قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 24

صفحة رقم : 8587

قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> هنري الثامن وتوماس مور -> برلمان الإصلاح الديني

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع والعشرون: هنري الثامن وتوماس مور 1529 - 1535

برلمان الإصلاح الديني

في المجلس النيابي الذي اجتمع في وستمنستر يوم 3 نوفمبر سنة 1529 اتفقت الجماعتان الحاكمتان - النبلاء في المجلس، والتجار ومجلس العموم على انتهاج ثلاثة ضروب من السياسة: تخفيض ثروة رجال الكنيسة وأضعاف سلطاتهم، والمحافظة على التجارة مع الفلاندرز وتأييد الملك في حملته للحصول على وريث ذكر. ولم ينطوِ هذا الاتفاق على الرضا عن آن بولين التي كانت تواجه باستنكار عام باعتبارها مغامرة، كما أنه لم يمنع وجود تعاطف عام مع كاترين(1). أما الطبقات الدنيا، وهي عاجزة من الناحية السياسة، فكانت حتى ذلك الوقت لا توافق على الطلاق، ووقفت المقاطعات الشمالية، وهي كاثوليكية شديدة التحمس، مع البابا(2) في إخلاص. وعمل هنري على تهدئة هذه المعارضة مؤقتاً بأن ظل محافظاً في كل شيء اللهم إلا حق البابوات في الهيمنة على الكنيسة الإنكليزية. وكانت الروح القومية، وهي في إنجلترا وهي في إنجلترا أقوى منها في ألمانيا، تقف في تلك المسألة إلى جانب الملك، وعلى الرغم من فزع رجل الدين من تصور أن يكون هنري سيداً لهم فإنهم لم ينفروا من الاستقلال عن بابوية لا شبهة في خضوعها لسلطة أجنبية.

ونشر سيمون فش حوالي عام 1518 كتيباً من ست صفحات، قرأه هنري، دون أن يبدي احتجاجً فيما نعلم، وقرأه كثيرون بابتهاج صادق، وأطلق عليه اسم "ابتهال الشحاذين" وطالب الملك بمصادرة ثروة الكنيسة الإنجليزية كلها أو جانب منها:

" في العهود الخوالي لأسلافك النبلاء (هناك) تسلل في دهاء إلى مملكتك... شحاذون وأفاقون مقدسون ومتبطلون... أساقفة ورؤساء أديار وشمامسة ورؤساء شمامسة ومعاونو أساقفة وقساوسة ورهبان ورجال دين وكهنة رهبان وبائعو صكوك غفران ومحضرون. ومَن يستطيع أن يحصي هذا الضرب المتبطل المخرب الذي (طرح كل عمل جانباً) ألح في السؤال إلحاحاً شديداً إلى حد أنهم حصلوا في أيديهم على أكثر من ثلث مملكتك بأسرها؟ إن أعظم المقاطعات واجمل الدور والأراضي والأقاليم ملك لهم، وكان لهم إلى جانب هذا عشر محصول الغلة والمراعي والمروج والكلأ والصوف والمهور والعجول والجملان والخنازير والأوز والدجاج... أي نعم وإنهم ليتطلعون في حرص شديد إلى أرباحهم إلى حد أن الزوجات المسكينات لابد وأن يكن مطالبات بأن يحسبن عشر كل بيضة وإلا فإن الزوجة لن تحصل على حقوقها في عيد الفصح... بأن يحسبن ومن التي تشرع في العمل مقابل ثلاثة بنسات في اليوم إذا كان في وسعها أن تحصل على عشرين بنساً على الأقل في اليوم لقاء نومها ساعة مع أخ أو راهب أو قس(3)"؟

ولعل النبلاء والتجار قد رأوا أن هناك شيئاً من المبالغة في هذا الاتهام، بيد أنهم اعتقدوا أنه يؤدي إلى نتيجة سارة - وهي إضفاء الصبغة العلمانية على أملاك الكنيسة. وكتب السفير الفرنسي جان دي بلاي "إن هؤلاء السادة ينتوون... اتهام الكنيسة والتهام كل أموالها، ولا أكاد أجد نفسي في حاجة إلى تسجيل هذا بالشفرة، لأنهم يجهرون به صراحة، وأتوقع ألا يحصل القساوسة أبداً على خاتم الدولة - أي لن يكونوا على رأس الحكومة أبداً، مرة أخرى، وأنهم سوف يتعرضون في هذا المجلس النيابي لمفازع هائلة(4)". وكان ولزى قد منع هذا الهجوم على أملاك الكنيسة، بيد أن سقوطه ترك رجال الدين بلا حول لهم ولا طول، اللهم إلا ما يتمتعون به من إيمان الناس، وهو إيمان كان آخذاً في التقلص، ولعل السلطة البابوية التي كانت قنينة بأن تحميهم بهيبتها أو تحريمها أو بحلفائها كانت وقتذاك الهدف الرئيسي لسخط الملك وكرة القدم التي تتقاذفها السياسة الإمبراطوريّة، وكان العرف يقتضي موافقة المجمع الأكليروسي لرؤساء أساقفة كنتربري ويورك على كل تشريع يمس الكنيسة في إنجلترا أو تأييده. فهل كان في وسع هذا المجمع تخفيف سورة غضب الملك وكبح جماح الحركة المناهضة لرجال الدين في المجلس النيابي؟

وافتتح المعركة مجلس العموم. إذ وجه خطاباً إلى الملك يقر فيه عقيدة المحافظين، وإن انتقد رجال الدين بشدة. وهاجم "قرار الاتهام" المشهور المجمع الأكليروسي واتهمه بأنه سن القوانين، دون الحصول على موافقة الملك أو المجلس النيابي، التي تحدد حرية العلمانيين تحديداً خطيراً، وتعرضهم لتعزير شديد، وغرامات باهظة، واتهم رجال الأكليروس بأنهم أعطوا صدقات لـ "جموع من الأحداث، قالوا إنهم أبناء أخوتهم" على الرغم مما يتمتع به مثل هؤلاء المستفيدين من شباب أو جهل، واتهم المحاكم الأسقفية بأنها استغلت في جشع حقها في فرض رسوم وغرامات، وهذه المحاكم بأنها قبضت على أشخاص وسجنتهم دون أن تبين التهم الموجهة إليهم، وأنها اتهمت العلمانيين وعاقبتهم عقاباً شديداً لشبهة هرطقة طفيفة واختتمت الوثيقة بمطالبة الملك بإصلاح هذه العلل(5)، ولا شك في أن هنري الذي كان على علم بأسرار تأليف هذا الخطاب قدم نقاطه الرئيسية إلى المجمع الأكليروسي وطلب منه الرد.

وأقر الأساقفة وجود بعض الظلم وعزوا هذا إلى أفراد ظهروا إتفاقاً، وأكدوا تمسك محاكمهم بالعدالة، وأنهم يتأسون بالملك الورع الذي زجر لوثر في نبل عظيم، لمساعدتهم على قمع الهرطقة، ثم أخطأوا خطأً فظيعاً وأساءوا فهم المزاج الملكي فأضافوا كلمات كانت بمثابة غلان للحرب.

"ما دمنا نعلن ونتمسك بسلطتنا في سن القوانين التي تستند إلى ما في كتب الله المقدسة وما قررته الكنيسة المقدسة... فليس لنا أن نتخلى عن أعبائنا وواجباتنا، التي أمرنا بها الله على وجه التأكيد ونتركها لرضاك السامي، ومن ثم نلتمس من مراحمكم بكل خضوع... أن تحافظوا على هذه القوانين والشرائع وأن تدافعوا عنها مثلنا... وأن يعمل بتفويض من الرب إجلالاً له تعالى على دعم الفضيلة والحفاظ على عقيدة المسيح(6)".

وعلق موضوع النزاع. ولم يواجهه هنري في الحال. وكان أول ما اهتم به هو الحصول على موافقة المجلس النيابي على طلب عجيب - أن يعفى من سداد القروض التي قدمها له رعاياه . واحتج أعضاء مجلس العموم ثم وافقوا. وقدمت ثلاثة مشروعات أخرى بقوانين تستهدف كبح جماح سلطة رجال الأكليروس على الوصايا التي تم الإشهاد عليها وتقاضيهم رسوماً على الموتى واحتفاظهم بالصدقات المتعددة، وحظيت هذه المشروعات بقوانين بموافقة أعضاء مجلس العموم، وعارضها بشدة الأساقفة ورؤساء الأديار وأصحاب المقاعد في مجلس اللوردات، وقد عدلت، ولكنها أصبحت في جوهرها قوانين نافذة، وتأجل انعقاد المجلس النيابي إلى يوم 17 ديسمبر.

وتلقى الملك إبان صيف عام 1530 شيئاً من التشجيع الغالي، إذ اقترح توماس كرانمر، أستاذ اللاهوت في جامعة كمبردج، على هنري، أن تبدي الجامعات الكبرى في أوربا رأيها في موضوع هو هل كان في وسع البابا أن يسمح لرجل بالزواج من أرملة شقيقه. وأعقب هذا الاقتراح مباراة مرحة في التنافس على الرشوة: ونثر وكلاء هنري المال للتحريض على إصدار أحكام سلبية، ولجأ وكلاء شارل إلى المال أو التهديد للحصول على ردود إيجابية(7)، وانقسمت ردود الجامعات الإيطالية، ورفضت الجامعات اللوثرية تقديم أي رد مريح للمدافع عن العقيدة، بيد أن جامعة باريس، تعرضت لضغط من فرانسيس(8) فقدمت الرد العزيز المنشود الذي كان يتلهف عليه. ووافقت جامعتا أكسفورد وكامبردج، بعد أن تسلمتا رسائل صارمة من الحكومة، على حق الملك في الحصول على قرار بطلان زواجه.

وعندما شعر بدعم مركزه إلى هذا الحد، أصدر عن طريق وكيله العام (ديسمبر سنة 1530) إعلاناً بأن الحكومة تعتزم رفع دعاوى ضد كل رجال الأكليروس الذين اعترفوا بسلطة ولزى قاصداً رسولياً، وعلى أساس أنهم خالفوا قانون الولاء للتاج. وعندما عاد المجلس النيابي والمجلس الأكليروسي للانعقاد (16 يناير سنة 1531) أعلن وكلاء الملك وهم سعداء أن الدعاوى سوف تسحب إذا اعترفوا بأنهم مذنبون ودفعوا غرامة قدرها 118.000 جنيه (11.800.000 دولار)(90). فاحتجوا بأنهم لم يرغبوا قط في أن يكون لولزى مثل هذا السلطان وأنهم لم يعترفوا به قاصداً رسولياً إلا لأن الملك قد فعل هذا بتقديم التماسه للنظر أمام محكمة ولزى وكامبيجيو. وكانوا على حق كامل بالطبع، بيد أن هنري كان في حاجة ماسة إلى المال، ووافقوا، وهم يولولون، على سداد المبلغ من موارد أبرشياتهم. واستخف الطرب الملك فطالب وقتذاك بان يعترف به رجال الأكليروس "حامياً للكنيسة ورجال الدين في إنجلترا والرئيس الأعلى الوحيد لهم" أي أن ولاءهم للبابا لابد أن ينتهي وعرضوا اثنتي عشرة مصالحة وجربوا اثنتي عشرة عبارة مبهمة، وكان هنري قاسياً لا يرحم، وأصر على أن يردوا بكلمة "نعم" أو "لا". وأخيراً (10 فبراير سنة 1531) عرض رئيس الأساقفة واهرام، وكان وقتذاك في الحادية والثمانين، في تبرم، إقرار صيغة الملك وأضاف إليها عبارة فيها تحفظ "بقدر ما تسمح شريعة المسيح"، وسكت المجلس الأكليروسي، واعتبر السكوت رضاً، وأصبحت الصيغة قانوناً، وهدأت ثائرة الملك، فسمح عندئذ للأساقفة بمطاردة الهراطقة.

وتأجل اجتماع المجلس النيابي والمجلس الأكليروسي مرة أخرى (30 مارس سنة 1531). وفي يوليو ترك هنري كاثرين في وندسور على ألا يراها أبداً مرة أخرى. وسرعان ما نقلت بعد ذلك إلى أمبتهل بينما أقامت الأميرة ماري في رتشموند وطالب هنري بالجواهر التي كانت قد ارتدتها كاثرين بصفتها ملكة وأعطاها لآن بولين(10) واحتج شارل الخامس لدى كليمنت الذي وجه خطاباً قصيراً للملك (25 يناير سنة 1532) يؤنبه فيه لاقترافه الزنا، ويحضه على طرد آن والاحتفاظ بكاثرين ملكة شرعية إلى أن يصدر قراراً في الالتماس المقدم منه لإعلان بطلان الزواج. وتجاهل هنري التأنيب واستمر في غرامه. وكتب حوالي هذا الوقت إحدى رسائله الرقيقة لآن:

حبيبة قلبي، أكتب لكِ هذا لأعرب عن الوحدة التي أعيش فيها هنا منذ فراقكِ، لأني أؤكد لكِ أني أرى الوقت قد أصبح منذ رحيلكِ أطول مما تعودت أن أراه مدى أسبوعين كاملين، وأعتقد أن رقتكِ وحرارة حبي هما السبب... ولكني أفكر الآن وأنا قادم إليكِ، وآلامي قد خف نصفها، في أن يتحقق أملي في أمسية خاصة بين أحضان حبيبتي التي سوف أركن قريباً إلى نهديها الجميلين وأقبلهما. كتبته يد مَن كان ولا يزال لكِ وسوف يظل معكِ على الدوام بإرادته.

وعندما انعقد المجلس النيابي والمجلس الأكليروسي مرة أخرى (15 يناير سنة 1532) حصل هنري من المجالس الأربعة جميعاً على تشريع آخر مناهض لرجال الأكليروس ينص على: أن رجل الدين دون درجة مساعد شماس، يجب أن يحاكموا أمام المحاكم الدينية عند اتهامهم بالخيانة العظمى، وأن الرسوم والغرامات التي تتقاضاها المحاكم الكنسية يجب أن تخفض، وأن الرسوم الكنسية على الموتى ورسوم التثبت من صحة الوصايا يجب أن تخفض أو تلغى، وأن موارد السنة الأولى لأسقف حديث التعيين يجب ألا تدفع بعد ذلك للبابا وأن تحول الأموال الإنجليزية إلى روما من أجل محللات وصكوك غفران وخدمات بابوية أخرى يجب أن يتوقف، وأرسلت إشارة ماكرة إلى المجلس البابوي بأن موارد السنة الأولى للأسقف حديث التعيين سوف ترد إلى البابا إذا أعلن بطلان الزواج بكاثرين.

وفي هذا الوقت انحازت غالبية من الأساقفة إلى الرأي القائل بأنهم لن يفقدوا شيئاً من السلطة أو الدخل إذا استقلت الكنيسة الإنجليزية عن روما. وفي مارس سنة 1532 أعلن المجلس الأكليروسي استعداده للانفصال عن البابوية: "هلا تفضلتم يا صاحب السمو بوقف أعمال الاغتصاب الظالمة المذكورة... وإذا اتخذ البابا إجراء ضد هذه المملكة للحصول على موارد السنة الأولى للأساقفة حديثي التعيين... فلتتفضلوا سموكم بسن قانون من المجلس النيابي الحالي بسحب طاعة سموكم والشعب للكرسي البابوي في روما(12)". وفي 15 مايو قدم المجلس الأكليروسي تعهداً للملك بتقديم كل تشريع تال له إلى لجنة - نصفها من العلمانيين والنصف الثاني من رجال الأكليروس - لها الحق في الاعتراض على أي قوانين ترى أنها ضارة بالمملكة. وهكذا ولدت كنيسة إنجلترا في هذا "الإصلاح النيابي" الأسقفي وهذا المجلس الأكليروسي وأصبحت عضواً للدولة وتابعة لها.

وفي 16 مايو استقال توماس مور من منصب الحجابة بعد أن فشل في الوقوف أمام التيار المناهض لرجال الأكليروس وانسحب إلى بيته. ومات رئيس الأساقفة واهرام في أغسطس بعد أن أملى وهو على فراش الموت رسالة أبدى فيها رفضه لخضوع الملجلس الأكليروسي للملك. واستبدل هنري بتوماس مور توماس أودلي، وبواهرام، توماس كرانمر. ومضت الثورة قدماً. وأجاز المجلس النيابي "قانون الاستئناف" وبمقتضاه كان كل نزاع أرسل سابقاً إلى روما للفصل فيه يحسم "في المحاكم الروحية والزمنية داخل المملكة دون اعتبار، لأي منع أو حرمان من غفران الكنيسة أو تحريم يصدر من جهة أجنبية(13)".

وفي 15 يناير سنة 1533 تزوج هنري من آن التي كانت حاملاً منذ أربعة شهور(14). وكان لدى الملك وقتذاك أسباب ملحة لإعلان بطلان زواجه من كاثرين، ولما كان قد بعث بطلب آخر للبابا دون أن يؤدي إلى نتيجة، فقد حصل من المجلس الأكليروسي على موافقة على "طلاقه" (أبريل سنة 1533) وفي 23 مايو أعلن كرانمر بصفته رئيس أساقفة كنتربري أن الزواج بكاثرين مخالف للشريعة وباطل، وفي 28 مايو أعلن أن آن زوجة شرعية لهنري، وركبت آن بعد ثلاثة أيام وهي ترتدي الديباج وتتزين بالجواهر لكي تتوج ملكة لإنجلترا في احتفال ملكي مهيب، وضعت تصميمه التقاليد وهانز هولبين الأصغر. ولاحظت وسط مظاهر الابتهاج صمت الجماهير الدال على الاستنكار، ولعلها تساءلت إلى متى يحمل رأسها القلق التاج؟.

وأعلن البابا كليمنت بطلان الزواج الجديد، وأن الأولاد الذين سيكونون ثمرة له غير شرعيين، وحرم الملك من غفران الكنيسة (22 يوليو سنة 1533).

وولدت اليزابث يوم 7 سبتمبر وأبلغ سفير شارل مولاه أن حظية الملك أنجبت ابنة سفاح(15). واستأنف المجلس النيابي الذي كان قد أجل يوم 4 مايو جلساته في 15 يناير سنة 1534. وكانت موارد الأساقفة الجدد في السنة الأولى والموارد البابوية الأخرى قد خصصت نهائياً وقتذاك للتاج، وأصبح تعيين الأساقفة امتيازاً للملك من الناحية القانونية، كما جرى العمل به فعلاً. ونقلت دعاوى الاتهام بالهرطقة من القضاء الكنسي إلى القضاء المدني.

وفي عام 1533 أذاعت اليزابث بارتون وهي راهبة من كنت أنها تلقت أوامر من الرب بإدانة الزواج الثاني للملك، وأنها قد سمح لها برؤية المكان الذي يعد إستقبال هنري في الجحيم. وعرضتها المحكمة الملكية لاختبار قاس، وانتزعت منها اعترافاً بأن رؤاها الإلهية كانت إفكاً وخداعاً، وأنها سمحت لآخرين باستخدامها في مؤامرة للإطاحة بالملك(16). وحوكمت هي وستة "شركاء في الجريمة" أمام مجلس اللوردات وقضي عليهم بالادانة، ونفذ فيهم حكم الإعدام (5 مايو سنة 1534)، واتهم الأسقف فيشر بأنه علم بالمؤامرة وتقاعس عن تحذير الحكومة، واتهم أيضاً بأنه كان هو وكاثرين مطلعين على أسرار خطة وضعها شابويس ولم يشجعها شارل، لغزو إنجلترا في الوقت الذي يقوم فيه أنصار كاثرين بالتمرد(17). وأنكر فيشر التهم الموجهة إليه، ولكنه ظل موضع الاشتباه بالخيانة.

وكان توماس كرومويل أشد وكلاء هنري العدوانيين في هذه الأمور. وقد ولد عام 1485، وهو ابن حداد من بوتني، ونشأ في فقر ومسغبة، ومضى يضرب سنوات في أرض فرنسا وإيطاليا أفاقاً بالفعل، وعاد إلى إنجلترا واشتغل بصناعة النسيج وأصبح مرابياً وكون ثروة، وخدم ولزى بإخلاص خمس سنوات، ودافع عنه في أيام البؤس، واكتسب احترام هنري بسهب صناعته وولائه. وعين على التوالي حاجباً لخزانة الدولة وأميناً للسجلات وكاتم سر للملك (مايو سنة 1534)، وكان في الفترة من عامي 1531 و 1540 المدبر الأكبر لشئون الحكومة باعتباره منفذاً مطيعاً للإرادة الملكية. واتهمه أعداؤه الأرستقراطيون، الذين احتقروه بوصفه حديث نعمة يرمز لخصومهم الصاعدين، رجال الأعمال، بأنه يطبق مبادئ "أمير" مكيافلي، بقبول الرشا وبيع المناصب وحب الثروة والسلطان حباً يجاوز الحدود. وكان هدفه، الذي سعى جاهداً لإخفائه، هو أن يجعل الملك صاحب الكلمة العليا في كل مجال من مجالات الحياة الإنجليزية، وأن يمول ملكية مطلقة بثروة الكنيسة المصادرة، وأظهر في سعيه لتحقيق أغراضه مقدرة تامة لا تعرف تأنيب الضمير، وضاعف ثروته، وكسب كل معركة خاضها ما عدا الأخيرة، والراجح أن هنري، وقد أزعجه تزايد عداء الشعب له، استدرج المجلس النيابي، بناء على اقتراحه وعن طريق احتياله، إلى الموافقة على قانون وراثة العرش (30 مارس سنة 1534) الذي أعلن أن الزواج بكاثرين غير صحيح، وحول ماري إلى ابنة سفاح، وعين اليزابث وريثة للعرش إلا إذا أنجبت آن ولداً، ونص على أن أي شخص يجادل في صحة زواج آن بهنري يستحق أقصى عقاب. وقضى القانون بأن يحلف جميع الإنجليز رجالاً ونساء يميناً بالولاء للملك. وأخذ مندوبون للملك يؤازرهم جنود، يخترقون البلاد راكبين، ودخلوا البيوت والقصور وأديار الرهبان وأديار الراهبات، وانتزعوا اليمين كرهاً. ولم يرفض حلف اليمين إلا قلة ضئيلة من بينهم الأسقف فيشر وتوماس مور: وعرضوا أن يحلفوا على ما جاء بشأن وراثة العرش على ألا يقسموا على باقي ما تضمنه القانون. وحكم عليهم بالسجن في البرج. وصوت المجلس النيابي آخر الأمر على قانون السيادة الحاسم (12 نوفمبر سنة 1534)، وأكد هذا القانون سيادة الملك على الكنيسة والدولة في إنجلترا، وعمد الكنيسة الوطنية الجديدة باسم الكنيسة الأنجليكانية، وخول الملك كل هذه السلطات على الأخلاق والتنظيم والهرطقة والعقيدة والإصلاح الكنسي، وكانت حتى وقتذاك من اختصاص الكنيسة. ونص القانون على أن المرء يرتكب جريمة الخيانة إذا تحدث عن الملك أو كتب عنه أنه مغتصب أو طاغية أو انقسامي أو هرطيق أو كافر. وطلب من جميع الأساقفة أن يحلفوا يميناً جديدة بأنهم يقبلون سيادة الملك المدنية والكنسية دون تحفظ "بقدر ما تسمح شريعة المسيح"، وأنهم لن يرضوا أبداً في المستقبل باستئناف السلطة البابوية في إنجلترا. وانتشرت كل قوات الحكومة لشل حركة المعارضة لهذه المراسيم، التي لم يسبق لهذا مثيل، وتظاهر رجال الأكليروس العلمانيون بالخنوع شيئاً فشيئاً، وأحجم كثير من الرهبان والأخوان الرهبان عن حلف الأيمان، نظراً لولائهم للبابا، وأسهمت مقاومتهم في اتخاذ الملك قراره الأخير بإغلاق الأديار.

وأحنق عناد الاخوة الرهبان في تشارنر هاوس، وهو دير كاتوزي في لندن، هنري وكرومويل بخاصة. وجاء ثلاثة من رؤساء الأديار الكارتوزيين إلى كرومويل ليقدموا له إيضاحاً عن إحجامهم عن الاعتراف بأي علماني رئيساً للكنيسة في إنجلترا، فبعث بهم كرومويل إلى سجن البرج. وفي يوم 26 أبريل سنة 1535 حوكموا هم وراهب آخر وقسيس علماني أمام قضاة الملك الذين كانوا يميلون إلى الصفح عنهم، غير أن كرومويل خشي أن يشجع الرفق على المزيد من المقاومة، فطالب بقرار بالإدانة وأذعن القضاة.

وفي يوم 3 مايو جر الرجال الخمسة وكانوا لا يزالون يرفضون قبول قانون السيادة على زحافات إلى تيبرن وعلقوا واحداً وراء الآخر وأسقطوا بقطع الحبال وهم أحياء وقطعوا أرباً(18) وعلقت ذراع مبتورة على مدخل عقد تشارتر هاوس لتلقين الرهبان الباقين درساً، ولكن أحداً منهم لم يتراجع عن رفضه. وسجن ثلاثة في البرج وشد وثاقهم وهم منتصبون بسلاسل من حديد حول أعناقهم وأقدامهم، وأكرهوا على الوقوف في هذا الوضع سبعة عشر يوماً، وقدم إليهم الطعام، ولكن لم يفك وثاقهم لقضاء أي حاجة طبيعية. أما باقي الرهبان الكارتوزيين، وكانوا لا يزالون يبدون عناداً ومشاكسة فقد تشتتوا في أديا أخرى ما عدا عشرة منهم، سجنوا في نيوجيت ومات تسعة من هؤلاء من "حمى السجن وقذره(19)".

وكان هنري وقتذاك هو الحكم الوحيد فيما يتعين على الشعب الإنجليزي أن يؤمن به في مجالي الدين والسياسة. ولما كان لاهوته لا يزال كاثوليكياً من كل وجه فيما عدا السلطة البابوية فقد اتخذ مبدأ مطاردة النقاد البروتستانت للمذهب الكاثوليكي بغير تحيز، والنقاد الكثالكة لسيادته الكنسية، والحق أن مطاردة الهراطقة قد استمرت وظلت طوال مدة حكمه. وفي عام 1531 أحرق توماس بلني بأمر أصدره الحاجب توماس مور، لأنه انتقد الصور الدينية، ورحلات الحج والصلوات من أجل الميت. وقبض على جيمس بينهام لأنه اعتبر أن المسيح لا يكون حاضراً في القربان المقدس إلا بروحه فعذب لكي ينتزع منه أسماء هراطقة آخرين، وتشبث بما قال وأحرق في سمثفيلد في أبريل عام 1532. واحرق آخران في ذلك العام وعرض أسقف لندن أن يمنح في خلال أربعين يوماً صك غفران للمسيحيين الصالحين الذين يحملون حزمة من الحطب لتغذية النار(20).

ووصل عهد الإرهاب إلى ذروته في اضطهاد فيشر ومور، وقد وصف أرازموس أسقف روشستر بأنه "شخص مثقل بكل فضيلة(21") بيد أن فيشر نفسه قد اقترف ذنب الاضطهاد، وقد انضم إلى السفير الإسباني في حث شارل على غزو إنجلترا وخلع هنري(22). وقد اقترف في نظر القانون جريمة خيانة الدولة، وهو أمر لم يشفع له عندما احتج بأنه كان مخلصاً للكنيسة. وارتكب الحبر الأعظم الجديد، بولس الثالث خطأ بتعيين الأسقف المسجون كاردينالاً، وعلى الرغم من أن فيشر أعلن إنه لم يسعَ إلى هذا الشرف، فإن هنري رأى وقتذاك في هذا التعيين تحدياً له. وفي 17 يونيه سنة 1535 قدم الأسقف، وكان وقتذاك في عامه الثمانين، إلى محاكمة أخيرة ورفض مرة أخرى أن يوقع على قسم يعترف فيه بهنري رئيساً للكنيسة الإنجليزية، واقتيد في 22 يونيه إلى كتلة على تل تاور. ووصفه شاهد عيان بأنه "جسد طويل أعجف، لا شيء فيه سوى الجلد والعظام، إلى حد أن معظم مَن شاهدوه دهشوا من رؤية رجل لا يزال فيه رمق من حياة، على الرغم من بلوغه هذا الحد من الوهن(23)".

وتلقى وهو على منصة المقصلة عرضاً بالعفو عنه إذا حلف اليمين فرفض وعلق رأسه المقطوع فوق جسر لندن. وقال هنري: "في وسعه أن يذهب الآن، إذا استطاع، إلى روما ويحصل على قلنسوة الكاردينال(24)". ومع ذلك فقد بقي هناك مكابر عنيد أشد مراساً.


مؤلف المدينة الفاضلة

كان والد توماس مور محامياً ناجحاً وقاضياً بارزاً. وتلقى توماس تعليمه في مدرسة سانت أنطوني بلندن، وعمل وصيفاً لرئيس الأساقفة مورتون، وكان لهذا الفضل في تثبيت عقيدته المحافظة وتكامله وتقواه المرحة. وتنبأ مورتون، كما يقال لنا، بأن "هذا الطفل الذي يخدم هنا على المائدة... سوف يثبت انه رجل عجيب(25)". وذهب الشاب إلى أكسفورد وهو في الخامسة عشرة من عمره، وسرعان ما فتن بالأدب الكلاسي إلى درجة حملت والد الشاب على انتزاعه من الجامعة، لإنقاذه من أن يصبح أديباً خاوي الوفاض وبعث به لدراسة القانون في لندن، وكانت أكسفورد وكامبردج لا تزالان تستهدفان إعداد الطلاب للعمل في سلك الكهنوت. وكانت كلية نيو إن وكلية لنكولن إن تدربان الرجال الذين كانوا وقتذاك يشرفون بين رجال الأكليروس على الحكومة في إنجلترا، ولم يتلقَ من أعضاء مجلس العموم تعليماً جامعياً سوى ثمانية أعضاء بينما كانت هناك نسبة مرتفعة من المحامين ورجال الأعمال.

وفي عام 1499 إلتقى مور، وكان في الحادية والعشرين من عمره، بأرازموس وافتتن بالمذهب الإنساني. وتعد صداقتهما من أطيب العطور شذى في ذلك العصر. فقد وهب كلاهما مرحاً بقدر ما، وجعلا لدراستهما طعماً مستساغاً بالهجو الضاحك. وكانا يشتركان في كراهية الفلسفة الكلامية التي قال مور إن ما تنطوي عليه من خبث في التفريق بين الأشياء يعود على المرء بفائدة توازي ما يكسبه من حلب تيس في غربال(26). وكانا يأملان في إصلاح الكنيسة من الداخل وتجنب تفكك أواصر الوحدة الدينية والتواصل التاريخي. ولم يكن مور نداً لأرازموس في العلم أو التسامح، والحق أن رقته المألوفة وكرمه كان يشوبهما في بعض الأوقات تطرف في الدين، وكان في الجدل ينحني بين آن وآخر مثل كل معاصريه، ليوجه لخصومه طعناً شديداً مريراً(27). ولكنه كان يفوق أرازموس في الشجاعة والإحساس بالكرامة والإخلاص لقضية. ولا شك أن الرسائل التي تبادلاها تعد شاهداً ثميناً على أفضال عصر فظ. فهناك رسالة لمور يقول في ختامها "وداعاً يا أرازموس الحبيب يا مَن هو أعز علي من عيني(28)".

وكان من أعظم رجال الدين في القرن الذي عاش فيه، أخزى بتقواه - العلمانية تهافت رجال الكهنوت من أمثال ولزى على الدنيا. وفي الثالثة والعشرين عندما تبحر في دراسة القانون فكر في أن يصبح قساً. وألقى محاضرات عامة (1501) عن مدينة الرب التي بشر بها أوغسطين، وجلس بين مستمعيه علماء تحارير أكبر منه سناً مثل جروسين. وعلى الرغم من انتقاده الرهبان لتقاعسهم عن الامتثال لما يفرضه عليهم نظامهم فإنه أعجب إعجاباً شديداً بنظام الدير المخلص، وأسف أحياناً لأنه لم يختر هذا النظام، وظل وقتاً طويلاً يرتدي قميصاً من شعر الخيل لا يلبس تحته شيئاً، وكان بين آن وآخر يسحب منه دماً يكفي لتلطيخ ثيابه ببقع من الدماء ترى بوضوح. وكان يؤمن بالمعجزات ويصدق قصص القديسين والمخلفات التي تستخدم للعلاج والصور الدينية ورحلات الحج(29). وكتب مصنفات ولائية لها نغمة القرون الوسطى أن الحياة سجن وأن الهدف من الدين والفلسفة تهيئة نفوسنا للموت، وتزوج مرتين وأنجب عدة أطفال أنشأهم على حب نظام مسيحي يتسم بالوقار والانشراح في آن واحد، وتصحبه صلاة متكررة وحب متبادل واتكال كامل على العناية الإلهية. وكانت "دار مانور" في تشلسي التي انتقل إليها في عام 1523 مشهورة بمكتبتها وصالة العرض فيها وحدائقها الممتدة إلى مائة ياردة إلى نهر التيمز.

واختير وهو في السادسة والعشرين من عمره (1504) نائباً بوصفه مواطناً حراً في المجلس النيابي. وهناك ناقش بنجاح ضد إجراء اقترحه هنري السابع مما دفع الملك إلى أن يسجن مور الكبير فترة قصيرة. ويفرض غرامة باهظة كوسيلة منحرفة لتلقين الخطيب الشاب درساً في مواساة المواءمة.

وعند إغلاق ذلك المجلس النيابي عاد مور إلى الحياة الخاصة ونجح في مزاولة القانون. وأقنع عام 1509 بتولي منصب مساعد المشرف في المدينة، أي في لندن القديمة شمالي نهر التيمس. وكان مكلفاً بتبعات تتفق ومزاجه، وهي وظائف لها صيغة قانونية أكر مما تتسم بالمخاطرة. وأكسبته أحكامه شهرة واسعة، لما اتسمت به من حكمة وعدم تحيز، وخالف برفضه المهذب للهدايا من المتخاصمين، سوابق العهد الشائنة التي كانت لا تزال في عنفوانها أيام فرانسيس بيكون. وسرعان ما عاد إلى المجلس النيابي وما أن حل عام 1515 حتى كان خطيب مجلس العموم. ووصف أرازموس في خطاب بعث به إلى هوتن مور (23 يوليه 1517)، بأنه متوسط القامة له بشرة شاحبة وشعر أصحم لا يهتم بالملبس أو المظهر زاهد في الطعام والشراب، منشرح سريع النكتة حاضر الابتسامة، يميل إلى الدعابات والخدع ويحتفظ في بيته بمهرج وقرد وكثير من الحيوانات المدللة الصغيرة، "وكانت كل الطيور في تشلزيا تأتي إليه ليطعمها". وكان زوجاً مخلصاً وأباً محباً يعبد أولاده وخطيباً مقنعاً ومستشاراً أصيل الرأي ورجلاً شديد الحرص على البر وخدمات الأصدقاء - واختتم هذا الرسم التمهيدي الذي يدل على الوله به بأنه "باختصار ماذا خلقت الطبيعة الطف وأحلى وأسعد من عبقرية توماس مور؟(30)".

ووجد أمامه متسعاً من الوقت لتأليف كتب وبدأ بكتاب "تاريخ رتشارد الثالث"، ولكن نزعته كانت حادة ضد الحكم المطلق، وكان يجلس على العرش حاكم مطلق، ورأى أن من الفطنة أن يتجنب قضاء الكلمة المطبوعة. ونشر بعد وفاته وكتب شكسبير مسرحية تقوم عليه، ولعل السيرة الذاتية التي أذاعتها الدراما تحمل بعض المسئولية عن الخلق الذي يحمله رتشارد، وفي عام 1516 طرح مور باللاتينية، كما لو كان يقوم بدعاية، كتاباً من أشهر الكتب بأسرها، مبدعاً كلمة، وواضعاً سابقة مقدماً على خطوة للمُدن الفاضلة الحديثة ومتوقعاً نصف الاشتراكية، ومعبراً عن نقد للاقتصاد والمجتمع والحكومة في إنجلترا إلى حد أنه تسلح من جديد بالإقدام بعد التروي ونشر المجلد في الخارج في ست طبعات لاتينية قبل أن يسمح بطبعه باللاتينية كذلك في إنجلترا. واعترف بأنه كتبه للتسلية دون أن يقصد نشره على الجمهور بيد أنه شكر أرازموس لإطلاعه عليه في المطبعة بلوفان(31) وترجم إلى الألمانيّة والإيطالية والفرنسية قبل أن تظهر النسخة الإنجليزية (1551) بعد وفاة المؤلف بستة عشر عاماً. وما أن حل عام 1520 حتى كان حديث القارة.

وأطلق عليه مور اسم "ليس في موضع" ولا نعرف من خطر له ذلك الخاطر السعيد بتغيير هذا العنوان وسط الطباعة إلى المرادف اليوناني يوتوبيا أو المدينة الفاضلة(32) وثم إخراج الحكاية بصورة بارعة جداً دفعت كثيراً من القراء إلى الاعتقاد بأنها قصة حقيقية ويقال إن مبشراً دينياً قد فكر في السفر وتحويل سكان المدينة الفاضلة إلى المسيحية(33). وكان هنري الثامن قد أرسل مور سفيراً إلى بروجس (1515) ومن هناك انتقل إلى أنتورب برسالة قدمه فيها أرازموس إلى بيتر جيلس كاتب المدينة. وادعت المقدمة أن جيلس قد قدم مور إلى ملاح برتغالي له لحية، لوحت بشرته تقلبات الطقس، يدعى رافاييل هيثلوداي، وترادف باليونانية "ماهر في الهذر" كان قد سافر بحراً مع أمريجو فسبوتشي عام 1504، ودار حول الكرة الأرضيّة (ست سنوات قبل رحلة ماجلان)، وزار في العالم الجديد، جزيرة سعيدة حل سكانها معظم المشكلات التي كانت تعاني منها أوربا في ذلك العهد. وجعلت طبعة لوفان للسخرية أكثر تقبلاً بأن بدأت بحفر الخشب للجزيرة وعينة من لغة المدينة الفاضلة. ولم يكشف المؤامرة إلا هفوة واحدة: "فهيتلد واي يميل إلى الثناء على رئيس الأساقفة مورتون بكلمات(34) أقرب إلى فطرة مور التي تعترف بالجميل من تجربة الملاح.

ويصف ماجلان الوهمي شيوعية سكان الجزيرة بقوله: "لما كان كل شيء على المشاع، بين سكان المدينة الفاضلة فإن كل شيء متوفر لدى كل إنسان. وأنا أقارن بينهم وبين كثير من الأمم... حيث يقول كل إنسان إن كل ما قد حصل عليه ملك خاص له وإنه أموال خاصة. وأنا أستمسك جيداً بما قاله أفلاطون... إن كل الناس يجب أن يحصلوا ويتمتعوا بحصص متساوية من الثروة والأمتعة... لأنه حيث ينتزع كل إنسان، يتخذ ألقاباً معينة ويتمسك بادعاءات ما، ويختطف أكبر قدر يستطيع الحصول عليه بحيث نجد أن قلة هي التي تتقاسم فيما بينها كل الثروات فلن يترك للباقين سوى العوز والفاقة(35).

وكل إنسان في المدينة الفاضلة يأخذ إنتاجه إلى المخزن العام ويتسلم منه حسب ما تتطلبه احتياجاته. ولا أحد يطلب أكثر مما يكفيه لأن الأمان من الحاجة يصده عن الجشع. ويتناول الناس الوجبات على مائدة مشتركة ولكن للمرء أن يأكل في بيته إذا شاء. وليس في المدينة الفاضلة عملة ولا شراء بثمن رخيص ولا بيع بثمن غال، وآفات الغش والسرقة والنزاع على الملكية غير معروفة. ولا يستخدم الذهب بوصفه عملة، ولكن لصناعة أشياء نافعة مثل الأواني التي نقضي فيها الحاجة. وهي لا تعرف المجاعات أو السنوات العجاف، لأن المخازن العامة تحتفظ باحتياطي للطوارئ. وكل أسرة تشتغل بالزراعة والصناعة معاً، يستوي في ذلك الرجل والنساء. ولكي يتحقق إنتاج مناسب لابد أن يعمل كل بالغ ست ساعات يومياً، ويتحدد اختيار المهنة باحتياجات الجماعة. وسكان المدينة الفاضلة أحرار بمعنى الحرية من الجوع والخوف، ولكنهم ليسوا أحراراً في أن يعيشوا على حساب الآخرين. وفي المدينة الفاضلة قوانين بيد أنها بسيطة وقليلة، ومن ثم ينتظر من كل إنسان أن يدافع عن قضيته ولا حاجة لوجود محامين. ويحكم على الذين يخالفون القانون بالعمل عبيداً للجماعة، ويقومون بأداء المهام الكريهة، ولكنهم يستعيدون المساواة الكاملة بأقرانهم بعد انتهاء دورهم. أما الذين يكدرون صفو الأمن تكديراً خطيراً فيحكم عليهم بالإعدام في بلاد أخرى.

ووحدة المجتمع في المدينة الفاضلة هي الأسرة الأبوية "والزوجات يهيمن على أزواجهن، والأولاد ينسبون لآبائهم(36)". والزواج من واحدة هو الشكل الوحيد الذي يسمح به في مجال الارتباط الجنسي.

وقبل الزواج ينصح الخطيبان بأن يرى أحدهما الآخر وهو مجرد من الملابس، حتى يكتشف العيوب الجسمانية في حينه، وإذا بلغت درجة كبيرة من الجسامة فإن العقد قد يلغى. وتذهب الزوجة لتعيش مع زوجها في دار والده بعد الزواج، ويسمح بالطلاق بسبب الزنا أو برضى الطرفين بشرط موافقة مجلس الجماعة. وتختار كل ثلاثين أسرة زعيم قبيلة كل عام ليحكمها ويختار كل عشرة من زعماء القبائل رئيساً لإدارة مقاطعة بها 300 أسرة. ويكون المائتا زعيم للقبائل مجلساً قومياً ينتخب أميراً أو ملكاً مدى الحياة.

ومن التبعات الأساسية الملقاة على عاتق زعماء القبائل المحافظة على صحة الجماعة بتزويدها بالماء النظيف واتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على الصحة العامة وتوفير العناية الطبية والعلاج بالمستشفيات لأن الصحة أهم النعم على الأرض وينظم الحكام التعليم للأطفال والكبار ويهتمون اهتماماً شديداً بالتدريب المهني ويؤيدون العلم ولا يشجعون التنجيم وقراءة الطالع والخرافة. ولهم أن يشنوا الحرب على الشعوب الأخرى إذا رأوا أن هذا يقتضيه صالح الجماعة: "إنهم يعتبرون أن أعدل سبب للحرب يتوفر عندما يحتفظ أي شعب بقطعة من الأرض فضاء ولا تستغل بأي صورة نافعة أو مربحة، ويمنع الآخرين من الاستفادة منها أو حيازتها، وهم بحكم قانون الطبيعة يجب أن يطعموا ويفرج عنهم(37) (هل كان هذا دفاعاً عن استعمار أمريكا؟). بيد أن سكان المدينة الفاضلة لا يمجدون الحرب، إنهم يكرهونها باعتبارها عملاً وحشياً واضحاً، ومناقضاً لشعور كل أمة أخرى تقريباً. ويرون أنه لا شيء أكثر خسة وتفاهة من المجد المستمد من الحرب(38)".

والدين في المدينة الفاضلة لا يكاد يكون حراً تماماً. وتعامل بالتسامح أي عقيدة، اللهم إلا الإلحاد وإنكار خلود الإنسان. وفي وسع ساكن المدينة الفاضلة إذا شاء أن يعبد الشمس أو القمر. ولكن الذين يلجئون إلى العنف في العمل أو الكلام عن أي دين معترف به يقبض عليهم ويعاقبون لأن القوانين تستهدف منع النزاع الديني(39). والذين ينكرون الخلود لا يعاقبون بل يبعدون عن الوظيفة ويحرم عليهم إبداء آراءهم لأي إنسان اللهم إلا للقساوسة و"أصحاب الشأن". وإلا "فإنه يباح لكل إنسان أن يؤثر ويتبع أي دين يشاء... ويستطيع أن يبذل كل جهده لإقناع آخر برأيه ما دام يفعل هذا سلمياً وفي رصانة، وفي غير ما عجلة وبلا زجر أو قدح يصدران عن نزاع ضد الآخرين(40)". ومن ثم فإن في المدينة الفاضلة عدة أديان بيد أن "أعظم وأحكم دور... هو الإيمان بوجود قوة إلهية معروفة، دائمة، لا تدرك ولا تفسر، أعظم من أن يدركها عقل الإنسان ومقدرته، متفرقة في أنحاء العالم(41)". والرهبانية مسموح بها بشرط أن يشغل الرهبان أنفسهم بأعمال البر والمنفعة العامة، مثل إصلاح الطرق والجسور وتطهير الخنادق وقطع الأخشاب والعمل خدماً بل ورقيقاً، وفي وسعهم أن يتزوجوا إذا رغبوا. وهناك قساوسة، ولكنهم يتزوجون أيضاً. وتعتبر الدولة أن أول وآخر كل شهر وكل عام بمثابة أعياد دينية، ولكن في تأدية الاحتفالات الدينية في هذه العطلات، "لا يرى تمثال أي إله في الكنيسة"، ولا تؤدى صلوات، ولكن في وسع كل إنسان أن يتلو صلاة ما في جرأة دون أن يسيء إلى أي طائفة(42). وفي كل يوم من هذه العطلات تسجد الزوجات والأطفال أمام أزواجهن أو آبائهم، ويطلبون الصفح عن أي ذنب قد اقترفته أو أي واجب يكونون قد أخلوا به، ولا يسمح لأحد بالحضور إلى الكنيسة إلا بعد أن يسود الوئام والسلام بينه وبين عدوه. وهذه لمسة مسيحية، ولكن إنسانية مور الفتية تبدو في قبوله الجزئي لوجهة النظر اليونانية عن الانتحار. إذا عانى الإنسان من مرض عضال غير قابل للشفاء، فإنه يسمح له ويشجع على إنهاء حياته. أما في الحالات الأخرى فإن مور يعتقد أن الانتحار جن، ويروى "أن الجثة يجب أن تلقى دون دفن في مستنقع نتن(43).

ولا نعرف كم من هذه يمثل النتائج التي توصل إليها مور بعد ترو، وكم منها كان من تفكير أرازموس، وكم منها كان من وحي ألاعيب الخيال. وعلى أية حال فإن السياسي الشاب أبعد نفسه في حرص عن اشتراكية سكان المدينة الفاضلة، وهو يتمثل نفسه يقول لهيثلوداي: "أرى أن كل الناس لن يعيشوا في ثراء حيث تكون كل الأشياء على المشاع. لأنه كيف تكون هناك وفرة في السلع... حيث نجد أن نظرة الإنسان إلى مكاسبه الشخصية لا تدفعه إلى العمل، ولكن الأمل يراوده في أن يجد في عناء الآخرين ما يجعله ينعم بالكسل. لا يمكن أن تكون كل الأمور على ما يرام، ما لم يكن كل الناس صالحين، وهو ما اعتقد أنه لن يحدث في هذه السنين العديدة الطويلة(44)". ومع ذلك فإن بعض التعاطف على ضروب الحنين المتطرفة لابد أن يكون قد استلهم بصورة كبيرة المثال الشيوعي. وثمة صفحات أخرى في المدينة الفاضلة تنتقد في غضب قسوة استغلال الأغنياء للفقراء. وفيها تنديد بإحاطة اللوردات الإنجليز لبعض الأراضي العامة بسياج، وذلك بصورة مفصلة وروح لا يتوقعان فيما يبدو، من أجنبي. ويقول هيثلوداي لمور: "إن الطمع الجائر للقلة قد تحول إلى الخراب التام لجزيرتك. إن هؤلاء الأغنياء لا يطيقون إلا أن يشتروا كل شيء ليتلهوا ويستأثروا بكل شيء ويتحكموا في السوق وحدهم كما يشاءون باحتكارهم(45)". وعندما أفكر وأزن بعقلي كل هذه الحكومات التي تزدهر الآن في كل مكان فإني لا أفهم - وليساعدني الله - إلا أن هناك مؤامرة، يدبرها الأغنياء لترويج سلعهم باسم الجمهور. إنهم يخترعون ويتوسلون بكل الوسائل والخدع... كيف يستأجرون... ويتعسفون... في جهد الفقراء مقابل مبلغ صغير بقدر الإمكان... وهذه الحيل تؤدي إلى سن القوانين(46).

وهكذا يكاد يكون صوت كارل ماركس يحرك العالم من سفح فضاء في المتحف البريطاني، ولا شك أن المدينة الفاضلة هي أقوى ضروب الاتهام وأولها للنظام الاقتصادي الذي استمر في أوربا الحديثة حتى القرن العشرين، وإنها سوف تظل معاصرة مثل اقتصاد يسير وفق خطة معينة ومثل رفاهية الدولة أيضاً.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشهيد

كيف تأتى لرجل تعج في رأسه مثل هذه الأفكار أن يعين في مجلس هنري الثامن في السنة التالية لنشر كتاب المدينة الفاضلة؟ الراجح أن الملك على الرغم مما اشتهر به من علم، لم يستطع أن يتحمل قراءة الكتاب للاتينية ومات قبل أن ينشر بالإنجليزية. واحتفظ مور بخواطره المتطرفة لأصدقائه. وعرفه هنري مزيجاً نادراً من المقدرة والكمال، وقدره باعتباره صلة وثيقة بينه وبين مجلس العموم، ونصبه فارساً وعينه وكيلاً للخزانة (1521)، وعهد إليه بمهام دبلوماسية دقيقة. وعارض مور السياسة الخارجية التي انتهجها ولزى وقاد بها إنجلترا للحرب مع شارل الخامس، إذ أن الإمبراطور في نظر مور لم يكن داهية خطيراً فحسب، بل كان أيضاً البطل المدافع عن العالم المسيحي ضد الأتراك. وعندما سقط ولزى نسي مور حتى وقتذاك أخلاقياته ليراجع - في المجلس النيابي - زلاته وأخطاءه التي أدت إلى السقوط. وكان، بصفته زعيماً للمعارضة، الخليفة المنطقي للكردينال، وظل يعمل رئيساً لوزراء (حاجباً) إنجلترا واحداً وثلاثين شهراً.

ولكن الملك كان الخليفة الحقيقي لولزى. فقد اكتشف هنري قوته ومقدرته وقال إنه قرر أنه يحرر نفسه من بابوية تكن له العداوة وتقف في طريقه وأن يسبغ صفة الشرعية على زواجه بامرأة أحبها وتستطيع أن تنجب له وريثاً للعرش. ووجد مور نفسه لا يوجه السياسة بل يخدم الأهداف التي تسير في اتجاه مضاد لأعمق مشاعر الولاء التي يطويها بين جوانحه. وواسى نفسه بتأليف كتب ضد اللاهوت البروتستانتي وبمطاردة زعماء البروتستانت. واتفق في كتاب حوار يتعلق بالهرطقة (1528) وفي كتب متأخرة، مع فرديناند الثاني وكالفن والأمراء اللوثريين على ضرورة الوحدة الدينية لتحقيق القوة والسلام القوميين. وخشي انقسام الإنجليز إلى اثنتي عشرة أو مائة طائفة دينية. ومع أنه كان قد دافع عن ترجمة أرازموس للعهد الجديد إلى اللاتينية فإنه احتج ضد نسخة تندال الإنجليزية باعتبارها تحريفاً للنص بصورة تثبت وجهات النظر اللوثرية، وشعر بأن ترجمات الكتاب المقدس يجب ألا تتحول إلى أسلحة يشرعها فلاسفة الحانة. وعلى أية حال فإنه تمسك بأن الكنيسة كانت أداة ثمينة جداً للنظام والمواساة والإلهام، بحيث لا يجوز تمزيقها إرباً بالاستدلال المتسرع من مجادلين معجبين بأنفسهم.

وانتقل من هذه الحال إلى إحراق البروتستانت على المحرقة. أما الاتهام الذي وجه إليه بأنه أمر بجلد رجل في بيته بسبب الهرطقة(47) فإنه موضع خلاف، ويبدو أن رواية مور عن المذنب بعيدة عن اللاهوت "إذا نظر خلسة لأية امرأة وهي تركع" في الصلاة و "إذا تدلى من رأسها شيء في تذرعاته فإنه عند إذ يتسلل وراءها. يعمل على رفع كل ثيابها ويقذف بها فوق رأسها(48)". ويمكن أن يقال إنه في أحكام الإعدام الثلاثة التي أعلنت في أسقفيته إبان توليه منصب الحاجب، كان يستجيب فيها للقانون، الذي كانت الدولة في حاجة إليه ليكون العضد العلماني للمحاكم الكنسية(49)، ولكن ليس من شك في أنه وافق على عمليات الإحراق(50). ولم يسلم بوجود أي تناقض بين سلوكه والتسامح الكبير في الاختلافات الدينية الذي أبداه في مدينته الفاضلة، لأنه حتى هناك رفض التسامح مع الملحدين والمنكرين للخلود، وهؤلاء الهراطقة الذين لجئوا إلى العنف أو توسلوا بالطعن. ومع ذلك فقد ارتكب هو نفسه جريمة الطعن بمجادلته البروتستانت الإنجليز . وجاء الوقت الذي رأى فيه مور أن هنري أخطر الهراطقة على الإطلاق. ورفض الموافقة على زواجه من آن بولين ورأى في التشريع المناهض لرجال الدين الذي صدر في 1529-32 اعتداء صارخاً على كنيسة يرى أنها بمثابة قاعدة لا غنى عنها للنظام الاجتماعي. وعندما تقاعد من المنصب وانسحب إلى خلوة بيته في تشلسي (1532) كان لا يزال في عنفوانه، في الرابعة والخمسين من عمره، ولكنه كان يرتاب في أنه لن يعيش طويلاً. وحاول أن يهيئ أسرته للمأساة بالحديث (هكذا يقول زوج ابنته وليام روبر) عن حياة الشهداء الأحرار وعن جلدهم العجيب وعما كابدوه من آلام وعن ميتتهم التي آثروا فيها أن يتعرضوا للعذاب على أن يسيئوا إلى الرب، فأي شيء أسعد وأكثر بركة من أن يحب الله وأن يتعرض لفقد المال والسجن وضياع الأرض بل والحياة أيضاً. وكان فضلاً عن هذا يقول لهم معتصماً بعقيدته إذا أدرك أن أبناءه سوف يشجعونه على الترحيب بالموت في سبيل هدف سام فإنه سوف يجد في هذا من السلوى ما يملأ نفسه حبوراً ولهذا السبب يهرع إلى الموت مبتهجاً(52). وتحقق كل ما توقعه، فقد اتهم عام 1534، ووجهت إليه تهمة بأنه كان على علم بمؤامرة تتعلق براهبة كنت، فأقر بأنه التقى بها، وآمن بأنها تتلقى الوحي، ولكنه أنكر أنه كان على علم بالمؤامرة. وتشفع كرومويل، وتفضل هنري بالصفح عنه. ولكن في السابع عشر من أبريل حكم على مور بالسجن في البرج لأنه رفض أن يحلف اليمين على قانون الوراثة، الذي رأى عندما قدم إليه أنه ينطوي على إنكار لسيادة البابا على الكنيسة في إنجلترا.

وكتبت إليه ابنته الأثيرة، مرجريت رسالة ترجوه فيها أن يحلف اليمين، فرد عليها بأن توسلها سبب له ألماً أشد مما سببه له سجنه. وزارته زوجته (الثانية) في البرج وانتهرته (كما يقول روبر) لعناده:

"إني لأعجب لك في هذا العام يا مستر مور، يا مَن كنت أحسبك حتى الآن رجلاً عاقلاً، لماذا تتظاهر بالحمق، فترقد هنا في هذا السجن الضيق القذر، وترضى بأن تحبس بين الفئران والجرذان، بينما في وسعك أن تكون حراً في الخارج، وتنعم بحظوة ورضا الملك ومجلسه، إذا فعلت فقط ما فعله كل الأساقفة وخير المتعلمين في هذه المملكة. وعندما أرى أن لك في تشلسي بيتاً جميلاً لائقاً، وأرى مكتبتك وكتبك وقاعة صورك وحديقتك وبستانك وكل الضروريات الأخرى، تبدو جميلة من حولك، حتى لتستطيع أن تسعد برفقتي، أنا زوجتك، ورفقة أولادك وأسرتك، فإني أتأمل باسم الرب ماذا تعني بمكوثك هنا وكلفك بإطالة أمده(53)".

وبذلت محاولات أخرى لزحزحته عن موقفه، بيد أنه قاومها كلها بابتسامة. وفي أول يوليه سنة 1535 قدم لمحاكمة أخيرة. فدافع عن نفسه جيداً ولكن حكم عليه بالإدانة لخيانة الدولة، وبينما كان عائداً وستمنستر إلى البرج اقتحمت ابنته مرجريت صفوف الحرس، واحتضنته وتقبلت بركته الأخيرة. وفي اليوم السابق لإعدامه أرسل قميصه المصنوع من الشعر إلى مرجريت ومعه رسالة "غداً نلتقي) لكي نذهب إلى الله... وداعاً يا ابنتي العزيزة، صلي من أجلي، وسوف أصلي من أجلكِ، ومن أجل جميع أصدقائكِ، لكي نلتقي في السماء مسرورين(54).

وعندما ارتقى منصة المقصلة (في 7 يوليو) ووجد أنها ضعيفة توشك أن تنهار قال لأحد التابعين: "أرجوك أيها الملازم أن تراعي أن أكون في أمان وأنا في أعلاها، وبالنسبة لنزولي دعني أحتال لنفسي(55)". وطلب منه الجلاد الصفح والمغفرة فاحتضنه مور. وكان هنري قد أصدر تعليمات بألا يسمح للسجين إلا ببضع كلمات. وطلب مور من المشاهدين أن يصلوا من أجله، وأن يشهدوا بأنه تعرض للموت في سبيل عقيدة الكنيسة الكاثوليكية المقدسة، ومن أجلها، ثم طلب منهم أن يصلوا من أجل الملك، وأن ينعم الله عليه بمشير صالح، واحتج بأنه مات وهو خادم صالح للملك، ولكنه خادم الرب أولاً(56)، وتلا المزمور الحادي والخمسين، ثم وضع رأسه على الكتلة، وسوى بعناية لحيته البيضاء الطويلة، حتى لا تتعرض لأي أذى وقال: "مما يؤسف له أنها سوف تقطع، وأنها لم ترتكب جريمة خيانة الدولة(57)"، وعلق رأسه على جسر لندن. وسرت موجة من الرعب في إنجلترا التي أدركت وقتذاك قسوة الملك، التي أصر عليها، وسرت في أوربا قشعريرة من الفزع. وشعر أرازموس أنه هو نفسه قد مات لأنه، "ليس لنا إلا روح واحدة تتردد بيننا(58)" وقال إنه لم تعد لديه وقتذاك أي رغبة في الحياة. وبعد عام مات هو أيضاً. وعلم شارل الخامس بالحادث وقال للسفير الإنجليزي: "لو كنت سيداً لخادم مثل هذا توفرت لي - أنا نفسي - عن أعماله خبرة غير ضئيلة في هذه السنوات العديدة، فإني كنت أفضل أن أفقد أحسن مدينة في ممتلكاتي ولا افقد مثل هذا المستشار الجليل(59)". وصاغ البابا بولس الثالث نشرة بابوية بحرمان هنري الخارج على القانون من زمالة العالم المسيحي، وتحريم الصلوات الدينية في إنجلترا، ومنع كل تجارة معها، وحل كل الرعايا البريطانيين من إيمانهم بالولاء للملك، وأمرهم هم وكل الأمراء المسيحيين بخلعه فوراً. ولما كان كل من شارل وفرانسيس لا يرحبان بهذه الإجراءات، فإن البابا حجز صدور النشرة البابوية حتى عام 1538. وعندما أصدرها، منع شارل وفرانسيس نشرها في مملكتيهما، إذ لم يرضيا التصديق على الادعاءات البابوية بوجود سلطة له على الملوك. وكان فشل النشرة البابوية إيذاناً بضعف السلطة البابوية، وارتفاع سلطة الدولة القومي.

ورأى دين سزيفت أن مور رجل "يتمتع بأعظم الفضائل" - ولعله يستخدم الكلمة بمعناها القديم الخاص بالشجاعة - "بين الرجال الذين أنجبتهم هذه المملكة(60)". وفي الذكرى الأربعمائة لإعدام توماس مور وجون فيشر أدرجتهما كنيسة روما بين قديسيها.


حكاية ثلاث ملكات

فقد هنري ثلاثاً من ست ملكات في خلال ثلاثين شهراً من وفاة مور. فقد تلاشت حياة كاثرين في معتزلها الشمالي، وهي لا تزال تدعي أنها زوجة هنري الشرعية الوحيدة، وملكة إنجلترا صاحبة الحق الشرعي، واستمرت وصيفاتها في إطلاق هذا اللقب عليها. وفي عام 1535 نقلت إلى قلعة كيمبالتون قرب هنتنجدون، وهناك حبست نفسها في حجرة واحدة ولم تكن تتركها إلا لحضور القداس. واستقبلت زواراً و"عاملتهم في كرم زائد(61)" وحجزت ماري، وكانت وقتذاك في التاسعة عشرة في هاتفيلد التي لا تبعد إلا بمسيرة عشرين ميلاً، غير أنه لم يسمح للأم ولا لابنتها بأن ترى إحداهما الأخرى، ومنعا من الاتصال ببعضهما، ومع ذلك فإنهما تراسلا، وتعد رسائل كاثرين من أعظم الرسائل المؤثرة في الأدب بأسره. وعرض هنري عليهما دارين آخريين أفضل من داريهما، إذا اعترفتا بملكته الجديدة، فرفضتا. وعينت آن بولين عمتها مربية لماري وأمرتها بأن تحتفظ "بإبنة السفاح" وتلزمها حدها بـ "لكمة على الأذنين بين آن وآخر(62)". ومرضت كاثرين في ديسمبر سنة 1535 وكتبت وصيتها وبعثت برسالة للإمبراطور تطلب منه حماية ابنتها ووجهت وداعاً مؤثراً لـ "سيدها وزوجها العزيز" الملك.

"إن ساعة وفاتي تقترب ولا حيلة لي إلا أن أنصحك، بحكم ما أكنه لك من حب، بأن تعنى بطهارة روحك التي يجب أن تؤثرها على كل الاعتبارات في الدنيا، أو على أي جسد تشتهيه مهما كان، والذي من أجله قذفت بي في كوارث عديدة، وبنفسك في متاعب كثيرة، ولكني أغفر لك كل شيء، وأرجو الله أن يغفر لك أيضاً، وبالنسبة للباقي أوصيك خيراً بابنتنا ماري، وأتوسل إليك أن تكون لها أباً صالحاً... وأخيراً فإني أردد هذا القسم بأن عيني تريدان أن تبصراك فوق كل شيء وداعاً(63").

وبكى هنري عندما تسلم الرسالة، وعندما ماتت كاثرين (7 يناير سنة 1536) بالغة من العمر خمسين عاماً، أمر الحاشية بإعلان الحداد، فرفضت آن(64).

ولم تستطع آن أن تعرف أنها ستموت أيضاً في خلال خمسة شهور، ولكنها أدركت أنها خسرت الملك، فقد أدى طبعها الحاد وسورات غضبها المتسمة بالصلف، ومطالبها التي تبعث على الضجر، إلى إنهاك هنري الذي رأى أن لسانها السليط يتناقض مع رقة كاثرين(65). وفي اليوم الذي دفنت فيه كاثرين ولدت آن طفلاً ميتاً. وبدأ هنري الذي كان لا يزال يتلهف على ولد يفكر في طلاق آخر - أو في بطلان الزواج كما سوف يفعل، وروي عنه أنه قال إن زواجه الثاني تم تحت إغراء السحر، ومن ثم فإنه باطل(66). وبدأ من أكتوبر سنة 1535 يولي اهتماماً خاصاً بإحدى وصيفات آن وهي جين سيمور. وعندما أنبته آن أمرها بأن تتحمله في صبر، كما فعل مَن هن أفضل منها(67)، ولعله انتهج حيلاً قديمة عندما اتهمها بالخيانة. إذ يبدو إنه مما لا يصدق أن تخاطر حتى امرأة نزقة بعرشها بلحظة تبذل، ولكن يبدو أن الملك كان قد آمن في إخلاص بأنها مذنبة. وأشار إلى الشائعات الدائرة عن غرامياتها التي وصلت إلى مجلسه، فاستقصي الأمر وأبلغ الملك أنها اقترفت الزنا مع خمسة أعضاء من البلاط، هم سير وليام بريتون، وسير هنري نوريس، وسير فرانسيس وستون، ومارك سمينون، وأخيها اللورد روشوورد، وأرسل الرجال الخمسة إلى البرج وتبعتهم آن في اليوم الثاني من مايو سن 1536.

وكتب لها هنري يعللها بالآمال في الصفح عنها والرفق بها إذا كانت صادقة معه. فردت بأنها ليس لديها ما تعترف به. وزعم خدمها في السجن أنها أقرت بأنها تلقت عرضين بتبادل الحب مع نوريس ووستون، بيد أنها ادعت أنها صدمتهما. وفي يوم 11 مايو وبعد أن طلب من هيئة المحلفين الكبرى في مدلسكس أن تقوم بتحقيق محلي في الجرائم التي يقال إن الملكة قد ارتكبتها في تلك البلاد، أبلغت أنها وجدتها مذنبة لاقترافها الزنا مع جميع الرجال الخمسة المتهمين، وقدمت أسماء وتواريخ معينة(68). وفي

يوم 12 مايو حوكم أربعة من هؤلاء الرجال في وستمنستر أمام هيئة محلفين، منهم والد آن الإيرل أف ولتشاير. واعترف سميتون أنه مذنب كما اتهم، أما الآخرون فدافعوا عن أنفسهم بأنهم غير مذنبين وحكم بإدانة الأربعة جميعاً. وفي يوم 15 مايو حوكمت آن هي وأخوها أمام جماعة مكونة من ستة وعشرين نبيلاً برئاسة الدوق أف نورفولك وهو عمها، ولكنه عدوها السياسي. وأكد الشقيقان أنهما بريئان، ولكن كل عضو من جماعة القضاة أعلن أنه مقتنع بأنهما مذنبان، وحكم عليهما بأن يحرقا أو يقطع رأساهما كما يتراءى للملك. وفي يوم 17 مايو شنق سميتون، أما الرجال الأربعة الآخرون فقد قطعت رءوسهم كما يليق برتبهم. وفي ذلك اليوم طلب وكلاء الملك من رئيس الأساقفة كرانمر أن يعلن عدم صحة الزواج بآن وأن اليزابث ابنة سفاح فأذعن. ولا تعرف الأسس التي بني عليها هذا الحكم، ولكن يظن أن زواج آن السابق المزعوم بلورد نورثمبرلاد أعلن وقتذاك أنه حقيقي.

وركعت آن عشية وفاتها أمام لادي كنجستون زوجة الحارس وطلبت منها منة أخيرة: أن تذهب وتركع أمام ماري، تتوسل إليها باسم آن أن تصفح عن الأخطاء التي ارتكبت في حقها، بسبب كبرياء امرأة تعسة غير متبصرة(69)، وطلبت أن ينفذ فيها حكم الإعدام فوراً يوم 19 مايو. والظاهر أنها استمدت شيئاً من العزاء من فكرة خطرت لها هي: "لقد سمعت أن الجلاد بارع جداً ولي عنق صغير" - ومن أجل ذلك ضحكت واقتيدت ظهر ذلك اليوم إلى منصة المقصلة، وطلبت من المشاهدين أن يصلوا من أجل الملك "لأنه ليس هناك أمير يبزه في الرقة والرأفة(70)"، ولم يكن هناك أحد يقطع بأنها مذنبة، ولكن قليلين أسفوا لسقوطها.

وفي يوم وفاتها منح كرانمر للملك محللاً بالزواج مرة أخرى في سعيه المتجدد للحصول على ولد، وفي اليوم التالي خطب هنري، جين سيمور سراً، وتزوجا يوم 30 مايو 1536، ونودي بها ملكة يوم 4 يونيه. وكانت سليلة أسرة ملكية، إذ أنها تنحدر من ادوارد الثالث، وكانت لها صلة قرابة من الدرجة الثالثة أو الرابعة بهنري، مما دعا إلى الحصول على محلل آخر من كرانمر المطيع. ولم تكن تتمتع بجمال خاص، بيد أنها أثرت في الجميع بذكائها ورقتها بل وتواضعها، ووصفها الكاردينال بول خصم هنري اللدود بأنها: "ممتلئة بالطيبة"، ولم تشجع محاولات الملك التقرب بها إبان حياة آن، ورفضت قبول هداياه، وأعادت رسائله دون أن تفتحها، وطلبت منه ألا يحدثها إلا في حضور آخرين(71).

وكان أول عمل تم بعد الزواج هو القيام بالتوفيق بين هنري وماري. وقام هنري به بطريقته الخاصة فأمر كرومويل بأن يبعث لها برسالة عنوانها: "إعتراف لادي ماي". وهي تعترف بالملك رئيساً أعلى للكنيسة في إنجلترا وتنكر "سلطة أسقف روما المزعومة"، وتعترف أن زواج هنري بكاثرين "من قبيل سفاح القربى وغير شرعي". وطلب من ماري أن توقع باسمها على كل جملة، ووقعت ولم تصفح عن نفسها قط. وبعد ثلاثة أسابيع أقبل الملك والملكة لرؤيتها وقدما إليها هدايا و 1000 كراون، وأطلق عليها مرة أخرى لقب أميرة، وفي يوم عيد الميلاد لعام 1536 استقبلت في البلاط، وهناك لابد أن شيئاً طيباً كان في هنري وفي "ماري الدموية" - لأنها كادت تتعلم في السنوات الأخيرة أن تحبه.

وعندما اجتمع المجلس النيابي مرة أخرى (18 يونيه سنة 1536) أصدر بناء على طلب الملك قانوناً جديداً بوراثة العرش وبمقتضاه أعلن أن اليزابث وماري على السواء بنتان غير شرعيتين، وتقرر أن يقتصر التاج على الذرية المتوقع أن تنجبها جين سيمور.

ومات الدوق آن رتشموند ابن هنري غير الشرعي، وتعلقت آمال الملك كلها في حمل جين. وهللت إنجلترا معه عندما ولدت "12 أكتوبر سنة 1537" ولداً هو أدوارد السادس في المستقبل. بيد أن جين المسكينة التي ارتبط بها الملك وقتذاك ارتباطاً عميقاً، بقدر ما سمحت روحه، التي تتركز حول ذاته، ماتت بعد ولادة ابنها بأثنى عشر يوم. وظل هنري رجلاً محطماً بعض الوقت. وعلى الرغم من أنه تزوج مرة أخرى ثلاث مرات فانه طلب عند وفاته أن يدفن بجانب المرأة التي ضحت بحياتها في سبيل حمل ابنه.

ماذا كانت ردود الفعل لدى الشعب الإنجليزي بالنسبة لأحداث هذا العهد المضطرب؟ من الصعب أن نقول شيئاً، فالدليل فيه تحامل ويكتنفه الغموض ومشتت. وروى شابويس عام 1533 أن رأي الكثيرين من الإنجليز أن "الملك رتشارد السابق لم يكن قط مكروهاً من شعبه إلى هذا الحد مثل هذا الملك(72)". وقد تعاطف الشعب بوجه عام مع رغبة هنري في الحصول على ولد، وأدان قسوته على كاثرين وماري ولم يذرف دموعاً على آن، ولكنه صدم صدمة عميقة بإعدام فيشر ومور. وكانت أغلبية الأمة السابقة لا تزال تدين بالكاثوليكية(73)، وكان رجال الأكليروس - بعد أن حققت الحكومة وقتذاك لنفسها موارد الأساقفة حديثي التعيين في السنة الأولى - يأملون في التوفيق مع روما. ولكن لم يجرؤ أحد على أن يرفع صوته بنقد الملك. وتلقى نقداً، ومن إنجليزي ولكن مع وجود القتال بينه وبين ذراع الملك.

كان ريجينالد بول ابن مرجريت بلانتا حينت كونتيسة سالزبوري، وهي نفسها ابنة أخ أدوارد الرابع ورتشارد الثالث. وقد تعلم على نفقة هنري، وكان يتسلم مرتباً من الملك قدره 500 كراون كل عام، والظاهر أنه كان يعد لتولي أعلى المناصب في الكنيسة الإنجيلية. ودرس في باريس وبادوا، وعاد إلى إنجلترا، وهو يتمتع بحظوة كبيرة لدى الملك، ولكن عندما أصر هنري على سماع رأيه في الطلاق، رد ريجينالد صراحة أنه لا يستطيع أن يوافق عليه ما لم يصدق عليه البابا. ولم يقطع هنري مرتب الشاب وسمح له بالعودة إلى القارة.

وهناك لبث بول اثنين وعشرين عاماً وارتفع في تقدير البابا باعتباره عالماً ومتضلعاً في اللاهوت، ونصب كاردينالاً وعمره ستة وثلاثون عاماً (1536). وألف في ذلك العام باللاتينية رسالة هجوم على هنري هي دفاع عن وحدة الكنيسة. ورأى أن الأخذ بسيادة هنري على الشئون الكنسية في إنجلترا يدعو إلى الانقسام بين أبناء الديانة المسيحية وتشعبهم إلى قوميات منوعة، وأن التصادم الناتج بين العقائد سيؤدي إلى فوضى اجتماعية وسياسية في أوربا. واتهم هنري بأنه مصاب بجنون حب الذات والحكم المطلق. ولام الأساقفة الإنجليز على تسليمهم بعبودية الكنيسة للدولة. وندد بالزواج من آن باعتباره زنا، وتنبأ (ولم يكن هذا من الحكمة إلى حد كبير) بأن النبلاء الإنجليز سوف يعدون اليزابث "ابنة سفاح لعاهرة إلى الأبد(74)"، وطالب شارل الخامس بألا يضيع أي ذخيرة حربية في حرب الأتراك وأن يحول القوات الإمبراطوريّة للقتال ضد ملك إنجلترا الكافر. كانت رسالة طعن شديدة، أتلفتها كبرياء الشباب في الفصاحة. واشار الكاردينال كونتاريني على المؤلف بالا ينشر الرسالة، بيد أن بول أصر، وأرسل نسخة إلى إنجلترا.

وعندما نصب بولس الثالث بول كاردينالاً اعتبر هنري هذا عملاً من أعمل الحرب. وتخلى الملك عن كل فكرة تدور حول المصالحة، واتفق مع كرومويل على أن الأديار في إنجلترا يجب أن تحل، وأن تضم أملاكها إلى التاج.