قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 30
صفحة رقم : 8801
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> عبقرية الإسلام -> مقدمة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثلاثون: عبقرية الإسلام 1258-1520
صمد العالم الإسلامي من 1095 إلى 1291 أمام سلسلة من الحملات الدينية العنيفة، مثل تلك الحملات الدينية العنيفة التي أخضع بها فيما بعد البلقان، وحول ألفاً من الكنائس إلى مساجد. ودفعت سبع حملات صليبية حث عليها اثنا عشر من البابوات، نقول دفعت بملوك أوربا وفرسانها ورعاعها ضد قلاع المسلمين في آسيا الصغرى وسوريا وفلسطين ومصر وتونس. وعلى الرغم من إخفاق هذه الهجمات آخر الأمر، فإنها أضعفت نظام هذه الدول الإسلامية ومواردها إضعافاً خطيراً. وكان الصليبيون قد نجحوا في أسبانيا حيث هزم المسلمون واخرجوا، ولكن بقاياهم تجمعوا في غرناطة التي تأخر قدرها المحتوم بعض الوقت، وكان النور مانديون الأشداء قد أخذوا صقلية من المسلمين. ولكن أين هذه الجراح والتمزيق من انقضاض المغول الوحشي المدمر (1219-1258) على بلاد ما وراء النهر وفارس والعراق؟ وتعرضت مراكز إشعاع الحضارة الإسلامية، المدينة تلو الأخرى، للسلب والنهب والمذابح والحريق- بخاري، سمرقند، بلخ، نيسابور، الري، هراة، بغداد. وأسقطت الحكومات الإقليمية والمحلية، وأهملت القنوات وتركت للرمال التي تذروها الرياح، وأكرهت التجارة على الفرار، ودمرت المدارس والمكتبات، وتشتت الدارسون ورجال العلم أو ذبحوا أو استعبدوا. وتحطمت روح الإسلام لنحو قرن من الزمان ثم انبعثت من جديد في بطئ. ثم اكتسح تتار بتمورلنك غربي آسيا بدمار جديد، وشق الأتراك العثمانيون طريقهم عبر آسيا الصغرى إلى البسفور، ولم تعرف حضارة أخرى في التاريخ مثل هذه الكوارث عدداً وانتشاراً وشمولاً.
على أن المغول والتتار والأتراك أتوا بدمهم الجديد ليحل محل أنهار الدماء البشرية التي كانوا سفكوها. وكان الاسلام قد صار مترفاً فاتر الهمة، وكانت بغداد- مثل القسطنطينية- فقد فقدت إرادتها في امتشاق الحسام للدفاع عن النفس، وأغرم الناس هناك بالحياة اللينة الهينة الرخية إلى حد الإشراف على الموت. أن تلك الحضارة الرائعة- مثل الحضارة البيزنطية، أينعت لتذوى وتذبل،. ولكنها كانت غنية - مثل اليونان القديمة وإيطاليا النهضة - إلى حد القدرة على تمدين غزاتها، بفضل ما أنقذ من شتاتها وذكرياتها، وأنشأت فارس تحت حكم خانات المغول حكومة مستنيرة وأنتجت أدباً جيداً وفناً عظيماً، وشرفت التاريخ بعالم جليل هو رشيد الدين. وفيما وراء النهر، بنى تيمورلنك وعمر، بشكل مؤثر، قدر ما كان قد خرب ودمر. ووسط حملات السلب والنهب التي كان يشنها، توقف ليكرم حافظ الشيرازي. وفي الأناضول كلن الأتراك فعلاً متحضرين،وكان الشعراء بينهم من الكثرة قدر كثرة المحظيات أو الخليلات. وفي مصر استمر المماليك في إقامة الأبنية بناء العمالقة الجبابرة. وفي غربي إفريقية أنجب الإسلام فيلسوفاً مؤرخاً، كان يبدو إلى جانبه أعظم علماء المسيحية المعاصرة بمثابة حشرات صغيرة تقع في الشرك وتموت جوعاً وسط عناكب الفلسفة النصرانية في العصور الوسطى. وفي نفس الوقت كان الإسلام ينتشر في الهند إلى أقصى الشرق.
1- الأيلخانات في فارس 1265- 1337
عندما سار ماركوبولو في 1271 عبر فارس ليرى الصين على عهد قبلاي خان، وجد نفسه إمبراطورية المغول. ولم يكن التاريخ قد سجل من قبل قط مملكة مترامية الأطراف مثلها. ففي الغرب لامست شواطئ نهر الدنيير في روسيا، وفي الجنوب شملت القرم والعراق وفارس والتبت والهند حتى ضفاف نهر الكنج. وفي الشرق طوقت الهند الصينية والصين وكوريا، وفي الشمال كان يقع موطنهم الأصلي منغوليا. وفي كل هذه البلاد تعهد حكام المغول الطرق، ونهضوا بالتجارة، وقاموا على حماية السائحين والمسافرين، وأطلقوا حرية العبادة لمختلف العقائد.
لقد أسس هولاكو حفيد جنكيزخان، بعد تدمير بغداد 1258، عاصمة جديدة اسمها المراغة شمال غربي فارس. ولما مات 1265 أصبح ابنه "أباقا" خان أو أمير فارس، وخضع خضوعاً غير ثابت لقبلاي خان، على بعد الشقة بينهما. ومن هنا بدأت أسرة الأيلخانية التي حكمت فارس والعراق حتى 1337. وكان أعظم أفراد هذه الأسرة هو غازان خان، الذي كاد أن يكون أقصر رجال جيشه قامة، ولكن أرادته كانت أقوى من أسلحتهم. وطرح غازان ولاءه للخان للأكبر في منغوليا أو الصين وجعل من دولته مملكة مستقلة، واتخذ من تبريز عاصمة لها، وقدم إليه الرسل من الصين والهند ومصر وإنجلترا وأسبانيا. وقد أصلح الإدارة، وثبت العملة، وحمى الفلاحين من ملاك الأرض ومن اللصوص، وساد الرخاء بدرجة تذكر ببغداد في أزهى أيامها. وشيد في تبريز مسجداً ومدرستين وأكاديمية للفلسفة ومرصداً ومكتبة ومستشفى. ووقف دخول أراض معينة، وقفاً دائماً للإنفاق على هذه المنشآت ، ووفر لها أعظم العلماء والأطباء ورجال العلم في ذاك العصر. وكان هو نفسه واسع الثقافة. وكان يعرف عدة لغات، واضح أن من بينها اللاتينية(1). وشيد لنفسه مقبرة بلغت من الفخامة والضخامة مبلغاً ظن معه أن موته (1304) كان بمثابة دخوله ظافراً منتصراً إلى مقر أشرف وأعظم.
ووصف ماركو بولو تبريز بأنها "مدينة عظيمة متألقة". وقال عنها فرا أودريك Fra Oderic، (1320) "إنها أجمل مدينة في العالم للتجارة، فهنا توجد أية سلعة بكميات وفيرة ...." ويقول المسيحيون هنا "إن الدخل الذي كانت تدفعه المدينة لحاكمها يفوق ما تدفعه فرنسا كلها لمليكها "(2) هذا بالإضافة إلى "المباني الأنيقة والمساجد الفخمة"، "وأروع الحمامات في العالم"(3). وقدر أودريك أن عدد سكانها يبلغ مليوناً من النفس.
وتابع أولجايتو السياسة المستنيرة التي انتهجها أخوة غازان. وشهد عصره بعضاً من أروع العمارة والزخرفة في تاريخ فارس، وان سيرة قاضي قضاته رشيد الدين فضل الله لتوضح ازدهار التعليم والثقافة والآداب في هذا العصر. وولد رشيد الدين سنة 1247 في همذان، وربما كان أبواه من اليهود، كما قال أعداؤه، مستشهدين بسعة اطلاعه وعلمه بالشريعة الموسوية. ولقد خدم رشيد الدين الخان أباقا كطبيب له، وغازان بوصفه كبيراً للوزراء، وأولجايتو بوصفه صاحب بيت المال. وشيد في إحدى الضواحي شرقي تبريز حياً جديداً أسماه "ربع الرشيد"، وهو مركز جامعي فسيح. وفي رسالة له محفوظة في مكتبة كمبردج يصف هذا المركز فيقول: "لقد شيدنا نزلاً شاهقاً يناطح السحاب، و 1500 حانوت تفوق الأهرام في رسوخها، و 30.000 منزل فاتن، كما شيدت فيها الحمامات الصحية والحدائق الغناء والمخازن والمطاحن ومصانع النسيج والورق. ونزح الناس من كل حدب وصوب إلى هذا الربع، وكان من بينهم مائتان من قراء القرآن. وزودنا بالمساكن 400 آخرين من العلماء ورجال اللاهوت ورجال القانون وعلماء الحديث، في شارع سمي "شارع العلماء". وأجرينا على هؤلاء جميعاً رواتب يومية وأرزاقاً ومخصصات سنوية للملابس، ومبالغ من المال لشراء الصابون والحلوى. وأتينا كذلك بألف طالب، وأصدرنا الأوامر بصرف الأرزاق والمخصصات اليومية لهم، حتى يتفرغوا في راحة وأمان، لطلب العلم ونفع الناس به. كما حددنا كذلك، من الطلبة، وكم منهم يدرسون مع كل أستاذ أو معلم. وبعد التحقق من صلاحية كل طالب وقدرته على فرع الدراسة الذي يريد التخصص فيه، أمرناه بأن يتعلمه.
وأولينا عنايتنا ورعايتنا بصفة خاصة وبطرق شتى، لخمسين طبيباً ماهراً جاءوا من الهند والصين ومصر وسوريا. فأمرنا بأن يترددوا على دار الشفاء كل يوم، وأن يتعهد كل منهم عشرة طلاب صالحين لدراسة الطب، ويدربهم على ممارسة هذا الفن الجليل. كما أمرنا بأن يعهد إلى أطباء النظارات والجراحين وأطباء العظام الذين يعملون بدار الشفاء، بخمسة من أبناء موظفينا وحاشيتنا ليتعلموا طب العيون والجراحة وطب العظام. ولكل هؤلاء الرجال شيدنا حياً خلف دار الشفاء... سمي "شارع الأطباء". كذلك استقرت كل جماعة من أرباب الحرف ورجال الصناعة الذين أتينا بهم من مختلف البلاد، في شارع سمي باسمها" (4).
وخليق بنا أن يتولانا أشد العجب والدهشة لرجل وجد، مع إسهامه النشيط إدارة شئون المملكة، من الوقت والمعرفة ما استطاع معه تدوين خمسة كتب في اللاهوت، وأربعة في الطب وفي نظم الحكومة، وكتاباً من عدة مجلدات في تاريخ العالم. وفوق ذلك يؤكد لنا أحد المسلمين المعجبين أن رشيد الدين استطاع أن يخصص لتأليفه فترة ما بين صلاة الفجر وشروق الشمس. ومهما يكن من أمر فإن هناك أياماً تتلبد فيها السماء بالغيوم حتى في أذربيجان. وقضى رشيد الدين سبع سنين في كتاب "جامع التواريخ" ونشره في مجلدين ضخمين، ويقتضي نشره بالإنجليزية سبع مجلدات. وضمنه بيانات جوهرية عن المغول من جنكيزخان إلى غازان، وعن مختلف الدول والأسرات الإسلامية في شرقي العالم الإسلامي وغربيه، وعن فارس واليهود قبل بعثة الرسول وبعدها، وعن الصين والهند، مع دراسة مستفيضة لبوذا والبوذية، مع موجز مبسط لأعمال وأفكار ملوك أوربا وبابواتها وفلاسفتها، ويشهد كل الذين قرءوا هذه المجلدات- ولو أنها لم تترجم بعد إلى أية لغة أوربية- بأنها أقيم عمل في النثر الأدبي في فارس. ولم يستفد رشيد الدين من محفوظات حكومته فحسب، ولكنه استخدم كذلك علماء من الصين ليؤمنوا له المعاهدات الصينية وغيرها من الوثائق، ويبدو أنه قرأها مع غيرها من المراجع العربية والعبرية والتركية والمغولية، والتركية والمغولية، كل في لغته الأصلية(5).
ورغبة في نقل هذه المجموعة الوافية من التواريخ إلى الأعقاب رغم الزمن والحرب، أرسل رشيد الدين نسخاً من هذا الكتاب إلى المكتبات هنا وهناك، وترجم إلى العربية ووزع. وخصص أموالاً لكتابة نسخة بالعربية وأخرى بالفارسية في كل عام، لإهدائها إلى إحدى المدن في العالم الإسلامي. على أن كثيراً من هذا الكتاب مع مؤلفاته الأخرى قد ضاع، وربما يرجع هذا إلى الكارثة السياسية التي حلت به. ذلك أنه في سنة 1312 أشرك الأمير أو لجابتو على شاه مع رشيد الدين في الإشراف على بيت المال. وفي زمن "أبى سعيد" الذي خلف أولجابتو، نشر على شاه مختلف الاتهامات ضد زميله رشيد الدين، وأغرى الخان بأن رشيد الدين وأبنه إبراهيم كانا قد دسا السم لأولجابتو. فعزل المؤرخ (رشيد الدين) وسرعان ما أعدم (1318) وهو في سن السبعين، مع أحد أبنائه، وصودرت ممتلكاته، وحرمت مؤسساته من العطايا والمنح، ونهبت ضاحية "ربع رشيد" ودمرت.
وقام أبو سعيد بترضية متأخرة، ذلك أنه عين ابنا آخر من أبناء المؤرخ وزيراً له، ونهج غياث الدين سبيل الحكمة والعدالة في إدارة دفة الحكومة. وأعقب موت أبى سعيد فترة من الفوضى، ووضعت نهاية لحكم أسرة الأيلخانية، وانقسمت مملكتهم إلى ولايات صغيرة دمرتها الحرب، وخلصها الشعر.
2- حافظ الشيرازي 1320-1389
ما كان أكثر من ينظم القصيد في فارس. وكان الملوك يكرمون الشعراء اللذين لم يتقدم عليهم في الحظوة بهذا التكريم والتبجيل إلا الحظايا والحظاظون والقواد. وفي زمن حافظ طبقت الآفاق شهرة عشرين من الشعراء، وذاع صيتهم من البحر المتوسط إلى نهر الكنج، ومن اليمن إلى سمرقند، ولكنهم جميعاً، على أية حال، أحنوا رءوسهم إجلالاً لشمس الدين محمد- المشهور باسم حافظ الشيرازي - وأكدوا له أنه بز "الشيخ سعدي" الشاعر الرخيم نفسه. وارتضى حافظ هذا التقدير، وأخذ يحدث نفسه في احترام قائلاً:
"قسماً بالقرآن الذي تعيه في صدرك يا حافظ، لم أر قط أجمل من شعرك"(6).
"وحافظ" لفظة معناها "الذكور" الذي يحفظ ويتذكر، وهو لقب أطلق على كل من حفظ القرآن كله - مثل شاعرنا - ولم يعرف تاريخ ميلاده، وأبواه غير معرفين. وسرعان ما أقبل على الشعر. وكان أول من رعى الشاعر واحتضنه هو "أبو إسحق " الذي عينه غازان خان حاكماً على جنوب إيران. وأولع أبو إسحق بالشعر أيما ولع، وأهمل شئون الحكومة. ولما جاءه النذير بأن بعض القوات المعادية تعد العدة لمهاجمة عاصمة "شيراز"، قال إنه لسفيه ذلك الرجل الذي يضيع مثل هذا الربيع الجميل في الحرب، ولكن قائداً متلبد الشعور هو "مبارز الدين محمد بن المظفر" استولى على شيراز وقتل أبا إسحق (1352)، وحرم شرب الخمر وأغلق كل حانة في المدينة. وفي هذا كتب حافظ مرثية حزينة قال فيها:
"ولو أن الخمر تبعث السرور، والريح تنشر أريج الورود،
لا تشربوا الخمر على أنغام القيثارة لأن المحتسب يقظ،
وخبئوا الطاس في أكمام عباءاتهم المرقعة،
لأن الزمن يسفك الدماء، كما ينسكب الخمر من عين الإبريق الدامعة،
واغسلوا بدموعكم ما تلطخ بالخمر من أرديتكم
لأن هذا موسم الورع وزمن التقشف والتعفف"(7).
ولما وجد خليفة ابن المظفر أن تحريم الخمر أمر غير عملي، أو تبين أن شاربي الخمر أسلس قياداً وأيسر حكماً من المتطهرين المتزمتين، أعاد فتح أبواب الحانات، وخلد حافظ اسمه.
وسار شاعرنا على تقاليد الفرس في نظم من القصائد في الخمر، واعتبر في بعض الأحيان أن زجاجة من الخمر "تسمو على تقبيل العذارى"(8)، ولكن حتى الكروم تجف وتذوى بعد ألف مقطع من الشعر، وسرعان ما تبين حافظ أن الحب، عذرياً كان أو عملياً، لا يستغنى عنه الشعر.
"هل تعرف ما هو الحظ السعيد؟ إنه الظفر بنظرة إلى غادة
هيفاء، إنه التماس صدقة منها في زقاقها، وازدراء أبهة الملك"(9).
وبدا له الآن أن الحرية ليست حلوة مثل حلاوة العبودية في الحب.
"إن عمرنا قصير، ولكن طالما أننا قد نفوز
بالمجد وهو الحب، فلا تحتقر
الاصغاء إلى توسلات القلب،
فإن سر الحياة سوف يبقى فيما وراء العقل.
فاهجر عملك إذن وقبل حبيبتك الآن.
إنى لأمنح العالم كله هذه النصيحة الغالية،
عندما تتفتح أزهار الربيع، وتهجر الريح الطاحون
وتنزلق برفق لتقبل الغصن المورق.
أى حسناء شيراز، امنحيني أمنية الحب،
ومن أجل شامتك - تلك الحبة من الرمل العالقة
بصفحة خد من اللؤلؤ - سوف يمنحك حافظ
كل بخاري، وكل سمرقند.
آه لو دخلت مع القدر في رهان مرة،
لحاولت برمية واحدة، مهما كان الثمن،
لألتقط أنفاسي، أيها الحب اجمع بيننا،
فما حاجتي بعد ذلك إلى الجنة،
إن الذي خلق غدائر شعرك من ذهب وفضة،
وجمع بين الوردة الحمراء والوردة البيضاء
وأسلم إليهما خدك في شهر العسل
أليس بقادر على أن يمنحني الصبر، وأنا ابنه (10)".
ويبدو أنه آخر الأمر، قد هدأت نفسه بالزواج، فلو فسرنا قصائده الرقيقة تفسيراً صحيحاً، فإنه وجد زوجة وأنجب عدة أطفال، قبل أن يحزم أمره بين النساء والخمر. ويبدو أنه في بعض أشعاره يرثيها ويتألم لفراقها:
"سيدتي، يا من حولت بيتي
إلى فردوس حين حللت به،
من عند الله أحاطها بعنايته، كانت طاهرة، مبرأة من الثم،
جميلة المحيا مثل القمر، عاقلة،
وعيناها ذواتي النظرة العطوفة الناعمة
كانتا تشعان فتنة لا حدود لها
ثم حدثني قلبي: هنا سوف يستقر بي المقام!
فإن هذه المدينة تتنفس بحبها في كل ركن منها.
ولكنها نقلت إلى عالم بعيد قصي،
للأسف لم يعرفه قلبي، وا أسفاه أيها القلب المسكين
إن نجماً خبيثاً شريراً أعمل أثره
فأرخى قبضة يدي التي كانت تمسك بها، ووحدها بعيداً
رحلت من كانت تسكن في صدري"(11).
ومهما يكن من أمر فقد ألف المقام، وركن إلى العزلة الهادئة، وقلما ارتحل إلى خارج شيراز، وقال إنه يترك لقصائده أن تجوب الأرض بدلاً من شخصه، وكم دعى إلى بلاط كثير من الملوك والأمراء. واقنع للحظة وجيزة بقبول دعوة من السلطان أحمد بالاقامة في القصر الملكي في بغداد(12)، ولكن حبه لشيراز أبقاه حبيساً بها، وكان يشك في أن بالجنة نفسها مثل هذه الأنهار الفاتنة أو مثل هذه الورود الحمراء في شيراز. وكان بين الحين والحين يوجه قصائد المديح إلى أمراء الفرس في عصره أملا في عطايا أو جوائز تخفف من ألم الفقر الذي كان يعاني منه، لأنه لم يكن في فارس ناشرون لينقلوا نفثات البراع عبر البحار، وكان على الفنان (أى الشاعر) أن ينتظر على أبواب النبلاء والملوك. والحق أن شاعرنا "حافظ" كاد أن يرحل يوماً إلى الخارج، ذلك أن أحد أمراء الهند لم يبعث إليه بالدعوة فحسب، بل زوده كذلك بالمال اللازم لنفقات الرحلة، فأقلع حافظ ووصل إلى هرمز على الخليج الفارسي، وكان على وشك الركوب في السفينة فهبت عاصفة هوجاء حولته عن عزمه، وحببت إليه الاستقرار. فعاد أدراجه إلى شيراز، وبعث إلى الأمير الهندي بقصيدة بدلاً من شخصه.
ويضم ديوان حافظ 693 قصيدة معظمها غنائية، وبعضها رباعيات، وبعضها الآخر شذرات غير واضحة المعنى. وهي أصعب في ترجمتها من أشعار دانتى، زاخرة بقواف كثيرة مما يجعل منها في الانجليزية شعراً غير مصقول محطم عقول الوزن، كما تعج بالاشارات والتلميحات المبهمة التي كانت تبهج عقول الناس في ذاك الزمان، ولكنها الآن ثقيلة على السمع في الغناء، والأفضل أن توضع نثراً في الغالب:
"كاد الليل أن ينصرم، حين جذبني أريج الورود، فدلفت إلى
الحديقة، مثل العندليب، أفتش عن بسم للحمى التي انتابتني،
وهناك في الظل تألقت وردة، وردة حمراء كأنها مصباح محجب،
فحدقت النظر في محياها،
إن الوردة فاتنة لمجرد أن وجه محبوبتي فاتن.... وماذا يكون
عبير المروج، والنسيم الذي يهب في الحديقة، إذا لم يكونا
لخد محبوبتي الذي يشبه الخزامى (التيوليب)؟
وفي ظلمة الليل حاولت أن أطلق قلبي من رباط غدائر شعرك
ولكني أحسست بلمسات خدك ورشفت رحيق شفتيك، وضممتك
إلى صدري. ولفني شعرك وكأنه لهب. وألصقت شفتي
بشفتيك، وأسلمت قلبي ونفسي لك كأنهما فدية (13).
وكان حافظ إحدى النفوس الموهوبة الصادية المنهوكة، التي تستجيب وتتأثر - عن طريق الفن والشعر والمحاكاة والرغبة شبه اللاواعية، تستجيب وتتأثر بالجمال إلى حد الرغبة في عبادته، فترغب بالعينين وبالألفاظ وبأطراف الأنامل، أن تعبد أي شكل جميل، سواء كان نحتاً على حجر أو رسماً أو آدمياً أو زهرة، ونعاني في صمت مكبوت كلما ألم بها الجمال. ولكن هذه النفوس أيضاً تجد فيما تفاجأ به كل يوم من فتنة أو سمو أو جمال جديد، بعض المغفرة لقصر عمر الجمال ولسلطان الموت. ولذلك خلط حافظ التجديف بالعبادة، وانساق في هرطقة غاضبة حتى في الوقت الذي كان فيه يثنى على "الواحد الأحد الخالد" وهو المصدر الذي يفيض منه كل جمال على الأرض.
والتمس كثير من الناس أن يضفوا عليه احتراماً ووقاراً، بتفسير خمرة بأنها نشوة روحية، وحاناته بأنها أديار، ولهبه بأنها "النار المقدسة". صحيح أنه أصبح متصوفاً وشيخاً، وارتدى ملابس الدراويش، ونظم قصائد صوفية غامضة، ولكن معبوداته الحقيقية كانت الخمر والنساء والغناء، وبدأت حركة لمحاكمته بوصفه زنديقاً كافراً، ولكن أفلت منها بالتوسل بأن قصائد الهرطقة كان يقصد بها أن يعبر عن آراء المسيحيين، لا عن آرائه هو. ومع ذلك كتب يقول:
"أيها التحمس، لا تظن أنك بمنجاة من خطيئة الكبرياء،
فليس الفرق بين المسجد وكنيسة الكفار سوى الغرور"(14).
والكافر هنا بطبيعة الحال هو المسيحي. وبدا في بعض الأحيان لحافظ أن "الإله " ما هو إلا شيء اختلقته آمال الإنسان:
"وهذا الذي يسوقنا في هذه الأيام التي تمر كوميض البرق،
هذا الذي نعبده رغم معرفتنا بمن يفنيه أو يذبحه،
أنه هو نفسه قد يتولاه الحزن والأسى، لأننا حين نفترق
سيختفي هو أيضاً في هذا اللهيب نفسه"(15).
ولما مات حافظ كانت عقيدته مشكوكاً فيها، وكان مذهب المتعة عنده لاصقاً به إلى حد الاعتراض على تشييع جنازته في احتفال ديني، ولكن أصدقاءه أنقذوا الموقف بتفسير أشعاره بالمجاز والاستعارة. وجاء بعد ذلك جيل دفن رفاقه في حديقة أطلقوا عليها "الحافظية" تزدان بورود شيراز، وتحققت نبوءة الشاعر بأن قبره سيكون "مزاراً يحج إليه عشاق الحرية من جميع أنحاء العالم". وعلى لوح مقبرة حافظ المصنوع من المرمر نقشت إحدى قصائده، وهي عامرة بالروح الدينية العميقة أخيراً. وفيها:
"أين أنباء الوحدة؟ حتى أنهض
من التراب، سوف أصحو لأرحب بك !
إن نفسي مثل الطائر الزاجل، حنيناً منها إلى الجنة،
سوف تصحو وتتوجع من شرور العالم التي أطلقت من عقالها.
وعندما يهتف بي صوت حبك لأكون عبداً لك
سوف أصحو إلى ما هو أعظم كثيراً من السيادة
على الحياة والعيش، والزمن والعمر الفاني.
صب يا إلهي من سحب نعمتك الهادية
شآبيب الرحمة التي تسرع إلى قبري
قبل أن أنهض، مثل التراب الذي تذروه الرياح من مكان إلى مكان،
إلى ما وراء علم الإنسان.
وعندما تعرج بقدميك المباركتين إلى قبري،
سوف تحضر بيدك الخمر والإغراء إلي،
ولسوف يرن صوتك في طيات ملاءتي الملفوفة،
ولسوف أنهض وأرقص على غناء قيثارتك.
ورغم شيخوختي، ضمني ليلة إلى صدرك،
فإني، عندما ينبثق الفجر ليوقظني،
بنضارة الشباب في خدي، من بين أحضانك سوف أنهض.
انهض! دع عيني تسح وتمرح في نعمتك العظيمة!
أنت الهدف الذي حاول كل الناس الوصول إليه،
أنت المحبوب الذي يعبده حافظ، ووجهك
سوف يأمره أن ينبعث من الدنيا ومن الحياة ويصحو(16).
3- تيمور 1336- 1405
عرفنا أول عرفنا عن التتار أنهم قوم رحل من آسيا الوسطى، وأنهم أنسباء وأقرباء، وجيران للمغول، وشاركوهم في الحملات على أوربا، ووصف كاتب صيني من القرن الثالث عشر تحدرهم، وصفاً كثير الشبه بما صور به المؤرخ جوردانيز أمة الهون قبل ذلك بألف سنة، فالتتار قصار القامة، كريهو الطلعة والمحيا للغرباء عنهم، يجهلون القراءة والكتابة، مهرة في الحرب، يسددون سهامهم دون أن تطيش من فوق ظهر جواد مسرع، ويحافظون على استمرار جنسهم أو عرقهم بالمواظبة على تعدد الزوجات. وكانوا في هجراتهم وحملاتهم ينقلون معهم كل متاعهم وأسراتهم - الزوجات والأولاد والجمال والخيول والغنم والكلاب، ويرعون الحيوانات فيما بين المعارك، ويتغذون بلحومها وألبانها، ويتخذون الملابس من جلودها. وكانوا يأكلون بنهم وشراهة عند توافر المؤن، ولكن كانوا يحتملون الجوع والعطش والقيظ والقر، "بصبر أكثر من أي شعب آخر في العالم "(17). وكانوا يتسلحون بالسهام المكسوة أطرافها أحياناً بالنفط الملتهب، وبالمدافع، وبكل معدات العصور الوسطى للحصار، ومن ثم كانوا أداة صالحة مستعدة لكل من كان يحلم بتأسيس إمبراطورية منذ كان في المهد صبياً.
وعندما مات جنكيزخان (1227) وزع ملكه على أبنائه الأربعة. فأعطى جغتاي الاقليم المحيط بسمرقند، وحدث أن أطلق اسم هذا الابن على قبائل المغول أو التتار التي حكمها. وولد تيمور (أي الحديد)، في مدينة "كش Kesh" في بلاد ما وراء النهر، لأمير إحدى هذه القبائل. وطبقاً لما رواه كلافيجو Clavijo أدى "سوط الله" الجديد هذه المهمة منذ نعومة أظفاره: فنظم عصابات من صغار اللصوص لسرقة الغنم والماشية من المراعي المجاورة (18). وفقد في إحدى هذه المغامرات إصبعيه الوسطى والسبابة من يده اليمنى، وفي مغامرة أخرى أصيب بجرح في عقبه، ومن ثم عرج بقية أيام حياته (19) فلقبه أعداؤه Timur-i-Lang أى تيمور الأعرج، ولكن الغربيين غير المدققين، مثل مارلو حرفوا هذا الاسم إلى Tamburlane أو Tamerane. وقد وجد تيمور فسحة من الوقت لتلقي قليل من التعليم، وقرأ الشعر، وعرف الفرق بين المبادئ والانحلال. ولما بلغ سن السادسة عشرة ولاه أبوه زعامة القبيلة. وآوى إلى أحد الأديار، لأن هذا الرجل العجوز (الوالد) قال عن الدنيا إنها ليست "أفضل من زهرية من الذهب مليئة بالثعابين والعقارب" وقيل إن الوالد نصح ابنه أن يرعى الديانة دوماً، واتبع تيمور هذه الوصية إلى حد تحويل الرجال إلى مآذن (تكديس بعضهم فوق بعض للتنكيل بهم).
وفي سنة 1361 عين خان المغول "خوجة الياس" حاكماً على بلاد ما وراء النهر، وعين تيمور مستشاراً له، ولكن الشاب النشيط لم يكن قد نضج بعد لممارسة فن الحكم، وتشاجر بعنف مع سائر موظفي خوجة الياس، وأجبر على الهروب من سمرقند إلى الصحراء... فجمع حوله عدداً من المحاربين الشبان، وضم عصبته إلى عصبة أخيه الأمير حسين الذي كان في مثل ظروفه. وتجولوا من مكمن إلى مكمن، حتى تحجرت أجسامهم ونفوسهم بسب الأخطار والتشرد والفقر، إلى واتاهم بعض الحظ حين استخدموا لقمع فتنة في سيستان Sistan ، وما أن اشتد عود الأخوين حتى أعلنا الحرب على خوجة الياس وخلعاه وذبحاه. وأصبحا حاكمين في سمرقند على قبائل جغتاي (1365)، وبعد ذلك بخمس سنوات تآمر تيمور على ذبح الأمير حسين، وأصبح السلطان الوحيد.
وتروى سيرة حياته المشكوك فيها، عن عام 769هـ (1367م): "دخلت عامي الثالث والثلاثين، ولما كنت دوماً قلق البال لا يقر لي قرار، فقد كنت تواقاً إلى غزو بعض البلاد المجاورة"(20). وكان يقضي أيام الشتاء في سمرقند، وقل أن انقضى ربيع دون أن يخرج فيه إلى حملة جديدة. وقد لقن المدن والقبائل في بلاد ما وراء النهر أن تتقبل حكمه طواعية أو سلماً لا حرباً. وفتح خراسان وسيستان، واخضع المدينتين الغنيتين هراة وكابول، وأحبط المقاومة والتمرد بما كان ينزل من عقاب وحشي. ولما استسلمت مدينة سبزاوار Sabzawar بعد حصار كلفه كثيراً، أسر ألفين من رجالها، "وكدسهم أحياء، الواحد فوق الآخر، وضرب عليهم بنطاق من الآجر والطين، وأقام منهم مئذنة، حتى إذا استقين الرجال جبروت غضبه، لا يعود يغويهم شيطان الصلف والكبرياء". وهكذا روى القصة مادح معاصر(21). وغفلت مدينة زيرية Zirih عن هذه الحقيقة وأبدت مقاومة، فأقام الغازي من رؤوس أبنائها عدداً أكبر من المآذن. واجتاح تيمور أذربيجان واستولى على لورستان وتبريز، وأرسل فنانيهما إلى سمرقند. واستسلمت أصفهان في 1387 وارتضت بقاء حامية من التتار بها، فلما غادر تيمور المدينة انقض السكان على الحامية وذبحوا رجالها. فعاد تيمور بجيشه وانقض على المدينة وأمر كل فرد في جيشه أن يأتيه برأس واحد من الفرس. وقيل إن سبعين ألفاً من رءوس الأصفهانيين علقت على أسوار المدينة أو أقيمت منها أبراج تزين الشوارع (22). فلما سكن روع تيمور وهدأت نفسه خفض الضرائب التي كانت المدينة تدفعها لحاكمها، ودفعت سائر مدن فارس الفدية دون ضجة.
وتقول أسطورة أطراف من أن تصدق، إنه في شيراز في 1387، دعا تيمور أشهر مواطني المدينة إلى المثول بين يديه، وقرأ عليه غاضباً سطوراً (من الشعر) كانت قد قدمت فيها مدينتا بخاري وسمرقند من أجل الخال في خد سيدة، وقيل إن تيمور شكا غاضباً وهو يقول: "إني بضربات سيفي اللامع الصقيل أخضعت معظم الأرض المعمورة لأزين بخاري، وسمرقند، مقر حكومتي، وأنت أيها التعس الحقير تريد أن تبيعهما من أجل شامة سوداء في خد سيدة تركية في شيراز!" وتؤكد الرواية أن حافظ انحنى أمام الأمير وقال: "وا أسفاه أيها الأمير، أن هذا التبذير هو سبب البؤس الذي تراني فيه". واستساغ تيمور هذا الجواب فأبقى على حياة الشاعر ومنحه هدية سنية. ومما يؤسف له أن أحداً من كتاب سيرة تيمور المتقدمين لم يورد ذكر هذه الحادثة الطريفة(23).
وعند ما كان تيمور في جنوبي فارس جاءته الأبناء بأن طقطميش خان القبيلة الذهبية انتهز فرصة غيابه ليغزو بلاد ما وراء النهر، بل حتى ليعمل السلب والنهب في المدينة الجميلة بخاري التي قدرها حافظ بنصف خال على خد سيدة، فسار تيمور ألف ميل إلى الشمال (تصور مشاكل التموين في مثل هذه المسيرة)، ورد طقطميش إلى الفولجا. وسار جنوباً وغرباً وأغار على العراق وجورجيا وأرمينية، وهو يذبح في طريقه كل السادة الذين دمغهم بأنهم "شيوعيون مضللون"(24). واستولى في 1393 على بغداد بناء طلب سكانها الذين لم يعودوا يحتملون جور سلطانهم أحمد بن أويس. ولما رأى تدهور العاصمة أمر معاونيه بإعادة بنائها، وفي نفس الوقت أضاف إلى حريمه نخبة من الزوجات، وغلى حاشيته واحداً من اشهر الموسيقيين، ولجأ السلطان أحمد إلى بايزيد الأول سلطان العثمانيين في بروسة. وطلب تيمور تسليم السلطان أحمد، فرد بايزيد بأن هذا أمر يخدش تقاليد الضيافة عند الأتراك.
وكان من الممكن أن يتقدم تيمور إلى بروسه، لولا أن طقطميش عاود غزو بلاد ما وراء النهر، فاكتسح التتري المهتاج جنوبي روسيا، وبينما كان طقطميش مختبئاً في البرية، اجتاح مدينتي القبيلة الذهبية: سراي واستراخان. ولما لم يجد تيمور أية مقاومة، تقدم بجيشه غرباً من الفلجا إلى الدون، وربما كان من خطته أن يضم روسيا كلها إلى مملكته. وأقسام الروس في البلاد الصلوات في حرارة وحمية، وحملت "عذراء فلاديمير" إلى موسكو، بين صفوف الضارعين الراكعين وهم يصيحون: "يا أم الاله، خلصي روسيا". وساعد فقر السهوب على إنقاذها. ولما وجد تيمور أنه لا غناء في هذه السهول الجرداء ولا شيء فيها يمكن سلبه، ارتد إلى الدون وقاد جنوده المنهوكين الجياع إلى سمرقند (1395-1396).
وتجمع كل الروايات على أنه كان في الهند ثروات تشتري مائة روسيا، وأعلن تيمور أن حكام المسلمين في شمال الهند شديدو التسامح مع الهندوس الوثنيين الذين يجب عليهم اعتناق الاسلام أو تحويلهم إليه. وسار تيمور، وهو في الثالثة والستين من العمر على رأس جيش قوامه 92.000 رجل (1398). وعلى مقربة من دلهي التقى بجيش سلطانها محمود، فهزمه، وذبح مائة ألف (؟) سجين، ونهب العاصمة، وجلب معه إلى سمرقند كل ما استطاعت جنوده ودوابه أن تحمل من ثروات الهند الأسطورية.
وفي 1399، ولم تكن قد محيت من ذاكرته قصة أحمد وبايزيد الأول، تقدم مرة ثانية، وعبر فارس إلى أذربيجان، وخلع ابنه المبذر المضيع الذي كان حاكماً عليها، وشنق الشعراء والوزراء الذين كانوا قد أغروا الشاب بالانغماس في اللهو، واجتاح جورجيا. ولما دخل آسيا الصغرى حاصر سيواس، واغتاظ لطول مقاومتها، فدفن أربعة آلاف جندي مسيحي أحياء- أو أن مثل هذه القصص من دعاية الحرب؟ ورغبة منه في حماية جناح جيشه عند مهاجمة العثمانيين، أرسل رسولاً إلى مصر مقترحاً ميثاق عدم اعتداء، ولكن سلطان المماليك أودع الرسول السجن، واستأجر سفاحاً لقتل تيمور. وباء المشروع بالإخقاق. وبعد إخضاع حمص وحلب وبعلبك ودمشق، سار التتري إلى بغداد التي طردت كل الموظفين الذين عينهم هو. واستولى عليها بثمن باهظ، وأمر جنوده البالغ عددهم عشرين ألفاً بأن يحضر إليه كل منهم رأس واحد من الأهالي. وتم له ما أراد- أو هكذا قيل: أغنياء وفقراء، رجالاً ونساء، شيباً وشباناً، فكلهم دفعوا ضريبة الرأس هذه، وكدست رءوسهم على شكل أهرام مروعة أمام أبواب المدينة (1401). وأبقى الغزاة على مساجد المسلمين وعلى أديار الرهبان والراهبات ، وسلبوا ودمروا ما عداها تدميراً تاماً، حتى العاصمة التي كانت يوماً مدينة زاهرة باهرة لم تعد سيرتها الأولى إلا في أيامنا هذه بفضل زيت البترول.
وإذا أيقن آنذاك تيمور أنه يمكنه أن يطمئن على ملكه عن اليمين وعن الشمال ،أرسل إلى بايزيد إنذاراً نهائياً للتسليم . ولكن سلطان الأتراك الذي زادت ثقته بنفسه يفضل انتصاره في معركة نيقوبوليس 1396، أجاب بأنه سوف يسحق جيش التتار ويتخذ من زوجة تيمور الأثيرة جارية له (25) والحم أقدر قائدين في زمانهما في أنقرة 1401، وأرغمت استراتيجية تيمور أعدائه الأتراك على القتال بعد أن أرهقتهم وأنهك قواهم طول السير. وهزم الأتراك هزيمة منكرة وأخذ بايزيد أسيراً. وابتهجت القسطنطينية، وظل العالم المسيحي بمنجاة من الأتراك لمدة نصف قرن بفضل التتار. وواصل تيمور سيره في اتجاه أوربا إلى بروسه واحرقها، وحمل معه من المدينة المكتبة البيزنطية والأبواب الفضية. وتقدم نحو البحر المتوسط، وانتزع أزمير من أيدي فرسان رودس، وذبح السكان،وقدمت جنوه التي كانت لا تزال تحتفظ بخيوس وفوشيا وميتلين خضوعها ودفعت الجزية. وأفرج سلطان مصر عن رسول ملك التتار، وانخرط في الزمرة الممتازة، زمرة التابعين الخاضعين لسلطان تيمور. وعاد تيمور أدراجه الى سمرقند، وهو أقوى حكام عصر، حيث امتد ملكه من أواسط آسيا إلى النيل ومن البسفور إلى الهند. وبعث إليه هنري الرابع ملك إنجلترا بالتهنئة، كما أوفدت إليه فرنسا أسقفاً يحمل الهدايا. وأرفد إليه هنري الثالث ملك قشتالة بعثة شهيرة برياسة روى جونزاليز كلافيجو. وإنا لمدينون لمذكرات كلافيجو بمعظم ما نعلمه عن بلاط تيمور. فقد غادر قادس في 13 مايو 1403، ومر بالقسطنطينية وطرابزون وأرضروم, وتبريز وطهران (التي وردت الآن لأول مرة على لسان أحد الأوربين) ونيسابور، ومشهد، حتى وصل سمرقند في 31 أغسطس 1404. وكان قد توقع لسبب ما، أن هناك قوماً من السفاكين الكريهى الطلعة. وما كان أشد دهشته لكبر عاصمة تيمور وازدهارها، وفخامة المساجد والقصور، وسلوك سادتها وعاداتهم الحميدة، وثراء البلاط وترفه، واحتشاد للفنانين والشعراء حول تيمور احتفاء به وتكريماً له.
وكانت المدينة آنذاك قد مضى على بنائها أكثر من ألفى عام، وكانت تضم نحو مائة وخمسين ألف نسمة مع "مجموعة من أعظم الدور وأجملها"، مع كثير من القصور "التي تضللها الأشجار"، بهذا كله رجح كلافيجو أن سمرقند "أكبر من أشبيلية"، هذا بخلاف الضواحي المترامية. وكان الماء يرفع إلى البيوت من نهر يجري بالقرب من المدينة، وكست مياه الري المنطقة الخلفية بالخضرة. وتضوع الهواء بعبير البساتين والكروم. وتوافرت المراعي للأغنام والماشية، ونمت المحاصيل الكثيرة. وكان في المدينة مصانع للمدافع والدروع والأقواس والسهام والزجاج والخزف، والمنسوجات المتناهية في اللمعان بما فيها "القرمزي" وهو الصباغة الحمراء، ومنه اشتقت اللفظة الإنجليزية Crimson. وكانت المدينة تضم التتار والأتراك والعرب والفرس والعراقيين والأفغانيين والكرجيين والأرمن والكاثوليك والنساطرة والهندوس، ممن يعملون في الحوانيت أو في الحقول، ويسكنون في بيوت من الطوب أو من الطين أو الخشب، أو يسرحون ويمرحون في المدينة على ضفة النهر، كل يمارس شعائره الدينية في حرية تامة، ويدعو لعقيدته المتعارضة مع سائر العقائد. وكانت تحف على جوانب الشوارع الرئيسية الأشجار والحوانيت والمساجد والمدارس والمكتبات، وكان هناك مرصد، وكان ثمة جادة رئيسية عريضة تقطع، في خط مستقيم، المدينة من أحد طرفيها إلى الطرف الآخر، وكان القطاع الرئيسي من هذا الطريق العام مغطى بالزجاج(26).
وفي 8 سبتمبر استقبل إمبراطور التتار كلافيجو، الذي مر بساحة فسيحة "نصبت فيها خيام كثيرة من الحرير"، وسرادقات مطرزة بالحرير، وكانت الخيمة هي المسكن المألوف لدى التتار، وكان لتيمور نفسه في هذه الساحة خيمة يبلغ 300 قدم، كما كان هناك أيضاً قصور ذوات أرضية من الرخام أو القرميد، مزودة بأثاث متين مرصع بالأحجار الكريمة، وكله مصنوع أحياناً من الفضة أو الذهب. ووجد كلافيجو ملك التتار جالساً القرفصاء على وسائد من الحرير "تحت مدخل أجمل قصر" قبالة نافورة يندفع منها عامود من الماء الذي انصب في حوض يتحرك فيه التفاح بلا انقطاع. وكان تمور يرتدي عباءة من الحرير ويلبس قبعة عالية واسعة مرصعة بالياقوت واللآلىء. وكان هذا العاهل طويل القامة نشيطاً يقظاً، أما الآن وهو في سن الثامنة والستين، فقد كان منحنياً ضعيفاً متوجعاً، وكاد أن يكون كفيفاً. وكان يستطيع بشق النفس أن يرفع جفنيه ليرى السفير.
وحصل تيمور من الثقافة على ما يمكن أن يحتمله رجل عمل، فقرأ التاريخ؛ وجمع الفن والفنانين، وصادق الشعراء والعلماء، واستطاع عند الاقتضاء أن يتحلى بأجمل العادات. واستوى غروره مع قدرته، مما لم يتفوق فيه أحد عليه في زمانه. وقدر تيمور على العكس من قيصر، أن القسوة جزء ضروري من الاستراتيجية، ولكنه، إذا صدقنا ضحاياه، غالباً ما يبدو آثماً متهماً بالقسوة لمجرد الانتقام. فإنه حتى في إدارته المدنية كان يسرف في الحكم بالإعدام، حتى على محافظ اتبع سياسة الظلم في المدينة، أو على جزار تقاضي للحم ثمناً أكثر مما ينبغي (27). إنه نفذ سياسة القسوة والعنف بوصفها ضرورية لحكم شعب لم يألف القانون بعد. وبرر مذابحه على أنها وسيلة لإرغام القبائل المخالفة للقانون والنظام على اتباع النظام ومتطلبات الأمن في دولة موحدة قوية. ولكنه مثل سائر الغزاة والفاتحين أحب القوة لذاتها، وأحب الغنائم والأسلاب من أجل العظمة التي يمكن أن تغطي الغنائم تكاليفها.
وفي 1405 شرع في فتح منغوليا والصين، يراوده حلم إنشاء دولة تضم نصف العالم، وتربط بين البحر المتوسط وبحر الصين. وكان جيشه يتألف من مائتي الف من الرجال الأشداء. ولكنه قضى نحبه في أتار Ottar على الحدود الشمالية من مملكته، وكانت آخر أوامره أن يتابع جيشه سيره، ولبرهة بسيطة تقدم جواده الأشهب المسرج، دون أن يمتطيه صاحبه، وهو يسير الهوينا في خطى متزنة - تقدم الحشد. ولكن جنوده كانوا على يقين من أن عقل قائدهم وإرادته كانتا تشكلان نصف قوتهم، فعادوا على عجل إلى أوطانهم وهم في حداد على موت القائد، وقد كتب لهم الخلاص من هذه المهمة. وشيد له بنوه في سمرقند مقبرة فخمة هي "مقبرة الأمير"، وهي عبارة عن برج تعلوه قبة ضخمة بصلية الشكل، مكسوة واجهتها بالآجر ذي الطلاء الأزرق الجميل الفيروزي المائل للخضرة.
وتحطمت إمبراطورية تيمور بموته، وكادت الأقاليم الغربية أن تنهار في الحال. وكان لزاماً أن يقنع أولاده بالشرق الأوسط. وكان أعقل أفراداً أسرة تيمور هو شاه رخ الذي رخص لابنه أو لوج في أن يحكم بلاد ما وراء النهر من سمرقند، على حين حكم الوالد نفسه خراسان من هراة، وتحت حكم خليفتي تيمور هذين أصبحت العاصمتان مركزين متنافسين على ازدهار التتار وثقافتهم، ازدهاراً وثقافة تعدلان أياً من مثيلاتهما في أوربا في ذات العصر (1405-1449). وكان شاه رخ قائداً قديراً يحب السلام، وقد شجع الفنون والآداب، وأسس في هراة مكتبة ذائعة الصيت. وقال أحد أمراء أسرة تيمور "إن هراة هي جنة الدنيا" (28). أما أولوح بك فقد رعى رجال العلم، وشيد في سمرقند أعظم مرصد في ذاك العصر. وقال أحد كتاب السير المنمقين من المسلمين:
"كان عالماً، عادلاً، بارعاً نشيطاً، على درجة كبيرة من المعرفة بعلم الفلك، على حين أنه في علوم البلاغة كان شديد التدقيق. وسمت مكانة رجال العلم في عصره إلى ذروتها. وفي الهندسة فسر أدق المسائل، أما في علم الظواهر الكونية (الكوزموجرافيا) فقد شرح كتاب بطلمبوس. ولم يجلس على العرش ملك مثله قط حتى اليوم. وسجل ملاحظات عن النجوم بالتعاون مع العلماء الأولين. وأسس في سمرقند كلية لا يمكن أن يوجد لها الأقاليم المتاخمة السبعة مثيل من جمالها ومكانتها وقيمتها"(29).
ولكن هذا النموذج الفريد للرعاية قتل في 1449 بيد ابن غير شرعي له. واستمرت هذه الثقافة العالية التي تميزت بها أسرة تيمور على عهد السلطان "أبو سعيد" والسلطان "حسين بن بيقره" في هراة حتى نهاية القرن الخامس عشر. وفي 1501 استولى مغول الأوزبك على سمرقند وبخارى، وفي 1510 انتزع الشاه الصفوى هراة وبابور، وفر آخر حكام أسرة تيمور إلى الهند وأسس هناك أسرة مغولية جعلت من دلهي الإسلامية بعاصمة رائعة في روعة رومه على عهد أسرة مديتشي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
4- المماليك 1340-1517
بينما كان الإسلام في آسيا يعاني الغزو المتكرر والثورات، استغل سلاطين المماليك (1250-1517) مصر التي سادها استقرار نسبي إذ ذاك. وقضى الموت الأسود على ازدهار البلاد لفترة من الزمن، ولكن في أثناء هذه التقلبات استمر المماليك يوفقون بين الإدارة القادرة والمصالح الفنية من جهة والاختلاسات والفظائع من جهة أخرى. ومهما يكن من أمر، فإنه في 1318 بدأت بالسلطان الملك الناصر بن برقوق أسرة المماليك البرجية التي ساد عهدها الترف والدسائس والعنف والانحلال الاجتماعي، وخفضوا قيمة النقد، حتى على عادة الحكومات، وفرضوا الضرائب الباهظة على ضروريات المعيشة، وأساءوا استغلال احتكار الدولة السكر والفلفل. وفرضوا في الإسكندرية رسوماً باهظة على تجارة أوربا مع الهند، مما دعا تجار الغرب إلى البحث عن طريق إلى الهند حول أفريقية. وخسرت مصر على مدى جيل بعد رحلة فاسكوداجاما (1498) كثيراً من نصيبها الذي كان يوماً هائلاً، من التجارة بين الشرق والغرب، وأوقعت هذه الكارثة الاقتصادية البلاد في حالة من الفقر المدقع إلى درجة أن السلطان سليم الأول لم يلق إلا مقاومة ضعيفة، حين أنهى حكم المماليك، وجعل من مصر ولاية عثمانية.
وظلت القاهرة من 1258 حتى 1453 أجل وأزهى مدن العالم الإسلامي وأكثرها ازدحاماً بالسكان. ووصفها ابن بطوطة وصفاً رائعاً في 1326، وقال عنها ابن خلدون الذي زارها 1383 إنها "عاصمة الكون، جنة الدنيا، مكتظة بجميع أجناس البشر، عرش الملكية، مدينة ازدانت بالقصور والدور الفخمة والرهبنات والأديار والكليات، مضيئة بنجوم العلم والمعرفة، جنة يرويها النيل حتى ليبدو أن الأرض تقدم ثمارها إلى الناس على سبيل الهدية والتحية"(30) - وربما كان الفلاحون المنهوكون يعترضون على هذا.
وعكست مساجد مصر في ذاك العصر قساوة الحكم أكثر مما عكست ألوان السماء. فلم يكن هنا إيوانات أو بوابات من الطوب المصقول أو القرميد الملون، كما كان الحال في آسيا الإسلامية، بل كانت جدران حجرية ضخمة جعلت من المسجد قلعة أكثر منه بيتاً للعبادة. وكان مسجد السلطان حسن (1356-1363) عجيبة عصره، ولا يزال أفخم آثار الفن المملوكي. وذهب المقريزي المؤرخ إلى أنه "فاق كل ما بنى من مساجد(31)" ولكنه كان قاهرياً محباً لوطنه. وتروى أسطورة غير مؤكدة كيف أن السلطان جمع مشاهير المهندسين من بلاد كثيرة، وطلب إليهم أن يذكروا له أعلى صرح على البسيطة، وأمرهم بأن يشيدوا صرحاً أعلى منه، فذكروا له قصر خسرو الأول في مدينة طيسفون (مدينة بابلية على نهر دجلة) الذي يرتفع الجزء الباقي من مدخله 105 من الأقدام فوق سطح الأرض. فبنى العمال جدران المسجد الجديد، بعد أن سرقوا حجارة الأهرام المتهدمة، على ارتفاع مائة قدم، وزادوا فوقها إفريزاً (كورنيش) بارتفاع 13 قدماً وشيدوا في أحد الأركان مئذنة بارتفاع 280 قدماً. وإن هذا المبنى الشاهق ليترك انطباعاً في نفوس الغربيين، ولكنه قل أن يسر الناظرين منهم. ومهما يكن من شيء فإن أهل القاهرة كانوا فخورين به، إلى حد أنهم ابتدعوا أو استعاروا خرافة تقول بأن السلطان قطع يد المهندس حتى لا يصمم تحفة رائعة تضارع هذه، وكأن المهندس يصمم بيده وكانت مساجد المقابر أكثر فتنة وجذباً للأنظار، رغم الغرض الذي بينت من أجله، وقد بناها سلاطين المماليك خارج أسوار القاهرة لتضم رفاتهم. من ذلك أن السلطان الظاهر برقوق الذي بدأ حياته عبداً شركسياً، انتهى أمره في مجد صامت، راقداً في مقبرة من أفخم هذه المقابر.
وكان قايتباى أعظم البناة بين المماليك البرجية، فبالرغم من أن الحرب مع الأتراك أنهكته، فقد دبر الأموال لتشييد المباني النفيسة في مكة والمدينة والقدس، وجدد في القاهرة قلعة صلاح الدين والجامع الأزهر، وبنى داخل العاصمة مسجداً ذا زخارف منسقة. وتوج قايتباى أعماله في أخريات أيامه، بمسجد تذكاري من الجرانيت والرخام، ذي زخرفة رائعة ومئذنة عالية ذات شرفات، وقبة مزينة بنقوش هندسية، مما جعل هذا المسجد مأثرة من المآثر الأقل قيمة للفن الإسلامي. وانتشرت الفنون الصغيرة في عهد المماليك. وصنع النقاشون على العاج والعظام والخشب ألفاً من المنتجات الجميلة، من صناديق الأقلام إلى المنابر، وهي منتجات كان يتخيلها الذوق، ويقوم على تنفيذها العمل المتواصل والمهارة. وحسبك في هذا أن تلقي نظرة على منبر مسجد قايتباى خارج أسوار المدينة في متحف فكتوريا وألبرت. وبلغ التطعيم بالذهب والفضة ذروته أيام هذه الأسرات الدموية. أما مصانع الخزف المصري التي كانت قد ابتدعت ألفاً من البدع والأشياء الغربية في آلاف السنين السحيقة في القدم، فإنها أخرجت الآن للعالم الزجاج المطلي بالمينا ومصابيح المساجد والكؤوس والزهريات المزدانة بالصور أو الزخرفة التشكيلية من المينا الملونة، والمرصعة بالذهب أحياناً. وبمثل هذه الطرق وبكثير غيرها لا يحصيها العد، خلع الفنانون المسلمون على الجمال شكلاً خالداً، وبذلك عوضوا عن وحشية ملوكهم أو كفروا عنها.
5- العثمانيون 1288-1517
يبدأ التاريخ بعد اختفاء الأصول. فلا أحد يعرف أين نشأ الأتراك. "فذهب بعض الناس إلى أنهم كانوا قبيلة فنلندية أوجرية Finno-Ugric (شعب أسيوي شرقي الأورال) من الهون، وأن اسمهم يعني "خوذة" وهي في إحدى اللهجات التركية Durko. وقد شكلوا لغاتهم من اللغتين المغولية والصينية، وأدخلوا بعد ذلك ألفاظاً فارسية أو عربية، وهذه اللهجات التركية هي الوسيلة الوحيدة لتصنيف المتكلمين منهم بوصفهم أتراكاً. واتخذت واحدة من هذه العشائر اسمها من اسم زعيمها سلجوق. ونمت بالنصر تلو النصر، وتكاثرت سلالتها، وحكموا في القرن الثالث عشر فارس والعراق وسوريا وأسيا الصغرى. وفرت عشيرة أخرى من أقرباء العشيرة الأولى، بقيادة زعيمها طغرل، أر، من خراسان في نفس القرن، حتى لا يكتسحها طوفان المغول. واستخدمها سلجوق أمير قونية بآسيا الصغرى، في الأعمال الحربية، وأقطعها جزءاً من الأرض لرعي ماشيتها.
وفي 1288 (؟) مات أرطغرل، فاختير ابنه عثمان، وهو إذ ذاك في الثلاثين من عمره، ليخلف أباه، ومنه اشتق اسم "العثمانيين". ولم يطلقوا على أنفسهم اسم الأتراك قبل القرن التاسع عشر، بل أطلقوه على الشعوب شبه الهمجية في تركستان وخراسان. وفي 1290 رأى عثمان أن السلجوقيين أضعف من أن يقفوا في طريقه، فأعلن نفسه أميراً مستقلاً على ولاية صغيرة في الشمال الغربي من آسيا الصغرى، وفي 1299 تقدم بقواته غرباً إلى بني شير. ولم يكن عثمان قائداً عظيماً، ولكنه كان مثابراً صبوراً، وكان جيشه صغيراً، ولكنه مكون من رجال ألفوا في ديارهم ركوب الخيل أكثر مما ألفوا السير على الأقدام، رجال أرادوا أن يغامروا بحياتهم الشاقة من اجل الأرض أو الذهب أو النساء أو السلطان، وكانت تقع بينهم وبين بحر مرمرة مدن بيزنطية ناعسة سيئة الحكم هزيلة الدفاع. فحاصر عثمان واحدة منها وهي بروسه، وأخفق أول الأمر في الاستيلاء عليها، ولكنه عاود الكرة بعد الكرة، حتى استسلمت المدينة أخيراً لابنه أورخان، في الوقت الذي كان يرقد فيه عثمان على فراش الموت في بني شير (1326).
واتخذ أورخان من بروسه، التي تقدست برفات أبيه، عاصمة جديدة للعثمانيين. وساقته الرغبة في المزيد من السلطان إلى البحر المتوسط، المركز العتيق للتجارة والثروة والمدنية. وفي نفس العام سقطت فيه بروسه، انتزع نيقوميديا التي صارت فيما بعد أزميد، وفي 1330 استولى على نيقية التي أصبحت أزنيق، وفي 1336 استولى على برجاموم التي أصبحت برجامه. وكانت تلك المدن العريقة في القدم والتي تفوح منها رائحة التاريخ، مراكز للحرف والتجارة، وقد اعتمدت في المواد الغذائية والأسواق اللازمة لها على الجماعات الزراعية المحيطة بها والتي كان العثمانيون قد استولوا عليها في ذاك الحين، وكان على هذه المدن أن تعيش على هذه البقاع الداخلية أو أن تموت جوعاً. فلم تقاوم طويلاً، لأنها كانت قد عانت من ظلم حكامها البيزنطيين، كما سمعت بأن أورخان لم يثقل الكواهل بالضرائب، وأنه رخص في حرية العقيدة - وكان كثير من هؤلاء المسيحيين في الشرق الأدنى هراطقة مرهقين:
نساطرة أو من القائلين بأن للمسيح طبيعة واحدة. وسرعان ما ارتضى العقيدة الإسلامية جزء كبير من الأراضي المفتوحة، وهكذا تحل الحرب المشاكل اللاهوتية، على حين كانت هذه المشاكل قبل الحرب تقف عاجزة محيرة. ومذ وسع أورخان ملكه على هذا الشكل، فقد اتخذ لنفسه لقب سلطان العثمانيين. وعقد أباطرة بيزنطة أواصر السلام معه، واستأجروا جنوده، وسمحوا لابنه سليمان في بناء معاقل على أرض أوربا. وقضى أورخان نحبه وهو في الواحدة والسبعين من عمره، بعد أن خلد ذكراه بين جوانح شعبه.
وكون خلفاؤه من بعده أسرة قل أن يوجد لها في التاريخ مثيل، في هذا المزيج من القوة الحربية والمهارة والمقدرة الإدارية والقسوة الوحشية، والإخلاص الرفيع للآداب والعلوم والفنون. وكان مراد الأول أقل أفراد هذه الأسرة جاذبية، ولما كان أمياً فإنه كان يبصم بأصابعه المغموسة في المداد على الوثائق، على غرار القتلة المغمورين. ولما قاد ابنه صاوندجي ثورة إجرامية فاشلة ضده، فقأ مراد عينيه وقطع رأسه، وأرغم آباء الثوار على قطع رءوس أبنائهم (32). ودرب مراد جيشاً لا يكاد يقهر، وفتح معظم أراضي البلقان، ويسر خضوعهم له بأن أقام لهم حكومة أقدر من تلك التي عرفوها على عهد السيطرة المسيحية.
وورث بايزيد الأول عرش أبيه في ميدان القتال في قوصوه (1389). ذلك أنه بعد أن قاد الجيش إلى النصر أمر بإعدام أخيه يعقوب الذي كان قد قاتل ببسالة في ذاك اليوم العصيب. واصبح قتل الأخوة على هذا النحو قاعدة منتظمة عند سلاطين آل عثمان بعد الجلوس على العرش، طبقاً للمبدأ القائل بأن التمرد على الحكومة يؤدي إلى التمزق، إلى حد أنه يجدر التخلص في أول فرصة ممكنة ممن يحتمل أن يطالبوا بالعرش. وأحرز بايزيد لقب "بلدرم أي الصاعقة"، لسرعته في خططه الحربية، ولكن أعوزه فن الحكم الذي تميز به أبوه، وأضاع بعض طاقته الجبارة في المغامرات النسائية، وقدم ستيفن لازارفتش، حاكم الصرب من قبل السلطان، أخته لتنضم إلى حريم السلطان، وأصبحت هذه السيدة دسبوانا زوجته الأثيرة لديه، وغرست فيه الولع بشرب الخمر وإقامة المآدب السخية، وربما أضعفت عن غير عمد حيويته كرجل. وتألق غروره وكبرياؤه حتى سقوطه. وبعد أن هزم بايزيد فرسان أوربا في نيقوبوليس، أطلق سراح كونت نفرز Nevers مع دعوة ممتازة للمبارزة، رواها أو عدل فيها فروسار Froissor، قال:
"أي جون، إني أعلم جيداً أنك سيد عظيم في بلدك، وأنك ابن سيد عظيم. أنت شاب يافع، وربما تلاقي بعض اللوم أو العار لأنك وقعت في هذه المغامرة في بداية عهدك بالفروسية ، وأنك تخلصاً من اللوم وإنقاذاً لشرفك" ربما تحشد قوة من الرجال لمحاربتي. ولو ساورني الشك أو الخوف قبل رحيلك، لأجبرتك على أن تقسم بشريعتك وعقيدتك، أنك لا أنت ولا أحد من زمرتك، سوف تشهر السلاح ضدي ولكني لن ألزمك أو ألزم أحداً من أتباعك بمثل هذا القسم أو الوعد. ولكني سأفعل ذلك عندما تعود إلى وطنك وإلى مسراتك، لتجمع من القوة ما تشاء، ولا تدخر وسعاً، واخرج إلى قتالي، ولسوف تجدني دوماً على أهبة الاستعداد لاستقبالك واستقبال عصيتك.. واطلع من تشاء على هذا الذي أقول لك، فإني قادر على القتال، ومستعد على الدوام للتوغل في العالم المسيحي"(33).
ولما أسر تيمورلنك السلطان بايزيد عامله بكل إجلال واحترام؛ على الرغم من الرسائل المهينة التي كانا قد تبادلاها على مدى عام، وأمر تيمور بفك أغلال السلطان وأجلسه إلى جانبه، وأكد له أنه سيبقى على حياته، واصدر تعليماته بأن تنصب ثلاث خيام فخمة لحاشيته، ولكن عندما حاول بايزيد الهرب، احتجز في غرفة ذات نوافذ مسدودة بالحواجز، وقد بالغت الأساطير فقالت إنها قفص من حديد. ومرض بايزيد، فدعا تيمورلنك أحسن الأطباء لمعالجته، وأرسل السيدة دسبوانا لتسهر على رعايته ومواساته ، ولم تجد هذه المساعدات شيئاً لبعث القوى الحيوية في السلطان المحطم ومات بايزيد بعد عام من هزيمته.
وأعاد ابنه محمد الأول تنظيم حكومة العثمانيين وقوتهم، وعلى الرغم من أنه فقأ عيني أحد المطالبين بالعرش وقتل آخر، فإنه اكتسب لقب السيد المهذب، بفضل سلوكه الكيس اللطيف وحكمه العادل، وسنوات السلم العشر التي منحها للعالم المسيحي، وكان لمراد الثاني مثل هذه المشارب، فآثر الشعر على الحرب، ولكن، ولكن عندما نصبت القسطنطينية مزاحماً له ليخلعه، ونقضت المجر عهد السلم، أثبت مراد الثاني في وارنه (1444) أنه قائد كأحسن ما يكون القواد. ثم عاد إلى مغنيسيا في آسيا الصغرى، حيث عقد مرتين في كل أسبوع اجتماعاً للشعراء والعلماء، وقرأ الشعر وتحدث في العلوم والفلسفة. واقتضت ثورة في أدرنه عودته إلى أوربا، فأخمدها، وقهر هونياد في قوصوه. وعندما مات في 1451، بعد أن قضى في الحكم ثلاثين عاماً، وضعه المؤرخون المسيحيون في مصاف أعظم حكام عصره. وقد أمر في وصيته بأن يدفن في بروسه في مصلى متواضع غير مسقوف، "حتى تنزل عليه رحمة الله وبركاته مع شروق الشمس والقمر، وسقوط المطر والندى على جدته"(34). وتساوى محمد الثاني مع أبيه في الثقافة والفتوحات والفطنة السياسية وطول الحكم، وليس في العدل ولا في النبل. فنقض المعاهدات الوثيقة، ولطخ انتصاراته بالمذابح غير الضرورية. وكان يتسم في مفاوضاته واستراتيجيته بدهاء الشرق. وسئل يوماً عن خططه فأجاب: "لو أن شعرة من لحيتي عرفت لانتزعتها"(35). وتحدث السلطان بخمس لغات، وكان واسع الاطلاع في عديد من الآداب، بارعاً في الرياضيات والهندسة ورعى الفنون، وأجرى معاشات على ثلاثين شاعراً عثمانياً، وبعث بالهدايا الملكية إلى شعراء في فارس والهند. وجاء بعده في المرتبة الثانية كنصير للأدب والفن وزيره الأكبر محمود باشا، فأعان هو وسيده كثيراً من الكليات والمؤسسات الدينية، حتى أطلق على السلطان "أبو الأعمال الخيرية". وكان محمد أيضاً "أبا الانتصارات". فقد خرت القسطنطينية له ولمدافعه، وبفضل مدافعه أصبح البحر الأسود بحيرة عثمانية، وأمام جيوشه ودبلوماسيته وقعت دول البلقان في أسر العبودية. ولكن هذا الفاتح الذي لا يقاوم، لم يتغلب على نفسه أو يكبح جماحها، فما أن بلغ الخمسين حتى كان قد أنهك قواه بكل ألوان الإفراط الجنسي، ولم تجد العقاقير نفعاً في تجديد حيويته، حتى أدرجه حريمه آخر الأمر في عداد الأموات. وقضى نحبه في سن الواحدة والخمسين في اللحظة التي بدا فيها أن جيشه على وشك غزو إيطاليا وضمها إلى العالم الإسلامي.
وأدى النزاع بين أبنائه إلى تولى بايزيد الثاني العرش. ولم يكن بالسلطان الجديد نزوع إلى الحرب، ولكن عندما استولت البندقية على قبرص وتحدت سيطرة الأتراك على شرق البحر المتوسط، أفاق السلطان وضلل مخادعيه بميثاق للسلام، حتى بنى أسطولاً من 270 سفينة ودمر أسطول البندقية بعيداً عن شواطئ اليونان. وأغار جيش تركي على شمال إيطاليا حتى وصل غرباً إلى فيشنتزا (1502). فتوسلت البندقية لعقد الصلح ومنحها بايزيد شروطاً سخية، ثم ركن إلى الشعر والفلسفة من جديد. وخلعه ابنه سليم على العرش (1512) ولم يلبث بايزيد أن مات، وقيل إنه مات مسموماً.
إن التاريخ، من بعض الوجوه، ليس إلا تعاقباً لموضوعات متعارضة، فإن الطباع والأشكال السائدة في عصر ينكرها ويبرأ منها العصر الذي يليه، والذي يضيق ذرعاً بالتقاليد، ويتحرق لهفاً إلى التجديد: فالكلاسيكية تنجب الرومانتيكية، وهذه تلد الواقعية، وهذه تأتي بالتأثرية، كما تدعو فترة إلى الحرب العدوانية. فقد ازدرى سليم الأول بسياسة السلم التي انتهجها والده. وكان سليم قوى الجسم قوى الإرادة، عزوفاً عن المسرات وأسباب المتعة ، ولوعا بالصيد والقنص وحياة المعسكر، واستحق لقب "العبوس" لأنه شنق تسعة من ذوى قرباه منعاً لأية فتنة أو تمرد، وشن الحرب تلو الحرب من أجل الفتح والغزو. ولم تزعجه إغارة إسماعيل الصفوي شاه فارس على الحدود التركية. فقطع سليم على نفسه عهداً بأن يشيد ثلاثة مساجد ضخمة في القدس، وبودا وروما، إذا من الله عليه بالنصر على الفرس (36). وإذ أثار النعرة الدينية في شعبه إلى حد القتال. فإنه تقدم نحو إسماعيل، واستولى على تبريز، وجعل من شمالي أرض الجزيرة ولاية عثمانية. وفي 1515 حول مدافعه ورجاله الانكشارية إلى المماليك، وضم سوريا وبلاد العرب ومصر إلى مملكته (1517). وحمل من القاهرة إلى القسطنطينية أسيراً مكرماً هو "خليفة المسلمين"وهو أكبر مقام ديني عند المسلمين. وأصبح سلاطين العثمانيين بعد ذلك - مثل هنري الثامن - أصحاب السلطة الدينية كما كانوا أصحاب السلطة الزمنية (سادة الدين والدولة).
وفي أوج مجد قواته وعظمتها، جهز سليم لغزو رودس والعالم المسيحي. فلما تمت كل الاستعدادات، أصيب بالطاعون فقضى عليه (1520). وأمر ليو العاشر الذي كان قد ارتعد فرقاً لنقدم سليم أكثر مما ارتعد لظهور مارتن لوثر - أمر الكنائس المسيحية بإقامة الصلوات شكراً لله.
6- الأدب الإسلامي 1400-1520
نظم سليم العبوس نفسه قصائد من الشعر المقفى، وورث ابنه سليمان القانوني ديواناً ملكياً ضم قصائده المجموعة، مثل ما ورثه إمبراطورية تمتد من الفرات إلى الدانوب والنيل، وإنك لترى أثنى عشر من السلاطين وكثيراً من الأمراء، من بينهم الأمير جم الذي أجزل أخوه بايزيد الثاني العطاء لملوك المسيحية وبابواتها ليحتجزوا الأمير في معتقل لائق، نقول إنك لترى هؤلاء السلاطين والأمراء بين 2200 شاعر عثماني طبقت شهرتهم الآفاق في القرون الستة الأخيرة (37). واقتبس معظم هؤلاء الشعراء من الفرس أشكال شعرهم وأفكاره، وفي بعض الأحيان لغته، وواصلوا، في معين من القصيد لا ينضب، تمجيد عظمة الله، وحكمة الشاة أو السلطان، وارتعاد شجرة السرو حسداً عندماً يقع نظرها على السيقان النحيلة الناصعة البياض للحبيبة. وقد ألفنا الآن نحن في الغرب هذه المفاتن إلى حد أننا لم نعد نهتز لهذه التشبيهات الهائلة. ولكن "الأتراك الفظعاء" الذين كانت نساؤهم متدثرات من الأنف إلى أخمص القدم بشكل كله إغراء، اهتزوا إلى الأعماق بهذه الإيحاءات الشعرية، وهذا الشعر الذي غيرت ترجمته من طبيعته، والذي لا يؤثر فينا شعرة، كان يحفزهم إلى التقي والورع وإلى تعدد الزوجات وإلى الحرب.
وإنا لنختار في خيال ساذج، من بين ألف من الموتى الخالدين، ثلاثة أسماء لا تزال غريبة غير مألوفة لدى المجتمعات المحلية في الغرب. من هؤلاء أحمدي، وهو من سيواس (المتوفى 1413) الذي نهل أول ما نهل من الأستاذ الفارسي النظامي، وقد كتب أحمدي "اسكندرنامة" أي كتاب الإسكندر، وهو ملحمة ضخمة في أسلوب قوي غير مصقول، لم تتناول قصة غزو الفرس للإسكندر فحسب، ولكن تضمنت كذلك تاريخ الشرق الأدنى وديانته وعلومه وفلسفته من أقدم العصور إلى عهد بايزيد الأول. ويجدر بنا أن نكف عن الاقتباس لأن الترجمة الإنجليزية أشبه شيء بكابوس يجثم على الصدر. أما شعر أحمد باشا (المتوفى 1496) فقد ابتهج به السلطان محمد الثاني إلى حد أنه عين الشاعر وزيراً له. ولكن الشاعر وقع في غرام خادم جميل من حاشية الإمبراطور الذي كان به مثل هذا الميل، فما كان منه إلا أن أمر بإعدام الشاعر وأرسل أحمد إلى مولاه قصيدة غنائية تفيض رقة، حتى أن محمداً وهبه الغلام، ولكنه نفى الاثنين إلى بروسه(38).وهناك أوى أحمد إلى داره شاعراً شاباً قدر له في الحال أن يبزه، ونظم نجاتي (المتوفى 1508)، وكان اسمه الحقيقي عيسى - نظم قصيدة غنائية مدح محمد الثاني، وربطها في عمامة صفى السلطان وزميله في لعبة الشطرنج، ودفع فضول محمد الثاني به إلى الوقوع في الشرك، وفض اللفيفة وقرأ القصيدة، واستدعى ناظمها وعينه موظفاً في القصر الملكي. وأبقاه بايزيد الثاني ناعماً بالحظوة والثراء. وكتب نجاتي الذي انتصر بشكل بطولي على الازدهار والنجاح، بعض القصائد الغنائية التي تستحق أعظم الثناء والتقدير في الأدب العثماني.
ومهما يكن من أمر، فإن فطاحل الشعر الإسلامي كانوا لا يزالون من الفرس. وكان بلاط حسين ببقرة في هراة يعج بالعنادل المغردة، حتى أن وزيره مير على شيرنواى شكا قائلاً: "لو انك مددت قدميك لرفست بهما ظهر شاعر". فرد عليه شاعراً آخر بقوله: "وكذلك تفعل أنت لو سحبتهما(39)". وكان مير على شير (المتوفى 1501)، إلى جانب معاونته في حكم خراسان، ورعايته للأدب والفن، وذيوع صيته في رسم المنمنات والتلحين - نقول كان شاعراً فحلاً، فكان ميسيناس وهوراس زمانه في وقت معاً. ومن فيض رعايته المستنيرة استمد العون والسلوى المصوران بهزاد وشاه مظفر، والموسيقيون قول محمود وشائقي نائي وحسين يودي، والشاعر الإسلامي الكبير في القرن الخامس عشر ملا نور الدين عبد الرحمن جامي (المتوفى 1492).
ووجد جامي في حياته الطويلة الهادئة فسحة من الوقت ليكتسب شهرته عالماً ومتصوفاً وشاعراً. فشرح باعتباره من رجال الصوفية، في نثر رقيق، الفكرة الصوفية القديمة، وهي أن الاتحاد البهيج بين النفس البشرية وبين الحبيب، وهو الله سبحانه وتعالى، لا يتأتى إلا إذا أيقنت النفس أن الإنسان ليس غلا وهماً وسراباً، وأن كل الأشياء في الدنيا هي مجموع من الأشباح العبرة التي تتلاشى في ضباب الفناء. ومعظم قصائد جامي عبارة عن تصوف منظوم شعراً، ممزوج بشيء من الحسية الجذابة. ويقص علينا سلمان وأبسال حكاية طريفة تشير إلى أن الحب الإلهي يسمو على الحب الدنيوي. وسلمان هو ابن شاه يون (أيونيا) وقد ولد من غير أم (وهذا شيء أصعب بكثير من التوالد العذري) وقد تولت تربية الأمير الجميلة أبسال التي افتتنت به حين بلغ الرابعة عشرة من العمر، وقد غزت قلبه وأسرته بما اصطنعت من أسباب التجميل والتطرية:
"أحاطت سواد عينيها بسواد الإثمد
حتى تحوله إلى ليل وهو في وضح النهار،
وزينت وزججت الحواجب فوقهما.
لتصيبه إذا ضل هناك، وشعرها الذي يتضوع منه المسك
صففته في لفائف أفعوانية كثيرة
كمن فيها "الإغراء" فوق خدها
الذي أضاءت ورده بندى قرمزي
ووضعت هناك حبة دقيقة من المسك
لتوقع في الشرك طائر هذا القلب الحبيب
وقد نمر أحياناً فتطلق ضحكة تكسر بها
ياقوتة شفتيها اللتين تحفظان بينهما اللآلى
أو تنهض وكأنها على عجل، فتقعقع خلاخيلها الذهبية،
وعلى نداءاتها المفاجئة. تأتي
تحت قدميها الفضيتين بالتاج الذهبي(40).
وهو تاج الأمير وريث العرش بلا منازع، ويستسلم الأمير دون عناء لهذه المغريات، ولبعض الوقت ينعم الاثنان - الولد والسيدة في حب مشبوب. فيؤنب الملك هذا الشاب على مثل هذا العبث، ويأمره أن ينجو بنفسه إلى الحرب والحكم. ولكن سلمان بدلاً من ذلك يهرب مع أبسال على ظهر جمل، "وكأنهما لوزتان حلوتان في قشرة واحدة"، حتى إذا وصلا إلى البحر صنعا قارباً وسارا به "شهراً" وأتيا إلى جزيرة مكسوة بالخضرة، مليئة بالأزهار العطرة والطيور المغردة، والثمار والفاكهة التي تتساقط تحت قدميها بكثرة.ولكن في جنة عدن هذه يتحرك ضمير الأمير فيؤنبه، ويفكر في مهام الملك التي أغفلها، ويحث الأمير محبوبته أبسال على العودة معه إلى يون، ويحاول أن يدرب نفسه على الاضطلاع بأعباء الملك، ولكنه موزع بين الواجب والجمال، إلى حد أنه كاد آخر الأمر أن يجن، وانضم إلى أبسال في محاولة للانتحار، فبنيا محرقة، وقفزا إليها، وبد كل منهما في يد الآخر، وأنت النيران على أبسال، ولكن سلمان يخرج سالماً ولم يحترق. والآن وقد تطهرت نفسه، فإنه يرث العرش ويشرفه. وكل هذا مجاز يفسره جامي بأن الملك هو الله، وسلمان هو النفس البشرية، وأبسال هي نشوة الشهوة، والجزيرة السعيدة هي جنة الشيطان التي تضل فيها النفس عن مصيرها الإلهي، أما المحرقة فهي نار تجربة الحياة، التي تتلاشى فيها الرغبات الشهوانية، أما العرش الذي ترقى إليه النفس المطهرة فهو عرش الله. ومن العسير أن نعتقد أن شاعراً أن يصدر مفاتن المرأة بهذا الشكل الحساس، يمكن أن يطلب إلينا اجتنابها اللهم إلا بين الفينة والفينة.
وفي جرأة عوض عنها ما تمخضت عنه تجاسر جامي فعالج، شعراً من جديد، الموضوعات الأثيرة لدى اثنى عشر من الشعراء قبله: يوسف وزليخة، ليلى والمجنون، وفي تصدير فصيح يعيد تقرير النظرية الصوفية: نظرية الجمال الإلهي والجمال الدنيوي:
في "القفر البدائي"، حيث لم تعط الحياة أية علامة على
وجودها، ورقد الكون مختبئاً منكراً نفسه، كان ثمة شيء.
إنه الجمال المطلق يظهر نفسه لنفسه فقط، وبنوره هو وحده.
مثل أجمل النساء في غرفة زفافها المحفوفة بالأسرار، كان ثوبها نقياً
لا تشوبه أية شائبة، ولم تعكس أية مرآة وجهها، ولم يمر
المشط قط بخصلات شعرها، ولم يحرك النسيم العطر قط شعرة
واحدة منها، ولم يأو قط أي عندليب على صفحة خدها الوردي..
ولكن الجمال لا يطيق أن يبقى مجهولاً. انظر إلى زهرة التوليب
فوق قمة الجبل، وهي تنفذ في الصخر فرعها الغض لأول بسمة
من بسمات الربيع...كذلك الجمال الأبدي أتى من الأماكن المقدسة
للأسرار ليشع في كل الآفاق وفي كل النفوس، وثمة شعاع واحد
انطلق من هذا الجمال الأبدي، واخترق الأرض والسموات، ومن ثم
تكشف وظهر في مرآة المخلوقات. وأصبحت كل ذرات الكون
بمثابة مرايا تعكس كل منها ناحية من نواحي العظمة الأبدية.
وسقط شيء من تألقها على الوردة والعندليب، فأصابهما شيء
من جنون الحب البائس واتقدت حماستهما ناراً، وجاء ألف من
الفراشات لتهلك في اللهب، وهي التي أضفت على قمر كنعان لمعانه
الساطع الذي أصاب زليخة بالجنون(41)
إن جامي يهبط من علياء سمائه ليصف جمال الأميرة زليخة في تكرار
وإسهاب يتقدان حماسة، حتى إلى حد وصف "حصن العفة والملمس
الحرام فيها".
وكان نهداها بمثابة كرتين من نور بالغ النقاوة أو فقاعتين
تقفزان حديثاً من نافورة كافور، أو رمانتين صغيرتين تنموان
على غصن واحد، لا يستطيع أي طامع جريء أن يمسهما
بإصبعه(42).
إن زليخة ترى يوسف في المنام، فتقع في غرامه لأول ظهوره. ولكن أباها يزوجها من وزيره بوتيفار. ثم ترى يوسف بشخصه رأي العين معروضاً للبيع في سوق الرقيق فتشتريه وتغريه، ولكنه يرفض صداقتها والتفاهم معها، فيصيبها الهزال. ويموت الوزير، ويحل يوسف محله، ويتزوج زليخة، وسرعان ما ينتاب الهزال الاثنين، إلى حد الموت آخر الأمر. إن حب الله هو الحقيقة وهو الحياة، إنها قصة قديمة، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يركن إلى هذه المواعظ؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
8- الفكر الإسلامي
أفلت شمس العلم والفلسفة وضاع مجدها، لأن الدين كان قد كسب معركته ضدهما، في الوقت الذي كان فيه يتراجع ويستسلم في الغرب المراهق. وكان الذين يحظون بالشرف الرفيع هم رجال الدين والدراويش والنساك والأولياء، أما العلماء فقد قصدوا إلى استيعاب نتائج أبحاث أسلافهم، أكثر مما قصدوا إلى إمعان النظر في الطبيعة من جديد. وكان آخر تقدم أو محاولة نشيطة في الفلك الإسلامي في سمرقند حين صاغ راصد النجوم في مرصد أولوج بك في سنة 1437 الجداول الفلكية التي حظيت بأعظم التقدير في أوربا حتى القرن الثامن عشر. وقاد ملاح عربي مزود بجداول وخريطة عربية، فاسكودا جاما من أفريقية إلى الهند في المرحلة التاريخية التي وضعت نهاية لسيطرة الإسلام الاقتصادية(49).
وفي الجغرافيا أنجب المسلمون شخصية عظيمة فذة في هذا العصر. ففي سنة 1304 ولد في طنجة محمد عبد الله بطوطة الذي طاف بدار الإسلام- العالم الإسلامي- لمدة أربع وعشرين سنة ثم عاد إلى المغرب ليقضي نحبه في فاس. وإن يوميات هذا الرحالة لتوحي بمدى انتشار الإسلام الواسع، فهو يذهب إلى أنه قطع في رحلته 75.000 ميل (أكثر من أي إنسان آخر قبل عصر البخار)، كما زعم أنه رأى غرناطة وشمال أفريقية وتمبكتو ومصر والشرقين الأدنى والأوسط وروسيا والهند وسيلان والصين، وأنه زار كل حاكم مسلم في هذا العصر. وفي كل مدينة كان يقدم احتراماته أولا إلى العلماء ورجال الدين ثم بعد ذلك إلى الملوك والحكام. وإنا لنرى النزعة الإقليمية عندنا منعكسة عليه حين يعدد "الملوك السبعة العظام في العالم"، وكأنهم مسلمون فيما عدا واحداً صينياً(50). إنه لا يصف الأشخاص والأماكن فحسب، بل يصف كذلك حيوان كل منطقة ونباتها والمعادن والأطعمة والأشربة والأسعار في مختلف البلاد، وكذلك المناخ ومظاهر الطبيعة والعادات، والأخلاق والطقوس الدينية والمعتقدات،وهو يتحدث بكل إجلال عن السيد المسيح والسيدة العذراء. ولكنه يشعر ببعض الارتياح والرضا حين يشير إلى أن "كل حاج يزور كنيسة القيامة في القدس يدفع رسوماً للمسلمين"(51). وعندما عاد إلى فارس روى كل تجاربه ومشاهداته، فأنزله سامعوه منزلة القصاص، ولكن الوزير أمر أحد سكرتيريه بتدوين ما أملاه ابن بطوطة من مذكرات. وضاع الكتاب وكاد أن ينسى، حتى وجد أخيراً أثناء الاحتلال الفرنسي الحديث للجزائر.
وفيما بين سنتي 1250 ، 1350 كان أعظم الكتاب إنتاجاً في التاريخ الطبيعي من المسلمين. فكتب محمد الدميري بالقاهرة كتاباً في علم الحيوان يقع في 1500 صفحة وكان الطب لا يزال قلعة سامية، (أي علماً برز فيه الجنس السامي). فكانت المستشفيات كثيرة في العالم الإسلامي. وشرح طبيب من دمشق هو علاء الدين بن النفيس الدورة الدموية الرئوية (1260) قبل سرفيتس (طبيب أسباني، القرن 16) بنحو 270 سنة، ونسب طبيب من غرناطة هو ابن الخطيب "الموت الأسود"إلى مرض معد، وأشار بالحجر الصحي للمصابين- معارضاً بذلك قول رجال الدين بأنه انتقام إلهي من خطايا الإنسان وآثامه. واشتمل بحثه "في الطاعون" (حوالي 1360 على هرطقة مشهورة: "يجب أن يكون من القواعد المقررة لدينا أن أي برهان مأخوذ من تقاليد "أتباع محمد" ينبغي أن يخضع للتعديل إذا تعارض تعارضاً واضحاً صريحاً مع الدليل الذي تأتي به الحواس (53).
وكان العلماء والمؤرخون كثيرين مثل الشعراء. وكانوا يكتبون باللغة العربية وهي لغة الاسبرانتو في العالم الإسلامي، كما جمعوا كثير من الأحوال بين الدرس والتأليف وبين النشاط السياسي والإداري. ومثال ذلك أبو الفداء الدمشقي، فقد اشترك في اثنتي عشرة حملة حربية، وكان وزيراً للملك الناصر في القاهرة، ثم عاد إلى سوريا حاكماً على حماه، وجمع مكتبة ضخمة، وألف مجموعة من الكتب تعتبر قمة مثيلاتها في هاتيك الأيام.وفاق بحثه في الجغرافيا "تقويم البلدان" في اتساع مداه، أي مؤلف أوربي من نوعه في عصره، وقد قدر فيه أن الماء يغطي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ، وأشار إلى السائح حول العالم يكسب أو يفقد يوماً في مسيرة غرباً أو شرقاً، وكان كتابه "المختصر في أخبار البشر" هو التاريخ الإسلامي الأساسي المعروف لدى الغرب. ولكن الاسم اللامع في كتابة التاريخ في القرن الرابع عشر هو عبد الرحمن ابن خلدون. فهنا نجد رجلاً ذا وزن وقيمة حتى في أعين أهل الغرب رجلاً عركته التجارب والسياحة وفن الحكم الذي مارسه عملياً، وهو مع ذلك حسن الاطلاع على الفن والأدب والعلوم والفلسفة في عصره، يكاد يحيط بالجوانب الإسلامية في هذا كله في "تاريخ للعالم". وإن مولد مثل هذا الرجل في تونس (1332) وارتفاع مكانته هناك، ليوحيان إلينا بأن ثقافة شمالي أفريقية لم تكن مجرد صدى للإسلام في آسيا، بل كان لها طابع وحيوية خاصتان بها، وتقول سيرة حياة ابن خلدون: "لم أزل منذ نشأت وناهزت منكباً على تحصيل العلم، حريصاً على اقتناء الفضائل، متنقلاً بين دروس العلم وحلقاته....".
وقضى الموت الأسود على أبوابه وعلى كثير من المعلمين، ولكنه تابع دراسته "إلى أن شددت بعض الشيء"(54). وهذا ضرب من الوهم يتميز به الشباب. وعين في العشرين من عمره سكرتيراً لسلطان تونس، ثم لسلطان فاس في الرابعة والعشرين، وفي سن الخامسة والعشرين دخل السجن. ثم انتقل إلى غرناطة وأرسل سفيراً لها لدى بطرس القاسي في أشبيلية. وعندما عاد إلى أفريقية أصبح الوزير الأول للأمير أبى عبد الله في "بجاية" ولكن كان لزماً عليه أن يفر لينجو بنفسه عندما خلع سيده وقتل. وأرسلته مدينة تلمسان في سنة 1370 مبعوثاً لها إلى غرناطة، ولكن اعتقله في الطريق إليها أحد أمراء المغرب العربي، وبقى ابن خلدون أربع سنوات في خدمة هذا الأمير ثم لجأ إلى حصن بالقرب من وهران، وهناك (1377) كتب "مقدمة تاريخه" وهي مقدمة "لتاريخ العمران". ولما كان في حاجة إلى كتب أكثر مما استطاعت وهران أن تمده بها فإنه عاد إلى تونس، ولكن هناك تألب عليه من ذوي النفوذ فيها، فانتقل إلى القاهرة (1384)، وكانت شهرته كعالم قد طبقت الآفاق، وازدحم حوله الطلاب حين كان يحاضر في الجامع الأزهر، وأجرى عليه السلطان برقوق راتباً "كما كانت عادته مع العلماء"(55). وعين قاضياً للمالكية، فطبق القوانين بصرامة شديدة وأغلق الملاهي مما أدى إلى هجوه وعزله من منصبه، فاعتزل الحياة العامة ثانية. ثم أعيد إلى منصب قاضي القضاة، وصحب السلطان ناصر الدين فرج في حملة ضد تيمور، وهزمت القوات المصرية، فالتمس ابن خلدون ملجأ له في دمشق، وحاصرها تيمور، وكان مؤرخاً آنذاك في سن الشيخوخة، فرأس وفداً يلتمس من التتري المنتصر شروطاً لينة رفيقة وأحضر- مثل أي مؤرخ آخر، مخطوطة تاريخه معه، وقرأ على تيمور الجزء الخاص به وسأله أن يصحح له معلوماته، وربما كان قد تعمد مراجعة الصفحات قبل ذلك لهذا الغرض نفسه. ونجحت الخطة، وأطلق تيمور سراحه، وما لبث أن عاد لبن خلدون مرة أخرى قاضياً للقضاة في القاهرة، ومات وهو في هذا المنصب، في سن الرابعة والسبعين (1406).
وألف ابن خلدون وسط هذه الحياة القلقة موجزاً عن فلسفة ابن رشد، وأبحاثاً في المنطق والرياضيات، ومقدمة ابن خلدون، وتاريخ البربر، وشعوب الشرق، والكتب الثلاثة الأخيرة فقط هي الباقية، وهي تشكل في مجموعها "تاريخ العالم" (كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر). والمقدمة واحدة من الروائع في الأدب الإسلامي وفي فلسفة التاريخ، فهي إنتاج "حديث" إلى درجة مذهلة لعقلية عاشت في العصور الوسطى. ويرى ابن خلدون أن التاريخ "فرع هام من الفلسفة"(56)، وينظر نظرة عريضة واسعة إلى مهمة المؤرخ:
"اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال" (57). (ص 33 من مقدمة ابن خلدون طبعة كتاب الشعب- القاهرة 1969).
واعتقاداً منه بأنه أول من كتب التاريخ بهذه الطريقة، فإنه يسأل القارئ الصفح عن أية أخطاء لم يكن في الإمكان تجنيها فيقول:
"وأنا من بعدها موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف
بالعجز عن المضاء في هذا القضاء، راغب من أهل اليد البيضاء،
والمعارف المتسعة الفضاء، في النظر بعين الانتقاد، لا بعين
الارتضاء، والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء.
فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة والاعتراف من اللوم منجاة،
والحسنى من الإخوان مرتجاة. والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة
لوجهه الكريم، وهو حسبي ونعم الوكيل"(58).
(المصدر السابق، ص 10)
ثم هو يأمل في أن يكون كتابه هذا عوناً على الأيام الحالكة التي تنبأ بها:
وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله،
وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعالم
محدث. فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليفة والآفاق
وأجيالها، والعوائد والنحل لأهلها، ويقفو مسلك المسعودى
لعصره، ليكون أصلاً يقتدي به من يأتي من المؤرخين من بعده (59)".
(المصدر السابق، ص 31).
ويخصص ابن خلدون بعض صفحات يملؤها الزهو والفخر، يشير فيها إلى أخطاء بعض المؤرخين. ويحس بأنهم ضلوا في مجرد ترتيب الأحداث ترتيباً زمنياً، وقل أن ارتفعوا إلى مستوى إيضاح الأسباب والنتائج. وتقبلوا الخرافة بمثل الارتياح الذي تقبلوا به الحقيقة تقريباً، وقدموا إحصاءات مبالغ فيها، وفسروا أشياء كثيرة جداً بقوى خارقة للطبيعة، أما بالنسبة له، فهو يعتزم أن يعول كلية على العوامل الطبيعية في تفسير الحوادث. ولسوف يحكم على ما يكتبه المؤرخون في ضوء التجارب الراهنة للجنس البشري، ويرفض أي حدث مزعوم يعتبر الآن مستحيل الوقوع. فإن التجربة يجب أن تفصل في صحة التقاليد أو فسادها(60). وكان منهجه في "المقدمة" هو أن يعالج أولاً فلسفة التاريخ، ثم يتناول أشغال الناس ومهمتهم وبراعاتهم، وأخيراً يعرض لتاريخ العلوم والفنون، وهو يدون في مجلدات متعاقبة التاريخ السياسي لمختلف الأمم، الواحدة تلو الأخرى، متعمداً التضحية بوحدة الزمان في سبيل وحدة الحضارة، كيف تنشأ، وكيف يحتفظ بها وكيف تنمي الآداب والعلوم والفنون، ولماذا تبلى(61)، فالإمبراطوريات- مثل الأفراد- لها حياة ولها مسارات خاصة بها. إنها تنشأ وتنضج وتضمحل(62) فما هي أسباب هذا التعاقب؟
والأحوال الأساسية في هذا التعاقب هي أحوال جغرافية. ذلك أن للمناخ تأثيراً عاماً ولكنه أساسي. فالشمال البارد ينتج آخر الأمر، حتى في أناس أصلهم من الجنوب، جلداً أبيض اللون وشعراً خفيفاً، وعيوناً زرقاء وميلاً إلى الجدية. أما الأقاليم المدارية فتنتهي بمرور الزمن إلى الجلد الأسمر والشعر الأسود، "وتغلب الروح الحيوانية"، وخفة في العقل والمرح وسرعة التنقل بين المسرات مما يؤدي إلى الغناء والرقص (63). ويؤثر الطعام في الخلق. فالغذاء الثقيل المكون من اللحوم والتوابل والحبوب بسبب بلادة الجسم والعقل، والاستسلام السريع للقحط أو العدوى. أما الغذاء الخفيف، مثل هذا الذي تتناوله شعوب الصحراء، فإنه يساعد على رشاقة الأجسام وصحتها، وعلى سلامة العقول. وعلى مقاومة المرض (64). وليس ثمة تفاوت فطري في القدرة الكامنة بين شعوب الأرض: فإن تقدمهم أو تأخرهم تحدده الأحوال الجغرافية، ويمكن تغييره بتغيير هذه الأحوال، أو بالهجرة إلى مكان آخر (65).
أما الأحوال الاقتصادية فهي أقل قوة فقط من الجغرافية. ويقسم ابن خلدون المجتمعات إلى رحل ومقيمة أو مستقرة تبعاً لوسائل الحصول على القوت، ويعزو معظم الحروب إلى الرغبة في الحصول على مصدر للغذاء أكثر وفرة. فالقبائل الرحل لابد أن تغزو إن عاجلاً أو آجلاً، الجماعات المستقرة المتوطنة، لأن هؤلاء الرحل مرغمون بحكم ظروف حياتهم على التمسك بالصفات الحربية مثل الشجاعة وقوة الاحتمال والجلد والتماسك. وقد يدمر الرحل حضارة، ولكنهم لا يستطيعون إقامة حضارة قط. فإن الشعب المقهور يمتص دماء الرحل وثقافتهم. ولا يستثنى من ذلك العرب الرحل. والحرب أمر طبيعي طالماً أن الشعب غير قانع أبداً لأمد طويل بما لديه من غذاء. إن الحرب هي التي تنشىء السلطان السياسي وتجدده، ومن ثم كانت الملكية هي الشكل المألوف للحكومة. وقد سادت في كل حقب التاريخ تقريباً (66). وقد تنشىء السياسة المالية مجتمعاً أو تهدمه، فإن فرض الضرائب الباهظة أو دخول الحكومة إلى مجال الإنتاج والتوزيع، يمكن أن يخمد أو يقضي على الحوافز والمغامرة والمنافسة، ويقتل البقرة الحلوب التي تدر الدخل (67). ومن جهة أخرى فإن الإفراط في تركيز الثروة قد يمزق المجتمع إرباً بإذكاء نار الثورة(68).
وثمة قوى معنوية في التاريخ.وفي تماسك الناس تدعيم للإمبراطوريات، وأفضل وسيلة لتأمين هذا هو غرس عقيدة واحدة وممارستها. ويتفق ابن خلدون مع البابوات ومحاكم التفتيش والمصلحين الدينيين البروتستانت على عقيدة واحدة. وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب . والتغلب إنما يكون بالعصبية، واتفاق الأهواء على المطالبة، وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه. قال تعالى: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم". وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا، حصل التنافس وفشا الخلاف. وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله اتحدت وجهتها، فذهب التنافس وقل الخلاف ، وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة، كما نبين لك بعد إن شاء الله سبحانه وتعالى وبالله التوفيق، لا رب سواه (69). المصدر السابق، ص 142).
وليس الدين عوناً في الحرب فحسب، بل إنه كذلك خير عون على النظام في المجتمع، وعلى اطمئنان النفس وهدوء البال عند الناس فرادى. ولا يتأنى هذا إلا بعقيدة دينية تتقرر بلا مساءلة ولا جدال. إن الفلاسفة ليبتدعون مئات الأساليب، ولكن واحداً منهم لم يقع على بديل للدين، كمرشد ومصدر إلهام للبشر في حياتهم "وما دام الإنسان لا يستطيع فهم الدنيا، فإن من الخير له أن يتقبل العقيدة التي ينقلها إليه مشرع ملهم تلقى الوحي، يعرف ما فيه خيرنا ونفعنا أكثر مما تعرف نحن، ويشرع لنا ما ينبغي علينا أن نؤمن به وما ينبغي علينا أن نفعل (70)، وبعد هذه المقدمة الرشيدة ينتقل مؤرخنا الفيلسوف إلى تفسير للتاريخ قائم على المذهب الطبيعي.
إن كل إمبراطورية تمر بأطوار متعاقبة:
1- تحط قبيلة متنقلة منتصرة رحالها لتنعم بما أفاء الله به عليها من فتح رقعة من الأرض أو ولاية. "إن أقل الأقوام حضارة أعظمها فتوحاً"(71).
2- وكلما ازدادت العلاقات الاجتماعية تعقيداً، اقتضى الأمر سلطة أكثر تركيزاً بغية المحافظة على النظام، فيصبح الرئيس القبلي ملكاً.
3- وفي هذا النظام المستتب، تنمو الثروة، وتتصاعد المدن، ويرتقي التعليم والآداب ،وتجد الفنون من يرعاها، وتبزغ شمس العلوم والفلسفة. ويؤذن التوسع في سكنى المدن والحياة الناعمة بفضل الثراء، ببداية الاضمحلال.
4- إن المجتمع الذي أثرى يبدأ في إيثار المسرة والترف والدعة على العمل أو المغامرة أو الحرب ، ويفقد الدين سيطرته على الإنسان وعقيدته، وتنحط الفضائل والأعمال الحربية، ومن ثم يكون الاتجاه إلى استخدام الجنود المرتزقة للدفاع عن المجتمع، ومثل هؤلاء تعوزهم حماسة الروح الوطنية والعقيدة الدينية، وكأن الثروة التي لا يحسن الدفاع عنها تغري بمهاجمتها ملايين الجياع المضطربين فيما وراء الحدود.
5- إن الحملات الخارجية أو الدسائس الداخلية، أو كلتيهما معاً تسقط الدولة (72).
تلك كانت دورة الزمن بالنسبة لرومه، والمرابطين والموحدين في أسبانيا، والإسلام في مصر وسوريا والعراق وفارس، وهي تجري دائماً على هذا المنوال(73). تلك هي قلة قليلة من آلاف الأفكار التي جعلت من "مقدمة ابن خلدون" أشهر نتاج فلسفي في القرن الذي عاش فيه. وكان لابن خلدون أفكاره الخاصة به كل شيء تقريباً، فيما عدا الدين الذي يرى أنه ليس من الحكمة أن يكون فيه مبتكراً. وعلى حين أنجز عملاً ضخماً من أمهات الكتب في الفلسفة يصرح بأن الفلسفة خطيرة، وينصح قراءه بأن يتركوها وشأنها (74). ويحتمل أنه قصد ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا) واللاهوت، أكثر مما قصد الفلسفة بمعناها الأوسع، كمحاولة لرؤية أحوال الإنسان من وجهة نظر أكثر شمولاً. إنه يتحدث في بعض الأحيان كما تتحدث أبسط امرأة عجوز في السوق، فيسلم بالمعجزات والسحر، و "العين الشريرة"، والخواص الغامضة لحروف الهجاء، ونبوءات الأحلام، والأمعاء، أو طيران الطيور (75). وهو مع ذلك يعجب بالعلوم، ويقر بتفوق اليونان على المسلمين في هذا المضمار، ويرثى لتدهور الدراسات العلمية في الإسلام (76). ويستنكر الكيمياء القديمة- ويعترف بشيء من الإيمان بالفلك (77).
وثمة سقطات معينة أخرى يجدر إيرادها. ذلك أنه على الرغم من ابن خلدون كان رحب الأفق، قدر رحابة الإسلام، إلا أنه شاطر الإسلام كثيراً من تحديداته، فلم يجد في مجلدات مقدمته الثلاثة إلا سبع صفحات للكلام عن المسيحية. ولم يورد ذكر اليونان والرومان وأوربا في العصور الوسطى غلا عرضاً. وعندما دون تاريخ شمال أفريقية ومصر الإسلامية والشرقين الأدنى والأوسط، اعتقد ذلك أنه قد روى "تاريخ الشعوب"(78). وهو في بعض الأحيان جاهل جهلاً معيباً يؤاخذ عليه، فيذهب إلى أن أر سطو كان يعلم من رواق وسقراط من دن (79).أن كتابته الفعلية في التاريخ تتخلف كثيراً عن مقدمته النظرية، ومجلداته عن البربر والشرق عبارة عن سجل جاف موحش لأنساب الأسرات وتسلسلها، ودسائس القصر، والحروب الصغيرة. ومن الواضح أنه قصد أن تكون هذه المجلدات تاريخاً سياسياً فحسب، وكتب المقدمة بوصفها تاريخاً للثقافة ، ولو أنها على الأرجح نظرة عامة في الثقافة.
ولكي تستعيد تقديرنا وإجلالنا لبن خلدون، جرى بنا أن نتساءل فقط عن أي عمل مسيحي في القرن الرابع عشر يمكن أن يضارع "المقدمة". وربما كان بعض المؤلفين القدامى قد تناولوا جانباً من هذا الميدان الذي طرقه ابن خلدون. وكان أحد أبناء جلدته، وهو المسعودى (المتوفى 956) قد عالج في كتاب مفقود الآن، تأثير الدين والاقتصاد والسلوك والبيئة علة شخصية الشعب وقوانينه، كما تناول أسباب الاضمحلال السياسي(80). ومهما يكن من أمر فقد أحس ابن خلدون، وله بعض الحق، أنه خلق علم الاجتماع. إننا لا نستطيع، في أي أدب كان قبل القرن الثامن عشر، العثور على فلسفة للتاريخ، أو على منهج لعلم الاجتماع، يمكن أن يباري في قوته ومداه ودقة تحليله منهج ابن خلدون. إن رائد فلسفة التاريخ في عصرنا قد حكم على مقدمة ابن خلدون بأنها أعظم تأليف من نوعه أنتجه عقل بعد في أي زمان أو مكان (81). وقد يقارن به كتاب هربرت سبنسر "مبادىء علم الاجتماع" 1876-1896، ولكن كان لسبنسر معاونون كثيرون. إننا على أية حال قد نتفق مع مؤلف ممتاز مشهور في تاريخ العلوم "على أن أهم مؤلف تاريخي في العصور الوسطى"(82) هو مقدمة ابن خلدون.
7- الفن في آسيا الإسلامية
في كل البقاع التي وصل إليها الإسلام من غرناطة إلى دلهي وسمرقند، استخدم الملوك والنبلاء العباقرة والعبيد لبناء المساجد والمقابر، والرسم على الآجر وإحراقه، ونسج الحرائر والسجاجيد وصبغها، وطرق المعادن، والحفر على الخشب والعاج، وزخرفة المخطوطات بالألوان المائية والخط، واستمسك الخانات والتيموريون والعثمانيون والمماليك،وحتى الأسرات الصغيرة التي حكمت الأجزاء الضعيفة من العالم الإسلامي، استمسكوا جميعاً بالتقليد الشرقي، وهو تلطيف السلب بالشعر، وتلطيف القتل بالفن.
وفي قرى الريف وفي قصور المدن أخرجت الثروة جمالاً، ونعمت قلة محظوظة بقرب أشياء تغري اليدبلمسها، وتغري العين بالنظر إليها.
وكان المسجد لا يزال مجمع الفن الإسلامي. فالطوب والقرميد أكسبا المئذنة جمالاً شاعرياً، وأبواب الخزف المزخرف جعلت من ضوء الشمس ألواناً براقة، وأبرز المنبر الأشكال المتعرجة المحفورة أو التطعيم المعقد في الخشب، ووجهت فخامة المحراب قلوب المصلين إلى مكة. وقدمت المصبعات والثريات مشبكاتها المعدنية إجلالاً وولاء لله. وجعل السجاد من الأرض البلاط مكاناً ليناً وهيأ لركبتي المصلى سجوداً وثيراً. وغلفت المصاحف المذهبة بالحرير الثمين. وعجب كلافيجو "من المساجد الجميلة المزدانة بالآجر الأزرق والذهبي (43)"، وفي أصفهان أقام أحد وزراء أولجايتو في مسجد الجمعة محراباً بات فيه الجص العادي من مفاتن الزخرفة العربية والنقش. وشيد أولجايتو نفسه في "سلطانية " ضريحاً فخماً (1313) أراد أن ينقل إليه رفات على والحسين (كان الخان أولجايتو شيعيا). ولكن خطته أخفقت إخفاقاً محموداً، فإن عظام الخان ووريت الترب في هذا الضريح المهيب. وتتسم أطلال المسجد في فارامين (1326) بالضخامة والجلال.
وأولع تيمور بالبناء، وسرق أفكار العمارة، كما سرق الفضة والذهب من ضحايا أسلحته. وآثر الضخامة بوصفه فاتحاً، وكأنما هي ترمز إلى إمبراطوريته وإلى إرادته، ومثل محدثي الثراء أغرم باللون وأسرف في الزخرفة،. وافتتن بالآجر الأزرق المطلي في هراة، فاستقدم خزافين من فارس إلى سمرقند ليكسوا بالطوب اللامع واجهات المساجد والقصور في عاصمته، وسرعان ما أشرقت المدينة وتألقت بالخزف الفخم. ولحظ في دمشق قبة بصلية الشكل تنبعج فوق القاعدة ثم يستدق طرفها إلى أعلى حتى يصبح مدبباً، فأمر مهندسيه أن يأخذوا تصميمها وأبعادها قبل أن تسقط في الحريق العام، وتوج سمرقند بمثل هذه القباب، ونشر هذا الطراز بين الهند وروسيا، حتى إنك لتراه سائداً من تاج محل إلى الميدان الأحمر. ولما عاد من الهند أحضر معه الفنانين والصناع المهرة: فأقاموا له في ثلاثة أشهر مسجداً ضخماً هو "مسجد الملك" له بوابة ارتفاعها مائة قدم، وسقف مرفوع على 480 عموداً من الحجر. وشيد لأخته "تشوشوك بيكا" ضريحاً لتدفن فيه، أصبح تحفة العمارة في عصره (44). وعندما أمر ببناء مسجد تخليداً لذكرى زوجته الأثيرة لديه، بيبى خاتون، أشرف على البناء بنفسه، وألقى باللحوم إلى العمال في الحفائر، ونفح الصناع المهرة المجتهدين بالنقود، وحثهم أو أجبرهم على العمل ليل نهار، حتى أقبل الشتاء وتوقف البناء، وأخمدت حماسته.
وأنجز خلفاؤه فناً أكثر نضجاً. ففي "مشهد" على الطريق بين طهران وسمرقند استخدمت "جوهر شاد" زوجة "شاه رخ" المغامرة، المهندس المعماري قوام الدين في بناء المسجد الذي يحمل اسمها (1418)، وهو أروع نتاج الهندسة الإسلامية الفارسية وأغناه بالألوان(45). وفيه تحيط المآذن المزودة بالفوانيس الرائعة بالضريح وكأنها تحرسه، وتؤدي أربعة مداخل فخمة إلى فناء رئيسي، كسبت واجهة كل منها بآجر من الخزف المزخرف، "لا مثيل لها من قبل ومن بعد"(46) - تحفة الزمان - تتحدى اللون في مائة شكل من الزخرفة العربية "الأرابسك" والرسوم الهندسية والحركات الزهرية والخط الكوفي الفخم، وأضفت شمس فارس على هذا مزيداً من البريق والتألق. وفوق الجزء الجنوبي الغربي من الرواق ذي الأعمدة المؤدى إلى حرم المسجد ارتفعت مئذنة من الآجر الأزرق تناطح السماء، وعلى الباب بحروف بيضاء على أرضية زرقاء نقش إهداء الملكة، وهو إهداء يفيض فخراً وتقى:
إن عظمتها العريقة في المجد، شمس سماء الطهارة والعفة....
جوهر شاد، خلد الله عظمتها وأدام طهارتها ! من مالها الخاص،
ولخبر آخرتها، ومن أجل اليوم الذي يحاسب فيه المرء على
ما قدمت يداه، تقرباً إلى الله وشكراً له سبحانه.. ..شيدت
هذا المسجد الجامع العظيم، هذا البيت المقدس، في عهد السلطان
المعظم، سيد الحكام، والد نائب الملك، شاه رخ أدام الله
ملكه وإمبراطوريته ، وزاد على الأرض صلاحه وعدله
وكرمه(47).
ولم يكن مسجد جوهر شاد إلا واحداً من جملة مبان جعلت من مشهد رومه "المذهب الشيعي"، وهناك على مدى ثلاثين جيلاً، شيد أتباع الإمام الرضا مجموعة كبيرة من العمائر فخامتها بالألباب، ذوات مآذن جميلة وقباب فاخرة، ومداخل كسيت واجهاتها بالآجر اللامع أو بصفائح الفضة أو الذهب، وساحات تعكس فسيفساءها الزرقاء والبيضاء أو خزفها المزخرف أشعة الشمس. وهنا في هذا المنظر العريض الخلاب بأشكاله وألوانه، استخدم الفن الفارسي كل سحره ليمجد أحد أولياء الله الصالحين ويرهب الحاج الزائر حتى يعمر قلبه بالتقوى والإيمان.
ومن أذربيجان إلى أفغانستان ارتفع في هذا العصر في أرض الإسلام ألف مسجد : ذلك أن بيوت العبادة لها من القيمة الكبيرة لدى الإنسان ما لفاكهة الأرض، ولكن عندنا أهل الغرب المحصورين في خلايا العقل، لا تعني هذه الأضرحة إلا أسماء جوفاء، بل قد يزعجنا أن نحيها ونكرمها بتلك الانحناءات الجافة المقتضبة. وماذا يعنينا أن جوهر شاد قد حصلت لرفاتها الطاهرة على مقبرة جميلة في هراه، وأن شيراز جددت عمارة مسجدها الجامع في القرن الرابع عشر، وأن يزد وأصفهان قد أضافتا محرابين فاخرين إلى مسجدي الجمعة فيهما؟ الحق أننا بعيدون جداً، من حيث الزمان والمكان والتفكير، إلى حد لا نشعر معه بهذه العظمة والجلال، كما أن هؤلاء الذين يقيمون الصلاة في تلك المساجد لا يستهويهم كثيراً اجتراءاتنا القوطية أو الصور الحسية في عصر النهضة، على أنه جدير بنا مع ذلك أن نتأثر ونحن وقوف على أطلال الجامع الأزرق في تبريز (1437-1467) ونستعيد في الذاكرة الفخامة التي اشتهر بها يوماً خزفه الأزرق المزخرف وزخرفته العربية الذهبية، كما لا يغيب عن أذهاننا أن محمد الثاني وبايزيد الثاني شيدا في القسطنطينية (1463-1497) مساجد تكاد تنافس عظمة كنيسة أياصوفيا. وقد اقتبس العثمانيون التصميمات البيزنطية والأبواب الفارسية والقباب الأرمينية وأفكار الزخرفة الصينية، ليشكلوا مساجدهم في بروسه ونيقيا ونيقوميديا وقونيه. لقد كان الفن الإسلامي لا يزال في أوجه في هندسة العمارة على الأقل.
وثمة فن واحد فحسب استطاع أن ينهض وبصمد أمام فن العمارة في الإسلام: (كما صمد داود أمام جوليات - التوراة، صموئيل الأول، الإصحاح 17 : 4 ، 49 ). فربما حظي الخطاطون ورسامو المنمنمات الصابرون الذين زخرفوا الكتب بأصغر وأدق زخارف وصور وخطوط رمزية بالفرشاة أو القلم - ربما حظي هؤلاء بنصيب من التكريم والإجلال أكثر مما حظي به بناة المساجد. وقد رسمت صور الأشخاص، ولم يبق منها إلا قليل. وامتثل العثمانيون علانية لتعاليم الكتاب المقدس والقرآن في تحريم نحت الصور الشخصية، ولكن محمد الثاني استقدم جنتيل بلليني من البندقية إلى القسطنطينية (1480) ليرسم صورته، وهي المعلقة الآن في المتحف الوطني في لندن. كما توجد نسخ من صورة زعموا أنها لتيمور. على أن المغول الذين اعتنقوا الإسلام، بصفة عامة، آثروا تقاليد الفن الصيني على المحظورات التي جاءت بها الشريعة الإسلامية. فأدخلوا من الصين على الزخرفة الفارسية التنين والعنقاء وأشكال السحاب وهالات القداسة والوجوه الشبيهة بالأقمار، وزاوجوا بينها، بطريقة خلاقة، وبين الأساليب الفارسية في اللون الشفاف والخط الخالص. وكانت الأساليب المختلطة متماثلة إلى حد بعيد، فإن رسامي المنمنمات الصينيين والفرس، على حد سواء، رسموا لطبقة الأرستقراطيين الذين يحتمل أن ذوقهم كان رفيعاً جداً، والأرجح أنهم حاولوا إرضاء الخيال والحواس أكثر من تمثيل الأشكال الموضوعية.
وكانت المراكز العظمى للزخرفة الإسلامية في هذا العصر هي تبريز وشيراز، هراة. ويحتمل أنه قد جاء من تبريز في عهد الأيلخانات، للورقات الخمس والخمسون من كتاب "شاه نامه"، (كتاب الملوك للفردوسي) - وهي من عمل رسامين مختلفين في القرن الرابع عشر. ولكن رسم المنمنمات الفارسية بلغ الذروة في هراة على عهد التيموريين، وقد استخدم شاه رخ طائفة كبيرة من الفنانين، وأسس ابنه بيسنقر ميرزا كلية خاصة بالخط والمنمنمات. ومن مدرسة هراة هذه جاءت الشاهنامة (1429) وهي معجزة اللون البراق والجمال الدافق، وهي الآن محفوظة بعناية في مكتبة قصر جلستان في طهران، وتكاد لا يمسها أحد إلا إجلالاً وتعظيماً. إن رؤيتها لأول مرة أشبه شيء باكتشاف قصائد كيتس (الشاعر الإنجليزي Keats).
وكان كمال الدين بهزاد، هو كيتس الزخرفة الحقيقي أو رافائيل الشرق. لقد عركته تجارب الحياة، وويلات الحرب وتقلباتها، فعكس هذا كله بالفن، ولد بهزاد في هراة حوالي سنة 1440، ودرس في تبريز، ثم عاد إلى هراة ليرسم للسلطان حسين بن بيقرة، ووزيره المتعدد الجوانب (شاعر وموسيقي ومصور) مير على شيرنوائي. وعندما أصبحت هراة مركزاً للأوزبك ولحملات المصورين، قصد بهزاد ثانية إلى تبريز. وكان من بين أوائل المصورين الفرس الذين وقعوا على أعمالهم، ولكن بقايا فنه قليلة فعلاً ومتباعدة. وثمة منمنمتان في دار الكتب المصرية بالقاهرة تمثلان "بستان سعدي" وتعرضان حلقة لبعض رجال الدين يتدارسون فيها أسراره. وتحمل المخطوطة تاريخ سنة 1489، أما العبارة المكتوبة في نهايتها فتقول "رسمها العبد المذنب بهزاد". ويضم متحف فرير في واشنطن صورة "شاب يرسم"، وهي نسخة منقولة عن جنتيل بلليني وقعها بهزاد، وفيها تكشف الأنامل الرقيقة عن الفنانين الرسام والمرسوم كليهما. وليس من المحقق كثيراً أنه هو الذي رسم المنمنمات الموجودة في المتحف البريطاني؛ وهي نسخة مخطوطة "المنظومات الخمس" للشاعر نظامي، وفي نفس الخزانة توجد مخطوطة "ظفر نامه" أي سجل انتصارات تيمور. ومن العسير أن تفسير هذه البقايا شهرة بهزاد المنقطعة النظير. إنها تنم على إدراك حسي للأشخاص والأشياء، وعلى حرارة اللون ومداه، وعلى حيوية في التنفيذ تشملها جميعاً دقة رقيقة في التخطيط. ولكنها لا تكاد توازن بالمنمنمات التي رسمت لدوق بري Berry، قبل ذلك بقرن من الزمان تقريباً، ومع ذلك فإن معاصري بهزاد أحسوا بأنه كان قد أحدث انقلاباً في الزخرفة بنماذجه الأصلية في التأليف، ومناظره الطبيعية الزاهية وصور شخوصه المفصلة بعناية والتي تكاد تقفز إلى الحياة. وعنه قال المؤرخ الفارسي خواندمير الذي كان يقارب الخمسين من العمر حين مات بهزاد (حوالي 1523)، ربما بدافع التحيز لصداقته له: "إن براعته في التصوير والتصميم قد طمست ذكرى غيره من مصوري العالم. إن أنامله الموهوبة بمزايا خارقة محت صور سائر الفنانين من بني آدم"(48). وجدير بنا أن يهذب من ثقتنا أن نفكر ملياً في أن هذا قد كتب قبل يرسم ليوناردو دافنسي "العشاء الأخير" ويرسم ميكل أنجيلو "سقف كنيسة سستين"، وقبل أن يرسم رافائيل "غرف الفاتيكان:". ومن المحتمل أن خواندمير لم يكن قد سمع بأسمائهم قط.
وانحط فن الخزف في هذه الحقبة عما كان عليه في عهد سلاجقة الري وكاشان. أما مدينة الري فقد تركتها الزلازل وغارات المغول أثراً بعد عين، وأما كاشان فقد خصصت معظم أفرانها لصناعة الطوب. على أن مراكز جديدة للخزف قامت في سلطانية ويزد وتبريز وهراة وأصفهان وشيراز وسمرقند، وكان الخزف المزخرف الفسيفسائي آنذاك هو الإنتاج المفضل: فصنعت بلاطات صغيرة من الخزف، رسمت كل منها بلون معدني واحد، وطليت فأصبحت ذات بريق يتطلب أشد العناية لبقائه. وحين كان حماة الفن في يسر وثراء استخدم البناءون الفرس هذا الخزف المزخرف، لا للمحاريب والزخرفة فحسب، بل استخدموه كذلك في تغطية سطوح كبيرة من أبواب المساجد أو جدرانها، وثمة نموذج أخاذ في محراب مسجد بابا قاسم (حوالي 1354) في متحف متروبوليتان للفن في نيويورك.
واحتفظ صناع المعادن في الإسلام بمهارتهم، فصنعوا الأبواب والثريات البرونزية للمساجد من بخاري إلى المغرب (مراكش)، ولو أن شيئاً منها لم يضارع تماماً "أبواب الجنة" التي صنعها جيبر Ghiberti (1401- 1452) في بيت المعمودية بفلورنسه، وقد صنعوا أحسن أسلحة العصر- الخوذات المخروطية الشكل لكي تجعل الضربات الهاوية تنحرف، والدروع من الحديد البراق مطعمة بالفضة والذهب والسيوف المرصعة بالنقوش الذهبية أو الأزهار المصنوعة من الذهب. كما صنعوا النقود الجميلة، كما صنعوا الرسوم النافرة أو الميداليات الكبيرة مثل تلك التي عليها صورة جانبية لمحمد الفاتح البدين القصير، وشمعدانات برونزية كبيرة حفر عليها الخط الكوفي الفاخر أو الأشكال الزهرية، كما صبر وزينوا المباخر ومحفظة الكتابة والمرايا وعلب الجواهر والمجمرات والقوارير والأباريق والطشوت والصواني، بل حتى المقص والفرجار كانوا يزينونها بالنقوش بطريقة فنية. ومثل هذا التفوق مشهود به للفنانين والصناع المهرة المسلمين الذين اشتغلوا بقطع الجواهر أو المعادن النفيسة، أو الذين حفروا العاج أو الخشب أو رصعوه. والنسيج الباقي للآن عبارة عن قطع أو أجزاء صغيرة. ولكن المنمنمات تصور لنا تشكيلة واسعة من المنتجات الجميلة من الكتان الرفيع في القاهرة إلى الخيام الحريرية في سمرقند. والحق أن الذي أثار بسرعة حسد أوربا، هم أولئك المزخرفون الذين صمموا الأنماط والطرز المعقدة ولكنها مع ذلك منطقية: القماش المقصب (البروكار) والقطيفة والحرائر، للمغول والتيموريين، بل حتى البسط التركية. وفيما يسمونه الفنون الصغرى قاد الإسلام العالم.