قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 4 ف 34
صفحة رقم : 8964
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الكتاب الرابع: ما وراء الستار
الفصل الرابع والثلاثون: الموسيقى 1300-1564
1- الآلات
إن شعبية الموسيقى في تلك القرون لتصحح وتلطف من النغمة الكئيبة الحزينة التي يميل التاريخ إلى أن يضفيها على تلك الحقبة ويقرنها بها. وأنا لنسمع الناس، من آن لآن، يغنون في غمرة الثورة الدينية وما اتسمت به من إثارة ومرارة. وكتب صاحب المطبعة العاطفي آتيين دولية "إني لا أعبأ بشيء من ملذات الطعام والألعاب، والحب، ولكن الموسيقى وحدها... تأسرني وتأخذ بمجامع قلبي، وتذيبني في نشوتها"(1). ومن النغمات الصافية المنبعثة من صوت إحدى الآنسات أو مزمار جيد، إلى فن مزج الألحان المتعددة الأصوات عند دبريه Depres أو بالسترينا، عوضت كل الأمم وكل الطبقات بالموسيقى عن الروح التجارية وعن اللاهوت في ذاك العصر. ولم يغن كل فرد فحسب، ولكن فرانسيسكو لاندينو شكا من أن كل فرد لحن وألف(2). وبين الأغاني الشعبية البهيجة أو الحزينة في القرية إلى القداسات الكبيرة المهيبة في الكنيسة، ظهرت مئات الأشكال الموسيقية التي استخدمت إيقاعاتها في الرقص والحفلات والولائم والمغازلات والبلاط والمواكب والمهرجانات والصلوات. لقد غنى العالم بأسره.
وكان يواكب تجار أنتورب كل يوم إلى السوق المالية فرقة موسيقية. ودرس الملوك الموسيقي، لا باعتبارها امتيازاً لطيفاً أو ميكانيكياً، بل لأنها سمة المدنية ومنبع من منابعها. وتحمس ألفونسو العاشر ملك أسبانيا وثابر على جمع الأغاني للسيدة العذراء، وتودد جيمس الرابع ملك اسكتلنده إلى مارجريت تيودور بموترة المفاتيح (آلة موسيقية تعتبر الأصل الذي نطور عنه البيانو Clavichord) والمزهر (العود). واصطحب شارل الثامن ملك فرنسا معه فرقة المنشدين الملكية في حملاته على إيطاليا. وغنى شارل الثاني عشر بأعلى صوته مع فرقة المنشدين في البلاط. وألف ليو العاشر بعض الأغاني الفرنسية(3). أما هنري الثامن وفرانسوا الأول فقد تودد كل منهما إلى الآخر وتحداه باستخدام فرق المنشدين المتنافسة في ساحة Cloth of Gold .ووصف لويس ميلان البرتغال في 1540 بأنها "بحر حقيقي من الموسيقى"(4). وكان لبلاط ماتياس كورفينوس في بودا فرقة منشدين قدروا أنها تعادل فرقة البابا، وكان في كراكاو على عهد سجسمند الثاني مدرسة عظيمة للموسيقى، وكانت ألمانيا تعج بالغناء عندما كان لوثر شاباً. كتب الإسكندر أجريكولا 1484 يقول: "إن عندنا هنا في هيدلبرج مغنيين يرأسهم رجل يستطيع أن يلحن لثمانية أصوات أو أثنى عشر صوتاً"(5). وفي ماينز ونورمبرج وأجزبورج وغيرها من المدن ظل " راعي الشعر والموسيقى" يزين الأغاني الشعبية والقطع الإنجليزية بأبهة المتحذلقين وزخارف فن مزج الألحان، وربما كانت الأغاني الشعبية الألمانية أفضل مثيلاتها في أوربا. وكانت الموسيقى في كل مكان مهما التقى وشرك الحب.
وعلى الرغم من أن كل الموسيقى تقريباً كانت في هذا العصر صوتيه، فإن الآلات المصاحبة كانت متنوعة قدر تنوعها في الفرق الموسيقية الحديثة. وكانت هناك آلات وترية مثل الشنطير (آلة موسيقية قديمة تشبه القانون)، والقيثار، والقانون، والشوم (آلة موسيقية خشبية قديمة)، والعود، والفيول (وهو نوع من الكمان). ثم آلات النفخ مثل الناي، والمزمار، والزمخر (مزمار ذو أنبوبة خشبية مزدوجة وفم معدني ملتو)، والبوق، والمترددة (الترومبون) والبوق (شكل قديم آخر) ومزمار القرب، ثم آلات النقر مثل الطبل والجرس، والمصفقة والمخشخشة والصنوج بأنواعها، ثم الآلات ذات المفاتيح مثل الأرغن، وموترة المفاتيح، والبيان القيثاري، والسبينت (تشبه البيان)، والعذراوية (شبيهه ببيان صغير ليس له قوائم)، وكانت هناك أنواع أخرى كثيرة، وكان للعديد منها متنوعات فاتنة شتى اختلفت باختلاف الزمان والمكان، وكان في كل بيت مثقف واحدة أو أكثر من الآلات الموسيقية. وكان في بعض البيوت خزائن خاصة لحفظها. وكثيراً ما كانت هذه الآلات تحفاً فنية منقوشة نقشاً محبباً يرضى الخيال والذوق، تتوارثها الأسرات جيلاً بعد جيل بوصفها ذخائر وتذكارات ثمينة. وكانت بعض الأراغين مصنوعة بشكل بارع محكم، قدر البراعة والإحكام في واجهات الكاتدرائيات القوطية. وخلد ذكر الرجال الذين صنعوا الأراغين لبعض الأسرات الحاكمة الألمانية في نورمبرج لمدة قرن من الزمان. وكان الأرغن هو الآلة الموسيقية الرئيسية المستخدمة في الكنيسة، وإن لم تكن الوحيدة، بل كان هناك أيضاً المزمار، وموسيقى القرب والطبول والمترددة (الترومبون)، بل حتى الطبلة النقارية، وكلها تدعو بأصواتها المتنافرة إلى الصلاة والعبادة.
وكان العود هو الآلة المفضلة لمصاحبة مغن واحد، وهو من أصل آسيوي، شأنه في ذلك شأن كل الآلات الوترية، جاء مع المغاربة إلى أسبانيا، وهناك، مثل الفهيولا، (نوع من الكمان) ارتفع شأنه حتى صار الآلة الوحيدة المستعملة، التي ألفت من أجلها أقدم موسيقى آلية خالصة معروفة. وصنع جسمه عادة من الخشب والعاج، على شكل الكمثرى، وزود تجويفه بثقوب على شكل وردة، وكان له ستة، وفي بعض الأحيان اثنا عشر زوجاً من الأوتار تنفر بواسطة الأصابع، وكان عنقه مقسماً بعتبات من النحاس إلى سلم مدرج، وملواه منحرف إلى الخلف من العنق. وإذا أمسكت غادة حسناء بالعود في حضنها وداعبت أوتاره بأناملها وأضافت صوتها إلى أنغامه لاستطاع كيوبيد أن يوفر سهماً. ومهما يكن من أمر فقد كان من العسير الاحتفاظ في العود بدرجة النغم الصحيحة لأن استمرار شد الأوتار يسبب التواءها وتشويهها. وقال أحد الظرفاء إن عازف عود بلغ من العمل ثمانين عاماً، قضى منها ستين عاماً في ضبط النغم في عوده(6).
واختلف الكمان (الفيول) عن العود في امتداد أوتاره على مشط، وأن العزف عليه بواسطة قوس، ولكن القاعدة الأساسية واحدة فيهما- ذلك أن ذبذبات الشد ترتطم بالأوتار فوق صندوق ذي ثقوب لتعميق الصوت. وصنعت الفيول على ثلاثة أحجام: الكبير وهو باس فيولا داجامبا"، وكانوا يمسكون به بين الأرجل مثل البديل الحديث له - الفيولونسيل Violoncello ، والصغير وهو الفيول العالي النغم (فيولا دابراكسيو)، ويمسكون به على الذراع. وأخيراً الفيول المثلث، وفي القرن السادس عشر تطور النوع الثاني (فيولا دابراكسيو) إلى الكمان. وفي القرن الثامن عشر بطل استعمال الفيولا.
وكان الاختراع الأوربي الوحيد في الآلات الموسيقية هو لوحة المفاتيح التي تطرق بواسطتها الأوتار بطريق غير مباشر، بدلا من نقرها أو حنيها مباشرة، وأقدم الأشكال المعروفة، وهي موترة المفاتيح Clavichord ظهرت لأول مرة في القرن الثاني عشر، وقد عمرت حتى عدلها جوهان سباستيان باخ. وأقدم نموذج باق لها (1537) محفوظ في متحف المتروبوليتان في نيويورك، وصنع في القرن الخامس عشر نوع أقوى هو البيان القيثاري harpsichord، وقد مكن من تعديل الأنغام باختلافات الضغط، وأضيف في بعض الأحيان لوحة ثانية للمفاتيح، لتوسيع سلم النغم، وساعدت الوقفات والتفرقات على إبداع معجزات الصوت، وكان الأسبينت Spinet والعذراوية Virginal - والأول إيطالي والثانية شبه إنجليزية - شكلين مختلفين من البيان القيثاري، وكانت الآلات ذات المفاتيح مثل الفيول والعود، تحظى بأعظم التقدير لجمالها ونغماتها معاً. وكانت تشكل عنصراً جميلاً من عناصر البهجة والزينة في بيوت الأغنياء.
ولما تقدمت الآلات من حيث مدى النغم ونوعيته، ومن حيث تعقد عملها، تطلب النجاح في العزف عليها المزيد من المران والمهارة، وازداد عدد الجمهور في الحفلات التي يكون العزف فيها على آلة واحدة أو أكثر، دون أن يكون فيها غناء، وبرز عازفون على الأرغن والعود. وارتحل كونرادبومان Paumann (المتوفى 1473) عازف الأرغن الضرير في نورمبرج من بلاط إلى بلاط، وأقام حفلات موسيقية، استحق لبراعته وامتيازه فيها لقب فارس. وشجعت أمثال هذه التطورات على تأليف الموسيقى من أجل الآلات وحدها. ومن الواضح حتى القرن الخامس عشر، أن كل الموسيقى الآلية تقريباً كان قد قصد بها أن تصاحب الغناء أو الرقص، ولكن هناك في هذا القرن عدة لوحات تعرض بعض الموسيقيين يعزفون دون أن يرى فيها أثر لغناء أو رقص، وأقدم ما بقي من الموسيقى للآلات وحدها هي "جاميسانى Gamisandi" (1452)، وهي لكنراد بومان، وقد ألفت في الأصل لتوجيه العزف على الأرغن، ولكنها شملت أيضاً عدداً من القطع للعزف المنفرد، وأنقض تطبيق أتافيانو دي بتروسكي للحروف المعدنية المتحركة في طبع الموسيقى (1501) تكاليف نشر تأليف الموسيقى الآلية وغيرها، واقتصرت الموسيقى الموضوعة للرقص على عروض مستقلة، ومن ثم كان تأثير أشكال الرقصات على الموسيقى الآلية. وأدت ألحان "الحركات" المؤلفة لسلسة متعاقبة من الرقصات إلى ظهور السيمفونية والموسيقى الرباعية، التي احتفظت أجزاؤها أحياناً بأسماء الرقصات، وفضل العود والفيول والأرغن والبيان القيثاري للعزف المنفرد أو عزف الأوركسترا، وتمتع ألبرتو داريبا في بلاط فرنسوا الأول وهنري الثاني بشهرة عظيمة كعازف على العود، إلى حد عندما توفي أنشد شعراء فرنسا الترانيم الحزينة على قبره.
2- سيطرة الموسيقى الفلمنكية 1430-1590
كانت الأغاني والرقصات الشعبية هي المعين الذي لا ينضب الذي اشتقت منه أشكال الموسيقى غير الكنسية أصولها وصيغها وموضوعاتها الرئيسية حتى القداسات، ربما اشتقت منها بعض الأغاني القصيرة مثل "وداعاً يا أحبائي"، وتنوعت الأغاني الفرنسية من الأغاني التوقيعية للمغنين في الشوارع، وأغاني الشعراء الغنائيين البسيطة (التروبادو) إلى أغاني غليوم دي ماشو وجوسكوين دبريه المعقدة المتعددة الأصوات. وكان ماشو (1300-1377)سيد ذلك" الفن الجديد "الذي كان قد بسطه وشرحه فيليب دي فيتدي في 1325- وهو عبارة عن موسيقى استخدمت الإيقاع الثنائي بالإضافة إلى الإيقاع الثلاثي، وهو ما أقره "الفن القديم" والكنيسة. وكان ماشو شاعراً وعالماً وموسيقياً وكاهناً في كاتدرائية ريمس، وربما كان كذلك رجلاً مملوءاً حماسة وغيرة، لأنه كتب بعض قصائد الحب الغنائية التي لم تهدأ حرارتها بعد. وبرع في أثنى عشر شكلاً موسيقياً من الأغاني الراقصة والعاطفية، والقصائد الغنائية ذات اللازمة المتكررة والقصائد الغزلية، والقصائد الدينية، وموسيقى القداس، ويعزى إليه أقدم قداس متعدد الأصوات - لحنه رجل واحد. ولو أنه من رجال الكنيسة، في حركة صبغ الموسيقى المتعددة الأصوات بالصبغة العلمانية وإخراجها من حيز إيقاع القصائد الدينية والقداس إلى الإيقاع الأكثر انطلاقاً ومرونة في موسيقى الأغاني العلمانية.
وفي تلك القرون كان الإنجليز موسيقيين، ولكنهم لم ينافسوا الإيطاليين في اتساق الأصوات في اللحن (ومن ذا الذي ينافسهم؟)، ولا الفلمنكيين في تعدد الأصوات، ولكن أغانيهم، بين الحين والحين، بلغت من العذرية والرقة حداً لا يضارعهم فيه إلا أعمق الأغاني الفرنسية. وقوبل المغنون الإنجليز في مجلس كنستانس بالتهليل والهتاف، وفي هذا الجيل ألف هنري الخامس بطل أجنكورت، قداساً لا يزال يحتفظ بعظمته وقداسته. وكانت المقطوعات التي ألفها جون دنستابل (1370-1453) تعزف في كل البقاع من اسكتلنده إلى روما. ولعبت دوراً في تشكيل أسلوب المدرسة الفلمنكية.
وكما كانت الفلانذر قد استهلت فن التصوير في القرن الخامس عشر، كذلك شهدت الموسيقى فيها عصراً من أبهى وأعظم عصورها، في وسط النبلاء والمواطنين الأثرياء المحبين للفنون. وكتب جوهانس فوير Johannes Verwere حوالي 1490 يقول: "عندنا اليوم - إلى جانب العدد الكبير من مشاهير المغنيين، يظهر إلى الوجود، عدد لا حصر له تقريباً، من الملحنين الذين تتميز أعمالهم بعذوبة الصوت، وما سمعت أو نظرت إلى تأليفهم إلا ابتهج قلبي(7)". وربما وضع المعاصرون دوفاي وأوكيجم ودبريه في مرتبة سواء من سلم العبقرية والخير، مع جان فان إيك وكلو سلوتر وروجيبر فاندرويدن، وهنا في تعدد الأصوات في المدرسة الفلمنكية، عاشت أوربا الغربية آخر طور من أطوار الروح القوطية في الفن: الورع الديني الذي لطفه المرح الدنيوي والأشكال المتينة في قاعدتها وتركيبها، الغضة الرقيقة في تطويرها وزخرفتها. وحتى إيطاليا التي كانت معادية للفن القوطي، انضمت إلى أوربا الغربية في الاعتراف بتفوق الموسيقي الفلمنكية وسموها، وفي الاسترشاد بالفلاندرز في تحسين موسيقى فرق المرتلين الأسقفية، وفرق بلاط الأمراء. والف الإمبراطور مكسيمليان الأول، وقد سحرته موسيقى بروكسل، فرقة للمرتلين في فيينا، على نسق الفرق الفلمنكية، وأخذ شارل الخامس موسيقيين فلمنكيين إلى أسبانيا، وأخذ الأرشيدوق فرديناند نفراً منهم إلى النمسا، وأخذ كريستيان الثاني مجموعة أخرى منهم إلى الدنمرك. وقال كافللو البندقي "إن منبع الموسيقى في الأراضي المنخفضة"(8). وبهذه السيطرة الفلمنكية اجتازت الموسيقى الاحترافية الحدود الضيقة التي وضعتها القومية في ذاك العصر.
وقاد الطريق غليوم دوفاي، الذي ولد في هينوت Hainaut (1399) وتدرب كتلميذ منشد في كاتدرائية كمبراي، وسما بفرقتها إلى مراتب الشهرة العالمية. وكانت القداسات التي أنشدها هناك، تنشدها كل الأوساط الموسيقية في جميع أنحاء العالم المسيحي اللاتيني. وقد تبدو الألحان الباقية منها ثقيلة بطيئة في الآذان المرهفة الإحساس بخفة الحياة الحديثة وسرعتها، ولكنها ربما كانت صالحة في الكاتدرائيات الضخمة وفرق المنشدين البابوية المهيبة. وهناك أغنية أكثر التئاماً مع ذوقنا، وهي أغنية متعددة الأصوات تنساب أنغامها الحزينة انسياباً رقيقاً "ولى النهار" The Day is going to sleep وقد نتخيل فرقة بملابسها الرسمية تغني مثل هذه الأغنية في الأروقة القوطية في كمبراي، أو إيبر أو بروكسل أو بروجز أو غنت أو ديجون، ونحس أن العمارة والتصوير والملابس والموسيقى وآداب السلوك في ذاك العصر الحماسي الزاهي النابض بالحياة، شكلت جميعها كلاً متراكباً فنياً متسقاً، على حين أنها جميعها متنوعات تنتشر فيها فكرة رئيسية واحدة.
وتطورت أساليب درفاي وأذاعها في كل أنحاء أوربا أعظم معلمي الموسيقى أثراً، ربما في أي عصر من العصور، جوهانس أوكيجيم، الذي ولد في فلاندرز (1430)، وقضى معظم سني حياته يقدم الموسيقى ويعلمها في بلاط فرنسا. وكان يهيم شغفاً بمقطوعة اسمها "canon" وهي شكل من أشكال الفوجة، يشكل فيه الصوت (المغني) الأول الكلمات واللحن، ويتلوه بعض الفواصل، ثم يكرره الصوت الثاني، ويتلوه فاصل، ثم الصوت الثالث وهكذا، في طباق منساب، تحدي تعقيده المجهد المغنين، وسحر الملحنين، وقد هرع إليه هؤلاء وأولئك من كل أقطار العالم الكاثوليكي لينهلوا من فيض مهارته الفنية وينقلوها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وكتب مؤرخ قديم: "لقد نقل عن طريق تلاميذه إلى جميع الأقطار فن تعدد الأصوات الطباقي وشكل الفوجة سالف الذكر canon وينبغي أن يعتبر أوكيجم- لأن ذلك يمكن إثباته بالتسلسل "الأسلوبي"- يعتبر مؤسس كل المدارس ابتداء من مدرسته إلى مدارس العصر الحالي (9). ولكن مذ كتب هذا في 1833، فإن أوكيجم لا يعتبر مسئولاً عن موسيقى القرن العشرين، وعند وفاته 1495 ألف موسيقيو أوربا مقطوعات حزينة تخليداً لذكراه، وكتب له إرزم مرثية. إن الأسماء، حتى أسماء الخالدين، مكتوبة على الماء.
وأصبح تلاميذ أوكيجم زعماء الموسيقى في الجيل التالي، وقد قدم جوسكين دبريه من هينوت إلى باريس، وتتلمذ لعدة سنوات على أوكيجم، ثم اشتغل "رئيس فرقة الكنيسة" في فلورنسه وميلان وفيرارا، وكتب للدوق أركول الأول مقطوعة اسمها Miserere سرعان ما دوى صيتها في كل أوربا الغربية، وبعد سنوات ست قضاها في فرقة كنيسة سستين عاد إلى باريس (1494) ليعمل رئيساً لفرقة لويس الثاني عشر. ومن أنبل أعماله "الحزن على جوهانس أوكيجم" وهي رثاء لأستاذه المتوفى، وقد حذا حذوه لبعض الوقت في تلحين القداسات والقصائد الدينية في شكل الفوجة التي أسلفنا ذكرها، وهو يجمع الصوت على الصوت، فيما يشبه المسائل الرياضية من حيث التتابع والاتساق. فلما اكتملت مهارته. واستتبت له السيادة في "فن الموسيقى" بلا منازع، ترك التقنية، وكتب قصائد وتراتيل دينية وأغنيات علمانية في طراز من الألحان أكثر بساطة، أعقبت فيه الموسيقى الكلمات وزينتها، بدلا من إرهاقها، في فوجة سريعة التغير، أو بدلاً من مد المقطع إلى أغنية، ولما قضى المعلم وتلميذه نحبهما، اصبح من العادة أن يسمى أوكيجم "دوناتللو"، وأن يسمى دبريه "ميكل أنجيلو" الفن الموسيقي.
ورعى البلاط الفرنسي الموسيقى وشجعها باعتبارها زهرة الثروة والقوة، ولقد صورت سجادة قديمة يرجع تاريخها إلى حوالي سنة 1500، وهي الآن محفوظة في متحف جوبلين في باريس، أربعا من السيدات وثلاثة من الشبان وراهباً أصلع، مجتمعين في بستان حول نافورة، وكان أحد الصبية يعزف على العود، وإحدى البنات على القيثار، وكانت سيدة وقورة تعزف على أرغن سهل الحمل، ولقد قصد الشعراء الفرنسيون أن تكون قصائدهم صالحة للغناء. وخصصت "أكاديمية القصر" لإحكام الاتحاد بين الموسيقى والشعر، وحتى في عصرنا هذا، لا يبدو الواحد منهما كاملاً بدون الآخر، وتفوق كليمنت جانكين- وهو أحد تلاميذ دبريه - في الأغاني الوصفية. ولا تزال أغنيته "أغنية القبرة" (1521) تصدح فوق عدة قارات.
وعكست الموسيقى الأسبانية تقوى الشعب وبسالته، لقد تراوح هذا الفن- بعد تهجينه وإخصابه بما دخل عليه مؤثرات عربية وإيطالية وبروفانسية وفرنسية وفلمنكية - تراوح بين القصائد الأندلسية الحزينة التي ينشدها صوت واحد (المونودية)، وللقداسات العظيمة المتعددة الأصوات بالأسلوب الفلمنكي. وسما واحد من أعظم ملحني القرن السادس عشر، هو كريستوبال مورال بفن تعدد الأصوات إلى درجة عالية، ونقل فنه إلى تلميذه الأكثر شهرة توماس لويس دي فكتوريا. وسار كل في اتجاه مضاد، فأنتج التراث العربي الألحان الصالحة للعود، ولحن لويس دي ميلان ومجول دي فونللانا Miguel de Fuenllana للكمان، وعزف عليها أغنيات زاحمت الأغاني الألمانية في مداها وقوتها.
واستمر الموسيقيون الفلمنكيون يقتحمون إيطاليا حتى ظهر بالسترينا. واستقدم لورنزو دي مديتشي إلى فلورنسه هنريخ إيزاك بعد أن استوعب فن الطباق الموسيقي في الفلاندرز، ليعلم أبناء العظماء، ومكث هناك أربع سنوات، وألف موسيقى لأغاني لورنزو. ولما اقض مضجعه الغزو الفرنسي لإيطاليا، انتقل إلى خدمة مكسيمليان الأول في أنسبروك، حيث ساهم في تشكيل الأغنية الألمانية، وعاد إلى إيطاليا في عام 1502، وخصص له الإمبراطور ليو العاشر تلميذه السابق معاشاً، ووضعت قداساته وقصائده الدينية وأغانيه في مرتبة أعظم موسيقى العصر، وعلى الأخص ثمان وخمسين مقطوعة ذات أربعة أجزاء، لاحتفالات القداس طوال السنة الدينية. وسما أورلاندو دي لاسو بالمدرسة الفلمنكية إلى الذروة، وضرب بتوفيقه في مهنته وحياته أروع الأمثال، لاتساع مجال الموسيقيين في عصر النهضة وارتفاع مستواهم الاجتماعي. وعندما كان تلميذاً في فرقة المنشدين في موطنه هينوت سحر سامعيه، إلى حد أن خطفه مرتين أولئك الذين تمنوا أن يستفيدوا من صوته، وأخيراً، وهو في سن الخامسة عشرة (1545؟)، سمح أبواه لفرديناند جونزاجا أن يصحبه معه إلى إيطاليا. وفي سن الرابعة والعشرين أصبح رئيس فرقة المنشدين في كنيسة سانت جون لاتيران في روما. وفي 1555 استقر به المقام في أنتورب، ونشر "أول كتاب في القصائد الغزلية الإيطالية"، وهي قصائد غنائية علمانية أضفى عليها كل زخارف فن مزج الألحان الفلمنكي. وفي نفس العام أصدر مجموعة من أغان من أصل نابوليتاني (من مدينة نابلي) ومن الأغاني الفرنسية، وأربع قصائد دينية قصيرة، ولقد عكست هذه المجموعة التقلب المتسم بالحكمة في حياة دى لاسو، بين المتعة الدنيوية والقوة الشجية، وأنا لنجد لمحة عن بيئته في أنتورب في إهدابه إحدى قصائده إلى الكاردينال بول، وأخرى إلى الكاردينال جرانفيل هو الذي هيأ للملحن الشاب العمل في إدارة فرقة المنشدين للدوق في ميونخ (1556). وأحب أورلاندو بافاريا قدر حبه إيطاليا، واتخذ له زوجة من أحد البلدين، كما اتخذ اسمه من البلد الآخر، وعمل لدى أدواق بافاريا حتى الممات.
وضاعف أورلاندو السعيد، موزار القرن السادس عشر، الألحان الستمائة والستة والعشرين التي ألفها نظيره. ودرس سلم النغم في كل الأشكال الموسيقية السائدة، وأحرز في كل منها شهرة فائقة في كل أنحاء أوربا. وبدا أنه على نفس القدر من المعرفة والبراعة في غزليات الحب النقي، وأغاني الحب الطائش، وقداسات الورع الصوفي. وعين في 1563 رئيس فرقة المنشدين في الكنيسة، وألف آنذاك لألبرت الخامس لحناً موسيقياً لمزامير التوبة السبعة، وأعجب الدوق بهذه الموسيقى حتى أنه كلف الفنانين بتسجيلها على الورق "البرشمان" وزخرفتها بالمنمنمات، وتجليدها بجلد الماعز الأحمر الفاخر في مجلدين من القطع الكبير، محفوظين الآن ضمن أثمن مقتنيات مكتبة الدولة في مدينة ميونيخ المحبة للفنون.
واجتذبت أوربا كلها النجم الجديد. وعندما زار دي لاسو باريس (1571) عرض عليه شارل التاسع 1200 جنيه سنوياً (30.000 دولار؟) سنوياً، ليبقى عنده، فرفض، ولكنه أهدى شارل وكاترين دي مديتشي كتاباً في الأغاني الفرنسية، يقول عنه برانتوم إنه من أعذب ما سمعت باريس، وقد روت إحدى الأغنيات مناقب العاصمة الفرنسية في حبها للعدالة والسلام- وكان هذا قبل مذبحة سانت برثلميو بعام واحد. ولما عاد دي لاسو إلى ميونيخ أهدى آل "uggers" مجموعة من القصائد اللاتينية القصيرة والغزليات الإيطالية والأغاني الألمانية والأغاني الفرنسية، إن هذا الملحن لم يكن صعلوكاً رومانتيكياً، بل كان خبيراً بأساليب الحياة في الدنيا. وفي عام 1574 سافر إلى رومه على نفقة الدوق البرت، وأهدى جريجوري الثالث عشر مجلداً من القداسات، وتسلم منه "وسام المهماز الذهبي" بل إن الله خص أعمال دي لاسو بأعظم التقدير، ذلك أنه في يوم عيد الجسد (1584) هبت عاصفة هوجاء هددت بإلغاء الموكب الديني الذي اعتاد اجتياز شوارع ميونيخ، وعندما عزمت فرقة المنشدين مقطوعة أورلاندو "تأمل وانظر كيف أن الله كريم"، انقطع المطر وأشرقت الشمس. وفي مثل هذا اليوم، فيما بعد، كانت تلك المقطوعة تعزف، لنضمن سماحة السموات.
وفي 1585 عندما كبرت سن دي لاسو، وثاب إلى التوبة، نشر "كتابه الخامس في الغزليات" الذي طبق فيه الشكل على الموضوعات الروحية، وهي من أعظم ألحانه إثارة للمشاعر. وبعد ذلك بخمس سنوات، التاث عقله وغاب عنه وعيه، فلم يعد بعرف زوجته. وكاد لا يتحدث في شيء إلا الموت، ويوم الحساب الأخير، وزيادة الراتب. وحظي بهذه الزيادة، ومات (1594) فائزاً ظافراً مخبولاً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3- الموسيقى والإصلاح الديني
كان الإصلاح الديني ثورة في الموسيقى، قدر ما كان ثورة في اللاهوت والطقوس وعلم الأخلاق والفن. لقد كانت الطقوس الكاثوليكية أرستقراطية، أو شعائر فخمة متأصلة في تقاليد منيعة لا تنتهك حرمتها، متعالية تعالياً صريحاً عن الشعب، في اللغة والملابس والرموز والموسيقى. وبهذه الروح، عرف رجال الدين أنفسهم بأنهم الكنيسة، وذهبوا إلى أن الناس قطيع يساق إلى حسن الخلق والخلاص بالخرافات والأساطير والعظات والمسرحيات وكل الفنون. وبهذه الروح كان القداس سراً خفياً مقصوراً فهمه على فئة قليلة، واتصالاً خارقاً بين الكاهن والرب.وكان الكاهن يرتل القداس، ومعه فرقة المنشدين من الذكور، منعزلة عن المصلين. ولكن في الإصلاح الديني فرضت الطبقات الوسطى وجودها وحقوقها، واصبح الشعب هو الكنيسة، ورجال الدين ممثليه، والقداس باللغة الوطنية، وكان لا بد أن تكون الموسيقى واضحة مفهومة، يمكن أن تقوم فيها جماعة المصلين بدور فعال، أصبح في آخر الأمر قيادياً.
وأحب لوثر الموسيقى، وقدر فن تعدد الأصوات والطباق الموسيقي، وفي 1538 كتب متحمساً يقول:
"إذا شحذ الفن الموسيقى الطبيعية وصقلها يبدأ الإنسان يدرك
في عجب ودهشة حكمة الله العظيمة البالغة حد الكمال، في
موسيقاه الرائعة، حيث يقوم صوت واحد بدور بسيط، ويغني
حوله ثلاثة أو أربعة أو خمسة أصوات أخرى، تثب وتنطلق هنا
وهناك، تزين الدور البسيط، وكأنها رقصة تربيعية في السماء.
إن هذا الذي لا يجد في هذا معجزة تفوق الوصف من عند الله،
ليس إلا غبياً حقيراً لا يستحق أن يعتبر إنساناً"(10).
وكان لوثر في نفس الوقت تواقاً إلى موسيقى دينية يمكن أن تحرك مشاعر الناس، بالتحام الإيمان بالغناء عن طريق الموسيقى. وفي 1524 تعاون مع جوهان والتر، رئيس فرقة المنشدين في الكنيسة لدى الأمير فردريك الحكيم لإنتاج أولى التراتيل البروتستانتية التي وسعت وأدخل عليها تحسينات كثيرة في الطبعات المتعددة. وكان جزء من كلماتها مأخوذاً من الترانيم الكاثوليكية، وجزء آخر مقتبساً من أغاني رئيس فرقة المنشدين، وجزء ثالث مكتوباً بقلم لوثر الشاعري تقريباً، وجزء آخر مأخوذاً من الأغاني الشعبية بعد نقلها إلى موضوعات دينية. ويقول لوثر "ليس للشيطان حق في كل الألحان الجيدة(11). وألف لوثر بعض الموسيقى، وألف والتر جزءاً آخر، واقتبس قسم ثالث من المقطوعات الكاثوليكية المعروفة آنذاك. واستمرت الكنائس اللوثرية لمدة قرن تقريباً، تدخل القداسات المتعددة الأصوات في طقوسها، ولكن حلت اللغة الوطنية محل اللاتينية شيئاً فشيئاً، ونقص دور القداس، وزاد غناء المصلين، وانتقلت أغاني فرقة المنشدين من الطباق إلى شكل إيقاعي متناسق ايسر، سعت فيه الموسيقى إلى متابعة الكلمات وتفسيرها، ومن موسيقى فرقة المنشدين التي ألفها لوثر ومعاونوه لمصاحبة تلاوة قصص الإنجيل، جاءت الموسيقى العظيمة في الكنيسة البروتستانتية في القرن الثامن عشر، وبلغت الذروة في موشحات هاندل وقداساته وموشحات جوهان سباستيان باخ وتراتيله.
ولم يكن كل مؤسسي البروتستانتية يحبون الموسيقى مثلما أحبها لوثر، فإن زونجلي، ولو أنه نفسه موسيقار، استبعد الموسيقى كلية من الصلوات الدينية، وحرم كلفن كل الموسيقى الكنسية، فيما عدا غناء المصلين المتساوي النغمات. ولكنه أباح الغناء الطباقي المتعدد الأصوات في البيت، فاستمد أتباعه الهيجونوت في فرنسا جزءاً من قوتهم وشجاعتهم من إنشاد المزامير والترانيم على أنغام الموسيقى بأصوات متعددة. ولما ترجم كليمنت مارو المزامير إلى اللغة الفرنسية شعراً، أعجب بها كلفن إلى حد أنه تجاوز عن المقطوعات الطباقية التي وضعها كلود جوديمل، وقد أضفت حقيقة أن هذا الملحن البروتستانتي لقي حتفه في مذبحة سانت برثلميو، مزيداً من القدسية على كتاب مزاميره المقدس. وبعد مارو بعام، لم يخف أسقف كاثوليكي حسده للدور الذي كانت قد لعبته هذه الترجمات والمقطوعات في الإصلاح الديني الفرنسي. "وكان حفظ المزامير عن ظهر قلب، لدى الهيجونوت سمة الطائفة التي ينتمون إليها، وفي المدن التي يكثر عددهم فيها، يمكن أن تسمع النغمات المنبعثة من أفواه للعمال، ومن القرى من أفواه الكادحين الذين يفلحون الأرض(12)".لقد ميزت الصبغة الديمقراطية التي صبغت بها الموسيقى الدينية البلاد التي عم فيها الإصلاح الديني حيث سترت هذه الصبغة الديموقراطية قيام العقيدة ببهجة الموسيقى التي تسري عن النفس.
4- بالسترينا 1526- 1594
ظلت الكنيسة الكاثوليكية الراعي الرئيسي للموسيقى مثل غيرها من الفنون، وتقدمت الموسيقى الكاثوليكية، شمال جبال الألب، على الأسس التي وضعتها المدرسة الفلمنكية، وثبت هذا التقليد إيزاك في النمسا ودى لاسو في بارفايا. ووجه لوثر في 1550 خطاباً من أكرم خطاباته إلى لودفيج سنفل يحييه فيه ويطري موسيقاه التي كان يؤلفها في ميونيخ، ويثني على الأدواق الكاثوليك هناك لأنهم "يرعون الموسيقى ويجلونها"(13).
وكان فريق المنشدين كنيسة سستين هو النموذج الذي احتذاه الملوك والأمراء في تأسيس كنائسهم طوال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وحتى بين البروتستانت كان أروع شكل للتأليف الموسيقي هو القداس. وكانت فرقة المنشدين البابوية هي التي تقوم بالقداس في أروع أشكاله. وكان أعظم ما يطمع فيه أي مغن هو أن يلتحق بهذه الفرقة،التي كانت لذلك قادرة على أن تضم إليها أحسن أصوات الذكور في أوربا الغربية.
وكان الكاستراتي، الذين كانوا يسمون آنذاك "الخصيان"- أول من أدخلوا إلى فرقة سستين، حوالي 1550، وسرعان ما أظهر بعد ذلك غيرهم في البلاط البافاري، وكانوا يخصون الأولاد بموافقتهم، وكانوا يغرونهم بأن أصواتهم العذبة الندية ستكون أكبر نعمة وتعويض لهم عن الإنجاب والإخصاب- تلك ميزة وحشية كانت في متناول كل من يطلبها بصفة عامة.
وكانت الكنيسة- مثل أي نظام قديم معقد، لا بد أن يخسر كثيراً بأية بدعة غير موفقة- كانت تتسم بروح المحافظة في الطقوس والشعائر، حتى أكثر منها فيما يتعلق بالعقيدة. أما المؤلفون فكانوا على النقيض من ذلك، يضيقون ذرعاً بالأساليب القديمة، كما كانوا كذلك في كل العصور، وكان التجريب في نظرهم هو حياة فنهم. وكافحت الكنيسة في كل هذه القرون، لمنع التكلف في الفنون الجديدة، ورقة الطباق الفلمنكي، من أن يضعفا وقار القداس الكبير وعظمته. وفي سنة 1322 أصدر البابا جون الثاني والعشرين قراراً صارماً ضد البدع الموسيقية والزخرفة، وأمر بأن تلتزم موسيقى القداس بالأغنية البسيطة الوحيدة، أي الأغنية الجريجورية، كأساس لها، ولا تبيح إلا التناغم الذي يمكن أن يكون مفهوماً للمصلين، وبعمق التقوى في نفوسهم أكثر مما يلهيهم عنا. وظل الأمر مطاعاً لمدة قرن من الزمان، ثم جاءت المراوغة في تنفيذه من أن بعض المنشدين الجهير (الصوت العميق الخفيض) أعلى من المكتوب بجواب واحد. واصبح هذا الجهير الزائف هو الخدعة المفضلة في فرنسا. وظهرت التعقيدات من جديد في موسيقى القداس، وبدأ إنشاد خمسة أو ستة أو ثمانية أجزاء بالفوجة والطباق، جرت فيها كلمات الطقوس الدينية الواحدة عقب الأخرى في فوضى احترافية، أو غرقت في زخارف موسيقية وضعها المغنون وفق أهوائهم. وأدى تكييف أنغام شعبية للقداس، حتى إلى إقحام كلمات بذيئة على النص المقدس. واتفق أن عرفت بعض القداسات بمصادرها العلمانية مثل قداس "وداعاً يا أحبائي" أو قداس "في ظل الشجرة"(14). واستاء إرزم المتحرر نفسه من زيف "فن القداس" حتى أنه احتج على ذلك في ملاحظة دونها في طبعته التي نشرها "للعهد الجديد":
إن الموسيقى الكنسية الحديثة ألفت بحيث لا يستطيع أحد من جماعة المصلين أن يتبين كلمة واحدة متميزة. إن المنشدين أنفسهم لا يفهمون ما ينشدون... لم يكن ثمة موسيقى (كنسية) أيام القديس بولص، حيث كانت الكلمات تنطق بوضوح. إن الكلمات اليوم لا تعني شيئاً. إن الناس يذرون أعمالهم ويقصدون إلى الكنيسة ليستمعوا إلى جلبة وضجيج لم يكن لهم بهما عهد في المسارح اليونانية والرومانية. ينبغي أن تسك النقود لشراء الأراغين وتدريب الأولاد على إطلاق الصيحات والصرخات(15).
واتفقت جماعة الإصلاح في الكنيسة مع إرزم في هذه المسألة. فمنع جيبرتي أسقف فيرونا استعمال أغاني الحب أو الألحان الشعبية في أبرشيته، كما حرم مورون أسقف مودينا كل الموسيقى "المصورة" أي المزخرفة بكل تفاصيل الإثارات والأفكار الرئيسية. وحث المصلحون الكاثوليك في مجلس ترنت على استبعاد كل الموسيقى المتعددة الأصوات من كل حفلات الكنيسة، وعلى العودة إلى الإنشاد الجريجوري ذي الصوت الواحد، ولكن ربما كان من الممكن أن يساعد ميل البابا بيوس الرابع إلى قداسات بالسترينا، على إنقاذ "تعدد الأصوات" في الكنيسة الكاثوليكية.
لقد اشتق جوفاني لويجي بالسترينا اسمه من اسم مدينة صغيرة في الريف الروماني كانت قد دخلت التاريخ في العصور القديمة تحت اسم "براينستي". وإنا لنجده في 1537، وهو إذ ذاك في الحادية عشرة من عمره، بين تلاميذ فرقة المنشدين في سانتا ماربا مجيوري في روما، ولم يكن قد بلغ الحادية والعشرين حين عين رئيساً للفرقة في كاتدرائية مسقط رأسه. فلما توطد مركزه على هذا النحو، تزوج من لوكريشيا دي جوريس، وكانت على شيء من اليسار، وعندما تقلد أسقف بالسترينا منصب البابوية تحت اسم جوليوس الثالث، اصطحب معه رئيس فرقته إلى رومه، وعينه رئيس معبد جوليا في كنسية القديس بطرس، الذي كان يتدرب فيه المنشدون لكنيسة سستين.وأهدى الملحن الشاب إلى البابا الجديد أول كتاب له في "القداسات" (1554) عرض أحدها معزوفة ثلاثية الألحان بمصاحبة منشد واحد لأغنية بسيطة، وأحب البابا هذه القداسات إلى حد أنه منح بالسترينا عضوية فرقة المنشدين في كنيسة سستين.وبدا موقف جيوفني شاذاً، بوصفه رجلاً متزوجاً، وسط هذه الجماعة التي كان أفرادها مترهبين عادة، مما أثار بعض المعارضة. وكان بالسترينا على وشك أن يهدي البابا كتاباً في الغزليات، لولا أن جوليوس عاجله الموت (1555).
ولم يعمر مارسلس الثاني أكثر من ثلاثة أسابيع بعد ارتقائه عرش البابوية. وأهدى الملحن إلى ذكراه (1555) مقطوعته الشهيرة "قداس البابا مارسلس" التي لم تنشر، أو هكذا كانت تسمى حتى 1567. وطرد البابا بول الرابع ذو المبادئ البيوريتانية الجامدة الأعضاء المتزوجين في فرقة منشدي سستين، وخصص لكل منهم معاشاً ضئيلاً. وما لبث بالسترينا أن عين رئيساً لفرقة المنشدين في كنيسة سان جون لاتيران، ولكن هذه الوظيفة، ولو أنها سدت رمقه، لم توفر له نفقات نشر تآليفه الموسيقية. وعاد العطف البابوي يضلله بارتقاء بيوس الرابع عرش البابوية (1559). وتأثر بيوس أيما بمقطوعة lmproperia التي أعدها بالسترينا لاحتفال "الجمعة الحزينة"، ومنذ ذلك الوقت أصبحت هذه المقطوعة جزءاً لا يتجزأ من الطقوس في كنيسة سستين، وظل زواج بالسترينا يحول بينه وبين فرقة سستين، ولكن ارتفع شأنه بتعيينه (1561) رئيساً لفرقة سانتا ماريا مجيوري.
وبعد ذلك بعام واحد بحث مجلس ترنت الذي انعقد ثانية، مشكلة تنظيم الموسيقى الكنسية، لتتسق مع روح الإصلاح الجديدة، ورفض الاقتراح القائل بمنع "تعدد الأصوات" منعاً باتاً. وأقر حل وسط يحث السلطات الدينية "على أن تستبعد من الكنائس كل موسيقى... تقدم شيئاً من الدنس أو الفجور، حتى يظل بيت الله مشهوداً له بأنه بيت التعبد والصلاة ، وعين بيوس الرابع لجنة قوامها ثمانية من الكاردينالات لتنفيذ هذا القرار في أبرشية رومه. وتروي قصة لطيفة أن اللجنة كانت على وشك تحريم الموسيقى المتعددة الأصوات، حين توسل أحد الأعضاء وهو الكاردينال شارل بوروميو، إلى بالسترينا أن يؤلف قداساً يمكن أن يظهر الانسجام الكامل بين تعدد الأصوات والتقي والتدين، واستجاب بالسترينا وألف، وأنشدت الفرقة ثلاثة قداسات أمام اللجنة، أحدها "قداس البابا مرسلس". ولم ينفذ "تعدد الأصوات" من الحكم عليه بالفناء إلا الاتحاد الوثيق بين السمو الديني والبراعة الفنية المهذبة في الموسيقى في هذه القداسات. على أن قداس البابا مرسلس كان قد مضى على تأليفه آنذاك عشر سنوات. ومهما يكن من أمر فإن العلاقة الوحيدة المعروفة بين بالسترينا وهذه اللجنة، هي أنها زادت من راتبه(16). على أننا مع ذلك قد نؤمن بأن الموسيقى التي كان بالسترينا قد قدمها في فرق روما، بفضل إخلاصها للكلمات، وتجنبها للمثيرات الدنيوية وإخضاعها الفن الموسيقي للمقاصد الدينية، قد لعبت دوراً كبيراً في توجيه اللجنة إلى إجازة الموسيقى المتعددة الأصوات(17). وثمة حجة أخرى تضاف تأييداً "لتعدد الأصوات" تلك هي أن تأليف بالسترينا الدينية استغنت، بشكل طبيعي، عن "زخارف الآلات"، وكانت مكتوبة دائماً تقريباً بالأسلوب الكنسي، أي للأصوات فقط.
وفي 1571 أعيد تعيين بالسترينا رئيساً لفرقة كنيسة جوليا، وبقي في هذا المركز حتى موته. وفي نفس الوقت كان إنتاجه غزيراً بلا حدود بلغ في جملته 93 قداساً، و426 ترنيمة تجاوبية، وتقدمه للذبيحة الإلهية، وأغنية دينية ومزموراً وعدداً كبيراً من الغزليات. وكان بعض هذه مبنياً على موضوعات علمانية. ولكن بالسترينا لما تقدمت به السنون، حول حتى هذا الشكل إلى أغراض دينية. وتضمن "كتابه الأول في الغزليات الروحية" (1581) بعضاً من أجمل مقطوعاته. وربما لونت المآسي الشخصية موسيقاه أو شوهتا، فقد توفي ابنه أنجلو في 1576، تاركاً في رعايته حفيدين عزيزين، ماتا بعد ذلك بسنوات قليلة. وتوفي ابن آخر له حوالي 1579. ولكن موت زوجته في 1580 دفعه إلى التفكير في أن يترهب. على أنه تزوج ثانية في بحر سنة واحدة.
إن وفرة إنتاج بالسترينا ونوعيته المذهلتين رفعتاه إلى مرتبة الزعامة على الموسيقى الإيطالية، إن لم تكن الأوربية بأسرها. إن وضعه نشيد الإنشاد Song of Solomon في تسع وعشرين قصيدة دينية (1584)، و "مراثي أرمياء" 1588، و Stabat Mater and Magificat 1590، ثبتت شهرته وقوته الصامدة. وفي 1592 اشترك منافسوه الإيطاليون في إهدائه "مجموعة من مزامير المساء". وكرموه بأنه "الأب المشترك لكل الموسيقيين". وفي أول يناير 1594 أهدى كريستينا دوقة تسكانيا العظيمة "الكتاب الثاني من الغزليات الروحية" التي جمع فيها ثانية بين الإخلاص الديني والبراعة الموسيقية. وبعد ذلك بشهر واحد قضى نحبه وهو في التاسعة والستين من العمر، ونقش على قبره تحت اسمه "أمير الموسيقى". وينبغي ألا نتوقع أن نقدر بالسترينا اليوم حق قدرهن إلا إذا كانت نفوسنا نحن متشبعة بالروح الدينية. وإننا لنسمع اليوم موسيقاه في وضعها السليم بوصفها جزءاً من طقوس مهيبة، وحتى في هذه الطقوس قد تتركنا جوانبنا الفنية مشدوهين أكثر منا متأثرين.
وبالمعنى الحرفي، أي في واقع الأمر، إن الوضع الصحيح لا يمكن أن يعود أبداً، لأن موسيقى بالسترينا كانت موسيقى الإصلاح الكاثوليكي، فهي النغمة الكئيبة للنكسة الصارمة ضد الابتهاج الحسي في النهضة الوثنية، أو قل هي ميكل أنجيلو باقياً على قيد الحياة بعد رافائيل، أو بول الرابع يحل محل ليو العاشر، أو ليولا يحل مكان بمبو، أو كلفن يخلف لوثر. إن ترشيحاتنا المعاصرة ليست إلا معياراً عابراً غير معصوم من الخطأ، وذوق الفرد- وخاصة إذا أعوزته القدرة الفنية والتصرف والإحساس بالخطيئة- إنما هو أساس واه نقيم عليه مقياساً للحكم في الموسيقى واللاهوت. ولكن نستطيع أن نتفق جميعاً على أن بالسترينا، بلغ بفن "تعدد الأصوات" الديني درجة الكمال، في عصره. وأنه، مثل معظم كبار الفنانين، وقف على قمة حد من التطور في الإحساس والتقنية، وتسلم تقليداً فأتمه وأكمله، لقد ارتضى النظام، وعن طريقه وزد موسيقاه بتركيب وبنية، أو رسوخاً معمارياً في وجه أعاصير التغيير الهوجاء. ومن يدري، فربما جاء عصر ليس ببعيد، أرهقته أصوات الأوركسترا العالية الطنانة ورومانسيات الأوبرا- ليجد في موسيقى مثل موسيقى بالسترينا عمقاً في الإحساس، وانسياباً عميقاً هادئاً في الألحان، يصلحان بطريقة أفضل للتعبير عن النفس الإنسانية المتطهرة من غرور العقل والقوة، رابضة مرة ثانية، في تواضع وخشوع وخشية، أمام الوجود الأبدي الذي يطبق عليها.