قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 27

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 8696

قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> من روبرت بروس إلى جون نوكس -> الإسكتلنديون الذين لا يقهرون


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السابع والعشرون: من روبرت بروس إلى جون نوكس 1300 - 1561

1- الإسكتلنديون الذين لا يقهرون

إن الجنوب الحار اللطيف يولد الحضارة والشمال البارد القاسي يتغلب مراراً على الجنوب المتهاون الكسول ويستوعب الحضارة ويحورها، وإن بلاد أقصى الشمال - سكوتلندة والنرويج والسويد وفنلندة - لتكافح العناصر التي تكاد تشبه الظروف القطبية الشمالية لتقوم بشيء من الترحيب بالحضارة وتسهم فيها وهي تواجه ألف عاقبة. ولقد شجعت الهضاب المجدبة الخالية من الطرق على قيام الإقطاع ولم تشجع على الزراعة، بينما رحبت الأراضي المنخفضة الخضراء الخصيبة بغزوة بعد غزوة قام بها الإنجليز الذين لم يستطيعوا أن يدركوا لماذا لا تستقبل سكوتلندة تدفعهم عليها هم وملوكهم. وكان الإسكوتلنديون قديما ً من الكلتيين واختلطوا في القرون الوسطى بالإيرلنديين والنرويجيين والإنجليز والساكسون والنورمانديين، وما أن حل عام 1500 حتى كانوا قد أصبحوا شعباً ضيق الأفق في المشاعر والأفكار - ومثلهم في ذلك مثل شبه جزيرتهم، عميق الغور في الخرافة والأساطير مثل الضباب المنتشر عندهم معتزاً بنفسه مثل قننه البحرية، فظاً مثل أرضه، متهوراً مثل سيوله الجارفة، وهو شرس ورقيق، قاسٍ وشجاع في آن واحد، ولا يقهر أبداً. ويبدو أن الفقر ضارب بجذوره وظروفه الجغرافية والأخلاق في فقره، وهكذا نشأ الشح من التربة الحانقة، وكان الفلاحون يرزحون تحت وطأة الكدح والنصب، فلم يكن لديهم متسع من الوقت لكتابة الرسائل، أما النبلاء الذين أبقوهم في العبودية فقد فاخروا بالأمية، إذ وجدوا ألا فائدة من تعلم حروف الأبجدية في ثاراتهم أو حروبهم، وقسمت الجبال والعشائر السكان المشتتين إلى طوائف متناظرة متهورة لا يعفون عن أعدائهم في الحرب ويعطون أماناً في السلم. ولما كان النبلاء يملكون تقريباً كل أسباب السلطة العسكرية في فرقهم الخاصة فإنهم سيطروا على المجلس النيابي وعلى الملوك. وكان لدى آل دوجلاس وحدهم 5000 تابع ودخولهم تضارع دخل التاج.

وقبل عام 1500 كانت الصناعة بدائية ومنزلية والتجارة مضطربة، والمُدن قليلة وصغيرة، وكان تعداد سكان سكوتلندة كلها وقتذاك 600.000 نسمة نصف سكان جلاسجو اليوم. وكانت جلاسجو بلدة صغيرة تعمل بالصيد وكانت برت هي العاصمة حتى عام 1542، وكان بأدنبرة 16.000 نسمة.

وعبرت روح الاستقلال الفردية والمحلية والقومية عن نفسها في الأنظمة القروية والبلدية التي تتمتع بالحكم المحلي داخل إطار الإقطاع والملكية، وسمح لأوساط الناس - المواطنين المحررين من سكان المُدن - بأن يكون لهم ممثلون في المجلس النيابي أو مجلس المقاطعات، ولم يكن يحق لهم أن يجلسوا بين زملائهم من أعضاء العموم كما في إنجلترا، ولكن بين ملاّك الأراضي من الإقطاعيين، وكانت أصواتهم تضيع في الأغلبية التي للنبلاء. ولما كان الملوك لا يستطيعون أن يوطدوا سلطانهم ضد النبلاء بالتحالف مع التجار والأغنياء والمُدن الآهلة بالسكان، كما هو الحال في فرنسا، فإنهم سعوا إلى الحصول على التأييد من ثروة الكنيسة ونفوذها.

أما النبلاء فكانوا على طرفي نقيض مع الملوك وتعلموا أن يكرهوا الكنيسة ويحبوا أملاكها وانضموا في إطلاق الصرخة العامة التي تنادي بأن الثروة القومية إنما تصب في روما. وكان النبلاء في إسكوتلندة - وليس الملوك والتجار كما في إنجلترا - هو الذين نهضوا بالإصلاح الديني، أي تحرير العلمانيين من سلطة الكنسيين(1).

وحققت الكنيسة الإسكوتلندية عن طريق تسلطها على تقوى الناس لنفسها ثراء وسط فقر متقع وآمال معلقة على العالم الآخر. وقام مبعوث بابوي حوالي نهاية القرن الخامس عشر بإبلاغ البابا أن دخل الكنيسة في إسكوتلندة يعادل كل الدخول الأخرى مجتمعة(2). وكان الوعاظ وأوساط الناس يكادون يحتكرون معرفة القراءة والكتابة. وكان رجال الأكليروس الإسكوتلنديون في القرن السادس عشر مشهورين بالتضلع في العلم، وكانت الكنيسة بالطبع هي التي أسست جامعتي سانت أندروز وأبردين وحافظت عليهما. وكانت الأساقفة ورؤساء الأديار بعد عام 1487 ينصبون - وفي الواقع يعينون - بمعرفة الملوك الذين جعلوا من هذه المناصب مكافآت على خدمات سياسية أو رواتب لأبنائهم غير الشرعيين. ووهب جيمس الخامس ثلاثة من أبنائه من السفاح دخولاً كنسية من كلسو وملرز وهوليرود وسانت أندروز. وكانت الميول الدنيوية لهؤلاء المعينين من الأسرة الملكية مسئولة إلى حد ما عن فساد رجال الأكليروس في القرن السادس عشر. ولكن الانحلال العام للأخلاق والنظام الذي اتسمت به الكنيسة أواخر العصور الوسطى، كان واضحاً في إسكوتلندة قبل تعيين الملوك للأساقفة بعهد طويل. وكتب هيلير بلوك الكاثوليكي المتزمت يقول: "إن فساد الكنيسة الذي استفحل شره في كل مكان في سائر أرجاء أوربا في القرن الخامس عشر، قد وصل في إسكوتلندة إلى درجة لم تعرف في أي مكان آخر(3"). ومن هنا نشأ إلى حد ما عدم المبالاة الذي نظر به عامة الناس، على ما عرفوا به من محافظة على العقيدة، إلى إحلال رجال الدين البروتستانت محل رجال الدين الكاثوليك. وشكا الملك جيمس الأول عام 1425 من فجور الرهبان وكسلهم، وفي عام 1455 اضطر قسيس في لينلثجو قبل أن يتسلم وظيفته أن يعدي عهدا بأن لن يرهن أملاك كنيسته ولن يحتفظ بـ "حظية دائمة"(4). وكان للكاردينال بيتون ثمانية أبناء من السفاح، وضاجع ماريون أو جيلفي ليلاً قبل أن يمضي ليلقى خالقه(5)، وحصل جون رئيس أساقفة هاملتون من جلسات مختلفة عقدها المجلس النيابي الإسكوتلندي على خطابات بشرعية ذريته المتزايدة. ولم يبخل شعراء من قبل الإصلاح الديني في إسكوتلندة بكلمات في هجاء رجال الأكليروس، بل إن رجال الأكليروس أنفسهم، في المجمع المقدس الكاثوليكي الإقليمي لعام 1549 عزوا انحطاط الكنيسة في إسكوتلندة إلى "الفساد في الأخلاق والفسق الدنس في حياة رجال الكنيسة من جميع الدرجات تقريباً(6)". ومهما يكن من شيء فلابد من أن نضيف أن أخلاق رجال الأكليروس كانت مجرد انعكاس لأخلاق العلمانيين - وفوق كل شيء النبلاء والملوك.


2- وقائع ملكية 1314-1554

إن الحقيقة الأساسية في تاريخ الدولة الإسكوتلندية هي الخوف من إنجلترا، والحق أن الملوك الإنجليز حاولوا مراراً أن يلحقوا إسكوتلندة بالتاج الإنجليزي من أجل سلامة إنجلترا من هجوم يباغتها من الخلف. وقبلت إسكوتلندة التحالف مع فرنسا عدو إنجلترا اللدود لكي تحمي نفسها. ولذلك تبرز هذه الوقائع. لقد ظفر الإسكوتلنديون بحريتهم من إنجلترا في بانوكبرن (1314) بالأقواس والسهام والفؤوس المستخدمة في القتال. ولما كان روبرت بروس قد قادهم هناك إلى النصر، فقد ظل يحكمهم حتى وفاته متأثراً بداء الجذام (1329). وتوج ابنه دافيد الثاني، شأنه في هذا شأن الملوك الإسكوتلنديين منذ أمد بعيد على "حجر القدر" المقدس في دير سكون.

ولما بدأ إدوارد الثالث ملك إنجلترا حرب المائة سنة مع فرنسا، رأى أنه من الحزم أن يضمن حدوده الشمالية، فهزم الإسكوتلنديين في هاليدون هل، وأقام إدوارد باليو ألعوبة له على عرش إسكوتلندة سنة 1333، ولم يسترد دافيد الثاني التاج إلا بعد أن دفع للإنجليز فدية قدرها 100.000 مارك (6.667.000 دولار)، ونظراً لأنه لم يترك وريثاً مباشراً عند وفاته (1371) انتقلت المملكة إلى ابن أخيه روبرت ستيوارت الذي بدأت به أسرة ستيوارت المشئومة. وسرعان ما استؤنفت حرب نصفي إنجلترا ضد الكل. وأرسل الفرنسيون جيش إلى إسكوتلندة، وعاث الإسكوتلنديون والفرنسيون فساداً في بلاد إنجلترا الواقعة على الحدود، واستولوا على درهام وأعدموا كل سكانها - رجالاً ونساء وأطفالاً وراهبات ورهباناً وقساوسة. وقام الإنجليز بالحركة التالية في لعبة الشطرنج الملكي هي فغزوا إسكوتلندة، وأحرقوا برث ودندي ودمروا دير ملروز (1385)، وسار روبرت الثالث في الطريق نفسه، ولكن عندما أسر الإنجليز ابنه جيمس (1406) مات حزناً. واحتفظت إنجلترا بالملك الصبي في سجن لطيف إلى أن وقع الإسكوتلنديون "صلحاً دائماً" (1423) وتخلوا عن كل تعاون بعد ذلك مع فرنسا. وقد تعلم جيمس في الأسر، قدراً لا بأس به، وحصل على عروس انجليزية، وألف في مدح هذه "الحمامة البيضاء" بلسان الإسكوتلنديين "كتاب الملك" وهو قصيدة مجازية يستكثر على ملك أن ينظم مثلها. والحق أن جيمس كان مبرزاً في عشرات الأمور، فقد كان واحداً من أحسن المصارعين والعدائين والفرسان ورماة السهام وقاذفي الحراب والصناع المهرة والموسيقيين في إسكوتلندة، وكان حاكماً مقتدراً كريماً. وفرض عقوبات على التجارة التي تفتقر إلى الأمانة والزراعة المهملة، وبنى المستشفيات وألزم الحانات بالإغلاق في الساعة التاسعة، وحول طاقات الشباب من كرة القدم إلى التدريبات العسكرية، وطلب إصلاح النظام الكنسي وتقويم حياة الرهبان في الأديار. وعندما بدأ حكمه النشيط (1424) تعهد بالقضاء على الفوضى والجريمة في إسكوتلندة، ووضع حد الحروب الخاصة بين النبلاء واستبدادهم الإقطاعي "إذا لم يهبني الله سوى حياة كلب فإني سوف أجعل المفتاح يحرس القلعة والسرخس يرعى البقر"، أي يقضي على السطو على البيوت والماشية - في كل أنحاء إسكوتلندة(7). وسرق لص من أهل الجبال بقرتين من امرأة فأقسمت ألا تلبس أحذية أبداً حتى تسير إلى الملك لتندد بضعف القانون، فقال اللص "أنتِ تكذبين وسوف أعمل على أن تحتذي" وسمر حذوتي حصان في قدميها العاريتين. ومع ذلك وجدت طريقها إلى الملك وأمر بمطاردة اللص وطوف به حول برث ومعه لوحة من الخيش صورت عليها جريمته وحرص على أن يشنق الوحش بلا إمهال. وفي غضون ذلك اشتجر النزاع في وقته بينه وبين بارونات يضعون العراقيل في طريقه فأتى بقليل منهم إلى منصة الإعدام وصادر الزيادة في الأراضي المستأجرة وفرض المكوس على اللوردات وأوساط الناس على السواء وأعطى للحكومة الأموال التي احتاجت إليها لكي تستبدل بطغاة عديدين طاغية واحدة.

ودعا أصحاب الأرض - ملاّك الضياع الأقل مساحة - إلى المجلس النيابي وجعلهم هم والطبقة الوسطى بديلاً للنبلاء ورجال الأكليروس. وفي عام 1437 قتلته عصبة من النبلاء.

واستمر أبناء النبلاء الذين كان قد أسقطهم في الحياة أو انتزع منهم الأملاك في مقاومة جيمس الثاني في الكفاح ضد الملكية التي تنزع إلى المركزية، وبينما كان الملك الجديد لا يزال بعد صبياً في السابعة من عمره دعا وزراؤه ايرل أف دوجلاس الصغير وشقيقا أصغر لينزلا ضيفين على الملك فحضرا وقدما لمحاكمة هزلية وقطع رأساهما (1440) ودعا جيمس الثاني نفسه بعد أثنى عشر عاماً وليام، ايرل أف دوجلاس، لبلاطه في ستيرلنج ومنحه عهد الأمان وأنزله في ضيافته الملكية وقتله بتهمة تبادل رسائل فيها تآمر على خيانة الدولة مع إنجلترا. واستولى على كل القلاع الإنجليزية الحصيفة في إسكوتلندة إلا قلعة واحدة، ومزق إرباً إثر انفجار عارض من مدفعه. وكفر جيمس الثالث عن فظاظة أبيه فبعد مهاجمات وحشية أسره النبلاء وقتل لتوه (1488)، وتزوج جيمس الرابع من مرجريت تيودور شقيقة هنري الثامن، وبفضل هذا الزواج طالبت ماري ملكة الإسكوتلنديين بعرش إنجلترا.

ومع ذلك فإن هنري الثامن عندما انضم إلى أسبانيا والنمسا والبندقية والبابوية في الهجوم على فرنسا (1511) شعر جيمس بأنه ملزم بمساعدة حليفة إسكوتلندة القديمة المعرضة للخطر، على هذا النحو بغزو إنجلترا. وحارب بشجاعة جنونية في فلودن فيلد، بينما استدار الكثيرون من رجاله وفروا لا يلوون على شيء، ومات في تلك الكارثة (1513).

وكان جيمس الخامس وقتذاك لا يبلغ من العمر إلا عاماً واحداً، واستتبع هذا كفاح متشابك من أجل الوصاية على العرش. وفاز بالجائزة دافيد بيتون - وهو أحد رجال الكنيسة المعروفين بالمقدرة والشجاعة وتقدير النساء، ونصب كبيراً لأساقفة سانت اندروز، ثم كاردينالاً، ودرب الملك الصغير على الولاء الحار للكنيسة. وتزوج جيمس على 1538 من ماري أمير اللورين، شقيقة فرانسيس، الدوق دي جيز زعيم الحزب الكاثوليكي في فرنسا المنقسمة على أساس مذهبي، وتطلع النبلاء الإسكوتلنديون، ومناهضتهم لرجال الأكليروس تتزايد يوماً بعد يوم، باهتمام إلى الانفصام القائم بين إنجلترا والبابوية، وحسدوا اللوردات الإنجليز الذين انتزعوا أو تلقوا أملاك الكنيسة وأخذوا "أجوراً" من هنري الثامن لمعارضة تحالف ملكهم مع فرنسا. وعندما شنَّ جيمس الخامس الحرب على إنجلترا رفض النبلاء أن يؤيدوه. وهزم في سولواي موس (1542) ففر يجر أذيال الخزي إلى فولكلاند، ومات هناك في 14 ديسمبر، وأنجبت زوجته في الثامن من ديسمبر ماري، التي أصبحت ملكة للإسكوتلنديين وعمرها ستة أيام.

وأبرز بيتون وصية من الملك الراحل عينه فيها وصياً على الملكة الرضيعة، وتشكك النبلاء في صحة الوثيقة وسجنوا الكاردينال واختاروا جيمس، إيرل أف أران وصياً على العرش، بيد أن أران أطلق سراح بيتون وعينه كبيراً للوزراء. وعندما جدد بيتون الحلف مع فرنسا عقد هنري الثامن النية على شنَّ حرب لا هوادة فيها، وبعث لجيشه في الشمال أمراً بإحراق كل شيء في طريقه وتدميره، و"أن يعمل النار والسيف في كل رجل وامرأة وطفل دون استثناء أينما يجد مقاومة" وبخاصة "ألا يبقوا على حياة مخلوق" في بلدة سانت أندروز(7) مقر بيتون. وبذل الجيش جهده، وأحال كل دير ومزرعة وقلعة ومحلة إلى خراب شامل(9)". وتعرضت أدنبرة يومين للسلب والحرق، ونهبت قرى الفلاحين في دائرة قطرها سبعة أميال ودكت دكاً، وسيق إلى إنجلترا (1544) 1000 راس من الماشية ذوات القرون و 12.000 رأس من الأغنام و 1300 جواد. وعرض سير جيمس كير كالداي ونورمان لزلي وغيرهما من السادة الإسكوتلنديين أن يساعدوا الإنجليز على "حرق أماكن يملكها الحزب المتطرف في الكنيسة، وأن يقبضوا ويسجنوا كبار خصوم الحلف الإنجليزي، وأن يعتقلوا ويقتلوا الكاردينال نفسه(10)". ورحب هنري بالعرض ووعد بتقديم 1000 جنيه إنجليزي لمواجهة النفقات. وفشلت الخطة إلى حين، ولكنها نفذت في اليوم التاسع والعشرين من مايو سنة 1546، واقتحم اثنان من آل كير كالداي واثنان من آل لزلي وعصبة عديدة من النبلاء والقتلة قصر الكاردينال عنوة وقتله "في حالة تلبس" تقريباً لأنه، "كما يقول نوكس" كان مشغولاً بحساباته مع السيدة اوجيلفي في تلك الليلة(11). وأردف نوكس قائلاً: "والآن بما أن الطقس حار فقد رأى أن من الأفضل لمنعه من أن يتعفن أن يعطوه جرعة كبيرة كافية من الملح، وقباء من الرصاص... انتظاراً لما سوف يعده له إخوانه الأساقفة من طقوس الفن. ونحن إنما نسجل هذه الأمور ابتهاجاً(12)". وانسحب القتلة إلى قلعة سانت اندروز على الساحل وانتظروا وصول العون من إنجلترا بطريق البحر.

وعاد أران إلى الاضطلاع بعبء الحكم، ولكي يضمن مساعدة الفرنسيين وعد بأن يزوج الملكة الطفلة ماري ستيوارت لولي عهد فرنسا، ولكي يحال بينها وبين الوقوع في أيدي الإنجليز، أرسلت سراً إلى فرنسا (13 أغسطس سنة 1548). وقضى ارتقاء ماري تيودور العرش في إنجلترا على خطر قيام الإنجليز بغزوات أخرى إلى حين. وكانت الكاثوليكية وقتذاك تسيطر على جانبي الحدود. وتغلب النفوذ الفرنسي إلى أران فحمله على أن يتنازل عن وصية العرش (1554) إلى ماري أميرة اللورين، أم الملكة الغائبة، وكانت امرأة على حظ من الذكاء والجلد والشجاعة، لم تذعن إلا لروح العصر الغلابة ووهبت ثقافة النهضة الفرنسية، فقابلت العقائد الدينية المناظرة التي كانت تضطرم بالغضب حولها بابتسامة تنم على التسامح. وأمرت بإطلاق سراح العديد من البروتستانت المسجونين، وسمحت للهراطقة بحرية كبيرة في الوعظ والعبادة، إلى حد أن الكثير من البروتيتانت الإنجليز الذين فروا من ماري تيودور وجدوا ملجأ، وسمح لهم بتكوين جماعات دينية برئاسة ماري أميرة اللورين. كانت أعظم حاكمة رقيقة العاطفة متمدنة عرفتها إسكوتلندة قروناً طوالاً.


3- جون نوكس 1505-1559

كانت الدعاية للإصلاح الديني قد مضى عليها مائة عام في إسكوتلندة في عام 1433 اتهم بول كراور بإدخال عقيدتي ويكليف وهس، وقضت الكنيسة بإدانته وأحرقته الدولة. وفي عام 1494 استدعي ثلاثون "لولاردا من كيل" للمثول أمام أسقف جلاسجو بتهمة رفض الاعتقاد في المخلفات والصور الدينية والاعتراف السري أمام قسيس، ورسامة القساوسة وسلطانهم والتجسد والمطهر، وصكوك الغفران والقداسات من أجل الموتى ورهبانية رجال الدين والسلطة البابوبة(13). وبذلك نجد أنفسنا أمام تلخيص يكاد يكون كاملاً لمبادئ الإصلاح الديني قبل نشر رسائل لوثر بثلاثة وعشرين عاماً. ومن الواضح أن المتهمين تراجعوا عما قالوا به. وسرعان ما دخلت رسائل لوثر إلى إسكوتلندة بعد عام 1523، وانتشرت ترجمة للعهد الجديد باللغة الإسكوتلندية من إعداد ويكليف في مخطوطة، وارتفع نداء يطالب بمسيحية تعتمد على الكتاب المقدس وحده دون سواه.

وذهب باتريك هاميلتون إلى باريس ولوفان، ودرس تعاليم أرازموس والفلسفة اليونانية ومضى إلى فتنبرج وعاد إلى إسكوتلندة مشبعاً بالعقائد الجديدة ونادى بالتزكية بالإيمان ودعاه جيمس (عم دافيد) وبيتون، ثم رئيس أساقفة سانت اندروز للحضور، وإيضاح ما يعنيه بأقواله، فجاء وتمسك بآرائه وأحرق (1528). وفي عام 1534 أحرق اثنان آخران من "العلماء" كما كان المصلحون الدينيون الإسكوتلنديون الأوائل يسمون أنفسهم. وشنق أربعة رجال وأغرقت امرأة عام 1544، وطبقاً لما يرويه نوكس الذي لا يعتمد على روايته دائماً، ذهبت إلى حتفها وعلى صدرها طفل رضيع(14).

وكانت عمليات القتل العمد هذه موزعة على عصور ومواضع مختلفة، إلى حد جعلها لا تثير رد فعل عام قوي. بيد أن شنق جورج ريشارت مس شغاف قلوب الكثيرين، وكان أحول حادث له أثره في الإصلاح الديني الإسكوتلندي. وقد ترجم ريشارت حوالي عام 1543 الاعتراف السويسري البروتستانتي الأول، ومن سوء الحظ أن هذا الإعلان البروتستانتي أمر السلطات العلمانية بمعاقبة الهراطقة(15). وأزاحت الاتجاهات البروتستانتية السويسرية منذ ذاك - وكانت في مبدأ الأمر زونجالية تتسم بالرحمة ثم أصبحت كالفينية صارمة - اللوثرية يوماً بعد يوم في الحركة الإسكوتلندية. وقدم ريشارت عضاته في مونتروز ودندي ولازم بشجاعة مرضى وباء منتشر، وفسر العقيدة الجديدة في أدنبرة في وقت كان فيه دافيد بيتون يعقد مجمعاً أكليروسياً من رجال الدين الإسكوتلنديين هناك، فأمر الكاردينال بالقبض عليه بتهمة الهرطقة، وحكم عليه بالإدانة وقتل خنقاً وأحرق (1546). وكان من بين مَن تحولوا عن مذهبهم على يديه، شخصية من أقوى الشخصيات في التاريخ وأعظمها نفوذاً. وقد ولد جون نوكس بين عامي 1505 و 1515 قرب هندنجنون ونذره والداه الفلاحان ليكون قسيساً، ودرس في جلاسجو ورسم قساً (حوالي عام 1532، وأصبح معروفاً بتضلعه في القانون المدني والقانون الكنسي على السواء. ولا تتحدث سيرته الذاتية "تاريخ إصلاح الدين داخل مملكة إسكوتلندة" بشيء عن شبابه ولكنها تقدمه فجأة (1546) بوصفه مريداً متحمساً لجورج ريشارت وحارساً شجاعاً له، يحمل سيفاً له مقبضان. وأخذ نوكس يتجول من مخبأ إلى آخر بعد القبض على ريشارت، ثم انضم في عيد الفصح عام 1547 في قلعة سانت اندروز إلى العصبة التي قتلت الكاردينال بيتون.

واستشعر الرجال المطاردون الحاجة إلى الدين فطلبوا من نوكس أن يكون واعظاً لهم. فاحتج بأنه لا يصلح، ثم وافق وسرعان ما اتفقوا على أنهم لم يسمعوا قط مثل هذا الوعظ الملتهب من قبل. وأطلق على الكنيسة الرومانية أسم: "هيكل الشيطان" وجعلها مرادفة للوحش المخيف الذي ورد وصفه في سفر الرؤيا. وتبنى العقيدة اللوثرية التي تذهب إلى "أن الإنسان يظفر بالخلاص"، بأن يؤمن فحسب بأن دم يسوع المسيح يكفر عن خطايانا جميعاً(16)". وفي يوليو أبحر أسطول فرنسي وقذف القلعة بالقنابل. وقاوم المحاصرون أربعة أسابيع، وأخيراً غلبوا على أمرهم، وظل نوكس والآخرون يعملون عبيداً في السفن تسعة عشر شهراً. وليس لدينا إلا تفاصيل قليلة عن معاملتهم باستثناء ما ذكر من أنهم كانوا يدفعون لسماع القداس (ويقول لنا نوكس) أنه رفض بشدة، ولعل هذه الأيام المريرة، وأثر صوت الملاحظ على الأجسام ساهم في اشتداد نزوع نوكس إلى الكراهية وجنوح لسانه وقلمه إلى العنف في العبارة.

وعندما أطلق سراح الأسرى (فبراير سنة 1549) عمل نوكس قساً بروتستانتياً في إنجلترا براتب تقاضاه من حكومة سومرست. وكان يقوم بعظاته يوميا طوال الأسبوع "إذا سمحت له بذلك الجيفة الخبيثة". ونحن أبناء اليوم الذين لا ننعم كثيراً بالعظات ليس في مقدورنا إلا أن نتصور بصعوبة مدى إحساس الناس في القرن السادس عشر بالتعطش إليها. وقد ترك قساوسة الأبرشيات الوعظ للأساقفة الذين تركوه بدورهم للأخوان الرهبان وكانوا يقومون به بين آن وآخر. وأصبح الوعاظ في البروتستانتية بمثابة صحيفة يومية للأخبار والرأي، وكانوا يروون على المصلين أحداث الأسبوع أو أحداث اليوم، وكان الدين وقتذاك ممتزجاً بالحياة إلى الحد الذي جعل كل حدث تقريباً يمس العقيدة أو القائمين عليها ونددوا بنقائص رجال الأبرشية وأخطائهم ونبهوا الحكومة إلى واجباتها وأخطائها. وفي عام 1551 كان نوكس يعظ أمام إدوارد السادس ونورثمبرلان فتساءل كيف تأتى في الغالب الأعم لأنقى الأمراء أن يتخذوا مستشاريهم من أفسق الناس. وحاول الدوق أم يسكته بمنحه منصب أسقفية ولكنه فشل.

وكانت ماري التيودورية أشد خطورة عليه، ففر نوكس إلى دبيب وجنيف (1554) بعد شيء من التباطؤ الذي أملاه الحرص، وزكاه كالفن لدى جماعة تتحدث بالإنجليزية في فرانكفورت، ولكن مبادئه وملامحه كانت جد قاسية بالنسبة لمستمعيه، فطلب منه أن يرحل. وعاد إلى جنيف (1555)، ونحن نستطيع أن نحكم على قوة شخصية كالفن من التأثير الذي سيطر به وقتذاك على شخصية إيجابية وقوية تماثل شخصيته. ووصف نوكس، مدينة جنيف في عهد كالفن بأنها: "أكمل مدرسة للمسيح ظهرت على وجه الأرض منذ أيام الحواريين(17)". واتفقت الكالفينية مع مزاجه لأن تلك العقيدة كانت واثقة من نفسها، وعلى ثقة من أنها تتلقى الوحي من الرب، وواثقة من أن الله قد فرض عليها أن تلزم الفرد بانتهاج سلوك محدد واعتناق عقيدة معينة، وواثقة من حقها في توجيه الدولة، ولقد تغلغل هذا كله في أعماق روح نوكس، ثم في التاريخ الإسكوتلندي عن طريقه. وتوقع في فزع حكم ماري ستيوارت الكاثوليكية لإسكوتلندة، فسال كالفن وبولينجر هل يحق لشعب أن يرفض إطاعة "حاكم يرغم الناس على عبادة الأوثان ويلغي الدين الصحيح" فلم يحيرا جواباً، ولكن جون نوكس كان يعرف ما يدور في خلده.

وفي خريف عام 1555، وكان وقتذاك في الخمسين من عمره على الأرجح أظهر الجانب الرقيق من شخصية جافة بالعودة إلى ماري تيودور ملكة إنجلترا والذهاب إلى برويك والزواج من مرجريت بويز لأنه أحب أمها. وكانت لمس بويز خمسة أولاد وعشر بنات وزوج كاثوليكي، وكان لوعظ نوكس الفضل في اكتسابها لصف البروتستانتية، وأسرت له بمتاعبها المنزلية ووجد متعة في أن يشير عليها بما يجب، وعزاء في صداقتها، ومن الواضح أن العلاقة بينهما ظلت روحية إلى النهاية. وعندما تزوج نوكس من مرجريت تركت مس بويز زوجها وذهبت لتعيش مع ابنتها وكاهن الاعتراف الخاص بها. وماتت الزوجة بعد خمس سنوات من عقد الزواج. وتزوج نوكس للمرة الثانية، ولكن مسز بويز بقيت معه. ومن النادر أن توجد في التاريخ حماة محبة ومحبوبة بهذا القدر.

وذهب الثلاثي الغريب إلى إسكوتلندة، حيث كانت ماري أميرة اللورين لا تزال ترى التسامح مفيداً في كسب تأييد الحزب البروتستانتي من النبلاء، وأثنى على الوصية على العرش باعتبارها "أميرة جديرة بالاحترام". وهبت حكمة وكياسة تفردت بهما(18). "ونظم اجتماعات بروتستانتية للمصلين في أدنبرة وغيرها من الأماكن وكان له الفضل في أن يتحول على يديه إلى المذهب البروتستانتي أشخاص من ذوي النفوذ، مثل وليام ميتلاند، سيد ليثنجتون، وجيمس ستيوارت الشقيق غير الشرعي لماري ستيوارت الذي قدر له أن يكون وصياً على العرش باسم إيرل أف مراي أو موراي. ولم ترض محكمة كنسية عن هذا التطور، فاستدعت نوكس ليقدم حساباً عن أعماله، وآثر أن يسلك سبيل التروي فتسلل من إسكوتلندة مع زوجته وأمها، (يوليو سنة 1556). ولم تستطع المحكمة الكنسية أن تحرق في غيابه سوى تمثال له، وأضفى عليه هذا التجسيم لاستشهاده بدون ألم نبلاً في عيون البروتستانت الإسكوتلنديين، ومنذ تلك اللحظة جعلوه زعيماً للإصلاح الديني الإسكوتلندي، حيث ما حل.

ولقد طور وهو في جنيف، باعتباره راعياً لأبرشية إنجليزية، البرنامج الكالفيني الكامل فيما يتصل بإشراف رجل الدين أخلاق رعايا أبرشيته وسلوكهم، ودعا في الوقت نفسه مسز آن لوك، التي تحولت عن عقيدتها على يديه في لندن، إلى أن تترك زوجها وتأتي مع ابنتها لتعيش بالقرب منه في جنيف، وكتب لها رسائل لا تقاوم: "يا أعز أخت، لو استطعت أن أعبر لكِ عما أكابده من اشتياق وضنى لحضوركِ فسوف أبدو وقد تجاوزت الحد. نعم إني لأبكي وأبتهج عندما أذكركِ، ولكن ذلك سوف يزول بما أجده من عزاء في حضوركِ، الذي أؤكد لكِ أنه جد عزيز لدي إلى حد أنه لو لم يكن عبء هذه الجماعة الصغيرة، المجتمعة هنا باسم المسيح، قد عاقني، لحضرت إليكِ قبل رسالتي. ولو لم يمنعكِ بعلكِ (زوجكِ) إلى حد ما... لوددت من أعماق قلبي، نعم، وما كنت لأستطيع أن أتوقف عن أن أتمنى رضى الله بهدايتكِ إلى هذا المكان(19)".

وتركت مسز لوك لندن ضاربة عرض الحائط بمعارضة بعلها، ووصلت إلى جنيف (1557) مع ابن، وابنة وخادمة. وماتت الابنة بعد ذلك ببضعة ايام، ولكن مسز لوك ظلت قرب نوكس وعاونت مسز بويز التي تقدمت بها السن، ولم تعد وقتذاك مصدراً للراحة كما كانت من قبل، في تلبية حاجات الواعظ. وليس لدينا دليل على وجود علاقات جنسية. ولا نسمع أي شكوى من مسز نوكس، بل إننا لا نكاد نسمع عنها على الإطلاق. إن هادم البيوت القديم سوف يتخذ لنفسه أماً، وكانت له طريقته باسم المسيح. بل كانت له طريقته في كل شيء تقريباً. وكان مثل كثير من الظماء، صغير الجسم، بيد أن كتفيه العريضتين كانتا تنمان على القوة، ومحياه الصارم يدل على اليقين والتطلع إلى السلطة. شعر أسود وجبهة ضيقة وحاجبان كثيفان وعينان نفاذتان وأنف ينم على التطفل وخدان أسيلان وفم واسع وشفتان غليظتان ولحية طويلة، وأصابع مستطيلة، ونحن نجد في هذا تجسيداً للإخلاص والرغبة في السلطة، وهو رجل يتميز بنشاط مبعثه التعصب. وكان يحب الوعظ مرتين أو ثلاثاً كل أسبوع لمدة ساعتين أو ثلاثاً كل مرة، وكان علاوة على هذا يدير الشئون العامة ويوجه حياة الأفراد، فلا عجب "ألا أجد في الأربع والعشرين ساعة أربع ساعات أخلو فيها من العمل للراحة الطبيعية(20)". ويلطف من شجاعته، حياء يعتروه إلى حين، وكانت عنده بديهة تنبهه إلى الفرار من الموت وشيك الوقوع. واتهم بتحريض البروتستانت على القيام بثورة محفوفة بالمخاطر في إنجلترا أو إسكوتلندة في الوقت الذي بقي فيه في جنيف أو دبيب، ومع ذلك فإنه واجه عشرات الأخطار وندد بفساد نورثمبرلاند في وجهه وجاهر فيما بعد بالديمقراطية في وجه ملكة. ولم يكن في الإمكان شراؤه بالمال. وظن أو ادعى أن صوته هو صوت الله.

وصدق كثيرون ادعاءه وحيوه باعتباره رسولاً من قبل الله، ولذلك فإنه عندما خطب قال سفير إنجلترا: "إنه ينفخ فينا من الحياة أكثر مما يفعله 100 بوق تضج في آذاننا(21)".

وكانت العقيدة الكالفينية مصدراً من مصادر قوته. لقد قسم الله كل الناس إلى الصفوة والملعونين، وكان نوكس وأنصاره من الصفوة، ومن ثم كتب لهم النصر من الله، وكان خصومهم أشقياء، وسوف تكون جهنم مثواهم عاجلاً أو آجلاً. وكتب يقول: "إننا مقتنعون بأن كل ما يفعله خصومنا عمل شيطاني(22)". وهؤلاء الخصوم الملعونون من الله لا يستحقون أي حب مسيحي لأنهم أبناء الشيطان لا الرب. وهم لا يطوون جوانحهم على أي خير، ويحسن استئصال شأفتهم تماماً من الأرض. ونعم بتلك "الكراهية الكاملة التي يثيرها الروح القدس في قلوب صفوة الرب ضد أولئك الذين يزدرون تماثيله المقدسة(23)" وفي الصراع مع الأشقياء كانت جميع الوسائل مباحة - الكذب والغدر(24) وتناقضات السياسة(25) المرنة. فالغاية تبرر الوسيلة.

ومع ذلك فإن فلسفة نوكس الأخلاقية في ظاهر أمرها كانت تتعارض تماماً مع فلسفة مكيافيلي. فهو لم يسلم بأن يتحرر الساسة من القانون الأخلاقي المطلوب من المواطنين، وطالب بأن يطيع الحكام والمحكومون على السواء تعاليم الكتاب المقدس. غير أن الكتاب المقدس كان يعني بالنسبة إليه في الغالب العهد القديم، وكان أنبياء يهود المتوعدون أصلح لغايته من الرجل الذي استشهد على الصليب. فقد كان في وسعه أن يستميل الأمة إلى إرادته أو يحرقها بنبوءات ملتهبة. وادعى أنه يملك قوة تنبئية، وتنبأ حقاً بوفاة ماري تيودور المبكرة وسقوط ماري ستيوارد - أو لعل هذه الأماني تحققت لحسن الحظ - وكان صائب الرأي لا يخطئ الحكم على أخلاق الرجال الآخرين وأحياناً على أخلاقه. إذ اعترف(26) في سماحة "إنني بفطرتي جلف غليض"، وعزا فراره من إسكوتلندة إلى الضعف البشري والخبث(27). وكان وراء زمجرته دعابة جافة، وكان في وسعه أن يكون رقيقاً بقدر ما كان عنيفاً. وأكب بإخلاص كامل على عمله وهو إنشاء سلطة يتمتع بها نظام كهنوتي مطهر وعالم يشرف على الجنس البشري ويبدأ بالإسكوتلنديين، وكان من رأيه أن النظام الكهنوتي الفاضل إنما يستلهم الله، وعلى هذا فإنه في مجتمع حساس على هذا النحو سيكون الله والمسيح هما الملك. وكان يؤمن بالحكم بأمر الله ولكنه عمل للديمقراطية أكثر مما فعل أي رجل آخر في عصره. ولم تكن رسائله مجرد تمارين أدبية بل كانت وكأنها هزيم رعد سياسي وكانت تضارع رسائل لوثر في قوة الهجاء. وكانت الكنيسة الرومانية عنده، كما هو الحال عند لوثر، "بغياً... دنستها تماماً كل ضروب الفجور الروحي(28)". وكان الكثالكة "بابويين أضر من الوباء" و"تجار قداس" وكان قساوستهم "ذئاباً مفترسة". ولم يكن هناك رجل يبزه فصاحة في ذلك العصر الفصيح. وعندما تزوجت ماري تيودور من فيليب الثاني انفجر نوكس غضباً في رسالة بعنوان: "تحذير مخلص إلى معلمي حقيقة الرب في إنجلترا" (1554).

ألم تثبت ماري أن خائنة صراح لتاج إنجلترا الإمبراطوري باستقدامها أجنبياً، وتنصيب ملك إسباني متعجرف ليلحق الخزي والعار والدمار بالنبلاء وذويهم، وليسلبهم ألقاب شرفهم وأراضيهم ومقتنياتهم ومناصبهم الكبيرة ومراتبهم الرفيعة، حتى يلحق البوار التام بخزائن المملكة وأسباب تجارتها وبحريتها وحصونها، وحتى يحط من شأن ملاّك الأراضي، ويجعل عامة الناس يرسفون فيها في قيود العبودية، ويطيح بالمسيحية وديانة الرب الصحيحة، وحتى يقوض آخر الأمر دعائم الأملاك العامة ورفاهية إنجلترا بأسرها ... إن الله برحمته السابغة، يبعث بنحاس أو إليا أو يهوه، عسى أن يهدئ دم عبدة الأوثان المقيت غضب الرب ولا يهلك الجمع بأسره(31)؟

ولكنه كتب بين آن وآخر، وإن كان هذا نادراً، فقرات تفيض رقة وجمالاً، وجديرة بسانت بول الذي ألهمه، مثل "رسالة إلى إخوانه في إسكوتلندة" لن ألجأ إلى أي تهديد، لأني كبير الأمل في أنكم سوف تمشون مثل أبناء الضوء، وسط هذا الجيل الخبيث، وأنكم سوف تكونون مثل النجوم في الليل، التي لا تتغير مع ذلك في الظلام، ومثل قمحة وسط صدفة... ومن عداد الرجال المتبتلين العقلاء، وتملأون مصابيحكم بالزيت من جديد كل يوم، كأولئك الذين ينتظرون في صبر الظهور المجيد ليسوع الرب ومجيئه، وهو الذي تحكم روحه القديرة وتعلمكم وتنير قلوبكم وعقولكم في كل ما يوجه إليكم من هجوم الآن وإلى الأبد(32).

وهناك رسالة موجهة متميزة أكثر من غيرها هي أول "نفخة في البوق ضد كتيبة النساء المروعة" التي دبجت في دبيب عام 1558 ضد ما خيل لنوكس أنه وباء الحاكمات من النساء في أوربا - ماري تيودور وماري أميرة اللورين وماري ستيوارت وكاثرين دي مديتشي. وفي وسعنا أن ندرك مدى هلعه من تطبيق ماري تيودور لمبادئه، ولكن حتى إذا لم تضطهد ماري أعداءها فإن نوكس يعدها وحشاً ووصمة سياسية تنتهك القاعدة الطبيعية التي تقول إن الرجال يجب أن يحكموا الدول. وبدأ يقول "لا عجب أن نجد بين كثير من العقول الخصيبة التي أنجبتها جزيرة بريطانيا العظمى كثيراً من الوعاظ الورعين والمتحمسين بقدر ما طعمت أحياناً، ولا يوجد بين الكثيرين من علماء اللاهوت والرجال ذوي الرأي الرصين الذين نفتهم إيزابيل (ماري تيودور)، رجل مقدام شجاع ومخلص للرب... يجرؤ على تنبيه سكان تلك الجزيرة إلى مدى ما وصلت إليه من بغض أمام الله، إمبراطورية أو ملك امرأة، بل خائنة وابنة سفاح، وماذا في وسع شعب أو أمة تركت مجردة من راس شرعي أن تفعل بسلطة الرب في انتخاب وتعيين حكام وقضاة للعموم... إننا نسمع عن سفك دم إخواننا أتباع يسوع المسيح بأشد قسوة والإمبراطورية المتوحشة لامرأة قاسية، نعلم أنها وحدها سبب كل هذا الشقاء... إن الارتقاء بامرأة لكي تنهض بحكم أو سيادة أو سلطان أو إمبراطورية تفوق أي مملكة أو أمة أو مدينة أمر يخالف الطبيعة ويعد إهانة للرب، ومتناقضاً لإرادته التي جلاها وشريعته المسلّم بها، وأخيراً فإنه تقويض لدعائم نظام وطيد، ولكل إنصاف وعدل، مَن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن تعيين الأعمى لقيادة المبصرين وتوجيههم إنما يتناقض مع الطبيعة؟ ومَن ذا الذي يقول إن الضعفاء والمرضى والعاجزين يطعمون الأقوياء جميعاً؟ وأخيراً مَن يقول أن الحمقى والمجانين والمخبولين يحكمون العقلاء ويقدمون المشورة لأصحاب العقول الرصينة؟ وهكذا كل النساء إذا قورن بالرجال في احتمال السلطة... فالمرأة في أكمل صورة خلقت لتخدم الرجل وتطيعه لا لتحكمه وتأمره(33).

واستشهد نوكس بوثيقة لا جدال فيها من الكتاب المقدس لكي يثبت هذا، ولكنه عندما تغلغل في أعماق التاريخ، وبحث عن أمثلة لدول هدمتها نساء حكمتها، اختلط عليه الأمر تماماً، لأنه وجد أن التاريخ سجل أنهن أفضل بكثير من الملوك. ومع ذلك فإنه ختم رسالته بلعنة الواثق من حكمه:

إن إيزابل اللعينة ملكة إنجلترا هي وجيل البابويين المقيت المؤذي كالوباء لا يألون جهداً في الزهو والتفاخر بأنهم لم ينتصروا على ويات فحسب، بل انتصروا أيضاً على كل مَن دبر شيئاً ضدهم... وأنا لا أخشى أن أقول إن يوم الإنتقام، الذي سوف يقبض فيه على ذلك المسخ الفظيع جيزيل ملكة إنجلترا... فقد تحدد في مجلس الحي الباقي... وليعلم هذا الناس جميعاً لأن البوق قد نفخ فيه(34).

وأخذ نوكس مخطوطة كتابه "نفخة" إلى جنيف وطبعها سراً ولك يضع عليه اسمه، وأرسل نسخاً منه إلى إنجلترا، فحرمت ماري تداول الكتاب باعتباره تحريضاً على الثورة، وجعلت حيازته جريمة يعاقب عليها بالإعدام.

وعاود نوكس الهجوم في رسالة بعنوان: "نداء إلى نبلاء إسكوتلندة وطبقات سكانها (يوليو سنة 1558)".

لا أحد ممن يحرضون الناس على عبادة الأوثان ينبغي أن يعفى من عقوبة الإعدام... ويجب تطبيق الحكم نفسه في مكان يؤمن بيسوع المسيح وإنجيله... اللذين اعترف بهما الحكام والناس في خشوع، ووعدوا بالدفاع عنهما، كما حدث في عهد الملك إدوارد في الأيام الأخير بإنجلترا. وفي مثل هذا المكان أقول إن عقوبة الإعدام ليست مشروعة على مَن يعمل على تقويض دعائم الدين فحسب، بل إن الحكام والناس ملتزمون بأن ينتهجوا هذا السبيل، إلا إذا أرادوا أن يثيروا غضب الله عليهم... وأنا لا أخشى أن أؤكد أن واجب النبلاء والقضاة والحكام والشعب في إنجلترا كان لا يقتضي منهم أن يقاوموا ماري، تلك الإيزابل، ويعارضوها فحسب... بل عليهم أن يقتصوا منها بإعدامها(36).

وحث نوكس شعب إسكوتلندة على تطبيق هذا الرأي الخاص بالثورة الشرعية على ماري أميرة اللورين. وشكا من أن الوصية على العرش قد أحاطت نفسها بحاشية فرنسية وجنود فرنسيين ليأكلوا مدخرات الإسكوتلنديين: بينما يؤتى بالأغراض لسحقنا نحن وخيرنا العام وذريتنا.

وبينما يحافظ على عبادة الأوثان ويستخف بالدين الصحيح ليسوع المسيح، وبينما ذوو الكروش والطغاة الدمويون الأساقفة يبقون، ويضطهد رسل المسيح الصادقون، وأخيراً بينما تحتقر الفضيلة وتمجد الرذيلة. فأي رجل ورع يمكن أن يساء إليه لأننا سوف ننشد تقويم هذه الأعمال الفاضحة (نعم، حتى لو اقتضى الأمر الالتجاء إلى قوة السلاح، إذا رأينا أنه لن يتيسر لنا بخلاف ذلك)... إن العقوبة على ارتكاب جرائم مثل عبادة الأوثان والكفر وغيرهما، التي تمس الله سبحانه وتعالى، لا يختص بها الملوك وكبار فحسب، بل تخص بها أيضاً الهيئة الكاملة لذلك الشعب، وتخص كل عضو في الهيئة، طبقاً لما يتيحه الله من إمكان وفرصة للانتقام من الضرر الذي لحق بمجده(37).

وهنا نجد مزيجاً غريباً من الثورة والرجعية في بيانات نوكس. وكان لابد أن يتفق معه في تبرير قتل الطغاة من آن لآخر كثير من المفكرين ومنهم هوجينوت فرنسيون مثل هوتمان ويسوعيون مثل ماريانا. ومع ذلك فإن اقتناعه، بأن هؤلاء الذين كانوا واثقين من لاهوتهم يجب أن يسحقوا - وإذا اقتضى الأمر يقتلوا - خصومهم، رجع فيه إلى أكثر ممارسات محكمة التفتيش شؤماً. واعتبر نوكس أن الإصحاح الثالث عشر من سفر التثنية لا يزال ساري المفعول وفسره حرفياً، وكل هرطيق يجب أن يعدم، والمُدن التي تغلب عليها الهرطقة يجب أن يقتص منها بالسيف وتدمر تماماً، ويقضى على ما فيها من ماشية، وكل بيت فيها يجب أن يحرق حتى ينهدم. ويعترف نوكس أن هذه الأوامر الخالية من الرحمة أفزعته في بعض الأحيان: قد يبدو هذا الحكم حتى للرجل المادي صارماً وقاسياً، أجل، وقد يبدو وكأنه صدر عن غضب لا عن تعقل... وأي مدينة... لا يوجد فيها أبرياء مثل الرضع والأطفال وبعض السذج والجهال لا يقترفون الكفر أو يستسلمون له؟ ومع ذلك فإننا لا نجد استثناء بل إن الجميع مكتوب عليهم الموت القاسي. بيد أنه في مثل هذه الأحوال أرادت مشيئة الله أن تنحني جميع المخلوقات وتغطى وجوهها، وتكف عن التفكير المنطقي، إذا كان هناك أمر منه تعالى بتنفيذ إرادته(38).

وعلينا ألا نحاكم نوكس بمقاييسنا الراهنة عن التسامح، فقد أعرب بإصرار شديد عن الروح العامة لعصره تقريباً.

وكانت السنوات التي قضاها في جنيف، حيث كان سرفينوس قد أحرق لتوه، قد أكدت نزعته نحو الالتزام بالحرفية الصارمة واليقين الذي يصل إلى درجة الغرور. ولو أنه قرأ ما احتج به كاستليو لتبرير التسامح لطابت نفسه على الأرجح برد بيز عليه. ومع ذلك فإن رجلاً مغموراً ممن ينكرون وجوب التعميد كتب في تلك السنوات نفسها نقداً للكالفينية بعنوان: "مهمل بالضرورة" وأرسله البروتستانت الإسكوتلنديون إلى نوكس ليرد عليه رداً مفحماً، وكأنما كان صوت العقل يهمس لحظة وسط حرب العقائد. وتساءل المؤلف كيف جاز للكالفينيين بعد أن عرفوا مفهوم المسيح عن أب محب، أن يؤمنوا بأن الله قد خلق بشراً كتب عليهم، وشاء لهم اللعنة الأبدية. وقال المنكر لوجوب التعميد أن الله قد وهب الناس ميلاً طبيعياً لأن يحبوا ذريتهم، فإذا كان الله قد خلق الإنسان على صورته، فكيف يكون الله أقسى من الإنسان؟ واستطرد المؤلف قائلاً إن الكالفينيين قد أتوا من الشرق أكثر مما أتى به الملحدون "لأن الذين يؤمنون بأن الله ليس جائراً وقاسياً وظالماً أقل قذفاً في حق الله ممن يقولون بأنه كذلك" ورد نوكس "أن هناك أسراراً تخفى على العقل البشري، ولسوف تحطم كبرياء أولئك الذين لا يقنعون بإرادة الله التي تتجلى، ويسرهم أن يصعدوا ويحلقوا فوق السماوات ليتساءلوا عن إرادة الله الخفية". وكتب يقول في موضع آخر "والطبيعة والعقل إنما يضلان الناس عن الله الحق. وأي وقاحة أن يفضل المرء الطبيعة الفاسدة والعقل الأعمى على كتب الله المقدسة(39)؟".

ولم يقتنع نوكس بقوة الاستدلال واعتقد في قرارة نفسه أنه مخلص لروح المسيح، فأرسل عام 1559، عندما كانت تحكم إنجلترا ملكة بروتستانتية، إلى شعبها رسالة بعنوان: "عظة موجزة" ينصحه فيها بأن يكفر عما قامت به ماري من اضطهاد يجعل العقيدة الكالفينية ونظامها الأخلاقي إجباريين في سائر البلاد، ورفضت إنجلترا العمل بالنصيحة. وعاد نوكس في ذلك العام إلى إسكوتلندة ليشرف على إيديولوجية ثورتها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- جماعة أتباع يسوع المسيح 1557-1560

لقد امتزجت دعواته للإسكوتلنديين إلى الإطاحة بنير الخضوع لروما بتعاليم المصلحين الدينيين الآخرين وتدفق البروتستانت من إنجلترا وتسلل الأناجيل والنشرات من إنجلترا إلى القارة الأوربية، وتعطش النبلاء الإسكوتلنديين للأرض وإبعادهم الموغر للصدور على يد الفرنسيين الذين يضعون المساحيق على وجوههم من رجال الحاشية، فعملت على رفع درجة حرارة الثورة إلى نقطة الانفجار. واحتمل سكان أدنبرة، الكاثوليك المتمسكون بعقيدتهم عام 1543 بطريق مباشر وباستياء شديد تدفق الغاليين المتغطرسين أثناء وصاية ماري أمير اللورين على العرش. وحدث كل شيء يحيل حياة الدخلاء بؤساً وشقاء. واشتد الإحساس بالذات في كلا الجانبين، ولما كان رجال الأكليروس قد أيدوا الفرنسيين فإن روح القومية رددت نعمات عالية مناهضة للكاثوليكية وسارت مواكب دينية - حملت فيها تماثيل للعذراء والقديسين عبدت فيما يبدو، وعرضت مخلفات وقبلت باحترام - فأثارت المزيد من السخرية والشك.

وفي سبتمبر عام 1557 استولت جماعة من المتشككين المتحمسين على تمثال لسانت جيلس في "الكنيسة الأم" التي تحمل هذا الاسم في أدنبرة وغمروها في بركة، وأحرقوها فيما بعد حتى تحولت إلى رماد. ويروي نوكس أن هجمات مماثلة استهدفت تحطيم الأصنام حدثت في كل أرجاء البلاد.

وفي الثالث من ديسمبر عام 1557 اجتمعت في أدنبرة (التي كانت قد أصبحت عاصمة للبلاد عام 1542) "عصبة مشتركة" من النبلاء المناهضين لرجال الدين أرجيل وجلنكرن ومورتون ولورن وارسكين - ووقعوا "أول ميثاق إسكوتلندي" وأطلقوا على أنفسهم: "لوردات جماعة المصلين ليسوع المسيح" لتعارض "جماعة المصلين للشيطان" - أي الكنيسة، وتعهدوا بالمحافظة على "كلمة الله المباركة أكثر من أي شيء"، ودعوا إلى "إصلاح في الدين والحكومة، وطلبوا من الوصية على العرش الحرية التي تبيح لنا أن نمارس أمور الدين والضمير كما ينبغي استجابة لأمر الله". وصمموا على إنشاء كنائس تأخذ بأسباب الإصلاح الديني في سائر إسكوتلندة، وأعلنوا أن كتاب الصلاة العامة الذي كتب لإنجلترا في عهد إدوارد السادس يجب أن تعمل به كل جماعات المصلين. واحتج الأساقفة البروتستانت على هذا الانشقاق الجريء وحثوا رئيس الأساقفة هاميلتون على قمعه. فأمر في شيء من التبرم (28 أبريل سنة 1558) - بإحراق والتر ميلن - وهو قسيس عجوز كان قد تجرد من ملابس الكهنوت وتزوج واعتاد أن يبشر بعقيدة الآخذين بالإصلاح الديني بين الفقراء، وكان الناس يكنون احتراماً عظيماً للرجل العجوز فأعربوا عن فزعهم لهذا الإحراق الأخير لبروتستانتي إسكوتلندي بتهمة الهرطقة، وقاموا ببناء هرمي الشكل من الأحجار فوق الموضع الذي مات فيه. وعندما استدعي واعظ آخر للمحاكمة امتشق المدافعون عنه السلاح، واقتحموا طريقهم إلى حضرة الوصية، وانذروها أنهم لن يسمحوا بمزيد من الاضطهاد من أجل العقيدة الدينية وأنذر لوردات جماعة المصلين الوصية (نوفمبر سنة 1558) أنها ما لم تمنح الناس حرية العبادة فإنهم لن يكونوا مسئولين "إذا حدث أن قومت المظالم بالعنف(40) وأرسلوا في ذلك الشهر رسالة إلى نوكس بأنهم سوف يحمونه إذا عاد.

وتمهل في العودة ولكنه وصل إلى أدنبرة في اليوم الثاني من مايو سنة 1559. وقدم يوم 3 مايو في برث العظة التي أطلقت الثورة من عقالها، ويقول لنا إنها كانت عظة "عنيفة ضد عبادة الأوثان" وقد فسرت "ما في القداس من عبادة للأوثان وما فيه من أمور بغيضة" و"الوصية التي أمر بها الله بتدمير الأنصاب لهذا السبب(41)". وخرج "الجمع الأثيم" كما يصفه عن الطاعة، وعندما حاول قس في كنيسة مجاورة أن يقيم قداسا صاح أحد الشبان: "إن هذا لا يطاق لأنه في الوقت الذي لعن فيه الرب عبادة الأوثان صراحة في كتابه، فإننا نقف لنراها تعبد على الرغم من ذلك" وجاء في رواية لنوكس أن القسيس وجه للصبي ضربة شديدة، فتناول في غمرة غضبه حجراً وقذف به القسيس وأصاب قدس الأقداس، وحطم أحد التماثيل، وما لبث أن قذف الجمع كله المحتشد حوله الأحجار وأعملوا أيديهم في قدس الأقداس المزعوم وفي سائر آثار عبادة الأوثان(42). وتدفق الجمهور إلى ثلاثة أديار ونهبوها وحطموا التماثيل، ولكنهم سمحوا للاخوة الرهبان أن يأخذوا معهم ما تستطيع أكتافهم أن تتحمله. وما هي إلا يومان أو ثلاثة حتى كانت هذه المواضع الثلاثة الكبيرة... قد دمرت ولم يبقَ منها قائماً سوى الجدران(43).

وكانت الوصية على العرش بين نارين، ونصحها أخوها كاردينال اللورين أن تسير على نهج ماري تيودور، وأن تقضي على كبار البروتستانت، وكان الثوار المنتصرون في برث وحولها في غضون ذلك يهددون بقتل أي قسيس يجرؤ على إقامة القداس(44). وفي 22 مايو أرسل لها لوردات جماعة المصلين، وكان يظاهرهم وقتذاك أتباعهم المسلحون، إنذاراً نهائياً مشئوماً:

"إلى عظمة الوصية على المملكة، بعد تقديم كل فروض الاحترام والخضوع، بما أننا حتى الآن قد خدمنا السلطة في اسكوتلندى، هي وعظمتكم، بالمخاطرة بأرواحنا وبقلوب راضية... فإننا الآن والأسى يملأ جوانحنا مكرهون، تحت وطأة استبداد ظالم يدبر لنا، أن نعلن لعظمتكم أنه ما لم تتوقف هذه القسوة بفضل حكمتكم، فإننا سوف نكون مضطرين إلى امتشاق الحسام للدفاع العادل في وجه كل مَن يطاردوننا في سبيل الدين... إن جريمة القتل القاسية الظالمة التي بلغت أقصى درجات الاستبداد والموجهة إلى المُدن والجماهير، كانت ولا تزال السبب الوحيد لتمردنا على خضوعنا التقليدي، الذي نعد بإخلاص أمام الله أن نقدمه لمولاتنا (ماري ملكة الإسكوتلنديين) ولزوجها ولعظمتكم، بشرط أن تنعم ضمائرنا بالطمأنينة والحرية اللتين اشتراهما لنا بدمه يسوع المسيح... رعايا عظمتكم الخاضعون لكم في جميع الأمور التي لا تغضب الرب - جماعة المصلين المخلصين ليسوع المسيح في إسكتلندة(45)".

وفي الوقت نفسه بعثت جماعة المصلين نداء إلى النبلاء بتأييد الثورة وخطاباً مفتوحاً حذروا فيه "جيل المناهضين للمسيح والأساقفة المؤذين كالوباء ورهبانهم... إذا مضيتم في قسوتكم الحاقدة فإنكم سوف تعاملون، أينما يقبض عليكم كقتلة وأعداء للرب صراحة. ولن يبرم معكم عقد صلح قط إلا إذا انقطعتم عن عبادتكم الصريحة للأوثان واضطهادكم القاسي لأبناء الرب(46)".

ودخلت الوصية ماري مدينة برث بقدر ما استطاعت أن تحشد من كتائب الجند، ولكن أنصار جماعة المصلين تجمعوا صفاً مسلحاً، وأدركت ماري أنها لن تستطيع أن تتغلب عليهم، فوقعت معهم هدنة (29 مايو سنة 1559) وانسحب نوكس إلى سانت أندروز، ولم يعبأ بنواهي كبير الأساقفة، فوعظ في كنيسة الأبرشية ضد عبادة الأوثان (11 - 14 يونيه). وتأثر مستمعوه بحرارة عباراته فأزالوا كل أثر ينم عن عبادة الأوثان، عن كنائس المدينة وأحرقوا هذه التماثيل أمام عيني رجال الدين الكاثوليك(47). وهرب كبير الأساقفة إلى برث، ولكن قوات جماعة المصلين ادعت أن ماري قد خرقت نصوص الهدنة باستخدام الأموال الفرنسية في دفع رواتب جنودها الإسكوتلنديين، وهاجمت القلعة، واستولت عليها (25 يونيه). وفي الثامن والعشرين نهبت دير سكون وأحرقته.

وإذا جاز لنا أن نصدق أحياناً ما يقوله نوكس المعروف برحابة خياله فإن "ربة بيت" فقيرة طاعنة في السن قالت وهي ترى ألسنة اللهب المتصاعدة:

"الآن أرى وأدرك أن أحكام الرب عادلة، فإن هذا المكان بقدر ما تسعفني الذاكرة لم يكن إلا وكراً للقوادين. إنه لأمر لا يصدق... كم من زوجة زنى بها، وكم من عذراء أفتض بكارتها الوحوش الدنسة، التي كانت تحتضن هذا الوكر، وبخاصة ذلك الرجل الخبيث، الأسقف(48). وكانت ماري أميرة اللورين وقتذاك مصابة بمرض خطير، تتوقع وفاتها في أية لحظة، فهربت إلى ليث وحاولت أن تؤخر تقدم البروتستانت المنتصرين بالمفاوضات إلى أن يصل إليها العون من فرنسا. واكن جماعة المصلين تفوقت عليها بالمباراة، وذلك بالفوز بتأييد إليزابث ملكة إنجلترا. وكتب نوكس إلى الملكة خطاباً يؤكد لها فيه أنه لم يتعرض لها في رسالته "نفخة البوق" ضد الملكات. ونصح وليام سيسل الوزير الأول ملكته إليزابث بأن تساعد الثورة الإسكوتلندية كإجراء يحقق اعتماد إسكوتلندة على إنجلترا سياسياً. وأدركت أن هذا إجراء وقائي مشروع ضد ماري ستيوارت، التي كانت قد طالبت، عندما أصبحت ملكة فرنسا (1559) بعرش إنجلترا أيضاً، على أساس أن إليزابث ابنة سفاح مغتصبة للعرش. وسرعان ما أغلق أسطول إنجليزي في مضيق فورث الطريق أمام نزول أي مساعدة فرنسية للوصية على العرش إلى البر، وانضم جيش إنكليزي إلى قوات جماعة المصلين في مهاجمة ليث. وانسحبت ماري أميرة اللورين إلى قلعة ادنبرة، وماتت (10 يونيه سنة 1560) بعد أن قبلت حاشيتها واحداً واحداً. لقد كانت امرأة طيبة قدر عليها أن تقوم بالدور الخطأ في مأساة لا فكاك منها.

واستسلم آخر المدافعين عنها، بعد أن سدت في وجوههم السبل وأوشكوا على الموت جوعاً. وفي السادس من يوليو سنة 1560 وقع ممثلو جماعة المصلين وماري ستيوارت وفرنسا وإنجلترا معاهدة أدنبرة التي قدر لموادها أن تكون من صميم أسباب الصراع الأخير بين ماري وإليزابث... وكان على كل الجنود الأجانب ما عدا 120 فرنسياً مغادرة إسكوتلندة. وكفت ماري ستيوارت وفرانسيس الثاني عن مطالبتهما بالتاج الإنجليزي، واعترف بماري ملكة على إسكوتلندة، ولكن حظر عليها أن تشن حرباً أو تعقد صلحاً بدون موافقة أمراء الإقطاع، وكان على هؤلاء أن يختاروا خمسة رجال أو أثنى عشر رجلاً للتعيين في مجلسها الخاص، ولا يجوز أن يشغل أجنبي أو رجل من رجال الأكليروس منصباً رفيعاً، ولابد من إعلان عفو عام، مع إستثناءات يعينها أمراء الإقطاع. كانت معاهدة صلح مهينة للملكة الغائبة، وانتصاراً مبيناً لجماعة المصلين لم تكد تسفك فيه دماء.

وقبل المجلس النيابي، الذي اجتمع في أول أغسطس سنة 1560 اعترافاً بالعقيدة أعده نوكس ومعاونوه وخفف من غلواء بعض نصوصه ميتلاند ليشنجتون ولم يصوت ضده إلا ثمانية أعضاء. ولما كان لا يزال العقيدة الرسمية لكنيسة إسكوتلندة المشيخية نرى لزاماً علينا أن نسجل بعض مواده الأساسية تذكيراً بها:

1- نعترف ونقر بوجود إله واحد أحد... في ثالوث.

2- نعترف ونقر أن إلهنا هذا قد خلق بشراً ندرك أنه أبونا الأول آدم - خلق منه الله امرأة على صورته... حتى لا نلاحظ أي نقص في طبيعة الإنسان الكاملة، ومن هذا الشرف والكمال سقط الرجل والمرأة معاً. فالمرأة خدعتها الحية والرجل أصغى لصوت المرأة.

3- وبهذه الزلة، التي يطلق عليها عادة اسم الخطيئة الأولى دنست صورة الرب تماماً في الإنسان، وأصبح هو وذريته من الطبيعة أعداء للرب، عبيداً للشيطان وخدماً للخطيئة، ومادام ذلك الموت كانت له، وسوف تكون له دائماً، قوة وسلطان، على كل مَن لم يولد أو ولد

أو سوف يولد من أعلى، وهذا الميلاد من جديد يتم على يد الروح القدس، وهو يعمل في أفئدة أصفياء الرب فتمتلئ إيماناً لا يتزعزع بوعد الرب. وبهذا الإيمان يدركون يسوع المسيح.

8- وذلك الرب والأب البار نفسه... برحمته وحدها اختارنا في يسوع المسيح... قبل خلق العالم...

16- إننا نؤمن بإخلاص شديد، بأنه كانت منذ البداية، ولا تزال، وسوف تكون إلى نهاية العالم، كنيسة أي صحبة وجماعة من الناس اختارهم الله، لكي يعبدوه بحق، ويحتضنوه بالإيمان الصحيح بيسوع المسيح... وخارج هذه الكنيسة لا توجد حياة ولا نعيم أبدي. ومن ثم فإننا نمقت بشدة كفر مَن يؤكدون أن الناس يعيشون، وهم يراعون الإنصاف والعدل سوف يظفرون بالخلاص أياً كان الدين الذي يعتنقونه.

21- نحن لا نقر إلا اثنتين من المقدسات: التعميد والعشاء الرباني... لا لأننا نتصور تحول الخبز إلى جسد الرب الطبيعي... ولكننا نؤمن بأن صنيع الروح القدس إنما يعني أن المؤمنين بالاستخدام الصحيح لمائدة الرب يأكلون جسد السيد يسوع ويشربون دمه.

24- نعترف ونقر بأن الإمبراطوريات والممالك والمستعمرات والمُدن أقيمت بفضل الله... في الغالب وبصفة رئيسية للملوك والأمراء والحكام، وذلك من أجل الحفاظ على كل ما يتصل بالدين وتطهيره، ولهذا فإنهم لا يعينون من أجل السياسة المدنية وحدها، ولكن من أجل المحافظة على الدين الصحيح ومنع عبادة الأوثان والخرافة أياً كانت أيضاً(49).

وترتب على هذا الاعتراف أن المجلس النيابي الإسكوتلندي الآخذ بأسباب الإصلاح الديني رفض التسليم بالسلطة القضائية للبابا، وجعل العقيدة والشعيرة اللتين تبناهما الإصلاح الديني إجباريين، ومنع إقامة القداس وإلا تعرض مَن يقيمه للعقوبة البدنية ومصادرة أمواله عند ارتكاب أول جريمة، والنفي عند ارتكابه لها للمرة الثانية، والإعدام إذا ارتكبها مرة ثالثة. ولكن لما كان النبلاء الذين يتحكمون في المجلس النيابي يريدون الأرض أكثر مما يريدون سفك الدماء، وبما أنهم لم يتبعوا اللاهوت الكالفيني حرفياً فإن مطاردة هؤلاء الإسكوتلنديين الذين ظلوا كثالكة، بقي معتدلاً نسبياً، ولم يصل قط إلى توقيع عقوبة بدنية. وبعد أن سمح للنبلاء برفض الاعتراف بالمطهر باعتباره أسطورة، ادعوا أنهم غبنوا في جانب من ذمتهم المالية بالهبات التي قدمها أجدادهم من الأرض أو المال لدفع أتعاب لقساوسة يرتلون قداسات من أجل الموتى، الذين قدر عليهم طبقاً للاهوت الجديد، الخلاص أو اللعنة قبل خلق العالم، ولهذا فإنه يمكن التعبير في بهجة عن نزع ملكية الكنيسة بأنه استرداد للأموال المختلسة، وأغلقت معظم الأديار الإسكوتلندية، واستولى النبلاء على ثروتها ولم تدبر الحكومة في مبدأ الأمر أي مورد للقساوسة الكالفينيين، وكان هؤلاء قد استخدموا كمعاونين إيدولوجيين في الثورة، ولكن النبلاء كانوا قد فقدوا وقتذاك الاهتمام باللاهوت. وكان نوكس ورفقاؤه من الوعاظ الذين خاطروا وضحوا بالكثير من أجل النظام الجديد قد توقعوا، أن تستخدم أملاك الكنيسة في مساندة الكنيسة الإسكوتلندية ورجال الأكليروس بها. والتمسوا من المجلس النيابي إقرار هذا التدبير فلم يتلقوا جواباً، ولكن خصص لهم في آخر الأمر سدس الأسلاب. ووجد أن هذا يقصر عن تحقيق مطالبهم فانقلبوا ضد الأرستقراطية النهمة وبدأ الحلف التاريخي بين أتباع الكنيسة المشيخية الإسكوتلندية والديمقراطية.

وتفردت حركة الإصلاح الديني الإسكوتلندي بين حركات الإصلاح الديني جميعاً بأنه لم يسفك فيها إلا أقل قدر من الدماء، وكانت مع ذلك أبقاها، وقاسى الكثالكة في صمت، وهرب أساقفتهم وقبل معظم قساوسة الأبرشيات التغيير باعتباره ليس أسوأ من ظلم الأساقفة وزياراتهم التفتيشية.

وفقدت المناطق الريفية مفارق طرقها الجانبية، وهجرت مزاراتها القديمة، التي كان الحجاج يشدون إليها الرحال، ولم يعد القديسون يهيئون للناس عطلات يرتاحون فيها. وليس من شك في أن نفوساً كثيرة قد حزنت على الماضي وبالغت في مثاليته. وليس من شك أيضاً في أن كثيرين أخذوا يترقبون، والأمل يراودهم، مجيء ملكتهم الشابة من فرنسا.

ولقد ضاع الكثير مما كان يشيع المرح والجمال في الحياة. والكثير مما كان وحشياً وقاسياً وخداعاً، ولسوف تحدث أمور كثيرة جافة كئيبة، ومع ذلك لم يكن هناك بد من التغيير.

وخفت وطأة تبادل التهم وهيأ الناس أنفسهم، لتقبل النظام الجديد، وأصبح التقاء مواقف ما يشبه العقيدة بالصفوف المشايعة للملكية، والتي يقترب بعضها من بعض، بعد نعمة كبرى، لأنه سيضع حداً للحروب المريرة بين الإسكوتلنديين والإنجليز، وسرعان ما تمنح الأمة الأضعف البلد الأقوى ملكاً. وبريطانيا ستصبح مملكة واحدة.


صفحة رقم : 8730