قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 4 ف 33
صفحة رقم : 8964
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
الكتاب الرابع
ما وراء الستار
الفصل الثالث والثلاثون
حياة الناس
1517-1564
1- الاقتصاد
إن مسرحية الصراع الديني والسياسي الحربي الذي ملأ جبهة القرن السادس عشر، كانت من بعض النواحي سطحية. ذلك أنها لم تظهر إلا انطلاقاً من مسرحية أعمق، مثلت خلف مشاهد التاريخ أو تحت المسرح الفخم- أعنى معركة الإنسان اليومية الأبدية مع التربة والعناصر (الماء والهواء والتراب والنار) والفقر والموت. وماذا كانت، فوق كل شيء هبات ومراسيم البابوات والبروتستانت، والسخافات المتزاحمة في الأساطير القتالة، وزهو الملوك والأباطرة وتعاقبهم، وما كان ينتابهم من أمراض مثل النقرس والزهري، إذا قورن كل أولئك بالكفاح المرير من أجل الغذاء والمأوى والكساء والصحة والزوجة والولد والحياة؟
إن قرى أوربا في تلك الحقبة، كان لا بد لها ليلاً ونهاراً أن تحذر وتحترس من الذئاب والخنازير البرية، أو أي خطر يتهدد قطعانهم
صفحة رقم : 8965
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
ومساكنهم. لقد عمرت مرحلة الصيد داخل عصر الزراعة، وكان لزاماً على الإنسان أن يقتل أو يُقتل، ويسرت أسلحة الدفاع طريقة (روتين) الكدح والعمل. وكانت آلاف الحشرات ووحوش الغابة وطيور السماء تنافس الفلاح في ثمار غرسه وكده ونصبه، والأمراض الخفية تهلك القسم الأكبر من ماشيته. وربما أصبحت الأمطار سيولاً جارفة أو فيضانات غامرة، وربما انقطعت حتى تذبل الحياة كلها. وكان الجوع دائماً يتربص بالناس، ولم يفارق الخوف من الحريق مخيلتهم قط. وكثيراً ما انتابتهم الأمراض، والأطباء على مسافات بعيدة منهم. وفي كل عشر سنين تقريباً ربما اختطف الطاعون من الأسرة فرداً عزيزاً أو له قيمته عند تعرض الأرض للخطر. وكان يموت في سن الطفولة طفلان من بين كل خمسة أطفال، ويموت ثالث قبل بلوغ(1)، ومرة واحدة على الأقل في كل جيل كان ضابط التجنيد يأخذ أحد الأبناء للجيش، وكانت الجيوش تحرق القرى وتنهب الحقول، وكان عشر المحصول بعد الحصاد يذهب إلى مالك الأرض، وعشر ثان إلى الكنيسة. وكانت الحياة على الأرض تصبح جحيماً لا يحتمله الجسم أو الروح، لولا أن شيئاً من السعادة يتخلل ابتهاج الأطفال وألعاب المساء في البيت، وإطلاق الأغاني ولعب الخمر بالرءوس في الحانات، والأمل نصف المصدق ونصف المشكوك فيه حياة أخرى أكثر رحمة وشفقة. هكذا كان إنتاج الغذاء الذي أطعم البارونات في الحصون والملوك في قصورهم والكهنة في محاريبهم، والتجار والصناع في المدن، والأطباء والمعلمين والفنانين والشعراء ورجال العلم والفلاسفة، وأخيراً، وأقلهم شأناً، رقيق الأرض أنفسهم. فالمدنية عالة على الإنسان الذي يحمل آلة العزق.
وكان علم الزراعة من خصائص هذا الزمان. ونشأ تقدم الإنتاجية أساساً من استبدال الملكية الكبيرة بالملكية الصغيرة. وأدخل مالكو الأرض
صفحة رقم : 8966
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
الجدد من التجار والرأسماليين إلى البقاع الريفية الراكدة لهفة شديدة على الربح الذي زاد الإنتاج والبؤس كليهما معاً. وأدخل المستوردون المغامرون إلى أوربا مخصباً أو سماداً جديداً غنياً بالفوسفات والنتروجين - وهو روث الطيور الذي يجتمع على شواطئ بيرو. وتأقلمت في تربة أوربا نباتات وشجيرات من آسيا أو أمريكا، مثل البطاطس وشجرة المغنولية (نبات جميل الزهر)، والأغاف الأمريكي، والفلفل والدهلية (زهر جميل)، والكبوسين (أبو خنجر)... وأحضر التبغ من المكسيك إلى أسبانيا 1558. وبعد ذلك بسنة واحدة أرسل جان نيكوت السفير الفرنسي في لشبونة بعض بذوره إلى كاترين دي مديتشي، وقد جزى التاريخ هذا السفير خير الجزاء فأطلق اسمه على أحد السموم.
ونمت صناعة صيد السمك بازدياد السكان، ولكن الإصلاح الديني سدد ضربة قاضية إلى تجار السردين بإباحة اللحوم يوم الجمعة، وتقدم التعدين بالتنظيم الرأسمالي. وكانت نيوكاسل تصدر الفحم في 1549، وضاعف أصحاب المناجم إنتاجها بحث العمال على بذل جهود أعظم وأكثر نظاماً، وتحسين وسائل تنقية المعدن الخام. وفي هذه السطور ينقلنا جورج أجريكولا إلى منجم في القرن السادس عشر:
إن أهم أنواع العمال هم المعدنون، الجرافون، الرافعون، الحمالون، الفرازون، الغسالون، الصاهرون... وكانت ساعات الليل والنهار الأربع والعشرين، تنقسم إلى ثلاث نوبات كل منها سبع ساعات، والساعات الثلاث الباقية تتوسط النوبات، ليدخل العمال في أثنائها إلى المنجم أو يغادروه. وتبدأ النوبة الأولى الساعة الرابعة صباحاً، وتنتهي في الحادية عشرة. وتبدأ الثانية في الساعة الرابعة صباحاً، وتنتهي في الحادية عشرة. وتبدأ الثانية في الساعة الثانية عشرة وتنتهي في السابعة مساء. وهاتان نوبتان نهاريتان في الصباح وبعد الظهر. أما الثالثة، وهي النوبة الليلية، فتبدأ في
صفحة رقم : 8967
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
الثامنة مساء وتنتهي في الثالثة صباحاً. ولا تفرض هذه النوبة الثالثة على العمال إلا إذا دعت الضرورة إليها. وفي هذه الحالة.. كانوا يسهرون على ضوء المصابيح الليلية، وحتى لا يغلبهم النعاس في هذه الساعات المتأخرة، أو لشدة التعب، كانوا يخففون من وطأة هذا العمل الطويل الشاق بالغناء الذي كانوا مدربين عليه، أو لم يكن غير سار لهم كلية. ولم يكن يباح في بعض المناجم لأي من العمال العمل نوبتين متعاقبتين، لأنه كان كثيراً ما يغلب عليه النعاس في المنجم من شدة الإجهاد من كثرة العمل إلى حد مفرط. وكان يباح ذلك في أماكن أخرى لأن العامل لا يستطيع العيش على أجر نوبة واحدة، وخاصة إذا ارتفع ثمن الحاجيات.
ولا يشتغل العمال أيام السبت، لأنهم يبتاعون فيها كل ما يلزمهم من ضرورات الحياة، كذلك لا يعملون أيام الآحاد والأعياد السنوية. ولكنهم في هذه المناسبات يخصصون ساعات النوبة للأغراض الدينية. ومهما يكن من أمر فإن العمال لا يستريحون... إذا اقتضت الظروف أن يعملوا، فقد يجبرهم عليه أحياناً اندفاع الماء أو انهيار وشيك الوقوع. وفي مثل هذه الحالات لا يعتبر العمل في أيام العطلة أمراً لا يتفق مع الدين. وفوق ذلك، فإن العمال من هذه الفئة أقوياء أشداء ألفوا هذا الكدح والمشقة منذ ولادتهم(2).
وفي 1527 عين جورج أجريكولا طبيباً لمدينة جوتشمستال Goochimsthal. وفي مدينة التعدين انصرف جورج بين الحين والحين إلى التعدين، وهناك، وفي أماكن أخرى تحمس جورج وافتتن بدراسة تاريخ التعدين وعملياته وعلم المعادن، وعكف على البحث عشرين عاماً، أكمل بعدها (1550) "رسالته عن المعادن" وهي رسالة ممتازة في موضوعها بالنسبة لعصرها، لها من القيمة
صفحة رقم : 8968
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
مثل ما لروائع كوبرنيكس وفيساليوس التي ظهرت في نفس العقدين من السنين، ولقد وصف في تفصيل دقيق آلات التعدين والصهر وتقنياتها وعملياتها، واستخدم الفنانين في توضيحها بالرسوم. وهو أول من جزم بأن البزموت و لأنتيمون معدنان أوليان حقيقيان، وميز نحو عشرين صنفاً من المعادن لم تكن معروفة من قبل. وكان أول من شرح تركيب عروق الخام في طبقات الصخور من رواسب معدنية خلفتها مجاري المياه التي تنساب في الأرض وتحت الأرض (3).
وحظي التعدين وعلم المعادن والمنسوجات بأكبر نصيب من التحسينات الآلية (الميكانيكية) التي ينسب الفضل فيها لهذا العصر. وإن أول سكك حديدية لهي تلك التي كانت تجر أو تدفع عليها العربات التي تحمل الخام. وفي عام 1533 أضاف جوهان جورحن إلى عجلة الغزل- التي كانت تدار حتى ذلك العهد باليد- ذراعاً (دواسة) تدار بواسطة القدم، ومن ثم تكون يد الغزال طليقة، وسرعان ما ضوعف الإنتاج بهذه الطريقة. وازداد الوثوق بدقة الساعات وصغر حجمها، وزينت بالحفر والنقوش والجواهر وطليت بالمينا. واقتنى هنرى الثامن ساعة دقيقة الحجم، تملأ مرة واحدة كل أسبوع. على أن أحسن ساعات العصر كان معدل الخطأ فيها نحو 15 دقيقة في كل يوم(4).
وتعثرت المواصلات والنقل خلف التجارة والصناعة. وتوسعت الخدمات البريدية إلى حد نقل المراسلات الخاصة خلال القرن السادس عشر، وحث الانقلاب التجاري على بناء السفن، وصارت السفن أرفع وأعمق، فساعد
صفحة رقم : 8969
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
ذلك على ثباتها وازدياد سرعتها. وزاد عدد الصواري من واحد إلى ثلاثة، والأشرعة إلى خمسة أو ستة(5). ولم يقتصر السباق بين فرنسوا الأول وهنرى الثامن، على الحرب والحب واللباس، بل تعداه إلى ابتناء السفن، وكان لكل منهما مركب فخم بني بناء على طلبه لإشباع نزواته، به دور علوي، يرفرف عليه في زهو واعتزاز علم البطولة الذي أرضى غرور كل منهما. وكانت سفينة أوائل القرن السادس عشر تستطيع أن تقطع في البحر المتوسط عشرة أميال في الساعة في الطقس المعتدل، ولكن السفن الثقيلة المصممة للمحيط الأطلسي كانت أسعد حظاً، حيث كانت تقطع 125 ميلاً في اليوم. وكانت أسرع رحلة برية هي رحلة حامل البريد، الذي كان يركب لمسافة خمسة وثمانين ميلاً في اليوم. ومع فأن الأنباء الهامة كانت عادة تصل من البندقية إلى باريس أو مدريد في عشرة أيام أو أحد عشر يوماً. ولعل أحداً لم يقدر آنذاك أية راحة ينعم بها نتيجة لوصول الأنباء متأخرة إلى حد يتعذر معه اتخاذ أي إجراء بشأنها. وكان معظم السفر بالبر على ظهور الخيل، ومن هنا جاءت الحلقة الحديدية الثقيلة المثبتة في باب مدخل كل بيت، يشد إليها حبل تقيد به الدابة. وتضاعف عدد العربات، ولكن الطرق بلغت من الرخاوة حداً لا يصلح كثيراً لمرور العجلات، ومن ثم كان لزاماً تزويد العربات بستة من الجياد أو أكثر لتجرها في الأوحال التي يتعذر تفاديها، وما كان يتوقع من العربات أن تقطع أكثر من عشرين ميلاً في اليوم. وظلت المحفات التي يحملها الخدم تستعملها السيدات ذوات اليسار في تنقلهن، أما عامة الشعب فكانوا يسيرون على الأقدام عبر القارة.
وكان السفر مألوفاً رغم الطرق والخانات. وذهب إرزم إلى أن خانات فرنسا كانت مقبولة محتملة، وعلى الأخص لأن النادلات الصغيرات "يقهقهن ويقمن بحيل وألعاب مرحة، وإذا غادرت المكان كن يحيينك بالعناق"،
صفحة رقم : 8970
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
"كل ذلك مقابل أجر زهيد" ولكنه رمى أصحاب الخانات الألمان بالفظاظة وغلظة الطباع والبطء والقذارة:
إذا فرغت من تدبير أمر جوادك تدخل إلى غرفة المدفأة، بالحذاء العالي الساقين، والأمتعة والأوحال وغيرها، لأن هذه حجرة عامة لجميع القادمين. وفي غرفة المدفأة تخلع حذاءك، وتلبس نعليك وتبدل قميصك إذا شئت. وهناك ترى رجلاً يمشط رأسه وآخر...يتجشأ الثوم... وإنك لتسمع من فوضى اللغات واللهجات كما لو كنت في مبنى برج بابل... وفي رأيي أنه ليس ثمة شيء أخطر من التنفس في مثل هذا الجو الخانق، وخاصة إذا كانت أجسام الناس مفتحة بفعل الحرارة ... وثمة شيء لا أرى ذكره.... ثم النساء والأنفاس الكريهة المنتنة .... ولا ريب أن كثيرين مصابون بالجدري أو الزهري الأسباني، أو كما يسيمونه الفرنسي. ولو أنها أمراض منتشرة في كل بلد(6).
إذا جرت الأمور على هذا النحو، حقاً، في بعض الخانات، فيمكن أن نغتفر خطأ أو اثنين للتجار المتجولين الذين يحطون رحالهم في هذه الخانات ويحتملون متاعبها في عملية ربط القرية بالقرية، والأمة بالأمة، في نسيج اقتصادي دائم الاتساع والانتشار. فقد فتح في كل عقد من السنين طريق جديد، براً كما فعل تشانسلر في روسيا، وبحراً كما تم في آلاف الرحلات البحرية المغامرة. وقد اتجر (شيلوك شكسبير) أي اليهود مع إنجلترا ولشبونة وطرابلس ومصر والهند والمكسيك(7). وكان لجنوى مستعمرات تجارية في البحر الأسود وأرمينية وسورية وفلسطين وأسبانيا. فلقد عقدت الصلح مع الباب العالي، وباعت الأسلحة إلى تركيا التي كانت في حرب ضد العالم المسيحي. والتقطت فرنسا هذه الفكرة، وعقدت اتفاقات خاصة بها مع
صفحة رقم : 8971
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
سلاطين تركيا. وبعد 1560 سيطرت على تجارة البحر المتوسط، وكانت أنتورب تتلقى البضائع في كل لحظة، وتنقلها بالسفن إلى كل مكان في العالم.
ولمواجهة متطلبات هذا الاقتصاد المتوسع، حسن رجال المصارف من خدماتهم وأساليبهم. ولما ارتفعت نفقات الحرب بالانتقال من فرق الإقطاع المجندة الذين أحضروا معهم أقواسهم وسهامهم ورماحهم وسيوفهم، إلى جيوش وطنية أو جنود مرتزقة مزودين بالأسلحة النارية والمدافع، وتدفع الدولة رواتبهم وأجورهم- اقترضت الحكومات مبالغ لم يسبق لها مثيل من أصحاب المصارف. وكانت الفائدة التي تدفعها الحكومات أو تعجز عن دفعها، تقيم مؤسسة مالية، أو تقوض أركان أخرى. وكان أصحاب المصارف يقترضون مدخرات الشعب نظير فائدة، ليمولوا بها الصفقات الضخمة في التجارة والصناعة. وكانت صكوك التبادل تحل محل الشحنات الثقيلة المرهقة من العملة المتداولة أو البضائع. واختلفت معدلات فوائد القروض ولم يكن هذا الاختلاف نتيجة لجشع المقرضين، بقدر ما هو نتيجة للثقة في المقرضين. ومن ثم كانت المدن الحرة الألمانية التي سيطر عليها تجار يتميزون بالدفع الفوري العاجل، تستطيع أن تقترض بفائدة قدرها5%، على حين أن فرنسوا الأول اقترض بفائدة قدرها 10%، وشارل الخامس بفائدة قدرها 20%. وانخفض سعر الفائدة تبعاً للاستقرار الاقتصادي.
وسكت مقادير وفيرة من العملة السائلة من معدني الذهب والفضة اللذين استخرجا من مناجم ألمانيا والمجر وأسبانيا والمكسيك وبيرو، وجاء المدد الجديد من المعادن النفيسة في الوقت الناسب، لأن البضائع كانت قد تزايدت أسرع مما تزايدت العملة. وكان جزء من ثمن واردات آسيا يدفع في صورة صادرات، والجزء الباقي نقداً من الذهب أو الفضة، ومن ثم هبطت
صفحة رقم : 8972
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
الأسعار في غضون السنين التي سبقت قيام كولمبس برحلاته، إلى حد تعويق المغامرات والتجارة. وبعد تطوير المناجم في أوربا واستيراد الذهب والفضة من أفريقية وأمريكا، فاقت كميات المعادن النفيسة إنتاج السلع، فارتفعت الأسعار، وانتعشت الأعمال وابتهج أصحابها، وزحزح الاقتصاد الجديد القائم على النقود المتحركة الاقتصاد القديم الذي تركز في امتلاك الأرض أو سيطرة النقابات على الصناعة، واحتل مكانه.
وكانت النقابات في دور الانحلال. وكانت قد نشأت وقويت في عهد تحكم المجلس البلدية وحماية الإنتاج المحلي، ولم تكن على درجة من التنظيم تسمح لها بتقديم رأس المال. أو بالشراء بالجملة من الموارد النائية، أو باستخدام أساليب المصانع وتقسيم العمل، أو الوصول بمنتجاتها إلى الأسواق البعيدة. وكانت منذ القرن الثالث عشر وما بعده قد ضربت حولها نطاقاً من العزلة الأرستقراطية وسوأت ظروف العمل، حتى بات من اليسير سوق العمال المهرة إلى أحضان رب العمل صاحب رأس المال، وكان عامل الربح هو الذي يحركه ويزوده بالحيوية والنشاط، ولكنه عرف كيف يجمع المدخرات إلى رأس المال، وكيف ومن أين يشتري الآلات والمواد الخام ويدير المناجم، ويؤسس المصانع، ويجند لها العمال، ويقسم العمل، ويخصص العمال لكل فرع منه، وبفتح الأسواق الأجنبية ويصل إليها، ويمول الانتخابات ويسيطر على الحكومات. وكانت الإمدادات الجديدة من الذهب والفضة تدعو بصوت عال إلى استثمارات تدر الربح الوفير. وبات الذهب الأمريكي رأس مال أوربا. وخلقت الرأسمالية "سحر المنافسة"، وحفزت إلى المغامرة، وأنتجت السعي المحموم وراء المزيد من الطرق الاقتصادية للإنتاج والتوزيع، ولم يكن ثمة مفر من أن تخلف وراءها القناعة الذاتية التي اتسم بها رجال النقابات. وتتركهم يتهادون في أساليبهم النمطية الرئيسية القديمة. ولقد فاق النظام
صفحة رقم : 8973
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
الجديد في إنتاجه النظام كماً لا كيفاً، لأن التجار كانوا ينادون بإنتاج كميات كبيرة ليسددوا بصادراتهم الصناعية ثمن الواردات من الشرق.
وكانت الثروة الجديدة محصورة إلى حد كبير، في أيدي التجار وأصحاب رءوس الأموال وأصحاب المصانع، وحلفائهم في الحكومة، وظل بعض النبلاء يجمعون الثروة عن طريق الضياع الواسعة التي يستأجرها مئات المستأجرين، أو الحظائر التي تمد صناعة النسيج بالصوف. على أن الغالبية من ملاك الأرض الأرستقراطيين وجدوا أنفسهم محصورين بين شقي الرحى: الملوك من جهة، والمدن التي سيطر عليها رجال الأعمال من جهة أخرى، وانحطت قوتهم السياسية. وكان عليهم أن يقنعوا بكرم المحتد وشرف الأرومة. وشاركت الطبقة الكادحة النبلاء مصائب التضخم، فمن سنة 1500 إلى سنة 1600 ارتفع ثمن القمح الذي صنع منه الفقراء رغيف الخبز إلى 150% في إنجلترا، و 200% في فرنسا، 300% في ألمانيا. وفي سنة 1300 كان سعر البيض في إنجلترا 4 بنسات لكل 120 بيضة، وارتفع ثمن المقدار نفسه إلى بنسات في سنة 1400، وإلى 7 بنسات في سنة 1500، وإلى 42 بنساً في سنة 1570(8). وارتفعت الأجور، ولكن في بطئ أكثر، لأن الحكومات كانت تتولى تنظيمها. وحدد قانون 1563 في إنجلترا الأجر السنوي للفلاح المستأجر بمبلغ قدره 12 دولار، ولعامل المزرعة 9.50، وللخادم الرجل 7.25، علماً بأن القوة الشرائية لهذه المبالغ في سنة 1563 تفوق مثيلتها في 1954 خمساً وعشرين مرة، فوصلت الأجور إلى نحو 180 دولاراً سنوياً. على أننا يجب أن نلاحظ أن الطعام والإقامة كانتا تضافان إلى هذه الأجور، وجملة القول أن التغييرات الاقتصادية في القرن السادس عشر تركت الطبقات العاملة أفقر نسبياً
صفحة رقم : 8974
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
وأضعف سياسياً، من ذي قبل. فقد أنتج العمال السلع التي كانت تصدر ثمناً للكماليات المستوردة التي جعلت حياة نفر قليل من الناس مشرقة باسمة ناعمة.
واتسم الصراع بين الطبقات بمرارة، قل أن عرف لها مثيل منذ عهد سبارتاكوس (زعيم ثورة العبيد 71 ق.م.) وخير شاهد على ذلك ثورة الأهالي في أسبانيا، وحرب الفلاحين في ألمانيا، وثورة كت Ket في إنجلترا. وكثرت الإضرابات، ولكنها كانت تخمد بائتلاف أرباب العمل مع الحكومة. وفي 1558 قررت نقابة عمال النسيج التي كان يسيطر عليها السادة أن أي عامل يرفض العمل بمقتضى الشروط التي يضعها رب العمل يسجن لأول مخالفة، ثم يضرب بالسياط ويوصم بالعار في الثانية. وكانت قوانين التشرد في عهد هنري الثامن وإدوارد السادس من القسوة والوحشية إلى حد أن قلة قليلة من العمال تجاسروا على أن يوجدوا متعطلين بلا عمل. ونص قانون 1547 على أن أي عامل قادر من الناحية الجسمانية يترك عمله ليتسكع في البلاد كالمتشردين، يجب أن يدمغ صدره بحرف "V" (الحرف الأول من Vagabond متشرد)، ويدفع به بوصفه عبداً رقيقاً إلى أحد المواطنين في الجهات المجاورة، لمدة عامين، ليعيش على "الخبز والماء وقليل من الشراب وحثالة اللحم"، فإذا لم يرتدع وتكرر منه التشرد، دمغ على خده أو جبهته بحرف "S" (Slave عبد) وحكم عليه بالاسترقاق طيلة حياته(9). وبفضل الشعب الإنجليزي، وكان فخراً وشرفاً له، أنه لم يمكن تطبيق هذه الإجراءات وسرعان ما أبطلت، ولكنها تكشف عن طباع حكومات القرن السادس عشر.وأصدر جورج دوق سكسونيا قراراً بالا ترفع أجور عمال المناجم في منطقته، وألا يسمح لعامل بترك عمله للبحث عن عمل في مكان آخر، وألا يستخدم رب العمل عاملاً كان قد أثار الاستياء في منجم
صفحة رقم : 8975
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد
آخر، وأجاز القانون صراحة أو ضمنا تشغيل الأطفال. وقام الأطفال في فلاندرز بصناعة المخرمات برمتها، وحرم القانون اشتغال البنات فوق سن الثانية عشرة في هذه المهنة(10). أما قوانين الاحتكارات والمضاربات والربا فكان مصيرها أو المراوغة في التنفيذ.
وتصادف ظهور الإصلاح الديني مع قيام الاقتصاد الجديد. وكانت الكنيسة الكاثوليكية تناهض "الأعمال والمشروعات والتجارة" في حساسية بالغة. فلم يتفق كل هذا مع مزاج الكنيسة. وكانت قد أدانت فوائد القروض، وأجازت من الناحية الدينية قيام النقابات، وقدست الفقر وانتقدت الثراء، وأعفت العمال من العمل أيام الآحاد والعطلات التي كانت كثيرة، إلى حد أنه في 1550 بلغ عدد الأيام التي لا عمل فيها 115 يوماً في السنة في الأقطار الكاثوليكية(11). وربما كان لهذا أثره في الإبطاء بالتصنيع والإثراء في هذه البلاد. ودافع رجال اللاهوت، بموافقة الكنيسة، عن فكرة تحديد "أسعار عادلة" لضرورات الحياة بمقتضى القانون، وكان توماس الأكويني قد وصم السعي إلى المال، بعد الوفاء بحاجيات الإنسان، بأنه "جشع آثم"، وحكم بأن أية مقتنيات أو مدخرات فائضة عن الحاجة، "تخصص بمقتضى القانون الطبيعي لإغاثة الفقراء وإسعافهم"(12). وشارك لوثر في هذه الآراء، ولكن التطور العام للبروتستانتية تعاون، دون وعي، مع الانقلاب الرأسمالي. وألغيت عطلات القديسين، وكان من نتيجة ذلك زيادة العمل ورأس المال معاً. ولقي المذهب الديني الجديد تأييداً ودعماً من رجال الأعمال، وجزاء مجاملة مثلها، فنظر البروتستانت إلى الثروة بعين الإجلال والإكبار، وأثنوا على التدبير والاقتصاد، وشجعوا العمل على أنه فضيلة، وارتضوا الفائدة على أنها مكافأة مشروعة لمخاطرة المرء بمدخراته.
صفحة رقم : 8976
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> القانون
2- القانون
لقد كان عصراً قاسياً رهيباً، انسجمت قوانينه مع اقتصاد لا يرحم، وإملاق مخزٍ وفن كئيب، ولاهوت تخلى ربه عن المسيح وتبرأ منه.
وكانت الجريمة أمراً طبيعياً، بين سكان كتب على معظمهم الفقر والفاقة في الدنيا، واللعنة في الآخرة. وكان القتل منتشراً بكثرة في كل الطبقات. وتدلى الخنجر من حزام أي رجل ذي وزن، أما الضعفاء فقد اعتمدوا على القانون في إصلاح أخطائهم. وكانت جرائم الهوى والانفعال كثيرة جداً قدر كثرتها في روايات شكسبير. فلم يكن في زمرة الرجال أي "عطيل" أخفق في ذبح زوجته التي اشتبه في سلوكها. واعتبر المسافرون قطع الطرق أمراً مفروغاً منه أو قضية مسلماً بها، فساروا في جماعات. وكان عدد اللصوص في المدن التي لم تزل غير مضاءة ليلاً، وفيراً قدر وفرة العاهرات. وكان لزاماً أن يكون بيت الرجل حصناً منيعاً. وفي أوج عظمة فرنسوا الأول، أعملت السلب والنهب في باريس في وضح النهار عصابة من اللصوص أطلق عليها اسم "الأولاد الأشرار". ويروي لنا برانتوم، رواية غير موثوقة كما تعودنا منه، كيف أن شار التاسع رغب في أن يعرف كيف ينفذ النشالون أفانينهم، "فأمر شرطته بدعوة بعضهم إلى حفلة راقصة ملكية، وطلب بعد انتهاء الحفل أن يرى غنائمهم، فوجد أن ما جمعوه من نقود وحلى وملابس بلغ دون تباه أو تفاخر، في هذا المساء، ما قيمته عدة آلاف من الدولارات، مما ظن معه أن الملك سيموت من كثرة الضحك". ورخص لهم في الاحتفاظ بحصيلة فنهم ودراستهم، ولكنه ضمهم إلى الجيش لأن مماتهم خير من بقائهم على قيد الحياة(13). فإذا صنفنا، باعتبارها جرائم، الغش في السلع، والمغالطة التي تتسم بها حيل رجال الأعمال، وتفشى الرشوة في المحاكم، والاستيلاء على أملاك الكنيسة، وتوسيع الحدود بالغزو
صفحة رقم : 8977
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> القانون
والفتح، نقول إذا صنفنا هذه كلها في عداد الجرائم، لوجدنا أن واحداً من بين كل اثنين في أوربا لص، وقد نضفي على بعضهم الحصانة الأكليريكية، وقد نسلم بوجود حرفي أمين هنا أو هناك. فإذا أضفنا إلى ذلك شيئاً من إحراق المباني عمداً، وبعضاً من حوادث اغتصاب الفتيات، وقليلاً من الخيانة، لبدأنا ندرك المشاكل التي تواجهها قوات النظام وحماة القانون.
وقد نظمت قوات النظام والقانون هذه، لتوقيع العقاب، أكثر منها لمنع الجرائم، وكان رجال الشرطة في بعض المدن الكبرى، مثل باريس، هم حفظه الأمن، وكان لكل قسم في المدينة مراقبوه وحراسه، ولكل أبرشية شرطتها. ولكن ضبط الأمن والنظام كان في المدن سيئاً إجمالاً. وأجهد رجال الحكم أنفسهم في مكافحة الطبيعة البشرية، وأخيراً قدروا أنه من الأفضل والأقل تكلفة، الحد من الجرائم بفرض عقوبات بالغة الشدة وتنفيذها علناً أمام أعين الناس... وكان هناك عشرات من الجرائم الرئيسية: القتل، الخيانة، الهرطقة، تدنيس المقدسات والمعابد، السحر، السلب، التزوير، التزييف، التهريب، الإحراق عمداً، الحنث بالقسم، الزنى، اغتصاب الفتيات (إذا لم يسو بالزواج)، اللوط، "الانغماس في الشهوات البهيمية"، غش الموازين والمقاييس، إفساد الطعام، تخريب الممتلكات ليلاً، الهروب من السجن، الإخفاق في محاولة الانتحار، وقد تكون العقوبة ضرب العنق بدون ألم أو تعذيب نسبياً، وهذا امتياز اختص به عادة السيدات وأفاضل الرجال، أما من هم أقل مكانة فكانوا يشنقون. أما الهراطقة وقتلة الأزواج فكانوا يحرقون. أما السفاحون البارزون فكانوا يشدون أطراف الواحد منهم (يديه ورجليه) إلى أربعة خيول يجري كل منها في اتجاه مضاد حتى يتمزق جسم المجرم. واصدر هنري الثامن في 1531 قانوناً يعاقب من يدس السم، بالغلي حياً(14)، كما نفعل نحن الأكثر وداعة ورقة بالمحار أو السمك.
صفحة رقم : 8978
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> القانون
ونص قانون محلي في سالزبرج بان يحرق المزور أو يغلى حتى الموت. وأن يقطع لسان الحانث في اليمين من رقبته. أما الخادم الذي يضاجع زوجة سيده أو ابنته أو شقيقته فيضرب عنقه أو يشنق(15). وأحرقت جولين رابو في آنجرز (1531) لأنها كانت قد قتلت طفلها أثر ولادة مؤلمة(16). وهناك أيضاً، إذا صدقنا ما رواه بودن، عدة أفراد أحرقوا أحياء لتناولهم اللحم يوم الجمعة، ورفضهم الندم على ما فعلوا، أما الذين أظهروا الندم فكانت عقوبتهم مجرد الشنق(17). وكانت العادة أن تترك جثة المشنوق معلقة حتى تنهش الغربان لحمها، ليكون عظة وعبرة للأحياء، وفي الجرائم الصغرى كان يجلد الرجل أو المرأة أو تقطع إحدى يديه أو قدميه أو أذنيه، أو انفه، أو تفقأ إحدى عينيه أو كلتاهما، أو يكوى بالحديد المحمى. وهناك جنح أخف كان عقابها السجن الذي تختلف فيه ظروف المعاملة بين المجاملة والخشونة، أو تعذيب المذنب بآلة خشبية ذات ثقوب تقيد فيها رجلاه ويداه، أو إدخال أيدي المذنب ورأسه في آلة خشبية تسمى "المشهرة"، أو الجلد، أو التعذيب على كرسي التغطيس. وكان السجن وفاء للدين معروفاً شائعاً في جميع أنحاء أوربا. وبصفة عامة كان قانون العقوبات في القرن السادس عشر أشد قساوة منه في العصور الوسطى، ولقد عكس الفوضى الأخلاقية في ذاك العصر.
ولم يكن الناس يستاءون من هذه العقوبات الصارمة، بل لقد أحسوا ببعض السرور والابتهاج في مشاهدة تنفيذها وساعدوا في بعض الأحيان في التنفيذ. ولما اعترف مونتكوكولى تحت وطأة التعذيب، بأنه كان قد سمم، أو حاول أن يسمم، فرانسيس، الابن العزيز المحبوب لفرانسوا الأول، مزقت أوصاله حياً، بربط أطرافه إلى أربعة خيول جرت في أربعة اتجاهات، (ليون 1536) وقيل إن الجمهور مزق بقايا جسمه إلى قطع
صفحة رقم : 8979
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> القانون
صغيرة، وفتت أنفه، واقتلع عينيه، وحطم فكيه، ومرغ رأسه في الوحل، وجعله يموت ألف مرة قبل أن يفارق الحياة(18).
وهناك إلى جانب القوانين التي شرعت للجرائم، وضعت "القوانين الزرقاء أو قوانين المتطهرين" ضد اللهو والتسلية التي يظن أنها تجافي التقي والورع، أو البدع التي تنافي العرف بشكل حاد، فقد اقتضى القانون العرفي في العالم الكاثوليكي أكل السمك في أيام الجمعة، كما اقتضته قوانين الدولة في إنجلترا البروتستانتية في عهد إدوارد السادس دعماً لصناعة صيد الأسماك، وتدريباً للرجال على ركوب البحر من أجل الأسطول(19).وكان الميسر دائماً غير مشروع، ودائماً شائعاً مرغوباً فيه. وأمر فرانسوا، الذي عرف أساليب اللهو والتسلية، بالقبض على من يلعبون الورق أو النرد في الحانات أو نوادي الألعاب (1526) ولكنه أباح إقامة "يانصيب" عام (1539). وقلما كان القانون يعاقب على إدمان الخمر، على حين اعتبر البطالة والخمول جريمة رئيسية تقريباً. أما قوانين التبذير أو الإنفاق بسخاء- وهي التي وضعت لضبط الأغنياء الجدد الذين ينفقون إنفاقاً مريباً يدعو إلى الاشتباه، والمحافظة على فوارق الطبقات، فقد حددت هذه القوانين، الأزياء والزينة والأثاث ووجبات الطعام وواجبات الضيافة. ويقول لوثر "عندما كنت صبياً كانت الألعاب محرمة، حتى أن صانعي أوراق اللعب، والعازفين على المزمار والممثلين لم يكن يسمح لهم بشهود الأسرار المقدسة. أما من كانوا قد اشتركوا في الألعاب، أو حضروا حفلات الألعاب أو الروايات، فكانوا يجعلون هذا موضوع اعتراف أمام القسيس"(20). وعاشت هذه المحرمات بعد الإصلاح الديني. وبلغت ذروتها في أخريات القرن السادس عشر.
وثمة بعض العزاء في أن التطبيق قل أن كان على قدر صرامة القانون،
صفحة رقم : 8980
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> القانون
وكان التهرب أمراً ميسوراً. وكم من قاض أو محلف، بدافع الشفقة أو التخويف أو بفضل الرشوة- أطلق سراح كثير من الأوغاد مقابل عقوبة يسيرة أو غرامة.وكانت قوانين اللجوء إلى الكنيسة لا يزال معمولاً بها في عهد هنري الثامن. وكانت المرونة في التطبيق، على أية حال، تتوازن مع استعمال التعذيب لانتزاع الاعترافات أو البيانات. وهناك كانت قوانين هنري الثامن، على الرغم من كونها أقسى القوانين في تاريخ إنجلترا- نقول كنت متقدمة عن زمانها(21)، لأنها حرمت التعذيب إلا إذا رؤى أن للجريمة علاقة بالأمن القومي(32)، ويمكن أن يكون الإبطاء في محاكمة المتهم تعذيباً أيضاً. فقد شكا كورتيز الأسباني إلى شارل الخامس من أن المتهمين، حتى بأخطاء يسيرة، طال بقاؤهم في السجن عشر سنين أو نحوها، قبل أن يحاكموا، وأن المحاكمات قد تتلكأ لمدة عشرين عاماً(23).
وترعرع المحامون وتضاعف عددهم مع اضمحلال جماعة الكهنة، وملئوا مناصب السلطة القضائية والبيروقراطية العالية، ومثلوا الطبقات الوسطى في الجمعيات الوطنية والبرلمانات الإقليمية، وحتى الطبقة الأرستقراطية ورجال الدين اعتمدوا على المحامين في القضايا المدنية، وتكونت منهم في فرنسا طبقة جديدة: "نبلاء الرداء- الروب"، أو على حد قول رابليه الهجاء الفرنسي "القطط ذوات الفراء".واختفى القانون الكنسي في الأقطار البروتستانتية. وحلت فلسفة التشريع محل اللاهوت "كأداة للمقاومة" في الجامعات. وعاد القانون الروماني إلى الحياة في الأقطار اللاتينية، وسيطر على ألمانيا في القرن السادس عشر، وعاش القانون المحلي معه جنباً إلى جنب في فرنسا. أما في إنجلترا فقد فضلوا عملية "القانون العرفي". ولكن كان لقوانين جستنيان بعض الأثر في تشكيل وتدعيم الحكم المطلق الذي أقامه هنري الثامن. على أنه في
صفحة رقم : 8981
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> القانون
بلاط هنري الثامن نفسه، ألف قسيسه الخاص توماس ستاركي (1537) "حواراً" كانت الفكرة الأساسية فيه أن القوانين يجب أن تفرض إرادة الملك، وأن الملوك يجب أن يخضعوا للانتخاب والعزل.
لا يمكن أن يطول حكم هذه البلاد حكماً صالحاً،
أو الاحتفاظ فيها بسياسة حكيمة، طالما أنها تحكم بإرادة
فرد لم يتم اختياره بطريق الانتخاب، بل أنى إلى العرش بالتعاقب
الطبيعي. فقلما شهدنا أن الذين يأتون إلى العرش أو الممالك
عن طريق هذا التعاقب، كانوا جديرين بتولي هذه المناصب
السامية والسلطات العالية.... وأي شيء أبغض إلى الطبيعة من
أن تحكم أمة بأسرها وفق إرادة أمير؟؟ وأي شيء أكثر تنافياً
مع العقل من أن شعباً برمته يحكمه من يعوزه العقل عموماً؟؟..
وليس ثمة إنسان يستطيع أن يخلق أميراً حكيماً عاقلاً ممن ينقصه
الذكاء والحصافة بالطبيعة... ولكن في مقدور الإنسان أن
ينتخب ويختار من يتوفر فيه العقل والعدالة معاً، فينصبه
أميراً، ومن ثم يخلع الطاغية المستبد(24).
وكان موضع العجب والغرابة أن يموت ستاركي موتاً طبيعياً بعد عام واحد من كتابه "حواره" الذي لم يطبع إلا بعد 334 سنة من تدوينه.
صفحة رقم : 8982
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
3- الأخلاق
كيف كان سلوك الناس في العالم المسيحي اللاتيني؟ إنه لجدير بنا ألا يضللنا جهرهم بالإيمان بالدين، حيث لم يكن ذلك في الغالب إلا ولعاً بالشقاق والمشاكسة، أكثر منه ورعاً وتقوى. فإن نفس الشخص العنيد الذي يستطيع أن يتشدد في إيمانه يستطيع أن يكون عنيفاً كذلك في تجديفه، وإن البنات اللائى ينحنين متظاهرات بالرزانة والاحتشام أمام تماثيل العذراء،
صفحة رقم : 8983
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
أيام الأحد، ليصبغن وجناتهن بالحمرة ويتجملن طيلة الأسبوع يحدوهن الأمل، وكثيرات منهن انزلقن تحت تأثير الإغراء والغواية، لمجرد عرض فكرة الزواج. وما كان من الميسور حماية العذارى وعذرتهن وبتولتهن إلا بالتمسك بكل أهداب العرف والأخلاق والقانون والدين وسلطة الوالدين والتعليم، و "حدود للشرف". ولكن ما كان أكثر الاحتيال على الانزلاق. إن الجنود الذين عادوا من الحملات التي كان الخمر والنساء فيها عزاءهم وتسليتهم الأساسية، وجدوا من المؤلم لهم ومن العسير عليهم أن يروضوا أنفسهم على العفة والامتناع عن شرب الخمر. وانغمس الطلبة في الفسق والفجور، واحتجوا بأن الزنى خطيئة عرضية تغتفر"(25)، ويمكن أن يتجاوز عنها المشرعون المستنيرون. ولقد أعلن روبرت جرين أنه في كمبردج كان قد "أفنى زهرة شبابه بين أوغاد فاجرين لا يقلون عنه دعارة"(26). وكثيراً ما ظهر الراقصات على المسرح، او في أي مكان آخر، "عاريات تماماً"(27). ومن الواضح أن هذه بدعة من أقدم البدع في الدنيا- ولقد نظر الفنانون بازدراء إلى قواعد السلوك الجنسي ونظمه(28)، واتفق اللوردات والسيدات مع الفنانين في ذلك. وكتب برانتوم: "إن الطبقات العليا استخفت بقواعد السلوك عند العذارى وما يحوم حولهن من شكوك، وكم من آنسات أعرفهن في دنيا العظماء، لم يأخذن معهن بكارتهن إلى فراش الزوجية"(29). ولقد لحظنا نوع القصة التي بدا أن مرجريت نافار الجميلة سمعتها دون أن تحمر وجنتاها خجلاً. وكم زخرت المكتبات بكتب الأدب الخليع المكشوف، التي تدفع فيها أثمان عالية في نهم شديد(20). وكان لأرتينو (هجاء لاذع في إيطاليا في القرن الخامس عشر) في باريس شعبية قدر شعبيته في رومه"، ولم يحس رابليه، الكاهن بأنه من الجائز أن ينقص المبيع من ملحمته "جارجنتوان Gargantuan" بحشوها بكلام جعل أرتينو يسارع لإخفائه. ووجد
صفحة رقم : 8984
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
الفنانون سوقاً رائجة للصور الجنسية، بل حتى للانحرافات المصورة(31)، وكان الباعة المتجولون في الشوارع، وحماة البريد واللاعبون الجوالون يبيعون روائع الصور للتي من هذا القبيل، حتى في المعارض والأسواق الخيرية الكبرى(32). لقد وجدت كل ألوان الابتذال والانحراف لها مكاناً فسيحاً في تلك الحقبة(33). مثلما وجدته في الصفحات التي دونها برانتوم والتي تتسم بالأرستقراطية(34).
وزاد الدخل من البغاء وارتفع شأنه. وحدث في هذا العصر أن أطلق على من يمارسه "سيدات البلاط"- (في مقابل رجال البلاط). وقدم بعض القواد البغايا إلى جيوشهم، حرصاً منهم على حماية سيدات البلاد التي يحتلونها(35). ولكن نسبة الأمراض السرية ارتفعت إلى حد الوباء تقريباً. وكم أصدرت الحكومة تلو الحكومة من تشريعات ضد "بنات الهوى"التعيسات. وعلى حين أكد لوثر أن الرغبة الجنسية أمر طبيعي، نراه قد كافح للإقلال من البغاء، وبتحريض منه حرمته كثير من مدن ألمانيا اللوثرية(36). وفي 1560 جدد ميشيل دى لوبيتال مستشار فرنسا قوانين لويس التاسع ضد هذه الرذيلة، والظاهر أن أوامره نفذت.
وفي الوقت نفسه نجد أن الشهوة الحمقاء للجسد من أجل الجسد، أورثت ظمأ النفس إلى النفس، وإلى كل ما كان يزدان به التودد والحب الرومانتيكي من رقة وكياسة، وتدفقت الدماء التي تغلي في العروق في النظرات المختلسة والرسائل الغرامية والقصائد الغنائية والمقطوعات الشعرية والأناشيد والقطع الغزلية والهدايا المشجعة واللقاءات السرية. ورحبت بعض الشخصيات المهذبة أو السيدات اللعوبات من إيطاليا وكاستليوني، بالتسلي بحب أفلاطوني تكون فيه السيدة والرفيق المتودد إليها صديقين حميمين، ولكن محافظين على الطهارة والعفة، ولكن مثل هذا اللون من كبح جماح النفس لم يكن من شيمة هذا العصر، فقد كان الرجال شهوانيين بطريقة مكشوفة، وأحب النساء هذه
صفحة رقم : 8985
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
الحلة فيهم، وكثر شعر الغرام، ولكنه كان مقدمة لأفتناص النساء.
وبالنسبة للزواج، بقي الآباء واقعيين إلى حد عدم السماح للمحب باختيار رفيقة الحياة، فقد كان الزواج في شريعتهم زفافاً إلى الضيعة أو الثروة أو المكانة الاجتماعية (زواج المصلحة)، ونصح إرزم الذي كان شديد الإحساس بمفاتن المرأة، لا بالزواج، نصح الصغار بالزواج ممن يختاره الكبار، على أن يتركوا الحب ينمو بالمزاملة والمرافقة أفضل من أن يذبل ويذوي بإشباع الشهوة(37)، واتفق رابليه معه في هذا الرأي(38). وعلى الرغم من هؤلاء الثقاة، ثار عدد متزايد من الشباب، مثل جان د ألبرت، على الزيجات المبنية على الثروات والعقارات الثابتة. ونعي روجر أسكام معلم الملكة اليصابات: "أن عهدنا بعيد جداً عن النظام والامتثال القديمين، حتى أن الشبان، بل والبنات أنفسهن- اصبح الجميع يجرءون على الزواج رغم أنف الأب والأم والنظام السليم وكل شيء(39). وفزع لوثر حين علم بأن ابن ميلانكتون خطب لنفسه عروساً دون استشارة أبيه، وأن أحد صغار القضاة في وتنبرج أعلن صحة هذه الخطبة، ورأى المصلح الديني (لوثر) أن هذا سيسيء حتماً إلى سمعة وتنبرج. وفي 22 يناير 1544 كتب في الجامعة:
إن لدينا عدداً وفيراً من الشبان من مختلف البلاد، وان سباق
البنات ليشتد، وأنهن ليجرين وراء الرفاق في حجراتهم وقاعاتهم
وحيثما استطعن إليهم سبيلاً، ليعرضن عليهم حبهن الطليق. ولقد
سمعت أن كثيراً من الآباء أمروا أبنائهم... بالعودة إلى بيوتهم...
قائلين إننا نعلق الزوجات حول رقاب أبنائهم... وفي يوم الأحد
التالي ألقيت عظة قوية أدعو الرجال إلى اتباع السبيل القويم والقاعدة
اللتين وجدتا منذ بدء الخليقة... أعني أن يزوج الآباء أبنائهم
بعضهم من بعض بروية وحسن نية، دون أن يرتبط الأبناء بارتباط
صفحة رقم : 8986
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
تمهيدي.. فإن مثل هذه الارتباطات من ابتداع البابا الممقوت،
أوحى بها إليه الشيطان ليحطم ويمزق سلطة الآباء التي منحها الله
إياهم وأوصى بها لهم بصفة جدية(40).
وكان يمكن تنظيم عقود الزواج للأولاد والبنات ابتداء من سن الثالثة، ولكن كان من الميسور فسخها إذا لم تتحقق. وكانت السن الشرعية للزواج الرابعة عشرة للولد والثانية عشرة للبنت. وكان من المستطاع التجاوز عن العلاقات الجنسية بعد الخطبة وقبل الزفاف، وحتى قبل الخطبة، في السويد وفي ويلز، كما كان في بعض المستعمرات الأمريكية فيما بعد، وكان يسمح للحبيبين بالاشتراك في فراش واحد دون أن يخلعا ملابسهما، ولكنهما كانا يذكران بالاحتفاظ بملاءة بينهما حتى لا يلتصق جسماهما(41). ولم يعد الزواج في البلاد البروتستانتية سراً مقدساً، وما حل عام 1580 حتى بات الزواج المدني يزاحم الزواج على يدي الكاهن. وارتأى لوثر وهنري الثامن وإرزم والبابا كليمنت السابع أن الزواج من امرأتين يمكن أن يرخص فيه تحت شروط معينة، وخاصة إذا كان بديلاً للطلاق. واتجه رجال الدين من البروتستانت شيئاً فشيئاً إلى إباحة الطلاق، وكان ذلك في أول الأمر بسبب الزنى فحسب، وكانت هذه الجريمة أكثر شيوعاً في فرنسا، على الرغم من عادة قتل الزوجة الزانية هناك. وكان الحب غير المشروع جزءاً من الحياة العادية للسيدات الفرنسيات ذوات المركز الاجتماعي المرموق(42). وكان البيت الذي يضم زوجاً وزوجتين أمراً مألوفاً كثيراً في فرنسا، مثال ذلك البيت الذي كان يضم هنري الثالث وكاترين دى مدينتشي وديان دى بواتييه، وكانت الزوجة الشرعية (المعقود عليها) ترتضي هذا الوضع في كياسة مرة ساخرة، كما يحدث أحياناً في فرنسا اليوم.
وباستثناء الطبقة الأرستقراطية، كانت المرأة قبل الزواج معبودة
صفحة رقم : 8987
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
وألهه، وبعده خادمه. وكانت الزوجة تقوم بواجبات الأمومة خير قيام أدون صعوبة أو تردد، وتبتهج وتفاخر بكثرة الأولاد، وتحتال على أن تسوس رب البيت. وكان النساء قويات معتادات على العمل الشاق من طلوع الشمس إلى مغربها، ويقمن بحياكة معظم الملابس اللازمة لأسراتهن. وكن في بعض الأحيان يعملن مع المقاولين الرأسماليين. وكان النول جزءاً أساسياً من البيت. وفي إنجلترا كان معظم النساء غير المتزوجات غزالات، أما سيدات البلاط الفرنسي فكن شيئاً آخر، ولقد شجعهن فرانسوا الأول على تجميل أجسامهن وملابسهن. واستطعن في بعض الأحيان تحويل السياسة الوطنية بفعل "القذائف الموجهة" التي تطلقها مفاتنهن. وورد من إيطاليا على فرنسا، حركة نسائية، ولكنها لم تلبث أن خمدت، لأن النساء أدركن أن قوتهن وشهرتهن شيء مستقل عن السياسة والقانون. وكان كثير من نساء الطبقة العليا على درجة عالية من الثقافة. وفي باريس، وفي غيرها، بدأ الصالون الفرنسي آنذاك يتشكل، حيث جعلت السيدات المثقفات ذوات اليسار من بيوتهن ملتقى رجال الدولة والشعراء والفنانين والعلماء والأساقفة والفلاسفة، وثمة مجموعة أخرى من السيدات الفرنسيات بقين متمسكات بأهداب الفضيلة، في هدوء، وسط العاصفة الهوجاء- عاصفة الجنس- مثل آن أوف فرانس، وآن أوف برتياني، وكلود، ورينيه. وبصفة عامة، فإن الإصلاح الديني الذي نبت في تربة تيوتونية (ألمانيا وشمال أوربا) عمل على تدعيم فكرة المجتمع الأبوي وسلطان الأب على المرأة والأسرة. كما وضع الإصلاح حداً لتمجيد المرأة في عصر النهضة، بوصفها نموذجاً للجمال وعاملة على تمدين الرجل، كما أدان الكنيسة بالتساهل في الانحرافات الجنسية، ومهد الطريق بعد موت لوثر لجفاء المتطهرين (الحركة البيوريتانية).
وتدهورت الأخلاق الاجتماعية بنشوء الروح التجارية وشدة الاهتمام بالربح، والإحجام المؤقت عن أعمال البر والإحسان والصدقات. ووجد
صفحة رقم : 8988
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
الخداع والتضليل والخيانة- وهي أمور طبيعية في الإنسان- أساليب وفرصاً جديدة، منذ حلت اقتصاديات المال محل النظام الإقطاعي، ومنذ تملك الأغنياء الجدد السندات المالية أكثر مما تملكوا الأرض، وكانوا قليلاً ما يرون الأفراد الذين أفادوا من كدهم وعرقهم، فأن هؤلاء الأغنياء لم يكن لديهم من تقاليد المسئولية والكرم ما كان قد ذهب وولى مع الثروة القائمة على امتلاك الأرض(43). وكانت التجارة والصناعة في العصور الوسطى قد ارتضتا الضوابط الأخلاقية المتمثلة في توجيهات النقابات والمجالس المحلية والكنيسة، ولكن الرأسمالية الجديدة رفضت كل هذه القيود، وجرت الناس إلى منافسة عنيفة طوحت بالقوانين القديمة عرض الحائط(44). وحلت الحيل التجارية محل الموسومة بالتقي والورع. وضجت نشرات الإعلان في ذاك الزمان بالتحذيرات من غش الأطعمة وسائر المنتجات بالجملة. وشكا مجلس الديت في انسبروك 1518، من أن المستوردين "يضيفون الآجر المسحوق إلى الزنجبيل، ويخلطون الفلفل بمواد غير صحية"(45).ولحظ لوثر أن التجار "عرفوا كيف يحتالون على زيادة وزن التوابل- مثل الفلفل والزنجبيل والزعفران- بوضعها في أقبية رطبة، وأنه ليس ثمة سلعة واحدة لا يستطيعون أن يجنوا من ورائها أرباحاً طائلة بالغش في الكيل أو العد أو الوزن أو استحداث ألوان مصطنعة... وليس ثمة نهاية لحيلهم"(46). ووصم سناتو البندقية حمولة سفينة من الأصواف الإنجليزية بأنها مغشوشة من حيث الوزن والصنع والحجم(47).
وكان الناس في الأقطار اللاتينية لا يزالون يقبلون على أعمال البر والإحسان والصدقات بصدور منشرحة، كما كان الحال في العصور الوسطى، وأنفقت الأسرات النبيلة جزءاً كبيراً من دخولها في الهبات والصدقات(48). وورثت ليون عن القرن الخامس عشر منظمة ضخمة للصدقات المحلية أمدها المواطنون بالأموال بسخاء عن طيب خاطر(49). أما
صفحة رقم : 8989
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
في ألمانيا وإنجلترا فلم تكن الأيدي مبسوطة إلى هذا الحد. وبذل لوثر كل ما في وسعه ليعيد نظام الصدقات الذي كان قد اختل بمصادرة الأمراء لأملاك الأديرة، ولكنه اعترف بأن جهوده لم تكلل بالنجاح. ورثى "لأن الناس في عهد البابوية كانوا محسنين وتصدقوا عن طيب خاطر(50)، ولكنهم في ظل شريعة الإنجيل لم يعودوا يعطون شيئاً، وبات كل فرد يسلب الآخر... ولن يتصدق أحد بفلس واحد"(51). ونقل إلينا لاتيمر (من رجال الإصلاح الديني البروتستانتي في إنجلترا في القرن السادس عشر) رواية مشابهة: " لم يقس قلب لندن قط كما هو حالها الآن، فإذا مات أحد الأغنياء في الأزمنة الغابرة، كان ذووه يرصدون مبالغ كبيرة من المال لإغاثة الفقراء... أما الآن فقد تجمدت المروءة وانقضى عهدها(52). وأبلغ الكاردينال بول لندن، أن مدينتين في إيطاليا تصدقتا بأكثر مما تصدقت به إنجلترا بأسرها(53). وانتهى فرود إلى أنه "لما انتشر الصدق، تقلص البر والعدل في إنجلترا"(54). ويحتمل أنها ليست البروتستانتية، ولكنها الروح التجارية والكفر هما اللذان انقضا الصدقات والإحسان.
واشتد الفقر حتى أصبح يشكل أزمة اجتماعية، فإن المستأجرون المطرودين والعمال المهرة العاطلين والجنود المسرحين هاموا على وجوههم في الطرقات أو الأكواخ المصنوعة من القش يسألون الناس أو يسلبونهم ليعيشوا. وقدر عدد المعوزين في أوجزبرج بسدس السكان وفي همبرج بخمسهم، وفي لندن بربعهم(55). وصاح المصلح الديني توماس لفر يوما "يا رب يا رحيم، ما هذا العدد الضخم من الفقراء والضعفاء والعرج والعمى والمقعدين والمرضى... والذين يرقدون أو يزحفون في الشوارع الموحلة"(56) وكان لوثر الذي امتلأ قلبه بالرحمة قدر ما اتسم لسانه بالقسوة، من أول من أدركوا أن الدولة يجب أن تتولى عن الكنيسة رعاية المعوزين وإنقاذهم. وفي حديثه "إلى أشراف المسيحية في الأمة الألمانية" (1520) اقترح
صفحة رقم : 8990
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
أن تتكفل كل مدينة بالمعوزين فيها. وفي أثناء تغيبه في ورتبرج، نظم أتباعه المتطرفون في وتنبرج- صندوقاً جماعياً لرعاية الأيتام، ودفع مهور البنات الفقيرات، وترتيب منح دراسية للطلبة المحتاجين، وإقراض الأموال للأسرات التي أخنى عليها الدهر، وفي سنة 1525 اصدر لوثر توجيهاً بإنشاء صندوق عام. حث فيه المواطنين ورجال الدين في كل قسم على أن يفرضوا على أنفسهم ضريبة يسهمون بها في تكوين رصيد يقدمون منه قروضاً بدون فائدة للمحتاجين أو غير القادرين على العمل(57). وفي 1522 عينت أوجزبرج ستة "حماة الفقراء" ليشرفوا على توزيع المساعدات عليهم، وتبعتها نورمبرج في الحال، ثم ستراسبورج ويرسلاو (1523)، وراتسبون ومجدبرج (1524).
وفي تلك السنة كتب أسباني من دعاة الحركة الإنسانية، جوان لويس فيفز لمجلس مدينة بروجز نشرة عنوانها:"إعانة الفقراء". وقد لحظ انتشار الفقر وسط نمو الثروة، وأنذر بأن الإفراط في عدم المساواة في الملكية قد يولد ثورة مدمرة. وكتب يقول: "كما أنه من الخزي والعار على رب الأسرة في بيته الهانئ أن يسمح لفرد فيه أن يعاني مهانة العري أو الرأسمال البالية، فإنه كذلك ليس من اللائق بولاة الأمور في المدينة أن يحتملوا حالة مواطنين يتضورون جوعاً وبؤساً"(58).ووافق فيفز على أن يجبر على العمل كل قادر عليه، وألا يسمح لأحد بالتسول، ولكن ما دام كثيرون غير قادرين على العمل فعلاً، فيجب أن يدبر لهم مأوى في الملاجئ أو المستشفيات أو المدارس التي تنفق عليها البلد "على أن يقدم لهم الطعام والرعاية الطبية والتعليم الابتدائي مجاناً، ويجب أن تتخذ تدابير خاصة للمتخلفين عقلياً. وجمع ايبر Ypres بين أفكار فيفز والسوابق الألمانية في هذا المجال، ونظم في 1525 صندوقاً جماعياً وحد أموال
صفحة رقم : 8991
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
الصدقات في رصيد واحد ووكل توزيعها إلى رياسة واحدة. وطلب شارل الخامس (1531) نسخة من خطة ايبر. وأرسل هنري الثامن توجيهاً مماثلاً إلى أبرشبات إنجلترا (1536). واحتفظت الكنيسة في البلاد الكاثوليكية بإرادة أموال الصدقات.
وبقي الخلق السياسي مطبوعاً بالمكيافيلية. واعتبر نظام الجاسوسية أمراً مسلماً به. وكان من المتوقع أن يبلغ جواسيس هنري الثامن في روما عن أخطر محادثات الفاتيكان وأكثرها سرية(59).وكانت الرشوة عملية تقليدية، وتدفقت في سخاء أكثر بعد تدفق الذهب من أمريكا. وتسابقت الحكومات على نقض المعاهدات. ونافست الأساطيل المسيحية والتركية بعضها بعضاً في أعمال القرصنة. وبعد تدهور نظام الفروسية انحطت أخلاقيات الحرب إلى ما يشبه الهمجية ونهبت أو أحرقت المدن التي كانت قد أخفقت في مقاومة الحصار، وذبح الجنود المستسلمون أو استبعدوا حتى تدفع عنهم الفدية. أما القوانين والمجاملات الدولية التي كانت سائدة في حالة خضوع الملوك أحياناً لتحكيم البابوات، فقد اختفت في فوضى التوسع القومي والعداء الديني. واعترف المسيحيون ببعض الضوابط الخلقية تجاه غير المسيحيين، وبادلهم الأتراك نفس المعاملة. واسر البرتغاليون زنوج أفريقية واستعبدوهم. ونهب الغزاة الأسبان المواطنين الأمريكيين واستعبدوهم وقتلوهم، دون أن يخفوا عزمهم الأكيد على تحويل الدنيا الجديدة إلى المسيحية، وكانت حياة الهنود الحمر في أمريكا في ظل الحكم الأسباني مريرة تعيسة إلى حد انتحار الآلاف منهم(60)، بل حتى في العالم المسيحي نفسه في ذاك العصر كثرت حوادث الانتحار إلى درجة مروعة(61). واغتفر بعض دعاة الحركة الإسبانية إهلاك النفس. ولكن الكنيسة حكمت بأنه يؤدي إلى الجحيم مباشرة، ومن ثم يكون المنتحر كالمستجير من الرمضاء بالنار.
إن كل ما في الإصلاح الديني، ولو أنه في نهاية الأمر أصلح من
صفحة رقم : 8992
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
الأخلاق في أوربا- دمر الفضائل العلمانية. ولقد نعي بيركهيمر وهانز ساكس- وكلاهما متعاطف مع لوثر- أن فوضى السلوك العشوائي غير المنظم قد سادت بعد انهيار السلطة الدينية(62). وكان لوثر كعادته، صريحاً جداً في هذه النقطة:
كلما تقدمنا إلى الأمام، ازداد العالم سوءاً.... فمن الواضح جداً كيف أن الناس أصبحوا نهمين قساة بذيئين وقحين شريرين أكثر بكثير مما كانوا عليه في ظل البابوية(63).. فنحن الألمان اليوم موضع سخرية كل الأقوام والشعوب ووصمة عار لهم، ونحن نعتبر قطيعاً مخزياً كئيباً من الخنازير.... نحن نكذب ونسرق، ونفرط في الطعام والشراب، وننغمس في كل رذيلة(64)... وإن الشكوى عامة من أن شبان اليوم منحلون فوضويون تماماً، وأنهم لا يستبيحون لأنفسهم أن يزدادوا علماً ومعرفة. ويروح نساء وتنبرج وبناتها ويجئن في كل مكان عاريات، وليس هناك من يعاقبهن أو يصحح أخطاءهن، ساخرات من "كلمة الرب" هازئات بها(65).
ووصف واعظ لوثري، أندريا مسكولوس، عصره (1560) بأنه فاسق غير أخلاقي، إذا قورن بالألمان في القرن الخامس عشر(66). واتفق معه في ذلك كثير من زعماء البروتستانت(67). وتأوه كلفن قائلاً "إن المستقبل يفزعني، ولست أجرؤ على التفكير فيه. أن الهمجية سوف تجرفنا إلا إذا هبط الرب من السماء(68). وأنا لنسمع من هذا القبيل عن اسكتلندة وإنجلترا(69). ولخص فرود، وهو النصير المتحمس لهنري الثامن، الموضوع باعتدال وإنصاف، فقال:
إن الحركة التي بدأها هنري الثامن، بالحكم عليها بنتائجها الحالية
صفحة رقم : 8993
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
(1550) أسلمت البلاد آخر الأمر إلى مجرد مغامرين. إن الناس
استبدلوا بخرافة من أكبر مساوئها أنها فرضت ظلاً من الاحترام
والطاعة، خرافة أخرى، مزجت الطاعة بإيمان متسم بطابع
المضاربة. وتحت هذا التأثير المميت، بدأت تختفي، لا أسمى فضائل
التضحية بالنفس فحسب، بل أبسط واجبات الاستقامة والأمانة
والفضيلة والأخلاق. وأصيبت الحياة الخاصة بدنس بدا لخلاعة
رجال الدين الكاثوليك أنه البراءة والطهر... ومن بين الفئة
الصالحة التي لم يمسها الدنس، لا يزال من الممكن العثور على
أفاضلهم في جانب الإصلاح(70).
وقد لا يكون من اليسير أن تنسب هذا الانحطاط الخلقي في ألمانيا وإنجلترا، إلى فك لوثر لقيود الجنس، وازدرائه "للأعمال الصالحة"، أو إلى المثل السيئ الذي ضربه هنري الثامن بانغماسه في المغامرات الجنسية وقسوته البالغة، فقد ساد فسوق مشابه- ومن بعض النواحي أكثر انطلاقاً- في إيطاليا البابوية في ظل البابوات في عصر النهضة، وفي فرنسا الكاثوليكية تحت حكم فرانسوا الأول. وربما كان السبب الرئيسي في انحلال الخلق في أوربا الغربية هو نمو الثروة. وثمة سبب أصيل يدعم هذا، هو تزعزع الإيمان، لا في المبادئ الكاثوليكية فحسب، بل في أساسيات وأصول العقيدة المسيحية كذلك. فقد رثى أندريا مسكولوس "أنه ليس هناك من يعبأ بالجنة أو الجحيم، ولا يفكر أحد في الله أو في الشيطان"(71). وينبغي في مثل هذه التصريحات الصادرة عن الزعماء الدينيين، أن تتجاوز عن مبالغات المصلحين اليائسين من ضآلة التحسينات التي أدخلتها إصلاحاتهم الدينية على الحياة الأخلاقية. وإذا كان لنا أن نصدق الوعاظ، فإن الناس لم يكونوا أفضل بكثير فيما مضى، وقد لا يكونون أفضل بكثير في القرون التالية. ففي مقدورنا أن نتبين في عصرنا هذا كل خطايا القرن السادس عشر وآثامه،
صفحة رقم : 8994
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
وأن نتبين خطايانا وآثامنا في كل ما اقترفه الناس في ذاك القرن، طبقاً لما تيسر لديهم من وسائل وأساليب.
وأنا لنجد في نفس الوقت أن الكاثوليكية والبروتستانتية كلتيهما، كانتا قد أقامتا ودعمتا أساسين لانبعاث الروح المعنوية والأخلاقية: تهذيب سلوك رجال الإكليروس بالزواج أو بالزهد والتعفف، والتوكيد على أن البيت هو الملاذ الأخير للإيمان والحشمة واللياقة. وقد يأتي اليوم حين يرجع الرجال والنساء بأبصارهم إلى الوراء، في حسد خفي، إلى القرن السادس عشر، حيث كان أسلافهم أشراراً وأحراراً إلى الحد الذي كانوا عليه يومذاك.
صفحة رقم : 8995
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> آداب السلوك
4- آداب السلوك
كان الحكم على الناس آنذاك، مثل ما هو حادث اليوم، بعادتهم أكثر منه بأخلاقهم. لقد تجاوز الناس، بقدر أكبر من طيب النفس، عن الخطايا التي ارتكبت بأقل قدر من الوحشية. وأعظم قدر من الكياسة. وفي هذا المجال كانت إيطاليا هي الرائدة، شأنها في كل شيء باستثناء المدفعية واللاهوت. وكان الناس شمال جبال الألب، فيما عدا القشرة الرقيقة الخارجية في سكان فرنسا وإنجلترا، أفظاظاً غلاظاً، إذا قورنوا بالإيطاليين في هذا، كثير من الفرنسيين الذين سحرت ألبابهم فتوحاتهم في إيطاليا في ميادين الحرب وآداب السلوك، ولكن المتبربرين الهمجيين كانوا يتوقون إلى التمدن وارتقاء سلم الحضارة. وحذا رجال البلاط وسيداته والشعراء والمفسدون في الأرض من الفرنسيين حذو الإيطاليين ونهجوا نهجهم. وسار الإنجليز الهوينا خلفهم. وترجم كتاب كاستليونى " رجل البلاط" (1528) إلى الفرنسية في 1537، وإلى الإنجليزية في 1561، واختلفت الدوائر الأدبية
صفحة رقم : 8996
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> آداب السلوك
على تعريف الرجل المهذب. ولقيت كتيبات آداب السلوك رواجاً كبيراً. ولقد ألف إرزم واحداً منها. وأصبح الحديث فناً في فرنسا، كما كان فيما بعد في حانة مرميد في لندن (كان يجتمع فيها بن جونسون وشكسبير وغيرهما من الكتب. في عصر اليزابيث). وعبرت مباريات الأجوبة البارعة السريعة جبال الألب من إيطاليا حول الوقت الذي انتقل فيه كذلك فن المبارزة بالسيف. وكان الحديث أكثر صقلاً وتهذيباً في فرنسا عنه في ألمانيا. وكان الألمان يسحقون الرجل بالفكاهة، أما الفرنسيون فكانوا يخزونه في ذكاء وفطنة. وكانت حرية الكلام وسيطاً أساسياً في ذاك العصر.
ومنذ كان تحسين المظهر الخارجي أيسر من تهذيب النفس، فإن الطبقات الصاعدة في المدنيات الناشئة في الشمال أولت ملابسها قسطاً أكبر من العناية. وارتدى عامة الناس ملابس بسيطة للغاية - كما نرى في جماهير بروجل (مصور فلمنكي): قبعات على شكل الفنجان، وبلوزات فضفاضة ذوات أكمام منتفخة، وسراويل (بنطلونات) ضيقة تصل إلى الأحذية المريحة، ويتركز هذا التشكيل البشع على حقيبة قبيحة، مزدانة بزخارف براقة، تتدلى أمام انفراج ساقي الرجل. أما الرجال الموسرون في ألمانيا فقد غلفوا أجسامهم الجبارة في طيات كثيرة فضفاضة من القماش، تعلوها قبعات عريضة تبدو فوق الرأس وكأنها فطيرة ذات مصاطب أو طبقات. أما نساء ألمانيا، فالظاهر أنه كان محرماً عليهن أن يلبسن إلا زي مديرات المنزل أو الطباخات. وفي إنجلترا أيضاً ملابس الرجال أجمل وأكثر بهجة من ملابس النساء، حتى جاءت الملكة اليزابيث فبزتهم بما ارتدته من أزياء لا يحصها العد. وجرى هنري الثامن شوطاً بعيداً في الإسراف في ملابسه، وكان يجملها وزينها بالألوان والحلي والأنسجة الثمينة. ويقول هولنشد إن دوق بكنجهام كان يرتدي- في زواج الأمير آثر من كاترين أوف أراجون- عباءة
صفحة رقم : 8997
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> آداب السلوك
من شغل الإبرة، مغطاة بفراء النمور، قدرت بنحو 1500 جنيه (150.000 دولار؟)، وحرمت القوانين على أي رجل دون رتبة فارس، أن يقلد فخامة الملابس التي يرتديها من هم أعلى منه مكانة. وغطت الإنجليزيات أجسامهن بالملابس الضيقة من العنق إلى أخمص القدم، ذات أكمام تصل إلى المعصم، مع زركشة بالفراء على حروف الثياب، وأحزمة مثبتة بحلي معدنية، وقلادة أو مسبحة، وكانت النساء بصفة عامة تلبس من المجوهرات أقل مما يلبس الرجال.
وفي عهد فرانسوا الأول الذي كان يقدر الشيء حق قدره، فتحت النساء الفرنسيات الجزء الأعلى من ثيابهن وكشفن عن صدورهن المنتفخة، وشققن أرديتهن إلى آخر فقرة من ظهورهن. وإذا لم ينتفخ الصدر الطبيعي إلى حد كاف، وضعن عليه مشداً يجعله عالياً منتفخاً(72)، وضيقت الملبس وأحكمت فيما تحت الثديين، وضغطت على الخصر(73)، مع أكمام منتفخة، وانتشرت من التنورة أسلاك من الخلف وعلى الحافة. واضطرتهن الأحذية العالية الكعوب إلى المشية المتبخترة الرشيقة. وكان يباح للمرأة ذات المكانة العالية - وليس لغيرها- أن يكون لثوبها ذيل، وكلما ارتفع قدرها زاد طول الذيل. وقد يطول الذيل، إذا سمحت مرتبة الشرف، إلى سبع ياردات، وكان يمشيٍ وراء السيدة وصيفة أو خادم ليمسك به ويرفعه عن الأرض. وفي طراز آخر الأزياء قد تغطي السيدة رقبتها بطوق أحكم شده بأسلاك. وعذب الرجال أنفسهم بشيء غريب مماثل في المناسبات الرسمية، وفي 1535 لحظ سرفيتس "أنه لنساء أسبانيا عادة قد يظن في فرنسا أنها همجية، تلك هي أنهن كن يثقبن آذانهن ويعلقن فيها أقراطاً ذهبية غالباً ما تكون مرصعة بالأحجار الكريمة"(74). وما جاءت سنة 1550 حتى كانت نساء تلبس الأقراط، بل حتى الرجال كذلك(75). واستمرت الجواهر والحلي
صفحة رقم : 8998
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> آداب السلوك
محتفظة سلطانها منذ زمن سحيق. وارتدى الرجال في فرنسا قمصاناً من الحرير مع صادرات من القطيفة، وحشوا أكتافهم، وكسوا أرجلهم بسراويل قصيرة ضيقة، وحافظوا على رجولتهم بحقيبة منضدة بالأشرطة أو الجواهر أحيانا. وعلى النقيض من عادات القرن الخامس عشر قصروا شعر الرأس وأرخوا لحاهم. أما النساء فقد احتفظن بشعرهن في تصفيفات متنوعة لا تشجع على وصفها. فكان مضفراً معقوصاً ملفوفاً في شباك، مليئاً بالضفائر العارية، مزداناً بالأزهار، براقاً بالجواهر، متضمخا بالزيوت العطرية، مصبوغاً ليتمشى مع الأناقة وأسلوب العصر، ومرفوعاً على شكل أبراج أو أهرام فوق الرأس. وكان من غير الممكن أن تستغني السيدة الأنيقة عن الحلاق في هذا الزمان، فإن تقدم العمر بدا آنذاك قدراً محتوماً أسوأ من الموت.
وإلى أي حد كانت الأجسام نظيفة تحت هذه اللفائف والزخارف؟ لقد تحدث كتاب من القرن السادس عشر عنوانه "مقدمة للسيدات الشابات" عن "نساء لم يعنين قط بنظافة أجسامهن، اللهم إلا الأجزاء التي يمكن أن تقع عليها العين... أما ما تحت قمصانهن الكتانية فقد بقي قذراً(76). وثمة مثل ساخر يقول بأن العاهرات هن الوحيدات اللائى غسلن أكثر من وجوههن وأيديهن(77). وربما ازدادت النظافة بازدياد الفسق والفجور. فقد كشفت النساء من أجسامهن عن أجزاء أكثر من ذي قبل، وجعلنها نهباً لأنظار الكثير من الناس. ومن ثم اتسع نطاق النظافة. وأصبحت آنذاك كثرة الاستحمام، مع تفضيل الماء المعطر، وخاصة في فرنسا، جزءاً من العادات الطيبة. وقل عدد الحمامات العامة يتضاعف عدد الحمامات الخاصة، ولم تكن هذه عادة مزودة بالمياه الجارية، بل اعتمد فيها على السلطانية (الكوز) والحوض. وظلت شائعة مستحبة في القرن
صفحة رقم : 8999
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> آداب السلوك
السادس عشر ، حمامات البخار التي كانت قد جاءت إلى أوربا الغربية بعودة الصليبيين إليها في القرون الثالث عشر.
وفي البلاد البروتستانتية حل البيت تقريباً محل الكنيسة، كمركز للعبادة والصلوات. وأدى الوالد مهمة الكاهن في الصلوات اليومية وتلاوة الإنجيل والترانيم، وعلمت الأم أبناءها مبادئ العقيدة الدينية. وفي الطبقات المتوسطة سارت الرفاهية جنباً إلى جنب مع التقوى والتدين. فهذا هو العصر الذي تطورت فيه المنضدة ذات الحوامل والألواح الخشبية الملتحمة بعضها ببعض إلى وحدة ذات أرجل متينة، وتطور المقعد الخشبي والوسائد إلى كرسي مريح "منجد" وسرير منقوش ذي أربعة قوائم، فوقه مظلة - وأصبح كل أولئك رمزاً للاستقرار الأدبي واليسار المالي. وصنع الأثاث والأطباق المعدنية محل الأطباق الخشبية، كما حلت الملاعق المصنوعة من القصدير أو الفضة محل تلك المصنوعة من الخشب. وكانت البيوت واسعة فسيحة لأن الأسرات كانت كبيرة، لأن النساء كن يلدن في كل عام تقريباً، ولكن دون جدوى، لأن نسبة الوفيات بين الأطفال كانت عالية. وكان جون كولت أكبر اثنين وعشرين طفلاً. وحين بلغ سن الثانية والثلاثين، كان كل أخوته قد ماتوا. وكان لأنطون كوبرجر صاحب المطبعة في نورمبرج - خمسة وعشرون طفلاً، وقد عمر هو بعد موت اثني عشر منهم، وكان ديرر واحداً من ثمانية عشر طفلاً، يبدو أن ثلاثة منهم فقط بلغوا سن الرشد(78). واستكمالاً للأسرة كانت هناك حيوانات منزلية مدللة كثيرة قدر كثرة عدد الأولاد تقريباً.وكانت الببغاوات قد جاءت من جزر أليفة أثيرة في البيت(79). وكان هناك كثير من الكتب التي تعلم النساء والأطفال طرق العناية بالكلاب والطيور وتربيتها.
صفحة رقم : 9000
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> آداب السلوك
وكانت وجبات الطعام هائلة. ولم تكن الخضراوات مستساغة، بل كان الناس يزدرونها، ثم أقبلوا عليها شيئاً فشيئاً. وشاع آنذاك أكل الكرنب والجزر والراوند والبطاطس والفول والفريز. وكانت الأكلة الرئيسية في الساعة الحادية عشرة صباحاً وتأخر العشاء إلى السابعة مساء، وكلما سمت الطبقة تأخرت ساعة تتناول العشاء. وكانت الجعة والنبيذ هما المشروبان الرئيسيان في كل وجبات الطعام حتى الإفطار. وكان من طرق توماس مور إلى الشهرة أنه تناول الماء بديلاً عنهما. وحوالي 1550 استحضر الأسبان الشكولاته (الكاكاو) من المكسيك، ولم يكن البن قد تقاطر بعد من بلاد العرب إلى أوربا الغربية. وفي 1512 حددت أسرة دوق نور ثمبرلاند ربع جالون من الجعة لكل فرد فيها في كل وجبة طعام حتى للأولاد في سن الثامنة. وكان استهلاك الجعة في كوفنتري في القرن السادس عشر ربع جالون يومياً لكل رجل وامرأة وولد(80). وقد اشتهرت مصانع الجعة في ميونيخ منذ القرن الرابع عشر(81). وكان شرب الخمر شائعاً في إنجلترا حتى جاءت "ماري اللعينة" (ماري تيودور 1516-1558) فاستهجنته. ولكنه ظل مألوفاً في الدنيا، وتناول الفرنسيون الخمر في اتزان اكثر، لأن الجو عندهم لم يكن بارداً إلى هذا الحد.
وعلى الرغم من الفقر والظلم، استمر الناس يتمتعون بكثير من نعم الحياة، وحتى الفقراء أنفسهم كان لهم حدائق، وأصبحت زهرة التيوليب هواية وطنية في هولندة، وكان قد أحضرها لأول مرة حوالي 1550 بوسبك سفير الإمبراطور في القسطنطينية. وكانت البيوت الريفية نمطاً ساراً في إنجلترا وفرنسا. وظل القرويون يحتفلون بأعيادهم الموسمية في عيد الربيع (أول مايو)، عيد الحصاد، عيد كل القديسين، وغيرها كثير، واحتفل الملوك بعيد الربيع وتوجوا أنفسهم بأكاليل
صفحة رقم : 9001
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> آداب السلوك
الزهور، وكان فيما يتسلى به سراة القوم أحياناً مهرجانات مثيرة للفقراء، من ذلك عندما دخل هنري الثامن ليون في احتفال مهيب في 1548، وربما كان جمهور الشعب يشهد على مسافة معقولة، اللوردات في مباريات السيوف - وقد بطلت هذه الرياضة بعد موت هنري الثاني. وأصبحت المواكب الدينية أكثر وثنية، عند اقتراب عهد هنري الثامن من عصر إليزابث. وفي القارة أباحت الأخلاقيات المتساهلة للنساء العرايا أن يمثلن بعض الشخصيات التاريخية أو الأسطورية، واعترف ديرر بأنه هو نفسه افتتن بمثل هذا العرض في أنتورب 1521(82).
وكانت هناك الألعاب. وقد أفرد رابليه فصلاً لتسجيلها، فعلية أو خيالية، وصور بروجل نحو مائة منها في إحدى لوحاته. وكان في تعذيب الدببة ومصارعة الثيران الديكة تسلية للجمهور، وروضت كرة القدم ولعبة الكرات الخشبية والملاكمة والمصارعة شباب العامة، وطردت عنهم الأرواح الشريرة، وكان في باريس وحدها، للطبقة الأرستقراطية، فيها 1502 من الملاعب للتنس، في القرن السادس عشر(83). ومارست كل الطبقات الصيد، ولعبت الميسر ولعبت بعض السيدات النرد. ولعب بعض الأساقفة الورق بنقود(84). وتجول الممثلون المهرجون والبهلوانات واللاعبون في الريف، وعرضوا أفانينهم وألعابهم على اللوردات نظير جعل يتقاضونه. وفي داخل البيوت لعب الناس الورق والشطرنج والنرد وعشرات من الألعاب غيرها، وكان الرقص أحب أنواع التسلية. ويقول رابليه "وذهب الجميع بعد العشاء إلى الأبكة، الممتلئة بالصفصاف، يلاحق بعضهم بعضاً، وهناك على العشب الأخضر، على الأنغام الشجية من المزمار وموسيقى القرب رقص الجميع برشاقة، فكانت رياضة لطيفة سماوية يلذ للإنسان مشاهدتها(85).وفي يوم عيد الربيع في إنجلترا كان أهل القرية يتجمعون حول "عمود مايو"
صفحة رقم : 9002
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> آداب السلوك
المزين بالأزهار والأشرطة بشكل بهيج، ورقصوا رقصاتهم الساذجة الممتلئة حيوية، ويبدو أنهم بعد ذلك راحوا يقبلون ويعانقون بعضهم بعضاً مما يذكر بعيد فلورا إلهة الزهور عند الرومان. وكانت ألعاب عيد مايو في عهد هنري الثامن تشمل "الرقص العربي" الذي كان قد جاء من عرب أسبانيا عن طريق الرقصة الإسبانية "فندنجو" بالصنوج. ورقص الطلبة في أكسفورد وكمبردج في مرج بالغ الصخب، إلى درجة أنه كان لا بد من أن يحرم وليم ويكهام هذا العبث بالقرب من تماثيل الكنيسة. وأقر لوثر الرقص، واستساغ بنوع خاص "الرقصة التربيعية"، مع الانحناءات الودية والعناق والتمايل الرقيق، بين المشتركين في الحلبة"(86) ورقص ملانكنون الوقور . وفي ليزج في القرن السادس عشر أقام الآباء في المدينة بانتظام حفلات راقصة حتى يتمكن الطلبة من التعرف على "أشرف وأجمل بنات ذوي المكانة وأعضاء السناتو والمواطنين"(87). وكثيراً ما ترأس شارل السادس حفلة الرقص في البلاط الفرنسي. واستقدمت كاترين دي مديتشي إلى فرنسا راقصات إيطاليات، وهناك في أخريات أيام الملكة الأم التعسة ظهرت رقصات أرستقراطية جديدة. وقال جان تابور، في كتاب من أقدم الكتب عن فن من أقدم الفنون: "إن الناس كانوا يمارسون الرقص ليروا هل يتمتع الحبيبان بصحة جيدة، وهل يتناسب كل منهما الآخر، وفي نهاية الرقص كان يسمح للشاب أن يقبل خطيبته ليستوثق من أن رائحة أنفاسها طيبة... وبهذه الطريقة يصبح الرقص ضرورياً لبساس المجتمع سياسة حسنة(88). وتطورت الموسيقى بفضل مصاحبة الرقص، من الأشكال الصوتية وجوقة المنشدين إلى استخدام الآلات وتأليف الألحان، مما جعلها فناً بارزاً ذا شأن في عصرنا.