قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 28

من معرفة المصادر

قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> هجرات الإصلاح الديني -> المشهد الإسكنديناوي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثامن والعشرون: هجرات الإصلاح الديني 1517 - 1560

1- المشهد الإسكنديناوي (1470-1523)

ما أن حل عام 1500 حتى كانت تقوى الناس قد جعلت الكنيسة تسيطر على اقتصاد إسكنديناوة. وكانت الكنيسة تملك نصف الأرض في الدنمرك، وكان يفلحها مستأجرون في منزلة تقرب من الرق(1). وكانت كوبن هاجن نفسها إقطاعية للكنيسة، ورجال الأكليروس والنبلاء يتمتعون بالإعفاء من ضرائب الأرض. أما النبلاء فلأنهم اشتركوا في الحرب على نفقتهم الخاصة، وأما رجال الأكليروس فلأنهم نظموا العبادة والأخلاق والتعليم والبر.

وكانت الجامعات في كوبنهاجن وأبسالا بالطبع في أيدي رجال الكنيسة، وكانت الكنيسة تتقاضى سنوياً عشر كل ناتج أو دخل يُحَصَّل خارج مجال الكنيسة، وتقاضت رسماً صغيراً على كل بناء يقام وكل طفل يولد وكل اثنين يتزوجان وكل جثة تدفن، وطالبت بالتبرع بيوم عمل في السنة من كل فلاح. ولم يكن في وسع أحد أن يرث عقاراً، دون أن يقدم عنه حصة للكنيسة، باعتبارها محكمة إشهاد للتثبيت من صحة الوصايا(2). وكان يدافع عن هذه الضرائب بأنها تمول الخدمة الكهنوتية في الكنيسة، ولكن الشكاوى ارتفعت بأن الكثير من متحصلات المعاملات التجارية ذهبت لكي يعيش الأساقفة في أبهة ملكية. وأزعج تجار الدنمرك السيادة الهنزية في بحري الشمال والبلطيق، فتميزوا غيظاً من المنافسة الإضافية للنبلاء ورجال الأكليروس، الذين كانوا يصدرون فائض إنتاج ضياعهم في سفنهم الخاصة غالباً. وفي إسكنديناوة كما في غيرها من البلاد، تطلع النبلاء في شوق إلى أراضي الكنيسة. ولقد حدث هناك، كما حدث في كل موضع آخر صراع بين القومية، وبين الكنيسة التي تسمو على كل قومية، وأيدت الكنيسة في كل البلاد الثلاث اتحاد كلمار الإسكنديناوي، الذي كان كريستيان الأول ملك الدنمرك قد جدده (1457). ولكن حزباً قومياً يتألف من سكان المُدن والفلاحين رفض الاعتراف بالاتحاد، باعتباره في الحقيقة سيادة دنمركية، ونادوا بستن ستور الأصغر نائب ملك يحكم أمة مستقلة (1512). ودافع رئيس الأساقفة جوستاف ترول من أبسالا - وكانت وقتذاك عاصمة للسويد - عن الاتحاد، فأقاله ستن ستور الصغير وأمر البابا ليو العاشر بإعادته إلى وظيفته فرفض ستور. وحرم ليو تقديم الخدمات الدينية في السويد وفوض كريستيان الثاني ملك الدنمرك في غزو السويد ومعاقبة نائب الملك، وفشلت أول محاولة لكريستيان، واضطر إلى توقيع هدنة، ولكنه حمل معه عند العودة إلى كوبنهاجن عدة رهائن كضمان لالتزام السويديين بنصوص الهدنة، وكان جوستاف فازا أحد هذه الرهائن. وظفر كريستيان في حملة ثانية بنصر حاسم، ومات ستور متأثراً بالجروح، التي أصيب بها في المعركة. وأعدت أرملته على عجل جيشاً احتفظ بستكهولم لمدة خمسة شهور أمام حصار دنمركي، وأخيراً سلمت مقابل وعد قدمه قائد كريستيان بالحصول على عفو عام. وفي 4 نوفمبر توج كريستيان ملكاً على السويد على يد ترول الظافر الذي أعيد إلى وظيفته.

وفي السابع من نوفمبر استدعى كبار السويديين الذين أيدوا ستور للمثول أمام الملك في قلعة ستوكهولم. واتهمهم ممثل لترول بارتكاب جرائم عظمى بخلعهم كبير الأساقفة وتدمير قلعته، وطالب الملك بالانتقام منهم لهذه الأخطاء. وعلى الرغم من العفو العام الذي صدر فقد حكم على سبعين من كبار السويديين بالإعدام. وقطعت رؤوسهم في الثامن من نوفمبر في الميدان الكبير، وقبض على آخرين عديدين في التاسع من نوفمبر وأعدموا، وأضيف إلى مَن قتلوا في هذه المذبحة بعض المشاهدين الذين أعربوا عن تعاطفهم مع المحكوم عليهم، وصودرت أملاك الموتى لصالح الملك، وصرخ كل السويديين من الرعب، وقال الناس إن اتحاد كالمار أغرق في "حمّام الدم بستوكهولم" وانحطت مكانة الكنيسة كثيراً في نظر الجماهير لأنها بدأت المذبحة. وقد رأى كريستيان أن يجعل حكمه آمناً بالقضاء على عقول الحزب القومي. والحق أنه مهد طريق العرش للرهينة الشاب الذي قدر له أن يحرر السويد. واسمه جوستافوس أركسون، ولكن ذريته أطلقوا عليه اسم فازا، وهو مشتق من كلمة vasa السويدية و fascis. اللاتينية ومعناها حزمة من العصى ظهرت في شعار أسرته. وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره أرسل ليدرس في أبسالا، وعندما بلغ العشرين من عمره استدعي لبلاط ستور الصغير الذي تزوج أختاً غير شقيقة لجوستافوس من أمه، وهناك تلقى مزيداً من التعليم على يد رئيس الوزراء، الأسقف همينج جاد، وفي عام 1519 فر من المراقبة في الدنمرك واتخذ طريقه إلى لوبك، وأقنع أعضاء مجلس الشيوخ فيها (وكانوا في عداء دائم للدنمرك)، أن يقرضوه مالاً ويعيروه سفينة، وعاد إلى شواطئ بلاده (31 مايو سنة 1520)، وأخذ يضرب على غير هدى وهو متنكر أربعة شهور أو كان يختبئ في قرى مغمورة. وفي نوفمبر وصلت الأنباء إليه بأن ما يقرب من مائة من الوطنيين المخلصين، ومنهم أبوه، قتلوا في ستوكهولم، فامتطى صهوة أسرع جواد استطاع العثور عليه، وركب شمالاً إلى موطنه مقاطعة داليكارليا، وصمم على أن ينضم هناك من ملاّك الأراضي الجسورين طلائع جيش يمكن أن يحرر السويديين من الدنمركيين.

وكانت حياته وقتذاك ملحمة جديرة بأن يتغنى بها هوميروس. فقد مضى يسير في طرقات ثلجية، والتمس الراحة في بيت زميل سابق له في المدرسة. وقدم له هذا الصديق واجبات الضيافة ثم انطلق ليخطر الشرطة الموالية للدنمركيين أن الرهينة الهاربة يمكن القبض عليها وقتذاك، غير أن الزوجة أنذرت جوستافوس ليلوذ بالفرار. وبعد أن قطع راكباً عشرين ميلاً وجد ملجأ لدى قسيس أخفاه أسبوعاً. وسافر بعد ذلك ثلاثين ميلاً وحاول أن يحرض مدينة راتفيك على الثورة بيد أن أهلها لم يكونوا قد سمعوا بعد بقصة حمام الدم ولم يصدقوها. فركب فازا وسار في مروج متجمدة خمسة وعشرين ميلاً شمالاً إلى مورا، وتوسل مرة أخرى للفلاحين أن يقوموا بثورة، بيد أنهم أصغوا إليه متشككين في تبلد. ووجد نفسه منبوذاً وتملكه اليأس لحظة، فاستدار بفرسه نحو الغرب، وتخلى عن البحث عن ملجأ في النرويج. وقبل أن يصل إلى الحدود أدركه رسول من مورا، ورجاه أن يعود، وتعهد له بأنه سوف يجد وقتذاك أذناً صاغية بروح تفيض حماسة مثل روحه. فقد سمع الفلاحون أخيراً بأنباء الرعب في ستوكهولم، وعلاوة على هذا انتشرت شائعة بان الملك كان يفكر في القيام برحلة يخترق فيها السويد، وأنه أمر بإقامة المشانق في كل مدينة كبرى. وتقرر فرض مكوس جديدة على شعب كان يكافح من أجل الحياة أمام جشع السادة واستبداد المبادئ الأساسية. وعندما خاطب جوستافوس المواطنين في مورا مرة أخرى أعطوه حرساً مكوناً من ستة عشر من سكان المناطق الجبلية، وأقسموا أن يسلحوا أنفسهم، وينظموا صفوفهم، ويسيروا وراءه حيثما يقودهم لمقاتلة الدنمركيين.

ولم يعرفوا وقتها سوى الأقواس والسهام وفئوس الحرب، وعلمهم فازا كيف يصنعون الرماح والحراب برؤوس من حديد. ودربهم بكل حمية يطويها بين جوانحه شاب يحفزه حب الوطن والسلطة، وبهذه الحماسة استولوا على فستيريس ثن ابسالا، وفر كبير الأساقفة ترول مرة أخرى، وكسب الجيش النامي في صبر وتصميم مقاطعة إثر أخرى من الحاميات الدنمركية.

ولم يستطع كريستيان الثاني الحضور ليتولى بنفسه قيادة قواته لأنه واجه في بلده ذاتها حرباً أهلية إلا أن أسطوله أغار مراراً على الشواطئ السويدية، وبعث جوستافوس برسل إلى لوبك لكي يطلبوا سفناً حربية. وجهزت المدينة التجارية عشرة سفن صرفت نشاط الأسطول الدنمركي، وذلك مقابل وعد بالحصول على مبلغ كبير. وفي السابع من يونية سنة 1523 نادى الثوار المنتصرون، في ركسراد جديدة بقائدهم ملكاً باسم جوستافوس الأول، وفي العشرين من يونيه استسلمت ستوكهولم واتخذ فازا منها بعد ذلك عاصمة له. وفي غضون ذلك كان كريستيان الثاني قد خلع عن عرشه في الدنمرك، وتخلى خلفه فريدريك الأول عن كل المطالب الدنمركية في السيادة على السويد. وانتهى اتحاد كالمار (1397-1523) وبدأت أسرة فازا.


2- الإصلاح الديني السويدي

كان جوستافوس لا يزال شاباً في السابعة والعشرين من عمره. ولم يكن فارع الطول، كما نعهد في الرجال من أهل الشمال، ولكنه كان يتمتع بقوة بدنية مثل أي قرصان إسكنديناوي، وكان وجهه المستدير متورداً بحمرة الصحة، ولحيته الصفراء الطويلة تضفي عليه وقار الملك أكثر من دلالتها على سنه، وكانت أخلاقه رائعة بالنسبة إلى ملك، بل إن الكنيسة التي قدر له أن ينبذها بعد ذلك بوقت قصير لم تستطع أن تجادل في تقواه. ووقف نفسه على القيام بأعباء الحكم بنشاط لا يعرف الأناءة، جعله ينزلق أحياناً إلى التوسل بالعنف أو الاستبداد، بيد أن ظروف السويد عند ارتقائه العرش كانت تبرر أو تكاد طبعه وحكمه المطلق. وقد ترك آلاف الفلاحين، غمرة فوضى الحرب، حقولهم دون أن يزرعوها، وهجر عمال التعدين مناجمهم، ودمر الصراع المدن، وخفضت قيمة العملة وأفلست الخزانة العامة، وأزهقت أرواح أصحاب العقول المدبرة في البلاد في "حمّام الدم". واعتبر البارونات الإقطاعيون الباقون على قيد الحياة جوستافوس حديث النعمة، ونظروا باحتقار إلى ادعائه الحق في الحكم. ودبرت المؤامرات لخلعه فقضى عليها بيد من حديد. وكانت فنلندة، التي كانت جزءاً من السويد، لا تزال في أيدي الدنمركيين، وكان سورن نوربي أمير البحر الدنمركي يحتفظ بجزيرة جوتلاند الاستراتيجية، وضجت لوبك مطالبة بسداد قروضها.

وكانت أول حاجة ملحة استشعرتها الحكومة مال يدفع للقوات المسلحة التي تحميها، ثم للموظفين الذين يقومون على شؤونها، أو وعد بدفع هذا المال، ولكن الضرائب في السويد أيام فازا كانت تكاد تكلف في جبايتها أكثر من المتحصل منها لأن الذين كان في وسعهم وحدهم أن يدفعوها كانوا أقوياء جداً إلى الحد الذي يقاومون فيه جبايتها. وخضع جوستافوس لما اقتضته الحاجة الملحة من تخفيض قيمة العملة مرة أخرى، بيد أن العملات الرديئة سرعان ما هبطت إلى قيمتها الفعلية، وكانت إيرادات الدولة أسوأ مما كانت عليه من قبل، ولم تكن في السويد إلا جماعة واحدة غنية - هي طبقة رجال الأكليروس، فتحول جوستافوس اليهم، وطلب منهم المساعدة، واعتقد أن من العدل أن تخفف ثروة الكنيسة وطأة الفقر الذي يرزح تحته الشعب والحكومة. وكتب عام 1523 رسالة إلى الأسقف هانز براسك من لنكوبنج، يطلب فيها هبة قدرها 5.000 جيلدر للدولة. فاحتج الأسقف ثم أذعن. وأرسل فازا طلباً عاجلاً إلى كنائس السويد وأديارها بضرورة تسليم كل الأموال والمعادن الثمينة، التي ليست ضرورية لمواصلة خدماتها، إلى الحكومة بصفة قرض، ونشر قائمة بالمبالغ التي يتوقع الحصول عليها من كل مصدر. ولم تكن الاستجابة إليه كما توقع، وبدأ يتساءل: ما إذا كانت الحكمة تقضي منه أن يفعل كما كان يفعل الأمراء اللوثروين في ألمانيا - فيصادر ثروة الكنيسة تلبية لحاجات الدولة. ولم ينسَ أن أغلب كبار رجال الأكليروس قد عارضوا الثورة، وأنهم عضدوا حكم كريستيان الثاني في السويد. وفي عام 1519 عاد أولاوس بترى، وهو ابن صاحب مصنع حديد سويدي بعد أن قضى بضع سنوات في الدراسة بفيتنبرج، وسمح لنفسه ببعض الهرطقات، وهو شماس في المدرسة الكاتدرائية في سترانجنارس وقال إن المطهر أسطورة، وإن الصلوات يجب أن يخاطب بها الله وحده وان الاعتراف يوجه إليه وحده، وإن الدعوة إلى ما ورد في الإنجيل من شعيرة القداس. وبدأ الناس يتداولون رسائل لوثر في السويد. فألح براسك على فازا أن يمنع بيعها، فأجاب الملك بأن "تعاليم لوثر عرضت على قضاة عدول فلم يجدوا فيها زيفاً(3)". ولعله رأى أن من حسن السياسة الاحتفاظ على سبيل الاحتياط بهرطيق يساوم الكنيسة عليه. وأصبحت الأمور أشد إثارة عندما رفض البابا أدريان السادس أن يصادق على تعيين قاصده الرسولي جوهانس ماجنوس رئيساً لأساقفة أبسالا، واقترح إعادة جوستاف تروي عدو الثورة. فأرسل فازا إلى مجلس شورا الفاتيكان رسالة كان حرية وقتذاك (1523) بأن تفزع هنري الثامن وتسعده فيما بعد:

إذا كان عند أبينا المقدس أي اهتمام بسلام بلدنا فإنه يسرنا أن نراه يصادق على اختيار قاصده الرسولي... وسوف نستجيب لرغبات البابا فيما يختص بإصلاح الكنيسة والدين. ولكن إذا أيد قداسته أنصار كبير الأساقفة ترول الموصومين بالجريمة، مخالفاً بذلك كرامتنا وسلامة رعايانا، فإننا سوف نسمح لقاصده الرسولي بالعودة إلى روما، وسوف ندبر أمور الكنيسة في هذه البلاد بمقتضى السلطة المخولة لنا باعتبارنا ملكاً.

وأدت وفاة أدريان وانصراف كليمنت السابع بجهوده لمقاومة لوثر وشارل الخامس وفرانسيس الأول، إلى ترك فازا حراً في المضي قدماً بالإصلاح الديني السويدي، فعين أولاوس بترى في كنيسة سانت نيكولاس استكهولم، وعين لورانتيوس شقيق أولاس أستاذاً للاهوت في جامعة أبسالا، ورفع مصلحاً دينياً ثالثاً وهو لورانتيوس أندريا إلى رتبة رئيس شمامسة الكاتدرائية. ودافع أولاوس بترى عن اللوثرية في مناظرة دارت بينه وبين بيترجال (27 ديسمبر سنة 1524) في مقر الأسقفية بالكاتدرائية، برئاسة الملك وقضى فازا بفوز أولاوس، ولم ينزعج عندما اتخذ أولاس زوجة له (1525)، قبل زواج لوثر باربعة شهور، ومهما يكن من أمر فإن الأسقف براسك فزع بسبب هذه المخالفة لرهبانية رجال الأكليروس، وطلب من الملك أن يقضى على بترى بالحرمان. فأجاب جوستافوس بأن أولاوس يجب أن يعاقب إذا كان قد ارتكب خطأ، ولكن "يخيل إلي أن من العجب أن يعاقب المرء بسبب الزواج (وهو شعيرة لا يحرمها الله)، ولا يقع المرء تحت طائلة الحرمان بسبب الفسوق وغيره من الآثام(4)" وبدلاً من أن يحكم على بترى لأنه خالف القانون انتدبه هو وشقيقه لترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة السويدية. وساعدت النسخة المترجمة إلى اللغة الدارجة، كما حدث في كثير من البلاد الأخرى، على تكوين اللغة القومية وتحرير الدين القومي.وعد جوستافوس، مثل معظم الحكام، أي إجراء يقوم به لتدعيم مركز بلاده أو عرشه مسارياً للأخلاق، وحرص على ترقية الأساقفة الذين يذعنون لخططه إلى مرتبة المطرانيات السويدية ووجد أسباباً لا يستطيع دفعها لنزع ملكية أراضي الأديار، ولما كان قد تقاسم الأسلوب مع النبلاء فإنه فسر ذلك بأنه إنما كان يعيد إلى العلمانيين ما أغرى أجدادهم على أن يهبوه للكنيسة، وشكا البابا كليمنت السابع من أن القساوسة السويديين كانوا يتزوجون، ويقدمون القربان بالخبز والنبيذ، ويهملون شعيرة المسح الأخير ويغيرون شعيرة القداس وبعث بنداء للملك بأن يظل مخلصاً للكنيسة، ولكن جوستافوس كان قد قطع شوطاً بعيداً فلم يستطع أن يتراجع، وكانت العقيدة المحافظة حرية بأن تخرب خزائنه، ونادى في مجلس فستيريس (1527) بالإصلاح الديني علناً.

كان اجتماعاً تاريخياً في تكوينه ونتائجه معاً. فقد اجتمع أربعة أساقفة وأربعة من كبار القساوسة وخمسة عشر عضواً الركسراد Riksraad و129 نبيلاً واثنان وثلاثون من أوساط الناس وأربعة عشر نائباً لعمال المناجم و104 ممثلاً للفلاحين، وكان هذا مجلساً وطنياً يمثل أعرض قاعدة بين المجالس في القرن السادس عشر. وطرح كبير وزراء الملك اقتراحاً ثورياً أمام المجلس، فقال إن الدولة قد افتقرت إلى المال إلى حد عجزها عن القيام بتبعاتها لخير الشعب، وأن الكنيسة كانت غنية جداً إلى الحد الذي يسمح لها بأن تحول جانباً كبيراً من ثروتها إلى الحكومة، ويبقى لها مع ذلك ما يكفي لأن تقوم بجميع التزاماتها. وحارب الأسقف براسك لآخر لحظة من أجل مثله العليا وأملاكه العقارية، فأعلن أن البابا قد أمر رجال الأكليروس بالدفاع عن أملاكهم. وصوت المجلس في صف القائلين بإطاعة البابا. ورأى جوستافوس أن يقامر على كل شيء برمية واحدة، فأعلن أنه إذا كان هذا حكم المجلس والأمة فإنه سيستقيل ويرحل عن السويد، وظل المجلس في نقاش مستمر طوال ثلاثة أيام. ووقف الأوساط ورجال الفلاحين إلى جانب الملك، وكان لدى النبلاء سبب وجيه للتحرك في الاتجاه نفسه، واقتنع المجلس آخر الأمر بأن فازا أعظم قيمة للسويد من أي بابا، فوافق على رغبات الملك. وتحولت الأديار في فترة العطلة أو في ختام مجلس فستيريس إلى إقطاعيات للملك، وإن سمح للرهبان بالإفادة منها، وتقرر إعادة كل الأملاك التي منحها النبلاء للكنيسة منذ عام 1454 إلى ورثة الواهبين، وأن يسلم الأساقفة قصورهم إلى التاج، وحرم على الأساقفة أن يسعوا إلى الحصول على تأييد البابا لتعيينهم، وتقرر أن يسلم رجال الأكليروس إلى الدولة كل دخل ليست شعائرهم الدينية في حاجة إليه، ووضع حد للاعتراف السري، وتقرر أن تعتمد العظات كلها على الكتاب المقدس وحده. وكان الإصلاح الديني في السويد، بصورة قاطعة أكثر منه في أي مكان آخر، تأميماً للدين وانتصاراً للدولة على الكنيسة.

وعاش فازا بعد هذه الأزمة ثلاثاً وثلاثين عاماً، وظل حتى النهاية حاكماً مطلقاً... قوياً ولكنه يعمل لخير شعبه... وكان مقتنعاً بأن السلطة المركزية وحدها هي التي تستطيع أن تعيد النظام والرخاء إلى السويد، وأنه في مهمة معقدة كهذه لا يستطيع أن يتوقف عند كل خطوة ليستشر مجلساً متروياً. وبفضل تشجيعه وتنظيمه صبت مناجم الشمال حديدها في أدوات الحرب السويدية، واتسعت رقعة الصناعة، وأبرمت معاهدات تجارية مع إنجلترا وفرنسا والدنمرك وروسيا أوجدت أسواقاً للسلع السويدية، وجلبت إلى السويد منتجات من أثنى عشرة بلداً، وأضفت تهذيباً جديداً وثقة على حضارة كانت قبله معتقلة في سذاجة ريفية وأمية. وازدهرت السويد وقتذاك كما لم تزدهر من قبل.

واشتبك جوستافوس في عدة حروب، وقمع أربع ثورات وعقد قرانه على ثلاث زوجات على التعاقب، وأنجبت له الأولى ولداً أصبح فيما بعد أريك الرابع عشر، وأنجبت له الثانية خمسة أولاد وخمس بنات أما الثالثة التي كانت في السادسة عشرة من عمرها عندما تزوجها وهو في السادسة والخمسين فقد عمرت بعده ستين عاماً. وأغرى الرجسراد Rigsraad بأن يقبل أبناءه ورثة للعرش وأن يجعل وراثة العرش مقصورة على الذكور كقاعدة تتبع في الملكية السويدية.

وصفحت السويد عن حكمه المطلق لأنها أدركت أن النظام أصل الحرية وليس ثمرة لها. وعندما مات (29 سبتمبر سنة 1560)، بعد حكم دام سبعة وثلاثين عاماً دفن في كاتدرائية أبسالا في احتفال صدر عنه بالحب وتميز بالشرف وهو لم يمنح شعبه الحرية الشخصية التي كانوا يستحقونها بصفة خاصة فيما يبدو، ولكنه منحهم حرية جماعية من السيطرة الأجنبية في الدين أو الحكم، وقد هيأ الظروف التي استطاعت أمته في ظلها أن تصل إلى درجة النضج في مجالات الاقتصاد والأدب والفن. كان الأب الحقيقي للسويد الحديثة.


3- الإصلاح الديني الدنماركي

كان كريستيان الثاني ملك الدنمرك (حكم 1513-23) شخصية لامعة مثل جوستافوس فازا الذي هزمه في السويد. وقد أكرهه البارونات على التوقيع على شروط استسلام مهينة ثمناً لانتخابه، فأحاط نفسه بمستشارين من الطبقة المتوسطة وتجاهل الريجسراد Rigsraad (مجلس النواب) الدنمركي، المكون من الأعيان من ذوي النسب، وعين أم عشيقته الهولندية الجميلة كبيرة لمستشاريه ولابد أن هذا المجلس الخاص كان يتمتع بشيء من المقدرة والروح، لأن سياسة كريستيان الوطنية كان بناءة بقدر ما كانت مغامراته الأجنبية فاشلة لا طائل تحتها، وعمل جاهداً في تدبير الملك، وأصلح حكم المُدن، وراجع القوانين، وقضى على القرصنة، ومهد الطرق، وشرع في إقامة نظام بريدي عام، وألغى أسوأ آفات الرق، وأبطل عقوبة الإعدام على ممارسة السحر، ونظم الإعانة للمحتاجين، وفتح المدارس للفقراء، وجعل التعليم إجبارياً، وطول جامعة كوبنهاجن، فأصبحت مكاناً يشع بالضياء وملاذاً للعلم. وتعرض لعداء لويك بتقييد سلطة الهانز Hanse، وشجع التجارة الدنمركية وأسبغ عليها حمايته، ووضع حداً للعادة الهمجية التي خولت للقرويين المقيمين بجوار البحر الحق في نهب كل السفن التي تتحطم على شواطئهم.

وأرسل ليو العاشر عام 1517 جيوفاني أركمبولدو إلى الدنمرك ليعرض صكوك الغفران، فندد بول هلجزن، وهو راهب كرملي بما بدا له بيعاً لصكوك الغفران هذه، وهو بذلك سبق رسائل لوثر(5). واشتجر النزاع بين القاصد الرسولي وبين الملك حول تقسيم هذه المبالغ المتحصلة من البيع. وهرب أركمبولدو إلى لوبك بجانب منها، وصادر كريستيان الباقي، عندما وجد كريستيان أسباباً وجيهة لاعتناق البروتستانتية دفعاً للمظالم الحقيقية التي ارتكبتها الكنيسة وثروتها القائمة، عين هلجزن في منصب بجامعة كوبنهاجن، حيث تزعم أرازموس الدنمرك الفصيح هذا، إلى حين، حركة للإصلاح الديني. وعندما تحول هلجزن إلى رجل يأخذ بأسباب الحيطة أرسل كريستيان إلى فردريك الحكيم الأمير المختار لسكسونا، كي يبعث إليه بلوثر نفسه، أو يبعث إليه على الأقل بعالم في اللاهوت من مدرسة لوثر. وجاء كارلشتادت، ولكنه لم يمكث طويلاً. واصدر كريستيان قانوناً بالإصلاح الديني: لا يجوز رسامة أحد دون أن يكون قد درس دراسة كافية ليفسر الإنجيل باللغة الدنمركية، ولا يستطيع رجال الأكليروس قانوناً أن يملكوا عقاراً، أو يتسلموا تركات ما لم يتزوجوا، وأمر الأساقفة بأن يتخففوا من الترف الذي يعيشون فيه، وفقدت المحاكم الكنسية الاختصاص القضائي، عندما يتعلق الأمر بنظر قضية خاصة بالملكية، وخولت محكمة عليا، عينها الملك، السلطة النهائية في الشئون الكنسية والمدنية على السواء. ومهما يكن من أمر فإنه عندما وضع مجلس دايت ورمس لوثر تحت نير الحرمان الإمبراطوري، أوقف كريستيان إصلاحاته وأشار هلجون بعقد صلح مع الكنيسة.

وبينما كانت هذه السياسة الوطنية التي انتهجها كريستيان تثير شعبه فقد أزمة الموقف بفشله في الشئون الخارجية. وأدت قسوته في السويد إلى أن ينقلب عليه كثير من الدنمركيين. وأعلنت لوبك الحرب عليه بسبب هجماته على السفن الهانزية، وتجاهل النبلاء ورجال الأكليروس، الذين نفرتهم منه الضرائب المرتفعة والتشريع المعادي، ودعواته لعقد مجلس وطني، ونادوا بعمه الدوق فريدريك أف شلسفيج - هولشتين، ملكاً جديداً للدنمرك، وفر كرستيان إلى الفلاندرز مع الملكة زوجته، شقيقة شارل الخامس البروتستانتية، وعقد صلحاً مع الكنيسة، مؤملاً أن يجد مملكة لقداس، وقبض عليه وهو يقوم بمحاولة، لا طائل تحتها، لاستعادة عرشه، وعاش سبعة وعشرين عاماً في سجون سوندربورج، لا رفيق له إلا قزم نرويجي أحمق. وقادته سبل المجد إلى رمسه، يجلله الخزي والعار رويداً (1559).

ولم يجد فردريك الأول ما كان ينشده من سعادة في ظل تاجه المهدد، فقد رضى به النبلاء ورجال الأكليروس بشروط كثيرة، أحدها أنه لن يسمح أبداً لهرطيق بالوعظ في الدنمرك، وبينما كان هلجزن يواصل نقده لنقائض الكنيسة، حول وقتذاك معظم مناظراته، التي تشتعل حماسة، ضد البروتستانت، وألح على أن إصلاحها دينياً، يتم بالتدريج خير من ثورة يسودها الشغب. ولكنه لم يستطع أن يقف في وجه التيار. فقد كان الدوق كريستيان، ابن فردريك، لوثرياً قبل ذلك، وتزوجت ابنة الملك، بموافقته، البرخت البراندنبرجي الرئيس اللوثري السابق للفرسان النيوتون، وفي عام 1526 مال فردريك مع الريح، وعين هانزتاوزن قساً خاصاً له، وكان قد درس على يد لوثر. فترك تاوزن ديره، وتزوج ودافع علناً عن آراء لوثر. ووجد فردريك أن من المناسب أن يأمر بأن تدفع له لا للبابا، رسوم التصديق على تعيين الأساقفة. وتشجع الوعاظ اللوثريون وتضاعف عددهم، وطلب الأساقفة نفيهم، فرد عليهم فردريك بأنه لا ولاية له على أرواح الناس، وأنه قرر أن يترك العقيدة حرة - وهو إجراء غير مألوف للغاية. وظهرت عام 1524 ترجمة للعهد الجديد باللغة الدنمركية، ونشر كريستيان بدرسن عام 1529 نسخة أفضل من الأولى، دفعت الحركة البروتستانتية دفعة كبيرة. وكان الناس يتلهفون على وضع حد لضرائب العشور التي تدفع لرجال الأكليروس، فقبلوا اللاهوت الجديد، وما أن حل عام 1530 حتى كان اللوثريون يسيطرون على كوبنهاجن وفيبورج. وفي ذلك العام عقدت مناظرة في المجلس بكوبنهاجن، بين زعماء الكاثوليك والبروتستانت، وقضى الملك والشعب بفوز البروتستانت، وظل الاعتراف بالعقيدة الذي قدمه هناك هانز تاوزن مدى عقد من الزمان، المذهب الرسمي للوثريين الدنمركيين.

وكانت وفاة فردريك (1533) مقدمة الفصل الأخير من الإصلاح الديني الدنمركي. فقد انضم كبار التجار في الدنمرك إلى أعدائهم القدامى في لوبك، وقاموا بمحاولة لإعادة كريستيان إلى العرش، وقاد الكونت كريستوفر أف أولدنبرج قوات لوبك وأطلق اسمه على هذه الحرب فسميت باسم "حرب الكونت"، وسقطت كوبنهاجن في يده، وأخذت لوبك تحلم بحكم الدنمرك بأسرها. بيد أن أوساط الناس والفلاحين نظموا صفوفهم تحت علم كريستيان ابن فردريك، وتغلب جيشهم على أولدنبرج، واستولى على كوبنهاجن بعد حصار ضربه حولها دام عاماً (يوليو سنة 1536). وقبض على جميع الاساقفة، ولم يطلق سراحهم، إلا بعد أن وعدوا بالبقاء إلى جانب النظام البروتستانتي وانعقد المجلس الوطني في أكتوبر سنة 1536، وأنشأ رسمياً كنيسة الدولة اللوثرية، ورئيسها الأعلى كريستيان الثالث. وصودرت جميع أملاك الأسقفيات والأديار لصالح الملك، وفقد الأساقفة كل صوت لهم في الحكم. وقبلت النرويج وأيسلندة كريستيان الثالث وتشريعه، وكتب النصر التام للوثرية في إسكنديناوة (1554).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- البروتستانتية في شرقي أوربا

نعمت بولندة بعصرها الذهبي في عهد سجسموند الأول (1506-48) وابنه سجسموند الثاني (1548-72). وكانا رجلين على حظ من الثقافة والذكاء، وراعيين متذوقين للأدب والفن، وكلاهما منح للفكر والعبادة حرية، وعلى الرغم من أنها لم تكن كاملة، فإنها جعلت معظم أمم أوربا تبدوا قروسطية إذا قورنت ببولندة. وتزوج سجسموند الأول بونا سفورزا المرحة الموهوبة (1518)، وهي ابنة الدوق جيا بجاليازو أمير ميلان، وأحضرت معها إلى كراكو بطانة من رجال الحاشية والعلماء، وبدلاً من أن يتبرم بهم الملك، رحب بهم باعتبارهم جسراً يصل بينه وبين النهضة، وتملكت الأرستقراطية نزعة إلى الترف بارتداء الثياب المنمقة واقتناء الرياش الثمينة، وأصبحت اللفة أكثر صقلاً، والأخلاق أكثر تهذيباً، وازدهرت الآداب والفنون، وكتب أرازموس (عام 1523): "إني أهنئ هذه الأمة... التي بلغت فيها العلوم وفقه القانون والأخلاق والدين وكل ما يفصلنا عن الهمجية درجة من الازدهار تستطيع بها أن تنافس أرفع الأمم شأناً وأعظمها مجداً(6"). وسيطرت بونا على زوجها بجمالها ورشاقتها ودهائها، فأصبحت ملكة فعلاً، وملكة في الزي على السواء. وكان ابنها سجسموند الثاني عالما بالإنسانيات ولغوياً وخطيباً وميالاً إلى التزيي بزي النساء(7). وأضرت الحروب هذه العهود اللامعة لأن بولندة كانت مشتبكة مع السويد والدنمرك وروسيا في نزاع على السيطرة على بحر البلطيق وموانيه، وفقدت بولندة بروسيا، بيد أنها ضمت مازوفيا وتشمل وارسو (1529) وليفونيا وتضم ريجا (1561). وكانت بولندة في هذا العصر دولة أوربية كبرى.

وفي غضون ذلك تسلل الإصلاح الديني من ألمانيا وسويسرة. وقد عودت حرية العبادة، التي ضمنها التاج البولندي لرعاياه من الروم الكاثوليك، الأمة على التسامح الديني، وجعلت ثورة الهسيين والأتراكويين في بوهيميا المجاورة. والتي دامت قرناً من الزمان، بولندة لا تعبأ إلى حد ما بالسلطة البابوية البعيدة. وكان الأساقفة، الذين يعينهم الملك، رجالاً مثقفين محبين لوطنهم، من أنصار الإصلاح الكنسي، مع الاعتصام بحيطة أرازمية، ويؤيدون الحركة الإنسانية تأييداً عظيماً، ومهما يكن من أمر فإن هذا لم يخفف من شدة الحسد الذي تطلع به النبلاء، وسكان المُدن، إلى أملاكهم ومواردهم. وازدادت الشكاوى من استنزاف الثروة القومية إلى روما، ومن صكوك الغفران التي تكلف مشتريها غالياً بصورة غير معقولة، ومن اتجار رجال الدين بالمقدسات والرتب والوظائف الدينية، ومن ارتفاع نفقات التقاضي أمام المحاكم الأسقفية. واستاء صغار النبلاء الزلاخته Sziachka بصفة خاصة من إعفاء رجال الأكليروس من الضرائب ومن جباية رجال الأكليروس لضرائب العشور من النبلاء أنفسهم. ولعل بعض البارونات من ذوي النفوذ قد استمعوا في تعاطف إلى نقد لوثر للكنيسة، لأسباب اقتصادية، وكان لما يتمتع به اللوردات الإقطاعيون من شبه سيادة الفضل في إسباغ الحماية على الحركات البروتستانتية المحلية، كما كان لاستقلال الأمراء الألمان الفضل في إمكان نشوب الثورة وحماية لوثر. ودافع راهب دانزج على رسائل لوثر ودعا إلى القيام بإصلاحات كنسية، وتزوج وارثة (1518)؛ وانتهج واعظ آخر نهج لوثر فعلاً إلى حد أن عدة جماعات من المصلين أزالت كل الصور الدينية من كنائسها (1522)، وما أن حل عام 1540 حتى كانت كل منابر الوعظ في دانزج في أيدي البروتستانت. وعندما قدم بعض رجال الأكليروس في براونزبرج البولندية البروسية الشعيرة اللوثرية وشكا كبراء القساوسة في الكاتدرائية إلى أسقفهم، رد بأن "لوثر بنى آراءه على الكتاب المقدس وكل مَن يشعر بأن في مقدوره أن يدحضها فليضطلع بالعبء (1510)(8"). وأقنع سجسموند الأول بفرض رقابة على المطبوعات، ومنع دخول كتابات لوثر، غير أن كاتم سره وكاهن الاعتراف الفرنسسكاني الخاص ببونا إعتنقا العقيدة المحرمة سراً وكسبتهما إلى صفها، وأهدى كالفن عام 1539 كتابه "تعليق على القداس" لولي العهد.

وعندما الأمير ملكاً باسم سجسموند الثاني انتشرت اللوثرية والكالفينية على السواء بسرعة. وترجم الكتاب المقدس إلى اللغة البولندية، وبدأت اللغة الدارجة تحل محل اللغة اللاتينية في الشعائر الدينية. وأعلن القساوسة المبرزون مثل جان لاسكي تحولهم إلى البروتستانتية. وفي عام 1548 انتقل الاخوة البوهيميون من بلادهم إلى بولندة، وسرعان ما كانت هناك ثلاثون جمعية سرية من طائفتهم في البلاد: وقام رجال الأكليروس الكاثوليك بمحاولة لاتهام بعض أفراد صغار النبلاء Szlachta بالهرطقة ومصادرة أملاكهم، فأدت إلى قيام كثير من صغار النبلاء بالثورة ضد الكنيسة (1552) وصوت المجلس النيابي الوطني لعام 1555، وأقر الحرية الدينية لكل العقائد التي تعتمد على "كلمة الله الخالصة"، وأسبغ صفة الشرعية على زواج رجال الأكليروس، ومناولة القربان المقدس بالخبز والنبيذ، وكان الإصلاح الديني في بولندة في أوج ازدهاره.

وتعقد الموقف في بولندة بتطور أقوى حركة للقائلين بوحدة الكنيسة، إبان القرن السادس عشر في أوربا، وفي أوائل عام 1546 نوقشت محاولات سرفيتوس المنكرة للقول بالتثليث، وذلك في هذا الشرق الأقصى من العالم المسيحي اللاتيني، وزار لايليوس سوكينوس بولندة عام 1551 وترك خمائر من الأفكار المتطرفة، وواصل جيورجيو بلاندرانا الحملة، وفي عام 1561 أصدرت الجماعة الجديدة اعترافاً بالعقيدة. وواصل أعضاؤها الخلط الذي اتسم به لاهوت سرفيتوس، فقصروا الألوهية الكاملة على الرب الأب، ولكنهم جاهروا بالإيمان بالمولد الخارق للمسيح ووحيه الإلهي ومعجزاته وبعثه وصعوده. ورفضوا التسليم بفكرتي الخطيئة الأولى وتكفير المسيح عن خطايا البشر، وسلموا بالتعميد والقربان المقدس كرمزين فحسب، ولقنوا الناس أن الخلاص يتوقف فوق كل شيء على العمل الواعي بتعاليم المسيح. وعندما أدان المجمع المقدس الكالفيني في كراكو (1563) هذه العقائد، أنشأ القائلون بوحدة الكنيسة لهم كنيسة منفصلة. ولم تبلغ الطائفة أوج ازدهارها إلا على يد فاوستوس سوكينوس ابن أخ لايليوس، الذي وصل إلى بولندة عام 1579. وحاربت الكنيسة الكاثوليكية هذه التطورات بالاضطهاد والكتابات والدبلوماسية، وفي عام 1539 أرسل أسقف كراكو إلى المحرقة امرأة في الثمانين من عمرها بتهمة أنها رفضت عبادة القربان المقدس(9). وتصدى استانسلاوس هوزيوس، أسقف كولم في بروسيا، والكاردينال فيما بعد، لتعبئة الهجوم المضاد بمقدرة وحماسة، وعمل جاهداً من أجل الإصلاح الكنسي، ولكنه لم يكن متعاطفاً مع اللاهوت البروتستانتي أو الشعيرة البروتستانتية. وبناء على اقتراحه أرسل لودوفيكوليبومانو أسقف فيرونا إلى بولندة مندوباً بابوياً، وعين ديوفاني كومندوني، أسقف زانتي قاصداً رسولياً في كراكو. وكسبوا تأييد سجسمون الثاني الفعال للكنيسة بتأكيد الانقسامات بين البروتستانت وتضخيم صعوبة تنظيم الحياة المعنوية للأمة بمثل هذه العقائد الضارة المذبذبة. وفي عام 1564 جاء هوزيوس وكمندوني باليسوعيين إلى بولندة. وضمن هؤلاء الرجال المدربون المخلصون مناصب استراتيجية في النظام التعليمي، واستمالوا آذان الشخصيات البارزة، وإعادة الشعب البولندي إلى اعتناق العقيدة التقليدية.

وكان البوهيميون من البروتستانت قبل لوثر، ولم يجدوا في أفكاره ما يفزعهم إلا قليلاً. وقبل جانب كبير من الألمان على الحدود الإصلاح الديني. وكان الاخوة البوهيميون ويبلغ عددهم حوالي عشرة في المائة من مجموع السكان البالغ 400.000 نسمة، أشد تمسكاً بالبروتستانتية من لوثر. وكان 60 في المائة أتراكويين كاثوليك تناولوا القربان المقدس بالنبيذ وبالخبز على السواء، وتجاهلوا احتجاج البابوات(10). وما أن حل عام 1560 حتى كان ثلثا سكان بوهيميا من البروتستانت، ولكن فرديناند أدخل اليسوعيين عام 1561، وتحول التيار إلى العقيدة الكاثوليكية المحافظة.

وعرفت المجر الإصلاح الديني عن طريق المهاجرين الألمان وهم يحملون أنباء لوثر، ذلك الرجل الذي استطاع أن يتحدى الكنيسة والإمبراطورية وعاش مع ذلك. وتطلع الفلاحون الهنغاريون الذين ظلمهم الإقطاع الذي تساعده الكنيسة، بشيء من التحيز للبروتستانتية يمكن أن تضع حداً لضرائب العشور والمكوس التي تجبيها الكنيسة، وتطلع البارونات الإقطاعيون بعيون جشعة إلى أملاك الكنيسة الشاسعة، التي كانت منتجاتها تنافس منتجات أراضيهم، ورأى عمال المُدن، الذين أصيبوا بعدوى مبادئ المدينة الفاضلة، أن الكنيسة هي العقبة الكبرى التي تقف في طريق أحلامهم، وانهمكوا في نشوات تحطيم التماثيل، وتعاونت الكنيسة في إقناع الحكومة باعتبار اعتناق البروتستانتية جريمة يستحق مرتكبها الإعدام. وسعى الملك فرديناند في غربي المجر جاهداً للحصول على مصالحة، وأراد أن يسمح لرجال الأكليروس بالزواج وبتقديم القربان المقدس بصورتيه المعروفتين، وانتشرت البروتستانتية بلا قيود في شرقي هنغاريا في ظل حكم تركي ينظر باحتقار وبلا مبالاة إلى الاختلاف بين المذاهب المسيحية، وما أن حل عام 1550 حتى بدا أن هنغاريا بأسرها سوف تصبح بروتستانتية. ولكن الكالفينية بدأت وقتذاك تنافس اللوثرية في هنغاريا، وأيد المجريون، وهم بفطرتهم مناهضون للألمان، النمط السويسري من الإصلاح الديني "وما أن جاء عام 1558 حتى كان الكالفينيون من الكثرة إلى حد أنهم استطاعوا عقد مجمع مقدس في زنجر"، كان له أثره الكبير. وشطرت مراكز القوى المتنافسة للإصلاح الديني الحركة إلى شطرين، وعاد كثير من الموظفين أو مَن تحولوا من عقيدتهم، ممن ينشدون الاستقرار الاجتماعي أو الهدوء الفكري إلى الكاثوليكية، وفي القرن السابع عشر استعاد اليسوعيون بزعامة ابن أحد الكالفينيين، هنغاريا إلى حضيرة الكاثوليكية.


5- شارل الخامس والأراضي المنخفضة

كانت تجارة نافقة في بلاد الفلاندرز إبان نضج شارل أفضل من الانصراف إلى صناعة ضعيفة مشتتة. وساد الكساد في بروجس وغنت، وعاشت بروكسل باعتبارها قصبة فلمنكية، وكانت لوفان تشكل اللاهوت وتصنع الجعة وأنتورب تتحول - وسوف تكون عند حلول عام 1550 - أغنى مدينة في أوربا وأكثرها حركة وعملاً. وحولت التجارة الدولية والمال ذلك الميناء الهزيل على نهر شلدت العريض الصالح للملاحة بفضل انخفاض المكوس الجمركية على الواردات والصادرات والارتباط السياسي مع أسبانيا وبورصة متخصصة، وشعارها يقول بأنها أنشئت ad usum mercatorum cuiusque gentis ac linguae (ليفيد منها التجار القادمون من كل البلاد والمتحدثون بجميع الألسنة(11)". وكان القيام بمشروع أي عمل حراً من قيود الطائفة الحرفية والحماية البلدية، التي أبقت الصناعة القروسطية غير متقدمة لحسن الحظ. وفتح المصرفيون الإيطاليون هناك وكالات وأقام "التجار المغامرون" الإنجليز مستودعاً وركز آل فوجر وجوه نشاطهم التجاري، وبنى الهانز مؤسستهم العظيمة بيت الشرقيين (1564). وشهد الميناء 500 سفينة تدخل إليها أو تغادرها كل يوم و 5.000 تاجر يشتغلون بتبادل السلع. وكانت حوالة مالية مسحوبة على أنتورب وقتذاك أشيع شكل للعملة الدولية. وفي هذه الفترة حلت أنتورب بالتدريج محل لشبونة، وأصبحت أكبر ميناء أوربي لتجارة التوابل، وكان الوكلاء الفلمنكيون يشترون حمولات السفن الداخلة إلى لشبونة قبل أن تفرغ ثم ترسل مباشرة إلى أنتورب لتوزيعها في شمالي أوربا. وكتب سفير البندقية يقول: "لقد حزنت لرؤية أنتورب لأني شهدت مدينة تبز البندقية(12)"، وكان يشهد التحول التاريخي للزعامة التجارية من البحر الأبيض المتوسط إلى شمال الأطلنطي. وحفزت هذه التجارة الصناعة الفلمنكية فانتعشت حتى في غنت، وأمدت الأراضي المنخفضة شارل الخامس بمبلغ 1.500.000 جنيه (37.500.000 دولار) سنوياً، وهو يعادل نصف دخله الكلي(13). واستجاب بمنح الفلاندرز وهولندة حكماً صالحاً معتدلاً، اللهم إلا في مجال الحرية الدينية - وهي هبة لم يكد يدركها أصدقاؤه أو أعداؤه. وكانت سلطته من الناحية الدستورية مقيدة بتعهده الذي أقسم على تنفيذه بمراعاة مواثيق المُدن والمقاطعات وقوانينها المحلية، وبالحقوق الشخصية والعائلية، التي حافظ عليها سكان المُدن بشجاعة، وبمجالس الدولة والمالية، ومحكمة للاستئناف أنشئت لتكون جزءاً من الإدارة المركزية. وكان شارل بوجه عام يحكم الأراضي المنخفضة حكماً غير مباشر عن طريق نواب يقبلهم المواطنون: أولاً عمته، وحاضنته ومربيته مرجريت النمساوية، ثم شقيقته ماري، ملكة هنغاريا السابقة، وهما امرأتان تتمتعان بكفاءة وإنسانية ومهارة. ولكن شارل أصبح أشد استبدادً باتساع رقعة الإمبراطوريّة وأقام حرساً أسبانياً في المُدن المتكبرة، وقمع بقسوة أي مخالفة خطيرة لسياسته الدولية، فعندما رفضت غنت أن تصوت على قرار بالاعتمادات العسكرية التي طلبها ومنحتها له المُدن الأخرى، أخمد شارل الثورة باستعراض قوة لا جدال فيها، واقتضى إعانة مالية وتعويضاً، وألغى الحريات التقليدية التي كانت تتمتع بها البلدية، واستُبْدِل بالحكومة المختارة محلياً موظفون معينون من قبل الإمبراطور (1540)(14). ولكن لم يكن هذا المتبع في الأغلب. وعلى الرغم من هذه القسوة العارضة فقد ظل شارل يحظى بشعبية بين رعاياه في الأراضي المنخفضة، ونال الثقة لما حققه من استقرار سياسي ونظام اجتماعي، وطدا دعائم الرخاء الاقتصادي، وعندما أعلن تنازله عن العرش حزن كل المواطنين تقريباً(15).

وسلم شارل بالنظرية المتداولة القائلة بأن السلام القومي والقوى يتطلبان حدة المعتقد الديني، وخشي أن تؤدي البروتستانتية في الأراضي المنخفضة إلى تعريض جناحه للخطر في نزاعه مع فرنسا وألمانيا اللوثرية، فأيد الكنيسة تأييداً كاملاً في قمع الهرطقة في الفلاندرز وهولندة. وكانت حركة الإصلاح الديني هناك معتدلة قبل لوثر، ودخلت بعد عام 1517، مثل ما دخلت اللوثرية ومذهب المنكرين للتعميد من ألمانيا، والزونجيلية والكالفينية من سويسرة والألزاس وفرنسا. وسرعان ما ترجمت رسائل لوثر إلى الهولندية وشرحها وعاظ في انتورب وغنت ودوردرخت واترخت وتسفولى ولاهاي. وتزعم الأخوة الرهبان الدومنيكان حركة معارضة نشيطة دحضوا فيها آراء خصومهم، وقال أحدهم إنه يود لو استطاع أن ينشب أسنانه في زور لوثر، وإنه لن يتردد في أن يذهب لتناول العشاء الرباني والدم يلطخ فمه(16). ورأى الإمبراطور، وهو لا يزال شاباً، أن يخمد الهياج بنشر "إعلان ملصوق" بناء على طلب البابا، يحرم طباعة مصنفات لوثر أو قراءتها. وفي العام نفسه أمر الحاكم العلمانية بتنفيذ منشور ورمس في سائر الأراضي المنخفضة ضد كل مَن يعرض آراء لوثر. وفي اليوم الأول من يوليو عام 1523 أرسل هنري فوس وجوهان إيك، وهما راهبان أوغسطينيان إلى المحرقة في بروكسل، فكانا أول شهيدين من البروتستانت في الأراضي المنخفضة. وسجن هنري الزتفيني، وهو صديق وتلميذ للوثر، ورئيس الدير الأوغسطيني في أنتورب، وفر، وقبض عليه في هولستاين وأحرق هناك (1524) وكان تنفيذ هذه الأحكام بالإعدام بمثابة إعلان لآراء المصلحين الدينيين.

وعلى الرغم من الرقابة فإن ترجمة لوثر للعهد الجديد انتشرت على نطاق واسع، وتداولها الناس في هولندة بحماسة أكثر من الفلاندرز الغنية. وكانت هناك أمنية لإعادة المسيحية إلى بساطتها الأولى، فنشأ عنها أمل، بعد مرور ألف عام، في عودة المسيح مبكراً، وإنشاء أورشليم جديدة لا تكون فيها حكومة، ولا زواج ولا ملكية، وامتزجت بهذه الأفكار نظريات شيوعية عن المساواة وتبادل العون بل "والحب الحر(17)". وتكونت جماعات تنكر التعميد في أنتورب وماسترخت وأمستردام. وجاء ملشيور هوفمان من أمدن إلى أمستردام عام (1531) وأعاد جون الليدني عام 1534 الزيارة يحمل معه يحمل معه عقيدة المنكرين للتعميد من هارلم إلى منستر. وقدر أن ثلثي السكان في بعض المُدن الهولندية كانوا من المنكرين للتعميد. بل إن العمدة في ديفنتز تحول لنصرة القضية. وشحذت المجاعة الحركة، فأصبحت ثورة اجتماعية. وكتب صديق لأرازموس عام 1534 يقول "إن اشتعال حماسة المنكرين للتعميد في هذه المقاطعات يجعلنا نشعر بقلق بالغ لأنه يتصاعد مثل ألسنة اللهب ولا تكاد توجد بقعة أو مدينة لا تتأجج فيها سراً شعلة التمرد(18"). وحذرت ماري الهنغارية الإمبراطور؛ وكانت وقتذاك نائبة له، من أن الثوار قد وضعوا خطة لانتهاب كل ضروب الملكية من النبلاء ورجال الأكليروس والأرستقراطية التجارية، وتوزيع الغنائم على كل رجل حسب حاجته(19). وفي عام 1535 أرسل جون الليديني مبعوثين لتدبير ثورة في نفس الوقت يقوم بها المنكرون للتعميد في عدة محلات هولندية، وبذل الثوار جهود الأبطال، فقد استولت جماعة على دير في فريزلاند الغربية، وحصنته، وحاصرهم الحاكم بالمدفعية الثقيلة، ومات 800 وهم يدافعون دفاعاً لا أمل فيه، (1535) وفي 11 مايو اقتحم بعض المنكرين للتعميد المسلحين قاعة المدينة في أمستردام واستولوا عليها، فطردهم سكان المدينة، ونكلوا بالزعماء، وانتقموا منهم انتقاماً مفزعاً من رجال مفزعين، فاستلت الألسنة، ومزقت القلوب من أجساد الأحياء، وألقي بها في وجوه المحتضرين أو الموتى(20).

وظن شارل أن ثورة شيوعية تتحدى البناء الاجتماعي بأكمله، فاستقدم محكمة التفتيش إلى الأراضي المنخفضة، وخول موظفيها سلطة سحق الحركة وكل الهرطقات الأخرى، مهما قضى ذلك على الحريات المحلية. وأخذ بين عامي 1521 و 1555 يصدر الإعلان الملصق بعد الإعلان ضد الانقسام بين الطبقات الاجتماعية أو الانشقاق الديني. وقد كشف أعنف هذه الإعلانات (25 سبتمبر سنة 1550) عن تدهور الإمبراطور، ووضعت الأسس التي قامت عليها ثورة الأراضي المنخفضة ضد ابنه:

لا يحق لأحد أن يطبع أو يكتب أو ينسخ أو يخفي أو يبيع أو يشتري أو يعطي في الكنائس أو في الشوارع أو غير ذلك من الأماكن أي كتاب أو رسالة من تأليف مارتن لوثر، أو جون أو يكولا مباديوس، أو أولريخ زونجلى، أو مارتن بوسر، أو جون كالفن، أو غيرهم من الهراطقة، الذين استهجنت أعمالهم الكنيسة المقدسة... ولا يحق له أن يحطم أو يؤذي بأي صورة أخرى تماثيل العذراء المقدسة، أو القديسين الذين اعترفت بهم الكنيسة... وليس له أن يعقد اجتماعات سرية أو اجتماعات غير قانونية، أو يحضر أي اجتماع من هذه الاجتماعات، التي يدعو فيها أنصار الهراطقة المذكورين ويعمدون ويدبرون مؤامرات ضد الكنيسة المقدسة والصالح العام... ونحن نمنع جميع الأشخاص العلمانيين من أن يتحدثوا أو يجادلوا في أمر يتعلق بالكتب المقدسة جهراً أو سراً... أو أن يقرأوا أو يعلموا أو يفسروا الكتب المقدسة، ما لم يكونوا قد درسوا اللاهوت في حينه، أو اعترفت بهم إحدى الجامعات المشهورة، أو يرحبوا بأي رأي من آراء الهراطقة المذكورين... وإلا تعرضوا للعقوبات المنصوص عليها فيما يلي... الرجال (تقطع رؤوسهم) بالسيف والنساء يدفن أحياء إذا لم يصررن على أخطائهن، وإذا أصررن عليها فإنهن يعدمن حرقاً، وفي كلتا الحالتين تصادر أملاكهن كلها لمصلحة التاج.

وتمنع كل الأشخاص أن ينزلوا عندهم أو يستضيفوا أو يزودوا بالطعام أو الدفء أو الملابس أو يؤيدوا بأية طريقة أخرى أي امرئ يعتقد أنه هرطيق، أو يشتبه في أن له سمعة سيئة كهرطيق، وكل من يتخلف عن التنديد بأي واحد من هؤلاء الذين نأمر بإدانتهم يكون عرضة للعقوبات المذكورة آنفاً... وكل مَن يعرف شخصاً موصوماً بالهرطقة يجب أن يبلغ عنه ويسلمه... ويكون للمبلغ، في حالة الإدانة، الحق في نصف أملاك المتهم... ولكي لا يكون لدى القضاء والموظفين أي ذريعة - بحجة أن العقوبات جسيمة جداً وشديدة، ولم ينص عليها إلا لإثارة الفزع في قلوب المجرمين - ليوقعوا عليهم عقوبة أقل مما يستحقون (نأمر) بأن يعاقب المجرمون حقاً بالعقوبات التي أعلنا عنها سابقاً، ونحظر على جميع القضاة أن يغيروا أو يخففوا العقوبات بأية طريقة، ونحظر على أي أحد، في أي ظرف أن يطلب منا، أو من أي أحد أو سلطة، أن يمنح عفواً عن، أو أن يقدم التماس في صالح، هؤلاء الهراطقة أو المنفيين أو الهاربين، وإلا تعرض للحكم عليه إلى الأبد بعدم الأهلية لتولي الوظائف المدنية أو العسكرية، ولأن يعاقب بعقوبة يقضى بها عليه بطريقة تحكمية(21).

وعلاوة على هذا كان يطلب من أي شخص يدخل البلاد المنخفضة أن يوقع على تعهد بالولاء للعقيدة المحافظة بحذافيرها(22). وتحولت الأراضي المنخفضة عن طريق هذه المنشورات اليائسة، إلى ساحة قتال بين الشكلين للقديم والجديد من المسيحية، وقدر سفير البندقية في بلاط شارل أن 30.000 شخص، وهم كل المنكرين للتعميد تقريباً، هلكوا عام 1546 في هذه المذبحة الإمبراطوريّة الطويلة(23)، التي قتل فيها الآمنون من المواطنين، وخفض تقدير آخر أقل إثارة عدد الضحايا إلى 10.000 شخص(24). وبقدر ما كان الهولنديون المنكرون للتعميد مهتمين، بقدر ما نجحت محكمة التفتيش الكارولينية، وظل بقية منهم على قيد الحياة في هولندة بإبداء عدم المقاومة، وهرب بعضهم إلى إنجلترا، حيث أصبحوا من أنصار البروتستانتية النشطين في عهد إدوارد السادس وإليزابث. وانهارت الحركة الشيوعية في الأراضي المنخفضة بعد أن روعها الاضطهاد وخنقها الرخاء.

ولكن عندما انحصرت موجة المنكرين للتعميد تدفق نهر من الهوجينوت المطاردين إلى الأراضي المنخفضة من فرنسا، وجاءوا معهم بإنجيل كالفن، وراقت الحماسة الصارمة القائلة بالحكم الديني للهرطقة الجديدة، لمن ورثوا تقاليد المتصوفة وإخوان الحياة المشتركة، وكان قبول كالفن للعمل باعتباره كرامة بدلاً من أن يعد لعنة، وللثورة باعتبارها بركة بدلاً من أن تعد جريمة، وللنظم الجمهورية باعتبارها أكثر موافقة من الملكية للمطامح السياسية لطبقة رجال الأعمال، يحتوي على أجزاء تلقى ترحيباً متفاوتاً من كثير من العناصر بين السكان. وما أن حل عام 1555 حتى كانت هناك جماعات كالفينية للمصلين في إيبرس وتورناي وفالنسينس وبروجس وغنت وأنتروب، وكانت الحركة تنتشر في هولندة ويرجع الفضل إلى الكالفينية لا إلى اللوثرية، أو مذهب المنكرين للتعميد، في أن ابن شارل سوف يحصر خلال جيل مرير، في صراع قدر له أن يشطر الأراضي المنخفضة إلى قسمين، ويحرر هولندة من السيطرة الإسبانية، ويجعلها موطناً وملجأ من أعظم المواطن والملاجئ للفكر الحديث.

وفي عام 1555 طرح شارل الخامس كل أحلامه ما عدا حلمه بأن يموت في طهارة، وتخلى عن أمله في قمع البروتستانتية في ألمانيا والأراضي المنخفضة أو مهادنة الكاثوليكية في مجلس ترنت، وتخلى عن طموحه في زعامة البروتستانت والكاثوليك والألمان والفرنسيين، في زحف رائع يقوم به ضد سليمان والقسطنطينية والتهديد التركي للعالم المسيحي. وقد أدى إفراطه في الطعام والشراب والعلاقات الجنسية وحملاته المنهكة وأعباء منصب واجه صدمة تغيير ثوري إلى تحطيم جسده وتبلد سياسته وتحطيم إرادته. وكان يشكو من قروح، وهو في الثالثة والثلاثين، واكتهل في الخامسة وأصيب وهو في الخامسة والأربعين بالنقرس والربو وسوء الهضم والتأتأة، وكان وقتذاك يقضي نصف وقت يقظته في ألم، ووجد أنه من الصعب عليه أن ينام، وكثيراً ما كانت الصعوبة التي يجدها في التنفس تجعله يجلس منتصباً طوال الليل، وكانت أصابعه مشوهة بداء المفاصل، إلى درجة أنه لم يكد يستطيع أن يقبض على القلم، الذي وقع به على صلح كريبي. وعندما قدم كوليني رسالة من هنري الثاني، لم يستطع شارل أن يفتحها إلا بصعوبة وقال متسائلاً: "ما رأيك في يا سيدي أمير البحر؟ ألست فارساً رائعاً يستطيع أن يهاجم ويحطم حربة، أنا الذي لا أستطيع أن أفتح خطاباً إلا بعد مشقة كبيرة؟(25)". ولعل قسوته العارضة وشيئاً من الوحشية التي هاجم بها البروتستانتية في الأراضي المنخفضة، ترجع إلى نفاد صبره بسبب آلامه. وأمر بقطع أقدام الأسرى من الجنود الألمان المرتزقة، الذين حاربوا في صفوف فرنسا، على الرغم من أن ابنه الذي قدر له أن يكون فيليب الثاني الصلب الرأي، طلب لهم الرحمة(26)، وقد حزن حزناً مريراً دام طويلاً لوفاة زوجته الحبيبة إيزابلا (1539)، ولكنه سمح في حينه بحضور عذارى لا حول لهن ولا طول إلى مخدعه(27).

ودعا في خريف عام 1555 إلى عقد اجتماع لمجلس الطبقات في الأراضي المنخفضة، يوم 25 أكتوبر، واستدعى إليه فيليب من إنجلترا. وفي قاعة دوقات برابانت الواسعة المغطاة بالسجاجيد في بروكسل حيث اعتاد فرسان الجزة الذهبية أن يعقدوا اجتماعاتهم، اجتمع النواب والنبلاء والحكام من سبع عشرة مقاطعة في نطاق حرس من الجند المدججين بالسلاح. ودخل شارل يستند على كتف وليام أف أورانج، الذي قدر له أن يكون عدواً لابنه في المستقبل. وتبعه فيليب مع نائبة الإمبراطور ماري الهنغارية، ثم أمانويل فيليبرت أف سافوي، ومستشارو الإمبراطور، وفرسان الجزة الذهبية، وكثير من الأعيان الآخرين الذين أقبلت عليهم الدنيا يوماً قبل أن تنساهم. وعندما جلس الجميع نهض فيليبرت وشرح في إسهاب ووضوح اغتبط لهما شارل، الأسباب الصحية والعقلية والسياسية التي حدت بالإمبراطور إلى إبداء رغبته في أن يتنازل عن حكم الأراضي المنخفضة لابنه. ثم وقف شارل نفسه وهو يتكئ من جديد على أمير أورانج الوسيم فارع القامة، وتحدث ببساطة، وفي صميم الموضوع، ولخص كيف ارتقى إلى أن بلغ آفاقاً متسعة من السلطان على التعاقب وتحدث عن ذوبان حياته في الحكم. وتذكر أنه زار ألمانيا تسع مرات وإسبانيا ستاً وفرنسا أربعاً وإنجلترا وأفريقية مرتين، وقام بإحدى عشرة رحلة بالبحر واستأنف كلامه قائلاً:

هذه هي المرة الرابعة التي أفكر فيها في الذهاب لإسبانيا من الآن... ولم يسبق أن جربت شيئاً سبب لي مثل هذا الألم العظيم... الذي أشعر به وأنا أفترق عنكم من اليوم دون أن أترك خلفي ذلك السلام والهدوء اللذين طالما رغبت في تحقيقهما... ولكني لم أعد قادراً على مباشرة شئوني دون أن أشعر بتعب شديد يسري في بدني، وبالتالي ألحق بالدولة الضرر... وإن ما يتطلبه تحمل المسؤولية من اهتمام عظيم، وما تسببه خور بالغ للعزيمة، وصحتي التي تدهورت من قبل، كل هذه لم تعد تترك لي القوة اللازمة للحكم... وينبغي لي في حالتي هذه أن أقدم لله والانسان حساباً خطيراً إذا لم أطرح السلطة عن كاهلي... وأن ابني، الملك فيليب قد وصل إلى سن تكفي لأن يكون قادراً على حكمكم، وهو، كما ارجو، أمير صالح لكل رعاياي المحبوبين(28).

وعندما تهالك شارل متألماً في مقعده نسى الحاضرون خطاياه واضطهاده وهزائمه، رثاء لرجل عمل جاهداً مدى أربعين عاماً، حسب ما أملته عليه آراؤه وسمحت به قدرته، تحت وطأة أثقل الالتزامات في عصره، وبكى كثير من السامعين. ونصب فيليب رسمياً حاكماً للأراضي المنخفضة، وحلف يميناً مغلظة (كما سوف يذكر بها فيما بعد) أن يراعى كل القوانين والحقوق التقليدية للمقاطعات. وفي أوائل عام 1556 سلم له شارل تاج إسبانيا، بكل ممتلكاته في العالم القديم والعالم الجديد، واحتفظ شارل باللقب الإمبراطوري، وكان يأمل أن ينقله لابنه قريباً، ولكن فرديناند احتج، وفي عام 1558 تنازل الإمبراطور عن لقبه لأخيه. وسافر شارل بحراً في السابع عشر من سبتمبر سنة 1556 من فشلنج إلى أسبانيا.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

6- إسبانيا

أ- ثورة العامة 1520-1522

كانت نعمة مشكوكاً فيها لإسبانيا أن يصبح الملك شارل الأول (1516-56) الإمبراطور شارل الخامس (1519-58). وولد وتربى في الفلاندرز: وتعلم مناهج الحياة الفلمنكية، واكتسب الأذواق الفلمنكية، إلى أن تغلبت عليه روح إسبانيا في سنواته. ولم يكن في وسع الملك إلا أن يصبح جزءاً صغيراً من الإمبراطور، الذي كان مشغولاً تماماً بالإصلاح الديني والبابوية وسليمان وبارباروسا وفرانسيس الأول، وشكا الإسبان أنه لم يمنحهم إلا القليل من وقته، وأنه أنفق الكثير من مواردهم البشرية والمادية في المحلات التي كانت في الظاهر لا تهم المصالح الأسبانيّة، وكيف كان في وسع إمبراطور أن يتعاطف مع نظم جماعية جعلت إسبانيا تتمتع بنصف ديمقراطية، قبل مجيء فرديناند الكاثوليكي، وكانت تتوق كثيراً إلى أن تستعيدها؟

وقام بأول زيارة لمملكته (1517) ولم تكسبه حب أحد، وعلى الرغم من مضي عشرين شهراً عليه وهو ملك، فإنه كان لا يزال لا يعرف الإسبانيّة وكان عزله الفظ لأكسيمينس صدمة للدماثة الإسبانية. وجاء يحيط فلمنكيون، ظنوا إسبانيا بلداً همجياً تنتظر مَن يحلبها. وعين الملك البالغ من العمر سبعة عشر عاماً هذه الديدان الطبية في أعلى المناصب، ولم تخفِ المجالس التشريعية الإقليمية المختلفة التي يسيطر عليها صغار النبلاء، نفورها وعدم رضاها عن ملك أجنبي. ورفض المجلس التشريعي في قشتالة أن يعترف له باللقب، ثم اعترف به على كره منه حاكماً، تشترك معه في الحكم أمه المعتوهة جوانا، وجعله يفهم أنه لابد من أن يتعلم الإسبانيّة، ويعيش في إسبانيا، وألا يعين مزيداً من الأجانب في أي منصب. وقدمت المجالس التشريعية طلبات مماثلة. ووسط مظاهر الإذلال التي تعرض لها شارل تلقى أنباء بأنه انتخب إمبراطوراً، وأن ألمانيا كانت تدعوه للحضور لكي يتوج. وعندما سأل المجلس التشريعي في بلد الوليد (وكانت وقتذاك العاصمة) أن يمول الرحلة مني بالفشل والخيبة، وساد هرج هدد حياته. وحصل آخر الأمر على المال من المجلس التشريعي في كورونا وأسرع إلى الفلاندرز. ولكي يجعل الأمور محفوفة بالمخاطر أضعافاً مضاعفة أرسل نواباً corregidores لحماية مصالحه في المُدن، وترك مربيه السابق أدريان كاردينال أترخت نائباً له في إسبانيا. وثارت البلديات الإسبانيّة واحدة وراء الأخرى في "ثورة أعضاء الكومون" ونفوا النواب corregidores وقتلوا بعض النواب الذين صوتوا بالموافقة على منح أموال لشارل، وتحالفوا فيما يعرف باسم Santa Communidad الذي تعهد بالإشراف على الملك. وانضم النبلاء ورجال الكنيسة وأوساط الناس إلى الحركة ونظموا في أفيلا (أغسطس سنة 1520) الـ Santa Iunta أو الاتحاد المقدس ليكون بمثابة حكومة مركزية. وطالبوا بضرورة اشتراك المجالس التشريعية مع المجالس الملكية في اختيار نائب الملك، وعدم شنَّ حرب بغير موافقة المجالس التشريعية، وألا يحكم المدينة النواب بل يحكمها قضاة، أو عمد يختارهم المواطنون(29). ودافع أنطونيو دي أكونيا أسقف سمورة علناً عن قيام جمهورية، وحول أتباعه من رجال الأكليروس إلى محاربين ثوريين، وقدم موارد أسقفية للثورة. وعين جوان دي باديلا، وهو نبيل من طليطلة، قائداً لقوات الثوار. فقادها لتستولي على نورديسيلاس، وأخذ جوانا لالوكا رهينة، وحثها على أن توقع وثيقة، تخلع فيها شارل، وتعين نفسها ملكة، وكانت عاقلة في جنونها، فرفضت.

ولم يكن لدى أدريان ما يكفي من الجند لقمع الثورة، فاستغاث بشارل وطلب منه العودة، وألقى تبعة قيام الثورة صراحة على تحكم الملك وحكمه الغيابي. ولم يحضر شارل، ولكنه وجد هو أو مستشاروه سبيلاً لإشاعة الانقسام والانتصار. فقد حذر النبلاء أن الثورة كانت تهديداً لطبقات أصحاب الأملاك وللتاج على السواء، والحق أن الطبقات العاملة، التي ظلمت منذ عهد بعيد بالأجور الثابتة، والعمل سخرة، وتحريم الاتحاد، كانت قد استولت من قبل على السلطة في عدة مُدن. وفي بلنسية والمنطقة المجاورة لها قبض الجرمانيا Germania أو اخوة أبناء الطوائف الحرفية على الزمام، وسيطروا على لجان العمال. وكانت هذه الدكتاتورية البروليتارية نقية على غير العادة، وفرضت على آلاف المغاربة الذين ظلوا في المقاطعة أن يختاروا بين التعميد والموت. وقتل آلاف من الذين رفضوا في عناد(30). وثار العامة في ماجوركا، الذين عاملهم سادتهم كالعبيد، ثورة مسلحة، وخلعوا الحاكم المعين من قبل الملك، وذبحوا كل نبيل لم يستطع أن يفلت منهم. وتخلت كثير من المُدن عن روابطها مع الإقطاعيين ومستحقاتها لهم، وفي مدريد وسجونزا ووادي الحجارة أقصت الحكومة البلدية الجديدة كل النبلاء والأعيان من المناصب، وقتل الأشراف هنا وهناك، وفرض الاتحاد Iunta ضرائب على أملاك النبلاء السابق إعفاؤها. وأصبح النهب عاماً، وأحرق العامة قصور النبلاء وذبح النبلاء العامة. وانتشر الصراع بين الطبقات في أرجاء إسبانيا.

وقضت الثورة على نفسها بالتوسع في أهدافها، توسعاً جاوز حدود طاقاتها، وانقلب عليها النبلاء، وحشدوا قواتهم، وتعاونوا مع قوات الملك، واستولوا على بلنسية، وأطاحوا بالحكومة البروليتارية، بعد أيام سقط فيها قتلى من الجانبين (1521)، وانقسم جيش الثوار، عندما بلغت الأزمة ذروتها، إلى فرقتين متنافستين بقيادة باديلا ودون بدرو جيرون، وانقسمت الجماعة السياسية إلى أحزاب، يناصب بعضها بعضاً العداء، وواصلت كل مقاطعة ثورتها، دون تآزر مع باقي المقاطعات.

وانطلق جيرون، وانضم إلى الملكيين الذين استولوا من جديد على تورديسلاس وجوانا. أما جيش باديلا الذي تضاءل عدد جنوده فقد هزم هزيمة منكرة في فيلالار، وأعدم باديلا. وعندما عاد شارل إلى إسبانيا (يوليو سنة 1522) ومعه 4.000 جندي ألماني، كان النبلاء قد فازوا بالنصر، وقد أضعف النبلاء والعامة بعضهم بعضاً إلى حد أنه استطاع أن يتغلب على البلديات والطوائف الحرفية، ويروض المجالس التشريعية، ويوطد أركان ملكية تكاد تكون مطلقة. وقد قمعت الحركة الديمقراطية تماماً بحيث ظل كل العامة الأسبان خائفين خاضعين، حتى القرن التاسع عشر. وخفف شارل سلطته بالدماثة، وأحاط نفسه بالنبلاء، وتعلم الحديث بلغة إسبانية سليمة، وسرت إسبانيا عندما علق قائلاً إن الإيطالية هي اللغة اللائقة لكي تتحدث بها النساء، والألمانية هي لغة الأعداء، والفرنسية لغة الأصدقاء، والإسبانية لغة الرب(31).


ب- البروتستانت الإسبان

لم تكن هنا إلا قوة واحدة تستطيع أن تتحدى شارل - هي الكنيسة - وكان نصيراً للكاثوليكية، ولكنه مناهض للبابوية. وسعى، مثل فرديناند الكاثوليكي، إلى جعل الكنيسة الإسبانيّة مستقلة عن البابوات ونجح في هذا إلى حد أن التعيينات في مناصب الكنيسة ودخول الكنيسة إبان حكمه كانت في يديه، واستخدمت لرفع شأن السياسة الحكومية: ولم تكن هناك حاجة للإصلاح الديني في إسبانيا، كما هو الحال في فرنسا، لكي تتبع الكنيسة الدولة. ومع ذلك فإن الحماسة للعقيدة المحافظة الإسبانيّة، إبان نصف مدة حكمه، التي قضاها في مملكته، استحثته إلى حد أنه في سنواته الأخيرة لم يكن هناك أمر (باستثناء قوة آل هايسبرج) يهمه أكثر من قمع الهرطقة.

وبينما حاول البابوات أن يخففوا من وطأة محكمة التفتيش فإن شارل أيدها حتى وفاته. وكان مقتنعاً بالهرطقة في الأراضي المنخفضة كانت تؤدي بها إلى الفوضى والحرب الأهلية، وصمم أن يمنع حدوث مثل هذا التطور في إسبانيا.

وأخمدت محكمة التفتيش الإسبانيّة سورة غضبها، ولكنها مدت رقعة اختصاصها القضائي في عهد شارل. فاضطلعت بعبء الرقابة على المصنفات، وقامت بتفتيش كل مخزن للكتب، وأمرت بإحراق الكتب الموصومة بالهرطقة(32). واستقصت حالات الانحراف الجنسي وعاقبت عليها: ووضعت قواعد نقاء الدم Limpieza، التي أغلقت كل طرق التمييز أمام ذرية المتحولين إلى غير دينهم Conversos وكل مَن عاقبتهم المحكمة. وكانت تنظر إلى المتصوفة نظرة قاسية، لأن بعض هؤلاء ادعوا أن صلتهم المباشرة بالله أعفتهم من حضور الصلاة في الكنيسة، وأضفى آخرون على حالات وجدهم الصوفي طعماً جنسياً مشبوهاً. وأعلن الواعظ العلماني بدرو رويز دي الكراز أن الجماع هو اتحاد بالرب حقاً، وقال الأخ الراهب فرانسيسكو أورتيز مفسراً أنه عندما يرقد مع زميلة متصوفة جميلة فإنه لا يرتكب خطيئة من خطايا الجنس، بل ينعم بمتعة روحية(33). وعاملت محكمة التفتيش برفق هؤلاء المتنورين Alumbrados واحتفظت بأقسى إجراءاتها ضد البروتستانت في إسبانيا.

وكما حدث في شمالي أوربا وقعت مناوشة أرازمية قبل معركة البروتستانت، وهتف بعض رجال الكنيسة المتحررين استحساناً لانتقادات علماء الإنسانيات لأخطاء رجال الأكليروس، ولكن أكسيمنيس وآخرين كانوا قد قوموا من قبل المظالم البارزة أكثر من غيرها، قبل مجيء شارل. ولعل اللوثرية كانت قد تخللت أرض إسبانيا مع الألمان والبلجيكيين المتكلمين بالفلمنكية في الحاشية الملكية. وأدانت محكمة التفتيش ألمانيّاً في بلنسية عام 1524، لأنه جاهر بالتعاطف مع لوثر، وحكم على فلمنكي بالسجن مدى الحياة عام 1528، لتشككه في المطهر وصكوك الغفران، وأحرق في المحرقة فرانسيسكو دي سان رومان، أول مَن عرف من اللوثريين الأسبان عام 1542، بينما كان المشاهدون المتحمسون يطعنونه بسيوفهم. واعتنق جوان ديازاف كوينكا، الكالفينية في جنيف، فاندفع أخوه الفونسو من إيطاليا ليحوله مرة أخرى إلى العقيدة المحافظة، وعندما فشل الفونسو عمل على قتله (1546)(34) وسجن جوان جيل، أو أجيديو، وهو كبير قساوسة متعلم في أشبيلية، لمدة عام بسبب وعظه ضد عبادة الصور والصلاة للقديسين وفاعلية الأعمال الصالحات في الفوز بالخلاص. ونبشت عظامه بعد وفاته وأحرقت، وواصل رفيقه كبير القساوسة كونستانتينو بونس ديلافوينتي، دعايته، ومات في سجون محكمة التفتيش. وأحرق أربعة عشر من زملاء كونستانتينو، ومنهم أربعة رهبان وثلاثة نساء، وحكم على عدد كبير بعقوبات مختلفة، ودك البيت الذي اجتمعوا فيه حتى سوي بالأرض.

وتطورت جماعة نصف بروتستانتية أخرى في بلد الوليد، وهنا تورط نبلاء من ذوي النفوذ ورجال دين من أصحاب الرتب الرفيعة. ووشي بهم لمحكمة التفتيش، وقبض عليهم جميعاً تقريباً وحكم عليهم بالإدانة، وحاول البعض مغادرة إسبانيا فقبض عليهم وأعيدوا. وكان شارل الخامس وقتذاك يستحم في يوستى، فأوصى بعدم إظهار أية رحمة في معاملتهم، وقطع رأس النائبين وإحراق مَن يرفضون التوبة. وفي يوم أحد الثالوث الموافق 21 مايو سنة 1559 أعدم أربعة عشر من المحكوم عليهم أمام جمع متهلل(35). وتراجع الجميع عما قالوا إلا واحداً، وعوملوا برفق، وقطعت رءوسهم، أما أنطونيو دي هرزويلو الذي رفض التوبة فقد أحرق حياً. وسمح لزوجته ليونور دي سيزنيروس البالغة من العمر ثلاثة وعشرين عاماً بالسجن مدى الحياة. وبعد أن أمضت عشر سنوات في السحن، عدلت عن إنكارها لما قالت وجاهرت بهرطقتها، وطالبت أن تحرق حية مثل زوجها فأجيبت إلى ملتمسها(36). وعرض ستة وعشرون آخرون من المتهمين للحرق أحياء في اليوم الثامن من أكتوبر سنة 1559، أمام حشد مكون من 200.000 شخص، يرأسه فيليب الثاني. وحرقت ضحيتان وهما حيتان وخنق عشرة.

وكان بارتلومي دي كارانزا، رئيس أساقفة طليطلة ورئيس أساقفة إسبانيا، أشهر فريسة وقعت في براثن محكمة التفتيش في هذه الفترة. وكان باعتباره من الكومنيكان قد قام بنشاط كبير من مطاردة الهراطقة والإيقاع بهم، وعينه شارل مبعوثاً له في مجلس ترنت، وأرسله إلى إنجلترا لحضور زواج فيليب والملكة ماري. وعندما انتخب رئيساً للأساقفة (1557) كان الاختيار بالإجماع ما عدا صوته. ولكن بعض "البروتستانت" الذين قبض عليهم في بلد الوليد شهدوا بأن كارانزا كان قد تعاطف سراً مع آرائهم، ووجد أنه كان قد راسل المصلح الديني الإسباني الإيطالي جاون دي فالديس، واتهمه عالم اللاهوت ذو النفوذ ملشيور كانو بأنه كان يعضد العقيدة اللوثرية في التزكية بالإيمان. ولم يقبض عليه إلا بعد سنتين من ارتفاع شأنه ووصوله إلى أعلى منصب كنسي في إسبانيا، ونستطيع أن نحكم من هذا على مدى قوة محكمة التفتيش. وظل سبعة عشر عاماً معتقلاً في سجن أو غيره، بينما كانت تصرفاته في حياته ورسائله تتعرض للفحص والاستقصاء في طليطلة وروما. وأعلن جريجوري الثالث عشر أنه "مشتبه فيه بشدة" بالهرطقة وأمره بأن ينكر ستة عشر ادعاء، وأوقفه لمدة حمس سنوات عن مباشرة وظيفته. وتقبل كارانزا الحكم في ذلة، وحاول أن يؤدي الكفارات التي فرضت عليه، ولكنه مات في خلال خمسة أسابيع بعد أن أنهكه السجن والإذلال (1556).

وبموته زال خطر البروتستانتية عن إسبانيا، وحدث أن أعدم حوالي 200 شخص بين عامي 1551 و 1600، لما نسب إليهم من هرطقات بروتستانتية - أي بواقع أربعة أشخاص كل عام. وقد تجمد طبع الناس، الذي كان قوامه من كراهية المغاربة واليهود، التي تأصلت جذورها قروناً طويلة، في عقيدة محافظة لا تتزعزع، وامتزجت الكاثوليكية وحب الوطن، ووجدت محكمة التفتيش أن من اليسير أن تسحق، في خلال جيل أو جيلين، المغامرة الإسبانيّة العابرة التي اتسمت بفكر مستقل.


جـ- الإمبراطور يموت 1556-1558

وقام شارل الخامس في الثامن والعشرين من سبتمبر سنة 1556 بالدخول إلى إسبانيا لآخر مرة. واستغنى في برجوس عن خدمات معظم الذين كانوا قد عملوا معه ومنحهم مكافآت، وودع شقيقته، ماري الهنغارية والينورا، أرملة فرانسيس الأول. وأبديا رغبتهما في مشاركته اعتزاله في الدير، ولكن القواعد منعتهما، فاتخذا لهما مسكناً في موضع لا يبعد كثيراً عن هذا الشقيق الذي يبدو أنه لم يكن هناك مَن يحبه وقتذاك سواهما. وبعد أن أقيمت له عدة احتفالات في الطريق، وصل قرية جوانديلا في وادي بلازنسيا، على مسيرة نحو 120 ميلاً غربي مدريد، ولبث هناك عدة شهور، ريثما أكمل العمال الحجرات التي أمر بتجهيزها وتأثيثها في دير يوستى (سانت جوستوس) على مسيرة ستة أميال. وعندما قام بالمرحلة الأخيرة من رحلته (3 فبراير سنة 1557)، لم ينتقل إلى خلوة في دير بل إلى قصر ريفي فسيح، اتسع لإقامة المقربين من تابعيه الخمسين. وابتهج الرهبان بوجود ضيف عظيم مثله، بيد أنهم اكتأبوا عندما وجدوا أنه ليس لديه النية في أن يشاركهم حميتهم ونظامهم، فقد كان يأكل ويشرب كميات كبيرة، كما كان يفعل من قبل - أي بإفراط، وكانت عجات السردين وسجق الأسترمادورا وفطائر ثعبان السمك، ولحم الحجل المملح والديوك الخصية السمينة وأنهار من النبيذ والجعة، تختفي في كرشه الإمبراطوري، واضطر أطباؤه إلى أن يصفوا له كميات كبيرة من السنامكي والراوند للتخلص من الزيادة في وزنه.

وبدلاً من أن يتلو شارل تسابيحه وأوراده ومزاميره كان يقرأ رسائل من ابنه أو يملي رسائل له، وكان يعرض عليه النصيحة في كل وجه من وجوه الحرب واللاهوت والحكم. وأصبح في العام الأخير من عمره متعصباً متطرفاً قاسياً، وأوصى بتوقيع عقوبات وحشية "لاستئصال جذور" الهرطقة، وأسف لأنه كان قد سمح للوثر بالهرب منه في ورمس. وأمر بجلد أي امرأة مائة جلدة إذا اقتربت من أسوار الدير قاب قوسين أو أدناه(37). وراجع وصيته لكي ينص فيها على إقامة 30.000 قداس من أجل طمأنينة روحه. ويجب ألا نحكم عليه من أعماله في أيام الشيخوخة هذه، ولعل لوثة خبل قد انتقلت إليه بالوراثة من أمه. وفي أغسطس عام 1558 انقلب النقرس الذي يشكو منه إلى حمى ملتهبة. وعاودته هذه بصورة متقطعة، وأخذت تشتد يوماً بعد يوم، وظل شهراً يتعذب بكل آلام النزع الأخير قبل أن تزهق روحه (21 سبتمبر سنة 1558). وفي عام 1574 أمر فيليب بنقل الجثة إلى الأسكوريان حيث يرقد تحت نصب تذكاري فخم.

وكان شارل الخامس أكبر فاشل في عصره، بل إن فضائله كانت أحياناً بؤساً وشقاء للإنسانية. ومنح إيطاليا السلام، ولكن لم يتم هذا إلا بعد مرور عقد من الزمان. تعرضت فيه للتخريب، وبإخضاعها هي والبابوية لإسبانيا، وجف عود النهضة الإيطالية تحت رئاسته الكئيبة، وهزم فرانسيس وأسره، ولكن ضاعت منه في مدريد فرصة ملكية ليبرم معه معاهدة كانت حرية بأن تنقذ ما كل الوجوه ومائة ألف روح. وعاون في إعادة سليمان إلى بلاده في فيينا، وصد بارباروسا في البحر الأبيض المتوسط، وقوى مركز آل هايسبورج، ولكنه أضعف الإمبراطوريّة، وفقد اللورين وسلم بورغنديا، وأحبط أمراء ألمانيا محاولة لتركيز السلطة هناك، وكانت الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة منذ عهده نسيجاً واهياً، تنتظر نابليون ليحكم بإعدامها، وفشلت جهوده لسحق البروتستانتية في ألمانيا، وترك الأسلوب الذي انتهجه في قمعها في الأراضي المنخفضة تراثاً محزناً لابنه. وكان قد وجد المُدن الألمانية مزدهرة وحرة، وتركها ترزح ألماً تحت وطأة إقطاع رجعي، وعندما جاء إلى ألمانيا كانت تنبض بالحياة، فيها أفكار ونشاط تبز بهما أية أمة أخرى في أوربا وعندما تنازل عن عرشه كانت ضعيفة واهنة روحياً وفكرياً، وظلت جدباء مدى قرنين. وكانت السياسة التي انتهجها في ألمانيا وإيطاليا سبباً واهياً لما لحقهما من ضعف، أما في إسبانيا فكان عمله هو الذي سحق حرية البلديات وقوتها، وكان حرياً بأن يبقي إنجلترا في حظيرة الكنيسة بإقناع كاثرين أن تسلم بحاجة هنري إلى وريث، وبدلاً من أن يفعل ذلك أجبر كليمنت على اتخاذ موقف فيه تذبذب، يؤدي إلى الخراب.

ومع ذلك فإن استبصارنا المتأخر هو الذي يرى أخطاءه وجسامتها، وفي وسع حسنا التاريخي أن يصفح عنها باعتبارها متأصلة بجذورها في قيود بيئته العقلية وفي أوهام العصر العاتية. وكان اقدر سياسي بين معاصريه، ولكنه لم يكن كذلك إلا بمعنى أنه عالج بشجاعة أعمق موضوعات النزاع في أوسع مدى وصلت إليه. وكان رجلاً عظيماً حطت من شأنه مشكلات عصره وحطمته.

ونفذت إلى حكمه الطويل حركتان أساسيتان، وكانت أعظمهما نمو القومية في عهد ملكيات تنزع إلى المركزية، وفي هذه لم يكن له فيها نصيب. وأعظمها من الناحية الدرامية ثورة دينية، حفزت إليها الانقسامات والمصالح القومية والإقليمية. وقبلت شمالي ألمانيا وإسكنديناوة اللوثرية، أما جنوب ألمانيا وسويسرة والأراضي المنخفضة فقد انقسمت إلى طائفتين بروتستانتية وكاثواليكية، وأضحت إسكوتلندة كاللفينية مشيخية، وإنجلترا كاثوليكية أنجيلكانية أو بيوريتانية كالفينية. وظلت إيرلندة وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال موالية لبابوية بعيدة أو مهذبة. ومع ذلك نشأ تكامل واهٍ، وسط ذلك الانقسام المزدوج: فقد وجدت الولايات المستقلة المعتزة بنفسها أنها في حاجة إلى بعضها البعض، لضمان استقلالها، كما لم يحدث من قبل، وأنها مرتبطة بصورة متزايدة في نسيج اقتصادي، وأنها تؤلف مسرحا رحيباً لمناهج سياسية متشابكة العلاقات، وحروب وقانون بأدب وفن. كانت أوربا التي عرفها شبابنا تتخذ شكلها.