قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 8

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 9619

قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلترا -> الثورة الكبرى -> الاقتصاد المتغير

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثامن: الثورة الكبرى 1625-1649

1- الاقتصاد المتغير

إن الثورة التي سودت برلماناً وقتلت ملكاً-قبل أن يكفر لويس السادس عشر عن ذنوب أسلافه، بمائة وأربعة وأربعين عاماً-كانت لها جذورها في الصراع الاقتصادي والخلاف الديني.

كان الإقطاع تنظيماً يعتمد كل الاعتماد على الزراعة. وكانت الملكية تنظيماً بلغ بالإقطاع ذروته. وكانت مرتبطة أشد الارتباط باقتصاد يقوم على الملاك والأرض. وحدث في إنجلترا تطوران اقتصاديان قطعا هذه الجذور الإقطاعية. أحدهما نمو طبقة كرام المحتد ذوي الملكيات الصغيرة من غير ذوي ألقب النبالة (Gentry)، وهم في موقف وسط بين الأشراف أو النبلاء ذوي الألقاب، وبين صغار مالكي الأرض الأحرار أو المزارعين الذين يملكون أرضاً. وكانت أيديهم مغلولة في ظل ملك وحاشية ومجموعة من القوانين لا تزال تفكر أو تصاغ بعقلية النظام الإقطاعي. ولقد اشتروا المقاعد في مجلس النواب أو استولوا عليها عنوة، وتطلعوا إلى حكومة لبرلمان خاضع لهم هم أنفسهم. أما التطور الثاني فهو نمو ثروة البرجوازية-أصحاب المصانع والمحامون والأطباء-ومطالبتهم بتمثيل سياسي يتناسب مع قوتهم الاقتصادية، ولم يكن لهذه الدوافع الثورية مصلحة مشتركة، بل تعاونوا لمجرد أن يحاولوا كبح جماح ذوي النسب والحسب والحاشية المنتفخة الأوداج، وملك اعتبر أن الأرستقراطية الوراثية، مصدر ضروري للنظام الاقتصادي والسياسي والاستقرار.

وكان النظام الاقتصادي يغير، من عام لعام، قاعدته ونقطة ارتكازه من الأرض الثابتة إلى المال المتحرك. وقبل 1540 كان مصنع النحاس يتطلب توظيف 300 دولار، (بعملة الولايات المتحدة 1958) وفي عام 1620، 125 ألف دولار. وما جاء عام 1650 حتى كانت المشروعات الرأسمالية التي تستلزم إنفاق اعتمادات ضخمة، قد نهضت بمصانع حجر الشب في يوركشير، ومصانع الورق في دارتفورد، ومصانع صب المدافع في برنديلي، والمناجم البعيدة العمق التي ازداد التهافت عليها للحصول على مزيد من الفحم والنحاس والزنك والحديد والرصاص. وفي 1540 كان هناك عدة مناجم أنتج الواحد منها عشرين ألف طن. واعتمد الحرفيون والصناع الذين يستخدمون المعادن، على التعدين والصناعات المعدنية التي تركزت في أيدي الرأسماليين، وزودت مؤسسات النسيج بالمواد اللازمة، الحوانيت التي كانت تستخدم ما بين 500 وألف عامل، والنساجين والخياطين الذين انتشروا في آلاف الدور في المدن والقرى. وكانت الزراعة تسم في التحول الرأسمالي في الإنتاج. واشترى الرأسماليون مساحات كبيرة من الأرض وسوروها، بغية إمداد المدن باللحوم، والمصانع بالصوف داخل إنجلترا وخارجها. وارتفعت تجارة إنجلترا الخارجية إلى عشرة أمثالها فيما بين عامي 1610 و1640.

ولم يدر بخلد إنجلترا أن الهوة كانت سحيقة جداً بين الغني والفقير، و "انحطت تعويضات العمال إلى أدنى مستوى لها في النصف الأول من القرن السابع عشر، لأن أسعار الطعام زادت على حين بقيت الأجور على ما هي عليه(1)". فإذا اتخذنا (100) كأساس، فإن الأجور الحقيقية للنجارين الإنجليز كانت 300 حوالي سنة 1380، و370 في سنة 1480، 200 في عهد إليزابث، 120 في عهد شارل الأول-وهذا أدنى أجر في بحر أربعمائة سنة(2). وفي 1634 كانت البطالة فظيعة إلى حد أن شارل أمر بتدمير مصنع ميكانيكي لنشر الخشب أنشئ حديثاً، لأنه عطل كثيراً من النشارين عن العمل(3). وكانت الحرب مع فرنسا سبباً في رفع الضرائب، كما كانت الحرب في فرنسا سبباً في تعطيل تجارة الصادرات، وسوء المحاصيل (1629-1630) سبباً في تضخم الأسعار حتى صارت البلاد على حافة المجاعة(4). وأخذ هذا الاقتصاد المتضخم في الهبوط فجأة (1629، 1632، 1638)؛ وتضافرت كل هذه العوامل مع الصراع الديني في أن تدفع بكثير من الأسرات الإنجليزية إلى أمريكا، وتوقع إنجلترا في حرب أهلية غيرت وجه الأمة ومصائرها.

وكذلك أصبحت حرب الطبقات صراعاً بين المذاهب الدينية والقوانين الأخلاقية. وكان الشمال زراعياً بأغلبية ساحقة، وكاثوليكياً في معظمه ولو في الخفاء. أما لندن والجنوب فكانت تنمو فيها الصناعة والبروتستانتية بشكل متزايد. وعلى حين تعلقت قلوب رجال الأعمال الجديدة باحتكاراتها وبتعريفة الحماية الجمركية. فإنها في نفس الوقت طالبت باقتصاد حر تتحدد فيه الأجور على قدر العمل والسلع، وحيث لا تكون ثمة سيطرة إقطاعية ولا حكومية على الإنتاج والتوزيع والربح والملكية، وحيث لا توصم بوصمة عار، الأعمال التجارية، وال تقاضى الفوائد على الأموال، ولا المضاربة بالثروة. وتمسك البارونات وفلاحوهم بمفهوم الإقطاع عن الالتزام المتبادل والمسئولية الجماعية، وتنظيم الدولة للأجور والأسعار، وضوابط العرف والقانون لشروط الاستخدام والربح. واحتج البارونات بأن الاقتصاد التجاري (المركنتلي ) الجديد، الذي ينتج لسوق وطنية أو دولية، كان يمزق العلاقات بين الطبقات ويقوض الاستقرار الاجتماعي. وأحسوا (كما أحس صغار ملاك الأراضي والحكومة) أن قدرتهم على الوفاء بديونهم والتزاماتهم مهددة بخطر آثار التضخم على قيمة الرسوم والإيجارات والضرائب التي اعتمدوا عليها. ونظروا في ازدراء غاضب إلى المحامين الذين أسهموا بشكل واضح في الإدارة، وإلى التجار الذين حكموا المدن، وأوجسوا خفية من سلطان لندن التي سادتها الروح التجارية (المركنتلية)، والتي كان عدد سكانها يبلغ نحو 300 ألف نسمة، من مجموع سكان إنجلترا البالغ خمسة ملايين، ومن ثم كانت تستطيع تمويل جيش وثورة.


2- مرجل الديانة 1624-1649

إن الملك الجديد الذي ارتقى العرش في ظل النظام الإقطاعي والاجتماعي العتيق المعتمد على الأرض، والذي أحس باليأس والضياع في لندن بتجارها والبيوريتانيين فيها، نقول إن هذا الملك لقي من التعب والنصب فوق ما يحتمل من الصبر، من جراء تعدد المعتقدات الدينية وحدتها. إن عملية الاجتهاد أو تكوين الرأي الفردي التي دعا إليها كل رأي جديد حتى سادت وسيطرت، تضافرت مع انتشار الكتاب المقدس، على تشجيع اختلاف الشيع والطوائف، حتى لقد أحصى منها أحد المؤلفين 29 طائفة في 1641، وأحصى آخر منها في 1649. وفضلاً عن الانقسام بين الكاثوليك والبروتستانت، كان هناك الانقسام الحاد بين البروتستانت إلى أنجليكانيين ومسيحيين وبيوريتانيين، وانقسام البيوريتانيين إلى المستقلين الذين كانوا يحلمون بالجمهورية، والكويكرز الذين يعارضون الحرب والعنف وحلف الأيمان، والمؤمنين بالعصر الألفي السعيد-أو طائفة الملكية الخامسة-الذين كانوا يعتقدون أن السيد المسيح سوف يعود سريعاً ليقيم حكمه على الأرض، والأنتيوميين (طائفة تقول بأن الإيمان وحده-لا الامتثال للقانون الأخلاقي-ضروري للخلاص) الذين كانوا يحاجون بأن المصطفين من عند الله مستثنون من القوانين الإنسانية، والانفصاليين أتباع براون، والباحثين Seekers، والمشاغبين Ranters. وشكا أحد أعضاء البرلمان من أن "الرجال الميكانيكيين" (الحرفيين) كانوا يقيمون المنابر ويبشرون بألوان عقائدهم المتحمسة، وكان كثيرون منهم يكسون مطالبهم الاقتصادية أو السياسية بنصوص من الكتاب المقدس، وكان هناك الذين يقولون بتعميد البالغين فقط Anabaptists، والمعمدانيون الذين انشقوا عن الانفصاليين (1606) وانقسموا (1633) إلى معمدانيين عامين رفضوا النظرية الكلفنية في القضاء والقدر، ومعمدانيين خاصين قبلوها.


إن تعدد الطوائف والشيع، ومساجلاتها الحادة الجريئة، أدت بنفر من الناس إلى الشك في جميع صيغ المسيحية وأشكالها. ورثى الأسقف Fotherby، (1622) "لأن الكتب المقدسة فقدت سلطانها على كثير من الناس، وظن أنها لا تصلح إلا للجهلة والحمقى(5)"-وفي 1646 تحدث الحبر الجليل جيمس جرانفورد عن "الجماهير التي غيرت عقيدتها إما إلى التشكك... أو الإلحاد، ولم يؤمنوا بشيء(6)." وفي كتيب عنوانه Hell Broke Loose "انفتحت الجحيم على مصراعيها" :بيان بالأخطاء السائدة، والهرطقة والتجديف في هذا العصر، (1646) وكان على رأس قائمة الهرطقات، الرأي القائل بأن الكتاب المقدس سواء كان مخطوطاً حقيقياً (نصاً موثوقاً) أم لم يكن... فإنه لا يعدو أن يكون من صنع الإنسان، وأنه عجز عن أن يكشف عن إله في السماء(7)"، وجهرت هرطقة أخرى "بأن العقل السليم هو الحكم في العقيدة، أو قاعدة الإيمان... ويجدر ألا نصدق بالكتب المقدسة ونظريات التثليث والتجسد والبعث إلا بقدر موافقتها للعقل، وليس إلا(8)". وأنكر عدد كبير من المتشككين وجود الجحيم وألوهية المسيح. وسعى نفر متزايد من المفكرين الذين أطلق عليهم اسم "البوبيين" إلى التوفيق بين مذهب التشكك والدين باقتراح مسيحية تقتصر على الإيمان بالله والخلود. وهيأ إدوارد، لورد هربرت شربري لهذا "الطريق الوسط، أساساً فلسفياً في بحث رائع عن "الحقيقة 1624). قال هربرت إن الحقيقة مستقلة عن الكتب المقدسة، ولا يمكن أن تقررها كنيسة أو أية سلطة أخرى، وإن أفضل اختبار للحقيقة هو موافقة الناس جميعاً عليها، وتبعاً لذلك تكون أحكم ديانة هي ديانة "طبيعية"، ولا ديانة "موحى بها"، تحصر نفسها في النظريات التي تتقبلها كل المذاهب: وهي أن هناك "كائناً"، وأنه تجب عبادته بالحياة الفاضلة المستقيمة أساساً، وأن السلوك المستقيم، يثاب؟، وأن السلوك السيئ يعاقب عليه، إما عنا في الحياة الدنيا، أو هناك في الحياة الآخرة. ويقول أوبري إن هربرت مات "في هدوء" بعد أن أبوا عليه الأسرار المقدسة(9).

وكان البرلمان أشد قلقاً وانشغالاً بالكاثوليكية منه بالهرطقة. ففي 1634 قارب الكاثوليك في إنجلترا أن يشكلوا ربع السكان(10)، على الرغم من كل القوانين والأهوال التي كان يقاسيها نحو 335 من الجزويت، واعتنق النبلاء البارزون المذهب القديم، وفي 1625 أعلن جورج كلفرت، لورد بلتيمور تحوله إلى الكثلكة، وفي 1632 منحه شارل مرسوماً بإنشاء المستعمرة التي عرفت باسم ماريلاند. وفي 1633 أرسلت الملكة الكاثوليكية هنريتا ماريا إلى روما مبعوثاً يستجدي منصب الكاردينال لأحد الرعايا البريطانيين. وعرض الملك الإنجليكاني أن يسمح بإقامة أسقف كاثوليكي في إنجلترا إذا أيد إربان الثامن خطة شارل في عقد بعض زيجات دبلوماسية (1634) ولكن البابا رفض. وطالب الكاثوليك بالتسامح الديني. ولكن البرلمان-الذي يعي في ذاكرته تعصب الكاثوليك، ومذبحة سانت برتلميو، ومؤامرة البارود، والاشمئزاز من إجراء تحقيق في مستندات ممتلكات بروتستانتية كانت يوماً كاثوليكية-طالب، بدلاً من ذلك، بالتطبيق الكامل للقوانين التي صدرت ضد الكاثوليكية. وساد شعور قوي شعاره "لا كثلكة"، وخاصة بين طبقة صغار الملاك والطبقة الوسطى، يعارض بالمثل، تدفق القساوسة الكاثوليك إلى إنجلترا، كما يقاوم ازدياد التقريب بين الفكر والطقوس الأنجليكانية والكاثوليكية.

وتمتعت الكنيسة الرسمية بحماية الدولة لها حماية كاملة. وكانت العقيدة والعبادة الأنجليكانية إجباريتين قانوناً، وجعلت المواد التسع والثلاثون قانوناً من قوانين البلاد 1628. وادعى الأساقفة الأنجليكانيون "الخلافة الرسولية"-أي أنهم كانوا قد رسموا بواسطة الرسول، ورفضوا توكيد المشيخيين والبيوريتانيين أن يرسموا الكاهن شرعاً، وكان كثير من رجال الدين الأنجليكانيين في ذاك العصر، رجالاً يتحلون بعلم واسع وشعور كريم. وكان جيمس أشر Usher رئيس أساقفة أرماج Armagh عالماً حقاً، برغم حسابه المشهور (في كتابه Annales Veteris Testamenti، 1650) أن الله خلق العالم في 22 أكتوبر سنة 4004 ق.م.-وهذه غلطة في الحساب الزمني جعلت شبه رسمية في طبعات الكتاب المقدس(12). ودعا جون هيلز، قسيس السفارة الإنجليزية في هولندا-إلى الشك والعقل والتسامح:

إن الطرق التي توصلنا إلى.... أي علم أو معرفة ليست إلا اثنتين، أولاهما الاختبار وثانيتهما الاستدلال المنطقي، إن الذين يأتونك ليلقوا إليك بم يجب أن تؤمن وماذا يجب أن تفعل، دون أن يذكروا لك السبب في هذا أو ذاك، ليسوا أطباء بل إنهم متطفلون دجالون... إن أهم مصدر وقوة للحكمة ليس من السهل التصديق بهما... إن تلك الأشياء التي نجلها لقدمها، ماذا كانت في بداية نشوئها؟ هل كانت زائفة؟ إن الزمن لا يستطيع أن يضفي عليها حقيقة وصدقاً. إن عامل الزمن... مجرد شيء خارج عن موضوع البحث... وليس تعدد الآراء، ولكن إرادتنا الفاسدة الشريرة-التي تظن أنه من الملائم أن نتخيل كل شيء (من نفس الفكر) كما نتصوره نحن نفسنا-هي التي أزعجت الكنيسة إلى هذا الحد. ألم نكن مستعدين لأن يلعن بعضنا بعضاً حين لم نكن متفقين في الرأي؟ ويمكن أن تكون قلوبنا متحدة... هناك شيئان يصنعان رجلاً مسيحياً كاملاً-إيمان صادق وسلوك قويم. ولو أن الثاني يبدو أجدر بالاعتبار، ويخلع علينا اسم المسيحيين، ولكن الثاني في النهاية، سيثبت أنه الأقوى والأرسخ، وليس ثمة رجل... حتى ولو كان همجياً أو وثنياً، لا تصل إليه أنسام الشفقة المسيحية(13). ولم يستجب بعض "عبدة الأصنام" لكرم هليز. وكتب جزويتي بتوقيع "إدوارد نوت نبذة عنوانها Charit Mistaken (1630) قال فيها إنه لن يكتب الخلاص لأي بروتستانتي، إلا بمحض الصدفة(14). ولكن أعاد الطمأنينة إلى قلوب البروتستانت الذين أدانهم المقال السابق، وليم تشلنجورث، Chillingworth الذي كان كتابه "العقيدة البروتستانتية هي الطريق المأمون للخلاص، 1637" أشهر بحث لاهوتي في ذاك، العصر، لقد عرف تشلنجورث الفريقين كليهما، فقد كان قد ارتد إلى الكاثوليكية، ثم عاد إلى البروتستانتية، وما زالت لديه تحفظاته، وقال عنه كلارندون "إنه تعود الشك حتى أصبح شيئاً فشيئاً لا يثق في شيء قط، ومتشككاً على الأقل في أعظم الأسرار الدينية(15)".

وكان جرمي تيلور أفصح الأنجليكانيين في عهد شارل، ولا تزال عظاته تقرأ؟، كما أنها أشد تأثيراً من عظات بوسويه، حتى أنها هزت مشاعر أحد الفرنسيين(16). وكان تيلور ملكياً متحمساً، وقسيساً في جيش شارل الأول. وعندما سيطر المشيخيون والبيوريتانيون على البرلمان، وأساءوا، في التعصب الشديد، معاملة الأنجليكانيين الذين كانوا يوماً متعصبين، أصدر تيلور كتاب "حرية الوعظ" (1646) وهو دعوة حذرة إلى التسامح: إن أي مسيحي قبل عقيدة الرسل يجب أن تتلقاه الكنيسة بين أحضانها، ويجب أن يترك الكاثوليك أحراراً، إلا إذا أصروا على سيادة إنجلترا وعلى الملوك ، وقبض حزب البرلمان على تيلور وأودع السجن في الحرب الأهلية، ولكن بعد عودة الملكية، انضم إلى حكومة الأساقفة في الكنيسة، وخف تحمسه للتسامح.

وظهر أثر الكاثوليكية المتزايد في الرجل الأنجليكاني البارز ذي النفوذ في عصره، وهو وليم لود، الذي كان رجل فكر وإرادة، ولد ليسيطر ويحكم أو يموت. وكان متمسكاً بأهداب الفضيلة أشد تمسك، متزمتاً أشد التزمت، وطيد العزم إلى حد العناد مع سرعة الغضب، ورأى لود-كأي رجل صالح من رجال الكنيسة، أنه من القضايا المسلم بها أن المعتقد الديني الموحد أمر لا غنى عنه للحكومة الناجحة وأن الشعائر المعقدة ضرورية لكل عقيدة مهدئة مؤثرة، وما كان أشد حزن المسيحيين والبيوريتانيين وأسفهم عندما اقترح لود إعادة الفنون إلى خدمة الكنيسة، لتجميل المذبح والمنبر وجرن التعميد، وإعادة الصليب المقدس، والمدرعة (الرداء الكهنوتي الأبيض) إلى الكهنة. وعلى هيئة جبل خاص للخطايا، أمر بوضع مائدة العشاء الرباني التي كانت توضع حتى الآن وسط الهيكل (وكانت تستخدم في بعض الأحيان لوضع القبعات عليها)، نقول أمر لود بوضع هذه المائدة خلف حاجز في الطرف الشرقي من كنيسة، وكانت هذه التغييرات في معظمها إحياء لأعراف إليزابث وقوانينها، ولكنها في نظر البيوريتانيين الذين أحبوا البساطة، كانت تمثل ارتداداً إلى الكاثوليكية، وتجديداً للفصل الطبقي بين القسيس وجمهور المصلين. ويبدو أن لود أحس بأن الكنيسة الكاثوليكية كانت على حق في إحاطة الديانة بالمراسم والشعائر، وإضفاء هالة من القداسة على القسيس(17). وقدرت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أراءه إلى حد أنها قدمت إليه منصب الكاردينال(18). ولكنه رفض رفضاً مهذباً. ولكن يبدو أن هذه العروض أيد لوم البيوريتانيين وتأنيبهم، وأطلقوا عليه النذير بقدوم المسيح. وعينه شارل 1633 رئيساً لأساقفة كنتربري وعضواً في وزارة الخزانة. وعين رئيس أساقفة آخر قاضياً للقضاة في إسكتلندة فشكا الناس من أن رجال الكنيسة يعودون إلى السلطة، كما كانت الكنيسة في أوج عظمتها في العصور الوسطى.

وشرع كبير أساقفة إنجلترا، من قصره في لامبث Lambeth في إعادة تشكيل الطقوس والأخلاقيات الإنجليزية، وخلق مائة عدو جديد حين فرض عن طريق "محكمة اللجنة العليا" (وهي هيئة قضائية أقامتها إليزابث، وهي الآن كنيسة بشكل واضح): فرض غرامات فادحة على المتهمين بالزنى، ولم تطلب نفوس الضحايا باستخدامه الغرامات في إصلاح كاتدرائية سانت بول المتهدمة، وطرد المحامين والبائعين المتجولين والمثرثرين من أبهائها(19)وحرم الكهنة الذين رفضوا الطقوس الجديدة من رواتبهم، أما الكتاب والخطباء الذين نقدوها مراراً وتكراراً، أو ارتابوا في العقيدة المسيحية، أو الذين عارضوا نظام الأساقفة فكانوا يحرمون من الكنيسة ويوضعون في آلة تعذيب خشبية ذات ثقوب تقيد فيها رجلا المذنب ويداه، أو تقطع أذناه.

ويجب أن نتخيل بشاعة ووحشية العقوبات التي فرضت في عهد لود، حتى ندرك مصيره. فان الكاهن البيوريتاني اسكندر ليتون Leighton، حوكم أمام محكمة قاعة النجم لأنه المؤلف المعترف به لكتاب يقول بأن نظام الأساقفة، نظام شيطاني معاد للمسيحية. فقيد في الأغلال وسجن في مكان موحش لمدة خمسة أسابيع في زنزانة شديدة البرد "مليئة بالجرذان والفيران، معرضة للثلوج والأمطار"، فتساقط شعر رأسه، وتقشر جلده، وربط إلى خازوق، وتلقى ستاً وثلاثين جلدة بحبل سميك على ظهره العاري، ووضع في المشهرة (آلة تعذيب) لمدة ساعتين في صقيع نوفمبر وجليده، ودمغ بسمة العار في وجهه، وشق أنفه وقطعت أذناه، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة(20). وفي 1633 فرضت على لودويك بوير Ludowyc Bowyer، الذي كان قد اتهم لود بأنه كاثوليكي في دخيلة نفسه، غرامة، ودمغ بسمة العار، وبترت أطرافه، وشوه جسمه، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة(21). واتهم وليم برين، وهو من غلاة الدعاة البيوريتانيين في "أنباء من أبسوبك" (1636)، اتهم أساقفة لود بأنهم خدم للبابا وللشيطان(22)، وأوصى بشنق الأساقفة. فدمغ بسمة العار على خديه كليهما وقطعت أذناه، وأودع السجن حتى أفرج عنه البرلمان الطويل (1640)(23). وسجنت لمدة أحد عشر عاماً امرأة أصرت على اعتبار السبت يوم راحة وعبادة(24). واتفق ألد أعداء لود، وهم البيوريتانيون، ومعه على ضرورة التعصب أو عدم التسامح. وذهبوا إلى أنه حكم نهائي معقول من أصل السماوي للمسيحية والكتب المقدسة، فان أي فرد يعارض عقيدة قامت على هذا الأساس، لا بد أن يكون مجرماً أو معتوهاً، وتجب حماية المجتمع من كثير من الخطايا واللعنات التي قد تنصب على المجتمع من جراء تعاليمه. وناشد المشيخيون البرلمان-(1648) أن يشرع عقوبة السجن مدى الحياة لمن يستمرون على نشر تعاليم الكاثوليك والمعمدانيين والأرمينيين والكويكرز، وعقوبة الإعدام للذين ينكرون نظريات الثالوث الأقدس، أو التجسد. ولكن المستقلين أتباع كرومويل، على أية حال، عرضوا التسامح مع كل من يقبل أساسيات المسيحية، ولكنهم استبعدوا الكاثوليك والموحدين والمدافعين عن حكومة الأساقفة(25).

وكان في البيوريتانيين شيع كثيرة إلى حد يصعب معه جمعهم في تعميم واحد ينطبق عليهم جميعاً. وتمسك معظمهم بكلفنية صارمة، وبحرية سياسية فردية، ويحق جمهور كل كنيسة في إدارة شئونها دون إشراف الأساقفة، وبعبادة غير موسومة بالمراسم والشعائر، متسمة بالمساواة، وتخلوا عن الفن الديني الذي يلهي المصلين ويشتت أفكارهم، واتفقوا مع المشيخيين في اللاهوت ولكنهم رفضوا مجامعهم الكنسية، لأنها تنزع إلى ممارسة سلطة الأساقفة، وأصروا على تفسير حرفي للكتب المقدسة، واستنكروا القول بحكم العقل على الحق الموحى به، وكانوا يجلون العهد الجديد والعهد القديم بقدر سواء، وطبقوا على أنفسهم الفكرة اليهودية "شعب الله المختار"، وعمدوا أطفالهم بأسماء بطارقة "العهد القديم" وأبطاله، وفكروا في الرب على أساس "يهوه" الصارم القاسي، وأضافوا إلى ذلك إيمان الكلفنية بأن معظم الناس هم "أبناء العقاب الإلهي" قضت عليهم الإرادة المتحكمة من لدن إله لا يرحم بالخلود في الجحيم، وعزوا خلاص القلة "المختارة"، لا إلى صالح الأعمال، بل إلى نعمة إلهية ينعم الله بها على من يشاء متى شاء. وذهب بعضهم إلى أنه كلم الله، وظن بعضهم أنهم ملعونون فهاموا في الشوارع يئنون ويتأوهون، استباقاً لخلودهم في العذاب. وبدا أن الله يسلط الصواعق دوماً على رؤوس الناس.

وفي وسط هذا "الإرهاب" الذي فرضته البلاد على نفسها كادت "إنجلترا المرحة" أن يتقلص ظلها واستسلمت "إنسانية عصر النهضة" و "طبيعية" عصر إليزابث المفعمة بالحيوية إلى شعور بالذنب وخوف من الانتقام الإلهي. وبهذا الخوف وذلك الشعور نظر الناس إلى مسرات الحياة وكأنها أرجاس من عمل الشيطان أو تحديات للإله. وعاودت قسماً أكبر من الناس لم يعهد له مثيل من قبل في التاريخ المعروف، نقو عاودتهم المخاوف من الطبيعة البشرية والجسد، التي كانت سائدة بين الرهبان في الديار. وأعلن بريم Pryme أن كل عناق "دعارة"، وكل رقص مشترك "فسق وفجور(26)". وفي نظر معظم البيوريتانيين كانت الموسيقى والزجاج الملون والصور الزيتية والأردية الكهنوتية البيضاء والكهنة الممسوحون بالزيت-كلها أمور تحول دون الاتصال بالله والاتجاه إليه. ودرسوا الكتاب المقدس بعناية فائقة، واقتبسوا عباراته في كل حديث وفي كل فقرة تقريباً، وطرز بعض المتحمسين المتعصبين ثيابهم بنصوص مقدسة، وأضاف المغالون في التقى والورع لفظة "حقاً" إشهاد على إخلاصهم أو صدقهم. وحرم البيوريتانيون الصالحون استخدام مستحضرات التجميل وترتيب الشعر، على أنهما ضرب من الزهو والغرور والتفاهة. وحظوا بالاسم المستعار "ذوي الرءوس المستديرة Roundheads لأنهم قصوا شعورهم بشكل قصير جداً. ونددوا بالمسرح على أنه مخز (وهكذا كان)، وبمطاردة الدببة والثيران على أنها عمل وحشي، وبأخلاق البلاط على أنها وثنية. كما استنكروا الاحتفالات والأعياد الصاخبة، ودق النواقيس، والتجمع حول عمود أول مايو المزدان بالأشرطة والأزهار والرقص حوله، وشرب الأنخاب، ولعب الورق. وحرموا كل الألعاب أياً كانت في يوم الراحة، وقالوا أنه يوم الرب، ويجب ألا يسمى بعد الآن بالاسم الوثني "الأحد". ورددوا صيحات الغضب-ومن بينهم ملتون-حين أصدر شارل الأول ولود-تجديداً لمرسوم جيمس الأول-"إعلان الألعاب" 1633، أجاز فيه الألعاب في يوم الأحد بعد تأدية الصلوات. ومد البيوريتانيون تشددهم في تحريم الألعاب والملاهي وفي الانقطاع إلى العبادة والراحة في أيام الآحاد (قوانين الأحد الزرقاء)، إلى يوم عيد الميلاد، ورثوا لأسلوب الاحتفال بمولد المسيح بالمرح والرقص والألعاب، وكانوا على حق في أنهم نسبوا معظم تقاليد عيد الميلاد إلى أصول وثنية، وطالبوا بأن يكون عيد الميلاد يوماً مهيباً للصوم والكفارة، وفي 1644 أقنعوا البرلمان بعد لأي، بإقرار هذه الفكرة بمقتضى القانون.

وكما أكدت البروتستانتية على العظة أكثر مما فعلت الكثلكة، فان البيوريتانيين كذلك توسعوا فيها حتى إلى أبعد مما جرى عليه البروتستانت. ومزق التعطش إلى المواعظ بعض القلوب، وانتقل عمدة نوروك إلى لندن ليستمع إلى مزيد من الوعظ، واستقال بزاز من الأبرشية لأنها لا تقدم إلا عظة واحدة كل يوم أحد، وقام "محاضرون" خاصون لإطفاء هذا الظمأ-وهؤلاء عبارة عن رجال عاديين تستأجرهم الأبرشية لإلقاء عظة يوم الأحد، بالإضافة إلى ما يلقيه الكاهن المعتاد. ونهض معظم الوعاظ البيوريتانيين بمهمتهم في جدية بالغة فأرهبوا مستمعيهم بأوصاف الجحيم، واتهم بعضهم الآثمين علناً بالاسم، وأفصح واحد منهم عن مدمني الخمر في شعب الكنيسة، وضرب، وهو يتحدث عن البغايا، مثلاً بزوجة أحد أهالي الأبرشية المشهورين، وقال آخر لمستمعيه إنه إذا كان الزنى والحلف والغش وإغفال طقوس يوم الراحة، إذا كانت هذه كلها تؤدي بالإنسان إلى الجنة، فسيكتب الخلاص للأبرشية بأسرها(17). وأحس القساوسة البيوريتانيون أن من واجبهم أن يصفوا الناس-أو يحرموا عليهم-قواعد السلوك، وأنواع اللباس ووسائل التسلية، فحرموا الاحتفال بأيام العطلة أو الأعياد في الأعراف الوثنية أو الكنيسة الكاثوليكية، وبذلك أضافوا نحو خمسين يوم عمل إلى السنة(28). ودوت صيحة الواجب في الخلق البيوريتاني، مقترنة بغرس الشجاعة والاعتماد على النفس والحزم والاقتصاد والعمل في النفوس، وكان هذا نظاماً أخلاقياً يلتئم مع الطبقة الوسطى، فأنه حث على العمل الجاد النشيط، وأجاز من الوجهة الدينية المشروعات والمغامرات التجارية والملكية الخاصة. وكان الفقر، لا الغنى، في نظرهم، هو الخطيئة، لأنه ينم على الافتقار إلى الخلق الشخصي وإلى نعمة الله(29).

وكان البيوريتانيون، من الناحية السياسية، يتوقون إلى حكومة دينية ديمقراطية، لا يكون فيها بين الناس إلا فروق أخلاقية ودينية، ولا يكون فيها حاكم غير المسيح. ولا قانون سوى كلمة الله. وكرهوا الضرائب الباهظة التي تعول الكنيسة الأنجليكانية. وشعر رجال الأعمال منهم أن هذه الكنيسة الرسمية العليا الباهظة النفقات تحلبهم وتستنزف أموالهم. وقال أحد المؤلفين "إن هذه الهاوية الأسقفية تلتهم تجارة الأمة"(30). ودافع البيوريتانيون عن الثراء، ولكنهم احتقروا الترف الخامل الذي كان يرفل فيه النبلاء، وتمسكوا بالأخلاقيات إلى حد التطرف، كما فعلت الأجيال التالية بالحرية. ولكن ربما كانت مبادئهم القاسية تصحيحاً ضرورياً للانحلال الخلقي في عصر إليزابث. وأنجبوا بعضاً من أقوى الشخصيات في التاريخ-كرومل وملتون، والرجال الذين فتحوا الفيافي والقفار الأمريكية.

ودافعوا عن الحكومة البريطانية ونظام المحلفين ونقلوهما إلينا، وإن إنجلترا لمدينة لهم، بشكل جزئي، بالرصانة الحقة في الخلق الإنجليزي، واستقرار الأسرة البريطانية، ونزاهة الحياة الرسمية في بريطانيا. ولم تفقد شيئاً.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- البيوريتانيون والمسرح

إن أول انتصار أحرزه البيوريتانيون كان في حربهم ضد المسرح. فإن كل ما تميزوا به-من لاهوت قائم على "الاصطفاء" و "الرفض" وخلق متزمت، ومزاج قاسي، وحديث إنجيلي-كان يتناوله المسرح بالتجريح والتسخيف، عن طريق الصور الكاريكاتورية الفاضحة التي لا تغتفر، وكانت الطامة الكبرى في 1629: فإن ممثلة فرنسية تجاسرت على إسناد دور نسائي إلى شاب في رواية مثلت على مسرح Black Friars فقذفوها بالتفاح والبيض الفاسد.

وربما أرضى الكتاب المسرحيون الجدد جماع البيوريتانيين، لأنهم كانوا في جملتهم مهذبين، من حين إلى حين، حاولوا بالبذاءات، إرضاء جمهور الدرجة الثالثة ذوي الأذواق السقيمة واجتذابهم. إن رواية فيليب ماسنجر "طريقة جديدة لتسديد الديون القديمة (1625) لم تكن تهجو الفضيلة المتزمتة، بل جشع الاحتكارات. ولم يكن ثمة شعر يحلق، ولا ذكاء يدوي، ولا مجازات وتخيلات صارخة، ولكن الرجل المبتز المجرد من الضمير والمبادئ الخلقية وقع في يد العدالة آخر الأمر. وتعاقبت خمسة فصول دون أن تظهر واحدة من البغايا أو بنات الهوى. وتحايل جون فورد على تصيد الجمهور بأن جعل عنوان الرواية "يا حسرتاه إنها مومس"، ولكن هذه الرواية، ورواية "القلب الكسير" (كلتاهما 1633) احتفظنا بشيء من الاحتشام، وربما أمكن تمثيلهما الآن لو أن الجمهور الحديث استطاع أن يتحمل العذاب في حل عقد الرواية.

وسدد البيوريتانيون أعنف ضرباتهم للمسرح، حين أرسل أشد أنصارهم جرأة وشجاعة، وليم برين، إلى الصحافة (1632) مقاله "سوط الممثلين Players Seourge وكان برين محامياً، ولم يدع النزاهة والتجرد، وقدم إلى المدعي مذكرة من ألف صحيفة، وبالاقتباس من الكتب المقدسة ومن كتابات آباء الكنيسة بل حتى من كتابات الفلاسفة الوثنيين، أثبت أن المسرحية من عمل الشيطان، فإنها بدأت كصيغة أو شكل لعبادته. إن معظم الروايات ممتلئة بالتجديف والدعارة والفحش، زاخرة بعناق العشاق، والإيماءات الخليعة، والموسيقى والأغاني والرقص الذي يثير الشهوة، وإن كل أنواع الرقص من عمل شيطاني، وكل خطوة فيه إن هي إلا خطوة إلى الجحيم، وإن كل الممثلين مجرمون فجرة كفرة". "إن كنيسة الله، لا المسرح، هي المدرسة الوحيدة الصالحة، والكتاب المقدس والعظات والكتب الدينية المخلصة الورعة... هي المحاضرات" أي القراءات الوحيدة الصالحة للمسيحيين. فإذا أرادوا التحول عنها:

فإن أمامهم مشاهد متعددة في الشمس والقمر والكواكب والنجوم وسائر المخلوقات التي لا نهاية لتعددها وتنوعها، ليمتعوا بها أنظارهم. وإن أمامهم تغريد الطيور ليشنفوا به آذانهم، وإن لديهم الشذا الرقيق الجميل والروائح الزكية المنبعثة من الأعشاب والأزهار والفواكه لينعشوا بها أنوفهم.. ولديهم المذاق الجميل لكل ما يصلح للأكل... والمسرات والمتعة التي تقدمها لهم البساتين والأنهار والحدائق والبرك والغابات، والبهجة التي يوفرها لهم الأصدقاء والأقرباء والأزواج والزوجات والأولاد، والمقتنيات والثروة، وسائر النعم الظاهرة التي أنعم الله بها على الإنسان(31).

وكانت الحجة قوية بليغة، ولكنها وصمت كل الممثلات بالدعارة والبغاء، وكانت الملكة لتوها قد استقدمت من فرنسا بعض الممثلات، وكانت هي نفسها تتدرب على التمثيل دور في البلاط، وجرح شعور هنريتا ماريا واستاءت، واتهم لود برين بإثارة الفتنة، ودفع المؤلف بأنه لم يكن يقصد الطعن في الملكة أو التشهير بها، واعتذر عن عدم مراعاة الاعتدال في كتاباته. ولكن على أية حال، في قسوة علقت بأذهان البيوريتانيين طويلاً، منع من الاشتغال بالمحاماة وفرضت عليه غرامة يستحيل دفعها، 5000 جنيه (250.000 دولار؟)، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. ووضع في المشهرة وقطعت أذناه كلتاهما(32)، ومن سجنه أصدر (1636) "أنباء من أبزوك" اتهم فيه الأساقفة الأنجليكانيين بأنهم خونة شيطانيون، وذئاب ضارية، وأوصى بشنقهم. فعذب في المشهرة من جديد، واستؤصلت بقايا أذنيه، وبقى في السجن حتى أفرج عنه البرلمان الطويل 1640.

وفي 1642 أصدر البرلمان أمراً بإغلاق كل مسارح إنجلترا. وكان هذا في أول الأمر، فن تدابير حرب، بدا أنها محدودة بهذه الأوقات الفاجعة. ولكنها استمرت حتى 1656. وآذنت بزوال الحياة الطويلة للمسرحية الإليزابثية، وسط مسرحية أكبر لم يشهد لها المسرح الإنجليزي مثالاً قط.

4- النثر في عهد شارل الأول

كان هناك في إنجلترا، رجلان على الأقل، يستطيعان أن يطلا على المشهد المضطرب في مقدرة وهدوء. وكان جون سلدن Selden واسع الإطلاع والعلم حتى قال عنه الناس: لا يعلم أحد أي شيء لا يحيط به سلدن علماً. إنه كرجل مهتم بالآثار والتاريخ القديم، جمع بيانات عن الدولة في إنجلترا قبل عهد النورمنديين، وسجلا موثوقاً عن "ألقاب الشرف" (1617)، وبوصفه مستشرقاً، ذاع صيته في كل أوربا، بدراسته في الشرك وتعدد الآلهة، وبوصفه من رجال القانون شرح قانون الأحبار وكتب "تاريخ العشور" ودحض فكرة أنها فرضت من عند الله، وبوصفه عضواً في البرلمان أسهم في اتهام بكنجهام ولود وفي صياغة "ملتمس الحقوق". وأودع السجن مرتين، وشهد "اجتماع وستمنستر" كمندوب علماني عادي "يشهد اقتتال الحمير المتوحشة" ودعا إلى الاعتدال في المنازعات الدينية. وبعد وفاته أصبح كتابه، "حديث المائدة" الذي سجله سكرتيره، من الآثار الأدبية الإنجليزية، نقتطف هنا نموذجاً منه:


إنه لمن العبث أن نتحدث عن هرطيق، لأن الإنسان لا يعتد

إلا بما يراه أو يفكر فيه هو نفسه. وفي العصور البدائية كان ثمة

آراء كثيرة، اعتنق واحداً منها أحد الأمراء، ودمغت

سائر الآراء بأنها هرطقات. ولا يمكن أن يكون رجل

ما أعقل الناس من اجل علمه ومعرفته، فقد يهيئ هذا

موضوعاً للمناقشة ولكن الذكاء والحكمة تولدان مع الإنسان....

إن العقلاء لا يتفوهون بشيء في أوقات الخطر.

إن الأسد دعا الشاة ليسألها إذا كانت ثمة رائحة تخرج من

فمه، فلما أجابت بالإيجاب عضها فأطاح برأسها لأنها غبية

حمقاء. فدعا الذئب وأعاد عليه نفس السؤال فأجاب بالنفي،

فمزقه الأسد إرباً لأنه متملق. وأخيراً نادى على الثعلب

وكرر السؤال، فتعجب إنه مصاب بالبرد ولا يستطيع أن يشم(33).


وكان توماس براون "ثعلباً". إنه ولد في لندن 1605 وتلقى علومه في مدرسة ونشستر، ومونبيلييه وبادوا وليدن، واستزاد من العلوم والفنون والتاريخ كلما وجد إلى ذلك سبيلا، ثم انصرف إلى الاشتغال بالطب في نوروك. وهذب من "تحليلاته للبول" بتدوين ملاحظاته وأفكاره "عن كل هذه الأشياء، وعن قليل غيرها "On All Things and a Few Others وأخفى بلباقة نظريته في الدين في كتابه "الطب الديني" (1642)، وهو يمثل مرحلة في تاريخ النثر الإنجليزي. وإنك لتجد في شخصه "مونتاني بريطاني"، فهو مثله في طرافته وخياله، وفي تذبذبه وتعدد جوانبه، وربما اقتبس عنه فيما كتب عن الصداقة(34)، وهبط بتشككه إلى الامتثال للكنيسة الإنجليزية مستسيغاً العقل ومعلناً إيمانه. وملأ براون كلامه بالإشارات والإشتقاقات التقليدية ولكنه أحب فن الألفاظ وموسيقاها، مستخدماً أسلوباً كأنه دواء "مضاد للبلى والفساد".

وكان بطبيعة دراسته وتعليمه نزاعاً إلى الشك. وفي أطول مؤلفاته وعنوانه "الأقوال الزائفة الشائعة" شرح وهذب مئات من "الآراء الفاسدة الشائعة" في أوربا- منها أن العقيق الأحمر يضئ في الظلام، وأن الفيل لا مفاصل له، وأن العنقاء تتوالد بذاتها من رفاتها، وأن السمندر (نوع خرافي من الضفادع) يمكن أن يعيش في النار، وأن وحيد القرن (حيوان خرافي له جسم فرس وذيل أسد) له قرن واحد في وسط الجبهة، وأن البجع يغني قبل موته، وأن الفاكهة المحرمة كانت التفاح، "وأن ضفدع الطين يبول وبهذه الطريقة ينفث سمه(35)" ولكنه كأي مهاجم للتقاليد والمعتقدات القديمة، كان له معتقداته، فانه آمن بالملائكة والشياطين وقراءة الكف والسحرة(36)، وشارك في 1664 في اتهام امرأتين بأنهما ساحرتان، وشنقا بعد ذلك على الفور، وهما تؤكدان براءتهما(37).

ولم يكن به ميل إلى النساء، وذهب إلى أن "الجنس" أمر مرذول فقال:


لم أتزوج غير مرة واحدة فقط، وإني لأمتدح أولئك الذين

يعقدون العزم على ألا يتزوجوا مرتين، وإني لأتمنى أن نتكاثر،

مثل الشجر، دون اتصال جنسي، أو أن تكون هناك وسيلة

أخرى للإبقاء على الجنس البشري، انه أقبح عمل يأتيه الرجل

العاقل في حياته، وليس ثمة شيء يوهن من عزيمته ويؤذي

خياله أكثر من تفكيره في أية حماقة تافهة شاذة قد ارتكبها(38).


أما بالنسبة لموضوعه الرئيسي فانه مسيحي بحكم الدفاع عن المسيحية:


أما من حيث ديانتي، فانه على الرغم من الظروف الكثيرة التي

قد تغري العالم، فليس لدي منها شيء قط (مثل الخزي العام في

مهنتي، المجرى الطبيعي لدراساتي وأبحاثي، عدم التحيز في

سلوكي وفي أحاديثي في الموضوعات الدينية، فلا أتحمس في

الدفاع عن دين، ولا أعارض ديناً آخر بمثل هذا العنف الذي

اعتاد الناس أن يعارضوا به الديانات الأخرى)، ولكن برغم

كل شيء، فإني أتجاسر، دون أي إكراه، على اعتناق المسيحية

الكريمة. لا لأني أدين بلقبي لجرن المعمودية، ولا من أجل

تعليمي، أو المناخ الذي ولدت فيه،.... ولكن لأني

في أيام نضجي وحكمي السليم على الأمور، عرفت كل الأديان وخبرتها(39).


ويحس براون بأن عجائب الدنيا، ونظامها تنم على عقل إلهي- "إن الطبيعة غي فن الإله(40)" ويعترف بأنه ارتكب بعض الهرطقة، وينزلق إلى شيء من الارتياب فيما جاء بالكتاب المقدس عن الخلق والتكوين(41)، ولكنه الآن يحس بالحاجة إلى ديانة مقررة ترشد الحائرين والمترددين من الناس، ويرثى لتفاهة الهراطقة الذين يعكرون صفو النظام الاجتماعي بتوفيقهم في عملهم(42). ولم يكن يحب البيوريتانيين، وبقي على ولائه وإخلاصه لشارل الأول، أثناء الحرب الأهلية، وكافأه شارل الثاني على جهوده برفعه إلى مرتبة الفارس.

وفي سنواته الأخيرة أغراه بالتأمل والبحث في الموت، والكشف عن بعض المقابر في نورفولك، وسجل ملاحظاته وأفكاره في تحفة من روائع النثر الإنجليزي غير ذات موضوع محدد: Hydriotaphia Urne-Buriall. (1658). وينصح بإحراق الموتى، كأخف الوسائل عقماً لتخليص الأرض منا. "إن الحياة بريق صاف، وإننا لنعيش "بشمس" خفية فينا"، ولكنا نومض ثم نخبو بسرعة مخزية، وإن الأجيال لتمضي، على حين يبقى الشجر، وان الأسرات العريقة لا تعمر قدر ما تعمر ثلاث بلوطات(41) "ويحتمل أن العالم نفسه" يقترب من نهايته "في هذه الساعة الفاصلة من الزمن". ونحن بحاجة إلى الأمل في الخلود ليثبتنا ضد قصر الحياة هذا، وإنه لسند قوي لنا أن نحس بالخلود،-ولكن يحزننا أشد الحزن أن تدفعنا أطياف الجحيم في التياع إلى الاحتشام واللياقة(44). وليس الملأ الأعلى "فراغاً سماوياً" ولكنه "في نطاق هذا العالم المحسوس" في حالة من الرضا والهدوء. ولكن براون يستدرك بسرعة حتى لا ينزلق إلى هاوية الهرطقة، فيختم تأملاته الدينية بدعاء خاشع إلى الله:


اللهم أنعم على في هذه الحياة براحة الضمير، وبالسيطرة

على عواطفي، وامنحني حبك وحب أصدقائي الأعزاء،

وبهذا أكون سعيداً إلى حد الإشفاق على قيصر. تلك،

يا إلهي، رغباتي المتواضعة التي يمليها على طموحي المعقول.

وهو كل ما أجرؤ على القول بأنه السعادة على الأرض،

التي لا أضع فيها قاعدة ولا حدا لنعمتك وعنايتك. وأمتني

كما تشاء حكمتك فان مشيئتك سوف تنفذ ولو في قضاء علي(45).

5- الشعر في أيام شارل

وظهرت في نفس الحقبة طائفة من الشعراء الثانويين الأقل شأناً-الذين حظي كل منها بأعظم الحب لدى هذا أو ذاك من الناس- والذين أمتعوا الناس، وملئوا وقت فراغهم بقوافي الغزل وقصائد التقوى الرخيمة. وحيث أن الملك كان يميل إليهم ويرضى عنهم لأنهم كانوا أبواقاً له ولسان حاله في كل التقلبات، فان التاريخ يعرفهم باسم "الشعراء الفرسان". وكان روبرت هرك Herrick يدرب قلمه عند بن جونسون، وظن لبعض الوقت أن قدحاً من النبيذ يمكن أن ينظم مجلداً من القصائد، وكان يحتسي الخمر لعدة ساعات دون انقطاع، من أجل باخوس (إله الخمر والعربدة عند اليونان والرومان)، ثم درس ليهيئ نفسه للانخراط في سلك رجال الدين، وتلقى درساً في العشق والغرام، وقطع على نفسه عهداً أن يؤثر الخليلات على الزوجات(46). وأشار على العذارى "بجمع براعم الورد" عند تفتحها. أما عشيقته كورنا Corinna فانه يستحثها بقوة:

انهضي، انهضي، يا للعار إن الصبح المتفتح يمثل بأجنحته
قدرة الله كاملة. انظري كيف أن الفجر ينبثق في الجو عن
خيوط الضوء الجديد الجميل. انهضي أيتها الغادة النؤوم
وانظري كيف ترين قطرات الندى العشب والشجر.... تعالي،
ولنذهب ونحن في ريعان شبابنا لنسرح ونمرح في اللهو البريء
في أيامنا. سوف يدركنا الهرم بسرعة ونفنى قبل أن نستمتع
بحريتنا... وعندما يسعفنا زماننا، وقبل أن نذبل
ونذوي، تعالي يا حبيبتي كورنا، تعالي ننعم بربيع
الحياة(47).

وهكذا في كثير من قصائده الماجنة التي نشرها (1648) في مجموعة Hesperides، حيث نجد أنها، حتى في أيامنا الفاجرة، في حاجة إلى التهذيب، حتى تلائم كل الناس. ولكن كسب العيش ضروري كذلك. ومن ثم غادر هرك لندن الحبيبة إلى نفسه (1629)- حاملاً معه حب للقصيد والقوافي- وقصد وهو محزون، ليعمل قسيساً ويقيم في بيت متواضع في ديفونشير النائية.

وسرعان ما شرع في نظم قصائد تفيض بالتقي والورع، بادئاً بدعاء الغفران:

أما عن قصائدي المجافية للدين، والتي كتبتها في أيام طيشي
ومجوني، عن كل جملة أو عبارة أو لفظة فيها، لم يرد فيها
ذكرك، يا إلهي، فتجاوز عنها يا رب، وامح من كتابي كل
سطر لم تلهمني في الصواب(48).

وفي 1647 عزله البيوريتانيون من وظيفته. وتضور جوعاً، في خضوع وولاء، طوال الأيام السود في حكم كرومول، ولكنه عاد إلى أبرشيته بعودة الملكية، ومات هناك، وهو في سن الرابعة والثمانين، وضاعت كورنا في زوايا النسيان.

ولم يعمر توماس كارو Carew مثلما عمر هرك، ولكنه مثله، وجد فسحة من الوقت للخليلات والمحظيات. وثمل كارو بالمفاتن التي تدق عن الوصف في المرأة، فتغنى بها في تفصيل جذل نشوان في "نشوة A Rapture"، وفي ازدراء جريء للطهر والعفة. حتى أن الشعراء الآخرين عتبا عليه دقته الفاسقة. ولم يغفر البيوريتانيون لشارل الأول تعيينه في المجلس الخاص، ولكن ربما تجاوز عن الموضوع من الناحية الشكلية. لقد اقتبس الشعراء في أيام شارل كل الرقة والأناقة الفرنسيتين في شعر رونسار وبنات أطلس ليزروقوا بالفن الرشيق مجون الشهوات وبعدها عن اللياقة والاحتشام.

وحظي السير جون سكلنج Suckling بثروة طائلة في حياته القصيرة التي لم تجاوز الثلاثة والثلاثين ربيعاً. ولد في 1609، وورث في الثامنة عشرة من عمره أموالاً كثيرة. وطاف بأنحاء أوربا ليكمل دراسته، وضمه شارل الأول إلى طائفة الفرسان، وحارب تحت إمرة جوستافوس أدولفوس في حرب الثلاثين عاماً، وعاد إلى إنجلترا (1632)، ليصبح بفضل وسلمته وذكائه وثرائه الواسع من ذوي الحظوة في البلاط الملكي. ويقول عنه أوبري إنه "كان من أشجع أهل زمانه وأكثرهم شهامة وتودداً إلى النساء، ومن أكبر المقامرين في لعبة البولنج (اللعب بالكرات الخشبية) ولعب الورق... وقد تأتى أخواته إلى... ساحة اللعب، تتعالى صيحاتهن وصراخهن خوفاً من ضياع أنصبتهن في القمار(49)." وابتدع نوعاً من لعب الورق Cribbage (كربج). ولم يتزوج قط في حياته، ولكنه صاحب "عدد كبيراً من السيدات ذوات المكانة". وفي إحدى الحفلات أهدى السيدات جوارب حريرية. وكأنها حلوى، ثم مضى الحفل في بذخ هائل(50). وأخرجت روايته أجلورا Aglaura في مناظر باذخة مسرفة، دفع نفقاتها من جيبه الخاص، وحشد قواته للقتال إلى جانب الملك، وخاطر بحياته في محاولة لإنقاذ سير توماس ونتورث ارل سترافورد، وزير الملك، من السجن (في برج لندن). فلما أخفق هرب إلى القارة، وهناك حين حرم من كل ثروته، تناول السم ومات.

كذلك خدم ريتشارد لفلاس Lovelace الملك في الحرب والشعر معاً، كما كان أيضاً ثرياً وسيماً. رآه أنتوني وود في إكسفورد فقال عنه إنه "ألطف وأجمل إنسان وقعت عليه عيناه"(51) وفي 1642 رأس وفداً من كنت يلتمس من البرلمان الطويل (وكان مشيخياً لأمد قصير)، إعادة الطقوس الأنجليكانية. ومن أجل هذه الجرأة في التمسك بعقيدته، قضى في السجن سبعة أسابيع. ولما جاءت معشوقته ألثيا Althea تزوره وتواسيه في السجن، خلدها بهذه الأبيات:

عندما يرفرف الحب بأجنحة طليقة حول الأبواب، ويأتي
بملاكه الطاهر ألثيا تهمس من خلف القضبان. وعندما
أرقد متشابكاً في شعرها لا أحول بصري عن عينيها، فإن
الطيور التي تسبح في الهواء لا تعرف حرية مثل هذه.
إن بعض الجدران لا تصنع سجناً، ولا تصنع بعض
القضبان قفصاً، لأن العقول البريئة الهادئة تتخذ من
هذا وذاك صومعة. وإذا كنت أنعم بالحرية في حبي، وإذا
كانت نفسي طليقة. فان الملائكة الذين يحلقون في السماء
هم وحدهم الذين ينعمون بمثل هذه الحرية(52).

وخرج إلى الحرب ثانية في 1645، معتذراً إلى خطيبته (لوسي ساكفرل Sacheverell) في قصيدة: To Lucasta, Going To The Wars

لا تقولي يا عزيزتي إني قاس لا أرحم، لأني من معبد
صدرك الطاهر وبالك الخالي، أطير إلى ساحة الحرب
وأمتشق الحسام....
على أنك أنت نفسك سوف تقدسين مثل هذا التحول لأني
لم أكن لأحبك، إذا لم يكن الشرف أحب إلي منك(53).

وطبقاً لأنباء كاذبة عن موته في ساحة القتال تزوجت لوكستا (لوسي الطاهرة) من شخص آخر طلب يدها. ولما أن فقد لفلاس فتاة أحلامه وثروته في سبيل الدفاع عن الملكية، ساءت أحواله إلى حد الاعتماد على إحسان أصدقائه وبرهم ليقيم أوده. وبات هذا الذي كان يرفل في ثياب موشاة بالفضة والذهب، يرتدي الآن أسمالاً بالية ويأوي إلى الأكواخ. ومات من السل والهزال 1658، وهو في سن الأربعين.

وكان من الممكن أن يتعلم لفلاس فن البقاء من أدموند وولر Waller الذي نجح في الاحتفاظ بنشاطه لمدة ستين عاماً، ممالئاً جانبي الثورة الكبرى كليهما، وأصبح أكثر شعراء زمانه شعبية، وعمر بعد ملتون، ومات في سريره 1687 وهو في سن الواحدة والثمانين. ودخل البرلمان في السادسة عشرة من عمره، وأصابته لوثة من الجنون في سن الثالثة والعشرين، ثم شفي وتزوج في سن الخامسة والعشرين من سيدة في لندن آلت إليها ثروة ضخمة، واراها التراب بعد ثلاث سنوات من زواجهما. وسرعان ما تودد إلى ساكاريسا (ليدي دوروثي سدني)، بأسلوب جديد لموضوع قديم.

اذهبي أيتها الوردة الجميلة، وأبلغي هذه التي تضيع
وقتها وتضيعني، إنها الآن تعرف حق المعرفة أني
إذ أشبهها بك، كم يبدو هي جميلة فاتنة.
أبلغيها، وهي في ريعان الشباب، وتتجنب أن يختلس
أحد النظر إلى مفاتنها، أنك لو كنت (أيتها الوردة)،
نشأت في الصحراء، حيث لا يقطن إنسان، لأصابك الذبول
دون أنه يتغنى أحد بجمالك....
ثم تفنى تلك التي نقرأ فيها المصير المشترك لكل ما هو
فذ نادر، وما أقصر الأيام التي نقضيها مع ربات الحسن
الرائع والجمال المذهل.

وثمة شاعر آخر يكاد يكون من الشعراء الأقل شأناً يدخل في زمرة شعراء هذه الحقبة، وهو ريتشارد كراشو، الذي امتلأ بالحماس الديني أكثر مما أغرم بمتاع الدنيا. وكتب والده، وهو من رجال الكنيسة الأنجليكانية، مقالات ضد الكاثوليكية، وملأ قلب ابنه بالمخاوف من البابوية. ولكن ريتشارد اعتنق الكاثوليكية، وفصل من كمبردج (1644) لمناصرته الملك، فهرب من إنجلترا إلى باريس. وهناك تعزى عن فقره "بتجليات الذات الإلهية"، كان المتصوفة الأسبان في نظره كشفاً مقدساً عن النشوة والورع. وحين وقف أمام صورة للقديسة تيريزا غبطها على ما ظفرت به من اختراق سهم المسيح قلبها، وتوسل إليها أن تقبله تلميذاً لها، منكراً لذاته:

استحلفك بملء ملكوت هذه القبلة الأخيرة التي أمسكت
بروحك الطاهرة، وختمتك ملكاً للمسيح، وبكل
السموات التي لك فيه (يا شقيقة الساروفيم الجميلة)،
وبكل ما نجده فيك من صفاته، ألا تتركي في شيئاً من
نفسي، وأن تدعيني أتأمل حياتك، بحيث أموت عن
كل حياتي.


قدم كراشو للعالم هذه القصيدة وقصائد غيرها في ديوانه "خطوات إلى المعبد" (1646)، وهي خليط متناقض يجمع بين النشوات الدينية والنزوات الشعرية. وإنا لندرك من خلال هذا الشاعر، وشاعر آخر مثله متأخر عنه، هو هنري فوجان، أنه في تلك الأيام العصيبة المحمومة، لم تكن إنجلترا منقسمة إلى بيوريتانيين وكلفنيين، بل وسط حرب الشعر واللاهوت، وجدت بعض الأرواح أن الدين ليس كامناً في الأضرحة الضخمة والطقوس المنومة، ولا في التعاليم الرهيبة والاختيار المرسوم بالكبرياء والزهو، ولكن في الاتصال البريء الواثق، للنفس الحائرة الخاشعة، بالله الغفور الودود.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

6- شارل الأول يواجه البرلمان 1625 - 1629

أي طراز من الرجال كان هذا الملك الذي كان على إنجلترا بأسرها أن تقاتل من أجله؟ وقبل أن تنتزع العاصفة كل آثار الرحمة والشفقة من قلبه، كان رجلاً فاضلاً إلى حد معقول-كان ابناً عطوفاً باراً، وزوجاً مخلصاً بشكل غير عادي، وصديقاً وفياً، وأباً يحبه أبناؤه حب العبادة، وكان قد بدأ صراعه في الحياة بعلة خلقية في جسمه، فلم يكن يستطيع المشي إلى أن بلغ السابعة من العمر، وتغلب على هذه العاهة بالدأب على ممارسة ألعاب قوية، حتى استطاع في سني الشباب والنضج أن يتقن ركوب الخيل والصيد على أحسن وجه. وعانى من عجز عن النطق، فكان حتى سن العاشرة لا يكاد يستطيع الإبانة في كلامه. وفكر أبوه في إجراء عملية له في لسانه، وتحسن شارل شيئاً فشيئاً، ولكن ظل حتى آخر لحظة في حياته يتلعثم، وكان عليه أن يتغلب على هذه العقبة بالتزام البطء في الكلام(54). وعندما قضى أخوه هنري نحبه، وكان محبوباً لدى الشعب، وتركه الوريث الظاهر للعرش، حامت الشبهات حول اشتراك شارل في موته، وكان اتهاماً ظالماً، ولكنه أسهم في اكتئاب الأمير وسوء حالته النفسية. فآثر العزلة المملة على المرح الصاخب والإدمان على الخمر في بلاط والده. وبرع في الرياضيات والموسيقى واللاهوت، وتعلم شيئاً من اليونانية واللاتينية، وقليلاً من الأسبانية. وأحب الفن، فاحتفظ بمجموعة أخيه، وزاد عليها، فأصبح جامعاً للتحف مع التمييز بين الغث والثمين منها، وراعياً كريماً للفنانين والشعراء والموسيقيين. ودعا إلى بلاطه الرسام الإيطالي أورازيو جنتلسكي، ثم روبنز وفانديك وفرانس هالز، ورفض هالز، وجاء روبنز أساساً بوصفه سفيراً. ولكن العالم كله عرف شارل على أنه الملك المزهو الوسيم، مع فانديك بلحيته، وكم من لوحة للملك بريشة فانديك. واستمر وليم دوبسون، تلميذ فانديك يصور الأسرة المالكة.

وأسهمت أبوة شارل وزواجه في القضاء عليه. لقد ورث عن أبيه فكرته عن الحق المطلق للملك، وسلطته في سن القوانين وتنفيذها، والحكم بلا برلمان. وبدا أن هذه الفكرة تبررها السوابق، وكانت قضية مسلماً بها في فرنسا وأسبانيا، وكان يشجع شارل على اعتناقها، بكنجهام والحاشية والملكة جميعاً. نشأت هنريتا ماريا في البلاط الفرنسي في نفس الفترة التي كان فيها ريشيليو قد جعل من أخيها لويس الثالث عشر حاكماً مطلقاً مستبداً على فرنسا بأسرها، فيما عدا ريشيايو نفسه. وقدمت الملكة إلى إنجلترا، وهي تجهر بمذهبها الكاثوليكي، مصطحبة معها في ركب عرسها الكهنة الكاثوليك، وزاد من تشددها في التمسك بمذهبها ما رأت من العنت الذي يلاقيه الكاثوليك في إنجلترا. وتحلت الملكة بسحر الجمال والحيوية والذكاء، وبكل نزوع آل مديتشي إلى الاشتغال بالسياسة. ولم يكن بد من أن تحث زوجها المخلص على التخفيف من آلام الكاثوليك في إنجلترا، ولا ريب في أنها كانت تحلم بتحويل الملك نفسه إلى الكثلكة. وأنجبت له ستة أطفال. ولا بد أنه لقي عناء شديداً في مقاومة رغبتها في تنشئة الأطفال على العقيدة الكاثوليكية. ولكنه كان قد انتهج نهجاً مخلصاً في التمسك بالعقيدة الأنجليكانية. وتحقق أن بلاده، إنجلترا، بروتستانتية إلى حد كبير، معادية للباباوية التي تنذر بالأخطار.

في 18 يونية 1625 اجتمع أول برلمان في عهد شارل: مائة من اللوردات- نبلاء وأساقفة- تمتعوا بعضوية مجلس اللوردات، وخمسمائة رجل ثلاثة أرباعهم من البيوريتانيين(55)، انتخبوا لمجلس العموم، بمختلف طرق الاحتيال المالي والسياسي(56)، ولم يزعم أحد بأنه كان ثمة ديمقراطية. ومن المحتمل أن مستوى الكفاية في هذا البرلمان أعلى مما كان يمكن أن يأتي به اقتراع البالغين، فقد ضم كوك وسلدن وبيم وسير جون اليوت وسير توماس ونتورث. وغيرهم، ممن خلد التاريخ ذكرهم. وزادت جملة ثروات أعضاء مجلس العموم على ثلاثة أمثال ثروات اللوردات(57). وتكشف نزعة مجلس العموم في مطالبته بتطبيق القوانين المعادية للكثلكة. وطلب الملك تخصيص أموال للنفقات الحكومية وللحرب مع أسبانيا، فاعتمد المجلس مبلغ ألف جنيه (7 ملايين دولار؟)، وتعمد أن يكون هذا المبلغ غير كاف، فإن الأسطول وحده كان يتطلب ضعف هذا المبلغ. وجرى العمل لمدة قرنين من الزمان، على منح الملوك الإنجليز طيلة مدة حكمهم، حق فرض رسوم على الصادرات والواردات، وكانت عادة شلنين أو ثلاثة شلنات عن كل برميل كبير Tun (وحدة سعة 252 جالوناً عادة) ومن ستة إلى إثنا عشر بنساً لكل باوند. ولكن القانون الذي سنه البرلمان آنذاك "Tonnage and Poundage" سمح للملك بممارسة هذا الحق لمدة عام واحد فقط. واحتج بأن الاعتمادات السابقة كانت حاشية الملك جيمس يبددها في إسراف وتبذير. كما شكا من أن الضرائب كانت تفرض دون موافقته، وتقرر منذ الآن أنه لا بد من دعوة البرلمان سنوياً ليفحص كل عام مصروفات الحكومة. واستاء شارل من هذه التدابير والنيات. ولما باتت لندن مهددة بالطاعون، اتخذ من ذلك ذريعة لحل البرلمان في 12 أغسطس 1625.

كان بكنجهام يقبض آنذاك على زمام الأمور في الحكومة، فإن شارل لم يرث عن أبيه الدوق اللطيف المستهتر فقط، بل أنه كان كذلك قد تربى في أحضانه، ورافقه في أسفاره، في صحبة كان من الصعب معها على الملك (شارل) أن يرى في صديقه مستشاراً غير حكيم يجر عليه الكوارث. وكان بكنجهام، بتأييد من البرلمان، قد دفع جيمس إلى الحرب مع أسبانيا، أما الآن فقد رفض البرلمان اعتماد الموال اللازمة للحرب. وجهز الدوق أسطولاً ضخماً ليقلع ويهاجم البضائع والثغور الأسبانية ويسلبها، ولكنه أخفق إخفاقاً تاماً، أما الجنود العائدون، الذين لم يتسلموا رواتبهم، والذين ساءت روحهم المعنوية، فقد أعملوا السلب والنهب ونشروا الروح الانهزامية في المدن الساحلية الإنجليزية.

ولما أشتد حاجة شارل إلى المال، راض نفسه على دعوة برلمانه الثاني، وقويت المعارضة باشتداد حاجة الملك. وحذره مجلس العموم من فرض الضرائب دون إقرار البرلمان لها. ووصم اليوت الدوق (وكانا يوماً صديقين) بأنه رجل فاسد عاجز ازداد ثراء كلما أخفقت استراتيجية البلد أو سياستها. وعين البرلمان لجنة لمساءلة بكنجهام. فأنبه الملك قائلاً: "أنا لا أسمح بأن يحقق المجلس مع خدمي، فما بالكم برجل قريب مني إلى هذا الحد." فأشار اليوت على المجلس بوقف أية اعتمادات حتى يسلم الملك بحق البرلمان في إسقاط أي وزير، وذكر شارل البرلمان غاضباً، بأن في مقدوره أن يفضه في أية لحظة، فرد المجلس على ذلك بمحاكمة بكنجهام رسمياً-متهمين إياه بالخيانة ومطالبين بعزله عن منصبه (8 مايو 1626 وأبلغ الملك بأنه لن يقر أية اعتمادات، حتى يتم ذلك. فحل الملك البرلمان في 15 يونية، وترك البت في موضوع المسئولية الوزارية للمستقبل.

وبات شارل مرة أخرى معوزاً في مسيس الحاجة إلى المال، وبيع مقدار كبير من الصحاف الملكية الفضية والذهبية. وطلب إلى البلاد بأسرها أن تبعث بالهبات والهدايا للملك، ولكن ما جمع منها كان يسيراً، فإن الثروات البريطانية كانت تناصر البرلمان، وأمر شارل أعوانه أن يجمعوا رسوم الصادرات والواردات سالفة الذكر، برغم عدم حصوله على موافقة البرلمان، وأن يستولوا على بضائع التجار الذين يعجزون عن الدفع. وأمر الثغور بالإنفاق على الأسطول، وأمر وكلاءه بسوق الرجال إلى الخدمة العسكرية عنوة. وهزم رجال الإمبراطور القوات الإنجليزية الدنمركية التي كانت تقاتل من أجل البروتستانتية في ألمانيا شر هزيمة. فطالب الدنمركيون حلفاء إنجلترا بالمعونة التي كانت وعدتهم بها. وأمر شارل بعقد قرض إجباري-فكان على كل دافع ضرائب أن يقرض الحكومة 1% من قيمة أرضه و5% من ثمن ممتلكاته الشخصية. وأودع الخصوم الأثرياء السجون، وسيق المعارضون الفقراء إلى الجيش أو البحرية. وفي نفس الوقت حمل التجار البريطانيون المؤن والذخيرة إلى بوردو ولاروشيل للهيجونوت المشتبكين في حرب مع ريشيليو. فأعلنت فرنسا الحرب على إنجلترا (1627)، وقاد بكنجهام أسطولاً لمهاجمة الفرنسيين في لاروشيل، ولكن الحملة أخفقت. وسرعان ما نفد المبلغ الذي جمع من القرض وقدره 200 ألف جنيه. وبات شارل مرة أخرى على شفا الإفلاس، فدعا برلمانه الثالث.

اجتمع البرلمان في 17 مارس 1628، وأعيد كوك واليوت وونتورث وجون هامدن. وأرسلت مدينة هنتنجدون لأول مرة أحد ملاك الأرض الأقوياء الشكيمة ممثلاً عنها، هو أوليفر كرومويل. وفي خطاب العرش طالب شارل بالاعتمادات متجهماً، ثم قال في وقاحة وبغير اكتراث: "لا تأخذوا هذا على أنه تهديد، فإني احتقر أن أهدد إلا من هم أندد لي(58) واقترح البرلمان اعتماد مبلغ 350 ألف جنيه، ولكن قبل التصويت على ذلك، طلب موافقة الملك على "ملتمس الحقوق" (18 مايو 1628) الذي أصبح أحد المعالم التاريخية في الطريق إلى "سيادة البرلمان":

قالب:Cquote

ومضى "الملتمس" يحتج على القروض الإجبارية، وإهدار الملك لحق الفرد في التحقيق في قانونية الاعتقال، وحق المحاكمة أمام المحلفين كما وردا في "العهد الأعظم 1215". وقال كوك: "إننا سنعرف عن طريق هذا الملتمس ما إذا كتب للبرلمان أن يحيا أو يندثر". ووافق شارل على الملتمس موافقة غامضة ملتوية، وطالب البرلمان برد أكثر صراحة ووضوحاً. وظل على موقفه من وقف الاعتمادات. فوافق الملك موافقة رسمية أو شكلية. وأحست لندن بأهمية هذا الاستسلام ومغزاه، وقرعت النواقيس بشكل لم يسمع له مثيل لعدة سنوات من قبل.

وخطا البرلمان خطوة أخرى، فطالب الملك بعزل بكنجهام ولكنه رفض، وفجأة روع الطرفان حين وجد أن هذه المشكلة خرجت من أيديهما. وذلك أن جون فلتون-وهو محارب قديم جريح أثقله الديون، غاضباً من أجل متأخرات معاشه، متأثراً أشد التأثر بالنشرات-اشترى سكين جزار، ومشى ستين ميلاً من لندن إلى بورتسموث، وغمس السكين في صدر بكجنهام، وسلم نفسه للسلطات (23 أغسطس 1628). وانهارت أمام الجثة زوجة بكنجهام التي كانت على وشك الوضع، واستولى الشعور بالندم على فلتون فأرسل إليها باعتذاراته وطلب منها الصفح، فأجابته إلى طلبه. ولكنه أعدم دون تعذيب.

وحذر البرلمان الملك بأن استمراره في تحصيل رسوم الصادرات والواردات إهدار لمتلمس الحقوق، فأجاب شارل بأن مثل هذه الرسوم لم يرد ذكرها في الوثيقة، فشجع البرلمان التجار على الامتناع عن دفعها(59) وتوكيداً لحق البرلمان في سن التشريع الديني، برغم سيادة الملك الدينية، نادى بكلفنية صارمة، وبتفسير مضاد لآراء أرمينيوس للمواد التسع والثلاثين باعتبارها قانون إنجلترا، وأقترح، استناد إلى السلطة المخولة له، فرض الخضوع للكنيسة الإنجليزية على هذا الأساس، وفرض العقوبات على الكاثوليك والأرمينيين على حد سواء(60). فأمر الملك بفض البرلمان، وغادر رئيسه مقعد الرياسة امتثالاً لهذا الأمر، ولكن المجلس أبى أن يفض الاجتماع، وأرغم رئيسه على العودة إلى كرسيه. ونحن الآن في 2 مارس 1629 حيث قدم جون اليوت ثلاثة قرارات تنص على أن تكون جريمة كبرى عقوبتها الإعدام: إدخال المذاهب البابوية أو الأرمينية أو أية أفكار أخرى تخالف تعاليم الكنيسة القويمة الصحيحة، والإشارة أو الاشتراك بأي شكل من الأشكال في جمع رسوم الصادر والوارد التي لم يقرها البرلمان، ودفع مثل هذه الضرائب غير المعتمدة. ورفض رئيس المجلس أخذ الرأي على هذه الاقتراحات. فقام أحد الأعضاء بهذه العملية، وقابلها المجلس بالهتاف والتصفيق وأقرها. ومذ علم أعضاء المجلس بأن جنود الملك على وشك الدخول إلى قاعة المجلس وطردهم، فإنهم قرروا فض اجتماعهم، وانصرفوا.

وفي مارس أمر شارل بسجن اليوت وسلدن وسبعة من أعضاء آخرين بتهمة إثارة الفتنة. وسرعان ما أطلق سراح ستة منهم، وحكم على الثلاثة الباقين بغرامات فادحة وبالسجن لمدد طويلة، ومات اليوت في السجن وهو في سن الثامنة والثلاثين (1622).

7- شارل حاكم مطلق 1629-1640

ومضت إحدى عشرة سنة- وهي أطول فترة من نوعها في تاريخ إنجلترا لم يجتمع فيها البرلمان. وبات شارل آنذاك حراً في أن يكون حاكماً مطلقاً. إنه من الوجهة النظرية لم يطالب بأكثر مما ذهب عليه جيمس وإليزابث وهنري الثامن، ولكنه من الوجهة العملية ذهب إلى اكثر مما ذهبوا إليه، لأنهم لم يبلغوا بسلطات الملك وحقوقه قريباً من حد التوتر والانفجار كما كان يفعل شارل، بفرض الضرائب غير المقررة، وعقد القروض الإجبارية، وإيواء الجنود لدى المواطنين، وإجراء الإعتقالات التعسفية، وإنكار حق المسجونين في طلب التحقيق في أمر حبسهم وفي المحاكمة أمام المحلفين، وتشجيع طغيان محكمة "قاعة النجم"، ومحكمة اللجنة العليا وقساوتها، الأولى في المحاكمات السياسية، والثانية في القضايا الكنسية. ولكن غلطة شارل الأساسية هي عجزه عن أن يدرك أن الثروة التي يمثلها مجلس العموم أعظم كثيراً من الثروة التي يسيطر عليها الملك أو الثروة الموالية له، وأن سلطة البرلمان لا بد أن تزداد تبعاً لذلك.

وفي أثناء هذه الأزمة، وقبل أن تستنزف دماء الأمة، ازدهر الاقتصاد، لأن شارل-مثل والده-كان رجل سلام، وأبقى إنجلترا بعيدة عن الحرب طيلة معظم حكمه، على حين أرهق ريشيليو فرنسا، كما أصبحت ألمانيا خراباً بلقعاً. وبذل الملك المنهوك أقصى الجهد في التخفيف من التركيز الطبيعي للثروة. فأمر بوقف المساحات المسورة وألغى ما أقيم منها في خمس مقاطعات داخلية بين عامي 1625 و1630، وفرض غرامات على 600 من ملاك الأرض المتمردين(61) وأمر برفع أجور عمال النسيج في 1629، 1631، 1637، وأمر قضاة الصلح بفرض رقابة أدق على الأسعار. وعين لجاناً لحماية مستوى الأجور، والإشراف على إعانة الفقراء. وخلق لود لنفسه أعداء جدداً، بتحذيره أرباب العمل من "إذلال الفقراء واضطرارهم إلى إراقة ماء وجوههم(62)" ولكن في نفس الوقت منحت الحكومة الاحتكارات في الملح والصابون والنشا والبيرة والنبيذ والجلود، وأفادت منها.

واحتفظت لنفسها باحتكار الفحم. فكانت تشتريه بأحد عشر شلناً للعبوة، وتبيعه عشر في الصيف وتسعة عشر في الشتاء(63). وتلك أيضاً احتكارات أرهقت الفقراء إلى أبعد حد، وهاجر إلى إنجلترا أكثر من 20 ألفاً من البيوريتانيين. ودفع شارل بأنه كان لا بد له من إيجاد وسيلة لتغطية نفقات الحكومة. وفي 1634 حاول محاولة مشئومة: فرض ضريبة جديدة. ذلك أن السوابق جرت من قديم على مطالبة المدن الساحلية بأن تمد الأسطول بالسفن اللازمة له زمن الحرب، مقابل حمايته لها، أو أن تدفع، بدلاً من ذلك، "مال السفن" للحكومة لتنفق منه على الأسطول. ولكن شارل الآن، ونحن في 1635، فرض "ضريبة السفن" هذه، وبغير سابقة، على كل إنجلترا بأسرها في زمن السلم، متذرعاً (وهذا حق تماماً) بالحاجة إلى إعادة بناء البحرية الخربة، استعداداً للطوارئ، ولتتولى حماية التجارة البريطانية ضد قراصنة القنال الإنجليزي. وعارض الكثيرون هذه الضريبة الجديدة، ورفض جون هامدن دفعها، اختباراً لمشروعيتها، فأودع السجن ثم أطلق سراحه. وكان بيوريتانياً موسراً من بكنجهام شير. قال عنه أحد أنصار الملكية-كلارندن، إنه ليس من مثيري الفتن بل إنه رجل هادئ "يتميز برزانة ودقة غير عاديتين(64)". أخفى صلابته في كياسته ومجاملته، وأخفى زعامته في تواضعه.

وتأخرت محاكمة هامدن طويلاً، ولكن أخيراً بدئ بنظر القضية في نوفمبر 1637، وأورد محامو التاج سوابق "ضريبة السفن" وقالوا بأن للملك في ساعة الخطر الحق في أن يطلب المعونة المالية دون انتظار لانعقاد البرلمان. فأجاب محامو هامدن بأنه لم يكن ثمة ضرورة ماسة تقتضي العجلة، وحالة طوارئ. وأنه كانت هناك فسحة من الوقت لدعوة البرلمان، ثم أن فرض الضريبة انتهك ملتمس الحقوق الذي قبله الملك. وصدر الحكم لمصلحة التاج بأغلبية سبعة ضد خمسة من القضاة، ولكن الرأي العام ساند هامدن، وارتاب في نزاهة القضاة الذين هم عرضة لانتقام الملك. وسرعان ما أطلق سراح هامدن. واستمر شارل حتى 1639 يجمع ضريبة السفن. واستخدم الجزء الأكبر منها في بناء البحرية التي قاتلت الهولنديين وانتصرت عليهم في 1652.

وفي الوقت نفسه جاوزت أخطاء الملك الجسام إنجلترا إلى إسكتلنده، فإنه أزعج المشيخيين الاسكتلنديين بزواجه من كاثوليكية، ومده سلطان الأساقفة على كنائسهم. وروع نصف الأشراف "بقانون الإلغاء" (1625) الذي يقضي بإلغاء كل ما منح من أراضي التاج أو الكنيسة منذ ارتقاء ماري ستيوارت إلى العرش. وعين خمسة من الأساقفة ورئيساً للأساقفة أعضاء في مجلس الخصوص في إسكتلنده، ثم عين هذا الأخير وهو جون سبوتيزود Spottizwoode قاضياً للقضاة-وهو أول رجل من رجال الكنيسة يعين في هذا المنصب منذ عهد الإصلاح الديني. ثم إنه لما قدم، بعد إبطاء أو تمهل مثير، إلى إسكتلنده ليتوج عليها (1633)، سمح للأساقفة بإجراء الطقوس التي تكاد تكون في معظمها مراسم كاثوليكية في الكنيسة الأنجليكانية-الملابس والشموع والمذبح والصليب. ولما كان الأساقفة الاسكتلنديين قد وطدوا العزم على فرض سلطانهم على المشيخيات، فانهم وضعوا مجموعة من القواعد الطقسية التي صارت تعرف-باسم "قوانين لود"، وقد أولت هذه القوانين الملك سلطة كاملة في الفصل في قضايا الكنيسة، وحرمت اجتماع رجال الدين إلا بدعوة من الملك، وقصرت حق القيام بالتدريس على من يحيزهم الأسقف، ونصت على ألا يرسم قسيساً إلا من يرتضي هذه القوانين(65). وأقر شارل هذه القوانين وأمر بإعلانها في كل كنائس إسكتلنده. واحتج القساوسة المشيخيون على أن نصف الإصلاح الديني بهذه الطريقة قد نسف، وحذروا من أن شارل يمهد لإخضاع بريطانيا لروما. وثارت ثائرة الجمهور في كنيسة سانت جيل في أدنبرة عند محاولة إقامة الشعائر على شكل جديد، وقذف بالعصي والحجارة الكاهن الذي تولى إقامة الشعائر، وطوحت جني جدز Jenny Geddes بكرسيها في رأسه صارخة "أيها اللص القذر، هل أنت الذي ستتلو القداس؟(66)" وانهالت الظلامات والالتماسات على شارل من كل الطبقات تطالب بإلغاء "القوانين الكنسية" السابق ذكرها. فكان جوابه أنه دمغ هذه الملتمسات بالخيانة. وبدأت إسكتلندة الثورة ضد الملك. وفي 28 فبراير 1638 وقع ممثلو الكنيسة الإسكتلندية وسواد الناس في أدنبرة "الميثاق الوطني" يؤكدون فيه من جديد مذهب المشيخية وطقوسها، ويرفضون القوانين الجديدة، وينذرون أنفسهم للدفاع عن التاج وعن "العقيدة الصحيحة".


وبتحريض من القساوسة أيدت إسكتلندة كلها تقريباً هذا الميثاق. وهرب سبوتزوود وكل الأساقفة فيما عدا أربعة، إلى إنجلترا. وطردت الجمعية العامة للكنيسة الإسكتلندية في جلاسجو كل الأساقفة، وأعلنت استقلالها عن الحكومة. وأرسل الملك أوامره بفض الاجتماع، وإلا وجهت إلى المشتركين فيه تهمة الخيانة. ولكنهم واصلوا عقد جلساتهم. وحشد الملك جيشاً قوامه 21 ألف جندي تعوزهم الحماسة، سار به إلى إسكتلندة، على حين جمع "الميثاقيون" قوة من 26 ألف رجل ألهبهم الحماس الديني والغيرة الوطنية. وعندما تلاقى الجمعان وافق شارل على عرض القضية على برلمان إسكتلندي حر وجمعية غير مقيدة من الكنيسة الإسكتلندية، ووقعت الهدنة في بروك Berwick في 18 يونية 1639 وبذلك انتهت "حرب الأساقفة الأولى" دون إراقة دماء. ولكن الجمعية الجديدة انعقدت في إدنبرة في 12 أغسطس 1639، وأكدت القرارات "الخائنة" التي اتخذت في مؤتمر جلاسجو، وصدق البرلمان الإسكتلندي على قرارات الجمعية. واستعد الطرفان "لحرب الأساقفة الثانية". ودعا الملك للوقوف إلى جانبه، في هذه الأزمة، رجلاً ثابت العزم كامل المزايا (وكانت هذه الكلمة شعاره) بقدر ما كان الملك متردداً عاجزاً. وكان توماس ونتورث Wentworth قد وصل إلى مقاعد البرلمان وهو في سن الحادية والعشرين (1614)، وكان غالباً ما يصوت ضد الملك. وكسبه شارل إلى جانبه بتعيينه رئيساً "لمجلس الشمال"، وكافأه على نشاطه في تنفيذ سياسة الملك بضمه إلى مجلس شورى الملك وبعث به نائباً للملك في إيرلندة (1632) حيث أخمدت الثورة هناك سياسته "البارعة" التي ارتكزت على كفاية مجردة من الرحمة، وأقامت سلاماً مشوباً بالغضب. وفي 1639 عين ارل سترافورد ورئيساً لمستشاري شارل. ونصح الملك بحشد جيش كبير، لقمع "الميثاقيين" ومواجهة البرلمان المتمرد بقوة لا قبل له بمقاومتها. ولكن الجيش الكبير يتطلب اعتمادات من العسير تدبيرها بدون البرلمان. فدعا، على كره منه، برلمانه الرابع، فلما اجتمع هذا "البرلمان القصير" (13 أبريل 1640) عرض عليه الملك رسالة ضبطت، التمس فيها الميثاقيون نجدة لويس الثالث عشر(67). واحتج الملك بأن له الحق؛ إزاء مثل هذه الخيانة؛ في أن يحشد جيشاً، واتصل جون بيم سراً بالميثاقيين، وقرر أن مشكلتهم مماثلة لقضية البرلمان ضد الملك، وحرض البرلمان على منع المعونات المالية عن الملك، وعلى التحالف مع الإسكتلنديين. فحل شارل البرلمان القصير بتهمة الخيانة (5 مايو 1640). واندلعت الفتنة في لندن، وهاجم الرعاع قصر رئيس الأساقفة لود، فلما لم يجده قتلوا كاثوليكياً رفض الصلاة البروتستانتية(68).

وسار شارل إلى الشمال بجيش جمع ارتجالاً، وتقدم الإسكتلنديون نحو الحدود وهزموا الإنجليز (20 أغسطس 1640) واستولوا على شمال إنجلترا. ووافق الملك البائس على دفع 850 جنيه يومياً حتى يتم التوصل إلى معاهدة مرضية، ولكنه عجز عن الدفع، وبقي الجيش الإسكتلندي حول نيو كاسل، بوصفه حليفاً حاسماً للبرلمان الإنجليزي في حربه ضد الملك. فدعا شارل، وقد تولاه اليأس والذهول والحيرة، مجلساً من النبلاء للاجتماع به في يورك. فنصحوه بأن سلطانه بات على شفا الانهيار، وأنه لا بد له من تسوية مع أعدائه. وللمرة الأخيرة دعا الملك البرلمان، وهو أطول البرلمانات وأشدها حسماً وأكثرها شؤماً في تاريخ إنجلترا.


8- البرلمان الطويل

اجتمع البرلمان في وستمنستر في 3 نوفمبر 1640. وكان مجلس العموم يضم نحو 500 عضو هم "زهرة الطبقة العليا والعامة المتعلمين.... مجلس أرستقراطي لا شعبي(69)"، يمثلون ثروة إنجلترا أكثر مما يمثلون شعبها، ولكنهم يناضلون من أجل المستقبل ضد الماضي. وأعيدت أغلبية أعضاء البرلمان القصير، متحفزين للانتقام. وتبوأ سلدن وهامدن وبيم أماكنهم من جديد. وكان كرومول رجلاً مرموقاً، ولو أنه لم يرق إلى الزعامة بعد.

إنه ليتعذر، على بعد الشقة، أن نصور كرومول تصويراً موضوعياً. فان المؤرخين منذ ظهر حتى اليوم، يصفونه بأنه منافق طموح(70)، أو قديس سياسي(71).... إنه شخصية متناقضة، ربما جمع-وربما وفق في بعض الأحيان- في خلقه بين الصفات التي أدت إلى اختلاف الناس في تقديرهم له. وهذا هو مفتاح سيرة كرومويل.

كان كرومويل من ملاك الأرض من غير ذوي الحسب والنسب، الذين لم يتمتعوا ببريق الوظائف الحكومية، ولو أنه أسهم عن غير طيب نفس الإنفاق عليها. ومع ذلك فانه كان له أسلافها. فكان والده روبرت كرومويل يملك ضيعة متواضعة في هنتنجدون تدر 300 جنيه في العام. وكان جده الأكبر ريتشارد وليامز ابن أخي توماس كرومويل أحد قساوسة هنري الثامن، فغير اسمه إلى كرومويل، وحصل بوصفه كاهناً، أو من الملك، على شيء من الضياع والموارد المصادرة من الكنيسة الكاثوليكية(72)، وكان أوليفير واحداً من بين عشرة أطفال، وهو الوحيد الذي عمر، على حين مات الباقون في سن الطفولة وكان معلمه في المدرسة الثانوية واعظاً متحمساً، كتب رسالة يثبت فيها أن البابا عدو المسيح، وأخرى يعدد فيها العقوبات الإلهية للخاطئين المعروفين بسوء السمعة. والتحق أوليفر (1616) بكلية سدني سسكس في كمبردج، وكان ناظرها صمويل وارد الذي مات في السجن (1643) لاتخاذه موقفاً بيوريتانيا عنيداً ضد بدع لود و "إعلان الألعاب" الذي أصدره شارل. والظاهر أن أوليفر كمبردج قبل التخرج. وأخيراً في 1638 اتهم نفسه بمقارفة شيء من طيش الشباب ونزقه:


تعلمون أية حياة كنت أعيشها. آه لقد عشت في ظلام محبب



إلى نفسي، وكرهت النور. كنت زعيماً، ولكن زعيم



الخاطئين الآثمين. إن هذا الحق: كان التقي بغيضاً إلى قلبي،



ولكن الله حباني رحمته، آه ببركات رحمته سبحانه، احمدوه



واشكروه وأثنوا عليه من أجلي- وتوجهوا إليه من أجلي



بالدعاء، لعل من أسدى هذا الصنيع الجليل أن يتمه يوم



المسيح، أو يوم الحساب(73).


ومارس كرومويل كل ضروب الندم، وانتابه هذيان الموت وكل مظاهر القلق العقلي، مما بقي معه مكتئباً باستمرار، وتحدث بقية حياته بأسلوب الورع البيوريتاني.


ثم أستقر وتزوج وأنجب تسعة أطفال، وأصبح مواطناً نموذجياً، إلى حد أنه في 1628، وهو سن الثامنة والعشرين، انتخب ليمثل هنتنجدون في البرلمان. وباع ممتلكاته في هنتنجدون بمبلغ 1800 جنيه (1631) وانتقل إلى سانت إيف St. Ives، ثم بعدها إلى Ely. وعندما أعادته كمبردج إلى البرلمان (1640) وصفه عضو آخر بقوله: "يرتدي بشكل عادي جداً حلة من قماش بسيط.... ولم تكن ملابسه الداخلية نظيفة كل النظافة.. تلطخ ياقته الصغيرة بقعة أو بقعتان من الدم".. وكان وجهه منتفخاً يميل إلى الحمرة، وصوته حاداً مجرداً من التناغم-وكان طبعه منتقداً إلى حد بعيد، ولكن مع القدرة على ضبط النفس(74)،-وكان يتحين الفرصة الملائمة، ويخاطب الرب. وكان له قوة عشرة رجال. ومهما يكن من أمر، فان الله حتى هذه اللحظة، اصطفى أدوات أخرى.

إن جون بيم هو الذي كشف عن الغضب الذي ساد البرلمان باتهامه سترافورد بأنه يناصر البابوية سراً، وأنه يدبر قدوم جيش من إيرلندة للإطاحة بالبرلمان، و "تغيير القانون والديانة(75)". وفي 11 نوفمبر 1640 اتهم مجلس العموم إرل سترافورد، حيث لم يغفر له المجلس قط تخليه عن الملك-بالخيانة وأمر بإيداعه السجن. وفي 16 ديسمبر، وبعد أن أعلن المجلس أن القوانين الأنجليكيانية الجديدة باطلة قانوناً، اتهم رئيس الأساقفة لود "بالكثلكة" والخيانة، وأمر بإيداعه السجن كذلك، واعترف سلدن فيما بعد بقوله: "إننا نعلم أنهم لم يرتكبوا جريمة من هذا القبيل(76)". أما شارل فقد أصابه الذهول والحيرة إزاء هذه الخطوات العنيدة القاسية، إلى حد أنه لم يتخذ أي إجراء لحماية معاونيه. وبررت الملكة مخاوف البرلمان حين طلبت إلى كاهن الاعتراف الخاص بها أن يلتمس العون من البابا(77).

وعادت موجة التأثر والانفعال لدى الفريقين كليهما. وظهر بين المتطرفين في لندن حزب Root and Branch (استئصال الأصل والفرع)-وكان يضم ملتون-وتقدم إلى البرلمان بملتمس يطلب فيه إلغاء الحكومة الأسقفية، واستعادة حكومة الكنيسة إلى الشعب، ويستنكر فيه ما يقول به بعض الأساقفة من "أن البابا ليس عدو المسيح، وأن الخلاص يمكن تحقيقه في العقيدة الكاثوليكية(78)". ورفض المجلس هذا الملتمس. ولكنه أقر تحريم ممارسة العمال التشريعية والقضائية على رجال الكنيسة. ووافق اللوردات شريطة احتفاظ الأساقفة بمقاعدهم في مجلس اللوردات. وهذا، على أية حال، هو ما كان يريده بالضبط أعضاء مجلس العموم، لأنهم توقعوا أن الأساقفة في مجلس اللوردات سوف يصوتون دائماً إلى جانب الملك. وزاد النار اشتعالاً، تلك النشرات التي انهالت، دفاعاً عن حكومة الأساقفة أو هجوماً عليها. وذهب جوزيف هول إلى أن لحكومة الأساقفة حقاً إلهياً، على أن الرسل، أو المسيح، هم الذين أسسوها. فرد عليه خمسة من المعلقين المشيخيين، في نشرة مشهورة ممهورة باسم مستعار Smectymnuus مكون من الأحرف الأولى لأسمائهم، وأعقبها خمسة هجمات عنيفة شنها ملتون. وفي 17 مايو 1641 عاد كرومويل فاقترح إلغاء حكومة الأساقفة إلغاء تاماً. وأقر مجلس العموم المشروع ورفضه مجلس اللوردات. وفي أول سبتمبر قرر أن تزال من كل الكنائس الإنجليزية كل "الصور الخليعة" وأن يمنع في "يوم الرب" (يوم الأحد) الرقص والألعاب الأخرى. واجتاحت إنجلترا موجة أخرى من تحطيم الصور المقدسة والقضاء على المعتقدات التقليدية، فأزيلت أسيجة المذبح وأستاره، وحطمت النوافذ ذات الزجاج الملون، ومزقت الصور إرباً(79). وعاد مجلس العموم فأقر مشروعاً بإقصاء الأساقفة في 23 أكتوبر. فأهاب الملك باللوردات، معلناً أنه قرر الاستشهاد في سبيل المحافظة على مبدأ الكنيسة الأنجليكانية ونظامها، وقد كان.. وضمن تدخله عدم إقرار المشروع. ولكن الجموع المعادية منعت الأساقفة من دخول البرلمان. ووقع إثنا عشر منهم احتجاجاً أعلنوا فيه أن أي تشريع يقر في غيبتهم يعتبر باطلاً عقيماً. فأدانهم البرلمان وأودعهم في السجن. وأخيراً أقر مجلس اللوردات قانون إقصاء الأساقفة (5 فبراير 1642). ولم يعد الأساقفة يتخذون مقاعدهم في البرلمان.

وتابع مجلس العموم تدعيم سلطانه، فاقترض من مدينة لندن المال اللازم لتغطية نفقاته. وأقر مشروعات قوانين تنص على أن تكون مدة البرلمان ثلاث سنوات، وتحرم حل أي برلمان قبل مضي خمسين يوماً من بدء اجتماعه، وحل البرلمان الحالي دون موافقته. وأصلح نظام الضرائب والقضاء، وألغى محكمة قاعة النجم ومحكمة اللجنة العليا. وقضى على الاحتكارات وعلى ضريبة السفن. وألغى الحكم الصادر ضد هامدن. ومنع الملك حق جمع رسوم الصادرات والواردات، إلا لفترات يحددها البرلمان وحده. ووافق شارل على هذه الإجراءات، ولكن البرلمان جاوز الإصلاح إلى الثورة. وفي مارس 1641 قدم المجلس ارل سترافورد إلى المحاكمة، وأدانه بتهمة الخيانة، وأرسل الحكم إلى الملك لتوقيعه. وخلافاً لما نصح به لود، شخص شارل إلى مجلس اللوردات، وأعلن أنه على الرغم من استعداده لعزل سترافورد من منصبه، فإنه لن يوافق قط على إدانته بالخيانة. فأعلن أعضاء مجلس العموم أن في حضور الملك انتهاكاً لحرمة البرلمان وإهداراً لحريته وفي اليوم التالي تجمعت "حشود ضخمة حول مجلس اللوردات وقصر الملك وهي تهتف "العدالة، العدالة": وتطالب بإعدام سترافورد. وتوسل مجلس الشورى الذي تولاه الجزع، إلى الملك أن يذعن، فأبى. وضم رئيس أساقفة يورك رجاءه إلى رجائهم في أن يوقع الملك على الحكم، وأنذره النبلاء بأن حياته وحياة الملكة وحياة أطفالهما في خطر، ولكنه أصر على الرفض. وأخيراً أرسل إليه نفس الرجل المحكوم عليه بالإعدام رسالة ينصحه فيها بالتوقيع، الذي هو البديل الوحيد "لعنف الرعاع(80)". فوقع شارل، ولكنه لم يغتفر لنفسه هذا العمل قط.. وفي 12 مايو 1641 سيق سترافورد إلى ساحة الإعدام، ومد لود يديه بين قضبان الزنزانة ليباركه أثناء مروره. ومات "الرجل الكامل" دون أنين أو تشنج، أمام أعين جمهور معاد.

ووسع إعدام سترافورد هوة الخلاف في المجلس وانقسامه إلى ما عرف فيما بعد بحزبي الأحرار والمحافظين-أولئك الذين أيدوا، والذين عارضوا انتقال سلطة بين الملك إلى البرلمان إلى حد أبعد، إن رجالاً مثل لوسيوس كاري (فيكونت فوكلاند) وإدوارد هايد (ارل كلارندون فيما بعد) وكان كلاهما يساندان البرلمان-نقول إن هؤلاء الرجال تساءلوا: أولاً يكون الملك، بعد تأديبه وتهذيبه بمثل هذه القسوة، حصناً مرغوباً فيه ضد حكم الرعاع في لندن، وضد تحكم البيوريتانيين في الدين، وضد برلمان جامح يمكن أن يقوض أركان الكنيسة، ويهدد الملكية الخاصة، ويعرض للخطر الكيان الطبقي في الحياة الإنجليزية بأسره؟. وربما سلم بيم وهامدن وكرومويل بهذه الأخطار، ولكن كان ثمة خطر آخر كان يعتلج في نفوسهم، ألا وهو خوفهم على حياتهم هم أنفسهم إذا استعاد الملك قوته وسلطانه. إن الملك قد يأتي في أية لحظة بجيش نصف كاثوليكي من إيرلندة، كما اقترح سترافورد من قبل. وقرر البرلمان، من أجل سلامته وحمايته، الاحتفاظ بالجيش الاسكتلندي الموالي له في شمال إنجلترا، وأرسل إلى الاسكتلنديين منحة مبدئية قدرها 300 ألف جنيه، ووعد بدفع إعانة شهرية قدرها 25 ألفاً من الجنيهات(81).

وازدادت مخاوف البرلمان باندلاع ثورة عنيفة فجأة في إيرلندة (أكتوبر 1641). ودعا فليم أونل وروري أومرو الثالث، وغيرهم من الزعماء، إلى حرب التحرير-تحرير ألستر من مستعمريها الإنجليز، وتحرير الكاثوليك من ربقة الظلم، وتحرير إيرلندة من نير إنجلترا. وألهبت الثوار ذكريات الاضطهادات الفظيعة، وانتزاع الملكية وطرد الأهالي بصورة أليمة، فقاتلوا قتالاً عنيفاً وحشياً. أما الإنجليز في إيرلندة-دفاعاً عما بدا لهم آنذاك أنه ممتلكات شرعية لهم، وعن حياتهم-فانهم قابلوا الضراوة بأشد منها، وغدا كل انتصار بمثابة مذبحة. واشتبه البرلمان الإنجليزي خطأ في أن الملك أذكى نار الثورة لاستعادة الكثلكة إلى إيرلندة، ثم بعد ذلك إلى إنجلترا، فرفض طلب الملك مالاً لحشد جيش لإنقاذ الإنجليز في شرق إيرلندة، خشية أن يوجه مثل هذا الجيش ضد البرلمان ذاته. واستمرت ثورة إيرلنده في غمرة ثورة إنجلترا.

واشتدت الثورة حين رفع شارل إلى مرتبة أعلى، اثنين من الأساقفة المبعدين الذين حوكموا، فاقترح النواب الناقمون "الاحتجاج الأعظم" يلخصون فيه قضيتهم ضد الملك ويعلنون عنها، ويمكن أن يرغم الملك على منح البرلمان حق الاعتراض على التعيينات في الوظائف الكبرى. وأحس كثير من المحافظين أن مثل هذا الإجراء سوف ينقل السلطة التنفيذية إلى البرلمان ويشل يد الملك. وازداد الانقسام الحزبي حدة، والمناقشات عنفاً، واستل الأعضاء سيوفهم ليؤكدوا وجهات نظرهم. وصرح كرومويل فيما بعد بأنه لو كان هذا الاقتراح رفض لركب البحر إلى أمريكا(82). ولكنه أقر بأغلبية 11 صوتاً. وفي أول ديسمبر 1641 قدم إلى الملك. وبدأ "الاحتجاج الأعظم" بتوكيد ولاء البرلمان للتاج، ومضى يعدد بالتفصيل إساءات الملك إلى البرلمان، والأضرار التي ألحقها بالبلاد، واستعرض العيوب التي عالجتها الإصلاحات البرلمانية، واتهم "الكاثوليك... والأساقفة، والقسم الفاسد من رجال الدين" والمستشارين ورجال الحاشية الأنانيين، بالتآمر على تحويل إنجلترا إلى الكاثوليكية. وأشار إلى تكرار خرق "ملتمسي الحقوق" وتكرار حل البرلمانات المنتخبة حلاً تعسفياً استبدادياً. وطالب الملك بالدعوة إلى عقد جمعية من علماء اللاهوت لإعادة المذهب الأنجليكاني إلى ما كان عليه قبل قوانين لود، واقترح على الملك أن يعزل من مجلس الشورى كل المناوئين لسياسة البرلمان، وأن يستخدم فقط منذ الآن. "مستشارين وسفراء ووزراء ممن يرى البرلمان مبرراً للوثوق بهم. وبدون هذا لن يستطيع الأعضاء أن يقدموا لجلالته الإمدادات اللازمة له، أو المساعدات للبروتستانت فيما وراء البحار، كما أراد جلالته(83)".

وتمهل شارل في الرد على هذا الإنذار النهائي. فتخطاه البرلمان إلى الشعب، وأمر بنشر "الاحتجاج الأعظم" ثم رد شارل فوافق على دعوة مجمع كنسي ليقمع كل "غزوات كاثوليكية"، ورفض حرمان الأساقفة من حق التصويت في البرلمان، وأصر على حقه في أن يختار لمجلس الشورى الملك أو للوظائف العامة كل من يرى أنه صالح. ثم طلب مرة أخرى اعتمادات مالية. ولكن البرلمان بدلاً من هذا، اقترح "قانون الميليشيا" الذي يخوله حق السيطرة على الجيش.

ولكن شارل، في غمرة الحيرة والتردد، كما هو شأنه دائماً، عمد إلى توجيه ضربة جريئة إلى البرلمان الذي شجبها على أنها عمل من أعمال الحرب. ذلك أنه في 3 يناير 1642 اتهم النائب العام، باسم الملك، أمام اللوردات، خمسة أعضاء من مجلس العموم-بيم، هامدن، هوللز، هسلريج، سترود-اتهمهم بالخيانة لعملهم على أن يشق الجيش عصا الطاعة على الملك، وتشجيعهم "دولة أجنبية" (إسكتلندة) على غزو إنجلترا وشن الحرب على الملك. وفي اليوم الثاني دخل شارل، تظاهره قوة من ثلاثمائة جندي تركهم عند الباب، إلى مجلس العموم للقبض على الرجال الخمسة، فلم يجدهم هناك. فقال الملك الحائر المرتبك، وقد صار في مأمن، "أرى أن كل الجبناء، قد هربوا"، وشيعته وهو في طريقه إلى الخروج صيحات الاستنكار والتوبيخ "الحصانة". لأن مثل هذا الغزو الملكي المسلح للبرلمان كان غير مشروع بشكل واضح صريح. وخشية الاعتقال بالجملة، انتقل النواب إلى دار البلدية "جلد هول" تحت حماية المواطنين. وعندما غادر شارل لندن إلى هامبتون كورت، عاد النواب، بما فيهم الخمسة المتهمون إلى وستمنستر. وهربت هنريتا سراً إلى فرنسا ومعها مجوهرات التاج لتشتري بها العون للملك. وسافر شارل إلى الشمال ومعه أختامه. وحاول أن يدخل هل لتأمين المؤن العسكرية هناك، ولكن المدينة أبت عليه ذلك. فغادرها إلى يورك. وأصدر البرلمان أوامره إلى جميع القوات المسلحة بألا تمتثل إلا للبرلمان وحده (5 مارس 1642). وانسحب من البرلمان خمسة وثلاثون من اللوردات وخمسة وستون من النواب، وانضموا إلى الملك في يورك، وأصبح إدوارد هايد آنذاك كبير مستشاري الملك.

وفي الثاني من يونية نقل البرلمان إلى شارل تسعة عشر اقتراحاً رأى أن قبولها ضروري للصلح. منها أن عليه أن يخول للبرلمان سلطة الإشراف على الجيش وجميع المواقع المحصنة. وأن يكون له حق تعديل الطقوس الدينية وحكومة الكنيسة، وتعيين وعزل وزراء التاج وحراس أبناء الملك، وأن يكون له سلطة إقصاء الإشراف الذين يعينون فيما بعد ذلك، عن مجلس اللوردات، ورفض شارل هذه المقترحات، على أنها، عملياً، تقويض للملكية. وعين البرلمان-كأنما كان يتدرب على دور الثورة الفرنسية-لجنة "الأمن العام"، وأمر بأن "يحشد جيش على الفور، (12 يوليه)" وسافر كرومويل وآخرين إلى مواطنهم لجمع المتطوعين وتنظيمهم. وفي نداء إلى الأمة (2 أغسطس) أسس البرلمان ثورته، لا على رغبته في السيادة البرلمانية، بل على تفاقم الكاثوليكية في إنجلترا، وحذر البلاد من أن انتصار الملك لا بد أن يعقبه مذبحة عامة للقضاء على البروتستانت(84). أو في 17 أغسطس استولى وكلاء البرلمان على المخازن العسكرية في هل. وفي 27 أغسطس 1642 نشر شارل رايته فوق نوتنجهام، وبدأت الحرب الأهلية الأولى.


9- الحرب الأهلية الأولى 1642-1646

انشقت إنجلترا الآن-بصورة لا يكاد يكون لها مثيل من قبل في تاريخها المعروف، وانحاز إلى صف البرلمان لندن والثغور والمدن الصناعية، وبصفة عامة الجنوب والشرق، ومعظم الطبقة الوسطى، وجزء من الطبقة العليا، وعملياً كل البيوريتانيين. وانضم إلى جانب الملك أكسفورد وكمبردج والغرب والشمال، ومعظم الأرستقراطيين والمزارعين، وكل الكاثوليك والأنجليكانيين الأسقفيين تقريباً. وكان مجلس العموم منقسماً على نفسه، حيث ناصر الثوار نحو 300 عضو، على حين بلغ عدد الملكيين نحو 175 عضواً. وبلغ عدد مجلس اللوردات 110، انحاز إلى جانب البرلمان نحو 30 منهم في بداية الأمر، ورجحت كفة الثورة ضد الملك. وكان في لندن نصف ثروة الأمة، وقدمت للثورة القروض بسخاء عظيم، على حين عجز الملك عن الاقتراض من أي مكان. وكان الأسطول يناصبه العداء، فسد المنافذ على كل معونة أجنبية. ولم يكن أمام الملك إلا أن يعتمد على الهبات والمنح وعلى رجال من الضياع الكبيرة التي أحس أصحابها أن مصلحتهم في تلك الأرض تتحقق بانتصاره، وانبعث من جديد في الأسرات القديمة بعض فضائل الفروسية ومشاعرها، وقدموا المال للملك بلا قيد أو شرط، وقاتلوا وسقطوا في الميدان كما يسقط كرام الرجال. واندفع الفرسان المفعمون فتوة وحيوية، بشعورهم المعقوصة وخيلهم المطهمة بأبهى السروج إلى غمار حرب بطولية، ومعهم كل الشعراء إلا ملتون. ولكن الثروة كانت إلى جانب البرلمان. والتقى الجمعان لأول مرة في ادجهل Edgehill (23 أكتوبر 1642)، وكان كل جيش يتألف من 14 ألف رجل... وكان الملكيون تحت قيادة الأمير روبرت Rupert ابن إليزابث أميرة بوهيميا أخت شارل، وكان في الثانية والعشرين من عمره. أما "ذوو الرءوس المستديرة" أو البرلمانيون فكان يقودهم روبرت دفريه ارل اسكس الثالث. ولم تكن المعركة فاصلة. ولكن اسكس سحب قواته، وتقدم الملك إلى أكسفورد ليتخذها مقراً لقيادته. ولكن نحميا والنتجون-هو بيوريتاني متحمس أو سياسي، أسماها فوزاً مبيناً للبرلمان وللرب، فهو يقول:


هنا ندرك رحمة الله الواسعة... لأن جملة القتلى من



الجانبين، كما سمعت، كان 3.517، ولكن قتل من



الأعداء عشرة مقابل كل واحد فقدناه منا. ولكن انظر



إلى حسن صنيع الله، فإن الذين قتلوا منا كان معظمهم من



الذين ولوا الأدبار. أما الذين صمدوا واستبسلوا فقد كتبت



لهم النجاة.... كم أود أن أوتي القدرة على أن أروي



كيف أن يد العناية الإلهية صوبت بشكل رائع مدافعنا



وقذائفنا لتدمير العدو... يا للعجب، كيف وجه الله



قذائفهم... إن بعضها سقط أمامهم (من جانبنا) وبعضها



مر مروراً عابراً، وبعضها عبر فوق رءوسهم، وأخرى



سقطت إلى جانبهم... يا الله، ما كان أقل من مس



بأذى برصاص الأعداء ممن وقفوا في وجوههم وقاوموهم



ببسالة... هذا صنع الله، وما أروعه في نظري(85).


على أن الأمور تأزمت في صفوف البرلمانيين في الربيع التالي. فان الملكة هنريتا تسللت إلى إنجلترا، حاملة معها بعض الأسلحة والذخيرة ولحقت بالملك في أكسفورد.

وضيع إسكس الوقت سدى، على حين كان الهرب والمرض ينخران في جيشه، وأصيب هامدن بجرح مميت في بعض المناوشات عند شالجروف فيلد. وهزمت قوة برلمانية في أدوالتون مور (30 يونية 1643)، ودمرت قوة أخرى في راوندواي داون (13 يولية). وسقطت برستول في يد الملك. ولما ساءت أقدار البرلمان إلى هذا الحضيض، ولى وجهه شطر إسكتلندة طلباً للعون. وفي 22 سبتمبر وقع مندوبو إسكتلندة "تحالفاً وميثاقاً مقدسين"، تعهد الاسكتلنديين بمقتضاه بإرسال جيش لمساعدة البرلمان مقابل 30 ألف جنيه شهرياً، شريطة أن يقيم البرلمان في إنجلترا وإيرلندا مذهب البروتستانتية المشيخية-أي حكومة المشايخ في الكنيسة، ودون سيطرة الأساقفة، وفي نفس الشهر عقد شارل صلحاً مع المتمردين الإيرلنديين، المتقدم بعضهم للقتال في صفوفه في إنجلترا. وابتهج الكاثوليك الإنجليز لهذا. وتزايد عدد البروتستانت الذين انقلبوا على الملك. وفي يناير 1644 هزم الغزاة الإيرلنديين في نانتوتش وتقدم الجيش الاسكتلندي نحو إنجلترا. والآن كانت الحرب الأهلية تضم ثلاث أمم وأربعة مذاهب.

وفي يولية 1643. انعقدت "جمعية وستمنستر"-121 من رجال الدين الإنجليز، 30 من العلمانيين الإنجليز، وثمانية مندوبين اسكتلنديين (انضموا فيما بعد)-لتحدد البروتستانتية المشيخية الجديدة في إنجلترا. ولقد عوقت السيطرة البرلمانية أعمال هذه اللجنة حتى باتت تجرر أذيالها في مؤتمرات تعقدها لمدة ست سنوات. وانسحب نفر قليل من الأعضاء كانوا يظاهرون الحكومة الأسقفية. وطالبت فئة قليلة من البيرويتانيين المستقلين ألا يشهد الاجتماع مشيخيون ولا أساقفة. أما الأغلبية-وفاء بتعهد البرلمان ونزولاً على إرادته، فإنها أيدت أن يتولى الأمور الدينية في إنجلترا أو إيرلندة وإسكتلندة شيوخ الكنيسة ومجلسهم والمجامع الإقليمية والجمعيات العامة. وألغى البرلمان الحكومة الأسقفية الإنجليكانية (1643)، وأقر التنظيم المشيخي والمذهب المشيخي، ووضع لهما القوانين (1646)، ولكنه احتفظ لنفسه بحق الاعتراض على أية قرارات كنسية. وفي 1647 أصدرت الجمعية "اعتراف وستمنستر بالعقيدة والتعاليم الكبرى والتعاليم الصغرى" وكلها تثبت مذهب كلفن في القضاء والقدر، والاصطفاء، والرفض (أي الإخراج من الزمرة الإبرار ) وأهملت الكنيسة الإنجليكيانية وعودة الملكية إلى أسرة ستيورت، جمعية وستمنستر، ولكن "الاعتراف والتعاليم" بقيت معمولاً بها نظرياً في الكنائس المشيخية في البلاد الناطقة بالإنجليزية.

واتفقت الجمعية والبرلمان على رفض ما تقدمت به الفرق الصغيرة من التماس التسامح الديني. والتمست مدينة لندن المتحدة من البرلمان القضاء على كل الهرطقات. وفي 1648 قدم أعضاء مجلس العموم مشروعات تقضي بعقوبة السجن مدى الحياة على خصوم تعميد الأطفال، وبعقوبة الإعدام على من ينكرون الثالوث الأقدس أو المتجسد أو نزول الكتاب المقدس بوحي من عند الله، أو خلود الروح(87). وأعدم عدد من الجزويت فيما بين عامي 1642 و1650. وفي يناير 1645، اقتيد رئيس الأساقفة لود، وهو في الثانية والسبعين، من السجن إلى ساحة الإعدام، ولكن البرلمان أحس أنه مشغول بالحرب إلى أقصى حد، أو أنه ليس ثمة مجال للرفق والمجاملة. ومهما يكن من أمر فإن كرومويل ناضل في سبيل شيء من التسامح. وفي 1643 شكل في كمبردج فرقة أطلق عليها "ذوو الدروع الحديدية Ironsides" وهو اسم أطلقه في الأصل الأمير روبرت على كرومويل نفسه، ورحب بكل الأفراد الذين ينضمون إلى الفرقة من كل الملل والنحل-باستثناء الكاثوليك وأنصار حكومة الأساقفة-"ممن لا تفارق خشية الله نفوسهم"، وممن يتدبرون ما صنعت أيديهم(88). وعندما أراد ضابط مشيخي أن يطرد-من الفرقة ضابطاً برتبة مقدم من أنصار تجديد التعميد (إعادة تعميد البالغين ورفض تعميد الأطفال)، اعترض عليه كرومويل قائلاً. "سيدي، إن الدولة حين تختار موظفيها لا تلقي بالاً إلى آرائهم، طالما أنهم جادون في خدمتها بإخلاص، وهذا يكفي(89)". وفي 1644 طلب إلى البرلمان "أن يلتمس وسيلة ما للتسامح، وفقاً لما جاء في الكتاب المقدس، مع ذوي النفوس الضعيفة الذين لا يستطيعون في كل الأحوال أن يخضعوا لحكم الكنيسة(90)". وتجاهل البرلمان هذا المطلب، ولكن كرومويل ظل يمارس تسامحاً نسبياً في فرقته، وطوال سيطرته على إنجلترا.

وكان ارتقاء كرومويل إلى مرتبة القيادة مفاجأة من مفاجآت الحرب. إنه شارك لورد فردياندو فيرفاكس أمجاد النصر في ونسبي (11 أكتوبر 1643). ولقد هزم فيرفاكس في مارستن مور (2 يولية 1644) ولكن رجال كرومويل "الحديديون" أنقذوا الموقف. إن قواداً برلمانيين آخرين، مثل إرل اسكس وإرل مانشستر، تراجعوا أو عجزوا عن متابعة انتصارهم وأقر مانشستر صراحة بعدم رغبته في الإطاحة بالملك. وبغية التخلص من هؤلاء القادة ذوي الألقاب، واقترح كرومويل "قرار إنكار الذات" (9 ديسمبر 1644)، يعتزل كل أعضاء البرلمان بمقتضاه قياداتهم. وهزم الاقتراح، ولكن عرض من جديد وأقر (3 أبريل 1645). واعتزل اسكس ومانشستر، وعين توماس فيرفاكس-ابن فرديناندو-قائداً أعلى-وسرعان ما عين كرومويل قائداً للفرسان، وأمر البرلمان بتكوين جيش "على طراز جديد"، من 22 ألف جندي، وأخذ كرومويل على عاتقه مهمة تدريبه. ولم يكن لدى كرومويل سابق خبرة عسكرية قبل الحرب. ولكن قوة شخصيته وخلقه، وثبات أرادته وصموده لتحقيق الهدف، وبراعته في التلاعب بالأحاسيس الدينية والسياسية لدى الناس، كل أولئك هيأ له القدرة على تشكيل قواته على نظام فذ وولاء فريد. فكان المذهب البيوريتاني يضارع الخلق الإسبارطي في صنع جنود لا يقهرون، انهم لم "يؤدوا القسم مثل الفرسان"، بل على النقيض من ذلك لم يسمع حلف الإيمان في معسكراتهم قط، بل إنها كانت تدوي بالعظات والصلوات. انهم لم يسلبوا ولم ينهبوا، ولكنهم اقتحموا الكنائس ليجردوها من الصور الدينية، ويخلصونها من الأسقفيين أو البابويين(91)". وكانوا يهتفون فرحين أو غاضبين حين يلاقون العدو. ولم تنزل بهم الهزيمة قط.. وعندما كان الملكيون يطاردون مشاة سير توماس فيرفاكس في ناسبي (14 يونية 1645)، حول كرومويل بفرسانه الجدد الهزيمة إلى نصر مبين، إلى حد أن الملك فقد كل مشاته ومدفعيته ونصف خيالته، ونسخاً من مراسلاته التي نشرت لتكشف عن خطته في استقدام مزيد من القوات الإيرلندية إلى إنجلترا، وإلغاء القوانين المناهضة للكاثوليكية.

ومنذ تلك اللحظة أخذت أحوال الملك تزداد سوءاً وبسرعة. فإن مركيز مونتروز، قائده البطل في إسكتلندة، بعد عدة انتصارات، هزم في فيلبهو وهرب إلى القارة. وفي 30 يوليه 1645 استولى جيش البرلمان على باث، وفي 23 أغسطس تخلى روبرت عن برستول إلى فيرفاكس، والتمس الملك، دون جدوى، العون من كل الجهات. وأحس جنوده بأن قضيتهم خاسرة، فتذرعوا بمختلف المعاذير وتخلفوا عنه وانضموا إلى العدو. وحاول بالمفاوضات الملتوية مع كل فريق على حدة أن يوقع الانقسام في صفوف أعدائه-فيفرق بين المستقلين والبرلمان، وبين البرلمان والاسكتلنديين، ولكنه أخفق في ذلك. وكان لتوه قد أرسل زوجته الحامل، عبر أراضي معادية، لتبحر إلى فرنسا، وأمر الآن الأمير شارل بالفرار من إنجلترا بأية وسيلة ممكنة. وتنكر هو، مع اثنين من المرافقين، وشق طريقه إلى الشمال حيث استسلم للاسكتلنديين (5 مايو 1646). ووضعت الحرب الأهلية الأولى، بالفعل أوزارها.


10- المتطرفون 1646-1648

وراود شارل الأمل في أن يعامله الاسكتلنديون، وكأنه لا يزال ملكاً عليهم، ولكنهم آثروا أن يعتبروه سجيناً لديهم. وعرضوا عليه أن يعاونوه على استرداد عرشه، إذا قبل التوقيع على "التحالف والميثاق المقدسين" وبمقتضى ذلك. يكون مذهب المسيحية المشيخية إجبارياً في كل الجزر البريطانية، ولكنه أبى عليهم ذلك. وبعث البرلمان الإنجليزي بمندوبيه إلى الاسكتلنديين في نيو كاسل يعرض عليهم ارتضاء شارل ملكاً، شريطة أن يقبل الميثاق، ويوافق على إقصاء زعماء الملكيين، ويسمح بسيطرة البرلمان على كل القوات المسلحة، وتعيين كبار موظفي الدولة، ولكن الملك رفض. وعرض البرلمان على الاسكتلنديين مبلغ 400 ألف جنيه لتسديد متأخراتهم ونفقاتهم، إذا عادوا إلى إسكتلندة وسلموا الملك إلى المندوبين الإنجليز. ووافق برلمان إسكتلندة، وقبل المال، لا على أنه ثمن الملك، بل على أنه تعويض عن نفقات الحرب. وأحس شارل، على أية حال، بأنهم قايضوا عليه بالذهب. ونقل إلى هولمبي هاوس في نورثمبتو نشير (يناير 1647) على أنه سجين البرلمان البريطاني.

واستعرض الجيش الإنجليزي المعسكر آنذاك في سافرون والدن، على بعد أربعين ميلاً من لندن، استعرض انتصاراته، وطالب بمكافآت متساوية. إن الاحتفاظ بجيش يبلغ ثلاثة وثلاثين ألف رجل، اضطر البرلمان إلى رفع الضرائب إلى ضعف أعلى معدل لها أيام شارل، ومع هذا تأخر للجند رواتب ما بين أربعة إلى عشرة شهور. وفوق ذلك فإن البيوريتانيين الذين انهزموا في البرلمان، كانت لهم اليد الطولى في الجيش، وحامت الشبهات حول زعيمهم كرومويل في أن له أطماعاً لا تتفق مع سيادة البرلمان. وأسوأ من هذا كله، أنه كان في فرقته "أنصار المساواة Levelers" الذين يرفضون أي تمييز بين المرتب في الدولة وفي الكنيسة، والذين نادوا بحق الاقتراع للبالغين وبالحرية الدينية. وكان نفر قليل منهم شيوعيين وفوضويين. وأعلن وليم والوين أن كل شيء يجب أن يكون مشاعاً مشتركاً، ومن ثم لن تعود هناك حاجة لقيام حكومة، لأنه لن يكون هناك حينذاك لصوص ولا مجرمون(92)" وكان جون للبورن Lilburne أعظم دعاة أنصار المساواة يزداد، بعد كل اعتقال وعقاب، شعبية في لندن (1646)(93). وهوجم كرومويل على أنه من "أنصار المساواة" ولكنه برغم تعاطفه معهم، كان يعارض آرائهم، إحساساً منه بأن إنجلترا آنذاك لا بد أن تؤدي فيها الديموقراطية إلى الفوضى.

واستاء البرلمان؛ وهو آنذاك "مشيخي". لما ينطوي عليه من خطر، وجود جيش عرمرم مزعج، في مكان قريب، وهو جيش مستقل ذو قوة. فأقر مشروعاً بتسريح نصفه، وتسجيل الباقي متطوعين للخدمة في إيرلندة. فطالب الجنود بمتأخر رواتبهم، فأقر البرلمان صرف جزء منها والباقي وعوداً. ورفض الجنود أن يتفرقوا إلا إذا دفعت استحقاقاتهم ورواتبهم كاملة. وجدد البرلمان المفاوضات مع الملك، وكاد أن يصل معه إلى اتفاق على إعادته إلى العرش، شريطة قبوله "الميثاق" لمدة ثلاثة أعوام. وحذر الملك من قبول هذا العرض، ولكن جماعة من الفرسان هاجمت هولمبي هاوس وأسرت الملك، واقتادته إلى نيوماركت (3-5 يونية 1647)، وأسرع كرومويل إلى نيوماركت، وجعل من نفسه رئيساً "لمجلس من الجيش"، وفي 10 يناير بدأ الجيش مسيرة غير متعرجة إلى لندن.. وفي الطريق أرسل إلى البرلمان أعلاناً صاغه أساساً صهر كرومويل القدير، هنري أيرتون Ireton، ندد فيه باستبداد البرلمان الذي لم يكن خيراً من استبداد الملك، وطالب بانتخاب برلمان جديد مع توسع في حق الانتخاب. ووقع البرلمان بين نارين، فإن التجار والصناع وأهل لندن كانوا يخشون احتلال الجيش للمدينة، وطالبوا، في صخب شديد بعودة الملك، وفق أية شروط كانت، تقريباً. وفي 26 يولية اقتحمت الجموع البرلمان وأرغموه على دعوة الملك إلى لندن، ووضع المليشيا تحت قيادة المشيخيين. وترك سبعة وستون من "المستقلين" البرلمان إلى جيش. ودخلت القوات لندن في 6 أغسطس، وأتوا بالملك معهم، وأعيد "المستقلون" السبعة والستون إلى أماكنهم في البرلمان، الذي سيطر عليه الجيش منذ تلك اللحظة إلى أن قبض كرومويل على زمام الأمور. ولم تشب تصرفات الجيش شائبة من الفوضى أو التشويش، ولم تكن مجردة من المبادئ، بل حافظ على النظام في المدينة، وفي القوات المسلحة نفسها؛ بل إن الأجيال التالية أجازت مطالبه التي يحتمل أنها كانت غير عملية في أوانها. وفي نشرة بعنوان "قضية الجيش مدونة بصدق وأمانة" (9 أكتوبر 1647) طالب بحرية التجارة وإلغاء الاحتكارات، وإعادة الأراضي العامة إلى الفقراء، وألح على ألا يرغم إنسان على الشهادة ضد نفسه في المحكمة(94). وفي "اتفاقية الشعب" (30 أكتوبر) أعلن "أن كل السلطة أصلاً وأساساً في مجموع الشعب بأسره"، وأن الحكومة العادلة الوحيدة هي التي تكون عن طريق ممثلين ينتخبون انتخاباً حراً يتوفر فيه حق الاقتراع للبالغين، وأنه بناء على هذا، فإن الملوك واللوردات، إذا سمح لهم بالبقاء فيجب أن يكونوا خاضعين لمجلس العموم، وأنه لا يجوز إعفاء أحد من سلطة القانون، وأنه يجب تمتع الجميع بالحرية الدينية الكاملة(95). قال الكولونيل رينزيورو "إن كل من ولد في إنجلترا، الفقير أو أحط الناس في المملكة، يجب أن يكون له صوت في اختيار أولئك الذين يضعون قوانين البلاد، تلك القوانين التي يعيش ويموت في ظلها(96)."

وخفف كرومويل من حدة المناقشة بدعوة زعمائها إلى الصلاة. واتهمه "أنصار المساواة" بالنفاق والتفاوض سراً لإعادة الملك، واعترف بأنه لا يزال يؤمن بالملكية، وأوضح لهم أن معارضة مقترحاتهم ستكون شديدة إلى حد لا يمكن معه التغلب عليها، "بقوة العضلات" وحدها. وبعد نقاش طويل أقنع الزعماء بأن يخففوا من مطالبتهم بالاقتراع العام إلى طلب التوسع في حق الانتخاب. ورفض بعض الجنود هذا الحل الوسط، وعلقوا "اتفاقية الشعب" في قبعاتهم، وتجاهلوا أمر كرومويل بالانصراف. وقبض على ثلاثة من زعماء الفتنة، وحوكموا أمام محكمة عسكرية قضت بإعدامهم. فأمرهم كرومويل بإجراء القرعة على حياتهم، ومن يخسر يعدم. وعاد النظام سيرته.

وفي الوقت نفسه تمكن الملك من الهرب من سجانيه العسكريين، واتخذ طريقه إلى الشاطئ وإلى جزيرة وايت حيث وجد مأوى أميناً في قلعة كارسبروك (14 نوفمبر 1648). وشدد من عزيمته ما ترامى إليه من أنباء ثورة الملكيين ضد البرلمان في الريف وفي الأسطول، وعرض عليه المندوبون الاسكتلنديون في لندن سراً، أن يمدوه بجيش يعيده إلى عرشه إذ قبل النصرانية المشيخية وإبطال ما عداها من المذاهب المسيحية. وارتضى الملك هذا "الارتباط" ولكنه حدده بثلاث سنوات. وغادر المندوبون لندن ليحشدوا جيشاً. واعتمد البرلمان الاسكتلندي خطتهم لغزو إنجلترا، وأصدر في 3 مايو 1648 بياناً يطالب كل الإنجليز بالالتزام "بالميثاق"، ويحظر كل الأشكال الدينية فيما عدا المشيخية، ويأمر بحل جيش "المستقلين" ورأى البرلمان الإنجليزي أن تنفيذ هذه الاقتراحات لا يعي شيئاً إلا القضاء عليه وإخضاع إنجلترا لإسكتلندة. وأسرع بمصالحة كرومويل، وأقنعه بأن يقود قواته ضد الاسكتلنديين. ولا ريب أن البرلمان سر لإبعاد كرومويل، والإلقاء به إلى التهلكة، وبعد ثلاثة أيام من الأخذ والرد أقنع الجيش بأن يتبعه إلى ميدان المعركة. وتبعه الجيش على كره منه، وأقسم بعض الزعماء أنهم إذا قدر لهم إنقاذ إنجلترا فلسوف يكون من "واجبهم أن يستعدوا رجل الدم، شارل ستيوارت، ليقدم حساباً على الدماء التي سفكها(97)."


11- وأسدل الستار 1648-1649

استطاع كرومويل بفضل ما أوتى من طاقة أن يقصر من أمد الحرب الأهلية الثانية. فعلى حين أخمد فيرفاكس ثورات الملكيين في كنت، اتجه أوليفر غرباً واستولى على معقل ملكي في ويلز. وعبر الاسكتلنديين نهر تويد في 8 يوليه، وتقدموا في سرعة مذهلة حتى صاروا على بعد نحو 40 ميلاً من ليفربول. وفي برستون، في لنكشير، التقى جيش كرومويل المكون من تسعة آلاف جندي، مرتين، بهذا الجمع من الاسكتلنديين والخيالة الملكيين وأوقع بهم هزيمة منكرة (17 أغسطس). وبينما كان كرومويل وجنوده يعملون على إنقاذ البرلمان، دبر البرلمان أن يحمي نفسه منهم، بفتح باب المفاوضات من جديد، لإعادة الملك. ولكنه أصر على أن يوقع الملك "الميثاق" وأن يضعه موضع التنفيذ، فرفض الملك. وعرض الجيش العائد أن يؤيد عدوته إلى العرش مع الحد من حقوقه الملكية إلى أضيق الحدود، فأبى (17 نوفمبر). وبغية أن يقطع الجيش الطريق على البرلمان ليعيد الملك إلى العرش، قيض عليه ثانية وأودعه قلعة هيرست المواجهة لجزيرة وايت، وشجب البرلمان هذا التصرف، واقترع على قبول شروط الملك أساساً لتسوية النزاع-فأعلن قادة الجيش الذين كانوا يتوقعون الموت، إذا عاد شارل، انه لن يسمح بالدخول إلى مجلس العموم إلا لمن ظلوا على "ولائهم وإخلاصهم للمصلحة العامة". وفي بواكير يوم 6 ديسمبر أحاطت قوة من الجند تحت قيادة كولونيل توماس برايد، بمجلس العموم، واقتحمه، ومنعت أو طردت 140 من الأعضاء الملكيين والمشيخيين، وأودعت السجن أربعين عضواّ أبدوا شيئاً من المقاومة(98). واستحسن كرومويل هذا الإجراء. واشترك في الاقتراع على سرعة محاكمة الملك وإعدامه.

لم يبق الآن من الأعضاء الخمسمائة الذين كان يتألف منهم مجلس العموم 1640 إلا ستة وخمسين. وأقر هذا "البرلمان الإثارة" (الذي لم يبق فيه إلا نفر قليل)، بأغلبية ستة أصوات، قانوناً ينص على أن شن الملك الحرب على البرلمان خيانة عظمى، ورفض اللوردات القانون على أنه ليس من سلطة مجلس العموم، وعندئذ (4 يناير 1649)، قرر النواب أن الشعب" بعد الله مصدر كل سلطة عادلة "وأن النواب، وهم يمثلون الشعب"، "أصحاب السلطة العليا في هذه الأمة، وأنه بناء على ذلك تكون لتشريعاتهم قوة القانون، دون موافقة اللوردات أو الملك". وفي 6 يناير عين النواب 135 عضواً لمحاكمة الملك، وأبلغ أحد الأعضاء-وهو ألجرنون سدني-كرومويل بأنهم ليس لديهم سلطة قانونية، ليحاكموا ملكاً. ففقد كرومويل صوابه وصاح في وجهة قائلاً: "أؤكد لك أننا سنقطع رأسه وفوقه التاج(99)" وبذل قادة الجيش آخر محاولة لتفادي قتل الملك. فعرضوا تبرئة شارل إذا وافق على بيع أراضي الأساقفة، وتنازل عن حقه في الاعتراض برفض قرارات البرلمان. ولكن الملك أجاب بأنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً، لأنه أقسم اليمين على أن يكون مخلصاً لكنيسة إنجلترا. وليس ثمة م تنازع في شجاعته. وبدأت المحاكمة في 19 يناير 1649. وجلس القضاة المرتجلون الستون أو السبعون على منصة مرتفعة في طرف من قاعة وستمنستر، واصطف الجند في الطرف الأخر، واكتظت الدهاليز والشرفات بجمهور المتفرجين، وأجلس شارل وحده وسط القاعة. وتلا جون برادشو رئيس الجلسة قرار الاتهام. وطلب إلى الملك أن يجيب، فأنكر شارل سلطة المحكمة في محاكمته أو صحة تمثيلها لشعب إنجلترا، وقال بأن حكومة يديرها برلمان يسيطر عليه الجيش، هي أسوأ طغياناً من أي طغيان أظهره هو قط، فضجت الشرفات بالهتاف "حفظ الله الملك" ودوت المنابر باستنكار المحاكمة وشجبها. وخشي برادشو على حياته في الشوارع، وأرسل الأمير شارل من هولندا صحيفة لا تحمل إلا توقيعه، ووعد القضاة بالموافقة على أية شروط يدونونها فوق اسمه، إذا هم أبقوا على حياة والده(100). وعرض أربعة من النبلاء أن يقدموا حياتهم فداء للملك(101)، فرفض عرضهم. ووقع تسعة وخمسون من القضاة، من بينهم كرومويل، حكم الإعدام. وفي 30 يناير سار الملك في هدوء إلى الموت، أمام جمهور غفير تملكه الرعب. وبضربة واحدة من بلطة الجلاد قطع رأسه. وكتب شاهد عيان "لقد تعالت أنات آلاف الحاضرين وقتئذ وآهاتهم، بشكل لم أعهده قط من قبل، وأرجو ألا أسمعه من بعد"(102).

وهل كان الإعدام عملاً مشروعاً؟ إنه بطبيعة الحال لم يكن كذلك. فإنه طبقاً للقانون المعمول به، يكون البرلمان شيئاً فشيئاً، وبشكل قاس، قد انتحل لنفسه الحقوق الملكية التي أقرتها السوابق لمائة عام. فالثورة على التحديد أمر غير مشروع، وليس أمامها من طريق لتدفع بالجديد إلى الأمام إلا هدم القديم. وكان شارل مخلصاً في الدفاع عن السلطات التي ورثها عن إليزابث وجيمس، لقد أثموا ضده قدر ما أثم هو، وكانت غلطته القاتلة أنه لم يدرك أن التوزيع الجديد للثروة، اقتضى، من أجل الاستقرار الاجتماعي، توزيعاً جديداً للسلطة السياسية. وهل كان الإعدام عدلاً؟ إذا نحى القانون جانباً، بالاحتكام إلى السلاح، فقد يلتمس المغلوب الرحمة، ولكن يمكن للغالب أن يفرض أقصى العقوبة إذا رأى أن هذا ضروري لمنع تجدد المقاومة، أو لتعويق الآخرين، أو للحفاظ على حياته وحياة أتباعه. والمفروض أن أي ملك منتصر كان يمكن أن يطيح برأس كرومويل وأيرتون وفيرفاكس وكثيرين غيرهم، وربما مع مختلف ألوان التنكيل والعذاب التي يتعرض لها عادة كل من يتهمون بالخيانة.

وهل كان الإعدام عملاً حكيماً؟ من المحتمل ألا يكون كذلك، ومن الواضح أن كرومويل اعتقد بأن بقاء الملك على قيد الحياة، مهما يكن من اطمئنان إلى ضمان سجنه، يمكن أن يحفز الملكيين إلى معاودة الثورة المرة بعد المرة، ولكن كذلك سوف يكون حافزاً على تجدد المقاومة من جانب ابن الملك الذي لا يمكن الوصول إليه في فرنسا أو هولندا، والذي لم تلوثه أخطاء والده، والذي لا بد أن تكلل هامته وشيكاً بأمجاد البطولة. إن إعدام شارل الأول أدى إلى تحول كان يمكن التنبؤ به في الشعور الوطني الذي أسترد مساره على مدى أحد عشر عاماً، ويوحي التاريخ اللاحق بأن الرحمة كانت عين العقل والحكمة فإنه عندما وقع جيمس الثاني، ابن شارل، بالمثل، في الخطأ الجسيم، تدبرت ثورة 1688 الجليلة الأمر، في دهاء أرستقراطي، وسمحت له عمداً بالهرب إلى فرنسا، وكان لخلعه نتائج ثابتة دائمة. ومهما يكن من أمر، فإن الثورة السابقة هي التي مكنت للثورة اللاحقة فعاليتها السريعة.

إن الثورة الكبرى تماثل ثورات الهيجونوت في فرنسا القرن السادس عشر، كما تماثل، برغم الفوارق الكثيرة، الثورة الفرنسية 1789-فهناك في الحالة الأولى العصيان المسلح للكلفنية البسيطة العابسة التي شدت من أزرها الثورة التجارية، ضد الكنيسة الشديدة التمسك بالشعائر والطقوس وضد الحكومة الاستبدادية المطلقة. وهناك في الحالة الثانية ثورة الجمعية الوطنية التي تمثل سلطان المال وقوة الطبقة الوسطى، ضد أرستقراطية تمتلك الأرض يتزعماه ملك حسن النية ولكنه متخبط مرتبك. وما وافى عام 1786 حتى كان الإنجليز قد استوعبوا ثوريتهم، وكان في مقدورهم أن ينظروا بعين الفزع القلق، عن اقتناع، إلى ثورة خضبت بالدم، مثل ثورتهم، أرض دولة وقتلت ملكاً، لأن الماضي حاول أن يقف جامداً لا يريم.