قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 26

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 8655

قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> إدوارد السادس وماري تيودور -> حماية سومرست

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السادس والعشرون: إدوارد السادس وماري تيودور 1547 - 1558

حماية سومرست

لقد رسم هولباين صورة تعد من أعظم صوره على الإطلاق جاذبية للصبي البالغ من العمر عشر سنوات، والذي ارتقى عرش إنجلترا باسم إدوارد السادس، وذلك قبل ارتقائه العرش بأربع سنوات: قلنسوة مزينة بالريش، وشعراً أحمر، ورداء له بنيقة من فرو للفاقم، ووجهاً فيه من الدعة والرقة التي تنم على قلق دفين، ما يدفعنا إلى الظن بأنه ورث كل هذه الصفات من جين سيمور ولم يرث شيئاً من هنري الثامن. ولعله ورث عنها ضعفها الجسماني الذي جعلها تدفع حياتها فداء له، ولم يوفق يوماً في الحصول على القوة التي تعينه على الحكم. ومع ذلك فإنه قام بالتبعات الملقاة على عاتقه باعتباره أميراً أو ملكاً بإخلاص نبيل، فدرس اللغات والجغرافية وفن تدبير الحكم والحرب بشغف، وفرض رقابة دقيقة على كل شئون الدولة التي تصل إليها معرفته، وأبدى للجميع ما عدا الكثالكة المنشقين شفقة عظيمة وحسن نية كبيرة، إلى حد أن إنجلترا ظنت أنها دفنت غولاً لتتوج قديساً. وتعلم على يد كرانمر فأصبح بروتستانتياً متحمساً، ولم يكن من أنصار توقيع أي عقوبة قاسية على مَن يتهم بالهرطقة، ولكنه كره أن يترك أخته غير الشقيقة ماري تحضر القداس، لأنه كان يؤمن بإخلاص أن القداس أشد ضروب عبادة الأوثان كفراً. وقبل مسروراً القرار الذي اتخذه المجلس الملكي باختيار عمه إدوارد سيمور- الذي أنعم عليه حالاً بلقب دوق أف سومرست- وصياً عليه، وقد آثر انتهاج سياسة بروتستانتية.

كان سومرست رجلاً على حظ من الذكاء والشجاعة، ويتصف بتماسك، يشوبه بعض النقص، وإن كان في عصره من السجايا البارزة، وكان وسيماً رقيق الحاشية كريما، وأخجل بسيرته الطبقة الأرستقراطية الجبانة التي كانت لا تنشد إلا مصلحتها، وتغفر له كي شيء إلا تعاطفه مع الفقراء. وعلى الرغم من أنه كان يتمتع بسلطة مطلقة تقريباً، فإنه قضى على الحكم المطلق الذي أقامه هنري السابع وهنري الثامن، وسمح للناس بحرية أكبر في التعبير بالكلام، وخفض عدد الأفعال التي كانت تعد فيما سبق من قبيل خيانة الدولة أو الخيانة العظمى، واقتضى وجود دليل أقوى للحكم بثبوت الجريمة، وأعاد إلى أرامل المحكوم عليهم صداقهن، وألغى القوانين الجائرة الخاصة بالدين والتي صدرت في العهد السابق. وظل الملك رئيساً للكنيسة الإنجليزية. وكان الحديث في غير خشوع عن القربان المقدس جريمة تستحق العقاب، بيد أن القانون نفسه أمر بأن يقدم القربان المقدس بالصورتين المعروفتين، ونص على أن الإنجليزية هي لغة الصلاة، ورفض المطهر والقداسات للموتى. وعاد البروتستانت الإنجليز الذين كانوا قد فروا من إنجلترا ومعهم لقاح لوثر وزونجلى وكالفن، وعندما اشتم مصلحون أجانب عبير الحرية الجديدة، جاءوا معهم إلى الجزيرة المضطربة بأناجيل متعددة.

وأقبل بيتر مارتير فيرمجلي ومارتن بوسر من ستراسبورج، وجاء برنادرينو أوكينو من أجسبورج، وجان لاسكي من إمدن. وعبر المنكرون للتعميد والقائلون بوحدة الكنيسة القناة للتبشير في إنجلترا بهرطقات أفزعت البروتستانت بقدر ما أفظعت الكاثوليك. وأزالت الجماهير محطمة الأصنام في لندن والصلبان والصور والتماثيل من الكنائس، ووعظ نيكولاس ريدلي، عميد كلية بمبروك، بجامعة كامبردج بعنف ضد الصور الدينية والماء المقدس، ولكي يتفوق عليهم جميعاً رئيس الأساقفة كرانمر "أكل اللحم علناً في الصوم الكبير، وهو أمر لم يشهده أحد قط من قبل مذ أصبحت إنجلترا بلداً مسيحياً(1)". ورأى المجلس الملكي أن هذا قد تجاوز الحد، ولكن سومرست تغلب عليه، وأطلق الحرية للإصلاح الديني. وأصدر المجلس النيابي (1547) برئاسته أمراً بنزع كل صورة على جدار كنيسة أو نافذتها تشيد بذكر نبي أو حواري أو قديس "حتى لا تبقى هناك أي ذكرى له نفسه". وحطم معظم الزجاج الملون في الكنائس وسحقت أغلب التماثيل، واستبدل بالصلبان شعارات ملكية، واتخذت الجدران المبيضة بالكلس والنوافذ ذات الزجاج الأبيض لونها من ديانة إنجلترا.

وكان في كل محلة كفاح مرير من أجل فضة الكنيسة وذهبها، واستولت الحكومة عام 1551 على ما تبقى. وبقيت تقريباً كاتدرائيات القرون الوسطى الفخمة.

وكان الأسقف كرانمر هو الذي تزعم حركة القيام بهذه التغيرات، وكان خصماها الكبيران أدموند بونر، أسقف لندن، وستيفن جاردنر، أسقف ونشستر، وقد أمر كرانمر بإرسالهما إلى سجن فليت . وفي غضون ذلك كان الأسقف يقوم منذ سنوات بمحاولة ليقدم في كتاب واحد بديلاً للكتاب المقدس وكتاب الصلوات عند الكنيسة المغلوبة على أمرها. وساعده بيتر مارتير وعلماء آخرون، بيد أن هذا الكتاب الأول للصلاة العامة (1548) كان أصلاً ثمرة جهد شخصي لكرانمر، امتزجت فيه الحماسة للعقيدة الجديدة بإحساس رقيق لجمال رزين في الشعور واللفظ بل أن ترجماته من اللاتينية فيها سحر عبقريته.


ولم يكن الكتاب ثورياً تماماً فقد أخذ ينتهج بعض السوابق اللوثرية مثل رفض سمة التضحية في القداس، ولكنه لم ينكر أو يؤكد التجسيد، واحتفظ بالكثير من الشعيرة الكاثوليكية، وكان يمكن قس من أنصار الكنيسة الرومانية لا يدقق كثيراً أن يقبلها. ولم يقدمه كرانمر إلى المجمع الأكليروسي بل قدمه إلى المجلس النيابي، ولم تكن هذه الهيئة العلمانية تطوي بين جوانحها أي تبكيت مصدره سلطة قضائية في النص على شعيرة أو عقيدة دينية. وأصبح الكتاب قانوناً للمملكة، وصدرت الأوامر لكل كنيسة في إنجلترا للعمل به. وأعيد سجن بونروجاردنر، وكانا قد أطلق سراحهما في عفو عام 1549، وذلك عندما رفضا الاعتراف بحق المجلس النيابي في سن تشريع في مجال الدين. وسمح للأميرة ماري بحضور قداس في خلوة بجناحها.

ونشأ موقف دولي خطير أدى إلى تهدئة الجدل العنيف بين الكثالكة والبروتستانت إلى حين. وطلب هنري الثاني ملك فرنسا الجلاء عن بولونيا، وعندما رفض طلبه أعد لحصارها، والحق إن ماري ستيوارت، ملكة الاسكتلنديين، وكانت وقتذاك في الخامسة من عمرها وتقيم في فرنسا، كانت حرية بأن تدخل إسكتلندة في الحرب. وعندما علم سومرست أن الاسكتلنديين يتسلحون ويثيرون فتنة في إيرلندة قاد قوة عبر بها الحدود وهزمهم في بنكي كليو (10 سبتمبر سنة 1547)، وكانت الشروط التي عرضها على الاسكتلنديين سخية وتدل على بعد نظر: لن يتعرض الاسكتلنديون إلى التفريط في حريتهم أو مصادرة أملاكهم، وتتحد إسكتلندة وإنجلترا في "إمبراطورية بريطانيا العظمى". ولكل أمة أن يكون لها حكم ذاتي تطبق فيها قوانينها الخاصة، ولكن كلا البلدين تحكمهما، بعد الحكم الجاري، ذرية ملكة الاسكتلنديين، وكان هذا على وجه الدقة الاتحاد الذي تم في عام 1603، اللهم إلا إذا استثنينا أنه يسر عودة الكاثوليكية إلى إنجلترا وتواصلها في إسكتلندة. ورفض الكثالكة في إسكتلندة المشروع خشية أن تصل عدوى البروستانتية الإنجليزية إلى بلادهم، وإلى جانب هذا كان النبلاء الاسكتلنديون يتلقون مرتبات من الحكومة الفرنسية، وكانوا يرون أن عصفوراً في اليد خير من عشرة على الشجرة.

وأحبطت مساعي سومرست في سبيل السلام وواجه الحرب مع فرنسا، وجاهد أن يرسي دعائم مصالحة بين عقائد لا تعرف المصالحة في الوطن، وترامى إلى أسماعه دقات متجددة لطبول ثورة زراعية في إنجلترا، فشرب كأس السلطة حتى الثمالة عندما دبر شقيقه مؤامرة للإطاحة به. ولم يقنع توماس سيمور بأن يكون اللورد الأمير البحار وعضو المجلس الخاص بل كان يريد أن يصبح ملكاً. فتودد إلى الأميرة ماري ثم إلى الأميرة اليزابيث، ولكن عبثاً. وتلقى مالاً مسروقاً من دار السكة وأسلاباً من القراصنة الذين سمح لهم بالدخول في القناة، وعندما حصل على الأموال اللازمة حشد مخازن سرية للأسلحة والذخيرة. واكتشفت مؤامرته، واتهمه إيرل وأورويك وإيرل سوثهامبتون، وأدانه مجلسا البرلمان بالإجماع تقريباً وحكم عليه في 20 مارس سنة 1549 بالإعدام، وحاول سومرست أن يحميه، ولكنه فشل، وسقطت وضاعت هيبة الحامي بسقوط راس أخيه.

وألحقت ثورة كيت الخراب الشامل بسومرست. وأوضحت تلك الثورة مدى ما تتسم به من شذوذ ظاهر، فبينما كانت ثورة الفلاحين في ألمانيا بروتستانتية، كانت في إنجلترا كاثوليكية، وفي كل حالة كان الدين مظهراً للاستياء من الحالة الاقتصادية، وفي إنجلترا كان المظهر كاثوليكياً لأن الحكومة كانت وقتذاك بروتستانتية. وكتب فرود البروتستانتي يقول: "في التجربة التي خاضها فقراء المزارعين كانت زيادة معاناة الأشخاص نتيجة رئيسية للإصلاح الديني(2)".

ومما يفاخر به رجال الدين البروتستانت في هذا العهد- كرانمر ولاتيمر وليفر كراولي، أنهم استنكروا الاستغلال الشديد للفلاحين، ولقد ندد سومرست في غضب شديد باغتصاب الملاك الجدد "الذين برزوا من الحضيض" لثورة المدينة(3). ولم يكن في وسع المجلس النيابي أن يفكر في وسائل علاج أكثر حكمة من إجازة قوانين صارمة ضد التسول، وأن يوجه الكنائس بأن تتولى جمع تبرعات للفقراء كل أسبوع: وأرسل سومرست لجنة تتقصى الحقائق عن الأراضي المسورة والإيجارات المرتفعة، وقوبلت بمقاومة مستورة حيناً أو صريحة حيناً آخر من ملاّك الأراضي، وأرهب المستأجرون إلى حد العمل على إخفاء أخطائهم، ورفض المجلس النيابي الأخذ بالتوصيات المتواضعة للجنة وكان يمثل الأعيان فيه ملاك المناطق الزراعية. وافتتح سومرست محكمة خاصة في داره لسماع شكاوى الفقراء، وانضم عدد من النبلاء، أخذ يتزايد يوماً بعد يوم، ويتزعمهم جون دولي، إيرل أف وأرويك، إلى حركة تستهدف خلعه.

ولكن الفلاحين كانوا وقتذاك غاضبين بسبب الأخطاء المتراكمة وفشل القضايا المرفوعة لرد الحيف، فانفجروا في ثورة امتدت من أقصى إنجلترا إلى أدناها، وثارت أولاً سومر ستشاير ثم ولتز وجلوسستر شاير ودورست وهامبشاير وبروكس وأكسفورد وبكنجهام في الغرب كورنول وديفون، وفي الشرق نورفولك وكنت. ونظم روبرت كنت وهو من صغار ملاّك الأراضي في نورويتش، الثوار وقبض على زمام الحكم البلدي وأقام كومونا للفلاحين تولى حكم المدينة وما وراءها شهراً. وضرب كنت مخيماً عسكر فيه 16.000 رجل، وهناك كان يجلس يومياً تحت شجرة سنديان للحكم بين ملاّك الأراضي المذنبين الذين قبض عليهم الفلاحون. ولم يكن متعطشاً للدماء، فالذين أدانهم وحكم عليهم سجنوا وقدم إليهم الطعام. ولم يكن يقيم وزناً كبيراً لحقوق الملكية وصكوكها وأمر رجاله بأن ينقبوا في الأراضي الريفية المجاورة وأن يقتحموا المنازل في الضياع، ويصادروا كل الأسلحة ويسوقوا كل الماشية، ويستولوا على كل المؤن حيثما وجدت لصالح الكومون. أما الأغنام، وهي أكبر خصوم للفلاح في الانتفاع بالأرض، فقد جمع منها 20.000 رأس، ووزعت للاستهلاك في كثير من السرف، "عجول لا تحصى" وبجع وأيلات وبط وغولان وخنازير. ومع ذلك فقد حافظ كنت وسط هذه الوليمة على نظام عجيب، بل وسمح لواعظ بدعوة الرجال إلى التخلي عن الثورة. وشعر سومرست بكثير من التعاطف مع الثوار، ولكنه اتفق في الرأي مع وأرويك على تشتيتهم، لئلا يهدم البناء الاقتصادي بأسره في الحياة الإنجليزية. وأنفذ وأرويك مرة أخرى لقتالهم ومعه جيش كان قد حشد حديثاً للقتال في فرنسا. وعرض على الثوار منحهم عفواً عاماً، إذا عادوا إلى بيوتهم وآثر كت في القبول، بيد أن بعض المتهورين رأوا حسم الأمر بالمعركة، فأذعن كت لهم. وتقررت النتيجة يوم 17 أغسطس سنة 1549، وانتصر تكتيك وأرويك، وقتل 3500 ثائر، ولكن عندما استسلم الباقون قنع وأرويك بشنق تسعة، وأرسل كت وأحد أشقائه إلى السجن في لندن. ووصلت أنباء الهزيمة إلى جماعات الثوار الأخرى فخارت عزيمتهم، ووضعت جماعة إثر أخرى أسلحتها، بعد أن وعدت بالحصول على عفو عام. واستخدم سومرست نفوذه لإطلاق سراح معظم الزعماء وبقي أشقاء كت على قيد الحياة إلى حين.

واتهم الحامي بأنه شجع على الثورة بتعاطفه الصريح مع الفقراء، ووصم بالفشل في الشئون الخارجية لأن فرنسا كانت وقتذاك تحاصر بولونيا. واتهم بحق بالسماح بالفساد بين موظفي الحكومة وتخفيض قيمة العملة ومضاعفة ثروته وبناء بيت سومرست الفخم، وسط الظروف التي أشرفت فيها الأمة إلى الإفلاس. وتزعم وأرويك وسوثهامبتون حركة لإقصائه عن مقعده، وكان معظم النبلاء على استعداد للتغاضي عن ثروته، ولكنهم لن يغفروا له أبداً عطفه على فلاحيهم، فانتهزوا الفرصة للإنتقام. وفي 12 أكتوبر سنة 1549 سيق الدوق أف سومرست باعتباره سجيناً في موكب اخترق شوارع لندن وسجن في البرج.


حماية وارويك (1549-53)

كان أعداء سومرست رقيقي الحاشية بمقاييس ذلك العهد. وحرم من الأملاك التي اكتسبها إبان وصايته على العرش، وأطلق سراحه يوم 6 فبراير سنة 1550، واسترد عضويته في المجلس الملكي في مايو. ولكن وارويك كان وقتذاك حامي المملكة.

وكان مكيافيليا صريحاً، وعلى الرغم من أنه كان ينزع في أعماق نفسه إلى الكاثوليكية إلا أنه سلك نهجاً بروتستانتياً لأن خصمه سوثهامبتون كان الزعيم الذي ارتضاه الكاثوليك لهم، وكان أغلب النبلاء مرتبطين مالياً بالعقيدة الجديدة. وقد تعلم جيداً فن الحرب ولكنه أدرك أنه لن يستطيع أن يحتفظ ببولونيا أمام فرنسا التي تملك ضعف موارد إنجلترا، معتمداً على حكومة مفلسة وشعب معدم، وسلم المدينة إلى هنري الثاني ووقع معاهدة صلح مهينة كان لابد منها (1550).

وفي ظل سيطرة ملاك الأراضي من النبلاء أو العامة وافق المجلس النيابي (1549) على قانون يعاقب بشدة على ثورة الفلاحين. وأيد قانون صريح وجود الأراضي المسورة، وألغيت الضرائب التي كان سومرست قد فرضها على الأغنام والصوف لكي تفتر همة الناس في إقامة الحظائر. ونص القانون على عقوبات صارمة توقع على العمال الذين يتحدون لرفع أجورهم(4). وأعلن عدم شرعية الاجتماعات التي تعقد لمناقشة تخفيض الإيجارات أو الأسعار، ومصادرة ممتلكات الأشخاص الذين يحضرونها. وشنق روبرت كت وأخوه، واشتد الفقر، بيد أن دور البر التي اكتسحتها الثورة الدينية لم تنشأ دور بدلاً منها، وأصبح المرض متوطناً، ولكن المستشفيات كانت مهجورة. وتضور الناس جوعاً، ولكن العملة خفضت قيمتها مرة أخرى وارتفعت الأسعار. ثم إن ملاك الأراضي في إنجلترا الذين كانوا أقوياء في يوم من الأيام أخذوا يهلكون، وكان أفقر الفقراء يغرقون في بحر الهمجية(5). وكانت الفوضى الدينية لا تقل عن الفوضى الاقتصادية، وظلت أغلبية الناس كاثوليكية(6)، بيد أن انتصار وارويك على سوثهامبتون تركهم بلا قائد وشعروا بضعف موقف الذين يظاهرون الماضي. وأدى انهيار سلطة القساوسة الروحية والأدبية، وكذلك عدم استقرار الحكومة وفسادها إلى السماح لا بازدياد الفجور فحسب، ولكن إلى استفحال الهرطقة، بصورة أفزعت الكثالكة والبروتستانت على السواء. ووصف جون كليمنت (1551) "الأنواع العجيبة من الطوائف التي احتشدت في كل مكان لا من أنصار البابوية فحسب... ولكن من الآريوسيين المنكرين للتعميد وكل صنوف الهراطقة الآخرين أيضاً... بعضهم ينكر أن الروح القدس هو الرب، والبعض ينكر الخطيئة الأولى، والبعض الآخر ينكر القدر... وعدد لا يحصى من أمثال هؤلاء، يقصر بنا المقام عن ذكرهم(7). وكتب روجر هتشنسون (حوالي عام 1550) عن "الصدوقيين والفاسقين (أحرار الفكر)، الذين يقولون: "إن الشيطان" ليس إلا... غرام دنس بالجسد... وأنه ليس هناك موضع للطمأنينة أو العذاب بعد هذه الحياة الدنيا، وأن الجحيم ليس إلا ضميراً يائساً يعذب صاحبه، وأن الجنة ضمير مبتهج ساكن مرح(8)".

وتحدث جون هوبر، أسقف جلوسستر البروتستانتي فقال: "هناك مَن يقول إن روح الإنسان ليست أفضل من روح حيوان، وأنها فانية وهالكة، وهناك أشقياء يتجاسرون في اجتماعاتهم على القول بأن المسيح ليس هو المخلص لنا، بل يذهبون إلى أن الطفل المبارك مؤذ ومحتال(9)". وأفاد الناس من الحرية التي منحها لهم سومرست فطعن جناح متهور من البروتستانتية في الدين القديم طعناً قاسياً وتهكم طلبة جامعة أكسفورد بالقداس بمحاكاته في مسرحياتهم الهزلية، ومزقوا كتب القداس إرباً، واختطفوا الخبز المقدس من المذبح ووطئوه بالأقدام. وأطلق وعاظ لندن على هؤلاء القساوسة اسم: "عفاريت بغى بابل" - أي البابا(10). والتقى رجال الأعمال في مؤتمرات بكاتدرائية سانت بول، واجتمع هناك الشبان من ذوي النخوة وقاتلوا وقتلوا. وكانت الحماية الجديدة وقتذاك بروتستانتية على التحقيق. وعين المصلحون الدينيون في أسقفيات بشرط أن يحولوا جانباً من دار الأسقفية إلى رجال الحاشية الذين كان لهم الفضل في تعيينهم(11)، وقضى المجلس النيابي (1550) بإزالة كل اللوحات والتماثيل من أي كنيسة في إنجلترا ما عدا "الصور التذكارية للملوك أو النبلاء الذين لم يسلكوا قط في عداد القديسين" وأتلفت كل كتب الصلاة(12) ما عدا كتاب كرانمر. وصودرت أو بيعت ووهبت الثياب الكهنوتية والقباءات وكسوة المذبح، وسرعان ما ازدانت بها بيوت النبلاء(13). وأصدر المجلس أمراً بمصادرة كل آنية مخصصة للتبرعات بقيت في الكنائس بعد عام 1550 لصالح الخزنة. وانتزع المجلس النيابي فيما بعد للحكومة العملات التي في صناديق التبرعات للفقراء بالكنائس(14). ووجدت أموال أخرى للحكومة أو لموظفيها بإلغاء المنح الدراسية للطلبة الفقراء ومنع الأستاذيات المعانة من الدولة بالجامعات، والتي أنشأها هنري الثامن(15). وأوصى المجلس النيابي لعام 1552 بأن يبقى رجال الأكليروس بلا زواج ولكنه أذن لهم بالزواج إذا ثبت أن العفة تضنيهم.


وكان الاضطهاد الديني للهراطقة، الذي قام به الكثالكة منذ عهد بعيد، قد نهض به وقتذاك البروتستانت في إنجلترا، وكذلك في سويسرة وألمانيا اللوثرية، وذلك بمطاردة الهراطقة والكثالكة. وأعد كرانمر بياناً بالهرطقات التي يعاقب مرتكبوها بالإعدام إذا لم يرتدوا عنها، وتضمنت تأكيد وجود المسيح حقاً في القربان المقدس أو السيادة الكنسية للبابا، وإنكار الوحي في العهد القديم، أو الطبيعتين في المسيح أو التزكية بالإيمان(16). وذهبت جوان بوشر الكونتيسة إلى المحرقة لشكها في تجسد الإقنوم الثاني (1550). وقالت لريدلي: أسقف لندن البروتستانتي الذي توسل إليها أن تتراجع عما تقول: "لقد أحرقتم آن أسكيو منذ عهد غير بعيد من أجل قطعة من الخبز (لإنكارها التجسد)، ومع ذلك حدث أن آمنتم بالعقيدة التي أحرقتموها من أجلها، وأنتم سوف تحرقونني الآن من أجل قطعة من اللحم (تشير إلى العبارة الواردة في الإنجيل الرابع). "لقد صنعت الكلمة لحماً، وسوف تؤمنون بهذا أيضاً آخر الأمر(17)". ولم يحرق في عهد إدوارد إلا هرطقيان، ومهما يكن من أمر فإن كثيراً من الكثالكة سجنوا لحضورهم القداس أو لانتقادهم علناً العقيدة المحافظة المقبولة(18). وأقيل القساوسة الكاثوليك المتشبثون بآرائهم من مناصبهم وأرسل بعضهم إلى سجن البرج(19)، وعرض على جاردنر، وكان لا يزال هناك، الحرية إذا وافق على التبشير بالعقيدة التي يقول بها أنصار الإصلاح الديني. وعندما رفض نقل إلى "مسكن أحقر" في البرج وحرم من الورق والقلم والكتب. وفي عام 1552 أصدر كرانمر كتابه الثاني عن الصلاة العامة وفيه أنكر وجود المسيح حقاً في القربان المقدس، ونبذ تقديم القربان المقدس بالمسيح المغالى فيه، وراجع في ظروف أخرى الكتاب الأول باتجاه بروتستانتي.

ووافق المجلس النيابي وقتذاك على قانون ثان بشأن التجانس، اقتضى أن يحضر جميع الأشخاص بانتظام وألا يحضروا سوى الصلوات الدينية التي تقام طبقاً لما ورد في كتاب الصلاة العامة هذا، وكل مَن يخالف هذا القانون ثلاث مرات، يعاقب بالإعدام، وفي عام 1553 أصدر المجلس الملكي اثنين وأربعين "مادة في الدين" وضعها كرانمر وجعلها إلزامية على كل الإنجليز.

وفي الوقت الذي أصبحت فيه الفضيلة والمحافظة على العقيدة بمثابة قانون تميزت حماية وارويك بفسادها في عصر فاسد، ولم يمنع هذا إدوارد الشاب المطاوع من تعيين وارويك دوقاً لنورثمبرلاند (4 أكتوبر سنة 1551). وبعد بضعة أيام كفر الدوق عن خطيئته التي ارتكبها بقيامه بعمل من أعمال حسن التصرف - إطلاق سراح سومرست - وذلك باتهام سلفه بالقيام بمحاولة لاستعادة السلطة لنفسه. وقبض على سومرست وحوكم وأدين في الغالب بناء على دليل قدمه سير توماس بالمر، وزيف أمر صادر من الملك بالدعوة إلى إعدام سومرست، وفي 22 يناير سنة 1552 لقي حتفه بشجاعة وإباء. وعندما واجه نورثمبرلاند الإعدام بدوره، اعترف أن سومرست قد اتهم زوراً بفضل وسائله، واعترف بالمر قبل وفاته أن الدليل الذي أقسم على صحته كان من اختراع نورثمبرلاند(20).

ونادراً ما كانت الإدارة في إنجلترا قد وصلت إلى هذا الحد من الكراهية، فقد انقلب البروتستانت ضد الحامي الجديد الذي أثنوا عليه شكراً منهم لتأييده وذلك بسبب ازدياد جرائمه. وكان الملك إدوارد يقترب من الموات وقد عينت ماري تيودور بمقتضى قانون أصدره المجلس النيابي ولية للعهد إذا ظل إدوارد بلا ذرية. وإذا قدر لماري أن تصبح ملكة فإنها سوف تنتقم في الحال من هؤلاء الذين حولوا إنجلترا عن العقيدة القديمة. وشعر نورثمبرلاند بأن حياته معرضة للخطر. وكان عزاؤه الوحيد أن وكلاءه قد دربوا إدوارد على طاعته. وأغرى الملك المحتضر بأن يقرر التاج لليدي جين جراي، ابنة الدوق سفولك وحفيدة شقيقة هنري الثامن، وفضلاً عن هذا فإن جين كانت قد تزوجت حديثاً من ابن نورثمبرلاند. ولم يكن إدوارد قد خول مثل أبيه السلطة من المجلس النيابي لتعيين خلفه، وكانت إنجلترا بأسرها تقريباً ترى أن ارتقاء الأميرة ماري العرش أمر لا مفر منه وعادل. واحتجت جين بأنها لم ترغب قط في أن تكون ملكة. وكانت امرأة نالت قسطاً غير عادي من التعليم: وكتبت باليونانية ودرست العبرية وتراسلت مع بولينجر بلغة لاتينية لا تقل جمالاً عن لغته. ولم تكن قديسة، وكان في وسعها أن تنتقد الكثالكة بشدة، وسخرت من التجسيد. ولكن نسب إليها من الآثام أكثر مما أثمت. وحسبت في أول الأمر أن خطة حميها من قبيل الدعابة، وعندما أصرت حماتها قاومت جين. وأمرها زوجها في آخر الأمر أن تقبل العرش فأطاعت "دون أن تختار أن تعصي زوجها" كما قالت، وأعد نورثمبرلاند وقتذاك العدة للقبض على كبار أنصار ماري وإيداع الأميرة نفسها في البرج حيث يمكن أن تتعلم التنازل.

وأوشك الملك على نهايته في أوائل يوليه، وسعل وبصق دماً، وتورمت ساقاه تورماً مؤلماً، وتفشى الطفح على جسده، وسقط شعره، ثم سقطت أظافره، ولم يستطع أحد أن يجزم بالمرض الغريب الذي يعاني منه، وراود الشك الكثيرين أن نورثمبرلاند قد سممه. وأخيراً مات إدوارد بعد أن عانى كثيراً (6 يوليو سنة 1553) ولم يتعد الخامسة عشرة من عمره، وأصغر كثيراً من أن يشارك فيما ارتكب في عهده من آثام.

وفي صباح اليوم التالي ركب نورثمبرلاند إلى هنسدون للقبض على الأميرة. بيد أن ماري هربت، بعد أن حذرت، إلى أصدقاء كاثوليكيين في سفولك، وعاد نورثمبرلاند إلى لندن دون أن يحصل على فريسته. وأقنع المجلس الخاص بالوعود أو التهديدات أو الرشاوى بالانضمام إليه في المناداة بجين جراي ملكة، وأغمي عليها، وعندما أفاقت ظلت تحتج على أنها لا تصلح للشرف المحفوف بالمخاطر، الذي أكرهت عليه. وتوسل إليها أقاربها بحجة أن حياتهم تتوقف على قبولها. وفي التاسع من يوليو أقرت في نفور أنها ملكة إنجلترا.

ولكن في العاشر من يوليو وصلت إلى لندن أنباء تقول إن ماري قد نادت بنفسها ملكة، وإن النبلاء في الشمال كانوا يتقاطرون لتأييدها، وأن قواتهم كانت تزحف على العاصمة. وحشد نورثمبرلاند سريعاً ما استطاع جمعه من جنود، وقادهم لتقرير مصير المعركة. وأبلغه جنوده في بورى أنهم لن يسيروا خطوة أخرى للقتال ضد عاهلتهم الشرعية. وأرسل نورثمبرلاند أخاه، مزوداً بالذهب والمجوهرات والوعد بكاليه وجينس ليرشوا هنري الثاني ملك فرنسا، للقيام بغزو إنجلترا تتويجاً لجرائمه. وعلم المجلس الخاص بالمهمة ومنعها، وأعلن ولاءه لماري. وانطلق الدوق أف سفولك إلى غرفة جين وأبلغها أن حكمها الذي استمر عشرة أيام قد انتهى. فرحبت بالأنباء وسألت ببراءة هل تستطيع الآن أن تذهب إلى البيت، ولكن المجلس، الذي كان قد أقسم على خدمتها أمر بسجنها في البرج. وسرعان ما سجن هناك أيضاً نورثمبرلاند وأخذ يطلب الصفح عما ارتكب، وإن أخذ يترقب موته.

وبعث المجلس برسل ينادون بأن ماري تيودور ملكة وتلقت إنجلترا الأخبار بفرح وحشي. وظلت النواقيس تقرع والمشاعل تتوهج طوال تلك الليلة من ليالي الصيف. وجلب الناس موائد الطعام وأولموا في الخلاء ورقصوا في الشوارع.

وبدا أن الأمة آسفة على الإصلاح الديني، وأنها تتطلع بشغف إلى ماضٍ كان في الإمكان وقتذاك أن يعد نموذجاً، طالما أنه لن يعود. والحق أنه الإصلاح الديني لم يظهر حتى الآن إلى جانبه المرير لإنجلترا: لم يكن تحريراً من المذهبية ومحاكم التفتيش والطغيان، بل كان تثبيتاً لها، ولم يكن انتشاراً للاستنارة، بل كان سلباً للجامعات وإغلاق مئات المدارس، ولم يكن توسعاً في الرقة، بل كان تقريباً قضاء على البر، ورقعة بيضاء للجشع، ولم يكن تخفيفاً للفقر، بل كان سحقاً للفقراء بلا رحمة لم تعرفه إنجلترا منذ قرون - ولعلها لم تعرفه قط(21). وكان كل تغيير يكاد يلقى ترحيباً ما دام يؤدي إلى تخليصهم من نورثمبرلاند وطغمته.

ثم إن الأميرة ماري المسكينة، التي ظفرت بحب إنجلترا في الخفاء بفضل صبرها على الإذلال طوال اثنين وعشرين عاماً - هذه المرأة المهذبة سوف تكون ولا شك ملكة رقيقة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الملكة الرقيقة (1553 - 1554)

لابد لكي نفهمها من أن نكون قد عشنا معها شبابها المأساوي الذي لم تذق خلاله قط طعماً للسعادة. ولم تكن تتجاوز الثانية من عمرها (1518)، عندما شغل أبوها بالحظايا، وأهمل أمها المحزونة. وكانت في الثامنة عندما طلب إعلان بطلان زواجه، وفي الخامسة عشرة عندما افترق والداها، وذهب كل من الأم والبنت إلى منفى منفصل. ومنعت الابنة من الذهاب إلى أمها حتى وهي تحتضر(22). وأعلن أن ماري ابنه سفاح بعد مولد اليزابث (1533) وجردت من لقبها كأميرة. وخشي سفير الإمبراطور أن تسعى آن بولين إلى قتل ابنة غريمتها المنافسة لها على العرش. وعندما انتقلت إليزابث إلى هاتفيلد أجبرت ماري على أن تذهب إلى هناك لخدمتها وأكرهت على أن تعيش في "أسوأ غرفة في البيت(23") وأخذ منها خدمها، واستبدل بهم آخرون، يخضعون لمس شلتون أف هاتفيد التي قالت لها تذكرها بأنها ابنة سفاح: "لو كنت في موضع الملك لطردتكِ من بيت الملك لعدم طاعتكِ". وأخبرتها أن هنري قد عبر عن عزمه على قطع رأسها(34).

وكانت ماري مريضة طوال ذلك الشتاء الأول الذي قضته في هاتفيلد (1534)، وتحطمت أعصابها بسبب الإهانة والخوف وكادت تشرف على الموت جسماً وروحاً على غير كره منها. ثم رق لها الملك ومنحها بعض محبته إلى حين، ونعمت بوضع ميسور في باقي أيام حكمه. ولكن طلب منها أن توقع إقراراً بسيادة هنري الكنسية وبأن "زواج أمها من قبيل سفاح ذوى القربى" وبأن ميلادها غير شرعي(25) وذلك ثمناً لهذه الرقة القاسية.

وتأثر جهازها العصبي على الدوام بهذه المحن، و"كانت عرضة لأن تشكو من قلبها(26)" وظلت صحتها ضعيفة حتى آخر يوم في حياتها. وعاودتها شجاعتها عندما أعلن المجلس النيابي في عهد حماية سومرست أنها ولية العهد. ولقد نشأت عقيدتها الكاثوليكية، في طفولتها مشبعة بحرارتها الاسبانية، وقويت بما أثارته حياة أمها ومماتها في نفسها من ألم، وكانت عوناً ثميناً لها في أحزانها، فرفضت أن تتخلى عنها عندما حومت على حافة السلطة، وعندما أمرها مجلس الملك أن تكف عن سماع القداس في حجراتها (1549) لم تذعن لأمره. وأغضى سومرست عن مقاومتها، ولكن سومرست سقط، وصدق أخوها الملك على الأمر، وأرسل ثلاثة من خدمها إلى سجن البرج بسبب تجاهله (1551)، وأخذ منها القس الذي رتل لها القداس، ووافقت آخر الأمر على أن تكف عن ممارسة الشعيرة المحبوبة. وعندما تحطمت روحها طلبت من سفير الإمبراطور أن يدبر لها الهرب إلى القارة، ورفض الإمبراطور الحذر أن يجيز الخطة، وخاب فألها.

وجاءت لحظة انتصارها أخيراً عندما عجز نورثمبرلاند عن أن يجد رجلاً يحارب ضدها، ولم يطلب الذين أقبلوا المدججين بالسلاح لمناصرة قضيتها أي أجر، بل إنهم أحضروا معهم مؤنهم، وعرضوا عليها ثرواتهم لتمويل الحملة. وعندما دخلت لندن كملكة (3 أغسطس سنة 1553) هبت تلك المدينة نصف البروتستانتية للترحيب بها بالإجماع. وجاءت اليزابث تمشي على استحياء لملاقاتها عند أبواب المدينة، وهي تتساءل على تتمسك ضدها بالشتائم التي تعرضت لها باسم اليزابث. ولكن ماري حيتها بقبلة حارة وقبلت جميع السيدات المرافقات لأختها غير الشقيقة. وكانت إنجلترا سعيدة كما كانت عندما ارتقى العرش هنري الثامن وهو شاب وسيم كريم.

كانت ماري وقتذاك في السابعة والثلاثين من عمرها، وكان الزمن القاسي قد ترك على وجهها خطوطاً تنذر بالذبول. وقلما مرت بها سنة كاملة دون أن تصاب بمرض خطير. وكانت تشكو من الاستسقاء وسوء الهضم ونوبات صداع تحطم الرأس، وعولجت مراراً بالحجامة مما تركها عصبية شاحبة. وأدى تكرار انقطاع الطمث عنها إلى استغراقها أحياناً في حزن هستيري مصحوب بخوف من آلا تحمل أبداً(27). وكان جسدها وقتذاك نحيلاً هزيلاً وجبينها ممتلئاً بالتجاعيد وشعرها المائل للاحمرار تتخلله شعرات بيضاء وعيناها ضعيفتين جداً إلى حد أنها لم تكن تستطيع القراءة إلا إذا أمسكت بالصحيفة قرب وجهها. وكانت تقاطيعها واضحة، تكاد تشبه تقاطيع الرجال، وكان صوتها عميقاً كصوت الرجل، وقد وهبتها الحياة كل ما فيها من وهن وحرمتها من المفاتن ومن الأنوثة. وكانت لديها بعض المواهب الأنثوية، فكانت تحيك في جلد وتطرز بمهارة وتعزف على العود، وأضافت إلى هذه المواهب معرفة باللغات الأسبانيّة واللاتينية والإيطالية والفرنسية. وكان يمكن أن تكون امرأة صالحة لو لم تلحقها لعنة اليقين اللاهوتي والسلطة الملكية. وكانت أمينة إلى درجة البساطة، عاجزة في مجال الدبلوماسية ومتلهفة إلى درجة يرثى لها لأن تحب وتكون محبوبة. وكانت تتعرض لسورات غضب ولها لسان سليط. وكانت عنيدة ولكنها لم تكن متكبرة، وأدركت قصور قدراتها الذهنية وأصاخت السمع للنصيحة في تواضع. ولم تكن تلين لها قناة إذا كان الأمر يتعلق بعقيدتها فحسب، وفي غير هذه الحالة كانت حليمة حنوناً وحرة الفكر مع التعساء، وتواقة إلى رفع الحيف الذي تسببت فيه أخطاء القانون، وكثيراً ما زارت بيوت الفقراء وهي متنكرة وجلست وتحدثت مع ربات البيوت وسجلت مذكرة بالحاجات والمظالم وقدمت كل ما في وسعها من مساعدة(28). وأعادت إلى الجامعات الهبات التي اختلسها منها أسلافها.

وطهر أحسن جانب من خلقها في التسامح النسبي في أول عهدها، فهي لم تطلق سراح جاردنر وبونر وغيرهما ممن سجنوا لرفضهم قبول اعتناق البروتستانتية فحسب، بل إنها صفحت تقريباً عن كل مَن حاولوا أبعادها عن العرش، ومهما يكن من أمر فإنها أجبرت بعض هؤلاء، مثل الدوق أف سفولك، على دفع غرامات باهظة للخزانة، ثم خفضت الضرائب تخفيضاً جوهرياً بعد تقديم هذه المساعدة إلى الدخل. ومنحت جوازات أمان لبيتر مارتير وغيره من البروتستانت الأجانب لكي يغادروا البلاد. وعقد مجلس الملكة محاكمة عاجلة لنورثمبرلاند وستة آخرين تآمروا على القبض على ماري، وتوجوا جين جراي، وحكم على السبعة جميعاً بالموت. وأبدت ماري رغبتها في الصفح عن نورثمبرلاند، ولكن سيمون رينار سفير الإمبراطور وقتذاك أثناها عن عزمها، وقام الثلاثة الذين لم يصفح عنهم جميعاً باعتناق عقيدة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في آخر لحظة. ووصفت جين جراي الحكم بالعدل والاعترافات بالجبن(29).

وكان من رأي ماري أن تطلق سراحها، ولكنها أذعنت لآراء مستشاريها إلى حد بعيد وأمرت بأن تبقى طليقة من كل قيد في الاعتقال داخل أراضي سجن البرج(30).

وأصدرت الملكة في 13 أغسطس إعلاناً رسمياً بأنها لن "تكره الضمائر أو تلزمها" بشيء في مسألة المعتقد الديني(31)، وكان هذا أحد الإعلانات الأولى في التسامح الديني تصدره حكومة حديثة. وكانت تأمل في براءة أن تحول البروتستانت بالحجة فنظمت مناظرة عامة بين علماء اللاهوت المتعارضين في الرأي، ولكنها تبخرت في جدل مرير عقيم. وبعد ذلك بوقت قصير قذف واعظ الأسقف بونر بخنجر انطلق من جمهور استاء من وعظه الكاثوليكي، وأنقذه من الموت اثنان من رجال الدين البروتستانت(32). وراع ماري تسامحها فأمرت (18 أغسطس سنة 1553) بعدم التصريح بعظات تتعلق بالعقائد إلا في الجامعات، وذلك إلى أن يتيسر اجتماع المجلس النيابي وينظر في المشكلات التي أثارها النزاع بين العقائد. وأمر كرانمر، وكان لا يزال رئيساً للأساقفة، بملازمة قصره في لامبث، فرد على ذلك بمهاجمة القداس ووصفه بأنه "كفر بغيض"، وحكم عليه هو ولاتيمر بالسجن في البرج (سبتمبر سنة 1553). أما ريدلي أسقف لندن الذي كان قد وصف ماري وإليزابث معاً بأنهما ابنتا سفاح فكان قد ذهب إلى سجن البرج قبل ذلك بشهرين. وعلى الجملة فإن سلوك ماري في هذه الشهور الأولى من حكمها فاق في اللين والتسامح سلوك غيرها من عظماء الحكام في عصرها.

وكانت المشكلات التي واجهتها حرية بان تقهر امرأة تفوقها كثيراً من الذكاء والفطنة. وصدمت بالارتباك والفساد السائدين في الإدارة وأمرت بوقف الفساد، غير أنه أخفى رأسه ولم ينقطع. وضربت مثالاً حسناً بتخفيض نفقات الأسرة الملكية، وتعهدت بتثبيت قيمة العملة، وتركت انتخابات المجلس النيابي حرة لم تتأثر بأي نفوذ ملكي. وكانت الانتخابات الجديدة "أعدل انتخابات حدثت منذ سنوات(33)"، ولكن تخفيضها للضرائب ترك دخل الحكومة أقل من مصروفاتها، ولكي تحصل على الفرق فرضت ضريبة صادر على القماش وضريبة وارد على الأنبذة الفرنسية وأدت هذه الإجراءات التي كان ينتظر أن تساعد الفقراء إلى نكسة تجارية. وحاولت أن توقف نمو الرأسمالية بتحديد عدد ما يملكه أي فرد بنول أو اثنين. ونددت بـ "القماشين الأغنياء" بسبب دفعهم أجوراً منخفضة وحظرت دفع الأجور عيناً(34)، ولكنها لم تجد في حاشيتها رجالاً يملكون القوة والكمال اللازمين لإنجاز إرادتها الطيبة، وتغلبت القوانين الاقتصادية على أهدافها.

بل إنها قوبلت بعقبات اقتصادية قاسية حتى في أمور الدين. ولم تكن هناك أسرة لها نفوذ في إنجلترا لا تحتفظ بأملاك انتزعتها من الكنيسة(35)، وعارضت هذه الأسر بالطبع أي عودة للعقيدة الرومانية. وكان البروتستانت أقلية من حيث العدد وأقوياء بفضل ما لديهم من مال، وكانوا بذلك في موقف يسمح لهم بأن يهيئوا في أية لحظة أسباب الثورة التي تضع إليزابث البروتستانتية على العرش. وكانت ماري تتلهف على إعادة حق الكثالكة في العبادة طبقاً لشعيرتهم، ومع ذلك فإن الإمبراطور الذي ظل يحارب البروتستانتية اثنين وثلاثين عاماً حذرها وطلب منها أن تتحرك ببطيء، وأن تقنع بترديد القداس سراً لنفسها وفي محيطها المباشر. ولكن شعورها نحو دينها كان عميقاً ولا تستطيع أن تكون سياسية فيما يتصل به. وتعجب الجيل الذي ينزع إلى الشك الذي نشأ في لندن من كثرة صلواتها وحرارتها، ولعل السفير الإسباني اعتقد أنها تطلب أمراً إدّا عندما سألته أن يركع بجوارها ويطلب الهداية من الله. وشعرت بأن لها رسالة مقدسة تستعيد بها العقيدة التي أصبحت عزيزة عليها لأنها قاسم من أجلها. وبعثت برسول إلى البابا تطلب منه أن يرفع التحريم الذي فرضه على إقامة الصلوات بإنجلترا، ولكن عندما أبدى الكاردينال بول رغبته في الحضور إلى إنجلترا قاصداً رسولياً، اتفقت مع شارل على أن الوقت لم يحن بعد للقيام بهذه الحركة الجريئة.

ولم يكن المجلس النيابي الذي اجتمع في 5 أكتوبر سنة 1553 مجدياً بالمرة. فقد وافق على إلغاء كل تشريع يتعلق بالدين، صدر في عهد إدوارد، وخفض العقوبات المنصوص عليها في قوانين هنري الثامن وإدوارد السادس إلى ما كانت عليه من قبل. وأبلغ الملكة في تلطف أن "عدم شرعية النسب المتعلقة بشخصكِ الأمثل" قد ألغي وأنها لم تعد ابنة سفاح، ولكنه أبى أن ينظر في إعادة أملاك الكنيسة إليها وقاوم أي تلميح إلى أن سيادة البابا يجب أن يعترف بها، وترك هذا ماري رئيسة للكنيسة الإنجليزية رغم أنفها. وبمقتضى هذه السلطة المخولة لها استبدلت بالأساقفة البروتستانت الأساقفة الكاثوليك الذين كانوا قد أقصوا عن مناصبهم، وعاد بونر أسقفاً للندن وجاردنر أسقفاً لونشستر ومشيراً مقرباً للتاج. وطرد القساوسة المتزوجون من أبرشياتهم. وسمح بإقامة القداس مرة أخرى ثم شجع، (ويقول مؤرخ بروتستانتي): "إن اللهفة التي أبدتها البلاد في الإفادة بوجه عام من الإذن بإعادة الشعيرة الكاثوليكية تدل بلا شك على أن الشعور العام كان مع الملكة(36) فيما عدا لندن وبضع مُدن كبيرة". وأعيدت العبادة الكاثوليكية إلى ما كانت عليه تماماً بمقتضى مرسوم صدر في 4 مارس سنة 1554. وعدت الهرطقات الأخرى غير شرعية وحرم كل وعظ بروتستانتي أو نشرة بروتستانتية.

وكان انزعاج الأمة بعودة التذبذب اللاهوتي أقل كثيراً من انزعاجها بخطط زواج ماري. كانت تخشى الزواج من الناحية الدستورية، ولكنها واجهت المحنة أملاً في أن تنجب وريثاً يحول دون ارتقاء اليزابث البروتستانتية العرش. وادعت ماري أنها عذراء، والراجح أنها كانت كذلك، ولعلها لو كانت قد أثمت هونا ما لكانت أقل كآبة وتوتراً ويقيناً. وأوصى مجلسها باختيار إدوارد كورتاني حفيد إدوارد الرابع، ولكن طرق عيشه المتبذلة لم تصادف هوى في نفس ماري، وعندما رفضته دبر أن يتزوج اليزابث، ويخلع ماري ويولي اليزابث على العرش ويحكم إنجلترا عن طريقها- ولم يحلم قط بضآلة فرصته في السيطرة على تلك السيدة المسترجلة. وعرض شارل الخامس على ماري الزواج من ابنه فيليب الذي كان يوشك أن يوصى له بكل شيء سوى اللقب الإمبراطوري، وتعهد بتقديم الأراضي المنخفضة لأي ولد يكون ثمرة لهذا الزواج. وتهللت ماري عندما خطر لها أن زوجها سيكون حاكماً لإسبانيا والفلاندرز وهولندة ونابلي والأمريكتين، وتدفقت دماؤها نصف الأسبانيّة ساخنة في عروقها وهي تتوقع إنشاء اتحاد سياسي وديني بين إنجلترا وإسبانيا. وأشارت في الواضح إلى أن سنها الأكبر- أكبر من فيليب بعشر سنوات- تقف عائقاً، وخشيت ألا تكفي مفاتنها الذابلة لإرضاء حيويته وشبابه أو خياله، إنها لم تكن واثقة أنها سوف تعرف كيف تطارحه الغرام(37). وكان فيليب من ناحيته يشعر بالنفور فقد أبلغه وكلاؤه الإنجليز أن ماري كانت "قديسة كاملة" وأنها ترتدي ملابس قبيحة(38)، أفلا يمكن أن يوجد شيء أكثر إغراء بين الأسر المالكة في أوربا؟ وأقنعه شارل بالإشارة إلى أن الزواج سوف يتيح لأسبانيا حليفاً قوياً ضد فرنسا وعوناً ثميناً في الأراضي المنخفضة التي كانت مرتبطة تجارياً بإنجلترا. ولعل البروتستانتية في ألمانيا يمكن قمعها بعمل موحد من أسبانيا وفرنسا وإنجلترا باعتبارها دولاً كاثوليكية؛ ثم إن المصاهرة بين آل هابسبورج وآل تيودور يؤلف قوة قادرة على منح أوربا الغربية سلاماً إجبارياً يدوم جيلاً.

وأدرك مجلس الملكة والشعب الإنجليزي قوة هذه الاعتبارات ولكنهم خشوا أن يؤدي الزواج إلى تحويل إنجلترا إلى بلد تابع لإسبانيا ويورط إنجلترا في الحروب المتكررة مع فرنسا. وواجه شارل الموقف بإجراء مضاد عرض باسم ابنه عقد زواج بمقتضاه لا يحمل فيليب لقب ملك إنجلترا إلا في حياة ماري ولها أن تحتفظ وحدها بالسلطة الملكية الكاملة على الشئون الإنجليزية ولها أن تشارك فيليب بجميع ألقابه، وإذا مات دون كارلوس (ابن فيليب من زواج سابق) دون أن يعقب ذرية ترث ماري أو ابنها الإمبراطوريّة الأسبانيّة وعلاوة على هذا أضاف الإمبراطور الداهية أن لماري الحق في أن تتلقى مدى الحياة 60.000 جنيه من الموارد الإمبراطوريّة، وبدا هذا كله عرضاً سخياً جداً، وصدق المجلس الإنجليزي على الزواج مع تعديلات يسيرة في النصوص.

وأخذت ماري، على الرغم من حيائها المتواضع تتطلع في لهفة إلى المستقبل، فكم طال انتظارها لعاشق!

ولكن الشعب الإنجليزي استاء من اختيارها، فالأقلية البروتستانتية التي كانت تصبر على الاضطهاد، آملة في أن تخلف اليزابث قريباً ماري العاقر الضعيفة خشيت على حياتها إذا وقفت قوة أسبانيا بجانب ماري في إعادة الكاثوليكية بالقوة، وارتجف النبلاء الذين اغتنوا بضم الأملاك الكنسية عندما خطر لهم أنهم سوف يخرجون ما في بطونهم. بل إن الإنجليز الكاثوليك اعترضوا على وضع أجنبي قاس على العرش. وهو ولا شك سوف يستخدم إنجلترا لتحقيق أغراضه الأجنبية. وارتفعت أصوات الاحتجاج من كل مكان في البلاد، وسرى الذعر في مدينة بلايماوث، فطلبت من ملك فرنسا أن يضعها تحت حمايته. ووضع أربعة نبلاء خططا لثورة تبدأ في 18 مارس سنة 1554، فكان على الدوق أف سفولك (والد جين جراي الذي صدر العفو عنه) أن يحدث ثورة في وارويكشاير وعلى سير جيمس كروفت أن يتزعم مستأجريه الولزيين، وعلى سير بيتر كارو أن يثير ديفونشاير، وعلى سير توماس ويات الصغير أن يقود ثورة في كنت. وكان ويات الكبير- الشاعر- قد استولى على مجموعة من أراضي الكنيسة- كره ابنه أن يسلمها. وأخطأ المتآمرون بأن أسروا بخططهم لكورتناي، وكانت مهمته تنحصر في ضمان اشتراك اليزابث معهم، وكان الأسقف جاردنر يراقب كورتناي باعتباره خاطباً منبوذاً لماري يتلهف على الانتقام، فأمر بالقبض عليه، وأفشى كورتناي أسرار المؤامرة، بتأثير التعذيب على الأرجح.

وآثار المتآمرون أن يلاقوا حتفهم في المعركة بدلاً من المقصلة فخفوا سريعاً إلى الأسلحة واشتعلت نيران الثورة في أربعة أقطار في الحال (فبراير سنة 1554) وقاد ويات جيشاً قوامه 7000 رجل وزحف نحو لندن، وبعث بنداء إلى كل المواطنين أن يمنعوا إنجلترا من أن تصبح إقطاعية لإسبانيا، وبدأ الجانب البروتستانتي من أهالي لندن في وضع خطة لفتح الأبواب لويات، وتردد مجلس الملكة في أن يرتبط بشيء، ولم يحشد جندياً واحداً للدفاع عنها، ولم تستطع ماري أن تدرك لماذا ترفض البلاد التي رحبت كثيراً بارتقائها العرش أن تتمتع بالسعادة وتحقيق أمانيها التي حلمت بها طوال سنوات التعاسة العديدة. وإذا لم تمسك بزمام الأمور في يديها بعزم غير عادي فإن حكمها وحياتها سوف ينتهيان وشيكاً. ولكنها ذهبت بنفسها إلى جلدهول وواجهت اجتماعاً ثائراً كان يتباحث إلى أي جانب ينحاز. وقالت للجميع إنها على استعداد تام لأن تتخلى عن فكرة الزواج الإسباني إذا كانت هذه رغبة العموم، وقالت حقاً "إني على استعداد لأن أمسك عن الزواج طوال حياتي" ولكنها لن تسمح في الوقت نفسه أن يتحول موضع الخلاف إلى "عباءة إسبانية" لثورة سياسية. وقالت: "إني لا أستطيع أن أقول كيف تحب الأم طفلها بفطرتها لأني لم أكن يوماً أماً، ولكن لا شك أنه إذا كانت الملكة يمكن أن تحب رعاياها حباً طبيعياً وحاراً كما تحب الأم طفلها، فإني أؤكد أني باعتباري سيدتكم ومولاتكم، أحبكم حباً حاراً رقيقاً وأعطف عليكم(39)". وقوبلت كلماتها وروحها بتصفيق حار، وتعهد الجميع بتأييدها. واستطاع وكلاء الحكومة، في يوم تقريباً، أن يحشدوا 25.000 رجل مسلح وقبض على سفولك وفر كروفت وكاريو إلى مخبأ. أما ويات فقد قاد، بعد أن تخلى عنه زملاؤه على هذا النحو، قوة صغيرة قاتل بها في شوارع لندن، وشق طريقه تقريباً إلى قصر الملكة في هويتهول... وتوسل الحراس إلى ماري أن تهرب، ولكنها رفضت وأخيراً غلب رجال ويات على أمرهم فاستسلم بعد أن وهن منه الجسد والروح وأخذ إلى سجن البرج وتنسمت ماري عبير الأمان مرة أخرى ولكنها لم تعد قط الملكة الرقيقة.


ماري الدموية 1554-1558

كثيراً ما أدان مستشاروها سياستها القائمة على الصفح. وقد لامها الإمبراطور وسفيره على السماح بالحياة بل وبالحرية لأشخاص تآمروا ضدها وسوف يكونون أحراراً لتكرار هذا - وسئلت كيف يستطيع فيليب أن يأمن على نفسه في بلد ترك فيه أعداؤه يمرحون بلا عائق ليدبروا مؤامرة لإغتياله؟ وكان من رأي الأسقف جاردنر أن الرحمة بالأمة تتطلب إعدام الخونة. وتملك الذعر الملكة فمالت إلى العمل بآراء مستشاريها. وأمرت بإعدام الليدي جين جراي التي لم ترغب قط في أن تكون ملكة، وزوج جين الذي أراد أن يكون ملكاً. وانطلق جين، وهي في السابعة عشرة من عمرها، إلى حتفها وهي تؤمن بأن هذا قدرها، دون أن تبدي احتجاجاً أو تذرف دموعاً (12 فبراير سنة 1554). وقطع رأس والدها سفولك وشنق مائة من صغار الثوار. وأبقي على حياة بعض المتآمرين إلى حين أملاً في أن ينتزع منهم اعترافات مفيدة، واتهم ويات في مبدأ الأمر اليزابث بأنها على علم بالخطة، ولكن عندما وقف على المنصة (11 أبريل سنة 1554) برأها من كل علم بها. وأطلق سراح كورنتاي بعد أن سجن عاماً وأقصي عن البلاد. وأشار شارل على ماري بإعدام كورنتاي واليزابث باعتبارهما مصدر تهديد دائم لحياتها. وأرسلت ماري إلى اليزابث بالحضور واحتفظت بها في قصر سانت جيمس شهراً ثم سجنتها شهرين في البرج. وحثها رينارد على تنفيذ حكم الإعدام فيها فوراً، ولكن ماري اعترضت وقالت إنه لم يثبت اشتراك اليزابث في الجريمة(40)، وظلت حياة اليزابث خلال هذه الشهور المشئومة معلقة في الميزان، وساعد هذا الرعب على تكوين شخصيتها القائمة على الريبة واستشعار الخطر، وكان له صداه فيما اتسم به عهدها المتأخر من قسوة عندما ساورها بشأن ماري ستيوارت نفس القلق الذي كان يساور ماري تيودور وقتذاك حول اليزابث. وفي 18 مايو نقلت مَن أصبحت ملكة في الأيام التالية إلى وود ستوك حيث عاشت مطلقة السراح في معتقل تحت الرقابة. وأدى خوف ماري من مؤامرة أخرى تدبر لتولية اليزابث على العرش إلى أن تتعجل ماري الزواج أملاً في أن تحظى في الأمومة.

ولم يكن فيليب متلهفاً إلى هذا الحد. وتزوج ماري يوم 6 مارس سنة 1554 بطريق الوكالة ولكنه لم يصل إلى إنجلترا قبل يوم 20 يوليو، ودهش الإنجليز وسرهم أن يجدوه شخصاً يمكن احتماله بدنياً واجتماعياً: وجه غريب مثلث الشكل تقريباً ينحدر من جبهة عريضة إلى ذقن مدبب يزينه شعر أصفر ولحية، ولكه يمتاز بخلق كريم وبديهة حاضرة ومواهب تصلح لأي شيء، ولم يبدِ أي إيماءة بأنه هو وحاشيته يعدون الإنجليز برابرة. بل إنه قال كلمة رقيقة في صالح اليزابث، ولعله كان يتنبأ بأن ماري ربما لا ترزق بذرية وأن اليزابث قد تكون يوماً ملكة، وذلك يكون شراً أهون من أن ترتقي ماري ملكة الإسكوتلنديين - التي ارتبطت منذ عهد بعيد بفرنسا - عرش إنجلترا. وعلى الرغم من أن ماري كانت أكبر سناً بكثير من فيليب فإنها تطلعت إليه بإعجاب ساذج، وكانت متعطشة إلى الحب طوال سنوات عديدة، فابتهجت وقتذاك لفوزها بأمير ساحر وقوي إلى هذا الحد، ومنحته نفسها بإخلاص لا شك فيه إلى حد أن الحاشية تساءلت هي أصبحت إنجلترا بالفعل تابعة لإسبانيا، وكتبت لشارل الخامس في تواضع رسالة تقول فيها إنها: "أسعد مما أستطيع التعبير عنه لأني في كل يوم أكتشف في زوجي الملك من الفضائل العديدة وصفات الكمال ما يدفعني باستمرار إلى أن أتضرع إلى الله أن يهبني العون لأسعده(41)".

وكانت رغبتها في أن تلد ابناً لفيليب وولي عهد لإنجلترا، عارمة استغرقت كل اهتمامها إلى حد أنها سرعان ما تصورت أنها حامل. ولقي انقطاع الطمث عندها وقتذاك ترحيباً، باعتباره شارة ملكية، وألجم الأمل ألسنة مَن خطر لهم أن تلك الحالة حدثت لها كثيراً من قبل. وتقبل الناس الاضطرابات الهضمية على أنها أدلة أخرى على الأمومة، وأبلغ سفير البندقية أن "حلمتي" الملكة قد انتفختا ودر ثدياها لبناً. وابتهجت ماري وقتاً طويلاً عندما راودتها فكرة أنها أيضاً يمكن أن تحمل طفلاً شأنها في هذا شأن أفقر امرأة في مملكتها، ولا نستطيع أن نتصور مدى تعاستها عندما أقنعها أطباؤها آخر الأمر أن انتفاخ بطنها إنما حدث بسبب الاستسقاء. وفي غضون ذلك كانت شائعات حملها قد اكتسحت إنجلترا وأقيمت الصلوات ونظمت المواكب من أجل ولادتها السعيدة، وسرعان ما انتشرت شائعة بأنها أنجبت ولداً. وأغلقت الحوانيت ابتهاجاً واعتبر اليوم عطلة واحتفل الرجال والنساء في الشوارع، وقرعت نواقيس الكنائس وأعلن أحد رجال الدين أن الطفل "أشقر وجميل" كما يليق بأمير(42). وتحطمت ماري من الإحباط والخجل فانزوت شهوراً عن أنظار الجمهور.

وشعرت بالعزاء إلى حد ما بعودة الكاردينال بول إلى إنجلترا. وكان شارل قد أخر بول عن السفر في بروكسل لأنه عارض الزواج الاسباني، أما وقد تم هذا الزواج فإن اعتراضات الإمبراطور هدأت، وعبر الكاردينال القناة بصفته قاصداً رسولياً (20 نوفمبر سنة 1554) إلى البلاد التي كان قد تركها منذ اثنين وعشرين عاماً، وقوبل بترحيب حار من الموظفين ورجال الأكليروس والشعب أثبت الرضا العام عن تجديد العلاقات مع البابوية. وحيا ماري بعبارة تكاد تكون منتقاة من معجمه: "السلام عليك يا مريم، الممتلئة بالنعمة، الرب معكِ، أنت مباركة بين النساء Ave Maria, gratia Plena Dominus tecum, benedicta tu in mulieribus وكان على ثقة من أنه قريباً سوف يردف قائلاً: "مباركة ثمرة رحمك(43)". وعندما علم المجلس النيابي أن بول جاء معه بموافية البابا على احتفاظ الحائزين الحاليين بأملاك الكنيسة المصادرة فرح الجميع، كما يحدث في أي زفاف. وأعرب أعضاء المجلس النيابي وهم راكعون عن ندمهم لما ألحقوه من إساءات بالكنيسة ومنح الأسقف جاردنر التائبين الغفران بعد أن اعترف بتذبذبه. واعترف بسيادة البابا في الشئون الكنسية وتأكد حقه في دخول السنة الأولى للأساقفة حديثي التعيين و"الثمرات الأولى" وأعيد إنشاء المحاكم الأسقفية وأعيدت ضرائب العشور الأبرشية لرجال الأكليروس وجددت القوانين القديمة ضد اللوردية وأعيدت الرقابة على المطبوعات من سلطات الدولة إلى سلطات الكنيسة. وبدا كل شيء كسابق عهده بعد فتنة دامت عشرين عاماً.

ولبث فيليب مع ماري ثلاثة عشر شهراً يأمل في أن يرزق بطفل، وحينما لم يظهر أي دليل مؤكد رجاها أن تسمح له بالذهاب إلى بروكسل حيث كان نزول والده عن العرش يقتضي حضوره. ووافقت في حزن وانطلق معه إلى النقالة المائية التي سوف تقله إلى أدنى نهر التيمس، وأخذت ترقب النقالة من نافذة إلى أن اختفت (28 أغسطس سنة 1555). وشعر فيليب أنه قد أدى واجبه طوال سنة لقي فيها من أمره عسراً وهو يطارح الغرام امرأة مريضة، وكافأ نفسه بسيدات بروكسل القويات البنية.

وكان بول وقتذاك أعظم رجل يتمتع بالنفوذ في إنجلترا. وشغل نفسه بإعادة تنظيم الكنيسة الإنجليزية وإصلاحها. وأعاد فتح بعض أديار الرهبان ودير للراهبات بمساعدة ماري. وسعدت ماري عندما رأت بعث العادات الدينة القديمة، وسرها أن ترى الصلبان والصور المقدسة في الكنائس مرة أخرى، وأن تشترك في مواكب تتسم بالورع مع القساوسة أو الأطفال والطوائف المهنية فتجلس أو تركع لتحضر قداسات تقام للأحياء والأموات.

وغسلت وقبلت يوم خميس العهد عام 1556 أقدام إحدى وأربعين امرأة مسنة وهي تدلف على ركبها من واحدة لأخرى ومنحتهن جميعاً صدقات(44). وما دام الأمل في الأمومة قد تبدد أصبح الدين سلواها التي تعينها على الاحتمال.

ولكنها لم تستطع أن تبعث الماضي تماماً. فقد حفزت الأفكار الجديدة إلى اضطراب مثير في عقول أهل المدينة، وكانت لا تزال هناك اثنتا عشرة طائفة تنشر كتبها وعقائدها في الخفاء. وتألمت ماري عندما سمعت عن جماعات تنكر ألوهية المسيح ووجود الروح القدس وانتقال الخطيئة الأولى. وخيل إليها أن الهرطقات تعد جرائم مهلكة بالنسبة لإيمانها الساذج وأنها أسوأ بكثير من خيانة الدولة. هل في وسع الهراطقة أن يعرفوا كيف يعاملون الروح البشرية خيراً مما يعرفه كاردينالها المحبوب؟ وترامى إلى أسماعها أن واعظاً تضرع بصوت عال أمام جمهور أبرشيته أن يهديها الله أو يرفعها من الأرض(45). وألقي يوماً كلب ميت، حلق شعر رأسه جرياً على عادة الرهبان، وحول عنقه حبل، من نافذة في غرفة الملكة(46). وفي كنت جدع أنف قسيس(47). ورأت ماري أنه من غير المعقول أن يقوم المهاجرون البروتستانت الذين سمحت لهم بالرحيل عن إنجلترا في سلام، بإرسال كتيبات يهاجمونها فيها ويصفونها بأنها حمقاء رجعية ويتحدثون عن "صلاة لاتينية مكروهة عند إقامة قداس وثني(48)". وحثت بعض الكتيبات قوادها على أن يهبوا في ثورة ويخلعوا الملكة(49). وعقد اجتماع من 17.000 شخص في اولدجيت (14 مارس سنة 1554) ونادى بوضع اليزابث على العرش(50). وكانت حوادث التمرد في إنجلترا من تدبير البروتستانت الإنجليز في الخارج.

وكانت ماري تنزع بفطرتها وعادتها إلى الرحمة - حتى عام 1555. فماذا حولها إلى ملكة تحظى بأكبر قدر من الكراهية بين الملكات الإنجليزيات؟ هناك استفزاز الهجمات التي أظهرت عدم الاحترام لشخصها أو عقيدتها أو مشاعرها من ناحية، وهناك الخوف من أن تكون الهرطقة ستاراً لثورة سياسية من ناحية ثانية، وهناك الشدائد التي عانتها وخيبة الأمل المتكررة التي كدرت صفو روحها وجعلت حكمها على الأشياء مظلماً من ناحية ثالثة، وهناك إيمانها الذي لا يتزعزع بصواب آراء مستشاريها الذين تثق بهم أكثر من أي شخص آخر - فيليب وجاردنر وبول - التي تذهب إلى أن الوحدة الدينية أمر لا غنى عنه للتضامن القومي وبقائه. وسرعان ما أفصح فيليب عن مبادئه في الأراضي المنخفضة. وكان الأسقف جاردنر قد أقسم بالفعل (ربيع عام 1554) أن يحرق الأساقفة البروتستانت الثلاثة - هوبر وريدلي ولاتيمر - ما لم يرتدوا عن عقيدتهم(51). وكان الكاردينال بول، مثل ماري، ينزع بفطرته إلى الرحمة ولكنه كانت لا تلين له قناة في العقيدة، وقد أحب الكنيسة حباً جماً إلى حد أنه كان يرتجف للتشكك في عقائدها أو سلطتها. ولم يكن له دور قيادي مباشر أو شخصي فيما قامت به ماري من اضطهاد، وأشار بالاعتدال وأطلق مرة سراح عشرين شخصاً كان الأسقف بونر قد حكم عليهم بالموت حرقاً(52).

ومع ذلك فإنه أصدر تعليماته لرجال الأكليروس بأنه إذا فشلت كل طرق الإقناع سلمياً فإن كبار الهراطقة يجب أن تنتزع منهم الحياة ويستأصلوا مثل الأطراف الفاسدة من الجسد(53). وأعربت ماري عن رأيها في تردد. "نعتقد أن إثارة عقاب الهراطقة يدب أن يتم بغير اندفاع ولا نتخلى في الوقت نفسه عن إقامة العدالة لهؤلاء الذين يسعون إلى خداع البسطاء(54)". وكانت مسئوليتها في بادئ الأمر مقصورة على الإذن ولكنها كانت حقيقة.

وعندما تبين لها (1518) أن الحرب مع فرنسا قد عادت عليها وعلى إنجلترا بالوبال عزت الفشل إلى غضب الله عليها لترفقها بالهرطقة وتشددت قطعاً بعد ذلك في الاضطهاد.

وافتتح جاردنر عهد الإرهاب بأن استدعى إلى محكمته الأسقفية ستة من رجال الأكليروس (22 يناير سنة 1555) كانوا قد رفضوا قبول العقيدة التي توطدت من جديد .

وارتد واحد منهم وأحرق أربعة منهم جون هوبر وأسقف جلوسستر وورسستر الذي أقيل (4-8 فبراير سنة 1555). ويبدو أن جاردنر أصيب بانتكاس في الشعور بعد تنفيذ هذه الأحكام بالإعدام فلم يشترك بعد ذلك في الاضطهاد، وانهارت صحته ومات في نوفمبر من هذا العام واضطلع الأسقف بونر بالمذبحة. ونصح فيليب، وكان لا يزال بإنجلترا، بالاعتدال وعندما أدان بونر ستة، وحكم عليهم بالحرق اعترض سفير الإمبراطور رينار على "هذا التهور البربري(57)" وندد كاهن الاعتراف الخاص لفيليب، وهو أخ أسباني من الرهبان، وهو يعظ أمام الحاشية، بالأحكام باعتبارها مخالفة للروح المعتدلة والمتسامحة التي حث عليها المسيح(58) مراراً وتكراراً. وأوقف بونر الأحكام لمدة خمسة أسابيع، ثم أمر بتنفيذها، واعتقد أنه كان رقيقاً متساهلاً، والحق أن مجلس الملكة أنبه يوماً لأنه لا يظهر حماسة كافية في مطاردة الهرطقة(59). وعرض على كل هرطيق منحه عفواً كاملاً إذا ارتد عما يقول، وكثيراً ما أضاف وعداً بتقديم مساعدة مالية أو عمل صريح(60)، ولكن عندما كانت هذه الإغراءات تفشل كان يجيز الحكم بشراسة، وكانت توضع عادة حقيبة ممتلئة بالبارود بين ساقي المحكوم عليه حتى تؤدي ألسنة اللهب إلى موت سريع، ولكن الخشب احترق ببطيء في حالة هوبر، وخاب أثر البارود فلم ينفجر، وقاسى الأسقف السابق آلاماً استمرت ساعة تقريباً.

وكان معظم الشهداء عمالاً بسطاء تعلموا تلاوة الكتاب المقدس وشجعوا على العمل بالتفسير البروتستانتي له إبان الحكم السابق. ولعل المضطهدين رأوا أن من العدل استدعاء رجال الدين الذين بذلوا الجهد لتحفيظ مبادئ العقيدة البروتستانتية، ليشهدوا لها بالاستشهاد، وفي سبتمبر سنة 1555 أحضر كرانمر وعمره ستة وستون عاماً، وريدلي وعمره خمسة وستون عاماً، ولاتيمر، البالغ من العمر ثمانين عاماً، من سجن البرج ليقفوا للمحاكمة في أكسفورد. وكان لاتيمر قد لطخ صفحة حياته البليغة بالموافقة على إحراق المنكرين للتعميد والفرنسسكان العنيدين في عهد هنري الثامن. وكان ريدلي قد أيد بنشاط اغتصاب جين جراي للعرش، ووصف ماري بأنها ابنة سفاح وساعد في خلع بونر وجاردنر من كرسيهما الأسقفيين.

وكان كرانمر الرأس المفكر للإصلاح الديني الإنجليزي، فقد أحل زواج هنري وكاثرين، وزوج هنري من آن بولين، واستبدل بالقداس كتاب الصلاة العامة، واضطهد فريث ولامبرت وغيرهما من الكثالكة، ووقع وصية إدوارد بالتاج لجين جراي، وندد بالقداس باعتباره كفراً، وكان هؤلاء الرجال وقتذاك في البرج منذ عامين يتوقعون الموت كل يوم.

وحوكم كرانمر في أكسفورد في اليوم السابع من سبتمبر. وقام قضاته بكل جهد ممكن للحصول منه على إنكار لما ذهب إليه. فتمسك بموقفه بحزم وحكم عليه بأنه مذنب، ولكن لما كان رئيساً للأساقفة فإن الحكم عليه ترك للبابا وأعيد إلى سجن البرج. وفي 30 سبتمبر حوكم ريدلي وتشبث بموقفه وفي اليوم نفسه اقتيد لاتيمر أمام المحكمة الكنسية، وكان وقتذاك رجلاً لا يبالي بالحياة، يرتدي ثوباً قديماً مهلهلاً ورأسه الأبيض تكسوه قلنسوة فوق طاقية نوم فوق منديل وتتدلى نظارتاه من عنقه وربطت بزنارة نسخة من العهد الجديد. وفي اليوم الأول من أكتوبر حكم عليهم بالإدانة وأحرقوا في اليوم السادس من أكتوبر. وركعوا أمام المحرقة وصلّوا معاً. وربطوا بالأغلال إلى عمود حديدي وعلقت حول عنق كل لجر حقيبة ممتلئة بالبارود وأشعلت حزم الحطب وقال لاتيمر: "تهلل ولا تبتئس يا سيد ريدلي وتصرف كرجل، فإننا في هذا اليوم سوف نشعل شمعة بفضل الله في إنجلترا، وأنا على يقين أنها لن تطفأ أبداً(61)".

وفي الرابع من ديسمبر أيد البابا الحكم على كرانمر. واستسلم رئيس الإساقفة البروتستانتي الأول في كنتربري لخوف يغتفر له، ولم يكن في وسع رجل استطاع أن يكتب بإنجليزية قوية الدلالة كتاباً مثل كتاب الصلاة العامة مواجهة هذه المحن دون أن يتعرض لآلام غير عادية في الجسد والعقل.

ولعل كرانمر تأثر بنداء بول الحار فقرر قوله إنه: "تخلى عن كل طرق الهرطقة وأخطاء لوثر وزونجلى وكرهها وأبغضها". وأقر بإيمانه بالشعائر المقدسة السبع واعترف بالتجسيد والمطهر وكل تعاليم الكنيسة الرومانية.

وكان إنكاره هذا قميناً بأن يستبدل به الحكم بسجنه جرياً على ما حدث في جميع السوابق، ولكن ماري (طبقاً لما قاله فوكس) رفضت إنكاره لمعتقده على أساس أنه يفتقر إلى الإخلاص وأمرت بإعدام كرانمر(62).

وفي كنيسة سانت ماري بأكسفورد تلاقى صبيحة يوم إعدامه (31 مارس سنة 1556) إنكاره السابع والأخير. ثم أضاف لدهشة جميع الحاضرين. وأجيء الآن إلى الأمر العظيم الذي يؤرق ضميري أكثر من أي شيء آخر فعلته أو قلته طوال حياتي وذلك هو تدبيج رسالة في الخارج تخالف الحقيقة. وأنا الآن أتبرأ منها وأرفضها... إنها كتبت خوفاً من الموت... وذلك شأن جميع البيانات والأوراق التي كتبتها أو وقعت عليها بيدي منذ تجريدي من منصبي... وما دامت يدي قد أثمت، بكتابة ما يخالف صدق مشاعري فإن يدي سوف تعاقب على ذلك لأنها... سوف تحرق أولاً... أما بالنسبة للبابا فإني أرفض اعتباره عدواً للمسيح وخارجاً على المسيحية(63).

وعندما اقتربت ألسنة النيران من جسده وهو على المحرقة مد يده فيها واحتفظ بها هناك، كما يقول فوكس: "ثابتة لا تتحرك... حتى يستطيع كل الناس أن يروا يده تحترق قبل أن تمس النار جسده. وأخذ يردد كثيراً كلمات ستيفن "رباه! تقبل روحي" في عظمة اللهب الذي سلم الروح القدس(64).

وكانت وفاته دليلاً على بلوغ الاضطهاد ذروته. ومات نحو 300 شخص في أثنائه منهم 273 في السنوات الأربع الأخيرة من ذلك العهد. وكلما مضت المحرقة قدماً أصبح من الواضح أنها كانت خطأ. واستمدت البروتستانتية القوة من شهدائها كما فعلت المسيحية في بواكير عهدها وانزعج كثير من الكثالكة في عقيدتهم وشعروا بالخزي من ملكتهم بسبب ما كابده الضحايا من آلام وما أظهروه من جلد. وعلى الرغم من أن الأسقف بونر لم ينعم بالعمل فقد أطلق عليه اسم "بونر الدموي" لأن أسقفيته شهدت معظم ما نفذ من أحكام الإعدام ووصفته امرأة بأنه "الذباح المعروف وعبد المجزرة العامة لكل الأساقفة في إنجلترا(65)"، ووجد المئات من الإنجليز البروتستانت ملجأ في فرنسا الكاثوليكية وسعوا هناك إلى وضع نهاية للعهد الحزين.

وبينما كان هنري الثاني يطارد البروتستانت الفرنسيين فإنه شجع على تدبير المؤامرات الإنجليزية ضد ماري الكاثوليكية التي أدى زواجها بملك أسبانيا إلى ترك فرنسا محاطة بقوى معادية. واكتشف العملاء البريطانيون في أبريل عام 1556 مؤامرة يتزعمها هنري ددلي لخلع ماري وتولية اليزابث على العرش. وتم القبض على عدة أشخاص منهم اثنان من أفراد بين اليزابث، وأقحم اعتراف اسم اليزابث نفسها والملك الفرنسي. وقمعت الحركة ولكنها تركت ماري في خوف دائم من الاغتيال.

وواجهت جماعة من الهاربين محناً كشفت عن مزاج العصر الذي تتسلط العقيدة عليه، فقد جاء إلى لندن عام 1548 جان لاسكي، وهو كالفيني بولندي وأنشأ هناك أول كنيسة مشيخية في إنجلترا. وبعد ارتقاء ماري العرش بشهر ترك لاسكي وجانب من جمهور المصلين معه لندن في سفينتين دنمركيتين. وفي كوبنهاجن منعوا من الدخول ما لم يوقعوا على الاعتراف الرسمي اللوثري الخاص بالعقيدة. فأبوا باعتبارهم كالفينيين متمسكين بعقيدتهم. ولم يسمح لهم بالنزول فسافروا بحراً إلى وسمار ويبسك وهامبورج، وفي كل حالة كانوا يواجهون بالمطلب نفسه ويردون بالرفض(66). ولم يذرف اللوثريون في ألمانيا أية دموع على ضحايا ماري بل نددوا بهم باعتبارهم هراطقة مكروهين و"شهداء للشيطان" بسبب إنكارهم وجود المسيح حقاً في القربان(67) المقدس. وأدان كالفن تعصب اللوثريين الذي لا يعرف الرحمة، وفي ذلك العام (1553) أحرق سرفيتوس في المحرقة.وبعد أن ظل الهاربون تتقاذفهم أمواج بحر الشمال معظم أيام الشتاء سمح لهم بالدخول أخيراً ووجدوا معاملة إنسانية في إمدن.

وسارت ماري إلى نهايتها المحتومة بقدر كئيب. وكان زوجها التقى في حرب غير منطقية وقتذاك مع البابوية وكذلك مع فرنسا، وجاء إلى إنجلترا (20 مارس سنة 1557) وحث الملكة على أن تشترك إنجلترا في الحرب باعتبارها حليفة. ولكي يخفف من كراهية الإنجليز لمهمته، أقنع ماري بالاعتدال في الاضطهاد(68)، ولكنه لم يستطع أن يكسب بسهولة تأييد الجمهور بل كان الأمر على العكس، فبعد شهر من وصوله أشعل توماس ستافورد، ابن أخي الكاردينال بول، ثورة لتحرير إنجلترا من ماري وفيليب على السواء، ولكنه هزم وشنق (28 مايو سنة 1557) ولقد اترع البابا كاس الملكة تعاسة برفضه الاعتراف ببول قاصداً رسولياً واتهم بالهرطقة. وكانت ماري في لهفة لإرضاء فيليب ومقتنعة أن هنري الثاني قد أيد ستافورد في مؤامرته، وأعلنت الحرب على فرنسا في 7 يونيه. وبعد أن حقق فيليب غرضه غادر إنجلترا في يوليو وراود الشك ماري في أنها لن تراه أبداً مرة أخرى. وقالت: "سوف أعيش ما بقي من أيامي دون رفيق من الرجال(69)". وفقدت إنجلترا في هذه الحرب التي لم ترغب فيها كاليه (6 يناير سنة 1558) التي كانت قد احتفظت بها 211 عاماً وآلاف الإنجليز من الرجال والنساء الذين عاشوا هناك وفروا الآن إلى بريطانيا، لاجئين معدمين، وأذاعوا الاتهام المرير المنسوب إلى حكومة ماري بأنها أهملت إهمالاً إجرامياً في الدفاع عن آخر ممتلكات إنجلترا في القارة. وعقد فيليب صلحاً موافقاً له دون أن يطب استعادة كاليه. وكانت ثمة عبارة قديمة تتردد هي أن ذلك الميناء الثمين كان "ألمع جوهرة في التاج الإنجليزي". وأضافت ماري عبارة أخرى إلى الحكاية "عندما أموت وتفتحون صدري فسوف تجدون كاليه في قلبي(70)". وفي أوائل عام 1558 اعتقدت الملكة مرة أخرى أنها حامل. وكتبت وصيتها إذ كانت تتوقع أن تكون ولادتها خطيرة وبعثت برسالة إلى فيليب تتوسل إليه فيها أن يحضر الحادث السعيد... فبعث إليها بتهانيه ولكن لم تكن هناك ضرورة لحضوره، فقد كانت ماري على خطأ. وكانت وقتذاك امرأة مهجورة من الجميع، ولعلها كانت مخبولة إلى حد ما. كانت تجلس على الأرض الساعات الطوال وركبتاها مرفوعتان إلى ذقنها، وكانت تتجول في قاعات القصر مثل شبح، وكتبت رسائل لطختها بدموعها للملك الذي توقع وفاتها، فأمر عملاءه في إنجلترا أن يستميلوا قلب اليزابث للزواج من أمير إسباني أو من فيليب نفسه.

وفي أيام الصيف الأخير من حياة ماري انتشر وباء حمى البرداء في إنجلترا. وأصيبت به الملكة في سبتمبر عام 1558 وتحالف مع الاستسقاء و"زيادة الصفراء السوداء" فأضعفها إلى حد أن رغبتها في الحياة تلاشت. وفي 6 نوفمبر بعثت بجواهر التاج إلى اليزابث. وكان هذا عملاً كريماً أذعن فيه حبها للكنيسة لرغبتها في منح إنجلترا وراثة منظمة للعرش. وتعرضت للغيبوبة فترات طويلة واستيقظت من إحدى هذه الغيبوبات لتروي كيف رأت حلماً سعيداً عن أطفال يلعبون ويغنون أمامها(71). وفي 17 نوفمبر سمعت القداس مبكراً وهتفت بالعبارات التي يرددها المصلون عادة وراء القس بحرارة. وماتت قبل الفجر.

وفي اليوم نفسه مات الكاردينال بول، الذي مني بهزيمة منكرة مثل ملكته. ولابد لنا عند تقديره أن نسجل الحقيقة المرة وهي أنه كان قد أدان ثلاثة رجال وامرأتين وحكم عليهم بالموت حرقاً بتهمة الهرطقة في مستهل الشهر الأخير. صحيح أن كل الطوائف ما عدا المنكرين للتعميد في تلك السنوات التي عرفت جنون اليقين ووافقت على ضرورة المحافظة على الوحدة الدينية ولو أدى الأمر بالضرورة إلى معاقبة المنشقين بالإعدام، ولكن لم يحدث في أي مكان في العالم المسيحي المعاصر - حتى في أسبانيا - أن أحرق هذا العدد الكبير من الرجال والنساء بسبب آرائهم كما حدث في عهد تولى ريجينالد بول رئاسة الكنيسة الإنجليزية.

وفي وسعنا أن نقول كلمة رقيقة عن ماري. فقد أدى الحزن والمرض وكثير مما تعرضت له من أخطاء إلى انحراف عقلها. ولم تتحول من الحلم إلى القسوة إلا بعد مؤامرات كانت تستهدف حرمانها من التاج الذي تضعه على رأسها وأصاخت السمع في ثقة زائدة لرجال الدين الذين سعوا إلى الانتقام بعد أن تعرضوا هم أنفسهم للاضطهاد. وكانت تعتقد حتى آخر لحظة في حياتها أنها بالقتل إما تؤدى فرائضها نحو العقيدة التي أحبتها كمجال حيوي لبقائها. وهي لا تستحق اسم "ماري الدموية" ما لم تسحب تلك الصفة على عصرها بأسره، فهو يهون بلا رحمة من شأن شخصية فيها الكثير من الصفات التي تستحق الحب.

وإن امتيازها العجيب إنما هو استمرارها في العمل الذي بدأه والدها لإبعاد إنجلترا عن روما. وأظهرت لإنجلترا، ولما تزل كاثوليكية، أسوأ جانب للكنيسة التي خدمتها، ولما ماتت كانت إنجلترا مهيأة أكثر من ذي قبل لاعتناق العقيدة الجديدة التي جاهدت للقضاء عليها.