قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 6
صفحة رقم : 9529
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلترا -> جيمس السادس والأول -> جيمس السادس ملك اسكتلندة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل السادس: جيمس السادس والأول 1567 - 1625
1- جيمس السادس ملك اسكتلندة 1567 - 1603
توج جيمس السادس ملكاً على إسكتلندة (29 يولية 1567) حين كان عمره ثلاثة عشر شهراً، حين كانت أمه سجينة في لوكليفن. وكان عمره ثمانية أشهر حين قتل دارنلي الذي يفترض أنه والده، كما كان يبلغ من العمر عشرة أشهر حين رأى أمه للمرة الأخيرة، ولم تعد له إلا اسماً وخيالاً تغشيه وتلطخه مأساة بعيدة مزرية. وتربى على أيدي لوردات نهازين باحثين عن مصلحتهم ومعلمين معادين لأمه. وتلقى قدراً كبيراً من العلوم الإنسانية، وقدراً أكبر مما ينبغي في اللاهوت، وقدراً ضئيلاً جداً في الأخلاقيات، حتى أصبح أعظم العلماء المسرفين في الشراب في أوربا.
وتولى الحكم باسمه أربعة أوصياء على العرش على التوالي- موري، لنوكس، مار، ثم مورتون، وكلهم عدا واحداً، ماتوا ميتة غير طبيعية. ودافعت جماعات النبلاء المتنافسة عن شخص الملك حصن سلطانهم وقوتهم. وفي 1582 احتجزه بعض اللوردات البروتستانت تساندهم الكنيسة الاسكتلندية الوطنية، في قلعة رثفن Ruhven خشية أن يخضع لنفوذ قريبه الكاثوليكي ازمي ستيوارت، فلما أطلق سراحه وعد بالدفاع عن العقيدة البروتستانتية، ووقع تحالفاً مع إنجلترا البروتستانتية، ولما بلغ السابعة عشرة من العمر، نهض بالمهام الفعلية للملك.
وكان شاذاً بين الملوك. وكان سلوكه خشناً غير مهذب، وكانت مشيته بشعة، وصوته عالياً، وكان حديثه محنة يبتلي بها سامعيه لما فيه من الغلظة والحذلقة المفتقرة إلى الحكمة. وقال أحد المراقبين الذين لا يكنون له كثيراً من الحب: "كانت معرفته باللغات والعلوم وشئون الحكم أكثر من أي فرد في اسكتلندة(1)" ولكن نفس المراقب أضاف: "أنه كان مغروراً بشكل غير عادي". وربما كانت هذه السمة أو الميزة ضرورية للمحافظة على الحياة في خضم المتاعب، بقدر ما هي المظهر المضلل لرجل لا يستطيع أن يسترجع في ذاكرته يوماً لم يكن فيه ملكاً. ولا بد أ يتحلى بشيء من الذكاء المنقذ ليحتفظ بتاجه على رأسه في إسكتلندة، ويلبس تاجاً أعظم في إنجلترا حتى يموت ميتة طبيعية. وكان متقلباً إلى حد ما بالنسبة للجنس، فتزوج من الأميرة الدنمركية الكاثوليكية، آن، ولكن لم يكن به ميل شديد إلى النساء، وانغمس في التودد إلى المحظيات إلى حد ساعد على القيل والقال.
وكان عليه أن يشتق طريقه بالحيلة والدهاء وسط الأفكار العنيفة المتصارعة في أيامه. فإن أسرة جيز في فرنسا، والملك فيليب في أسبانيا، والبابا في روما، تعاهدوا معه على استعادة إسكتلندة إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية. ولكن الكنيسة الاسكتلندية الوطنية كانت تحسب عليه أنفاسه خشية أن ينحرف عن مذهب كلفن. ولكنه لم يحرق الجسور من خلفه، فتبادل الرسائل المهذبة مع الدول الكاثوليكية، وكان به ميل إلى تخفيف القوانين المفروضة على العبادة الكاثوليكية فأطلق خفية سراح أحد الجزويت، وتواطأ في تهريب آخر(2). ولكن المؤامرات الكاثوليكية أغضبته، وأثرت فيه البروتستانتية الظافرة في إنجلترا. وتنبأ بما قدر له مع الكنيسة الوطنية الاسكتلندية.
ولم تكن هذه الكنيسة رفيقاً مشجعاً مريحاً، وما حلت سنة 1583 حتى كان قساوستها يشكلون الأغلبية العظمى من رجال الدين الاسكتلنديين، وكانت مواردهم ضعيفة وحظهم من علوم الدنيا ضئيلاً، ومن ثم انصرفوا إلى العبادة والورع والتقوى، وتحلوا بالشجاعة والإقدام، وكدوا وجدوا في إعادة الكنائس المهملة، ونظموا المدارس، وتولوا أمر الصدقات، وحموا الفلاحين من ظلم اللوردات، وألقوا المواعظ المسهبة التي استوعبها ووعاها مستمعوهم، بدلاً من الكتب والمادة المطبوعة. وفي جلسات الكنيسة وفي المجامع الإقليمية وفي الجمعية العامة، حظي الأكليروس الجديد بقوة تنافس تلك القوة التي كانت هيئة الكنيسة الكاثوليكية قد استخدمتها ضدهم ببراعة. ولما كانوا يزعمون أنهم يتلقون الوحي من عند الله، ومن ثم فإنهم معصومون من الخطأ في ناحية العقيدة أو في الناحية الأخلاقية، فإنهم فرضوا على السلوك العام والخاص رقابة أقسى بكثير منها على عهد حراس أو حماة المذهب القديم المتراخين. وفي كثير من المدن فرضوا غرامات على الاسكتلنديين الذين لم يحضروا الصلوات البروتستانتية، وفرضوا توبة علنية، وفي بعض الأحيان عقوبات بدنية، على ما يضبط من خطايا(3). وروعوا بانتشار الفجور والزنى ففوضوا رؤساء الكنائس، في أن يتنبهوا بتشديد خاص إلى أية انحرافات جنسية، وأن يبعثوا بتقارير عنها إلى المجامع الكنسية البروتستانتية عند انعقادها، وصعقوا بالفحوش والفجور في المسرح الإنجليزي فسعوا إلى تحريم التمثيل المسرحي في إسكتلندة، فلما عجزوا عن ذلك، حظروا على أتباعهم أن يشهدوه، وفعلوا ما فعله أسلافهم من اعتبار الهرطقة جريمة عقوبتها الإعدام. وتعقبوا السحرة في حماسة بالغة وأقروا إعدامهم حرقاً(4). وأقنعوا البرلمان بأن يصدر قانوناً يفرض عقوبة الإعدام على أي قسيس يقرأ القداس ثلاث مرات، ولكن هذا المرسوم لم يطبق على أية حال، وعندما ترامت إليهم أنباء مذبحة سانت برثلميو، دعت الكنيسة الاسكتلندية البروتستانتية إلى تدبير مذبحة مماثلة للكاثوليك في إسكتلندة، ولكن الحكومة أغفلت هذا النداء(5).
وباستثناء ادعاء نزول الوحي على القساوسة وعصمتهم من الخطأ، كانت الكنيسة الوطنية الاسكتلندية (البروتستانتية) أكثر النظم ديمقراطية في عصرها. وكان قسيسو الدوائر أو الأقسام يختارون رؤساء الكنائس شريطة موافقة شعب الكنيسة، وكان جمهور المؤمنين يشهدون الجلسات والمجامع والجمعية العامة. وأهاجت وأغضبت هذه الإجراءات الديمقراطية البرلمان الأرستقراطي والملك الممسوح بالزيت. ولما كان جيمس يفكر ويجادل-وربما يعتقد ويؤمن-في أنه يحكم بمقتضى الحق الإلهي، فإنه شكا من أن "جماعة من القساوسة الملتهبين حماسة وغيرة في الكنيسة البروتستانتية، ملكوا قيادة الشعب على هذا النحو، وأنهم عندما استساغوا طعم الحكم وتلذذوا بحلاوته، بدءوا يفكرون في شكل ديموقراطي... لقد شوهوا سمعتي وافتروا عليَّ في مواعظهم، لا لأية رذيلة في شخصي، بل لأني ملك اعتبروه أكبر رذيلة(6)". وبذلك استؤنف نزاع العصور بين الكنيسة والدولة.
واتخذ النزاع آنذاك شكل هجوم أو حملة من القساوسة على الأساقفة. وكان هؤلاء-وهذا تراث كاثوليكي للكنيسة الاسكتلندية البروتستانتية-يختارون شكلاً بواسطة القساوسة ولكن كانوا فعلاً يعينون، وغالباً ما يفرضون على الأكليروس بواسطة الوصي أو الملك. وكانوا يسلمون قدراً كبيراً من إيرادات الكنيسة في الحكومة. ولم يجد القساوسة في الكتب المقدسة سنداً أو أساساً للنظام الأسقفي، ومن ثم عقدوا العزم على التخلص منه في إسكتلندة، على أنه لا يلتئم مع التنظيم الشعبي السائد في الكنيسة الاسكتلندية الوطنية الجديدة.
وكان زعيمهم أندرو ملفيل، اسكتلندياً عنيفاً متحمساً هيأته الطبيعة ليرث عباءة جون نوكس. وبعد أن أنهى تعليمه الجامعي في سانت أندروز، تابع دراسته في باريس، ورضع لبان مذهب كلفن على يد بيز B(ze في جنيف. ولدى عودته إلى إسكتلندة (1574) عين، وهو في التاسعة والعشرين من العمر، رئيساً لجامعة جلاسجو، فأظهر مقدرة وكفاية في إعادة تنظيم المناهج. وقواعد الضبط والسلوك فيها. وفي 1578 أسهم في جمع "الكتاب الثاني لقواعد الانضباط والسلوك" الذي ندد بالنظام الأسقفي باسم المساواة الكهنوتية. ودافع عن الفصل النهائي بين مجالات كل من الكنيسة والدولة. وكان لهذا أثره في الفصل بينهما في الولايات المتحدة، ولكنه طالب بحق القساوسة في تدريب الحكام المدنيين على ممارسة سلطاتهم "على أساس كلمة الله(7)". على أن جيمس، على أية حال، أراد أن يكون حاكماً مطلقاً مثل هنري الثامن وإليزابث، وآمن بأن نظام الأساقفة ضروري للإدارة الكنسية، كما أنهم وسطاء مريحون بين الكنيسة والدولة.
وفي 1580 "لعنت" الجمعية العامة للكنسية الوطنية الإسكتلندية (البروتستانتية) وظيفة الأسقف ودمغتها بأنها "حماقة من ابتداع الإنسان". وصدر الأمر إلى جميع الأساقفة- تحت التهديد بعقوبة الحرمان من الكنيسة، بأن يكفوا عن مباشرة أعمالهم، والتقدم إلى الجمعية العامة بطلب الترخيص لهم بأن يكونوا مجرد كهنة عاديين. ونبذت الحكومة "الكتاب الثاني لقواعد السلوك والانضباط"، وتمسكت بأن الحرمان من الكنيسة لا يصبح نافذ المفعول إلا إذا صدقت عليه الدولة. وفي 1581 رشح لنوكس، وكان آنذاك وصياً على العرش، روبرت مونتجمري رئيساً لأساقفة جلاسجو. ولكن قساوسة جلاسجو البروتستانت أبوا أن ينتخبوه، ولكنه على الرغم من هذا أصر على أن يتولى مهام منصبه، فقررت الجمعية العامة بزعامة ملفيل حرمانه من الكنيسة (1582)، ورضخ مونتجمري وانسحب. واتهم ملفيل بالتحريض على (الفتنة)، فرفض المحاكمة المدنية، وطالب بأن يحاكم أمام محكمة كنسية. ولما أدين بتهمة احتقار المحكمة، هرب إلى إنجلترا (1584). وأقنع جيمس البرلمان بأن يعلن أنه يعتبره خيانة: رفض الخضوع للقضاء المدفى، وتدخل القساوسة في شئون الدولة، ومقاومة حكومة الأساقفة، وأية اجتماعات كنسية لا يرخص الملك بعقدها. فآثر كثير من القساوسة أن يلحقوا بملفيل في منفاه، على الامتثال لهذه الأوامر. فما كان من جيمس، تمسكاً بسيادته العليا واستمتاعاً بها، إلا أن أمعن في حكم الإرهاب: فعوقب الكهنة لأنهم صلوا من أجل اخوتهم المنفيين، وأعدم اثنان آخران بتهمة التآمر.
وقاوم رجال الدين والمترددون على كنائسهم، بما عهد في الاسكتلنديين من عناد وصلابة، وشوهت النشرات التي لم يعرف مصدرها سمعة الملك. ونددت الأغاني بطغيانه والعار الذي لحق به من أجله، وحتى النساء كتبن له نقداً ساخراً لاذعاً ينذرنه فيه بالجحيم وسوء المصير. وتناقض شيئاً فشيئاً ما كان يحصل عليه أساقفته من الأموال، وسلموا الدولة منها الأقل فالأقل، ووجد جيمس أنه بات صفر اليدين، بلا مال-وهو مصدر قوة إرادته، واشتد ضعفه سنة بعد أخرى، وأقر برلمان 1529، بموافقته التامة، مرسوماً يحتفظ للكنيسة الاسكتلندية الوطنية (البروتستانتية) بحريتها، ويعيد إليها سلطاتها في الشئون القضائية والضبط، ويلغي نظام الأساقفة. وعاد المنفيون.
وإذ اشتدت جرأة ملفيل عن ذي قبل، واجه جيمس بقوله: "خادم الرب الأبله، وألقى عليه الحقيقة اللاهوتية التي لا ريب فيها، في 1596، بمثل الثبات ورباطة الجأش اللتين واجه بهما جريجوري السابع الإمبراطور هنري الرابع قبل ذلك بخمسمائة عام (1077) فقال: "إن في إسكتلندة ملكين ومملكتين. فهناك يسوع المسيح ومملكته، وهي في الكنيسة، وأحد رعاياها الملك جيمس... وما هو يملك ولا رئيس ولا لورد، ولكن مجرد عضو(8)". وقال-دافيد بلاك-وهو قسيس كنيسة سانت أندروز، لجماعة المصلين (1596) إن جميع الملوك أبناء للشيطان، وأن إليزابث كافرة ملحدة. وأن جيمس هو الشيطان بعينه(9). واحتج السفير الإنجليزي، واستدعى مجلس الشورى القس بلاك للتحقيق، فأبى أن يذهب قائلاً إن الجرم الذي يرتكب من فوق المنبر لا يخضع إلا لمحكمة الكنيسة، هذا فضلاً عن أنه تلقى رسالته من عند الله. وأمر جيمس بمحاكمته غيابياً. فذهبت إليه لجنة من القساوسة، ولكن الملك لم يعالج الأمر بنجاح، بل على العكس، طالب بأن تخضع لتصديقه كل قرارات الجمعية الكنسية والبرلمان. ودعا القساوسة إلى صوم عام، وأعلنوا منذرين متشائمين، أنه مهما حدث من شيء "فإنهم أبرياء من دم جلالته(10)".
وتجمع حشد من المشاغبين حول المبنى الذي كان يقيم فيه جيمس (17 ديسمبر 1596) فهرب إلى قصر هوليرود. وفي صباح اليوم التالي غادر أدنبرة مع كل حاشيته. وأعلن إلى سكانها، عن طريق مناد ينطق باسمه، أنها لم تعد تصلح لتكون عاصمة، وأنه لن يعود إليها إلا لتنفيذ الحكم على الثوار والعصاة، وأمر كل الأكليروس وغير المتوطنين بمغادرة المدينة. ولما لم يجد المشاغبون أحداً ليقتلوه، تفرقوا. وحزن التجار على فقدانهم ما كان يعود عليهم من ربح في التعامل مع الحاشية. وتساءل المواطنون في دهشة: هل كان النزاع يستحق الاستشهاد الاقتصادي، وعاد جيمس إلى المدينة في ظفر مشوب بالغضب (1 يناير 1597)، وعرضت الجمعية العامة المنعقدة في برث، خضوع الكنيسة الوطنية الاسكتلندية، ووافقت على ألا يعين أي قسيس في المدن الرئيسية دون موافقة الملك وشعب الكنيسة، وألا يتعرض القساوسة في خطبهم لقرارات البرلمان أو مجلس الشورى، وألا يهاجموا شخص أي إنسان من فوق المنبر. وسمح للقساوسة البروتستانت بعد ذلك بالعودة إلى العاصمة (1597). ولكن أعيد نظام الأساقفة. وغطت هدنة كئيبة منكودة على الحرب القديمة بين الكنيسة والدولة. وبرزت في الأدب الاسكتلندي تلك في الحقبة شخصيتان عظيمتان: الملك نفسه، وأشهر معلميه. وكانت سيرة حياة جورج بوكانان مدهشة، فقد ولد في سترلنجشير في 1506، ودرس في باريس، وخدم العلم في فرنسا وإسكتلندة، ونهل الحماسة الفلسفية والسياسية من محاضرات جون ميجر، وعاد من أجل الحب والعلم إلى باريس: ورجع أدراجه إلى إسكتلندة هرطيقاً هجاءً لاذعاً، وأودعه السجن الكاردينال بيتون، فهرب إلى بوردو، وقام هناك بتدريس اللاتينية، وكتب قصائد ومسرحيات بلغة لاتينية جيدة إلى حد كبير، وشاهد تلميذه مونتاني يمثل في إحدى هذه الزاويات، ورأس إحدى الكليات في كوامبرا، وسجنته محكمة التفتيش الأسبانية لسخريته من الأخوة (في فرقة دينية)، وعاد إلى إسكتلندة وفرنسا، ثم إسكتلندة حيث تولى تعليم ماري ملكة إسكتلندة (1562)، وعين رئيساً للجمعية العامة (1567) وأعلن صحة "رسائل الصندوق الفضي" واتهم بتزييف قسم منها(11). وأدان-ماري بلا هوادة ولا رحمة في كتابه "كشف النقاب عن حكم ماري" (1571) وتولى التدريس لابنها على الرغم من اعتراضها على ذلك، وتخلى عن هذه المهمة (1582). وجد وجاهد في كتابه "تاريخ إسكتلندة" (1579) لتخليص تاريخ بلاده من "القيود الإنجليزية والغرور الإسكتلندي". وأكد من جديد في رسالته "الحكم الشرعي في إسكتلندة"-على الرغم من تلميذه الذي سيصبح عما قريب ملكاً مستبداً-أكد نظرية العصور الوسطى القائلة بأن المصدر الوحيد للسلطة السياسية، بعد الله، هو الشعب، وأن كل مجتمع يرتكز على عقد اجتماع ضمني يقوم على التزامات وقيود متبادلة بين المحكومين والحكام، وأن لإرادة الأغلبية، بحق أن تحكم الكل، وأن الملك يجب أن يخضع للقوانين التي يقرها ممثلو الشعب، وأنه يمكن بحق أيضاً مقاومة الطاغية أو عزله أو قتله(12). فأنت ترى أن أسطورة العقد الاجتماعي ظهرت هنا قبل هوبز بقرن من الزمان، وقبل مجيء روسو بقرنين. وشجب البرلمان الاسكتلندي كتاب بوكانان، وأحرقته جامعة أكسفورد، ولكن كان له أثر شديد. وذهب صمويل جونسون إلى القول بأن بوكانان هو العبقري الوحيد الذي أنجبته إسكتلندة(13). وأسبغ هيوم، في تواضع، هذا الامتياز على نابيير (عالم رياضيات اسكتلندي 1550-1617، مخترع اللوغاريتمات)، أما المؤرخ الاسكتلندي كاريل فقد خص به نوكس، حيث كان من أشد المعجبين به. أما جيمس السادس فقد كان له آراؤه الخاصة في هذه المسألة.
وكان الملك مزهواً فخوراً بكتبه قدر زهوه وفخره بحقوقه وامتيازاته. وفي 1616 نشر مجلداً ضخماً "أعمال الأمير، الأعظم والأقوى جيمس"، وهو مهدي إلى يسوع المسيح. وكتب قصائد، ونصائح إلى الشعراء، وترجمة "للمزامير"، ودراسة لسفر الرؤيا، ورسالة عن "الشياطين" وكتابين من (قطع الثمن) دفاعاً من الملكية المطلقة، أحدهما وهو "إلهية الملكية" (1598) كان كتاب نصائح لابنه هنري في فن الحكم وواجباته، أكد حكم الكنيسة على أنه "ليس بالجزء اليسير من مهمة الملك". أما الثاني وهو "القانون الحقيقي للملكيات الحرة" فقد شرح فيه الحكم المطلق ودافع عنه في فصاحة هائلة: إن الملوك مختارون من عند الله، ما دامت الأحداث الهامة تفرضها العناية الإلهية، وأن تعيينهم ومسحهم بالزيت يشكلان سراً مقدساً لا يجوز النطق به، مثلهما في ذلك مثل أي سر مقدس آخر. ومن ثم كان لهم كل الحق في أن يكون حكمهم مطلقاً، وأن معارضتهم تعتبر حماقة، وجريمة، وإثماً من شأنه أن يفضي إلى الضرر أكثر من أي طغيان. إن هذا الذي كان بالنسبة لإليزابث أسطورة نافعة، أصبح بالنسبة لجيمس مبدأ عاطفياً، ولد لأم ملكة. وورث عنه ابنه شارل النظرية، ودفع الثمن أو تلقى القصاص.
ومهما يكن من أمر فإن إنجلترا لم تتنبأ في 1598 بما حدث في 1649، وبعد أن شرب جيمس نخب البروتستانتية وتعهد بالتزامها، اعترف مجلس شورى الملكة إليزابث به وريثاً للتاج الإنجليزي، عن طريق أمه ماري. وبعد مضي أربعة أيام على وفاة إليزابث، بدأ جيمس (5 أبريل 1603) رحلة بهيجة مرحة من أدنبرة إلى لندن، وتوقف، متمهلاً، في الطريق، ليحتفي به النبلاء الإنجليز، وفي 6 مايو وصل إلى لندن التي أخذت زخرفتها وزينت للترحيب به-انحنت الجماهير له، وقبل اللوردات يديه. وبعد ألف سنة من صراع عقيم لا غناء فيه اتحدت الأمتان (ولم يتحد البرلمان قبل 1707) وهكذا كان عقيم إليزابث نافعاً مثمراً.
2- جيمس الأول ملك إنجلترا 1603-1614
أي صنف من الرجال كان قد أصبح جيمس في سبع وثلاثين سنة؟ كان متوسط القامة، ذا رجلين ضعيفتين، وكرش صغير، يرتدي سترة ضيقة وبنطلوناً محشوين أو مبطنين حتى يمنعا وصول نصال السفاحين إلى جسمه، وكان شعره ذا لون أسمر بني، وخلداه متوردين، وأنفه مكور، تشع من عينيه الزرقاوين نظرات الارتياب والحزن، وكأنما كان الرب خجلاً من جسمه. وكان كسولاً نوعاً ما، فآثر الراحة من عناء العمل، اعتماداً منه على إليزابث، وكانت لغته فظة، يتميز له وتسليته بالخشونة، وكان يتمتم ويتلعثم كثيراً، وكثيراً ما كان لسانه الخشن يفلت بغير حساب، وكان مزهواً كريماً، جباناً مخادعاً، لأنه كثيراً ما تعرض للخطر، وخدع وغرر به، مستعداً لتبادل الإساءة، وليصفح ويلتمس الصفح، من ذلك أنه عندما أنكر جون جب أنه ضيع بعض الوثائق الهامة، فقد جيمس صوابه، وركله بقدمه، فلما عثر على الأوراق، جثا أمام معاونه الذي أخزاه وأذله، وأبى أن ينهض حتى يصفح عنه جب. وكان متسامحاً وسط جو من التعصب وعدم التسامح. وكان في بعض الأحيان صلباً قاسياً، ولو أنه عادة حنون عطوف. وكان يرتاب في ابنه هنري لشعبيته البالغة، ويحب ابنه شارل إلى حد الحمق. ولم تشب علاقته بالنساء أية شائبة، ولكنه كان ميالاً إلى ملاطفة الشبان الوسيمين. وكان يؤمن بالخرافات، كما كان عالماً. وكان سخيفاً لاذعاً، يؤمن بالعفاريت والسحرة في الوقت الذي يعطف فيه على بيكون وجونسون، يحسد العلماء، ويولع بالكتب، وإن من أول قراراته بوصفه ملكاً أنه منج جامعتي أكسفورد وكمبردج حق إرسال ممثلين لهما إلى البرلمان. ولما رأى مكتبة بودلي صاح قائلاً: "لو لم أكن ملكاً لآثرت أن أكان جامعياً، ولو قدر لي أن أسجن، وكانت لي الخيرة من أمري، لما آثرت مكاناً أسجن فيه غير هذه المكتبة، ملازماً لهؤلاء المؤلفين الأفاضل والأساتذة الذين قضوا نحبهم(14). وصفوة القول أنه كان رجلاً يعوزه الاتزان والحزم، إلى حد ما، ولو أنه كان في قرارة نفسه سمحاً ودوداً، يسخر منه الأذكياء، ولكن يغفر له قومه، لأنه حتى اقتربت نهايته المحزنة، وفر لهم الأمن والطمأنينة والسلام.
ولم يكن جيمس يحب الماء كثيراً إلى حد أنه كره استخدامه لأغراض الغسل. وكان يدمن على الشراب، وأباح في بعض حفلات حاشيته أن تسرف النساء والرجال في الشراب حتى تلعب الخمر برءوس الجميع وينتهي الأمر إلى ثمل عاطفي. ودرجت الحاشية على الإسراف في الملابس وفي الحفلات، إسرافاً لم يسبق له مثيل في بلاط إليزابث. وكانت إليزابث تميل إلى التمثيليات التنكرية، ولكن أما وقد كتب بن جونسون الرواية، وصمم إنيجو جونز الملابس والمناظر، وقام بالأدوار فيها اللوردات العظام والسيدات الفاتنات، وكأنما ارتدى الجميع، من شدة البذخ، أموال المملكة، فإن الفن الخرافي الغريب غير الواقعي بلغ الآن ذروته. وبلغ الاستهتار والخلاعة. والفساد في البلاط مبلغاً لم يسبق له مثيل. حتى جاء على لسان سيدة في إحدى روايات جونسون قولها. "أعتقد أنني إذا لم أجد من يحبني غير زوجي المسكين، فلسوف أشنق نفسي(15)". وقبل أفراد الحاشية "هدايا" قيمة مقابل استغلال نفوذهم في الحصول على المراسيم والتراخيص والاحتكارات والمناصب لمن يطلبها. من ذلك أن البارون مونتاجو دفع عشرين ألفاً من الجنيهات مقابل تنصيبه وزيراً للخزانة(16). وروى بسند ضعيف، أن رجلاً حساساً رقيقاً مرض وفاضت روحه عندما سمع كم دفع أصدقاؤه مقابل تعيينه قاضياً محلياً(17).
ولم يول جيمس مثل هذه المسائل كلها اهتماماً كبيراً. ولم يجهد نفسه كثيراً في شئون الحكومة. وترك إدارة البلاد لمجلس الشورى الذي يتألف من ستة من الإنجليز ومثلهم من الاسكتلنديين، والذي يرأسه روبرت سيسل الذي عينه إرل سالسبوري (1605). وورث سيسل كل شيء إلا الصحة. فقد أقعده عن الحركة ظهره الأحدب، حتى بات منظره يبعث على الحزن والأسى. ولكنه تحلى بكل ما كان لأبيه من فطنة في اختيار الرجال وتوجيههم، وتشبث صامت وكياسة ماكرة، تفوق بها جميعاً على منافسيه المحليين وعلى أفراد أي بلاط أجنبي. ولما مات "كلب الصيد الصغير" وقع جيمس تحت سيطرة شاب وسيم هو روبرت كار، وعينه إرل سومرست، فهيأ له أن يخلف في مجال السياسة والإدارة، من هم أكبر منه سناً، وأكثر صقلاً وعلماً، مثل فرانسيس بيكون وإدوارد كوك.
وكان كوك تجسيداً للقانون، وحارساً أميناً عليه، أشهرته محاكمته للورد إسكس في 1600، ورالي في 1603، والمشتركين في مؤامرة البارود في 1605. وخرج على الناس في 1610 برأي تاريخي: يبدو في كتبنا أنه في حالات كثيرة، يطغى القانون العام على قرارات البرلمان، وفي بعض الأحيان يعتبرها باطلة. لأنه إذا كان قرار البرلمان مخالفاً للحق العام أو العقل.... أو يستحيل تطبيقه،فإن القانون العام لا بد أن يلغيه أو يقضي عليه بالبطلان(18).
وربما كان البرلمان لا يستسيغ مثل هذا الرأي، ولكن جيمس عين كوك رئيساً للمحكمة العليا (1613) وعضواً في مجلس الشورى. وانقلب من كونه رجل الملك، إلى رجل يزعج الملك ويقض مضجعه، يستنكر البحث أو التحقيق في الآراء الخاصة، ويؤيد حرية أعضاء البرلمان في الكلام، وتناول بالتجريح سلطة الملك المطلقة في مذكرات لاذعة تؤكد أن الملوك ليسوا إلا خدماً للقانون. وفي 1616 اتهمه منافسه بيكون بارتكاب أعمال محظورة، وعزل كوك، ثم أعيد إلى البرلمان ليستمر في تزعم حركة المقاومة ضد الملك. وأودع سجن لندن 1621، ولكن سرعان ما أطلق سراحه. ومات غير نادم (1634)، مخلصاً أشد الإخلاص لنصوص القانون وصرامته، وترك لنا أربعة مجلدات من "مجموعة القوانين" لا تزال تشكل مرجعاً هاماً في القضاء الإنجليزي . وفي نفس الوقت كان جيمس يتابع مع البرلمان مناقشته التي كان لا بد أن تتمخض في عهد ابنه عن الحرب الأهلية وقتل الملك. إنه لم يكتف بممارسة كل السلطات التي كان هنري الثامن وإليزابث قد سيطرتا بها على مشرعيهما المتذمرين أو الذين روعهم التهديد، إنه صاغ دعاواه على أنها أوامر إلهية. فأعلن إلى برلمان 1609:
إن مقام الملكية هو أسمى شيء في الأرض. لأن الملوك لا يقومون مقام الله على الأرض ويجلسون على عرش الله. فحسب، بل إن الله نفسه يسميهم آلهة أو أرباباً.... إن الملوك يسمون بحق آلهة، لأنهم يمارسون شيئاً شبيهاً بالسلطة الإلهية على الأرض. إنكم لو تدبرتم في صفات الله لوجدتموها مجتمعة ومتفقة في شخص الملك. إن الله قادر على الخلق أو التدمير والإفناء، على البناء والهدم، وفق مشيته، يبعث الحياة أو يرسل الموت، يحاسب كل الناس ولا يحاسبه أحد... وللملوك نفس القدرة أو القوة. إنهم يصنعون رعاياهم أو يحطمونهم، ولهم القدرة، ولهم الكلمة العليا على كل رعاياهم، وفي كل الأمور، ومع ذلك لا يحاسبهم أحد إلا الله وحده. ولهم السلطة في أن يجعلوا... من رعاياهم قطع شطرنج يحركونها كيف شاءوا- فالبيدق يطيح بأسقف أو بفارس- فيرفعون أياً من رعاياهم إلى عنان السماء أو يخسفون به الأرض، وكأنما يتصرفون في أموالهم(20). وكانت هذه الخطوة إلى الوراء، لأن النظرية السياسية في العصور الوسطى، كانت قد جعلت الملك دوماً. نائباً عن الشعب صاحب السيادة. والبابوات فقط هم الذين أعلنوا أنهم نواب الله على الأرض. ولكن نضفي على هذه الدعوى أفضل واجهة فلسفية، يجدر بنا أن نفترض أن البابوات- بوصفهم الرؤوس العليا للسيادة والسلطان في العصور الوسطى، كانوا قد آمنوا بأن الدوافع الفردية في الإنسان قوية إلى حد أن الإبقاء على النظام الاجتماعي لا يتأتى إلا بأن يغرس في نفوس الناس، إجلال تقلدي للسلطة الدينية، وللبابوات بوصفهم صوت الله وممثليه. ولكن إضعاف الإصلاح الديني للسلطة البابوية أو هدمها. كان قد ترك السلطات السياسية مسئولة في المقام الأول، أو في النهاية، عن النظام الاجتماعي. وحكم هؤلاء أيضاً بأن السلطة البشرية الخالصة عرضة للتحدي، إلى درجة أنها لا تقوى على كبح جماح النزعات غير الاجتماعية في الإنسان، بطريقة فعالة أو من الناحية الاقتصادية. ومن ثم نمت نظرية حق الملوك الإلهي، جنباً إلى جنب، مع تطور القومية والانتقاص من سلطة البابوات. وبعد أن تولى الأمراء اللوثريين في ألمانيا، السلطات الروحية التي كانت للكنيسة القديمة في بلادهم، أحسوا بأنهم محقون في أن يحيطوا أنفسهم بالهالة الإلهية التي اعتقد معظم الحكام والملوك قبل 1789 أنها أساسية لا يستغني عنها للسلطة الأدبية والسلام الاجتماعي. وأخطأ جيمس في التعبير عن هذا الافتراض بوضوح أكثر مما ينبغي، وفي أشد صيغة تطرفاً.
وكان من الجائز أن يتقبل البرلمان، قبولاً نظرياً (مع ابتسامات خاصة) هذه الاستبدادية الملكية، إذا كان أعضاؤه، كما كان الحال مع إليزابث وهي في أوج عظمتها، من كبار ملاك الأراضي- الذين كانوا مدينين لملوك التيودور بأعمال جليلة بطولية. ولكن مجلس العموم الآن كان يضم بين أعضائه البالغ عددهم 467 عضواً، كثيراً من ممثلي الطبقات التجارية الناشئة الذين لا يستسيغون سيطرة ملكية بلا حدود على أموالهم- إلى جانب كثير من البيوريتانيين الذين ينكرون على الملك دعواه في أن يحكم ديانتهم. وحدد المجلس حقوقه في إغفال جريء لألوهية جيمس، أو حقوقه الإلهية. وأعلن أنه له القول الفصل في صحة انتخاب أعضائه. وطالب بحرية الكلام، وحصانة أعضائه ضد القبض عليهم في أثناء انعقاده، وأثبت أنه بغير هذا لا يكون للبرلمان أي معنى أو قيمة. واقترح أن يتولى التشريع في المسائل الدينية، وأنكر سلطة الملك في الفصل في مثل هذه المسائل دون موافقة البرلمان. على أن الأساقفة الأنجليكانيين على أية حال طالبوا بحث المجمع الكنسي الأنجليكاني في الفصل في الأمور الكنسية، على أن تخضع قراراته لموافقة الملك. وأبلغ رئيس مجلس العموم جيمس أنه ليس للملك أن يسن قانوناً، ولكن يستطيع فقط أن يعتمد أو يرفض أي قانون يجيزه البرلمان. وأعلن المجلس في يونية 1604: "أن امتيازاتنا وحرياتنا هي حقوقنا وتراثنا القانوني... وليست بحال من الأحوال أقل شأناً من أراضينا ومتاعنا... ولا يمكن انتزاعها منا، دون أن يكون في ذلك إساءة صارخة إلى المملكة بأسرها(21)".
وهكذا نسجت خيوط النزاع التاريخي بين "حقوق" الملك و "امتيازات" البرلمان، هذا النزاع الذي قدر له أن يخلق ديموقراطية إنجلترا، بعد مائة من السنين توالت فيها الانتصارات والهزائم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3- مؤامرة البارود 1605
وفوق الصراع الاقتصادي والسياسي استعرت نار الحرب الدينية، ضاربة فيه بجذور عميقة. وكانت معظم النشرات التي سممت جو، عبارة عن حملات عنيفة شنها البيوريتانيون على الأساقفة والطقوس الأنجيليكانية، أو الأنجيليكانيون على صرامة البيوريتانيين وعندهم، أو شنها هؤلاء وهؤلاء على مؤامرات الكاثوليك لإعادة إنجلترا إلى حظيرة البابوية. ولم يقدر جيمس فظاعة هذه البغضاء، وكان يحلم "بوفاق شبه ودي" بين البيوريتانيين والأنجليكانيين، ولهذا الغرض دعا زعماء الفريقين إلى مؤتمر في "هامبتون كورت" (14 يناير 1604). ورأس هو الاجتماع، وكأنه "قسطنطين آخر"، وأدهش الطرفين كليهما بعلمه اللاهوتي وبراعته في الجدل والمناقشة، ولكنه أصر على "مذهب واحد، ونظام واحد، وديانة واحدة شكلاً وموضوعاً(22)"، وأعلن أن النظام الأسقفي أمر لا معدي عنه. وذهب أسقف لندن إلى أن الملك ملهم من عند الله، "وأنه لم ير له مثيل منذ عهد المسيح(23)". ولكن البيوريتانيين شكوا من أن الملك تصرف وكأنه طرف في الدعوى، أكثر منه حكماً أو قاضياً فيها، ولم يتمخض المؤتمر عن شيء اللهم إلا القرار التاريخي الذي لم يكن يتوقعه أحد، إلا وهو إعداد ترجمة جديدة للكتاب المقدس. وأصدر المجمع الكنسي الأنجليكاني في 1604 بعض القوانين التي تطلب من كل رجال الدين إتباع القواعد الكنسية الأنجليكانية. وفصل الذين رفضوا الامتثال، وسجن آخرون، واستقال كثيرون، وهاجر فريق آخر إلى هولندا وأمريكا.
وجلب جيمس على نفسه الخزي والعار بإحراق اثنين من طائفة الموحدين (الذين يرفضون التثليث ويقولون بالتوحيد) بتهمة الشك في ألوهية المسيح، برغم البراهين التي قدمها الملك إليهم (1612). ولكنه أحسن صنعاً في أنه لم يجز بعد ذلك الإعدام بسبب الخلاف الديني، فكان هذان الاثنان آخر من لقي حتفه بتهمة الكفر في إنجلترا. وباطراد التحسن في الحكومة الدنيوية، أخذت تسود. في بطء، الفكرة القائلة بأن التسامح الديني ينسجم مع الأخلاق العامة والوحدة الوطنية، وتغزو ما كان راسخاً في الأذهان، بطريقة تكاد تكون شاملة، من أن النظام الاجتماعي يتطلب ديانة وكنيسة لا ينازعهما أحد. وحاول ليونارد بوشر في كتابه "السلام الديني" (1614) أن يدلل على أن الاضطهاد الديني يوسع هوة الخلاف ويؤدي حتماً إلى النفاق، ويضر بالتجارة، وذكر جيمس بأن "اليهود والمسيحيين والأتراك المسلمين متسامحون في القسطنطينية، ومع ذلك فهم جميعاً مسالمون ويعيشون في سلام(24)" على أن بوشر هذا يرى أن الأفراد الذين تشوب عقيدتهم شائبة الخيانة-ولعله يقصد الكاثوليك الذين يرفعون البابا فوق منزلة الملك-ينبغي أن يحرم عليهم عقد الاجتماعات، أو الإقامة في أبعد من عشرة أميال من مدينة لندن.
كان جيمس في أغلب الأحوال دوجماتياً متسامحاً (الجزمية، الدوجماتية: توكيد الرأي أو القطع به، بفطرته ودون مبرر كاف، أو دون أن يكون مبنياً على مقدمات سليمة موثوقة). لقد أغضب البيوريتانيين بتشجيعه الألعاب الرياضية في أيام الآحاد، شريطة حضور الصلوات الأنجليكانية أولاً. وكان ميالاً إلى إرخاء قبضة القانون على الكاثوليك. وبرغم معارضته روبرت سيسل والمجلس، أوقف قوانين العصيان، وأباح للقساوسة دخول الريف وإقامة القداس في الدور الخاصة. وعلى طريقته الفلسفية غير المحكمة، راوده حلم التوفيق بين الكاثوليكية والبروتستانتية في العالم المسيحي(25). ولكن عندما تكاثر عدد الكاثوليك بفضل هذه البارقة من النور والأمل، وندد البيوريتانيون بتساهله، أجاز تجديد قوانين إليزابث العادية للكاثوليك، والتوسع فيها وتطبيقاتها (1604). من ذلك أن إرسال أي فرد للدراسة في جامعة أو معهد لاهوتي في الخارج كان يعاقب عليه بغرامة قدرها مائة جنيه. ونفيت وأبعدت كل الإرساليات الكاثوليكية، وحرم أي تعليم كاثوليكي. وفرض على كل الكاثوليك الذين يمتنعون عن إقامة الصلوات الأنجليكانية غرامة قدرها عشرون جنيها في الشهر، وسيتتبع أي تخلف عن دفع مثل هذه الغرامات مصادرة الممتلكات الأصلية أو الشخصية، والاستيلاء على الماشية في أرض المقصر في الدفع، وعلى أثاثه وملابسه، لمصلحة التاج(26).
ورأى أشباه المخبولين من الكاثوليك أنه لم يعد أمامهم الآن من علاج لهذه الحالة إلا القتل. وكان روبرت كاتسبي قد أشهد أباه يعني من السجن بتهمة العصيان في عهد إليزابث، وانضم إلى ثورة اسكس ضد الملكة. وهو الذي فكر الآن في مؤامرة البارود لنسف قصر وستمنستر، في الوقت الذي يجتمع فيه الملك والأسرة المالكة، واللوردات والنواب لافتتاح البرلمان. وأشرك معه في المؤامرة توماس ونتر، وتوماس برسي، وجون رايت، وجي فوكس Guy Fawkes، وتعاهد الرجال الخمسة فيما بينهم وأقسموا على سرية الموضوع، ووثقوا عهدهم بتناول القربان المقدس من يد مبعوث جزويتي اسمه جون جيرار، واستأجروا داراً ملاصقة للقصر، وظلوا يعملون ستة عشر ساعة يومياً ليحفروا نفقاً من قبو إلى قبو، وأفلحوا فيما أرادوا، ووضعوا ثلاثين برميلاً من البارود تحت قاعة الاجتماع في مجلس اللوردات مباشرة. وعطل تكرار تأجيل انعقاد المجلس مرة بعد أخرى، تنفيذ مشروع المؤامرة، تعطيلاً مشوباً بالقلق والشك. وطيلة العام ونصف العام كان على المتآمرين أن يزكوا نار الغضب في صدورهم، فكم خامرهم الشك في فضيلة أو صواب مغامرة يروح ضحيتها كثير من الأرواح البريئة. مع من يظن الكاثوليك بلا هوادة ولا رحمة أنهم مذنبون. وسأل كاتسبي، رغبة في إعادة الطمأنينة إلى نفوس المتآمرين-سأل هنري جارنت أسقف الجزويت في إنجلترا: هل يجاز في الحرب الاشتراك في أعمال قد تودي بحياة ناس غير محاربين. فأجاب جارنت بأن كل الشرائع السماوية تجيز هذا الأمر، ولكنه حذر كاتسبي من أية مؤامرة على حياة العاملين في الحكومة، لن تجر إلا مزيداً من الشقاء على الكاثوليك الإنجليز، ونقل الأسقف مخاوفه وشكوكه إلى البابا وإلى زعيم الجزويت، فأمروه بالابتعاد عن كل دسائس سياسية، وأن يحبط أية محاولات ضد الدولة(27). وأفضى كاتسبي إلى رجل آخر مع الجزويت-اسمه أوزوالد جرينواي-"أثناء الاعتراف" بسر المؤامرة التي تضمنت الآن اتخاذ تدابير أخرى لقيام الكاثوليك في إنجلترا بثورة عامة. وأبلغ جرينواي زميله جارنت بالموضوع "وحار الرجلان الجزويتيان بين أمرين: إفشاء سر المتآمرين إلى الحكومة، أو الصمت، وآثراً السكوت، ومع ذلك بذلاً قصارى جهدهما ليثنيا المتآمرين عن تنفيذ خطتهم.
وسعى كاتسبي-ليخفف من وخز الضمير عند زملائه ومن مخاوفهم-إلى اتخاذ الترتيبات بأن يتسلم أعضاء البرلمان الموالين لهم، في صبيحة اليوم المحدد للاجتماع رسائل عاجلة تستدعيهم إلى خارج وستمنستر. وأنذر فرد صغير الشأن بين المتآمرين، صديقة لورد مونتجال قبل موعد الانعقاد بعدة أيام. فأطلع مونتجال روبرت سيسل على جلية الأمر، فنقل الخبر إلى الملك، فدخل عملاؤهم وأعوانهم إلى الأقبية، وهناك وجدوا فوكس، كما وجدوا المتفجرات في أماكنها، وفي 4 نوفمبر 1605 قبض على فوكس واعترف بما كان يقصد إليه من نسف البرلمان في اليوم التالي، ولكنه على رغم التعذيب الشديد رفض الإدلاء بأسماء المشتركين معه. ولكن هؤلاء على أية حال، كشفوا عن أنفسهم بحمل السلاح ومحاولة الهرب. فطوردوا، وجرى قتال أصيب في كاتسبي، وبرسي، ورايت، بجروح قتالة، وجرى البحث عن أتباعهم وأودعوا السجن. وعندما قدم المسجونون للمحاكمة اعترفوا صراحة بالمؤامرة. ولكن أي تهديد أو تعذيب لم يحملهم على توريط القساوسة الجزويت فيها. واقتيد فوكس وثلاثة آخرون، وسط شوارع المدينة من السجن إلى دار البرلمان حيث أعدموا (27 يناير 1606). ولا تزال إنجلترا تحتفل بيوم 5 نوفمبر على أنه يوم جي فوكس، بإطلاق الصواريخ والألعاب النارية وحمل تماثيل أو صور جي والطواف بها في الشوارع.
وفرجيراد وجرينواي إلى القارة، ولكن قبض على جارنت ومعه جزويتي آخر يدعى أولد كورن. وفي السجن وجد هذا الاثنان من الوسائل ما حسباه سبيلاً لاتصال خفي بينهما. ولكن الجواسيس نقلوا أحاديثهما بنصها. واتهم كل منهما على انفراد بهذه الأحاديث فأنكرها جارنت، وأقرها أولد كورن. فاعترف جارنت بأنه كاذباً. وانهارت قواه فسلم بأنه كان على علم بالمؤامرة، ولكن بما أن أنباءها وصلت إليه عن طريق جرينواي الذي تلقاها على أنها سر من أسرار "الاعتراف"، فإنه لم يشعر بأنه حر في إفشاءها، ولكنه على أية حال بذل كل ما في طاقته لإحباطها. فأدين بالتستر على المؤامرة، لا بالتآمر. وتمهل الملك لمدة ستة أسابيع في التصديق على الحكم بإعدامه، وأبلغوه كذباً أن جرينواي في سجن لندن "البرج" فأرسل إليه خطاباً وضع الرقباء أيديهم عليه. وسئل جارنت عما إذا كان قد اتصل بجرينواي فأنكر، فواجهوه بخطابه، فدافع بقوله إن المراوغة مباحة لشخص في سبيل إنقاذ حياته. وفي 3 مايو أعدم شنقاً، ومزق إرباً(28).
وأحس البرلمان أنه على حق في تشديد القوانين ضد الكاثوليك، فمنعوا من مزاولة الطب أو الاشتغال بالقانون، ومن استخدامهم أوصياء أو حراساً قضائيين، وحظر عليهم أن يبعدوا بأكثر من خمسة أميال عن مساكنهم، كما طلب إليهم أن يؤدوا قسماً جديداً، لا ينكر سلطة البابا في خلع الحكام المدنيين فحسب ولكنه كذلك يدمغ الإصرار على هذه السلطة بأنه عمل موصوم بالعقوق والفسوق والكفر، ويستوجب اللعنة(29). وحرم البابا بول الخامس تأدية-مثل هذا القسم، وامتثل للبابا أغلبية الكاثوليك الإنجليز وارتضت القسم أقلية كبيرة. وفي 1606 أعدم ستة من القساوسة لرفضهم القسم وإقامتهم القداس. وفيما بين عامي 1607 و1618 أعدم ستة عشر آخرون(30). وامتلأت السجون بعد مئات من القساوسة وعدة آلاف من الكاثوليك العاديين. وبرغم هذا الإرهاب كله، استمر الجزويت على دخول إنجلترا، ففي 1615 كان يوجد منهم 68 على الأقل، وفي 1623، كان منهم 284(31). وشق بعض الجزويت طريقهم إلى إسكتلندة. هناك أعدم واحد منهم-جون أو جيلفي-في 1615، بعد أن سحقت رجلاه في "الدهق" (آلة التعذيب)، وإبقاءه يقظاً لمدة ثمانية عشر أيام بلياليها بغرز الدبابيس في لحمه(32). وهكذا وقعت أوزار الكنيسة القديمة على رأسها هي، على يد الحقائق والقوى والسلطات الجديدة.
4- المسرح في أيام جيمس
تابعت نشوة إنجلترا مسيرتها في الأدب، كما تابعتها في الدين. وإني لأنسب إلى عصر جيمس، النصف الأروع في روايات شكسبير، وكثيراً من روائع تشابمان، ومعظم روائع جونسون، ووبستر، ومدلتون، ودكر، ومارستون، وبعضاً من أحسن أعمال ماسنجر، وكل روائع بومونت وفلتشر، وفي الشعر دون وفي النثر بيرتون. وأروع وأكرم من هذا كله الكتاب المقدس ترجمة الملك جيمس، وتلك أمجاد تكفي لأن يتألق بها أي عصر، وكان الملك يتذوق المسرحية. وفي أحد الاحتفالات بعيد الميلاد مثلت أربع عشرة رواية في البلاط الملكي. وفي 1613 احترق مسرح "الجلوب" عن آخره نتيجة إطلاق مدفعين استلزم إطلاقهما تمثيل رواية هنري الثامن، ولكن سرعان ما أعيد بناؤه. وفي 1613 كان في لندن أو بالقرب منها نحو سبعة عشر مسرحاً. وكان جورج تشابمان يكبر شكسبير بخمس سنوات، وعمر بعده ثمانية عشر عاماً، وشهد ثلاثة عهود (1558- 1634). وشق طريقه في أناة وروية حتى صار فحلاً في فنه، وكان في 1598 قد أكمل بنجاح رواية مارلو Hero and Leander، ونشر سبعة كتب من الإلياذة، ولكنه لم ينجز ترجمة هوميروس حتى 1615، وظهرت أحسن رواياته فيما بين 1607 و1613. وفتح للمسرحية الإنجليزية مجالاً جديداً، حين اقتبس من التاريخ الفرنسي الحديث فكرة رواية Bussy d, Ambois، (1607؟)- خمسة فصول من الخطابة الصاخبة المليئة بالتهديد والوعيد، لا يكاد يلطف من عنفها شيء من سحر البيان، ولكنها تقوى إلى حد مزعج في صحيفة يتبادل موسى وعدوه التحيات الساخرة التهكمية العسيرة الهضم قدر عسر هضم الحقيقة. ولم يفق تشابمان قط من التعلم أو لم ينقطع عنه، فإن القدر الكبير الذي حصله من اليونانية، والقدر الأكبر من اللاتينية استحوذا على كل تأملاته وتفكيره، بشكل خانق، وإن قراءة رواياته لهي ضرب من الجهد المضني لمجرد الإطلاع والدرس، لا حباً في الروايات أو الاستمتاع بها. ولن نبتهج كما فعل كيتس، "لأول نظرة نلقيها على ترجمة تشابمان لهوميروس". فثمة حيوية دافقة هنا وهناك في الترجمة السباعية التفاعيل تسمو بها فوق ترجمة بوب، التي هي أفضل بصفة عامة، ولكن موسيقى الشعر تضيع في الترجمة، فإن التفاعيل السداسية الوثابة في الأصل تداعبنا بتناغم أسرع مما تفعل التفاعيل الموزونة المقيدة في الشعر المقفى. إن أية قصيدة إنجليزية طويلة مقفاة لم تتخلص من النعاس الذي يغلب على أناشيد بحارة البندقية. وحول تشابمان إلى "شعر ملحمي" أبياتاً عشرية المقاطع ليتفق كل اثنين في القافية-حول الأوديسية ترجمته لها بنفس قوة التهدئة. ولا بد أن جيمس غلبه النعاس تحت هذه الأغطية الثقيلة، إلى جانب إيماءات هوميروس العارضة، لأنه أهمل في دفع مبلغ الثلاثمائة جنيه التي كان الأمير الراحل هنري قد وعد بدفعه إلى تشابمان، عند إتمام الترجمة. ولكن ارل سومرست أنقذ الشاعر العجوز من الفقر.
وهل نتوقف قليلاً عند توماس هايوود، وتوماس مدلتون، وتوماس دكر، وسيريل تورنير، وجون مارستون، أو يسمحون لنا بأن نمر عليهم مر الكرام مع تحية متواضعة لشهرتهم المتأرجحة، أما فلتشر، فلن نستطيع أن نبخسه حقه.
فإنه في ذروة مجده (1612-1625) رفعته إنجلترا، في مجال المسرحية، إلى المرتبة التالية لمرتبة شكسبير وجونسون. كان فلتشر ابن أحد أساقفة لندن، وابن أخ أو ابن عم لثلاثة شعراء من طراز متواضع، فرضع الشعر وتربى على القوافي، وأضاف هو إلى هذا التراث ما كسب من ميزة اشتراكه مع شكسبير في "هنري الثامن"، "القريبان النبيلان"، ومع ماسنجر في "الخوري الأسباني"، واشتراكه بأعظم النجاح مع فرانسيس بومونت.
ومن هذا الطراز أيضاً ولد فرانك. وكان ابناً لأحد القضاة البارزين، وأخاً لشاعر صغير الشأن، ولد قبله بعام ومهد له طريق الحياة. وأخفق بومونت في إتمام دراسته في أكسفورد أو في أحد معاهد الحقوق The lnner Temple وحاول أن يجرب قلمه في شعر المرح، وانضم إلى فلتشر في كتابة الروايات. وشارك الأعزبان الوسيمان الواحد منهما الآخر، في الأكل والنوم، والأمتعة والملابس، والخليلات والأفكار، أو كمال قال أوبري "كانت ثمة مرآة شركة بينهما، وكان ثمة تتشابه غريب في أفكارهما وصورهما الذهنية(33)". وتعاون الاثنان على مدى عشر سنوات في إخراج روايات مثل The Maids' Tragedy, Loves Liesa-Bleeding, Philaster Thel Knight of the Burning Pestle والحوار القوي، ولكنه عاصف طنان، وحبكات الرواية متشابكة تشابكاً بارعاً. ولكن حل عقدها كان متكلفاً. وقل أن ارتقى التفكير إلى مستوى الفلسفة. ومع ذلك فإن هذه الروايات كما يؤكد لنا دريدن-كان لها في أواخر القرن، من الشعبية على المسرح، ضعف ما كان لروايات شكسبير(34). وتوفي بومونت في سن الثلاثين، في العام الذي توفي فيه شكسبير، وبعد ذلك كتب فلتشر بمفرده أو مع آخرين، سلسلة طويلة من الروايات الناجحة التي جر عليها النسيان ذيوله. ونبعت ملهاة من رواياته التي قامت على دسائس ملتوية صاخبة مرحة، نبعت من نماذج أسبانية، كما أنها بدورها-بتركيزها على الزنى-مهدت للمسرحية في "فترة عودة الملكية". ولما تعب من هذه المناظر الدامية أو الداعرة، أخرج في (1608) رواية رعوية "الراعية المخلصة" خالية من الهراء والحمق، مثل رواية شكسبير "حلم ليلة منتصف الليل". بل أنها تنافسها من حيث الشعر. فإن كلورين، بعد أن مات حبيبها الراعي تأوي إلى كوخ ريفي بسيط بالقرب من مقبرته وتقطع على نفسها عهداً ألا تبرحه حتى يوافيها الأجل المحتوم:
سلاماً أيتها الأرض المقدسة التي تحتضن بين ذراعيها الباردتين، أصدق رجل أطعم قطعانه على سهول تساليا الدسمة المثمرة، وهكذا أحيي جدثك، وأوني بنذوري الأولى، وأقدم نظرات الإكبار والإجلال لرفاتك التي لا تزال موضع حبي. وهكذا أحرر نفسي من دفء وحرارة أي حب ينشأ من بعدك، وأودع كل رياضة أو بهجة أو ألعاب سارة، يعتز بها الرعاة. ولن يتوج بعد الآن جبيني بالأكاليل الغضة النضيرة، لأتصدر حلبة الرقص. ولن أفرح أو أبهج بعد اليوم بصحبة الغادات اليانعات والرعاة المرحين، ولا بصوت المزمار ذي الأنغام الغالية السارة في واد ظليل، حين يداعب النسيم العليل الأغصان، ولسوف أكون بمنأى عن هذا كله، ما دمت أنت نأيت عني، يا من كنت أجلس كثيراً إلى جواره السعيد متوجة بالأزهار الناضرة، بوصفي ملكة الصيف، على حين يرتدي صبية الرعاة اللون الأخضر الزاهي المفعم بالحياة، مع المنجل المزوق. والحقيبة المتدلية المصنوعة من الجلد الناعم الجميل. ولكنك وليت، وقد ولت هذه كلها معك، لقد فني كل شيء، اللهم إلا ذكراك العزيزة، التي سوف تبقى من بعدك، والتي سوف تنمو وتنتعش، طالما كانت هناك مزامير تصرخ أو رعاة مبتهجون يغنون. وألقيت هذه القصيدة الرعوية مرة واحدة ثم اختفت من المسرح. وأي حظ من الطهارة والعفة لمثل هذه التسبيحة، في عصر لا يزال يجيش بانفعالات عهد إليزابث؟
أما أقوى الكتاب المسرحيين في عهد جيمس وأسوأهم، فهوجون وبستر. ونحن لا نكاد نعرف شيئاً عن حياته، ولعي في الحقيقة مجهولة. ونحن نستنتج حالته النفسية من مقدمة أحسن رواياته "الشيطان الأبيض" (1611) حيث يطلق على جمهور المشاهدين "الحمير الجهلة" ويشهد مقسماً بأغلظ الإيمان "بأن الأنفاس التي تخرج من الجمهور العاجز كفيلة بأن تسمم أعمق مسرحية مأسوية. والرواية هي قصة فكتوريا أكورامبوني، التي هزت آثامها ومحاكمتها كل إيطاليا (1581-1585) أيام طفولة وبستر. وتحس فكتوريا بأن دخل زوجها لا يتفق مع جمالها، فتستجيب لملاطفات دوق براتشيانو الثري، واقترح بأن يعمل هو على التخلص من زوجها ومن زوجته، فيولي الموضع عنايته على الفور، بمعونة أخ قواد فاجر لفكتوريا هو فلامنيو الذي كان يقدم لمثل هذه الجرائم أشد الأشعار سخرية في الأدب الإنجليزي. وقبض على فكتوريا للاشتباه فيها، ولكنها تدافع عن نفسها في جرأة وبراعة إلى حد يجعل أي محام يفزع من لغته اللاتينية وأي كاردينال من قلنسوته. ثم اختطفها براتشيانو من بين يدي العدالة. فطورد الاثنان وأخيراً، قتل الاثنان مع من كانوا يتعقبونهما، قتلة مفاجئة مثيرة أشبعت رغبة وبستر إشباعاً تاماً طيلة سنة كاملة، لقد عولجت حبكة الرواية علاجاً حسناً، ورسمت الشخصيات رسماً متماسكاً متناغماً. وكانت اللغة غالباً قوية أو كريهة، والمناظر العصبية قوية. وارتفع الشعر أحياناً إلى مستوى فصاحة شكسبير. ولكن الرواية بالنسبة للذوق الذي أصابته المدنية بالوسوسة وشدة الحساسية، شوهتها فظاظة فلامنيو المتكلفة وحياته الحقيرة البائسة، كما شوهتها اللعنات والشتائم التي انسابت حتى من أرق الشفاه. "أواه: لو أني أستطيع قتلك أربعين مرة في اليوم الواحد، وأفل هذا أربع سنوات سوياً، لكان هذا شيئاً قليلاً جداً"(35)، كما كان يشوه الرواية الفحش المنتشر فيها، حيث ترددت لفظة "البغي" في كل صحيفة أخرى، ثم الألفاظ المزدوجة المعاني التي ربما خجل منها شكسبير نفسه.
وعاد وبستر إلى الأرض المخضبة بدماء القتلى في رواية "دوقة ملفي" (1613) فإن فرديناند دوق كالايريا، يحرم على دوقة أمالفي، أخته الشابة الأرملة الزواج مرة ثانية، لأنها إذا ماتت بلا زوج، فإن أخاها الدوق يرث أموالها. فترثي الدوقة للطهارة المتكلفة التي أكرهت عليها:
إن الطيور التي تعيش في المروج وفق هوى
الطبيعة الجامحة، تحيا حياة أسعد من
حياتنا، حيث تستطيع أن تختار رفيقاتها
وتشدو بألحانها العذبة للربيع(36).
واستبدت بها الشهوة والحرمان، فأغرت قهرمانها أنطونيو بالزواج سراً، وبمضاجعة عاجلة. فدبر أخوها فرديناند قتلها. وفي الفصل الأخير نرى شخصاً يقتل في كل دقيقة تقريباً، فالأطباء يستعدون بالسموم، والمتوحشون بخناجرهم، ولم يتذرع أحد بالصبر انتظاراً لقصاص عادل أو حكم مشروع. أما أسوأ الأشرار الأوغاد في الرواية-الذي قتل الدوقة واستولى على ممتلكاتها، واتخذ له خليلة ثم قتلها-فهو كاردينال، ولم يكن وبستر من أنصار البابوية. وهان أيضاً توجد توريات في صراحة بالغة، وتصميم على استنفاد ألفاظ اللعنة والبغض، واستنكار وحشي مشوش لحياة الإنسان. وترى شيئاً من النبل أو الإخلاص أو الرقة في الأركان السحيقة لهذه الحلبة المظلمة، فإن فرديناند ينسى نفسه، ويبتسم بالشفقة لبعض الوقت، وهو ينظر إلى أخته التي لا تزال جميلة في رقدة الموت.
"غطوا وجهها! عيناي تنبهران! لقد ماتت في عنفوان شبابها(37)! ولكن سرعان ما يستعيد وحشيته. ولنأمل في شيء أعذب وأحلى من هذا كله عند الرجل الذي كتب
"اشربي من أجل أنا وحدي، بعينيك"
Drink to me only with thline Eyes.
5- بن جونسون 1573 - 1637
ولد في وستمنستر بعد وفاة أبيه بشهر واحد، وعمد تحت اسم بنيامين جونسون. وأسقط من اسمه حرف الباء تمييزاً لشخصه، ولكن دور الطباعة ظلت تستخدمه، ولو أنه مات، حتى 1840، ولا زال يظهر على لوحة معلنة على جدران كنيسة وستمنستر. وكان الزوج الأول لأمه قسيساً. وكان زوجها الثاني بناء بالأجر. وكانت الأسرة فقيرة معدمة. وكان على بن أن يشق طريقه إلى التعليم بصعوبة بالغة. وما كانت إلا الشفقة التي ملأت قلب صديق بصير لتزوده بالمال ليلتحق بمدرسة وستمنستر، وساق.ه حظه إلى الوقوع تحت إشراف "وكيلها" المؤرخ العالم الأثري وليم كامدن، وانصرف إلى الدراسات القديمة، مع عداء أقل من العادي، وأحب شيرون وسنكا، وليفي وتاسيتس، وكونتليان، وزعم بعد ذلك، واضح أنه على حق- " أنه يعرف من اليونانية واللاتينية أكثر من شعراء إنجلترا جميعهم(38)" على أن "مرحه" السريع الاهتياج والإثارة، وعالم لندن الخشن العنيف بلا حدود، هما اللذان حالا دون أن يدمر تعليمه فنه.
وبعد تخرجه في وستمنستر التحق بكمبردج حيث "بقي- كما يقول أول مؤرخ لحياته- أسابيع قليلة، لحاجته إلى مورد رزق آخر(39)"، وأراد له زوج أمه أن يكون صبي بناء، وقد نتخيل بن جونسون وهو يتصبب عرقاً ويضطرب لمدة سبع سنين دأباً، وهو يرص الطوب ويفكر في الشعر. ثم فجأة خرج إلى الحرب، وانساق في تيارها، واندفع إليها بنشاط وحيوية أكثر منه إلى صناعة البناء. وخدم في الأراضي الوطيئة، وبارز جندياً من الأعداء، فصرعه، وسلبه ما معه، وعاد إلى الوطن يروي قصصاً مفصلة. وتزوج وأنجب أطفالاً، وارى منهم التراب ثلاثة أو أكثر. ووقع الشجار بينه وبين زوجته فهجرها لمدة خمس سنوات، ثم عاد وعاش معاً عيشة ينقصها الوفاق والانسجام حتى ماتت. ولا تعرف كليو نفسها كيف كان بن جونسون- زوجها- يدبر معاش الأسرة.
ويكون السر أعمق حين نعلم أنه أصبح ممثلاً (1597)، ولكن تفجرت منه أفكار مشرقة وأشعار لبقة. واهتز فرحاً حين دعاه توم للمشاركة في رواية "جزيرة الكلاب" ولا شك في أنه حمل نصيبه من المسئولية في "المادة المثيرة للفتنة والتي تتضمن قذفاً وتشويهاً للسمعة "التي وجدها مجلس الشورى في الرواية. وأمر المجلس بوقف التمثيل وإغلاق المسرح والقبض على المؤلفين. أما ناش الذي كان خبيراً عتيقاً بمثل هذه المآزق، فقد قضى نحبه في بارموث. ووجد جونسون نفسه في السجن، ولما كان نظام السجن يقتضيه أن يدفع نفقة طعامه وإقامته وأصفاده فقد اقترض أربعة جنيهات من فيليب هنسلو، فلما أطلق سراحه انضم إلى فرقة هنسلو (وشكسبير) المسرحية (1597).
وبعد سنة كتب ملهاته الهامة الأولى: "Everyman in his humour" ورأى شكسبير يمثل فيها المسرح "الجلوب". ومن الجائز أن المؤلف المسرحي العظيم (شكسبير) لم يستسغ مقدمة الرواية التي اقترحت- على الرغم من النموذج السائد- إتباع الوحدات الكلاسيكية، أو التقليدية القديمة، وحدة العمل والزمان والمكان، لا أن:
تجعل طفلاً، ملفوفاً الآن في قماطه، ينهض حتى يستوي رجلاً ويطوي، بلحية وملابس حداد، ستين عاماً مضت، إنك سوف تسر اليوم إذ تشهد رواية يجب أن تحتذي مثالها كل الروايات، رواية ليس فيها كورس ينطلق بك فيما وراء البحار، ولا عرش ينهار، مما يفرح له الأولاد... بل فيها أعمال، ولغة مثل تلك التي يستخدمها الناس، وأشخاص ممن يجب أن تنتقيهم الملهاة، إذ كان لها أن تصور الزمان، وتسلي الناس بحماقات الإنسان لا بالجرائم.
وهكذا أدار جونسون ظهره للمزاح أو الهزل الأرستقراطي في ملهيات شكسبير الأولى، وللجغرافيا والكرونولوجيا وتعيين تواريخ الأحداث وترتيبها وفقاً لتسلسلها الزمني الخارقتين في المسرحية "الرومانتيكية"، وأتى بأكواخ لندن إلى المسرح، وتخلى عن ثقافته ومعرفته الواسعتين الخارقتين ليبرز إبرازاً مشهوداً لهجات الطبقات الدنيا وأساليبها. وكان أبطال الرواية رسوماً كاريكاتورية أكثر منها ابتكارات فلسفية معقدة، ولكنهم يعيشون، وكانوا تافهين لا قيمة لهم، ولكنهم من بني الإنسان، ولم يكونوا معقولين ولا مهذبين، ولكنهم لم يكونوا قتلة ولا سفاحين.
وكان اللاتينيون قد استخدموا لفظة Umore لتعني "الرطوبة" أو السائل، كما استخدمت تقاليد أبقراط الطبية لفظة Humor لتدل على أربعة سوائل في الجسم- الدم، البلغم، الصفراء السوداء، والصفراء الصفراء. وتبعاً لغلبة الواحدة أو الأخرى من هذه المواد في جسم الإنسان، كان يقال إنه ذو "مزاج" دموي، (متفائل)، أو بلغمي (بارد)، أو سوداوي (مكتئب)، أو صفراوي (سريع الغضب) أما جونسون فقد حدد تفسيره لهذا الاصطلاح:
عندما تتملك إنساناً صفة بعينها، وتسيطر على كل أحاسيسه وأنشطته وقواه، حتى تسير كلها في اتجاه واحد- فهذا ما يمكن أن يقال عنه بحق "المزاج" (Humour)(40) وظهرت الكلمة في التصوير المرح للكابتن بوباديل، وهو تحدر مباشر من رواية باريس "المحاربون الأمجاد"، ولكنه يمور موراً "بمزاجه" الخاص به المميز له، ومرحه غير الواعي- فهو دوماً شجاع إلا عند الخطر، مندفع إلى القتال إلا عندما يتحداه أحد، فهو رب السيف المكنون في غمده.
واستقبلت الرواية استقبالاً حسناً، وكان في مقدور بن الآن أن ينغمس في حماقات السباب وشهواته على نطاق أوسع، وكان فرجاً بالثقة، مزهواً بأنه شاعر يتحدث إلى اللوردات في أنفة وكبرياء، ويقف راسخ القدمين، يتعجل التمتع ويستسيغ الصراحة والمرح الصاخب، ويغوي النساء من آن لآن، ولكنه أخيراً (كما قال لدروموند) "آثر جور الزوجة على خفر الخليلة(41)"- وهجر التمثيل، وعاش عيشة طائشة على قلمه، وازدهر لبعض الوقت بتأليف التمثيليات التنكرية للبلاط، وتلاءمت الأشعار الخيالية التي نظمها مع المناظر التي صممها جونز، ولكن بن كان حاد الطبع، فكثرت مشاجراته. ففي عام نجاحه الأول اشتبك مع أحد الممثلين، وهو جبرييل سبنسر، وبارزه وقتله، فأودع السجن بتهمة القتل (1598). ومما زاد الطين بلة، أنه ارتد إلى الكاثوليكية في السجن، ولكنه مع ذلك حوكم محاكمة عادلة، وأجيز له أن يدفع "بالحصانة الأكليريكية" لأنه تلا "المزامير" باللاتينية "كما يفعل رجال الدين". وأطلق سراحه بعد أن وشم إبهامه بحديد محمي بحرف T، حتى يمكن في الحال اكتشاف أنه مجرد عائد، إذا ارتكب جريمة القتل مرة ثانية، وظل بقية حياته مدموغاً بأنه مجرم. وبعد سنة قضاها مطلق السراح أعيد إلى السجن من أجلي دين عليه لم يسدده. ومرة أخرى أطلق سراحه بكفالة هنسلو. وفي 1600 سعى جونسون وراء تسديد ديونه بكتابة رواية Every Man out of His Humour. وأثقل الملهاة باقتباسات زخرفية كلاسيكية، وأضاف إلى أشخاص المسرحية ثلاث شخصيات استخدمت كفرقة للتعليق على الأحداث، وأمطر بوابل من المذمة والقدح، البيويتانيين الذين "كان الدين بين طيات ثيابهم، والذين حلقوا شعر رءوسهم أقصر من شعر حواجبهم" ولوح بمعرفته وعلمه للكتاب المسرحيين الذين كانوا يحطمون "وحدات أرسطو". وبدلاً من الروايات الرومانتيكية المستحيلة الحدوث حول اللوردات الذين لا يصدق وجودهم، عرض جونسون أن يكشف للندن عن ذاتها بلا هوادة ولا رحمة:
فليواجهوا مرآة كبيرة قدر كبر المسرح الذي نمثل عليه، ولسوف يرون فيها علل العصر ونقائضه. مشرحة تشريحاً دقيقاً مفصلاً في كل ناحية فيها، في شجاعة لا تلين ولا تفتر، وفي ازدراء لأي خوف(42)
وصنعت الرواية من العداوات أكثر مما جلبت من أموال. وليس من يوصي اليوم بقراءتها. ولما لم يكن جونسون راضياً عن جمهوره الصاخب في مسرح الجلوب، فإنه كتب ملهاته الثانية Cymthia's Revels (1601) لفرقة من الممثلين الشبان ونخبة صغيرة من الجمهور في مسرح "Black Friars"، وأحس دكرو مارسون أن الرواية تناولتهما بالهجاء. ولما استشاطت فرقة تسمبرلين غضباً لمنافسة أولاد مسرح "Black Friars" لها، أخرجت في 1602 رواية دكر "Satiromastix" (ضرب المؤلف الهجاء بالسياط) وفيها تشهير بجونسون أنه سفاح وبناء تلفه مغرور متحذلق، جسمه مليء بالبثور. وانتهى الشجار بتبادل المديح وتقارض الثناء. وابتسم الحظ لبعض الوقت. واستضاف أحد المحامين النابهين بن جونسون في بيته وأرسل ارل بمبروك إلى الشاعر عشرين جنيهاً "ليشتري بها كتباً(43)". وما أن أصبح في أمان من الفقر والحاجة حتى أمسك بالقلم محاولاً تأليف "مسرحية مأساوية"، موضوعها "سيجانوس" الصديق الشرير الأثير لدى تيبيريوس. واعتمد في روايته بدقة على كتابات تاسيتس وسوتونيوس وديو كاسياس وجوفينال، وأخرج تحفة رائعة ثقافية فيها بعض مناظرها مؤثرة (الفصل الخامس- 10 مثلاً) وأبيات من الشعر الرائع. ولكن جمهور المشاهدين كره الخطب الطويلة والتوجيه الأخلاقي الممل الصادر عن شخصيات تعوزها الحيوية. وسرعان ما سحبت الرواية من المسرح. وطبع جونسون النص، وأورد على الهامش مراجعه القديمة مع بعض ملاحظات باللاتينية. وتأثر لورد Aubigny، فهيأ للمؤلف المخزون مأوى آمناً لمدة خمس سنوات.
وعاد جونسون إلى الحلبة في 1605 بأعظم رواية له "Volpone- أو الثعلب"، هاجم فيها، في هجاء مقذع شهوة المال التي اجتاحت لندن. وكما هو مألوف في الملهاة- من عهد بلوتس إلى رواية The Admirable Crichton- فإن محور الرواية هو خادم ماهر. ويحضر الخادم موسكا (ذبابة بالإيطالية) إلى سيده البخيل فولبون (الثعلب) الذي يدعى أنه مرض مرضاً شديداً، مجموعة من صيادي الميراث بالوصية- فولتوز: نسر، ثم كورباتشيو: غراب، ثم كورفينو: غراب أسحم- وكل منهم يترك للسيد المريض (الثعلب) هدية ثمينة، على أمل أن يسمى وريثاً له. ويتقبل "الثعلب كل هدية بتمنع جشع، إلى حد استعاره زوجة كورباتشيو لليلة واحدة. وينتهي الأمر بأن يخدع الخادم موسكا سيده فولبون حتى يعينه هو وريثاً وحيداً له، ولكن بناريو (الطبيعة الطيبة)، يكشف الحيلة، ويرسل مجلس السناتو في البندقية كل الممثلين تقريباً إلى السجن. وجعلت هذه المسرحية، آخر الأمر، راود مسرح الجلوب يركعون بين يدي جونسون.
وسرعان ما انتقل من نجاح إلى محنة، فقد اشترك مع مارستون وتشابمان في مسرحية Eastward ho، (1605) واعتقلت الحكومة المؤلفين على أساس أن الملهاة أساءت إلى الاسكتلنديين. وهدد المعتقلون بقطع أنوفهم وآذانهم، ولكن أفرج عنهم دون أن يمسوا بأذى، واشترك بعض ذوي المقامات الرفيعة- مثل كامدون وسلدن- في المأدبة التي أقامها الثالوث الذي استرد حريته. ثم، في 7 نوفمبر 1605، استدعى جونسون إلى مجلس الشورى، باعتباره كاثوليكياً يمكن أن يكون لديه معلومات عن مؤامرة البارود. وعلى الرغم من أنه كان قد تناول العشاء مع المدبر الرئيسي كاتسبي، قبل ذلك بشهر، فإنه تفادى كل تورط في المسألة. ولكن في 9 يناير 1606 دعي إلى المحكمة بوصفه متمرداً مخالفاً للقانون. ولما كان فقيراً معدماً إلى حد لا يستطيع معه دفع غرامة مجزية، فإن المحكمة لم تتشدد في الاتهام. وفي 1610 ارتد إلى المذهب الأنجليكاني، في حماسة بالغة إلى حد أنه أتى على كل ما في كأس النبيذ حين جلس إلى "العشاء الرباني"(44)
وفي تلك السنة أخرج أشهر مسرحياته "الكيميائي القديم The Alchemist"، وهجا فيها، لا مجرد الكيمياء القديمة (محاولة تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب)، وهذه مسألة تافهة، بل هجا كذاك ألواناً كثيرة من الدجل والخداع التي غزت لندن بالشعوذة. إن سير أبيقور مأمون واثق من أنه وقف على سير الكيمياء القديمة فيقول:
"الليلة سأحول كل ما في بيتي من معدن إلى ذهب، وفي الصباح الباكر أرسل إلى كل المشتغلين بالقصدير والرصاص ليبيعوني ما لديهم من هذا وذاك، وأرسل إلى لوثبري من أجل كل ما فيها من نحاس.... ولسوف أشتري ديفونشير وكورنوال، وأجعلهما مثل جزر الهند الشرقية تماماً. فإني أريد أن أكون لي من الزوجات والخليلات مثل ما كان لسليمان، الذي كان عنده خاتم مثل ما عندي. وسيكون لي بفضل إكسير الحياة ظهر قوي صلب مثل هركيوليز، فأصرع من الأعداء خمسين في الليلة الواحدة. أما المتملقون لي فسيكونون من الكهنة، الأطهار الوقورين، الذي يمكن أن أستحوذ عليهم بمالي.... وسيقدم لي اللحم في أصداف هندية وأطباق مصنوعة من الذهب ومرصعة بالعقيق والزمرد والصفير والياقوت الأزرق والأحمر. أما ألسنة الشبوط (سمك نهري)، والسنجاب، وكعوب الأبل... والفطر العتيق، والصدور المكسوة بالدهن لخنزيرة سمينة حامل، والتي قطعت لتوها.... فسأقول عنها لطباخي "هاك الذهب" فتقدم، ولتكن فارساً(45).
وقلّما كان سير أبيقور تافهاً، ولكن بقية أشخاص الرواية كانوا حثالة، وكان كلامهم بغيضاً بما احتوى من معالجة موضوعات الدعارة القذرة، وإنه لما يدعو إلى الأسى والحسرة أن نرى بن المثقف خبيراً بهذا الغثاء وتلك النفاية، وبلغة الأكواخ واللصوص المتشردين. وهاجم البيوريتانيون مثل هذه الروايات تجاوزاً، فانتقم منهم جونسون بتصويرهم في صور كاريكاتورية ساخرة في رواية The Bartholomew Fair 1614.
وأخرج مسرحيات هزلية أخرى كثيرة مفعمة بالحياة ممتلئة بالعكارات. وتمرد هو نفسه في بعض الأحيان على واقعيته الخشنة، في مسرحية "الراعي الحزين" وأطلق لخياله العنان ليسرح دون مبالاة:
إن وطء أقدامها لا يثني ورقة عشب،
أو يهز الطائر الأزغب في عشه
ولكنها مثل الرياح الغربية الخفيفة انطلقت مسرعة
وحيثما ذهبت تعمقت جذور الأزهار
وكأنما زرعتها بأقدامها العطرة(46).
ولكنه ترك الرواية دون أن يكملها، وقصر رومانتيكيته، (أو خياله وعواطفه)، بقية حياته، على أن أغنيات رقيقة تأثرت في ملهواته، مثل الجواهر وسط القاذورات، من ذلك أنه في ملهاة "الشيطان حمار The Devil is an Ass" (1616)، يغني فجأة:
هل شهدت إلا سوسنة متألقة تنمو
قبل أن تمسها الأيدي الخشنة؟
هل شاهدت إلا تساقط الثلوج
قبل أن تلطخها التربة؟
أو لم تلمس فراء السمور
أو ريش البجعة قط؟
وهل نشقت رائحة براعم الورد البري
أو رائحة الناردين وهو يحترق؟
وهلا تذوقت شهد النحلة؟
أوه! يا لبياضها، أوه! يا لرقتها، أوه! يا لحلاوتها؟
وأجمل من هذا بالطبع، أغنية "إلى سليا To Celia" التي سرقها من اليونانية من فيلوستراتوس، وحولها بدقة وبراعة إلى "اشربي من أجلي أنا وحدي بعينيك".
وبعد موت شكسبير أصبح جونسون الرئيس المعترف به لجماعة الشعراء. وأصبح شاعر البلاط غير المتوج في إنجلترا- ولو أنه لم يعين رسمياً، ولكن الحكومة اعترفت به في معظم الأحوال، ومنحه معاشاً سنوياً قدره مائة قطعة ذهبية. وأدرك الأصدقاء الذين التفوا حوله في حانة مرميد أن طبيعته الطيبة الجافة تختفي وراء مزاجه الحاد ولسانه السليط، فأفادوا من حديثه المثمر، وهيأوا له أن يلعب دور الزعامة كما كان الحال مع سميه في القرن التالي. وكان بن آنذاك بديناً، كما سيكون الحال مع سميه صمويل جونسون فيما بعد، وما كان أكثر وسامة ولا رشاقة، وكم حزن على "كرشه الفظيع" ووجهه المتجعد المملوء بالبثور نتيجة الأسقربوط. وقل أن زار صديقاً دون أن يكسر كرسياً. وفي 1624 نقل الندوة إلى "حانة الشيطان Devil Tavern" في شارع فليت، وهناك التقى بنظام مع جماعة نادي أبوللو الذي كان قد أسسه هو من قبل، ليتزودوا بالطعام والشراب والدعابة وثمار الفكر، وكان لجونسون مقعد مرتفع في أحد طرفي الغرفة له درابزين يؤدي بجسمه الضخم إلى العرش. وجرى العرف على تسمية أتباعه "قبيلة بن"، وكان من بينهم جيمس شيرلي وتوماس كارو وروبرت هرك، الذين سموه القديس بن(47)".
وكان جونسون في حاجة إلى صبر أيوب، وهو غير مفطور على الصبر، ليحتمل الفقر والمرض في السنين التي كان يتحطم فيها. وقدر أن كل رواياته لم تدر عليه إلا مبلغاً يقل عن مائتي جنيه كان ينفقها بسرعة، ويتضور جوعاً طيلة الأيام التي لا يعمل فيها. وكان يفتقر إلى شيء من الحاسة أو الخبرة المالية التي جعلت شكسبير خبيراً في اقتناء الأملاك الثابتة أو العقار، وتابع شارل الأول صرف المعاش المخصص لجونسون، ولكن عندما خفض البرلمان المخصصات الملكية. لم يكن المعاش يدفع دائماً. على أن شارل أرسل إليه مائة جنيه في 1629 وقرر رئيس كهنة وستمنستر وجماعة الرهبان فيها خمسة جنيهات "لمستر بنيامين" جونسون في أيام مرضه وفاقته(48) ولم تصب رواياته الأخيرة أي نجاح، وذبلت شهرته، واختفى أصدقاؤه، وقضت زوجته وأولاده نحبهم، وما جاءت ستة 1629 حتى عاش وحيداً قعيداً، ملازماً الفراش بسبب الشلل، مع سيدة عجوز تتولى العناية بأمره. وظل يعاني من المرض والفقر ثماني سنوات أخرى، ودفن في وستمنستر، ونقش جون يونج على حجر يواجه القبر. العبارة المشهورة:
"أي بن جونسون الفذ"
ولم يبق منها إلا الكلمتان الأوليتان. ولكن أي إنجليزي مثقف متعلم يستطيع أن يكمل العبارة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
6- جون دون 1573-1631
في مؤتمر هامبتون كورت اقترح مندوب بيوريتاني ترجمة جديدة للكتاب المقدس فاعترض أسقف لندن بأن الترجمات الموجودة صالحة تماماً. فقاطعة الملك جيمس وأمر بأن تتخذ إجراءات خاصة لترجمة رسمية موحدة يقوم بها أفاضل العلماء في كلتا الجامعتين، ويراجعها الأساقفة ثم تقدم إلى مجلس الشورى، ثم يعتمدها الملك حتى يمكن تلاوتها دون غيرها في كل الكنائس(49)". ونهض بهذه المهمة سير هنري سافيل وستة وأربعون عالماً آخرون، مستندين إلى ترجمات ويكلف وتندال القديمة، وأنجزوا عملهم في سبع سنين (1604-1611) وأصبحت هذه الترجمة المعتمدة" رسمية في 1611، وكان له أثرها البالغ على الحياة والأدب الحديث في إنجلترا. ودخل إلى اللغة الإنجليزية من هذه الترجمة ألف من العبارات البليغة، وكان تقديس الإنجيل آنذاك قوياً جداً في هذه البلاد البروتستانتية، ولكنه الآن تزود بدفعة جديدة من القداسة والإقبال عليه في إنجلترا، كما ازدادت معرفة البيوريتانيين ثم الكويكرز بنصوصه والتعيد به، بشكل لا يعدله إلا حب المسلمين للقرآن الكريم وتمسكهم به. وكان آثر الترجمة على أسلوب الأدب الإنجليزي مفيداً كل الفائدة، فقد وضعت حداً للتعقيدات الطويلة الغريبة في النثر الإنجليزي في عهد إليزابث، وانتهت به إلى جمل قصيرة قوية واضحة طبيعية وأحلت محل المصطلحات والتراكيب الأجنبية ألفاظاً أنجلوسكونية واصطلاحات إنجليزية مفعمة بالحيوية. وكان فيها ألف من الأخطاء العلمية، ولكنها حولت العبرية الرفيعة واليونانية العادية في الكتاب المقدس بقسميه إلى أروع تحفة في النثر الإنجليزي. وثمة مؤلفان آخران من النثر الرفيع ميزا هذا العصر. كتاب سير والتر رالي "تاريخ العالم" (وهو ثانيهما في الظهور)، وكتاب روبرت بيرتون "تشريح الكآبة Anatomy of Melancholy، (1621) - وهو المرجع الضخم الذي وضع فيه القسيس سان توماس في أكسفورد نبذاً مما جمعه من المعلومات اللاهوتية والتنجيمية، والقديمة والفلسفية. وحسب أساتذة الجامعة أول الأمر أنه "مرح فكه ظريف" ولنه أصبح في حياته فيما بعد مكتئباً إلى حد أنه لم يكن يسره ويسعده إلا بذاءة بحارة الزوارق في نهر التاميز(50). وللتخلص من كآبته "التهم" "بيرتون" "المؤلفين" الذين أمدته بهم مكتبة بودليان. وفي هذه الكتب وفي مخطوطه وفي علم التنجيم وفي الخدمات الكهنوتية، قضى أيامه الكئيبة ولياليه الممتلئة بالنجوم. وحسب طالعه الخاص، وتنبأ باليوم الذي سيوافيه فيه الأجل المحتوم بدقة، إلى حد أن تلاميذ أكسفورد ارتابوا في أنه شنق نفسه ليثبت أنه يعلم الغيب(51).
أنه نشيط مفعم بالحيوية في كتابه. ولما شرع في فحص وسواس المرض عنده ووصف العلاج له، وجد أن الاستطراد ألطف من خطته. وبالمرح الشاذ، الذي يشبه مرح رابليه في موضوعاته غير المطروقة، ناقش كل شيء عن غير قصد كما كان يفعل مونتاني، ويتبل صفحاته هنا وهناك بشيء من اللاتينية واليونانية، ويغري قارئه شيئاً فشيئاً بشكل لطيف، إلى لا شيء، وهو لا يدعي الأصالة، ويشعر بأن كل التأليف سرقة، "ما أرانا نقول إلا معاداً من لفظنا مكرراً، وربما كان الإنشاء والمنهج من عندنا فحسب(52)." ويعترف بأنه عرف الدنيا عن طريق الكتب وعن طريق الأنباء التي تتسرب إلى أكسفورد فحسب.
أني لأسمع أنباء جديدة كل يوم، كما أسمع الإشاعات العادية عن الحرب والطاعون والحرائق والفيضانات والسرقات، وحوادث القتل والمذابح والنيازك والمذنبات والأطياف والأعاجيب والأشباح، وعن المدن التي تم الاستيلاء عليها، والمدن التي حوصرت في فرنسا وألمانيا وتركيا، وإيران وبولندة.... الخ والتجمعات والاستعدادات اليومية وغيرها، مما يتم في هذه الأيام العاصفة، فتنشب المعارك، ويذبح كثير من الرجال، كما نسمع عن غرق السفن وأعمال القرصنة والمعارك البحرية، ثم الصلح وتكوين العصبات، ثم عن خدع حربية وإنذارات جديدة، إنها فوضى هائلة من العهود والرغبات والأعمال والقرارات، والظلامات والقضايا البينات والدفوع والقوانين والتصريحات.... والآراء والإنشقاقات والهرطقات.... والأعراس، والمسرحيات التنكرية وشعارات الرياء والحفلات، واحتفالات اليوبيل.... والجنازات(53) وأنه ليحس (مثل ثورو) أنه إذا قرأ أخبار يوم الأحد، فقد يكتفي بها ويأخذها قضية مسلمة بقية العام، مع مجرد تغيير في الأبهاء والتواريخ. وهو يرتاب في أن الإنسان سائر على طريق التقدم، ومع ذلك يقول "لسوف أصنع يوتوبيا (دنيا مثالية) خاصة بي... أتحكم فيها بمحض حريتي "ويصفها في تفصيل خيالي غريب. والواقع، على أية حال، أنه كان يؤثر تصفح الكتب في هدوء في مكتبه أو على ضفاف التاميز، على الانصراف إلى إصلاح البشر. ويقدم له كل مؤلفي العالم أحسن ما لديهم، ويثقل كاهله ما يجمع من اقتباسات، فيعود مكتئباً مغتماً من جديد، وبعد مائة وأربع عشرة صحيفة ممتلئة، يعقد العزم على التوصل إلى أسباب الكآبة، وهي الخطيئة، والشهوة الجامحة، والإفراط، والشياطين. والسحرة، والنجوم، والإمساك، والإسراف الجنسي،.... وأعراضها (أي الكآبة) ومن بينها: "ريح تقرقر في البطن.... وتجشؤات كريهة.... وأحلام مزعجة(54)". وبعد أن أكمل مائتي استطرد، تراه يصف أنواع العلاج للكآبة: الصلوات، الغذاء، الدواء، الملينات، إدرار البول، الهواء الطلق، الرياضة، الألعاب، الحفلات المسرحية، الموسيقى، الصحبة المرحة، النبيذ، النوم، فصد الدم، الاستحمام. ثم يستطرد من جديد، إلى حد أن كل صحيفة تغدو مخيبة للآمال ومفرحة معاً- إذا توقف سير الزمن.
أما في الشعر فقد اختفى شعراء "السونيت"، وظهر "شعراء ما وراء الطبيعة": ريتشارد كروشو، أبراهام كاولي، جون دون، جورج هربرت- الذين عبروا في جمال وديع، عن الهدوء والتقوى في بيت الكاهن الأنجليكاني، ولقد سماهم صمويل جونسون "ميتافيزيقيين"، من ناحية واحدة فقط، لأنهم نزعوا إلى الفلسفة واللاهوت والجدل، وأساساً لأنهم اختاروا عن ليلي، أوجونجورا، أو البلياد- أسلوباً يتميز بالبدع والنزوات اللغوية، والذكاء اللفظي والتركيبات المعقدة، والمقتطفات الكلاسيكية، والغموض المتكلف. على أن شيئاً من هذا كله لم يحل دون أن يكون "دون" أرق شعراء العصر.
وعاصر جون دون- مثل جونسون وتشابمان- ثلاثة عهود.ففي عهد إليزابث كتب في الحب، وفي عهد جيمس عن التقوى، وفي عهد شارل عن الموت. ومنذ نشأ كاثوليكياً، وتعلم على أيدي الجزويت وفي أكسفورد وكمبردج، فقد خبر مرارة الاضطهاد وهدأة الاختفاء. واعتقل أخوه هنري لإيوائه كاهناً محكوماً عليه بالموت، وقضى هنري نحبه في السجن، وزاد من اكتئاب جون انصرافه في بعض الأحيان إلى كتابات سانت تريز ولويس دي جرانادا الروحية. ولكن في 1592 نبذ عقله الفتي النابض بالحيوية، ما ورد في ديانته من معجزات وكرامات، وحام في العقد الثالث من عمره حول المغامرات العسكرية والجنسية وفلسفة التشكك.
ولفترة من الزمن قصر جون دون شعره على الاتصال الجنسي غير المشروع صراحة، ففي القصيدة رقم 17 من قصائده التأملية التي تعروها الكآبة، امتدح "أحلى شيء في الحب: التنوع (لذة الهوى في التنقل):
ما كان أسعد آباءنا في الزمان الأول
أولئك الذين لم يجدوا في تعدد العشاق جرماً(55).
وفي قصيدته التأملية رقم 18 سبح في "الدردنيل بين ستوس وأبيدوس في صدرها" وفي القصيدة رقم 19 "إلى حبيبته وهي تأوي إلى مخدعها" نزع عنها ثيابها، وفي خيال واسع، طلب إليها: امحي ليدي "أن تجوسا حيث تشاءان". وخلط بين علم الحشرات والعشق، وحاول أن يبرهن على أنه ما دام أن البرغوث عضهما معاً فانه قد خلط دمه بدمها فقد تزوجا آنذاك بالدم، ومن ثم يسرحان في نشوة لا إثم فيها(56). ولكنه أتخم بالمظاهر فسئمها، ووجد أنه ليس كريماً منه أن يرتكب الفاحشة مع كرائم السيدات، ونسي مفاتنهن الموقوتة، ولم يتذكر إلا الحيل التي كن قد تعلمنها من دنيا لا قلب لها، وصب على عشيقته جوليا أكبر اللعنات، ونصح قارئه أن يختار رفيقة طبيعية غير متكلفة لأن "الحب المبني على الجمال، سريع الفناء مثل الجمال(57)" ثم أنشد مقطوعة شعرية مضادة لفيللون، ووضع ميثاقاً شعرياً كان كل مقطع فيه يهوى على "العشق" بضربة قاتلة.
وفي 1596 أبحر مع اسكس، وساعد في الحملة على قادس، وأبحر معه ثانية في 1597 إلى جزر الآزور وأسبانيا. ولما عاد إلى إنجلترا وجد وظيفة محترمة، سكرتيراً لسير توماس أجرتون "حامل أختام الملكة"، ولكنه هرب مع ابنة أخيه وتزوجها (1600)، ونشط في أن يعولها بالشعر، وواتاه الأولاد بمثل السهولة التي واتته بها القوافي. وغالباً ما عجز عن غذائهم وكسائهم، وساءت صحة زوجته، وكتب يدافع عن الانتحار. وأخيراً رق قلب سير أجرتون فأرسل إلى الأسرة مبلغاً من المال (1608)، ووهبها سير روبرت دروري مسكناً في قصره (1610) في Drury Lane. ولكن بعد عام واحد فقد سير روبرت ابنته الوحيدة، فنشر دون، بلا توقيع، أولى قصائده العظمى، رثاء لها، بعنوان An Anatomy Of The World، وفيها ضخم من موت إليزابث دروري تضخيماً حتى جعل منه فناء الإنسان ثم الكون بأسره:
وهكذا يغنى العالم منذ اللحظة الأولى....
وتدعو الفلسفة الجديدة كل الناس إلى الشك
وخمد عنصر النار،
وضاعت الشمس والأرض، ولا يستطيع عقل أي إنسان
أن يوجهه التوجيه الصحيح للبحث عنها.
ويعترف الناس صراحة أن الدنيا قد ولت،
على حين أنهم في الكواكب وفي القبة الزرقاء
يتلمسون الكثير من الجديد ثم يرون أن كل هذا
قد انهار من جديد....
لقد تفتت كل شيء، وضاع التماسك،
كل الزاد الكريم، وكل علاقة(58).
وهكذا حزن لأنه يرى كيف أن هذه الأرض "عرجاء مشلولة"، وكانت يوماً مشهد الافتداء السماوي. والآن في الفلك الجديد، مجرد "ضاحية" للدنيا. وفي إحدى حالاته النفسية نراه يمجد "الظمأ المقدس إلى العلوم". وفي حالة أخرى يتساءل متعجباً هل سينتهي العلم بالجنس البشري إلى الدمار.
إنا نحارب أنفسنا بالأمراض الجديدة
وبالفيزياء الجديدة هناك آلة جديدة للحرب أسوأ كثيراً(59).
وكذلك تحول إلى الدين. فان تكرار إصابته بالأمراض والعلل، والموت المشئوم لأصدقائه الواحد بعد الآخر، انتهيا به إلى خشية الله، فانه، ولو أن عقله ظل يحاول في اللاهوت، فانه كان قد تعلم ألا يثق في العقل كذلك، على أنه عقيدة أخرى، وقرر أن المذهب القديم يجب قبوله دون مزيد من النقاش، إذا كان يوفر هدوء البال ولقمة العيش. وفي 1615 صار قسيساً إنجليكانياً، ولم يقتصر حينئذ على إلقاء المواعظ في نثر كئيب مؤثر، ولكنه نظم كذلك بعضاً من أكثر الأشعار الدينية تأثيراً في اللغة الإنجليزية. وفي 1616 عين قسيساً خاصاً لجيمس الأول، وفي 1621 أصبح رئيس كهنة سانت بول. ولم ينشر قصائده الغنائية الجنسية التي نظمها في شبابه، ولكنه كان قد سمح بتداول نسخ مخطوطة منها، أما الآن فانه-كما روى جونسون "يندم أشد الندم، ويسعى إلى إعدام كل قصائده(60)". وكتب بدلاً منها "قصائد مقدسة من نوع السونيت"، وتحدى الموت. وهو يصفر في الظلام.
أيها الموت. لا تزه ولا تتكبر، ولو أن بعضهم قد أسموك
جباراً رهيباً، لأنك لست كذلك.
لأن هؤلاء الذين تظن أنك صرعتهم
لا يموتون. أيها الموت الحقير، إنك كذلك لن تستطيع أن تصرعني...
لقد انقضت غفوتنا القصيرة، ولسوف نكون في يقظة أبدية،
ولن يكون ثمة موت بعد الآن، ولسوف تموت أنت أيها الموت(61).
وبعد أن أبل من مرض شديد، كتب في مذكراته في 1623، سطوراً مشهورة: "إن موت أي رجل يهد من كياني لأني جزء متشابك في الجنس البشري، ومن ثم لا أرسل أحداً لأستفسر عمن تنعى النواقيس، إنها تنعاني أنا(62)". وفي أول يوم جمعة من الصوم الكبير 1631، نهض من فراش مرضه ليلقي العظة التي بادر الناس فقالوا إنها عظة جنازته هو، وكان معاونوه قد حاولوا أن يثنوه عن الكلام، ولما رأوا (كما قال صديقه المخلص ايزك والتون) أن علته قد اشتدت حتى تركته مجرد جلد على عظم(63)"، وما أن انتهى من إلقاء موعظته التي كان فيها فصيحاً في التعبير عن الإيمان بالبعث، "مبتهجاً أشد الابتهاج لأن الله أعانه على القيام بهذا الواجب المرغوب فيه، حتى أسرع إلى بيته الذي لم يغادره... إلا محمولاً على أيدي رجاله الأتقياء إلى قبره(64)". ووافاه الأجل (31 مارس 1631) بين ذراعي أمه التي كانت قد احتملت صابرة آثامه، كما استمعت في حنان وعطف إلى عظاته.
لقد كانت حياة حافلة متوترة، انتظمت كل العواطف من شهوة الحب، وشك وانحلال، واختتمت في عزاء دافئ، هو عزاء الإيمان القديم. إننا نحن أبناء اليوم الذين يسارع إلينا النعاس حين نقرأ سبنسر، لنجد أنفسنا، وقد هزها من سباتها هذا الواقعي الخيالي على نحو عجيب، هذا الروح الوسيط معاً، عند قراءة كل صفحة من صفحاته تقريباً. إن شعره خشن، ولكنه هكذا أراده. إنه نبذ اللطائف المتكلفة في حديث الإليزابثيين واستطاب الألفاظ التي لن تبل جدتها، وبحور الشعر الأخاذة. وأحب الأنغام الناشزة المتنافرة التي يستطيع تحويلها إلى أنغام متناسقة لم تألفها الأذن. ولم يكن ثمة شيء مبتذل في شعره بعد أن تخرج في المواخير. إن هذا الرجل الذي صقل الفحش، كما صقله كاتوللوس من قبل، اكتسب من رقة الشعور والفكر، ومن أصالة في العبارة والعاطفة، ما لم يضارعه فيه شاعر آخر في ذلك العصر، الهم إلا شكسبير نفسه.
7- جيمس يثير العاصفة 1615 - 1625
إن الحب والدبلوماسية رفيقان شيمتهما الخيانة والغدر. ففي 1615 أحب الملك جيمس، بأسلوبه الرقيق ذي الوجهين، جورج فليير Villiers، الشاب الوسيم الجريء الثري، ذا الثلاثة والعشرين ربيعاً، فخلع عليه لقب ارل، ثم مركيز ثم دوق بكنجهام، ثم بعد 1616 أطلق يديه في توجيه سياسة الدولة. وكانت زوجة بكنجهام، ليدي كاترين مانرز تتبع الطقوس الأنجليكانية في الظاهر، ولكنها في أعماق قلبها كاثوليكية، وكان من الجائز أن تقنعه بصداقة أسبانيا.
إن الملك جيمس نفسه كان رجل سلام، ولم يكن ليدع اللاهوت أو القرصنة لتورطه مع القارة. وما أن تولى العرش حتى وضع حداً للحروب الطويلة التي كانت إنجلترا قد شنتها على أسبانيا. ولما فقد فردريك أمير البلاتينات (إقليم غرب الراين)-وزوج ابنة جيمس المحبوبة إليزابث-أمارته في البداية "حرب الثلاثين عاماً"، راود جيمس الأمل في أن استرضاء ملك أسبانيا وهو من (آل هبسبرج) استرضاء جاداً كريماً، قد يؤثر على إمبراطورية آل هبسبرج فرديناند الثاني، فيسمح لفردريك باسترداد عرشه. وأثار جيمس استياء الشعب واشمئزازه حين اقترح لهذا الغرض على فيليب الرابع زواج أخته "الأميرة ماريا" الأسبانية من الأمير شارل.
ولقي رالي نهايته الأليمة ضحية السياسة الأسبانية. وكان رالي يعارض سراً ارتقاء جيمس عرش إنجلترا، كما كان يعارض بشدة اسكس، سند جيمس ومؤيده. وسرعان ما وصل جيمس إلى لندن حتى فصل رالي من جميع مناصبه الحكومية. وبانفعال واندفاع تميز بهما والتر، سمح لنفسه بالتورط في عدة محاولات لخلع الملك(65). فأودع السجن، واحتج بأنه بريء وحاول الانتحار. وحوكم، وأدين بناء على أدلة مشكوك في صحتها، وحكم عليه بالإعدام، في 13 ديسمبر 1603 وقاسى كل ألوان التعذيب، على أنه خائن. وفي 8 ديسمبر كتب إلى زوجته رسالة تفيض رقة وتقي- لم يشهدهما العالم فيه من قبل. ورفض جيمس توسلات الملكة والأمير هنري للعفو عنه. ولكنه سمح للسجين بالبقاء على قيد الحياة لمدة خمس عشرة سنة أخرى، مع بقاء حكم الإعدام سيفاً مسلطاً على رأسه، وسمح لزوجة رالي بالإقامة معه في بيت صفير بناه في تخوم البرج (السجن). وأمده أصدقاؤه بالكتب وأجرى بعض التجارب الكيميائية، ونظم بعض القصائد الرائعة، وألف كتابه "تاريخ العالم". وبدأ الكتاب- كما نشر 1614 بمقدمة ورعة مشوشة معقدة مطولة مملة، تكشف عن عقل منهوك شديد الاضطرابات والخبل. وبدأت القصة بنينوى، وانتقلت عبر مصر وجنوب فلسطين، وإيران وكلديا واليونان وقرطاجة، وانتهت برومة الإمبراطورية. ولم يحرص رالي على الوصول إلى الأزمنة الحديثة "لأن من يتوخى الصدق كل الصدق في كتابة التاريخ، قد لا ينجو من الأذى" وتحسن أسلوبه بمتابعة الكتابة، حتى بلغ مرتبة عالية في وصف معركة سلاميس، وبلغ الذروة في المناجاة الختامية "للموت البليغ العادل الجبار(68)".
ولكن رالي لم يرتض الهزيمة ولم يقنع بها، ففي 1616، بعد أن جمع 1600 جنيه، رشا دوق بكنجهام ليتوسط له لدى الملك(69)، ووعده، في حال إطلاق سراحه، بالإبحار إلى أمريكا الجنوبية، ليكشف عن ما ظن أنه مناجم الذهب الغنية في جويانا، ويعود بالغنائم الملكية للخزانة الظمأى. فأفرج عنه جيمس إفراجاً مؤقتاً مشروطاً، ووافق على أن يحتفظ رالي وشركاءه بأربعة أخماس أية كنوز قد يستولي عليها من "الوثنين المتوحشين" ولكن الملك الحذر البعيد النظر أبقى حكم الإعدام نافذ المفعول إغراء بحسن السلوك. وأشار السفير الأسباني كونت جوندومار إلى أن هناك في جويانا جاليات أسبانية، ورجا ألا يضاروا أو يعكر صفوهم. فما كان من جيمس الحريص على السلام، وعلى المصاهرة مع أسبانيا، إلا أن حظر على رالي-تحت طائلة تنفيذ حكم الإعدام-التدخل في شئون أية جاليات مسيحية في أي مكان والأسبانية منها بوجه خاص(70)، ووافق رالي كتابة على هذه التحذيرات(71)، واستمر جوندومار يعترضن ويحتج، فما كان من جيمس إلا أن أقسم على تنفيذ حكم الإعدام إذا خالف رالي تعليماته(72).
وجهز رالي بمعونة أصدقائه، أربع عشر سفينة أبحر بها في 17 مارس 1617 إلى مصب نهر الأورينوكو. ولكن مستوطنة سانتا توماس الأسبانية اعترضت الطريق عبر النهر إلى المناجم المزعومة، وتلك مسألة أسطورية تماماً. ونزل رجال رالي إلى البر- وبقي هو على ظهر السفينة- وهاجموا القرية وأحرقوها وقتلوا حاكمها. وفترت همة القوة المنهوكة بما لقيت من مقاومة أسبانيا بعد ذلك، وتخلت عن ضالتها المنشودة في الذهب؛ وعادت صفر اليدين إلى السفن.
وانخلع قلب رالي عندما علم أن ابنه قد ذبح في الهجوم، وأنب الرجل الذي يليه في القيادة، فانتحر الرجل نتيجة لذلك. ولكن رجال رالي فقدوا ثقتهم به، وتخلت السفينة عن أسطوله الواحدة بعد الأخرى، ولما عاد إلى إنجلترا، ووجد أن الملك غاضب عليه أشد الغضب، أجرى مفاوضات للهرب إلى فرنسا، ولكن قبض عليه، فعاود محاولة الهرب، ووصل إلى جرينتش، ولكن جاسوساً فرنسياً غدر به، فقبض عليه وأودع السجن، وأمر الملك، الذي كان يستحثه جوندومار، بتنفيذ حكم الإعدام. وكان رالي، آخر الأمر، وقد سئم الحياة ورحب بنعمة الموت العاجل، فسار في 29 أكتوبر 1618، إلى ساحة الإعدام في وقار هادئ، جعل منه بطل شعب يمقت أسبانيا. وقال للموكلين بتنفيذ الحكم: "هيا، أنجزوا مهمتكم، لقد حانت سلعتي، ولن أدع أعدائي يظنون أني أرتعد فرقاً". واختبر بإبهامه نصل البلطة ثم قال "هذا علاج ناجح عادل لكل ما أعاني من مرض وشقاء(73)" وطالبت زوجته الوفية بجثته ودفنتها في إحدى الكنائس. وكتبت "لقد أنعم علىّ السادة بجثته، ولو أنهم أنكروا علىّ حياته. اللهم احفظ على عقلي وألهمني الصبر(74)".
إن رحلة رالي كانت من رحلات كثيرة، حملت رعايا جيمس إلى أمريكا، يحدوهم الأمل. فالفلاحون المتلهفون على امتلاك أرض خاصة بهم، والمغامرون الذين يجرون وراء الثراء من التجارة أو الأسلاب، والمجرمون الذين يريدون الإفلات من قبضة القانون، والبيوريتانيين المصممون على رفع راية مذهبهم فوق أرض عذراء-هؤلاء جميعاً وغيرهم ركبوا الصعاب وتحملوا مشاق البحر ليؤسسوا "إنجلترا" جديدة في كل مكان. فأسست فرجينيا في 1606-1607، وبرمودا في 1609، ونيوفوندلند في 1610، وهرب رجال الدين "الانفصاليون" الذين رفضوا كتاب الصلوات والطقوس الخاصة بالكنيسة الأنجليكانية، إلى هولندا مع أتباعهم في 1608. ومن دلفت (يولية 1620) وسوثمبتون ويليموث (سبتمبر) أبحر هؤلاء الحجاج عبر الأطلسي. وبعد ثلاثة أشهر من المحن والمخاطر، ألقوا مراسيهم على صخرة بليموث (21 ديسمبر).
وفي آسيا، اقتصرت شركة الهند الشرقية الإنجليزية على 30 ألف جنيه و17 سفينة، حاولت بها عبثاً أن تنتزع الثغور والطرق التجارية من شركة الهند الشرقية الهولندية التي كان لها 60 سفينة و340 ألف جنيه، ولكن بعثة سير توماس رو (1615) انتهت إلى إنشاء مستودعات تجارية في أحمد أباد وسورات وأجرا، وغيرها، في الهند، وأنشئ وعزز بالأسلحة فورت سان جورج، لحمايتها (6140). لقد اتخذت الخطوات الأولى لتأسيس الإمبراطورية البريطانية في الهند. وعلى الرغم من مغريات المصالح التجارية، والإستحثاثات البرلمانية والغيرة الوطنية الشعبية، ظل الملك جيمس لمدة ستة عشر عاماً متمسكاً بسياسة السلام. وتوسل إليه مجلس العموم أن يدخل حرب الثلاثين عاماً إلى جانب البروتستانت المهددين بالخطر في بوهيميا وألمانيا. وأهاب به أن يزوج ابنه الوحيد الباقي على قيد الحياة، لا من أميرة أسبانية، بل من أميرة بروتستانتية. وندد بتراخيه في تنفيذ القوانين المعادية للكاثوليكية، وحثه على الأمر بفصل الأطفال الكاثوليك عن آبائهم، وأن ينشئوا على البروتستانتية، كما حذره مجلس العموم من أن التسامح لا بد أن يؤدي إلى نمو كنيسة كاثوليكية مفطورة صراحة على التعصب وعدم التسامح(75).
إن اختلاف وجهات النظر بين البرلمان والملك في 1621 كاد أن يكون بمثابة تجريب للصراع بين البرلمان الطويل وشارل الأول (1642). واستنكر النواب إسراف البلاط، والاحتكارات الدائبة على تعويق التجارة، وفرضوا الغرامة والنفي على المحتكرين، رافضين دفاعهم بأن الصناعة الناشئة لا بد من حمايتها ضد المنافسة. فلما أنب جيمس مجلس العموم على تدخله في أعمال "السلطة التنفيذية" أصدر المجلس (في 18 ديسمبر) "الاحتجاج الأعظم" التاريخي الذي أكد من جديد أن "الحريات والإعفاءات والامتيازات، وسلطة البرلمان، هي التراث القديم وحق المولد غير المشكوك فيهما لأبناء إنجلترا". وأضاف: "أن المسائل الشائكة العاجلة التي تتعلق بالملك والحكومة والدفاع عن الملكة.. كلها موضوعات ومادة صالحة للمشورة والمناقشة في البرلمان(76)". ومزق جيمس في غضب شديد، من مضبطة البرلمان، الصفحة التي دون فيها الاحتجاج، وحل البرلمان (8 فبراير 1622) وأمر بأن يودع السجن أربعة من الزعماء البرلمانيين: سوثمبتون، سلدن، كوك، بيم، وعجل بتحقيق رغبة بكنجهام في التحالف العسكري مع أسبانيا.
وأغرى الوزير المستهتر آنذاك مليكه بأن يسمح له في اصطحاب الأمير شارل إلى مدريد، متباهياً، ليرى الأميرة الأسبانية، ويتمم الزواج، ووافق جيمس على كره منه، لأنه خشي أن فيليب قد يرد شارل إلى إنجلترا خائباً، فيكون أضحوكة أوربا. ووصل الأمير شارل ودوق بكنجهام إلى مدريد (مارس 1623)، فوجد أن الأميرة الفاتنة لا يمكن الوصول إليها أو الاقتراب منه، وأن الشعب الأسباني غاضب أشد الغضب لمجرد التفكير في زواجها من أمير بروتستانتي، قدر استياء الإنجليز لفكرة عودة أميرهم بعروس كاثوليكية إلى إنجلترا. وقام فيليب ووزيره أوليفار بمراسم الحفاوة والتكريم للضيوف، وكتب لوب دي فيجا رواية كمظهر من مظاهر الترحيب، ورسم فيلاسكيه لوحة للأمير شارل، وامتدح بكنجهام المفاتن الأسبانية إلى حد الامتياز والشرف. ولكن وضع لإتمام الزواج شرط أساسي لا مناص منه، وهو منح الحرية الدينية للكاثوليك الإنجليز. ووافق شارل على الفور، ووافق جيمس آخر الأمر، ووقعت معاهدة الزواج، ولكن عندما طلب جيمس فيما بعد من فيليب أن يعد باستخدام الأسلحة الأسبانية، إذا اقتضى الأمر، في استعادة فردريك لإقليم البلاتينات، أبى فيليب أن يلزم نفسه بشيء، وأمر جيمس ابنه بالعودة إلى الوطن الحبيب. وإنا لنلمس الجانب الإنساني في الملك في رسالته إلى شارل (14 يونية 1623): "أنا الآن أعض بنان الندم، وأتألم أشد الألم، لأني سمحت برحيلك. عني أنا لا أعبأ بالزواج ولا بغيره، طالما أراك بين أحضاني ثانية. أعادك الله إلي أعادك الله إلي أعادك الله إلي(77) "أما الأميرة الأسبانية فإنها، عند توديعها الأمير شارل، جعلته يقطع على نفسه الوعد بالاهتمام بأمر الكاثوليك في إنجلترا ورعايتهم(78). وحيت إنجلترا الأمير العائد بوصفه بطلاً، لأنه لم يأت بعروس، بل أتى بدلاً منها بمجموعة من لوحات تشيان (Titan-رسام من البندقية 1477-1576).
أما بكنجهام الذي غضب الآن أشد الغضب لأنه خدع نفسه في أسبانيا وارتكب هذه الحماقة هناك (كما أكد له أوليفار ذلك) فقد ولى وجهه شطر فرنسا ليعقد معها حلف مصاهرة، وهيأ لشارل الزواج من صغرى كريمات هنري الرابع-وهي هنريتا ناريا التي كان مذهبها الكاثوليكي شوكة من الأشواك في جنب البرلمان القادم. واستعاد الوزير الشاب المتهور شعبيته في مجلس الهموم، بالإلحاح على جيمس-الذي تدهورت صحته وانحطت قواه العقلية-ليعلن الحرب على أسبانيا. وعاد البرلمان إلى الاجتماع في فبراير 1624، وانتهج سياسة قوامها، من جهة، المصالح التجارية المتلهفة على الاستيلاء على المكاسب أو المستعمرات أو الأسواق الأسبانية، ومن جهة أخرى، صرف أسبانيا عن مد يد المساعدة إلى الإمبراطور الكاثوليكي ضد البروتستانت في ألمانيا. إن الشعب الذي قال بأن جيمس جبان لأنه يحب السلام، قال عنه الآن أنه طاغية لأنه يجند الرجال للخدمة العسكرية، ولم تكن الكتائب التي أعدت ولا الأموال التي اعتمدت كافية. وأحس جيمس بالمرارة، لاختتام حكم سلمي بحرب عقيمة.
وتكاثرت عليه العلل والأدواء في أعوامه الأخيرة، وكان قد سمم جسمه بالإسراف في الطعام والشراب دون تمييز، وكان يعاني الآن من التهاب الجهاز التنفسي، والتهاب المفاصل والحصى في الكلى واليرقان والإسهال والبواسير، وكان لا بد من فصده يوماً، حتى جعلت أقل متاعبه الملكية من هذا الفصد أمراً غير ضروري(89). ورفض تناول الدواء. وتناول الأسرار المقدسة الخاصة بالكنيسة الأنجليكانية، وفاضت روحه في 27 مارس 1625، وهو يتمتم بآخر راحة لنفسه في عقيدته. وعلى الرغم من غرور جيمس وخشونته كان ملكاً أفضل من بعض ملوك يبزوه في النشاط والشجاعة والمغامرة. وكان "حكمه المطلق" بالدرجة الأولى عبارة عن "نظرية لطف الجبن من حدتها" وغالباً ما استسلمت لبرلمان قوي. ولم تحل مزاعمه اللاهوتية دون إرادة التسامح عنده، وهو تسامح أكرم كثيراً من تسامح من خلفه. وهيأ حبه الجريء للسلام لإنجلترا الازدهار، وكبح جماح الولع بالقتل في برلمانه، وهو ولع يشوبه الفساد والرشوة، وما يقابله من حماسة في شعبه. وكان متملقوه قد أطلقوا عليه "سليمان" البريطاني لحكمته الدنيوية. ولما عجز صلي Sully عن توريطه في النزاع في القارة (أوربا) أطلق عليه "أعقل البلهاء في العالم المسيحي"، ولكنه لم يكن فيلسوفاً ولا أبله، ولكنه كان عالماً يمثل دور الحاكم، ورجل سلام في عصر جن جنونه بالأساطير والحرب. إن الكتاب المقدس الذي تمت ترجمته في عهد الملك جيمس أفضل من تاج أي غاز أو فاتح.