قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 29
صفحة رقم : 8773
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> توحيد روسيا -> الشعب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل التاسع والعشرون: توحيد روسيا 1300- 1584
الشعب
في سنة 1300 لم يكن لروسيا وجود. وكان معظم القسم الشمالي يتبع ثلاث مدن دولة تحكم نفسها بنفسها، وهي نوفجرد Novgorod، فياتكا Viatka، بسكوف Pskov. وكانت المقاطعات الغربية والجنوبية خاضعة للتوانيا. أما في الشرق فأن إمارات موسكو وريازان وسوزدال ونجنى نفجرد وتفر Tver، ادعت كل منها لنفسها حق السيادة، ولم يربطها بعضها ببعض إلا اشتراكها في الخضوع "للقبيلة الذهبية". وقد اتخذت "القبيلة الذهبية Golden Horde" هذه التسمية من اللفظة التركية أوردو Ordu ومعناها "المخيم"، أما وصفها "بالذهبية" فيرجع إلى الخيمة ذات القبة، والتي كانت موشاة بغطاء من الذهب، وكانت مقر قيادة "باتو الرائع" حفيد جانكيزخان، وبعد أن تم لهؤلاء الآسيويين الغزاة فتح جنوب روسيا وغرب آسيا، شيدوا عاصمتهم في "سراي" Sarai على أحد فروع نهر الفولجا الأدنى، وهناك تقاضوا جزية سنوية من الأمراء الروس. وكانت "القبيلة" موزعة بين الزراعة وارعي المتنقل، وكانت الأسرات الحاكمة من المغول، أما بقية السكان فكان معظمهم من الأتراك، وقد أطلق على القبيلة اسم "تتار" نسبة إلى قبائل "تاتا Ta-ta" من صحراء جوبى، وهي قبائل بدأت في القرن التاسع الزحف المغولي نحو الغرب، وكانت النتائج الأساسية التي ترتبت على طول خضوع روسيا "للقبيلة" نتائج اجتماعية: وهي استبداد أدواق موسكو، وولاء الأهالي ولاء ذليلاً لأمرائهم، والمركز الوضيع للمرأة في المجتمع، وتنظيم حكومة موسكو وفقاً لأساليب التتار من النواحي العسكرية والمالية والقضائية. وقد عاقت سيطرة التتار محاولة روسيا لمدة قرنين من الزمان أن تصبح دولة أوربية غربية.
وواجه الشعب الروسي أشق الظروف بعدم اكتراث رواقي صامت، اللهم إلا أنهم في غمرة آلامهم وأحزانهم، وجدوا في أنفسهم الشجاعة لممارسة الغناء. ونعتهم أعداؤهم بالخشونة والقسوة والخيانة والخبث والعنف(1). ولاشك أن الكد والنصب، وقسوة المناخ، كل أولئك أكسبهم صلابة، على أن ما تميزوا به من الصبر وروح المرح والمودة وكرم الضيافة، كان غيه تعويض كبير لهم، إلى حد أنهم مالوا إلى الاعتقاد بأنهم "أكثر إنسانية"، وأنهم "ملح الأرض" (إشارة إلى ما جاء في إنجيل متى :5-13): لقد أدخلوا قسرا إلى المدنية بقوانين همجية وعقوبات رهيبة، من ذلك - كما روى لنا- أن المرأة التي تقتل زوجها كانت تدفن حية حتى عنقها، وأن السحرة والمشعوذين كانوا يحرقون أحياء في قفص من حديد، وأن مزيفي النقود كان يصب في حلوقهم معدن مصهور(2). وكأي شعب يقاوم البرد كان الروس يدمنون المشروبات الروحية إلى حد فقدان الوعي أحياناً، كما كانوا يضيفون إلى طعامهم التوابل التماساً للدفء. واستمتعوا بالحمام الساخن، وكانوا يستحمون أكثر من معظم الأوربيين، وكان من أوامر الدين عندهم أن تخفي المرأة مفاتن جسمها وشعرها، كما دمغ الدين النساء بأنهن أولياء الشيطان، ومع دلك تساوين بالرجال أمام القانون، وكثيراً ما شاركن في تسليتهم أو في الرقص، وهو ما كان محرماً باعتباره خطيئة. وكانت الكنيسة الروسية تحض بشدة على مكارم الأخلاق، وتحرم عقد الزيجات واقتراب الرجل من المرأة في أيام الصوم الكبير. ومن ثم كانت صرامة الشريعة حائلا دون نزوع الشعب إلى الإفراط في الانغماس فيما يكاد أن يكون المسرة الوحيدة التي تركت له، وكان الوالدان هما اللذان يدبران شئون الزواج، وكان يتم في سن مبكرة، فكانت البنت في سن الثانية عشرة والولد في سن الرابعة عشرة يعتبران صالحين للزواج. وكانت مراسم العرس معقدة تصحبها الأشياء الرمزية القديمة والأفراح التي كان مطلوباً من العروس في أثنائها أن تلزم الصمت الموسوم بالحياء، ولسوف تعوض عن ذلك فيما بعد. وكان ينتظر منها أن تقدم إلى والدة زوجها غداة العرس ما يثبت أنه بنى بعذراء، وكان الحريم يبقين في طابق أعلى بعيداً عن الرجال، وكانت سلطة الرجل في الأسرة مطلقة مثلها في ذلك مثل سلطة القيصر في الدولة.
وسما الورع عند الروس بالفقر حتى جعل منه سبيلاً إلى الجنة. وكان كل بيت مهما صغر أو كبر يضم غرفة مزدانة بالأيقونات أو الصور المقدسة، بمثابة مكان للصلاة من حين لآخر. وكان الزائر الصالح يحيى هذه الصور المقدسة قبل التسليم على أهل البيت. وكانت النساء الصالحات يحملن مسابح أينما ذهبن. وكانت الابتهالات تتلى بمثابة تعاويذ ورقى سحرية، ومن ثم- كما يروى كتاب مشهور من القرن السادس عشر اسمه "كتاب الأسرة Domostroi " فإن ابتهالات معينة تكرر في اليوم 600مرة لمدة ثلاث سنوات، قد تؤدى إلى تجسد الآب والابن والروح القدس في شخص المتضرع (3). ومع ذلك كان هناك كثير من المظاهر الجميلة في هذه الديانة الممتلئة بالخرافات. فكان الناس في صبيحة يوم عيد الفصح يحيون بعضهم بعضاً بهذه الألفاظ البهيجة " المسيح قام". وفي ظل هذا الأمل هان أمر الموت إلى حد ما. فإذا حانت منية الرجل الطيب الوقور سدد ديونه وأعفى المدينين له، وأعتق واحداً أو أكثر من أرقائه، ووزع الصدقات على الفقراء والكنيسة، ولفظ الأخيرة وكله أمل وثقة في الدار الآخرة.
وعملت الكنيسة الروسية على تقوية الورع عن طريق فن العمارة والرسوم الحائطية والأيقونات والعظات القوية وحفلات التنويم المغناطيسي، والترانيم التي يشترك في إنشادها عدد كبير من المرتلين، والتي كانت تبدو وكأنها تخرج من أخفى أعماق النفس أو المعدة، وكانت الكنيسة لساناً قوياً ناطقاً باسم الدولة، وتثاب على الخدمات التي تؤديها في تعليم الآداب والأخلاق وتقويم السلوك وتوطيد دعائم النظام الاجتماعي بأوفى مثوبة. وكانت الأديرة كثيرة ضخمة. من ذلك أن "دير الثالوث الأقدس" الذي أسسه القديس سرجيوس في سنة 1335، كان قد جمع في عام 1600 من الأراضي الشاسعة ما يحتاج إلى أكثر من مائة ألف فلاح لزرعها. وفى مقابل ذلك وزعت الأديار الصدقات على الروس، وكان بعضها يطعم 400 شخص في اليوم، وفي إحدى سنوات القحط كان دير فولوكولامسك Volokolamsk يطعم سبعة آلاف شخص يومياً. وكان الرهبان يقطعون على أنفسهم عهداً بالتزام العفة، ولكن الكهنة كانوا يضطرون إلى الزواج. وكان معظم هؤلاء "الآباء" أميين، ولكن الشعب لم يكن يعيب عليهم ذلك. وكان مطارنة موسكو في معظم الأحوال أكثر أهل زمانهم كفاية ومقدرة وعلماً، وكانوا يبذلون ثرواتهم للحفاظ على الدولة، ويوجهون الأمراء على طريق الوحدة الوطنية. وكان سانت ألكسيس هو الحاكم الفعلي لروسيا طوال توليه منصبه (1354-1370). إن الكنيسة الروسية بكل أخطائها التي ربما تكون قد فرضتها عليها مهامها- نقول إن هذه الكنيسة في عصر التكوين والتشكيل هذا، كانت بمثابة العامل الأبرز والأهم في تمدين الشعب الذي صبرته وحشياً مصاعب الحياة وضراوة طبيعة الانسان ذاته.
وحين رفضت الكنيسة الروسية في 1448 اندماج الكنيسة اليونانية مع الكاثوليكية الرومانية في مجلس فلورنسة، أعلنت استقلالها عن البطريرك البيزنطي، وبعد ذلك بسنوات خمس حين سقطت القسطنطينية في يد الأتراك، أصبحت موسكو عاصمة المذهب الأرثوذكسي. وحوالي 1505 كتب راهب متحمس إلى أمير عظيم في موسكو "اعلم الآن أن سلطان المسيحية بأسرها قد آل إليك، لأن روما الأولى وروما الثانية (يقصد روما والقسطنطينية) قد سقطتا، أما الثالثة فهي صامدة، ولن يكون هناك رابعة، لأن إمبراطوريتك المسيحية سوف تدوم إلى الأبد"(4). وكادت الكنيسة أن تكون النصير أو الراعي الوحيد للآداب والفنون، ومن ثم كانت هي التي توجهها. ولم تكن أجود الآداب مدونة. وكانت أغاني الشعب رددتها ألسنة الناس من جيل إلى جيل هي التي تذيع وتمجد قصص حبهم أو أعراسهم أو أحزانهم أو فصولهم أو اعيادهم أو موتاهم، وكان هناك أناشيد مألوفة لقديسين مرموقين وأبطال قدامى ومآثر أسطورية، مثل مآثر سادكو Sadko تاجر نفجرد. وكان المكفوفون والعرج يطوفون بالقرى ينشدون مثل هذه الأغاني والأناشيد والتراتيل المقدسة. وكان كل الأدب المكتوب تقريباً مقصوراً على الأديرة، وكان يخدم الأغراض الدينية.
وكان الرهبان هم الذين وصلوا عندئذ برسم الأيقونات إلى فن كامل، فكانوا يأتون بلوحة صغيرة من الخشب، مغطاة بالقماش أحياناً، ينشرون عليها طبقة لزجة ومن ثم يرسمون عليها الصورة ويضعون الألوان، ثم يغطونها بالطلاء ويضعونها في إطار معدني. وكانت الموضوعات تحددها السلطات الدينية، أما الأشكال والسمات فكانت تقتبس من النماذج البيزنطية، وعادوا بها أدراجهم في تطور مستمر عبر فسيفساء القسطنطينية إلى رسوم الاسكندرية الهلينستية. وأحسن أيقونات هذا العصر هي صورة لا يعرف اسم صاحبها تمثل "المسيح يرقى عرش السماء"موجودة في كاتدرائية صعود العذراء في موسكو، وصورة دخول المسيح إلى اورشليم- وهي من عمل مدرسة نفجرد، والثالوث المقدس للراهب أندريه روبليوف في دير الثالوث المقدس. ورسم روبليوف وأستاذه تيوفانس االاغريقي، لوحات جصية جدارية تجمع بين الطراز البيزنطى الجريكو في فلاديمير وموسكو ونفجرد، ولكن الزمن أعمل أثره فيها.
إن كل حاكم كان يبرز عظمته ويريح ضميره ببناء كنيسة أو دير، أو تخصيص الأوقاف والهبات لهذا أو تلك. وقد انضمت الأشكال والحوافز من أرمينية وفارس والهند والتبت ومنغوليا وإيطاليا واسكنديناوه- انضمت إلى التراث البيزنطي السائد، لتشكل عمارة الكنيسة الروسية، بما فيها من جمال نعدد الوحدات، والقبة المذهبة في الوسط، والقباب البصلية الشكل التي صممت بطريقة رائعة لمنع تراكم مياه المطر والثلوج. وبعد سقوط القسطنطينية وطرد التتار قل اعتماد روسيا على الفن البيزنطي والفن الشرقي، وجاء التأثير من الغرب ليعدل من الطراز السلافي. وفي سنة 1472 راود الأمل إيفان الثالث في أن يرث حقوق الأباطرة البيزنطيين وألقابهم، ومن ثم تزوج" زو باليولوغوس Zoe" ابنه أخي آخر حكام الامبراطورية الشرقية، وكانت قد نشأت في روما وتشربت شيئاً من بواكير عصر النهضة، وقد جلبت معها بعض العلماء الاغريق، وأظهرت إيفان على الفن الإيطالي، وربما كان بإيحاء منها إرساله لأول بعثة روسية إلى الغرب (1474)، وقد أصدر إليها توجيهاته بالحصول على الفنانين الايطاليين لموسكو. وقبل الدعوة ريودلفو فيرافانتي البولوني الذي كان يلقب بأرسطو بسبب تعدد مواهبه، ثم تصيد المبعوثون الروس بعد ذلك بييرو سولاريو، والفيزيونوفي وعدة فنانين آخرين، وهؤلاء الايطاليون هم الذين أعادوا بناء الكرملين مع معاونين وعمال من الروس.
وكان يوري دلجوروكى Vuri Delgoruki قد أسس موسكو سنة 1156 بأن أقام سوراً حول داره (فيللا)، التي كانت تقع في موقع استراتيجي عند التقاء نهرين، فكان هذا الحصن "Kreml" أول شكل للكرملين. واتسع مع الزمن هذا النطاق، وقامت الكنائس والقصور داخل سياج مرصوص من البلوط، ونذر إيفان الثالث نفسه لتعديل هذه المجموعة بأكملها. ومن الواضح أن فييرافانتي Fieravante هو الذي أعاد بناء كاتدرائية صعود العذراء القديمة في الكرملين (1475-1479) حيث توج القياصرة فيما بعد وبقى الطراز بيزنطيا مع زخرفة إيطالية. وأضاف مهندسون معماريون من بسكوت داخل نطاق الكرملين "كاتدرائية عيد البشارة" الصغيرة (1484-1489). ثم أقام ألفزيو Alevisio في الكرملين كاتدرائية رئيس الملائكة (1505-1509). وفيما بين 1485-1508 أعاد سولاريو وآخرون تسوير المنطقة بالآجر القرنفلي على طراز قلعة سفورزسكو في ميلان (5). وهكذا- ترى أنه من وسط روسيا الزاخر المعابد، ومن قلب هذه الوحدة المتسلطة التي تركزت فيها السلطتان الدنيوية والدينية، وسط أمراء موسكو العظام ومطارنتها حكمهم ونفوذهم على النبلاء والتجار والفلاحين، ووضعوا بالدماء والعظام وبالتقي والورع أسس واحدة من اقوى الامبراطوريات في العالم.
أمراء موسكو
ظلت موسكو مغمورة حتى عهد دانيال اسكندروفتش في أواخر القرن الثالث عشر, ووسعت رقعتها الداخلية حتى جعلت منها إمارة صغيرة, ويعزو الادراك التاريخي المتأخر (6) - نمو موسكو إلى موقعها على نهر موسكو الصالح للملاحة الذي كان متصلا عن طريق ممر بري قصير, بنهر الفولجا شرقاً، وأنهار أوكا والدون والدنيبر جنوبا و غرباً. وطمع يوري دانيال فتش بن دانيال أمير موسكو في الاستيلاء على إمارة سوزدال المجاورة، وكانت عاصمتها فلاديمير غنية نسبياً، كما طمع في ذلك ميكائيل أمير تفر Tver. واقتتل الفريقان للحصول على الجائزة فكانت الغلبة لموسكو، وقتل ميكائيل وضم إلى قائمة القديسين. ونمت موسكو، واتخذ إيفان الأول، أخو يوري لقبي أمير موسكو العظيم، ودوق فلاديمير العظيم.
وكان إيفان الأول، بوصفه جامعاً للجزية الروسية لحساب خان التتار، يتقاضى أكثر مما كان يرسله أو يحوله، ومن ثم أثرى وازدهر بطريقة شريرة مؤذية. وجعله جشعة للمال ينبز بلقب "Kalita" ومعناه "حقيبة المال". ولكنه بذلك حمى الامارات من حملات التتار لمدة ثلاث عشرة سنة نعمت فيها بالهدوء. وتوفي إيفان سنة 1341 على أنه راهب حليق شعر الرأس، وأطلقوا من حوله بخور القداسة. وورث عنه ابنه سيميون المتكبر ميله إلى جمع الضرائب. ولما كان يدعى السلطان على كل الولايات فإنه أطلق على نفسه اسم الأمير الأعظم على كل الروس، ولكن هذا لم يحل بينه وبين الموت بالطاعون (1353)، وكان إيفان الثاني حاكماً وديعاً يؤثر السلام، وفي عهده اجتاحت روسيا حرب قتل فيها الأخ أخاه. وتميز ابنه ديمتري بكل الصفات التي تتطلبها الحرب والقتال، فهزم كل منافس له وتحدى خان التتار. وفي 1380 جميع ماماي خان جيشاً من التتار والمرتزقة الجنوبيين وغيرهم من المتعطلين المتشردين، وتقدم به نحو موسكو. وقابل ديمتري وحلفاؤه الروس هذا الجحفل عند كوليكوفو Kulikovo قرب نهر الدون وأنزلوا به الهزيمة (1380)، وفاز بلقب دونسكوى Donskoi وعاود التتار الكرة بعد عامين بمائة ألف رجل، ولكن الروس، وقد غرتهم وأرهقتهم نشوة النصر، لم يستطيعوا أن يواجهوا التتار بقوة مماثلة. واستولى التتار على موسكو، وذبحوا أربعة عشرة ألفاً من السكان وأحرقوا المدينة برمتها. وعقد فاسيلى الأول، ابن ديمتري، صلحاً مع التتار، وضم نجنى نفجرد، وأرغم نوفجورود وفياتكا على قبوله أميراً عليها.
واقتبس أمراء موسكو العظام أساليب الطغيان والاستبداد عند التتار، وربما كان هذا بديلا عن فوضى الجهل، وأدارت دفة الحكم على الأسلوب البيزنطي بيروقراطية في ظل حكومة فردية مطلقة طابعها العنف والدهاء، خاضعة لمجلس من أبناء الطبقة العليا ذوى الامتيازات (Boyars) الذين كانوا يقدمون مشورتهم وخدماتهم للأمير، وكانوا في نفس الوقت قادة الجيش وحكام الأقاليم والقائمين على التنظيم، والحماة والمستغلين للفلاحين شبه الأحرار الذين كانوا يفلحون الأرض. وهاجر مستعمرون مغامرون الى الأقاليم غير المستقرة وجففوا المستنقعات وأخصبوا الأرض بحرق الغابات والأدغال واستهلكوا الأرض نتيجة اسرافهم وقصر نظرهم في فلحها، ثم انصرفوا عنها ضرباً في الأرض حتى وصلوا البحر الأبيض وجبال الأورال، واتخذوا سبيلهم سرباً إلى سيبريا، وفي السهول المترامية الأطراف بلا نهاية كانت المدن كثيرة ولكنها صغيرة، وكانت البيوت مبنية من الخشب والطين، وكان مقدراً لها أن تحترق وتنقض على مدى عشرين سنة على الأكثر. وكانت الطرق غير معبدة وأقل إزعاجاً في الشتاء حيث كانت تكسوها الثلوج وتملؤها الزحافات والأحذية العالية. وآثر التجار الأنهار على الطرق، ونقلوا تجارتهم في بطئ على الماء أو الجليد بين الشمال والجنوب، مع بيزنطة والمسلمين وعصبة الهانسا (وقد تكونت من بعض المدن الحرة في شمال ألمانيا والدول المجاورة، تكونت في العصور الوسطى بقصد التجارة). وربما كانت هذه التجارة المنتشرة هي التي تغلبت على النزعة الفردية لدى الأمراء وفرضت توحيد روسيا. وكان فاسيلى الثاني (1425-1462) الملقب باسم تمنى Temny - الأعمى- لأن أعداءه فقأوا عينيه - هو الذي قضى على تمرد العصاة وألزمهم الطاعة، عن طريق التعذيب وبتر الأطراف والجلد، وترك لابنه روسيا قوية إلى درجة تضع معها نهاية لمخازي حكم التتار.
وصار إيفان الثالث هو (العظيم)، لأنه هو الذي أنجز هذه المهمة، ووحد روسيا. لقد خلق للشدائد، وكان مجرداً من المبادئ الخلقية، لا يتورع عن شىء، حاد الذهن ماكراً حذراً عنيداً قاسياً، وكان يقود جيوشه إلى النصر على مسافات بعيدة، وهو مستقر في مكانه في الكرملين، وكان يعاقب على العصيان أو العجز والقصور عقاباً وحشياً، بأن يعذب أو يضرب بالسياط أو يبتر أطراف حتى أعضاء المجلس، أو يقطع رأس طبيب أخفق في علاج ابنه، وهكذا بمثل هذه الصرامة كان يسيطر على حاشيته، حتى أن النساء ليغمى عليهن لمجرد نظرة منه. وأطلقت عليه روسيا اسم "الرهيب" حتى التقت بحفيده.
وكانت إمارة نفجرد أيسر فتوحاته، وكان ينظر في تطلع جشع إلى هذه السوق المزدهرة الخاضعة للضريبة، ولقد حرضه تجار موسكو على القضاء على منافسيهم في الشمال (7). وسيطر الأمير العظيم على السهول الممتدة بين موسكو ونفجرد، حيث كانت الجمهورية التجارية تشتري المواد الغذائية اللازمة لها وتبيع بضاعتها، ولم يكن على إيفان إلا أن يغلق هذا المخزن المورد للحبوب وتلك السوق، لكى تقع المدينة الدولة في ضائقة وتفلس، أو تخضع وتستسلم. وبعد ثمان سنوات توالت فيها الحرب والهدنة، تنازلت الجمهورية عن استقلالها (1478) ونقل 7000 من صفوة سكانها إلى سوزدال، وطردت عصبة الهانسا، وورث تجار موسكو أسواق نفجرد، وورث أميرهم دخلها.
وما أن ضم إيفان مستعمرات الجمهورية المندثرة حتى بسط حكمه على فنلندة والمنطقة المتجمدة والأورال. وخضعت بسكوف في الوقت المناسب حفاظاً على الأشكال الجمهورية فيها تحت سيادة الأمير العظيم. وتلمست تفر أسباب الحماية عن طريق التحالف مع لتوانيا، ولكن إيفان سار إلى المدينة بنفسه واستولى عليها دون أن يضرب ضربة واحدة، وتبعتها روستوف Rostov واياروسلافل laroslavl. ولما مات أخوة إيفان رفض أن تؤول مخصصاتهم إلى ورثتهم، وضمها الى ممتلكاته، وانحاز أخ له - أندريه - إلى لتوانيا فقبض عليه واعتقله، ومات أندريه في السجن، فبكى إيفان، ولكنه صادر أملاكه. إن السياسة لا قلب لها.
وبدا أن التحرر من ربقة التتار مستحيل، ولكن ثبت أنه أمر يسير . ذلك أن بقايا الغزاة المغول - الأتراك كانوا قد استقروا في ثلاث جماعات متنافسة متنافرة، وتركزوا في سراى Sarai وقازان Kazan وفي القرم، وكان إيفان يضرب كلا منها بالأخرى حتى وثق أنها لن تتحد ضده. وفي 1480 امتنع إيفان عن دفع الجزية، وقاد خان أحمد جيشاً كبيراً من الفولجا حتى ضفاف نهري أوكا وأوجرا جنوب موسكو. وقاد إيفان جيشاً قوامه 150.000 رجل إلى الضفاف المقابلة، وواجه العدوان بعضهما بعضاً لعدة شهور دون أن تقع بينهما معركة. وتردد إيفان في أن يغامر بعرشه وحياته في رمية واحدة، كما خشى التتار مدفعيته التي أدخل عليها تحسينات. ولما تجمدت الأنهار، ولم تعد تحمى الجيوش بعضها من بعض، أصدر إيفان أوامره بالانسحاب، وبدلا من تعقب الجيش المنسحب، انسحب التتار كذلك، حتى وصلوا إلى سراى (1480)، وكان انتصاراً هائلاً ولكنه مضحك، ومنذ ذلك الحين لم تدفع موسكو جزية إلى التتار. وسمى الأمير العظيم نفسه الحاكم المطلق، أى الذي لا يدفع الجزية لأحد. واستدرج الخانات المتنافسون إلى محاربة بعضهم بعضاً، وهزم أحمد وذبح، وانقضى سلطان المغول في سراى، واندثرت "القبيلة الذهبية".
وبقيت لتوانيا. ولم يطق الأمير العظيم ولا مطران موسكو الصبر على السلام، ما دامت أواكرانيا وكييف وروسيا الغربية تحتفظ بقوة تهدد موسكو دوما، وتدعو الأرثوذكس إلى المسيحية اللاتينية. وزعم إيفان أن ثمة مؤامرة لاغتياله، واتخذ من ذلك ذريعة لشن حرب مقدسة لتخليص المديريات المغرر بها (1492). فما كان من أمراء لتوانيا الذين استشعروا القلق في ظل اتحاد الرومان الكاثوليك البولندي إلا أن فتحوا أبوابهم أمام جيوش إيفان. وتوقف الاسكندر أمير لتوانيا العظيم في فدروشا Vedrosha وهزم (1500). ورتب البابا الاسكندر السادس هدنة لمدة ست سنوات. وفي نفس الوقت احتفظت موسكو بالأقاليم التي كسبتها - إلى الغرب من نهر سوز Sozch بما في ذلك شر نيجوف Chernigov حتى سمولنسك تقريباً وكان إيفان الثالث قد بلغ آنذاك الثالثة والستين فترك تخليص البقية لحفدته.
إن حكم إيفان الذي دام ثلاثا وأربعين سنة يعدل في أهميته أى حكم آخر في تاريخ روسيا قبل القرن العشرين. وسواء كان مدفوعاً بشهوة المال وحسب السيطرة أو بإيمانه الراسخ بأن أمن الروس وازهارهم يتطلبان توحيد روسيا، فإن إيفان الثالث حقق لبلده ما كان يؤيده لويس الحادى عشر لفرنسا، وهنري السابع لانجلترا، وفرديناند وايزابلا، لأسبانيا، والاسكندر السادس للولايات البابوية، ولقد كشف تزامن هذه الأحداث عن تقدم القومية والملكية، الأمر الذي قضى على سلطان البابوية الأسمى فوق الأمم والقوميات. وفقد أبناء الطبقة العليا استقلالهم، وأرسلت الامارات الجزية إلى موسكو، واتخذ إيفان لقب "ملك روسيا بأسرها". ويحتمل أن زوجته الاغريقية أوصته بأن يتخذ كذلك لقب "قيصر"، وهو لقب روماني إغريقي. ولقد اتخذ النسر الامبراطوري المزدوج شعاراً قومياً، وادعى وراثة السلطة السياسية والدينية لبيزنطة الغابرة، واقتبست من بيزنطة نظريات الحكومة وأعيادها ومراسمها، وكذلك فعلت الكنيسة، بوصفها من أدوات الدولة، بعد أن دخلت إلى روسيا المسيحية البيزنطية والأبجدية البيزنطية الاغريقية وأشكال الفن البيزنطي، وبقدر ما كانت بيزنطة شرقية لقربها من آسيا، فإن روسيا التي كانت قد اصطبغت بالصبغة الشرقية بسب حكم التتار لها، أصبحت من وجوه كثيرة مملكة شرقية مغايرة للغرب غريبة عنه غامضة لديه.
إيفان الرهيب 1533-1584
تابع فاسيلي الثالث إيفانوفتش 1505-1533 توحيد روسيا، وضم سمولنسك إلى مملكته، وأرغم إمارتي ريازان ونفجرد- سفرسكى على الاعتراف بسيادته. وقال أحد كتاب الحوليات الروس "ليس سوى الأطفال الرضع هم الذين استطاعوا أن يكفكفوا الدمع، عندما خضعت لحكم فاسيلى (1510) جمهورية بسكوف التي كانت يوماً مزهوة بنفسها". كانت روسيا آنذاك دولة أوربية كبرى. وتبادل فاسيلى الرسائل على قدم المساواة مع مكسيمليان الأول وشارل الخامس وسليمان القانوني وليو العاشر. وعندما حاول بعض أبناء الأرستقراطية أن يحدوا من استبداده كبح جماحهم بكلمة احتقار واحدة هي "فلاحون". ثم قطع رأس أحد النبلاء. ولما لم ينجب من زوجته أولاداً، فإنه طلقها وتزوج من هيلينا جلنسكى، وهي سيدة مصقولة بارعة مستبدة. وبعد موته صارت وصية على ابنها إيفان الرابع فاسيليفتش البالغ من العمر ثلاث سنوات. وعند موتها عاود أعضاء المجلس أبناء الطبقة العليا شغبهم، وتولت أحزابهم المتناحرة زمام الحكم تباعاً، ونشروا الفوضى والخلل في المدن نتيجة عنفهم، واستنزفوا في الحرب الأهلية دماء الفلاحين الروس البؤساء العاجزين.
وفي غمرة هذه المنازعات كاد الملك الصغير "سيد روسيا بأسرها" أن يكون مهملاً متجاهلاً بل محروماً بائساً في بعض الأحيان. ولما كان يبصر بضروب الوحشية في كل مكان من حوله، فإنه حسبها أسلوباً مقبولاً في السلوك، ومن ثم اختار أعنف ضروب الرياضة، ونشأ شاباً نكدا متقلب المزاج متشككاً. وفجأة، عندما كان بعد ولداً في الثالثة عشرة من عمره، (1544) ألقى إلى كلابه أندريه شويبسكى زعيم أحد أحزاب النبلاء، وتولى زمام الأمور في الدولة، وبعد ثلاث سنوات قام مطران موسكو بتتويجه قيصراً، ثم أمر القيصر بأن ترسل إليه نخبة من العذارى النبيلات من مختلف أنحاء المملكة، واختار منهن أنستاسيا رومانوفا وتزوج منها، ومن لقب أسرتها سوف يتحدد عما قريب لقب أسرة حاكمة.
وفي 1550 دعا أول جمعية وطنية من جميع أنحاء روسيا، واعترف أمامها بجميع أخطائه في شبابه، ووعد بإقامة حكومة عادلة رحيمة. ولعله تحت تأثير الاصلاح في ألمانيا واسكنديناوه، درست الجمعية اقتراحاً بمصادرة أملاك الكنيسة لتدعيم الدولة. ورفض هذا الاقتراح، ولكن اتخذ قرار آخر متصل به، بمقتضاه استردت كل الأراضي المنقولة للكنيسة وغير الخاضعة للحجز، كما ألغيت كل الهبات التي منحت للكنيسة أيام كان إيفان قاصراً. ولم يعد للأديار حق حيازة أية ممتلكات دون موفقة القيصر. وهدأ بال رجال الدين نوعاً ما عندما عين إيفان الكاهن سلفستر مرشداً روحياً له، واتخذ منه ومن ألكسيس أداشيف وزيرين له، وبفضل هذين المعاونين القديرين كان إيفان في سن الحادية والعشرين سيداً على مملكة تمتد من سمولنسك إلى الأورال، ومن المحيط المتجمد إلى بحر قزوين تقريباً. وكان همه الأول تقوية الجيش، والموازنة بين قوى النبلاء المعادين له، عن طريق هيئتين مسئولتين أمامه: فرسان القوزاق ومشاة سترلتس Strieltsi ، مزودة بالهركوبة (Harquebus) - نوع من الأسلحة النارية اخترع في القرن الخامس عشر. ونشأ القوزاق في هذا القرن من طبقة الفلاحين الذين كان مقامهم في جنوب روسيا بين المسلمين والمسكوف يقتضيهم أن يكونوا دوما على أهبة الاستعداد للقتال عند أول صيحة، كما هيأ لهم فرصاً تتعذر مقاومتها لسلب القوافل التي كانت تنقل التجارة بين الجنوب والشمال. وجموع القوزاق الأصليون هم قوزاق نهر الدون في جنوب شرقي روسيا، وقوزاق زابوروج Zaporogue في الجنوب الغربي، وكانوا جمهوريات شبه مستقلة، ومن الغريب أنه كان يسود بينهم نظام ديموقراطي، حيث كان أرباب البيوت يختارون رئيساً تنفيذياً لجمعية منتخبة. وكانت كل الأرض ملكاً عاماً مشتركاً، ولكنها تؤجر إلى الأسرات بصفة فردية لاستخدامها استخداماً موقوتاً، وكانت الطبقات كلها متساوية أمام القانون (8). واصبح فرسان القوزاق، بسبب اشتهارهم بالشجاعة الهائلة، الدعامة الأولى لإيفان الرابع داخل البلاد وفي الحرب.
وكانت سياسته الخارجية بسيطة، فهو يريد أن تربط روسيا بين بحر البلطيق وبحر قزوين. وكانت كازان واستراخان والقرم لا تزال في قبضة التتار الذين كانوا لا يفتأون يطالبون موسكو بالجزية، ولكن عبثاً. وكان إيفان على يقين من أن أمن روسيا ووحدتها يتطلبان امتلاكها لهذه الأجزاء، والتحكم في نهر الفولجا حتى منابعه. وفي 1552 قاد القيصر الشاب 150.000 رجل إلى أبواب كازان وحاصرها لمدة خمسين يوماً. ولكن المسلمين - وكان عددهم 30.000 - قاوموا وصمدوا في عناد تحدوهم الروح الدينية وهاجموا أعداءهم في غارات متكررة، وعندما أسر نفر منهم وعلقوا على أعواد المشانق أمام الأسوار سدد إخوانهم المدافعون إليهم السهام صائحين: "خير لهؤلاء الأسرى أن يموتوا بأيدي بني وطنهم النظيفة من أن يهلكوا بأيدي المسيحيين الدنسة(9). ولما وهنت عزائم المحاصرين واصابهم القنوط بعد شهر من الاخفاق، أرسل إيفان إلى موسكو في طلب صليب عجيب، فما أن ظهرت هذه الأعجوبة أمام جنوده حتى ثارت حميتهم من جديد، وكان الله يحارب مع الجانبين. وبث مهندس ألماني الألغام في الأسوار فانهارت، واندفع الروس إلى المدينة صائحين "الله معنا"، واعملوا الذبح في كل من لم يباعوا بوصفهم رقيقاً. وروى أن إيفان ذرف الدمع حسرة على المغلوبين قائلاً: "إنهم ليسوا مسيحيين، ولكنهم رجال" وأسكن إيفان فلول المسيحيين في الأطلال. وهتفت روسيا بأنه أول سلافي يستولي على معقل تتري، واحتفلت بالنصر، كما احتفلت فرنسا بصد المسلمين في معركة تور سنة 732. وفي 1554 استولى إيفان على استراخان، وأصبح نهر الفولجا قناة روسية تماماً. وظلت القرم في يد المسلمين حتى 1774. ولكن قوزاق نهر الدون أحنوا رءوسهم آنذاك لحم موسكو. وما أن حرر إيفان حدوده في الشرق حتى ولى شطره متلهفاً نحو الغرب. وكان يراوده حلم تجارة روسية تتدفق غرباً وشمالاً عبر الأنهار الكبرى إلى البلطيق، وكان يحسد غرب أوربا على التوسع الصناعي والتجاري، وكان يلتمس للاقتصاد الروسي منفذاً يربط به نفسه بهذا التوسع. وفي 1553 أرسل تجار لندن سير هبو ولفبي Hugh Willoughlby وريتشارد تشانسلر لايجاد طريق في المنطقة المتجمدة حول اسكنديناوة وصولا إلى الصين، فأبحرا من هاروك Harwich في ثلاث مراكب، وهلك اثنان من الملاحين في الشتاء في لابلند، ولكن تشانسلر وصل إلى الموقع الذي أسماه البريطانيون أركنجلسك، على اسم الملاك ميكائيل، وشق تشانسلر طريقه وسط مئات الأخطار والصعاب إلى موسكو، فعقد معه إيفان، ثم مع أنطوني جنكنسني فيما بعد، معاهدات تخول "شركة لندن والمسكوف" امتيازات تجارية خاصة في روسيا.
ولكن هذه المعاهدات كانت بالنسبة لإيفان مجرد ثقوب، ولم تكن باباً أو منفذاً إلى الغرب، وأراد أن يستجلب فنيين من ألمانيا، وحشد له من هؤلاء 123 في لوبك، ولكن شارل الخامس رفض السماح لهم بالخروج. وكان النهر الكبير دوينا الجنوبي يجري من قلب روسيا ألى البلطيق قرب ريجا، ولكنه يجري عبر ليفونيا المعادية. ولم تكن منابع دوينا والفلجا بعيدة بعضها عن بعض، ومن ثم يمكن ربط النهرين بقنوات، وهنا، يحكم "القدر المقدور" كان الطريق المائي الذي يمكن أن يعوض روسيا عن عدم تناسب أراضيها المترامية الأطراف مع سواحلها وثغورها، ومن ثم يمكن أن يتصل بحر البلطيق ببحر قزوين والبحر الأسود، كما يمكن أن يلتقي الشرق والغرب. وفي تبادل السلع والأفكار قد يستطيع الغرب أن يسدد شيئاً من دينه الثقافي القديم للشرق.
وعلى ذلك فإن إيفان في سنة 1557 ابتكر ذريعة لمهاجمة ليفونيا، وأرسل إليها بجيش تحت قيادة شاه على ، الذي كان أخيراً خان التتار على كازان. واجتاح الجيش البلاد بطريقة وحشية، فأحرق الدور والمحاصيل، واستبعد الرجال واغتصب النساء حتى الموت. وفي 1558 استولى جيش روسي آخر على نارفا التي تبعد عن البلطيق بثمانية أميال. واستنجدت ليفونيا اليائسة ببولندة والدانمارك والسويد وألمانيا، وارتعدت أوربا الوسطى بأسرها فزعا من مشهد الطوفان السلافي الذي وصل إلى الغرب، كما وصل في القرن السادس إلى نهر الألب. واستثار ستيفن باثوري حمية البولنديين وقادهم إلى الانتصار على الروس عند بولتسك (1582). ولما حلت الهزيمة بإيفان سلم ليفونيا إلى بولندة.
وقبل هذه النكسة الحاسمة بزمن طويل، كان اخفاق حملات إيفان قد أدى إلى الثورة في الداخل، حيث كان التجار الذين كان إيفان يسعى إلى إثرائهم بفتح طرق جديدة للتجارة، قد فقدوا صوابهم بسب هذه الحرب المدمرة الباهضة التكاليف. وعارض النبلاء هذه الحرب لأنها لا بد أن توحد بين دول البلطيق، بسلاحها المتفوق، ضد روسيا التي ما زالت إقطاعية في تنظيمها السياسي والعسكري. وفي أثناء الحرب وفيما قبلها كان إيفان قد ارتاب في مؤامرات النبلاء ضد عرشه، وفي اثناء مرض كاد يقضي عليه (1553) علم أن جماعة قوية من النبلاء كانوا يدبرون أن يبعدوا، عند موته، ابنه ديمتري ويتوجوا الأمير فلاديمير الذي كانت أمه تمنح الجيش عطايا كثيرة، وكان أقرب مستشاريه سلفستر وأداشف ضالعين مع النبلاء، ولمدة سبع سنوات بعد الارتياب فيهما، أبقى إيفان على هذين الموظفين في مواقع السلطة، ثم طردهما في 1560، ولكن دون عنف. ومات سلفستر في أحد الأديار، وقضى أداشف نحبه في إحدى الحملات على ليفونيا، وهاجر عدة نبلاء إلى بواندة وحملوا السلاح ضد روسيا، وفي 1564 لحق الأمير كوربسكي Kurbsky صديق إيفان الحميم والقائد العام، بهؤلاء الهاربين، زاعما أن القيصر يدبر قتله، ومن بولندة أرسل كوربسكي إلى إيفان ما يصل إلى أن يكون أعلاناً للحرب عليه، متهماً إياه بأنه مجرم مجذوم. وتدعى الأساطير أن إيفان عندما قرأ عليه الخطاب دق إحدى قدمي حامله بالمسامير في الأرض بضربة من العصا الملكية، ولكن القيصر تنازل فرد على كوبسكي بدفع يقع في اثنتين وستين صفحة، وكان رداً بليغاً مشوشاً، عاطفياً مليئاً بمقتبسات من الكتاب المقدس، عدد فيه دسائس النبلاء لخلعه. واعتقاداً منه بأنهم كانوا قد دسوا السم لأنستاسيا، تساءل إيفان: " لماذا فرقتم بيني وبين زوجتي؟ ألم تأخذوا مني وليدي الصغير؟ لم يحدث قط أن ذبح أحد من النبلاء... لقد فتشت عبثاً عن رجل يستشعر الشفقة بي، ولكني لم أجد أحداً(10)". وكتب كوربسكي في أخريات أيامه تأريخاً قاسياً عدائياً لإيفان، وهو أهم مرجع لنا في إرهاب إيفان.
إن هذه المؤامرات ومغادرة البلاد توضح لنا أشهر حادث متميز في عهد إيفان. وفي 12 ديسمبر 1564 غادر إيفان موسكو مع أسرته وأيقوناته وكنوزه، مع قوة صغيرة من الجنود، وسار إلى مقره الصيفي في اسكندروفسك. وأرسل إلى موسكو بيانين، زعم الأول أن النبلاء والبيروقراطية والكنيسة تآمروا ضده وضد الدولة، وأنه لذلك "مع اشد الأسف" اعتزل الآن العرش، ليعيش في عزلة. أما البيان الثاني فقد أكد فيه لأهل موسكو أنه أحبهم وأن لهم أن يبقوا واثقين من نياته الطيبة دوما.والحق أنه نمسك بمحاباة العامة والتجار ضد الأرستقراطية، وقد شهد بذلك ما قامت به الطبقتان الوسطى والدنيا آنذاك، فقد انفجروا يرددون صيحات التهديد ضد النبلاء ورجال الدين، مطالبين بأن يشخص إلى القيصر وفد من الأساقفة والنبلاء، ليرجوه في العودة إلى العرش، وتم ذلك وقبل إيفان "أن يتولى أمر الدولة من جديد"، بشروط يحددها هو فيما بعد.
وعاد إيفان ألى موسكو في فبراير 1565، ودعا الجمعية الوطنية من رجال الدين والنبلاء، وأعلن أنه سيعدم زعماء المعارضة ويصادر أملاكهم، وأنه من الآن فصاعدا سيتولى كل السلطة دون استشارة النبلاء أو الجمعية، وأنه سينفى كل من يخالف أوامره العالية ومراسيمه، ولما كانت الجمعية تخشى ثورة الجماهير فقد استسلمت وانحلت، وقرر إيفان أن روسيا سوف تنقسم في المستقبل إلى قسمين: الأول "زمستشينا Zemstchina أو مجموعة المقاطعات ، ويظل تحت حكم النبلاء ومجلسهم "الدوما"، ويخضع لضريبة إجمالية يفرضها القيصر، ويكون تابعاً له في الشئون العسكرية والخارجية، ويكون فيما عدا ذلك حراً يتمتع بحكم ذاتي. والقسم الثاني "أوبرشنينا Oprichnina - الممتلكات المستقلة " يحكمه هو أى إيفان، ويتكون من الأراضي التي يخصصها هو "الطبقة المنفصلة Oprichniki " التي يختارها القيصر للشرطة ولادارة نصف المملكة هذا، ولحمايته من الشغب، ولتقوم بحمايته هو شخصياً، ولتقدم له الخدمات العسكرية الخاصة به. واختير الموظفون الجدد- وكانوا في البداية ألفاً وبلغ عددهم في النهاية ستة آلاف، اختيروا على الأخص من بين صغار أبناء النبلاء، ولما لم يكن لديهم أرض، فقد كانوا على استعداد لتأييد إيفان مقابل الضياع التي منحهم إياها. واقتطع جزء من هذه الأراضي من أملاك التاج، والجزء الأكبر منها من أملاك النبلاء الثوار التي صودرت. وبنهاية عصر إيفان كانت هذه "الممتلكات المستقلة - أوبرشنينا" تشمل نصف روسيا تقريباً، وكثيراً من موسكو وأهم طرق التجارة. وكان هذا الانقلاب مماثلاً لما حاوله بطرس الأكبر بعد ذلك بمائة وخمسين عاماً: الارتفاع بطبقة جديدة إلى السلطة السياسية، والارتقاء بالتجارة والصناعة في روسيا. وفي مثل هذا القرن الذي كانت فيه القوة العسكرية كلها من الوجهة العملية في قبضة الأستقراطية، تطلب المشروع شجاعة مفرطة في القيصر الذي لم يتزود إلا بجنده الخصوصيين، وبالتأييد الهزيل الذي لا يعتد به من جانب والجماهير. ويؤكد لنا بعض المعاصرين أن إيفان - في هذه الفترة الدقيقة - وهو آنذاك في سن الخامسة والثلاثين، كان يمثل ابن العشرين (11)
واتخذ إيفان آنذاك الاسكندروفسك مقراً دائماً، وحولها إلى قلعة محصنة. وربما كان التوتر الذي انتابه بسبب ثورته ضد النبلاء بالاضافة إلى الاخفاق في الحرب الطويلة الأمد مع ليفونيا، سبباً في اعتلال عقله الذي لم يكن قط كامل الاتزان. ولقد ألبس حراسه غفارات سوداء، وهي لباس الكهنة، وقلنسوات ضيقة، وأطلق على نفسه لقب رئيس الرهبان، ورتل مع فرقة المرتلين، وشهد معهم القداس يومياً، وكم خر ساجداً أمام المذبح في حماسة حتى تكررت إصابات جبهته بالكدمات. وزاد هذا من الفزع الذي بثه في روسيا التي بدأت تحس نحوه بمزيج من التبجيل له والاشفاق عليه، وحتى أفراد "الطبقة المنفصلة"Oprichnikii كانت تمثل أمامه في ذله وخشوع حتى أطلق عليهم أنهم حاشيته أو بلاطه.
واقترن انقلاب إيفان بالارهاب، شأنه في ذلك أى انقلاب آخر، وقبض على معارضيه وأعدموا دون شفقة أو رحمة، وجاء عرض لأحداث هذه السنوات (1560-1570) دونه أحد الرهبان، ويحتمل أن يكون معادياً، أن عدد قتلى غضبه بلغ 3470. ويقول هذا العرض التأريخي أن الضحية كان في الغالب يعدم "مع زوجته" أو "مع وزوجته وأطفاله"، وفي حالة واحدة "مع عشرة من الرجال جاءوا لمساعدته (12). واعدم الأمير فلاديمير مع أمه، أما أولاده فقد أبقى إيفان على حياتهم ووفر لهم أسباب العيش. ويقال إن القيصر طلب إلى الرهبان أن يصلوا من أجل نفوس ضحاياه. ودافع إيفان عن إعدامهم بأن هذا هو العقاب المعتاد لجريمة الخيانة وخاصة زمن الحرب. وقد سلم أحد ممثلي بولندة بهذه الحجة، وتضرع إنجليزي شهد شيئاً من هذه المجزرة قائلاً :"ندعو الله أن نتمكن من تعليم ثوارنا العنيدين واجبهم نحو أميرهم بالطريقة نفسها (13).
وجاءت ذروة هذا الارهاب في نفجرد. وكان إيفان قبل ذلك بفترة وجيزة قد منح رئيس الأساقفة مبلغاً كبيراً من المال لاصلاح الكنائس، وظن أ،ه كان بذلك محبوباً من رجال الدين هناك على الأقل. ولكنه أبلغ أنه قد وجدت وثيقة، ليست بالضرورة غير مزيفة، خلف صورة للعذراء في أحد أديار نفجرد، وفيها عهد بالتعاون بين نفجرد وبسكوف مع بولندة لمحاولة خلع القيصر. وفي الثاني من يناير 1570 انقضت على المدينة قوة عسكرية قوية يقودها الأوبرشنيكي، وأعملت النهب والسلب في الأديرة، وقبضت على 500 من الرهبان والكهنة. وفي 6 يناير وصل القيصر إلى هناك، وأمر أن يجلد بالسياط حتى الموت كل من لم يستطع من رجال الدين هؤلاء أن يدفع فدية قدرها 50 روبلا، كما جرد رئيس الأساقفة من ثوبه وسجن. وجاء في "سجل أحداث نفجرد الثالث" أنه قد أعقب هذا مذبحه الأهالي التي دامت خمسة أسابيع. وفي بعض الأحيان كان خمسمائة فرد يذبحون في اليوم الواحد، وتقول البيانات الرسمية أن عدد القتلى بلغ 2770، واحتج إيفان بأنهم 1505 فقط. ولما استقر في الأذهان أن التجار، وهم متلهفون على إعادة فتح باب التجارة مع الغرب، قد شاركوا في المؤامرة، فقد أحرق جنود القيصر كل حوانيت المدينة، ودمرت بيوت التجار في الضواحي، وحتى البيوت في المزارع المجاورة للمدينة لحقها التدمير. وما لم يكن رواة الأحداث في الأديار قد بالغوا في وصف المذبحة، فإنه يجدر بنا أن نعود بالذاكرة إلى عقاب شارل الجرىء لثوار لييج 1468، وأعمال السلب والنهب في روما على يد جنود شارل الخامس 1527 لنجد أمثلة شبيهة بانتقام إيفان الوحشي. ولم تستعد نفجرد قط تفوقها القديم في الحياة التجارية في روسيا. واتجه إيفان بعد ذلك إلى بسكوف حيث حظر على جنوده السلب والنهب ، ثم عاد أدراجه إلى موسكو حيث احتفل في حفلة تنكرية ملكية بإفلاته من مؤامرة خطيرة.
إن حكماً مثل هذا ممتلئاً بالفتن والشغب لا يكاد يساعد على التقدم الاقتصادي أو إنجاز الأعمال الثقافية. لقد انتعشت التجارة وقت السلم وانتكست زمن الحرب. وفي الأراضي المخصصة لطبقة الأوبرشنيكي، وفي سائر الأراضي فيما بعد، كان الفلاح مرتبطاً قانوناً بالأرض، على أساس أنه وسيلة للنهوض بالزراعة المستمرة فيها (1581) على أن نظام الرق الذي كان نادراً في روسيا قبل 1500، صار في 1600 قانوناً من قوانين الأرض. وكانت الضرائب باهظة فاحشة، واندفع التضخم المالي بشدة، فكان الروبل في 1500 يساوي 94، وفي 1600 يساوي 24 من الروبلات في 1910(14). وليس بنا من حاجة إلى تتبع الهبوط إلى أبعد من ذلك، إلا لنعلم، كدرس من دروس التاريخ، أن النقود هي آخر شىء يجدر بالانسان أن يدخره.
وأرغم إسراف الأسر القصير النظر في الإنجاب وإرهاق التربة، الناس على هجرة متواصلة لا تهدأ إلى أراض بكر. فلما اجتاز المهاجرون جبال الأورال وجدوا أمامهم مملكة للتتار سكانها من قبائل البشكير المسلمة Bashkirs وقبائل أوستياك (قبائل من الفنلنديين والماجيار في غرب سيبيريا) نعرف عاصمتها باسم سيبير Sibir (وهي من ألفاظ القوزاق). وفي 1581 جند سيمين ستروجانوف 600 من القوزاق وأرسلهم تحت قيادة إرماك تيموفيفتش لغزو هذه القبائل، وقد تم له ذلك، وأصبحت سيبيريا الغربية جزءاً من المملكة الروسية المتضخمة. أما إرماك الذي كان من زعماء قطاع الطرق فقد مجدته الكنيسة الأرثوذكسية، وضمته إلى قائمة القديسين.
وكانت الكنيسة هي الحاكم الحقيقي لروسيا، لأن خشية الله كانت سائدة في كل مكان، على حين كان سلطان إيفان محدوداً. وكانت قواعد الطقوس الدينية، إن لم تكن قواعد الفضيلة والأخلاق، تقيد الجميع، حتى القيصر نفسه، وكان الكهنة يراقبون هل غسل يديه بعد مقابلته لسفراء الدول من خارج نطاق الأرثوذكسية. وكانت الصلاة وفق الطقوس الرومانية الكاثوليكية غير مرخص بها، أما البروتستانتية فقد تسامحوا معها على أساس المشاركة في العداء للبابا في روما. وكان إيفان الرابع - مثل هنري الثامن - يزهو بعلمه في اللاهوت. وانغمس مرة في مناقشة عامة في الكرملين مع كاهن لوثري من بوهيميا، ويجب أن نسلم بأنه، وهو أعنف القياصرة، أدار المناقشة في كياسة أكثر مما بدا في النازعات الدينية في ألمانيا المعاصرة(15). ولكن إيفان لم يتصرف بمثل هذه الكياسة مع رجل لاهوتي آخر، ذلك أنه ذات يوم أحد في سنة 1568 أثناء الصلاة في كنيسة الصعود، رفض فيليب مطران موسكو أن يمنح إيفان البركة الي توسل إليه فيها، وطلب القيصر ذلك ثلاث مرات ولكن دون جدوى، ولما سأل أتباعه عن سبب لهذا الرفض، بدأ فيليب يعدد جرائم إيفان وفسوقه، فصاح القيصر: "هدئ من روعك وامنحني البركة" فأجاب المطران: "إن سكوتي يوقعك في الخطيئة ويستوجب هلاكك". وغادر إيفان المكان دون أن يمنح البركة. وظل فيليب شهراً تعروه الدهشة والعجب والقلق، ولكن لم يمس فيه بسوء. وبعده دخل أحد خدم القيصر الكاتدرائية وقبض على المطران وساقه إلى أحد السجون في تفر. ولا يعلم مصيره علم اليقين، ولكن الكنيسة الروسية تؤيد القول بأنه أحرق حياً. وفي 1652 ضم إلى قائمة القديسين، وبقيت رفاته حتى 1917 موضع إجلال وتبجيل في كنيسة صعود العذراء.
وظلت الكنيسة تنتج معظم الأدب والفن في روسيا. ودخلت الطباعة في سنة 1491، ولكن اقتصر المطبوع طوال هذا العهد على كتب الصلوات وكان زعيم العلماء آنذاك هو المطران مكاريوس، الذي شرع في 1529، بمعونة بعض السكرتيرين في جمع ما تبقى من آداب بلده في اثنى عشر مجلداً ضخماً، ومرة أخرى نرى أن معظمها كان دينياً تماماً، وفي الكثير الغالب يتعلق بالأديار ووقائع التاريخ حسب ترتيب حدوثها. وألف سلفستر معلم الاعتراف لايفان كتاباً مشهوراً هو "كتاب الأسرة"، بمثابة دليل للاقتصاد المنزلي والسلوك، والخلاص الأبدي، وإنا لنلحظ فيه حث الزوج على أن يضرب زوجته برفق، وتعليمات دقيقة لآداب البصق والمخاط (16). ولم يكن إيفان نفسه، كما تدل رسائله، أقل كتاب هذا العصر براعة وقوة.
وكان أروع إنتاج فني روسي في عهد إيفان هو كنيسة "بازل المبارك" التي لا تزال قائمة بعيداً عن الكرملين في أحد أطراف الميدان الأحمر. ولدى عودة القيصر من حملاته الظافرة ضد كازان وأستراخان (1554) شرع في بناء ما أسماه كاتدرائية "شفاعة العذراء" وهي التي نسب إليها انتصاراته بحكمة. وحول هذا المقام المتوسط من الحجر، شيدت فيما بعد سبعة معابد من الخشب خصصت لقديسين كان إيفان قد تغلب على أعدائه في أيام أعيادهم. وتوج كل معبد منها بقية رشيقة مزدانة بالرسوم، وكانت القباب كلها بصلية الشكل، وإن اختلفت زخرفة كل منها. وأضفى آخرها وهو الذي أقيم للقديس بازل في 1588 : أضفى اسمه في وقت لاحق، على هذه المجموعة الرشيقة الفاتنة. وتنسب أسطورة لا يمكن التغاضي عنها هذه العمارة إلى أحد الايطاليين، وتروى كيف أن إيفان فقأ عينيه لئلا ينافس هذه التحفة الفنية الرائعة. ولكن اثنين من الروس: بارما وبوستنيكوف هما اللذان وضعا التصميم، ولكنها اقتبسا بعض حركات عصر النهضة في زخرفتها فحسب(17). ويوم أحد السعف من كل سنة، كجزء من حكمة الدولة، سار سادة موسكو ورجال الدين فيها في موكب رهيب إلى هذه الكاتدرائية، على حين امتطى المطران صهوة جواد مزودة بآذان صناعية، ليقلد الحمار الذي قيل إن السيد المسيح كان يركبه عند دخوله أورشليم، وسار القيصر على قدميه يقود حصان المطران في تواضع وخشوع ممسكاً بلجامه، وكانت تحف بالموكب الأعلام والصلبان والأيقونات وحملة المباخر، على حين ردد الأطفال عبارات الشكر والثناء تضرعاً إلى السماء لتبارك الحياة في روسيا. وما أن وافى عام 1580 حتى بدا أن إيفان قد انتصر على كل أعدائه. وكان قد بقى على قيد الحياة عدد من الزوجات، وبنى بزوجة سادسة. وفكر في اتخاذ زوجة أخرى عن طريق المضارة الودية(18) (الزواج باثنين في وقت واحد).وكان له أربعة أولاد، مات أولهم في طفولته، وكان الثالث فيودور يعاني من تخلف عقلي. أما الرابع ديمتري، فزعموا أنه كان بنوبات صرع. وفي أحد أيام شهر نوفمبر 1580 أنب القيصر زوجة ابنه الثاني " إيفان" وضربها، لما بدا له من أنها ترتدي ثوباً ينافي الحشمة والوقار، فأجهضت، فما كان من ابن القيصر إلا أن وجه اللوم إلى أبيه، فضرب القيصر ابنه في سورة الغضب دون ترو بالعصا الملكية على رأسه فمات الابن لتوه من أثر الضربة. فجن جنون القيصر ندماً على فعلته، وقضى أيامه ولياليه يصرخ صراخاً عالياً من الحزن والأسى. وكان يقدم تنحيه عن العرش صباح كل يوم، ولكن حتى أعضاء المجلس أنفسهم أصبحوا الآن يؤثرونه على أبنائه. وعاش إيفان ثلاث سنين بعد ذلك، ثم أصابه مرض غريب، جعل جسمه يتورم وتنبعث منه رائحة منتنة. وفي 18 مارس 1584 قضى نحبه وهو يلعب الشطرنج مع بوريس جودونوف، وتناثرت الاشاعات تتهم بوريس بأنه دس له السم، واعد المسرح لأوبرا عظيمة في تاريخ القياصرة.
ويجدر بنا ألا نظن أن إيفان الرابع كان مجرد غول متوحش. ونظراً لطول قامته وقوته كان يمكن أن يكون وسيماً، لولا أنفه العريض المسطح الذي كان يعلو شارباً منتشراً ولحية كثة حمراء. لقد ترجمت خطأ لفظة Groznyi بلفظة الرهيب Terrible والأرجح أنها تعني "المرعب" Awesome ،مثل لفظة أغسطس التي أطلقت على القياصرة (الرومان). وقد أطلق على إيفان الثالث نفس اللقب كذلك. وفي نظرنا، وحتى في نظر معاصريه القساة، كان إيفان الرابع قاسياً تواقاً إلى الانتقام بشكل يدعو إلى الاشمئزاز، وقاضياً لا يستشعر الرحمة.لقد عاصر محاكم التفتيش في أسبانيا، وإحراق سرفيتس ، وعادة هنري الثامن في ضرب العنق، واضطهاد الملكة ماري، ومذبحة سانت برثلميو. ويقال إنه عندما سمع بهذه المذبحة أنكر همجية الغرب(19) (ولو أن أحد البابوات رحب بالمذبحة وامتدحها). لقد كان ثمة أشياء تثير غيظه وحنقه، وتذكى النار في مزاج سريع الانفعال أكسبته الوراثة والبيئة عنفاً. ويقول شاهد عيان إنه كان في بعض الأحيان "يرغى من فمه - كما يفعل الحصان"(20) نتيجة مضايقة صغيرة أو انزعاج يسير. ولقد اعترف القيصر بخطاياه وجرائمه بل بالغ فيها أحياناً ولم يكن على أعدائه إلا أن ينتحلوا منها اتهاماتهم له.
وأكب على الدرس والتحصيل في حماسة، وجعل من نفسه أحسن متعلم من غير رجال الدين في بلده وفي زمانه. وكان يتميز بروح المرح والدعابة، ويضحك ضحكات عالية بملء شدقيه، ولكن غالباً ما كانت ابتسامته تنم على الدهاء المخيف. غطى شروره بالنيات والمقاصد الرائعة، فكان يريد أن يحمي الفقير والضعيف من الغني والقوي، ويحابي التجار والطبقات الوسطى كبحاً لجماح الأرستقراطية الاقطاعية المشاكسة، كما كان يرغب في فتح باب للتجارة والأفكار على الغرب، ويزود روسيا بطبقة جديدة من الاداريين الذين لا يتقيدون- كما تفيد أعضاء المجلس من ابناء الطبقة العليا- بالأساليب العتيقة الجامدة، ويحرر من ربقة التتار، وينتشلها من وهدة الفوضى إلى الوحدة. وكان القيصر همجياً يناضل نضالاً وحشياً ليرقى سلم الحضارة.
وأخفق إيفان لأنه لم ينضج قط إلى حد السيطرة على النفس. وكادت أن تنسى في غمرة الانقلاب تلك الاصلاحات التي كان قد خططها. وترك الفلاحين خاضعين لملاك الأرض خضوعاً أشد وأنكى من ذي قبل. وأوصد بالحروب أبواب التجارة، وساق الرجال القادرين إلى أسلحة العدو، وشطر روسيا إلى قسمين متناحرين، وسار بها إلى الفوضى. وضرب لشعبه مثلاً مفسداً للقسوة المتسمة بالورع وللأهواء الجامحة. وقتل أحسن أبنائه مقدرة وكفاية، وأسلم عرشه إلى شخصية ضعيفة أدى عجزها إلى الحرب الأهلية. لقد كان إيفان واحداً من كثيرين من رجال عصره، الذين يمكن أن يقال عنهم إنه كان من الخير لبلادهم وللإنسانية جمعاء ألا يولدوا قط.