقون رؤساء أساقفة. وصدرت عدة مراسين بابوية ضد المرابين، والممثلين، والبغايا؛ أما القوادون فتقرر إعدامهم. وطلب إلى دانييل دا فولتيرا أن يغطي بطريقة العضلات الخياطية أكثر الملامح التشريحية افتضاحاً في لوحة ميكل أنجيلو "الدينونة الأخيرة"؛ ويجب التسليم بأن ذلك المجزر الرهيب، مجزر الأجساد الهالكة أو المخلصة، لم يجد له من قبل مكاناً مناسباً فوق مذبح البابوات. واتخذت روما الآن مظهراً من التقوى والفضيلة الخارجية لا يلائم طبيعتها. وأصلحت الكنيسة أكليروسها وأخلاقها في إيطاليا، ووراء إيطاليا بصورة أقل وضوحاً، تاركة عقائدها سليمة في كبرياء. لقد تأخر الإصلاح طويلاً، ولكنه حين أتى كان مخلصاً وباهراً.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- القديسة تريزا والإصلاح الديري

وكان التجديد الخلقي يجري في الوقت ذاته في الطرق الديرية. وفي وسعنا أن نتصور سمعة هذه الطرق من ملحوظة أبداها ميكل أنجيلو التقى السليم العقيدة، ذلك أنه حين نمى إليه سباستيان ديل بيومبو سيرسم صورة راهب في كنيسة سان بيترو بمونتوريو نصحه بألا يفعل، لأنه إذا كان الرهبان قد أفسدوا الدنيا على ما بها من سعة، فلا غرابة في أن يفسد راهب الكنيسة وهي بهذا الصغر(16). وصمم جريجوريو كورتيزي أن يصلح الرهبنة البندكتية في بادوا في صبر وأناة، وجيرولامو سيريباندو الكهنة الأوغسطينيين، وإيجيديو كانيزيو النساك الأوغسطينيين، وباولو جوستنباني الكامالدوليين.

وقامت طق ديرية جديدة شددت على الإصلاح. فأسس أنطونيو ماريا لاكاريا كهنة القديس بولس النظاميين في ميلانو (1533)، وهم جماعة من القساسوة ينذرون حياة الفقر الديرية. وكانوا أول الأمر يلتقون في كنيسة القديس برنابا، ومن هنا تسميتهم بالبرنابيين. وفي عام 1535 وضعت القديسة أنجيلاً نظام الراهبات الأورسوليات ليقمن بتعليم الفتيات ورعاية المرضى أو الفقراء، وفي عام 1540 أسس القديس يوحنا الإلهي جماعة "إخوان الرحمة" في غرناطة للخدمة في المستشفيات. وفي عام 1523 اعتزم ماتيو دي باسي، مدفوعاً بالرغبة الحارة في الاقتداء بالقديس فرنسيس الأسيسي، أن يتبع حرفياً نظام الرهبنة الأخير الذي خلفه مؤسس الطريقة الفرنسسكانية لرهبانها. وانضم إلى غيره من الرهبان، وما وافى عام 1525 حتى شجع تكاثرهم ماتيو على أن يتلمس من البابا اعتماد فرع جديد من الفرنسسكان ملتزم بأشد قواعد الرهبنة صرامة. واستطاع الرئيس الإقليمي للطريقة أن يستصدر أمراً بإيداعه السجن لعصيانه، ولكن سرعان ما أطلق سراح ماتيو، وفي عام 1528 ثبت البابا كلمنت السابع طريقة الرهبان الكبوشيين الجديدة. وقد أطلق عليها هذا الاسم لأن رهبانها كانوا يلبسون نوع القلنسوة cappuccio التي لبسها فرنسيس. وكانوا يرتدون أخشن الثياب، ويعيشون على الخبز والخضر والفاكهة والماء، ويصومون أصواماً قاسية، ويسكنون قلالي ضيقة في أكواخ حقيرة، ولا يسافرون إلا مشاة، ويمشون حفاة طوال العام. وقد اكتسبوا مكانة مرموقة بفضل رعايتهم المضحية لمرضى وباء 1528-29. وكان روعهم عاملاً في إبقاء فتوريا كولونا ونفر آخر ممن اعتنقوا البروتستنتية حديثاً في حظيرة كنيسة ما زالت قادرة على إنجاب أمثال هؤلاء المسيحيين الغيورين.

أما أكثر الأشخاص إثارة للاهتمام في عصر الإصلاح الديري الذي نحن بصدده فرئيسة دير أسباني رقيقة البدن شديدة السيطرة، هي تريزا دي تشييدا. كانت ابنة فارس قشتالي من آبلة، فخور باستقامته المتطرفة وولائه للكنيسة. وقد درج على أن يقرأ على أسرته جانباً من حياة القديسين(17). أما الأم، المصابة بعلة مزمنة، فكانت تطرد السأم عنها بقراءة روايات الفروسية، وتشارك من فراش مرضها في مغامرات أماديس الغالي. وتذبذب خيال تريزا في طفولتها بين الحب الشاعري والاستشهاد الطاهر المقدس. وحين بلغت العاشرة نذرت على نفسها حياة الرهبنة. ولكنها لم تلبث بعد سنوات أربع أن تفتح صباها عن حسناء تطفر بفرحة الحياة، وتنسى ثوب الدير أمام الأثواب البهية التي ضاعفت من مفاتنها. وتوافد عليها المعجبون، ووقعت في حب أحدهم على تهيب ووجل، فدعاها إلى موعد لقاء. وفي اللحظة الحاسمة أحست بالخوف، واعترفت لوالدها بالمؤامرة الرهيبة. ولما كانت أمها قد ماتت، فإن الدون ألونزو دي تشييدا أودع الفتاة الحساسة ديراً للراهبات الأوغسطينيات في آبلة.

وكرهت تريزا حياة الدير ونظامه الكئيبين. ورفضت أن تقسم يمين الرهبنة، وتطلعت في صبر نافدٍ إلى عيد ميلادها السادس عشر حين يسمح لها بمغادرة الدير. ولكن ما إن دنا هذا الهدف حتى مرضت مرضاً خطيراً وأشرفت على الموت. ثم تماثلت للشفاء، ولكن مرح الشباب ولى. ويبدو أن ضرباً من الصرع الهستيري أصابها، ربما نتيجة للتمرد المكبوت على قيود غريبة عن غرائزها. وكانت النوبات تعلوها ثم تتركها خائرة القوى. ونقلها أبوها من الدير وأرسلها لتعيش مع أخت لها غير شقيقة في الريف. وفي طريقها أعطاها أحد أعمامها كتاباً من تأليف القديس جيروم. وقد وصفت الرسائل الحية التي احتواها الكتاب أهوال الجحيم، وصورت مغازلات الجنسين كأنها الطريق المزدحم المفضي إلى الهلاك الأبدي. وقرأت تريزا الرسائل بشغف. وبعد نوبة شديدة أخرى طلقت كل فكرة في السعادة الدنيوية، وعزمت على الوفاء بنذر طفولتها. فعادت إلى آبلة ودخل دير التجسد الكرملي (1534).

وسعدت حيناً وسط روتين الدير المهدئ، روتين القداديس، والصلوات والاعترافات المطهرة، ولما تناولت القربان شعرت بالخبز كأنه المسيح حقاً على لسانها وفي دمها. ولكن نظام الدير الرخو أقلقها. فالراهبات لا يسكن القلالي بل الحجرات المريحة، ويأكلن الطعام الفاخر برغم الأصوام الأسبوعية، ويتزين بالقلائد والأساور والخواتم، ويستقبلن الزوار في قاعة الاستقبال، ويتمتعن بالإجازات الطويلة خارج أسوار الدير. وأحست تريزا أن هذه الظروف لا توفر لها الحماية الكافية من مغريات الجسد وأحلامه. ولعل هذه المغريات والأحلام، بالإضافة إلى سخطها المتزايد، جعلت نوباتها أكثر حدوثاً وأشد ألماً. وهنا أرسلها أبوها ثانيةً إلى أختها، وأعطاها عمها ثانيةً كتاباً دينياً اسمه "الأبجدية الثالثة" لفرانسسكو دي أوزونا. وكان أبجدية في الصلاة الصوفية، الصلاة دون كلام، لأن "الذين يدنون من الله في صمت هم وحدهم الذين يمكن أن يسمعهم ويعطيهم جواباً" على حد قول المؤلف(81). وفي عزلتها الريفية مارست تريزا هذه الصلاة الصامتة المتأملة التي لاءمت كل الملائمة ما أحدثته بها النوبات من حالة شبيهة بالوجد.

وحاول طبيب يعالج بالأعشاب أن يداويها، ولكن مستحضراته كادت تقتلها. ولما عادت إلى صومعتها في آبة (1537) كانت مشرفة على الموت، تواقة إليه. ثم أصابتها أشد نوبتها عنفاً، وراحت في غيبوبة خالها الراهبات غيبوبة الموت، وظلت يومين باردة لا حراك بها، تبدو مقطوعة النفس؛ وحفر الراهبات لها قبراً. ثم أفاقت، ولكنها ظلت ضعيفة جداً بحيث لم تستطع أن تهضم طعاماً جامداً أو تحتمل أية لمسة. ورقدت ثمانية أشهر في مستشفى الدير فيما يقرب من الشلل الكلي. وتحسنت حالها فأصبح شللها جزئياً، ولكن "الفترات التي لم ترهقني فيها الآلام المبرحة كانت في الحق نادرة(19)". وأقلعت عن كل أنواع العلاج الطبي، وصممت على أن تعتمد كلية على الصلاة. وظلت ثلاث سنوات تتعذب وتصلي. وفجأة، في صباح يوم من أيام سنة 1540، استيقظت العليلة طريحة الفراش، التي بدت ميئوساً من شفائها، لتجد أطرافها وقد فارقها الشلل. فقامت ومشت. ويوماً بعد يوم أخذت تشارك بنصيب أنشط في أعمال الدير. وهلل الناس لشفائها باعتبارها معجزة، وكذلك كان اعتقادها فيه. ولعل الصلاة قد هدأت من ثائرة جهاز عصبي أرهقته الرغبات المصطرعة، والشعور بالإثم، وخوف الجحيم؛ ومنحت أعصابها التي هدأت، وبعد الأطباء عنها، جسدها سلاماً لم تعهده من قبل.

وذاع صيت دير التجسد باعتباره المكان الذي حدث فيه شفاء معجز. وتوافد الناس من المدن المحيطة ليروا الراهبة التي شفاها الله، وتركوا نقوداً وعطاياً للدير المقدس. وشجعت رئيسة الدير هذه الزيارات، وأمت تريزا بالظهور أمام الزوار. وأزعج تريزا أن تجد أنها تستشعر لذة في هذه الزيارات، وفي هذه الشهرة، وفي وجود رجال وسيمي الوجوه. وعادوها شعور بالإثم. وذات يوم (1542) بينما كانت تتحدث في قاعة الاستقبال إلى رجل استهواها بصفة خاصة، خيل إليها أنها ترى المسيح واقفاً إلى جوار الزائر. وراحت في غيبوبة، واقتضى الأمر حملها إلى قلايتها على نقالة.

وظلت ترى هذه الرؤى طوال الستة عشر عاماً التالية، وأصبحت عندها أكثر واقعية من الحياة. وفي عام 1558 فيما هي غارقة في صلاتها أحست بنفسها تخرج من جسدها وتصعد إلى السماء حيث رأت المسيح وسمعته. ولم تعد هذه الرؤى تضنيها، بل على العكس من ذلك تنعشها. كتبت تقول:

"إن النفس التي كثيراً ما تضنيها وترهقها الآلام الرهيبة قبل حالة الوجد تخرج منها ممتلئة عافية مقبلة على العمل بشكل يدعو إلى الإعجاب... كأن الله شاء أن يشارك الجسد ذاته في سعادة النفس بعد أن أطاع رغباتها... والنفس بعد هذه المنحة يملؤها قدر من الشجاعة عظيم إلى حد يجعل الجسد لا يشعر إلا بأوفر راحة لو مزق في تلك اللحظة إرباً في سبيل الله"(20).

وفي مناسبة أخرى خيل إليها أن "ملاكاً رائع الحسن" قذف "سهماً طويلاً من الذهب" في رأسه نار "مخترقاً قلبي عدة مرات، حتى وصل إلى صميم أحشائي".

"كان الألم حقيقياً بحيث اضطرني إلى الأنين بصوت عال، ومع ذلك كان عذباً إلى حد مدهش لم أتمن معه الخلاص منه. ليس في مباهج الحياة ما يستطيع أن يهب رضى أكثر من هذا. وحين سحب الملاك السهم تركني وقد اضطرمت كلي يحب عظيم لله "(21).

هذه الفقرات وأشبابها مما كتبته القديسة تريزا تقبل بسهولة تفسيرات التحليل النفسي، ولكن أحداً لا يستطيع التشكك في إخلاص القديسة الشديد. فقد أيقنت كما أيقن اجناتيوس بأنها رأت الله، وأن أعوص المشكلات كانت تحل لها في هذه الرؤى.

"ذات يوم وأنا أصلي وهب لي أن أدرك في لحظة واحدة كيف أن الله يرى ويحتوي كل الأشياء... وهذه من أبرز النعم التي منحني الله إياها... فقد جعلني الرب أفهم كيف أن إلهاً واحداً يمكن أن يكون في ثلاثة أقانيم. وجعلني أرى هذا في وضوح شديد بحيث أخذني عجب شديد كما غمرتني سكينة عظمى... والآن حين أفكر في الثالوث الأقدس... أشعر بسعادة لا ينطق بها"(22).

أما الراهبات أخوات تريزا فقد عللن رؤاها بأنها ليست سوى أوهام ونوبات مرضية(23)، وإلى هذا الرأي كان يميل آباء اعترافها، فقد قالوا لها في جفاء "لقد خدع الشيطان حواسك". وخال أهل المدينة أن الشياطين مستها، وطالبوا محكمة التفتيش بفحصها، واقترحوا أن يطرد قسيس شياطينها بالتعزيم. ونصحتها صديقة بأن تبعث للمحكمة بقصة حياتها ورؤاها، فكتبت سيرتها في كتابها المشهور "Vida"، ففحصه رجال المحكمة، وحكموا بأنه وثيقة مقدسة خليقة بأن تشدد إيمان كل من يقرؤها.

فلما أن دعم هذا الحكم مركز تريزا، صممت-وقد بلغت الآن السابعة والخمسين-أن تصلح طريقة الراهبات الكرمليات. وبدلاً من محاولة إعادة نظام النسك القديم في دير التجسد، قررت افتتاح دير منفصل دعت إليه من الراهبات وطالبات الرهبنة كل من تقبل عيشة الفقر المطلق. لقد كان الكرمليات القدامى يلبسن الخيش الخشن، ويمشين حافيات، ويقتصدن في الطعام ويصمن أصواماً كثيرة. واشترطت تريزا على راهباتها الكرمليات الحافيات نظاماً أقرب ما يكون إلى هذا النظام الصارم، لا بوصفه غاية في ذاته، بل رمزاً للتواضع ولنبذ هذه الحياة الدنيا بما فيها من مغريات. وقامت في طريقها مئات العقبات؛ فندد أهل آبلة بالخطة لأنها تهدد قطع كل اتصال بين الراهبات وأقاربهن. ورفض رئيس الطريقة الإقليمي الإذن لها بفتح دير جديد، فلجأت تريزا إلى البابا بيوس الخامس، وظهرت بموافقته. ووجدت أربع راهبات قبلن الانضمام إليها، وكرس دير القديس يوسف الجديد في عام 1562 في شارع ضيق من شوارع آبلة. وكانت راهباته يلبسن صنادل من الحبال، وينمن على القش ويصمن عن اللحم، ويلتزمن ديرهن لزوماً دقيقاً.

ولم يرق رهبات الدير الأقدم-وعددهن 180-هذا الفضح البسيط لأساليب حياتهن المتهاونة. وأمرت رئيسة الدير تريزا بأن تستأنف ارتداء ثوبها الأبيض السابق، ولبس حذائها، وأن تعود إلى دير التجسد، زاعمة أنها التزمت قِبلها بنذر الطاعة. وأطاعت تريزا. ودينت بخطيئة الكبرياء، وحبست في صومعتها. وقرر مجلس المدينة إغلاق دير القديس يوسف، وأوفد أربعة رجال أشداء لإجلاء الراهبات اللاتي لم يعد لهن الآن رئيسة. ولكن العذارى لابسات الصنادل قلن "إن الله يريدنا أن نمكث هاهنا، فنحن إذن ماكثات". ولم يجرؤ الموظفون القانونيون القساة على إكراههن على الجلاء. أما تريزا فقد قذفت الرعب في قلب الرئيس الكرملي الإقليمي حين أومأت إليه أنه إنما يسئ إلى الروح القدس بوضعه العراقيل في طريق خططها؛ فأمر بالإفراج عنها. وغادرت الدير معها أربع راهبات، وسارت النسوة الخمس إلى دارهن الجديدة وسط الثلوج. وحيا الراهبات الأربع القدامى تريزا "Madre أما" لهن وهن سعيدات، وأصبحت الآن معروفة في أسبانيا كلها تقريباً باسم تريزا يسوع، صديقة الله الحميمة.

وكان نظام رهبنتها يتسم بالمحبة والبهجة والحزم. فالبيت موصد في وجه العالم، لا يسمح للزوار بدخوله، والنوافذ مكسوة بالقماش، والأرض المبلطة هي الأسِرة والموائد والمقاعد. وبني في الجدار قرص دائر، وأي طعام يضعه الناس على نصفه الخارجي يقبله الدير بشكر، ولكن ليس للراهبات أن يستجدين. وكن يكملن ما نقص من قوتهن بالغزل وأشغال الإبرة، وتوضع منتجاتهن خارج باب الدير، ولأي مشتر أن يأخذ منها ما شاء ويترك مقابله ما شاء. وأقبلت راهبات جديدات على الرغم من هذا التقشف كله، ومن بينهن امرأة كانت أجمل نساء آيلة وأشدهن فتنة للرجال. ولما زار الرئيس العام للأديار الكرملية هذا الدير الصغير بلغ به التأثر أشده، فطلب إلى تريزا أن تؤسس بيوتاً مماثلة له في سائر أرجاء أسبانيا. وفي عام 1567 استصحبت بضع راهبات، وسافرن في عربة حقيرة قطعت سبعين ميلاً على طرق رديئة لتؤسس ديراً للراهبات الكرمليات الحافيات في مدينا ديل كاميو. وكان البيت الوحيد الذي عرض عليها بناءً مهجوراً متهدماً تداعت جدرانه ورشح سقفه، ولكن حين رأى أهل المدينة الراهبات يحاولن العيش فيه، توافد النجارون والمبلطون لإصلاح الدار وصنع أثاث بسيط له دون أن يدعوهم لذلك أحد أو يتقاضوا على عملهم أجراً.

وجاء إلى تريزا رئيس دير الرهبان الكرمليين في مدينا طالباً إليها قواعد رهبنتها رغبة منه في إصلاح رهبانه المتراخين. وكان الرجل فارع القوام، ولكن جاء في صحبته شاب قصير هزيل جداً حتى أن تريزا قالت بعد رحيلهما في دعابتها التي كانت تضفي الإشراق على نسكها "تبارك الله، فإن عندي الآن راهباً ونصفاً لتأسيس ديري الجديد(24)". أما هذا الرويهب، واسمه جوان دي أيبس ألفاريز، فقد كتب له أن يصبح سان جوان دي لاكروز، أي القديس يوحنا الصليبي، روح الرهبان الكرمليين الحفاة وفخرهم.

ولم تنته مصاعب تريزا. ذلك أن الرئيس الإقليمي للأديار الكرملية عينها رئيسة على دير التجسد، ربما اختباراً لحكمها وشجاعتها. وكان راهبات هذا الدير يكرهنها، وقد خشين أن تذيقهن الآن ألوان الذل والهوان انتقاماً منهن. ولكنها عاملتهن بكثير من التواضع والرقة حتى كسبتهن الواحدة بعد الأخرى، وما لبث النظام الجديد الأكثر صرامة أن حل شيئاً فشيئاً محل التراخي القديم. ومن هذا الانتصار تقدمت تريزا لإنشاء دير جديد في إشبيلية. وصمم الرهبان الطريقة التي تراخى نظامها على وقف امتداد الإصلاح. فهرَّب بعضهم عميلة تنكرت في زي راهبة حافية إلى دير إشبيلية. وما لبث هذه المرأة أن أعلنت على الملأ في أسبانيا أن تريزا تجلد راهباتها وتتلقى الاعترافات كأنها كاهن. وطلب إلى محكمة التفتيش التحقيق معها ثانية. ودعيت للمثول أمام المحكم الرهيبة، واستمتعت المحكمة إلى شهادتها وأصدرت هذا الحكم "لقد برئت من كل التهم... فاذهبي وواصلي عملك(25)". ولكن أعدائها كسبوا سفيراً بابوياً إلى صفوفهم. فندد بتريزا "امرأة عاصية متمردة، تنشر التعاليم المؤذية تحت قناع التقوى، تركت ديرها مخالفة بذلك أوامر رؤسائها؛ امرأة طماعة، تعلم اللاهوت كأنها من فقهاء الكنيسة، محتقرة بذلك القديس بولس الذي منع النساء من أن يعلّمن". ثم أمرها أن تعتكف حبيسة في دير للراهبات بطليطلة (1575).

وحارت تريزا إلى من تلجأ في هذا التغير الجديد، فكتبت إلى الملك. وكان فيليب الثاني قد قرأ "حياتها". وأحب الكتاب. فأرسل مبعوثاً خاصاً من بلاطه يدعوها لمقابلة الملك، واستمع إليها، واقتنع بورعها. وسحب السفير البابوي أمره السابق بفرض القيود على تريزا بعد أن وبخه الملك، وأعلن أنه زود بمعلومات كاذبة.

وفي وسط أسفارها وشدائدها كتبت كتيبات تعبدية صوفية شهيرة مثل "طريق الكمال 1567" و "الحصن الداخلي 1577". وقد كشفت في هذا الكتيب عن عودة آلامها الجسدية فقالت "يخيل إلي أن أنهاراً مفعمة بالمياه تتدافع داخل رأسي فوق منحدر سحيق، ثم أعود فاسمع الطيور في غنائها وصفيرها بعد أن طغى عليها ضجيج المياه. وأنا أرهق ذهني وأزيد صداعي"(26)، وعاودتها النوبات القلبية، وكان عسيراً على معدتها أن تحتفظ بالطعام، وراحت على الرغم من هذا تتنقل في ألم من دير إلى دير من تلك الأديار الكثيرة التي أسستها، فاحصة مصلحة، ملهمة. وفي ملقا أصابتها نوبة شلل. ثم شفيت، ومضت إلى طليطلة، فنزلت بها نوبة أخرى. ثم شفيت، ومضت إلى سقوبية وبلد الوليد، وبلنسيه، وبرغش وألبه، وهناك اضطرها نزف في رئتيها أن تتوقف. واستقبلت الموت ببشاشة، واثقة أنها إنما ترحل عن عالم من الألم والشر إلى صحبة المسيح الخالدة.

ودفنت في وسقط رأسها بعد منافسة معيبة بين ألبة وآبلة وخطف جسدها المرة بعد المرة. وزعم المصلون الأتقياء أن جسدها لم يفسد قط، وروى حدوث العجائب الكثيرة عند قبرها. وفي عام 1593 تلقت طريقة الراهبات الكرمليات الحافيات اعتماد البابا. واشترك نفر من أشهر الأسبان مثل سرفانتس ولوبي دي فيجا في توجيه نداء إلى البابا يلتمسون فيه على الأقل تطويبها. وهذا ما حدث (1614)، وبعد ثماني سنوات تقرر أن تكون تريزا إحدى اثنين من قديسي أسبانيا الحامين، أما الثاني فهو الرسول يعقوب.

في غضون هذا خرج من أسبانيا من هو أعظم من تريزا ليصلح الكنيسة ويهز الدنيا.


4- إجناتيوس لويولا

ولد الدون إينيجو دي أونيز اللويولي في قلعة لويولا بإقليم جويبوزكوا، وهو من أقاليم الباسك، في عام 1491. وكان أحد ثمانية أبناء وخمس بنات للدون بلتران دي أونيز اللويولي، الذي ينتمي غلى طبقة النبلاء الأسبان العظام. وقد ربى الصبي ليكون جندياً، لذلك لم يتلق من التعليم المدرسي إلا القليل، ولم يبد ميلاً إلى الدين. واقتصرت قراءاته على قصة "أماديس الغالي" وأشباهها من روايات الفروسية. ولما بلغ السابعة أرسل ليكون تابعاً للدون جوان فيلاسكويز دي كويللار، وبفضله أتيح له بعض الاتصال بالبلاط الملكي. وحين بلغ الرابعة عشرة أحب جرمين دفوا. الملكة الجديدة لفيناند الكاثوليكي، ولما حان وقت تقليده رتبة الفروسية اختارها مليكة له، ولبس شعارها، وحلم بالفوز بمنديل مخرم من يدها جزاء انتصاره في مباراة للفروسية(27). على أن هذا لم يمنعه من الدخول في الغراميات والمشاجرات العارضة التي كانت نصف حياة الجندي. ولم يحاول إخفاء هذه الأعمال الطائشة الطبيعية في سيرته الذاتية، البسيطة الأمينة، التي أملاها في 1553-56.

ثم انتهى شبابه الخلي حين عين للخدمة العسكرية العامة في بانبلونة عاصمة نافار. وهناك أنفق أربع سنوات يحلم بالمجد ولا يفتح عينيه إلا على حياة رتيبة. وواتته الفرصة لكي يثبت كفايته، فقد هاجم الفرنسيون بانبلونة، وشدت بسالة إينيجو أزر المدافعين، ولكن العدو استولى على القلعة، وأصيبت ساق إينيجو اليمنى بكسر من قذيفة مدفع (20 مايو 1521). وترفق المنتصرون به، وجبروا عظامه، وأرسلوه على نقالة إلى حصن أسلافه. ولكن العظام أخطئ جبرها، فاقتضى الأمر كسرها وجبرها من جديد. ثم تبين أن العملية الثانية أسوأ من سابقتها، لأن جدعة من العظم برزت من الساق. واستقامت العظام بعد عملية ثالثة، ولكن الساق أصبحت الآن أقصر مما ينبغي. وظل إينيجو الأسابيع يعاني عذاب جبيرة جعلته ضعيفاً عاجزاً يشكو ألماً لا يبرحه.

وخلال أشهر النقاهة الطويلة المملة طلب كتباً، لا سيما قصة مثيرة عن الفروسية والأميرات اللاتي يتهددن بالخطر. ولكن مكتبة القلعة لم يكن بها سوى كتابين لا ثالث لهما: أولهما "حياة المسيح" بقلم لودلفوس، أما الثاني فيحكي سير القديسين. Flos sanctorum، وضاق الجندي ذرعاً بالكتابين أول الأمر، ثم تسلطت عليه صورتا المسيح ومريم، وتبين له أن أساطير القديسين لا تقل عجباً عن ملاحم الحب النبيل والحرب، ففرسان المسيح هؤلاء هم من كل الوجوه أبطال كفرسان قشتالة. وتكونت في عقله شيئاً فشيئاً فكرة مؤداها أن أنبل الحروب هي حرب المسيحية مع الإسلام. وجعلت جدة الإيمان الأسباني الدين عنده، كما جعلته عند دومنيك من قبل، لا تعبداً هادئاً كتعبد الراهب الألماني توماس أكمبيس، ولكن رغبة مشوبة في الصراع، بل حرباً مقدسة. وصمم على الذهاب إلى بيت المقدس وتحرير الأماكن المقدسة من سيطرة غير المسيحيين. وذات ليلة ظهرت له العذراء وابنها في رؤيا، وبعدها (كما أخبر الأب جونزاليز فيما بعد) لم يهاجمه قط أي إغراء جنسي(28). ونهض من فراشه، وجثا على ركبتيه، وأقسم أن يكون جندياً للمسيح ومريم حتى الموت.

وكان قد قرأ أن الكأس المقدسة خبئت مرة في قلعة بمونتسرات في إقليم برشلونة. هنالك، كما ورد في أشهر الروايات قاطبة، قضى أماديس ليلة بطولها ساهراً أمام صورة العذراء تأهباً للفروسية. وما إن وجد إينيجو في نفسه القدرة على السفر حتى امتطى بغلاً وانطلق إلى ذلك المزار البعيد. وظل حيناً يرى في نفسه جندياً مرتدياً شكة النزال. ولكن القديسين الذين قرأ أخبارهم لم يحملوا سلاحاً ولا درعاً، إنما كانت عدتهم أفقر الثياب وأرسخ الإيمان. فلما بلغ مونتسرات طهر روحه بالاعتراف والتكفير ثلاثة أيام، ثم خلع ثيابه الغالية على شحاذ، وارتدى عباءة حاج من قماش خشن. وقضى طوال ليلة 24-25 مارس 1522 وحيداً في كنيسة صغيرة بدير بندكتي، راكعاً أو واقفاً أمام مذبح العذراء. وأخذ على نفسه العهد بحياة العفة والفقر الدائمين. وفي صباح الغد تناول القربان، وأعطى بغله للرهبان، ثم انطلق إلى أورشليم وهو يعرج على قدمه.

كانت أقرب المواني إليه برشلونة، وفي طريقه إليها توقف عند قرية مانريزا. ودلته عجوز على مغارة يأوي إليها. فجعلها مسكنه أياماً، وإذ كان حريصاً على أن يبز القديسين في نسكهم، فقد مارس هناك من التقشف الصارم ضروباً كادت تقضي عليه. وفي ندمه على ما أسلف من خيلاء بمظهره، كف عن تنظيف شعره أو قصه أو تمشيطه-فسقط بعد قليل. وأبى أن يقص أظافره أو يستحم أو يغسل يديه أو وجهه أو قدميه(29)، وعاش على ما وسعه استجداؤه من طعام، إلا أن يكون لحماً؛ وكان يصوم أياماً بطولها، ويصوم نفسه ثلاث مرات في اليوم، وينفق الساعات في الصلاة كل يوم. وأمرت امرأة تقية بنقله إلى بيتها مخافة أن يؤدي هذا التقشف الصارم بحياته، وهناك مرضته حتى استعاد عافيته. ولكنه عاود جلد نفسه حين نقل إلى قلاية في دير دومنيكي بمانريزا. لقد أرعبته ذكرى ذنوبه الماضية، فشن الحرب على جسده باعتباره الأدلة لذنوبه، وصمم على أن ينتزع بالجلد كل فكرة خطيئة من جسده. وبدا الصراع أحياناً ميئوساً منه. ففكر في الانتحار. وهنا جاءته الرؤى التي شددته، واعتقد وهو يتناول القربان مرة أنه لا يرى قربانة بل المسيح الحي، وفي مرة أخرى ظهر له المسيح وأمه، ومرة رأى الثالوث، وفهم- بومضة من بصيرته يقصر دونها اللفظ أو الفكر- سر الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد، وفي "مرة أخرى" كما يروي "أذن الله أن يفهم كيف خلق العالم"(30). وأبرأت هذه الرؤى الصراع الروحي الذي ابتعثها، فطرح وراء ظهره كل قلق بسبب حماقات شبابه، وخفف من غلواء نسكه، وإذ قهر جسده فقد استطاع الآن أن يطهره دون غرور. ومن خبرة هذا الصراع الذي امتد قرابة عام وضع "الرياضيات الروحية" التي يمكن أن يخضع فيها الجسد الوثني للإرادة المسيحية. ورأى أن في وسعه الآن أن يمثل أمام المزارات المقدسة في أورشليم.

وأبحر من برشلونة في فبراير 1523. وفي طريقه تخلف أسبوعين في روما، ثم لاذ بالفرار قبل أن تثنيه روحها الوثنية عن طريق القداسة. وفي 14 يوليو استقل سفينة من البندقية إلى يافا. وأصابته خطوب كثيرة قبل أن يبلغ فلسطين، ولكن رؤاه المتصلة شدت من أزره. وكانت أورشليم نفسها إحدى المحن، فالترك الذين يسيطرون عليها يسمحون للزوار المسيحيين بدخولها، ولكنهم يمنعون التبشير فيها، وحين اقترح إينيجو تحويل المسلمين إلى المسيحية برغم هذا الحظر، أصدر الرئيس الفرنسسكاني المحلي، الذي وكل إليه البابا حفظ السلام هناك، أمراً للقديس بالعودة إلى أوربا. وفي مارس 1524 عاد إلى برشلونة.

ولعله أحس الآن أنه وإن كان سيداً على جسده فإنه عبد لأوهامه. فصمم على تهذيب عقله بالتعليم. واشترك مع تلاميذ المدارس في تعلم اللاتينية مع أنه كان في الثالثة والثلاثين. ولكن شهوة التعليم كانت فيه أقوى من إرادة التعلم. وسرعان ما بدا إجناتيوس-وهو اسمه المدرسي-في تبشير لفيف من النساء التقيات الفاتنات. وندد به عشاقهن مفسداً لمتعتهم وضربوه ضرباً وحشياً. فانتقل إلى القلعة (1526)، وعكف على دراسة الفلسفة واللاهوت وهنا أيضاً راح يعلم جماعة خاصة صغيرة جلها من فقيرات النساء، فيهن نفر من البغايا المتعطشات إلى الخلاص. وحاول أن ينتزع منهن ميولهن الخاطئة بالرياضة الروحية، ولكن بعض تلميذاته أصابتهن نوبات أو غشيات، فاستدعته محكمة التفتيش للمثول أمامها. وأودع السجن شهرين(31)، ولكنه في النهاية أقنع المفتشين بسلامة عقيدته، فأفرج عنه، غير أنه منع من التعليم. ومضى إلى سلمنقه (1517)، وجاز تجربة مماثلة انتقل فيها من مرحلة التعليم إلى المحاكمة أمام محكمة التفتيش، إلى السجن، إلى الإفراج ثم إلى الكف عن التعليم. فلما خاب ظنه في أسبانيا، يمم شطر باريس، دائماً سيراً على الأقدام في رداء الحاج، سائقاً أمامه الآن حماراً يحمل أسفاراً.

وفي باريس عاش في ملجأ الفقراء، وكان يستجدي في الشوارع طعامه ونفقة تعليمه. ودخل كلية مونتيجي، حيث كان بوجهه الشاحب المهزول، وبدنه الأعجف، ولحيته المهوشة، وثيابه العتيقة، محط الأنظار غير العطوفة، ولكنه واصل السعي إلى أهدافه في حرص ملك عليه حواسه حتى أن بعض الطلبة بدأوا ينزلونه منزلة القديس. فمارسوا بإرشاده ألوان الرياضة الروحية من صلاة وتفكير وتأمل. وفي عام 1529 انتقل إلى كلية سانت-بارب، وهناك أيضاً التف حوله نفر من التلاميذ. وانتهى مساكناه بطريقتين مختلفتين إلى الإيمان بقداسته. فأما بيير فافر، الذي كان من قبل راعياً في إقليم السافو الألبي، فكان يتعذب عذاباً مبرحاً من مخاوف وهمية أو واقعية، وبتأثيرها نذر حياة العفة الدائمة. وكان يخفي الآن وهو في العشرين تحت طباعه المهذبة روحاً تكافح مغريات الجسد كفاحاً محموماً، ومع أن إجناتيوس لم يدع لنفسه توقد الذكاء، فقد كان يملك القدرة على الإحساس بحياة الآخرين الداخلة بفضل شفافية حياته. وعلى فقد حدس مشكلة صديقه الشاب، وأكد له أن نزعات الجسد يمكن السيطرة عليها بالإرادة المدربة. وكيف تدرب الإرادة؟ أجاب إجناتيوس، بالرياضة الروحية. وراحا يمارسان هذه الرياضة معاً.

وأما نزيل غرفته الآخر، واسمه فرانسوا زافير، فكان أصله من بنبلونة حيث مارس لويولا الجندية، وسليل عدد كبير من الأسلاف النابهين، وسيماً، غنياً، فخوراً، فتى مستهتراً، مرحاً، عليماً بحانات باريس وبناتها(32). وسخر الفتى من صاحبيه الزاهدين وراحي يباهي بما أصاب من توفيق مع النساء. على أنه كان ذكياً في دراساته(32)، حصل من قبل على درجة الأستاذية، وهو يحضر الآن للدكتوراه. وذات يوم رأى رجلاً نقر الزهري وجهه، فأوقفه المنظر ملياً. وبينما كان مرة يفيض في الحديث عما يجيش في صدره من طموح للشهرة والمجد، ذكر له إجناتيوس في هدوء هذه الآية من الإنجيل: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟"، وساء السؤال زافير، ولكنه لم يستطع نسيانه. فبدأ ينضم إلى لويولا وفابر في رياضتهما الروحية، ولعل كبرياءه دفعته إلى مباراة زميله في القدرة على احتمال الحرمان والبرد والألم. وراحوا يجلدون أنفسهم، ويصومون، وينامون في قمص رقيقة على أرض حجرية غير مدفأة، ويقفون حفاة عراة تقريباً على الثلوج ليخشنوا أجسادهم وليخضعوها في الوقت ذاته، وبلغت التدريبات الروحية التي بدأت في مانريزا شكلاً أكثر تحدداً. وصاغتها إجناتيوس في كتيب على غرار "رياضة الحياة الروحية" (1500) الذي وضعه الدون جارسيا دي كزنيروس، رئيس دير مونسترات البندكتي(33)، ولكنه سكب في هذا القالب من حرارة العاطفة والخيال ما جعل كتيبه قوة محركة في التاريخ الحديث. وكانت نقطة البداية التي انطلق منها لويولا هي عصمة الكتاب المقدس والكنيسة، فهو يرى أن الحكم الفردي في الدين إنما هو ادعاء باطل مولد للفوضى تدعيه عقول ضعيفة متكبرة. "علينا دائماً أن نكون على استعداد للإيمان بأن ما يبدو لنا أبيض إنما هو أسود إذا عرفته كذلك الكنيسة ذات الكهنوت المسلسل(34)" وعلينا إذا أردنا تجنب الهلاك الأبدي أن ندرب ذواتنا على أن نكون خداماً ممتثلين لله، وللكنيسة التي استخلفها الله على الأرض. أما أول تدريب روحي فهو تذكرنا خطايانا الكثيرة، والتفكر في مقدار العقوبة الذي تستحقه. لقد حكم على الشيطان بالجحيم لخطيئة واحدة، أفليست كل خطية نقارفها تمرداً على الله كتمرد الشيطان؟ فلنحتفظ بحساب يومي لذنوبنا بعلامات على سطور تمثل الأيام، ولنحاول كل يوم أن ننقص عدد هذه العلامات. وفيما نحن راكعون في حجرتنا أو صومعتنا بعد إظلامها، لنتخيل الجحيم بأجلى ما نستطيع؛ يجب أن نستحضر كل فظائع هذه النار التي لا تموت، يجب أن نتصور عذاب الهالكين، ونسمع صرخات الألم وصيحات اليأس المنبعثة منهم؛ يجب أن نشم الأبخرة المنتنة التي تتصاعد من الكبريت واللحم المحترقين؛ يجب أن نحاول الإحساس بألسنة اللهب تلك وهي تلذع أجسادنا؛ ثم يجب أن نسأل أنفسنا، كيف السبيل إلى النجاة من هذا العذاب الأبدي؟ لا سبيل إلا تضحية الفداء التي قدمها الله نفسه في المسيح على الصليب . فلنتأمل إذن حياة المسيح، في كل دقائقها، علينا أن نكون حضوراً بالخيال في تلك الأحداث التي هي أعمق الأحداث في تاريخ العالم. يجب أن نجثو في الخيال أمام الأشخاص المقدسين في تلك الملحمة الإلهية، وأن نلثم هدب أثوابهم. وبعد أن ننفق أسبوعين في مثل هذه التأملات يجب أن نصحب المسيح في كل خطوة من خطوات آلامه، في كل مرحلة من مراحل الصليب؛ نصلي معه في جثسيماني، ونشعر بأننا نجلد معه، ويبصق علينا، ونسمر على الصليب، يجب أن نقاسي كل لحظة من لحظات عذابه، أن نموت معه، وأن نقبر معه. وفي الأسبوع الرابع يجب أن نتخيل أنفسنا وقد قمنا منتصرين من القبر، وصعدنا أخيراً معه إلى السماء. وإذ تشددنا هذه الرؤية المباركة، فستكون على أهبة الانخراط جنوداً مكرسين في المعركة لهزيمة الشيطان وبح النفوس للمسيح، وفي تلك الحرب المقدسة سنحتمل باغتباط كل ما نلقى من شدائد وننفق حياتنا في بهجة وفرح.

ووجدت هذه الدعوة للتعبد الممتد طوال الحياة تسعة طلاب في باريس على استعداد لقبولها. ولعل هؤلاء الشبان الجادين، الذين شعروا لأول مرة بما في العالم من غموض محير، وتاقت نفوسهم لمرساة من الإيمان والأمل وسط خضم من الشكوك والمخاوف-نقول لعلهم دفعوا بثقل المطالب الملقاة على كواهلهم إلى المشاركة بمصيرهم وحياتهم وخلاصهم في خطة لويولا. فاقترح أن يذهبوا معاً في الوقت المناسب إلى فلسطين، ويحيوا هناك حياة أقرب ما تكون غلى حياة المسيح. وفي 15 أغسطس 1534 اجتمع لويولا، وفافر، وزافير، ودييجو لاينيز، وألونسو ساليرون، ونيكولا بوباديللا، وسيمون رودريجيز، وكلود لوجي، وجان كودير، وباسكاز برويه-اجتمع هؤلاء العشرة في كنيسة صغيرة بمونمارتر، ونذروا حياة العفة والفقر، وأخذوا العهد على أنفسهم بالذهاب إلى الأراضي المقدسة والعيش فيها بعد قضاء عامين آخرين في الدرس. ولم يكن لديهم إلى الآن فكرة واضحة عن مكافحة البروتستنتية، وبدا الإسلام لهم تحدياً أعظم. ولم يكن بهم ميل إلى المجادلات اللاهوتية. فهدفهم إنما هو حياة القداسة، وحركتهم تمد جذورها في تربة الصوفية الأسبانية لا صراعات العصر الفكرية. وخير حجة يقدمونها هي التقي والورع.

وفي شتاء 1536-37 اخترقوا فرنسا سيراً على الأقدام، وعبروا الألب، ثم إيطاليا غلى البندقية حيث كانوا يأملون العثور على سفينة تحملهم إلى يافا. ولكن البندقية كانت تخوض حرباً مع الترك. فاستحال عليهم السفر. وخلال فترة التخلف التقى إجناتيوس بكارافا، وانضم حيناً إلى التياتين. وكانت لخبرته مع هؤلاء القساوسة الأتقياء بعض الأثر في تغيير خطته من العيش في فلسطين إلى خدمة الكنيسة في أوربا. واتفق هو وتلاميذه على أن يتقدموا للبابا طالبين أداء أي خدمة يكلها إليهم، إذا انقضت عليهم في هذا الانتظار سنة دون أن ينفتح أمامهم الطريق إلى فلسطين. وحصل فافر على إذن لهم جميعاً برسامتهم قساوسة.

كان لويولا قد بلغ إذ ذاك السادسة والأربعين، أصلع الرأس به عرج خفيف لم يفارقه إثر جرحه. وما كان له بقامته التي لم تزد على خمسة أقدام وبوصتين أن يقع من نفوس ناظريه أي موقع لولا رهافة أرستقراطية في قسمات وجهه، وتدبب في أنفه وذقنه، ولولا ما في عينيه من سواد ونفاذ وعمق واكتئاب، وما في طلعته من رزانة وعزم؛ وكان قد غدا القديس المستغرق في تأملاته، العازف عن الفكاهة. لم يكن مضطهداً لخصوم الدين، ومع أنه وافق على وجود محكمة التفتيش(35) فقد كان ضحيتها أكثر منه عميلها. كان صارماً في عطف، بخدم المرضى عن طيب خاطر في المستشفيات وإبان تفشي الطاعون، حلمه أن يربح نفوساً بالإيمان لا بالنار أو السيف بل بالسيطرة على الخلق في الشباب الطيع وتشكيله تشكيلاً ثابتاً في الإيمان. ولم يكن هذا المؤسس لأنجح نظم التربية في التاريخ شديد التأكيد على العلم أو الذكاء. لم يكن لاهوتياً، ولم يشترك في مجلدات الكلاميين أو تدقيقاتهم؛ وقد أثر الإدراك الحسي المباشر على الفهم العقلي. ولم يرى ضرورة للجدل حول وجود الله، ومريم والقديسين، فقد كان مقتنعاً بأنه رآهم، وأحس بهم أقرب إليه من أي شيء أو شخص في محيطه، وكان على طريقته رجلاً ثملاً بمعرفة الله ومحبته. ومع ذلك فإن تجاربه الصوفية لم تجعل منه رجلاً غير عملي. لقد كان في وسعه أن يجمع بين مرونة الوسائل وصلابة الغايات، يأبى تبرير أي وسيلة لغاية يراها حسنة، ولكن في مقدوره أن يتريث حيناً للفرصة. ويعتدل في آماله ومطالبه، ويلائم بين أساليبه والأشخاص والأحوال، ويستعمل الدبلوماسية إذا اقتضى الأمر استعمالها، ويرى الرأي الثاقب في الرجال، ويحسن اختيار مساعديه وعماله، ويسوس الرجال كأنه قائد يقود فرقة عسكرية-وهو ما كان يراه في نفسه فعلاً. وقد أطلق على فرقته الصغيرة اسماً حربياً "فرقة يسوع"، ولا عجب، فهم جند تطوعوا مدى الحياة لمحاربة الإلحاد وانحلال الكنيسة. أما هم فقد قبلوا النظام العسكري للعمل المنسق تحت قيادة مطلقة، باعتبار هذا القبول أمراً طبيعياً وضرورياً.

وفي خريف 1537 خرج لويولا وفاقر ولاينيز من البندقية قاصدين روما ليلتمسوا موافقة البابا على خططهم. وقطعوا الطريق كله سيراً، يستجدون طعامهم ويعيشون أكثر الوقت على الخبز والماء. ولكنهم كانوا يترنمون بالمزامير في سعادة وهم ماضون في رحلتهم، وكأنهم عليمون بأن فئتهم هذه الصغيرة ستنبثق منها منظمة قوية رائعة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

5- اليسوعيون

فلما بلغوا روما م يلتمسوا المثول بين يدي البابا من فورهم، لأن بولس الثالث كان غارقاً في الدبلوماسية الحرجة. لذلك تطوعوا بالخدمة في المستشفى الأسباني، عنوا بالمرضى، وعلموا الصغار. وفي مطلع عام 1538 استقبلهم بولس، وأثرت فيه رغبتهم في الذهاب إلى فلسطين والعيش فيها رهباناً مثاليين. وأسهو هو وبعض الكرادلة بمبلغ 210 كراونا (5-250 دولاراً؟) في نفقات رحلة الفرقة. ولما اضطر النساك إلى التخلي عن الفكرة لاستحالة تنفيذها ردوا المال إلى واهبيه(36). واستدعي من ظل من الأعضاء في الشمال إلى روما، فبلغ عدد الجماعة الآن أحد عشر عضواً، وعين البابا بولس فافر ولاينيز أستاذين في السابينزا (جامعة روما)، في حين انقطع إجناتيوس والباقون لأعمال البر والتعليم. ونظم لويولا بعثة خاصة لهدايا المومسات، وأسس بتبرعات مؤيديه "بيت مرثا" لاستقبال هؤلاء النسوة، وقد أثار عداء الكثيرين له في روما بمواعظه الحماسية التي هاجم فيها الخطايا الجنسية.

وأصبح من المرغوب فيه تحديد مبادئ الفرقة وقانونها نظراً إلى انضمام أعضاء جدد إليها. وأضيف نذر الطاعة إلى نذري العفة والفقر، واشترط طاعة "القائد" الذي يختارونه طاعة ليس فوقها إلا الطاعة للبابا فقط. ثم نذر رابع "بخدمة بابا روما باعتباره خليفة الله على الأرض، و"بالتنفيذ الفوري الذي لا تردد فيه ولا اعتذار لكل ما يأمرهم به البابا الحاكم أو خلفاؤه لفائدة النفوس أو لنشر الإيمان" في أي مكان في العالم. وفي عام 1539 طلب لويولا إلى الكردينال كونتاريني أن يرفع إلى البابا بولس الثالث مواد التنظيم هذه، وأن يلتمس تثبيته للفرقة باعتبارها طريقة دينية جديدة. وكان البابا ميالاً إلى الموافقة، وخالفه بعض الكرادلة لأنهم رأوا في الجماعة نفراً من الغلاة الذين تستعصي سياستهم، ولكن بولس تغلب على اعتراضاتهم، وبمقتضى المرسوم البابوي المسمى "لأجل تنظيم الكنيسة المجاهدة" أنشأ رسمياً ما سماه المرسوم "جماعة يسوع" (27 سبتمبر 1540). وسمى أعضاؤها اسماً مناسباً هو "الاكليريكيون النظاميون في جماعة يسوع". ولم يظهر اسم "الجزويت" إلا عام 1544، وكان آنئذ لفظ هجو قبل كل شيء، استعمله كالفن وغيره من النقاد(37)، ولم يستعمله قط إجناتيوس نفسه. وبعد موته استل نجاح الطريقة الدينية الجديدة من اللفظ حمته القديمة، فأصبح في القرن السادس عشر شارة شرف.

وفي 17 أبريل 1541 انتخب إجناتيوس قائداً. وظل عدة أيام بعد انتخابه يغسل الأطباق ويؤدي أحقر الأعمال(38). وقد جعل مقامه في روما فيما بقي من عمره (وكان الآن في الخمسين)، وأصبحت المدينة المقر الدائم للجماعة. وبعد طول التفكير والتجربة، وضع "دساتير" الجماعة بين عامي 1547 و1552، وهي بتغييرات طفيفة قانون الجزويت اليوم. وقد نص على أن توضع سلطة الطريقة النهائية في أيدي الأعضاء "المنذورين" نذراً كاملاً. ويختار هؤلاء مندوبين من كل إقليم، وهؤلاء المندوبون-هم الرؤساء والإقليميون، والقائد، ومعاونوه-يؤلفون "المجمع العام". وينتخب هذا المجمع قائداً جديداً إذا لزم الأمر، ثم يفوض إليه سلطته ما لم يقترف ذنباً خطيراً. وقد أعطى "ناصحاً"، وأربعة مساعدين. يراقبون كل أعماله، ويحذرونه من أي خطأ جسيم، ويدعون المجمع العام لخلعه إذا اقتضى الأمر.

ويتعين على طالبي عضوية الجماعة أن يقضوا فترة اختبار من عامين، يدربون خلالهما على هدف الجماعة ونظامها، ويمارسون الرياضة الروحية، ويخضعون للرؤساء في "طاعة مقدسة" مطلقة. وعليهم أن يتخلوا عن إرادتهم الفردية، ويرتضوا أن يؤمروا كما يؤمر الجند، وينقلوا "كأنهم الجثث"(39)، وعليهم أن يتعلموا الإحساس بأنهم بطاعتهم رؤساءهم إنما يطيعون الله. ويجب أن يوافقوا على إبلاغ رؤسائهم أخطاء زملائهم، وعلى ألا يستشعروا أي غضاضة في أن تبلغ أخطاؤهم لرؤسائهم(40). لقد كان هذا النظام صارماً ولكن فيه تمييزاً ومرونة، وقل أن حطم الإرادة أو قضى على المبادرة. والظاهر أن الاستعداد للطاعة هو أول خطوة في تعلم الأمر، لأن هذا التدريب أخرج العدد الكبير من الرجال الأكفاء المغامرين.

والذين يطيقون فترة الاختبار القاسية هذه يأخذون على أنفسهم عهوداً "بسيطة"-أي قابلة للسحب-بالفقر والعفة والطاعة، ويدخلون "الطبقة الثانية". وبعض هؤلاء يمكثون على هذا الوضع اخوة علمانيين، وبعضهم "مدرسين مؤهلين" يبتغون القسوسية، ويدرسون الرياضيات والآداب القديمة والفلسفة واللاهوت، ويعلمون في المدارس والكليات. أما الذين يجوزون مزيداً من الاختبارات فيدخلون الطبقة الثالثة، طبقة "المساعدين المؤهلين"، وبعض هؤلاء قد يرقون إلى الطبقة الرابعة-طبقة "المنذورين"-وكلهم قساوسة يتعهدون خصيصاً بالاضطلاع بأي عمل أو بعثة يكلها إليهم البابا. وكان هؤلاء "المنذورون" عادة قلة صغيرة-لا تتجاوز أحياناً العُشر-بين أعضاء الجماعة كلها(41). وعلى الطبقات الأربع أن تعيش عيشة مشتركة كالرهبان، ولكن نظراً إلى واجباتهم الإدارية والتربوية الكثيرة فقد أعفوا من الالتزام الديري بتلاوة صلوات العبادة اليومية السبع ولم يطلب إليهم أي ممارسات نسكية، وإن جاز إسداء النصح لهم إذا اقتضى الأمر. ونص على الاعتدال في الطعام والشراب؛ دون صوم متشدد، ويجب أن يحفظ الجسم والعقل جميعاً صالحين لأداء جميع الأعمال. وللعضو أن يحتفظ يحقه في أي أملاك يمتلكها حين دخوله الطريقة، ولكن كل دخل يأتيه منها يجب أن يعطي للجماعة، التي تأمل أن تكون الوريثة النهائية. وكل المقتنيات والأنشطة الجزويتية يجب أن تكرس لمجد أعظم، مجد الله.

لقد ندر أن حملت مؤسسة ما بصمات شخصية واحدة على هذا النحو القاطع. وامتد أجل لويولا سنين أتاحت له تنقيح دساتيره ليصوغ منها نظام رهبنة يعمل بنجاح. وراح من حجرته العارية الصغيرة يقود بسلطان صارم وحذق عظيم حركات جيشه الصغير في كل أرجاء أوربا وفي كثير من أنحاء العالم الأخرى. وكانت مهمة حكم الجماعة، وإنشاء وإدارة كليتين وعدة مؤسسات خيرية في روما، أثقل من أن يحتملها طبعه كلما تقدم به العمر، فأصبح غاية في الجفاء مع أقرب مرءوسيه، وإن ظل عطوفاً على الضعفاء(42). على أنه كان أقسى ما يكون على نفسه. وكثيراً ما كانت وجباته حفنة من البندق وكسرة من الخبز وكأساً من الماء. وكثيراً ما كانت ساعات نومه لا تزيد على أربعة في اليوم، بل اختزل إلى نصف ساعة في اليوم في تلك الفترة التي يخصصها للرؤى والاستنارة السماوية(43). ولما مات (1556) شعر الكثير من أهل روما أن ريحاً حادة توقفت عن الهبوب، ولعل بعض أتباعه امتزجت مشاعر الحزن عندهم بإحساس الراحة. ولم يستطع الناس أن يدركوا بهذه السرعة أن هذا الأسباني الذي لا يقهر سيثبت أنه من أعظم الرجال تأثيراً في التاريخ الحديث. كانت الجماعة تضم عند موته قرابة ألف عضو، منهم نحو خمسة وثلاثين عضواً "منذوراً"(44). وبعد خلافات أظهرت قدراً كبيراً من إرادة القوة لدى هؤلاء اليسوعيين الذين خالهم الناس محطمي الإرادة، اختير دييجو لانيز قائداً (1558)، وقد اعترض بعض النبلاء الأسبان ممن كان لهم شيء من النفوذ في الطريقة على اختياره لأن أسلافه منذ أربعة أجيال كانوا يهوداً. وخاف البابا بولس الرابع أن ينتهي الأمر بمنصب قائد الجزويت إلى منافسة البابوية، لأنه يتولاه مدى الحياة. فأمر بمراجعة دساتير الجماعة لقصر رياسة القائد على ثلاث سنوات، ولكن بيوس الرابع ألغى الأمر، وأصبح القائد "البابا الأسود" (كما لقبته الأجيال التالية نسبة إلى رداء الكاهن الأسود). وما لبثت الطريقة أن ازدادت حجماً وقوة بعد أن انضم إليها فرانسيس بورجيا، دوق جانديا، ووهبها ثروته. ويوم أصبح هذا الرجل قائدها الثالث (1565) كانت تضم 3.500 عضو يعيشون في 130 بيتاً في ثمانية عشر إقليماً أو دولة.

ولم تكن أوربا سوى قطاع صغير في نشاطها. فقد أوفدت مبعوثيها إلى الهند والصين واليابان والدنيا الجديدة. وكانوا في أمريكا الشمالية رواداً مغامرين لا تثنيهم المثبطات، يحتملون كل الكروب والخطوب على أنها عطية من الله. أما في أمريكا الجنوبية فقد جاهدوا كما لم تجاهد أي جماعة أخرى لتطوير التعليم والزراعة العلمية. وفي عام 1541 غادر القديس فرنسيس زافير لشبونة على سفينة برتغالية، وبعد عام من الرحلة والمعاناة بلغ جوا. وهناك أخذ يمشي في الشوارع رائحاً غادياً وهو يقرع ناقوساً يدعو الناس للاستماع إليه. فلما التفوا حوله بسط لهم العقيدة المسيحية بكل إخلاص وبلاغة، ثم أوضح الخلق المسيحي عملياً بمشاركته في عيشه أفقر المستمعين إليه مشاركة مغتبطة، حتى استطاع أن يحول إلى المسيحية آلاف الهندوس والمسلمين، بل إنه أقنع بالإيمان بعض المسيحيين البرتغاليين المغتربين الذين قست الشدائد قلوبهم. ولعل إبراءه المرضى راجع إلى الثقة التي بثها فيهم أو إلى معرفته العارضة بالطب، وقد نسبت إليه المعجزات فيما بعد. ولكنه لم يدع لنفسه واحدة منها. أما المرسوم البابوي الذي سلكه في زمرة القديسين (1622)، فقد نسب إليه "موهبة الألسن"-أي القدرة على التحدث بأي لغة عند الحاجة، ولكن الحقيقة أن هذا القديس البطل كان لغوياً ضعيفاً ينفق الساعات الطويلة في حفظ المواعظ بالتأملية أو الملاوية أو اليابانية، وكان إيمانه أحياناً أشد من أن تسايره إنسانيته، فقد حث يوحنا الثالث ملك البرتغال على إنشاء محكمة للتفتيش في جوا(46)، وأوصى بألا يرسم للقسوسية أي هندوسي ما لم ينحدر من أجيال عدة من الأسلاف المسيحيين، ولم يكن يطيق فكرة اعتراف برتغالي لقسيس وطني(47). وأخيراً غادروا جوا لأنها بلد تتعدد فيه اللغات تعدداً لا يعينه على تحقيق أهدافه. قال "أريد أن أكون حيث لا يوجد مسلمون ولا يهود. أعطوني وثنيين خلصاً"(48)-فلقد أحس أن الوثنيين أطوع إيماناً لأنهم أقل رسوخاً في دين آخر. وفي عام 1549 قصد اليابان، ودرس اليابانية في طريقه إليها. ولما رسا في كاجوشيما، راح هو وزملاؤه يبشرون في الشوارع والناس يستمعون إليهم في أدب. وبعد عامين عاد إلى جوا، وقوم خللاً ظهر بين المسيحيين هناك، ثم أبحر ليبشر الصين (1552). وبعد عناء شديد نزل جزيرة تشانج-تشوين، أسفل مصب نهر كانتون. وكان إمبراطور الصين قد قرر اعتبار دخول أوربي للصين جريمة كبرى، ومع ذلك ما كان هذا ليثني عزم زافير لو أنه وجد وسيلة للانتقال. وخلال انتظاره مرض، ثم فارق الحياة في 2 ديسمبر 1552 وهو يبكي قائلاً "فيك يا رب رجائي، فلا تجعلني ملعوناً إلى الأبد(49)". وكان إذ ذاك في السادسة والأربعين.

وقد تفانى اليسوعيون في عملهم في أوربا تفانيهم في البعثات الأجنبية. فلزموا أماكنهم وعنوا بالمرضى في فترات تفشي الطاعون(48). وبشروا كل الطبقات، وكيفوا لغتهم وفق كل موقف. وجعلهم تعليمهم الممتاز وطباعهم المهذبة آباء الاعتراف المفضلين عند النساء والنبلاء، ثم عند الملوك. وشاركوا في شئون الدنيا بنشاط ولكن بحكمة ولباقة، وقد نصحهم إجناتيوس بأن قسطاً أكبر من الحكمة وأقل من التقوى خير من قدر أكبر من التقوى وأقل من الحكمة(51). وكانوا عادة رجالاً على خلق عظيم، أما الأخطاء التي رموا بها في فترة لاحقة فلم تكد تظهر في العصر الذي نحن بصدده(52). ومع أنهم وافقوا جماعة على محكمة التفتيش(53)، فإنهم وقفوا على مبعدة منها، مؤثرين أداء رسالتهم عن طريق التعليم. وقد اضطرتهم قلة عددهم إلى ترك تعليم الأطفال لغيرهم، أما هم فركزوا جهودهم على التعليم الثانوي، وإذ وجدوا أن الجامعات قد سبقتهم في الهيمنة عليها طرق دينية أخرى أو السلطة الزمنية أو رجال الدين البروتستنت، فقد نظموا كلهم كليات خاصة، وحاولوا تدريب شبان مثقفين ليكونوا مراكز للتأثير في الجيل التالي. وهكذا أصبحوا أعظم المربين في زمانهم.

لقد أنشئوا في نقط هامة في أوربا معاهد دنيا-تقابل الجمنازيوم الألماني والليسيه الفرنسية-وكليات عليا. واستطاعوا أحياناً أن يتسلموا جامعات موجودة فعلاً كما حدث في كواميرا ولوفان. وروعوا منافسيهم بتعليمهم التلاميذ مجاناً. وأكبر الظن أن منهج الدراسة الذي وضعوه يدين بالفضل للمدارس التي أنشأها في هولندا وألمانيا "إخوان الحياة المشتركة"، ولجمنازيوم شتورم في ستراسبورج، ولأكاديميات ألمانيا وإيطاليا الإنسانية. وكان هذا المنهج يقوم على الآداب القديمة ويدرس باللاتينية، أما استعمال اللغة القومية فمحظور على الطلبة إلا في العطلات(54)، وأعيدت دراسة الفلسفة الكلامية في الفرق العليا. وزيد الاهتمام بتربية الخلق-أي الفضائل والعادات-وربط من جديد بين هذه التربية وبين العقيدة الدينية، وغرس الإيمان التقليدي في التلاميذ، فأشربهم نظام من الصلاة، والتأمل، والاعتراف، والتناول، والقداس، واللاهوت، سلامة في العقيدة قل معها من انحرف منهم في القرن السادس عشر عن هذا السبيل المطروق. وردت الدراسات الإنسانية من الوثنية إلى المسيحية. على أن هذا النظام كانت فيه مآخذ خطيرة، فهو مفرط في الاعتماد على الذاكرة، مثبط للأصالة، ناقص في العلوم كغيره من مناهج ذلك العهد، وقد نقّى التاريخ تحقيقاً للهيمنة على الحاضر. وع ذلك فإننا نجد مفكراً ذا نزعة استقلالية قوية مثل فرانسس بيكن يبادر إلى القول في مدارس اليسوعيين، "وودت لو كانت هذه المدارس مدارسنا ولو بوضعها الراهن"(55). وسنرى في القرنين التاليين أن خريجيها سيبرزون في كل مناحي الحياة تقريباً عدا البحث العلمي.

وقبيل وفاة لويولا كان هناك مائة كلية يسوعية. وبفضل التعليم والدبلوماسية والتفاني في العمل، وبفضل الحماسة التي يضبطها النظام، وبفضل التنسيق بين الأهداف والتوزيع البارع في الوسائل، أفلح الجزويت في صد المد البروتستنتي، واستردوا للكنيسة جانباً كبيراً من ألمانيا، ومعظم المجر وبوهيميا، وكل بولندا المسيحية. وندر أن حققت جماعة بمثل هذا الحجم الصغير، مثل هذا النجاح الكبير، بمثل هذه السرعة الفائقة. ومضت سمعتها ونفوذها ينموان العام بعد العام، إلى أن اعترف بعد عشرين عاماً من تأسيسها الرسمي بأنها أروع نتاج للإصلاح الكاثوليكي. ويوم اجترأت الكنيسة في نهاية المطاف على دعوة ذلك المجمع العام الذي طال ارتقاب أوربا له ليهدئ صراعها اللاهوتي ويبرئ جراحها الدينية، كانت حفنة من الجزويت- بثقافتهم، وولاتهم، وحصافتهم، وسعة حيلتهم، وبلاغتهم- هي التي ناط بها البابوات مهمة الدفاع عن سلطتهم المتحداه، والمحافظة على الإيمان القديم كاملاً غير منقوص.