قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 23
صفحة رقم : 8549
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> هنري الثامن والكاردينال ولزي -> ملك واعد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثالث والعشرون: هنري الثامن والكاردينال ولزي 1509 - 1529
ملك واعد 1509 - 1511
لم يكن أحد ممن رأوا الفتى الذي ارتقى عرش إنجلترا عام 1509 يتنبأ بأنه هو البطل والغد معاً في أكر حكم درامي في التاريخ الإنجليزي. وعندما كان غلاماً في الثامنة عشرة من عمره كانت بشرته الرقيقة وتقاطيعه المنتظمة تجعله جذاباً كالفتاة أو يكاد، بيد أن ما يتمتع به من قوام رياضي وجرأة سرعان ما قضى على أي مظهر للأنوثة فيه. وتبارى السفراء الأجانب مع المادحين والطنيين في الثناء على شعره الأصحم، ولحيته الذهبية و "ربلة ساقه الفائقة الجمال" وفي تقرير كتبه جيوستنياني إلى مجلس شيوخ البندقية قال: "إنه مغرم بالتنس، وإن أجمل شيء في الوجود أن تراه وهو يلعب، وبشرته الجميلة تتألق من خلال قميص نسيجه جد رقيق(1)"، وكان في الرمي بالسهام والمصارعة يضارع أحسن الأبطال في مملكته ولم يكن يبدو عليه في الصيد قط أي تعب، وكان يخصص يومين كل أسبوع للمبارزات، ولم يكن في وسع أحد أن ينافسه إلا الدوق سفولك. وكان موسيقياً مثقفاً أيضاً، و "غنى وعزف على كل ضروب الآلات وأظهر موهبة نادرة"، (كما كتب القاصد الرسولي للبابا) ولحن قداسين لا يزالان باقيين، وكان يعشق الرقص وحفلات المساخر ومظاهر الأبهة والثياب الجميلة. ويروقه أن يكسو نفسه ثياباً من فرو الفاقوم أو أردية أرجوانية، وكان القانون ينص على أن له وحده الحق في ارتداء الديباج الأرجواني أو الذهبي، وكان يأكل بتلذذ، ويصل أحياناً مآدب الغذاء الرسمية إلى بع ساعات، ولكنه في السنوات العشرين الأولى من حكمه كبح جماح شهيته. وكان كل الناس يحبونه ويعجبون بسماحة أخلاقه اللطيفة وسهولة الوصول إلى قلبه ومرحه وتسامحه وحلمه. ورحب الناس بارتقائه العرش وكأنه إيذان بفجر عصر ذهبي.
واغتبطت الطبقات المتعلمة أيضاً لأن هنري في أيام السكون تلك كان يطمح أن يكون عالماً بطلاً رياضياً على السواء وموسيقياً وملكاً، ولما كان قد أعد في الأصل ليكون من رجال الدين فقد أصبح على دراية بعض الشيء باللاهوت، وكان في وسعه أن يستشهد بآيات من الكتاب المقدس لأي غرض. وكان له ذوق جميل في الفن، واقتنى مجموعة تدل على درايته، وكان حكيماً في اختياره هولبين لتخليد كرشه. وقام بدور فعال في أعمال الهندسة وبناء السفن والتحصينات والمدفعية. وقال عنه سير توماس مور: "إنه أعلم من أي ملك انجليزي قبله(2)" - وليس هذا بالثناء العظيم. وتابع مور كلامه قائلاً: "ما الذي لا نتوقعه من ملك غذي بلبان الفلسفة وربات الفنون التسع(3)؟" وكتب مونتجومري مبهوتاً إلى إرازموس، وكان حينذاك في روما، يقول: "ما الذي لا تعلل به نفسك من أمير تعلم جيداً ما فطر عليه من موهبة خارقة وخلق يكاد يكون إلهياً؟ ولكن عندما تعرف أي بطل يقيم الآن الدليل عليه، وكيف يتصرف بحكمة، وأي محب للعدالة والخير، وأي مودة يحملها للمتعلمين، فإني أتجاسر وأقسم لك بأنك لن تكون في حاجة إلى جناحين تطير بهما لتشهد هذا النجم الجديد السعيد.
أواه يا إرازموس العزيز. لو أنك استطعت أن ترى كيف أن العالم بأسره هنا مبتهج لأن عنده أميراً عظيماً كهذا، وكيف أن حياته هي كل ما يبتغون فلن تتمالك نفسك من أن تذرف دموع الفرح. إن السموات لتضحك والأرض لتبتهج(4)".
وجاء أرازموس وشارك في هذا الهذيان لحظة. وكتب يقول: "فيما مضى كان قلب المعرفة بين مَن يزعمون أنهم من رجال الدين، والآن بينما ينصرف هؤلاء في الأغلب الأعم إلى شهوات البطون والترف والمال فإن حب العلم ذهب منهم إلى الأمراء العلمانيين والحاشية والنبلاء وإن الملك لا يقبل في بلاطه رجالاً مثل مور فحسب، بل إنه يدعوهم ويجبرهم - على أن يرقبوا كل ما يفعل وأن يشاطروه تبعاته وملذاته. وهو يفضل صحبة رجال مثل مور على صحبة الأغبياء من الفتيان أو الفتيات أو الأغنياء(5)". وكان مور أحد أعضاء مجلس الملك وليناكر طبيب الملك وكوليه واعظ الملك في كنيسة القدّيس بولس.
وفي السنة التي ارتقى فيها هنري العرش، أنفق كوليه الجانب من الثروة التي ورثها عن أبيه لتأسيس مدرسة القدّيس بولس. واختير نحو 150 طبيباً لكي يدرسوا هناك الأدب الكلاسي واللاهوت المسيحي وعلم الأخلاق، وخالف كوليه التقاليد بتعيين مدرسين علمانيين في المدرسة، وكانت أول مدرسة غير أكليروسية في أوربا. وعارض "الطرواديون" الذين كانوا ينددون في أكسفورد بتدريس الكلاسيات، برنامج كوليه بحجة أنه يؤدي إلى الشك الديني، بيد أن الملك حكم ضدهم ومنح كوليه تشجيعه الكامل. وعلى الرغم من أن كوليه نفسه كان محافظاً في عقيدته ومثالاً للتقوى، فإن أعداءه اتهموه بالهرطقة، فأخرسهم وارهام كبير الأساقفة وأذعن هنري. وعندما رأى كوليه أن هنري يميل إلى الحرب مع فرنسا ندد علناً بسياسته وأعلن، كما فعل أرازموس، أن سلاماً ظالماً خير من أعدل الحروب. وندد كوليه بالحرب، حتى وهو مجتمع بالملك في الصلاة، باعتبارها صفعة في وجه تعاليم المسيح، ورجاه هنري على انفراد ألا يضعف معنويات الجيش، ولكن عندما حرض الملك على أن يخلع كوليه أجاب قائلاً: "ليكن لكل إنسان قسيسه الخاص... إن هذا الرجل هو قسيسي(6)". واستمر كوليه يفسر تعاليم المسيحية تفسيراً جاداً. وكتب إلى أرازموس (1517) يقول بروح توما أكمبي: آه يا أرازموس لا حد هناك لكتب المعرفة، وليس هناك أفضل من أن نعيش حياة طاهرة مقدسة في هذا الأجل القصير الذي كتب علينا وأن نبذل جهدنا في حياتنا اليومية، وأن نتطهر ونتثقف... بالحب المتأجج والاقتداء بيسوع. ولهذا فإن أعظم رغباتي إلحاحاً هي أن نسير قدماً، معرضين عن كل السبل غير المباشرة مؤثرين بطريقة قصيرة توصل إلى الحقيقة. وداعاً(7).
وفي عام 1518 أعد قبره البسيط ولم ينقش عليه إلا اسم جوهانس كوليتس ودفن فيه، بعد عام، وأحس كثيرون أن قديساً قد مات.
ولزى
كان هنري، الذي قدر له أن يصبح تجسيداً لأمير مكيافيلي، لا يزال بعد حدثاً بريئاً في السياسة الدولية. وعرف حاجته إلى الإرشاد وجعل من الرجال حوله نماذج. وكان مور ذكياً بيد أنه لم يتعدَ الحادية والثلاثين، وكان يميل إلى الطهارة والتقوى. وكان توماس ولزى يكبره بثلاثة أعوام فحسب، وكان قساً إلا أن اتجاهه بأكمله للسياسة، والدين عنده جزء من السياسة. وقد ولد توماس في ابسوتش من "أصل وضيع ودم خسيس" (هكذا وصفه جويكيا رديني المعتز بنفسه)(8). وقد استوعب مقرر شهادة البكالوريا في أكسفورد وهو في الخامسة عشرة من عمره، وعندما بلغ الثالثة والعشرين عمل صرافاً في كلية مجادلين، وأظهر كفاءته باستخدام مبالغ مناسبة، تتجاوز السلطة المخولة له، لإتمام البرج الرائع لتلك القاعة. وعرف كيف ينجح. وأظهر فطنة في الإدارة والمفاوضة فقام بالوعظ في سلسلة من الكنائس ليخدم هنري السابع بتلك المقدرة والدبلوماسية.
وعندما ارتقى هنري الثامن العرش عينه موزعاً للصدقات - مديراً للبر والإحسان. وسرعان ما أصبح القس عضواً في المجلس الخاص. وأفزع واهرام كبير الأساقفة بدفاعه عن عقد حلف عسكري مع أسبانيا ضد فرنسا، وكان لويس الثاني عشر يغزو إيطاليا، ومن المحتمل أن يجعل البابوية تابعة لفرنسا من جديد. وعلى أية حال فإن فرنسا لابد أن تصبح قوية جداً. وخضع هنري في هذا الأمر لولزى وحميه فرديناند ملك أسبانيا، وكان هو نفسه يجنح في هذا الوقت للسلم. وقال لجيوستنياني: "إني راضٍ بما أملك، ولا أود أن أحكم إلا رعاياي، ولكني من جهة أخرى لا أقبل أن يبلغ أحد من القوة ما يجعله يتحكم في"(9)، ويكاد هذا يلخص حياة هنري السياسية. فقد ورث ادعاء الملوك الإنجليز أن لهم الحق في تاج فرنسا، ولكنه عرف أنه ادعاء أجوف. ووهنت الحرب سريعاً في موقعة المهاميز (1513). ودبر ولزى للسلام وأغرى لويس الثاني عشر بالزواج من ماري شقيقة هنري، وسر ليو العاشر لنجاته فعين ولزى رئيساً لأساقفة يورك (1514). وكاردينالاً (1515)، وعينه هنري، المنتصر، حاجباً (1515). وفاخر الملك لأنه حمى البابوية، وعندما رفض أحد البابوات أن يتولى فيما بعد تيسير زواجه عد هذا جحوداً.
وكانت السنوات الخمس الأولى التي قضاها ولزى في منصب الحاجب من أعظم السنوات توفيقاً في سجل الدبلوماسية الإنجليزية. وكان يهدف إلى تنظيم السلام في أوربا باستخدام إنجلترا وسيلة لحفظ التوازن في القوى بين الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة وفرنسا، وكان المفروض أن مما يدخل أيضاً في دائرة سلطانه أن يصبح حكماً لأوربا وأن يكون السلام في القارة في مصلحة تجارة إنجلترا الحيوية مع الأراضي المنخفضة. وتفاوض كخطوة أولى، لعقد حلف بين فرنسا وإنجلترا (1518)، وخطب ماري ابنة هنري البالغة من العمر عامين (أصبحت ملكة فيما بعد) إلى ابن فرانسيس الأول البالغ من العمر سبعة شهور، ولا شك أن ميله للضيافة الكريمة قد كشف عنه ما حدث عندما حضر المبعوثون الفرنسيون إلى لندن لتوقيع الاتفاقيات، فقد أقام لهم وليمة في قصر وستمنستر، قدم لهم فيها عشاء، قال عنه جيوستنياني: "أن مثيله لم يقدم قط، على مائدة كليوباترة وكاليجولا، وأن قاعة المأدبة بأسرها زينت بزهريات ضخمة من الذهب والفضة(10)". غير أن الكاردينال المحب للدنيا يلتمس له العذر، فقد كان يقامر ليكسب رهاناً عظيماً، فكسب. وأصر على أن يكون الحلف مفتوحاً لينضم إليه الإمبراطور مكسمليان الأول وشارل الأول ملك أسبانيا والبابا ليو العاشر، ودعوا للانضمام إليه فقبلوا، وابتهج أرازموس ومور وكوليه، إذ داعبهم الأمل في أن يكون فجر عهد للسلام قد أشرق على العالم المسيحي بأسره. وتلقى ولزى التهاني حتى من أعدائه. وانتهز الفرصة لرشوة المندوبين الإنجليز(11) في روما لكي يضمن تعيينه قاصداً رسولياً للبابا في صف بريطانيا والعبارة تعني "في صف" وموضع ثقة، وكان أرفع تعيين لمبعوث بابوي. وكان ولزى وقتذاك الرئيس الأعلى للكنيسة الإنجليزية وحاكم إنجلتري - مع ولاء استراتيجي لهنري.
وعكر صفو السلام بعد عام تنافس فرانسيس الأول وشارل الأول على العرش الإمبراطوري. بل إن هنري رأى أن يقذف بقلنسوته في الحلبة غير أنه لم يجد رجلاً مثل فوجر. وزار الفائز، وهو وقتذاك شارل الخامس، انجلترا زيارة قصيرة (مايو سنة 1520) وقدم إحتراماته لعمته كاترين الأراجونية، الملكة زوجة هنري، وعرض أن يتزوج الأميرة ماري (التي كانت مخطوبة بالفعل لولي عهد فرنسا)، إذا وعدت إنجلترا أن تؤيد شارل في أي نزاع بينه وبين فرنسا، وهكذا السلام، أمر غير طبيعي، فرفض ولزى ولكنه قبل من الإمبراطور مرتباً قدره 7.000 دوكات، وانتزع منه تعهداً بأن يساعده على أن يصبح بابا.
وحقق الكاردينال الذكي أعظم انتصار باهر له بتدبير لقاء بين العاهلين الفرنسي والإنجليزي في ميدان كلوث أف جولد (يونيو 1520). وهناك في أرض فضاء مكشوفة بين جين وآردر قرب كاليه برز فن العصر الوسيط والفروسية في روعة الغروب. وانطلق أربعة آلاف نبيل إنجليزي، اختارهم الكاردينال وعينهم، وكانوا يرتدون الملابس الحريرية والمزركشة والمخرمات من أزياء القرون الوسطى المتأخرة، في صحبة هنري بينما امتطى الملك الشاب ذو اللحية الحمراء صهوة فرس صغيرة لملاقاة فرانسيس الأول. وأخيراً وليس آخراً، أقبل ولزى نفسه مرتدياً ثياباً قرمزية من الأطلس ينافس بها أبهة الملوك. وقد شيد على عجل قصر لاستقبال صاحبي الجلالة ومرافقيهما من السيدات والموظفين، وأقيمت سقيفة يكسوها قماش تتخلله خيوط ذهبية، وتتدلى منه طنافس ثمينة ليظلل المؤتمر والمآدب، وكانت هناك نافورة يسيل منها النبيذ، وأخليت مساحة لألعاب الفروسية الملكية، وتدعم الحلف السياسي والعسكري بين الأمتين، وتبارى العاهلان السعيدان في المبارزة بل تصارعا، وخاطر فرانسيس بسلام أوربا بطرحه الملك الإنجليزي، وأصلح خطواته الخاطئة بكياسة فرنسية لا نظير لها بالذهاب مبكراً ذات صباح وهو مجرد من السلاح مع بعض الأتباع غير المسلحين، لزيارة هنري في المعسكر الإنجليزي - وكانت لفتة تدل على الثقة الودية فهمها هنري. وتبادل الملكان الهدايا الثمينة والأيمان المغلظة. والحق أن أحداً منهما لم يستطع أن يثق بالآخر، لأن التاريخ علمهم درساً مفاده أن الرجال يكذبون كثيراً عندما يحكمون دولاً. وبعد سبعة عشر يوماً أمضاها هنري ينعم بالولائم مع فرانسيس، انطلق ليمضي ثلاثة أيام في مؤتمر مع شارل في كاليه (يوليه سنة 1520). وهناك أقسم الملك والإمبراطور، في حضور ولزى، على الصداقة الأبدية واتفقا على ألا يقدما على خطوات أخرى لتنفيذ خطتيهما للزواج من الأسرة المالكة في فرنسا. وكانت هذه الأحلاف المنفصلة أساساً أشد قلقلة للسلام الأوربي من الاتفاق الودي متعدد الجوانب الذي كان ولزى قد دبر له قبل وفاة مكسمليان. وإن كان قد ترك إنجلترا في وضع الوسيط، والحكم في الواقع - وهو وضع أسمى بكثير من أي وضع يمكن أن يعتمد على ثروة الإنجليز أو سلطانهم. وكان هنري راضياً. وأمر رهبان سانت البانز باختيار ولزى رئيساً لديرهم ومنحه صافي دخلهم، وذلك مكافئة لحاجبه، لأن "سيدي الكادينال قد تحمل الكثير من التكاليف في هذه الرحلة". وأذعن الرهبان ووصل دخل ولزى إلى ما يقرب من احتياجاته.
وكان، على نطاق أوسع بكثير من معظمنا، مزيجاً من الفضائل والنقائض المركبة، وكتب جيو ستنياني يقول: "إنه وسيم جداً، فصيح للغاية، واسع المقدرة، لا يكل ولا يمل(12)". وكانت أخلاقه لا تخلو من الشوائب، فقد انزلق مرتين إلى الأبوة غير الشرعية، وكانت تعد من الهفوات التي تغتفر في ذلك العصر الطروب. ولكن إذا صدقنا ما قاله اسقف، فغن الكاردينال كان يعاني من "الزهري(13") وقبل ما يمكن، أو ما لا يمكن أن يسمى بالرشا - هدايا عظيمة من المال تلقاها من فرانسيس وشارل على السواء، وحرص على أن يجعلهما يتنافسان على أن يأمرا له بمرتبات وهبات سخية قدماها، وكانت هذه من آداب مجاملة العصر، وأحس الكاردينال المبذر، الذي شعر بأن سياسته تخدم أوربا بأسرها، بأن أوربا كلها يجب أن تخدمه. وليس من شك في أنه كان يحب المال والترف والأبهة والسلطان. وكان جانب كبير من دخله يصرف في الحفاظ على مؤسسة قد يكون تبذيرها السطحي أداة من أدوات - الدبلوماسية، صممت لكي تعطي السفراء الأجانب فكرة مبالغاً فيها عن الموارد الإنجليزية. ولم يدفع هنري أي مرتب لولزى ولهذا كان على الحاجب أن يعيش ويولم لضيوفه على حساب موارده الكنسية ومرتباته التي يتقاضاها من الخارج. وحتى لو كان الأمر على هذا النحو فإننا قد نعجب لأنه احتاج لكل الدخل الذي كان يحصل عليه باعتباره صاحب الحق في دخل أبرشيتين، وست رواتب للقسس، ومرتب رئيس جامعة، ومرتب باعتباره رئيساً لدير سانت البانز وأسقفاً لباث وولز، ورئيساً لأساقفة يورك ومديراً لأبرشية ونشستر وشريكاً لأسقفي ورسستر وسالزبوري الإيطاليين الغائبين(14). وكان له تقريباً الحق في الرئاسة الدينية والسياسية بأسرها في المملكة والمفروض أنه كان ينال مكافئة عن كل تعيين يتم. وقدر مؤرخ كاثوليكي أن ولزى كان يتلقى في أوج مجده ثلث دخول الكنيسة في إنجلترا(15). كان أغنى وأقوى الرعايا في الأمة. ومن رأي جيوستنياني أنه كان "أقوى من البابا- بسبعة أضعاف(16)" ويقول أرازموس: "إنه الملك الثاني" ولم يبقَ أمامه إلا خطوة واحدة- يقوم بها- البابوية. وحاول ولزى الحصول عليها مرتين، ولكن شارل الداهية فاقه في تلك اللعبة، متجاهلاً وعوده.
واعتقد الكاردينال أن التمسك بالمراسيم دعامة القوة، ويستطيع المرء بالقوة أن يبوأ السلطة ولكنه لا يستطيع أن يدعمها بثمن بخس وفي هدوء وسلام إلا بالتعود عليها أمام الجمهور، والناس تحكم على سمو المرء بمقدار تمسكه بالرسمية التي يحتمي بها. ولهذا فإن ولزى كان يظهر في الحفلات العامة والرسمية مرتدياً أفخر الملابس الرسمية التي خيل إليه أنها مناسبة لمثل كل من البابا والملك. قبعة كردينال حمراء، وقفازين حمراوين، وأردية من التافتاه القرمزة وحذاء من الفضة أو مموهاً بالذهب، ومرصعاً باللآلئ والأحجار الكريمة - ها هو ذا أنوسنت الثالث وبنيامين دزرائيلي وبروفل الجميل اجتمعوا معاً في شخص واحد. كان أول مَن لبس الحرير(17) بين رجال الدين في إنجلترا. وعندما كان يردد القداس (وهو أمر نادر) كان شمامسته من الأساقفة والرهبان، وفي بعض المناسبات كان النبلاء من حملة ألقاب دوق وايرل يصبون الماء الذي يغسل به يديه المقدستين. وأذن لتابعيه أن يركعوا وهم يخدمونه على المائدة. وخدمه في مكتبه وبيته خمسمائة شخص(18)، كثير منهم من ذوي النسب العريق. وكانت قلعة هامبتون التي شيدها لتكون مقراً له باذخة جداً إلى حد أنه أهداها للملك (1525) ليتقي شر حسده. ومهما يكن من أمر فإنه نسي أن هنري كان ملكاً. وكتب جيوستنياني إلى عضو شيوخ من البنادقة: "لدى وصولي لأول مرة إلى إنجلترا اعتاد الكاردينال ان يقول لي إن جلالته سوف يفعل كذا وكذا". وبعد ذلك - بالتدريج نسي نفسه وبدأ يقول: "سوف نفعل كذا وكذا" أما الآن يقول: "سأفعل كذا وكذا"(19)، وكتب السفير مرة أخرى يقول: "إذا كان لابد من إغفال أمر الملك أو الكاردينال فمن الأفضل التغاضي عن الملك، فالكاردينال قد يستاء من السبق الذي يسلم به للملك(20)" وقلما كان الأشراف والدبلوماسيون يحصلون على الأذن بالمثول في حضرة الحاجب قبل تقديم الالتماس الثالث. وكلما مر عام كان الكاردينال يحكم صراحة حكماً مطلقاً يشتد يوماً بعد يوم، واستدعى المجلس النيابي مرة إبان رئاسته، وكان قليل الاهتمام بالأشكال الدستورية، وقابل المعارضة بالاستياء والنقد والزجر. وكتب المؤرخ بوليدر فرجيل يقول: "إن هذه الوسائل سوف تؤدي إلى سقوط ولزى" فأرسل فرجيل إلى البرج، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن تشفع له ليو العاشر مراراً. واشتدت المعارضة.
ولعل مَن عزلهم ولزى أو أدبهم هم الذين اعتصموا بآذان التاريخ، ونقلوا آثامه كما هي بلا غفران، إلا أن أحداً لم ينازع في مقدرته، أو انصرافه في مثابرة لكثير من مهامه. وقال جيوستنياني لعضو الشيوخ من البندقية المعتز بنفسه "إنه ينجز من العمل قدر ما يشغل كل القضاة وموظفي المكاتب والمجالس في البندقيو، في المحاكم المدنية والجنائية على السواء، وهو يدير كذلك كل شئون الدولة مهما كانت طبيعتها(21)". وكان محبوباً من الفقراء، مكروهاً من الأقوياء بسبب عدم تحيزه في تطبيق العدالة. وفتح بلاطه لكل مَن يشكون من الاضطهاد، ولا تكاد توجد سابقة لهذا في التريخ الإنجليزي بعد الفرد. وكان ينزل العقاب بالجاني الأثيم، مهما كان رفيع القدر(22)، دون خوف ولا وجل. وكان كريماً مع العلماء والفنانين وبدأ إصلاحاً دينياً بإحلال كليات محل أديار عديدة. وكان بصدد القيام بإصلاح مثير في التعليم الإنجليزي عندما تآمر ضده كل الأعداء الذين خلقهم اندفاعه في أعماله وقصر منظم كبير رائع، فتآمروا بخلق قصة خيالية ملكية لتدبير خطة لسقوطه.
ولزي والكنيسة
وأدرك المساوئ التي لا تزال باقية في حياة رجال الدين في إنجلترا، ضرب لها مثلاً عظيماً: أساقفة غائبين ورجال دين متعلقين بالدنيا، ورهباناً كسالى، وقساوسة وقعوا في شرك الأبوة. وكانت الدولة التي طالما دعت إلى إصلاح الكنيسة، مسئولة إلى حد ما عن الشرور، لأن الملوك كانوا يعينون الأساقفة. وكان بعض الأساقفة من أمثال مورتون، وواهرام وفيشر رجالاً على خلق رفيع، ذوي مقدرة عظيمة، وكان كثير من الآخرين منغمسين جداً فيما تتيحه لهم الأسقفية من حياة وادعة، فلم يستطيعوا أن يدربوا اتباعهم من رجال الدين على الكفاءة من الناحية الروحية، وكذلك على المثابرة في تدبير المال. وربما كانت أخلاقيات الجنس عند القساوسة أفضل مما هي عند زملائهم في ألمانيا، ولكن لم يكن ثمة مفر من وجود حالات من التسري بين رجال الدين، ومن الزنا والسكر والجريمة في الأبرشيات البالغ عددها 8.000 في إنجلترا - وهي حالات - كثيرة دفعت كبير الأساقفة مورتون إلى أن يقول (1468): "إن ما يقترن بحياتهم من فضائح يعرض للخطر استقرار نظامهم(23)"، وأبلغ رتشارد فوكس، حوالي عام 1519، ولزى بأن رجال الدين في أسقفية ونشستر كانوا قد تردوا إلى هاوية كبيرة من الفسق والفساد، إلى حد أنه يئس من أن يشهد في حياته أية محاولة لإصلاح ديني(24). وارتاب القساوسة بالأبرشيات في أن ترقياتهم تتوقف على مقدار مقتنياتهم، فأخذوا يغتصبون ضرائب العشور أكثر مما فعلوا في أي وقت مضى. وكان البعض يستولي كل عام على عشر دجاج الفلاح وإنتاجه من البيض واللبن ولجبن والفاكهة، بل حتى من كل الأجور التي كانت تدفع لمعاونته، وكل إنسان لا يترك في وصيته ميراثاً للكنيسة يتعرض لخطر عظيم بحرمانه من الدفن طبقاً للطقوس المسيحية مع ما يترتب على ذلك من نتائج متوقعة مروعة إلى حد لا يمكن التفكير فيها. وبعبارة موجزة فرض رجال الدين مكوساً لتمويل مصالحهم في إصرار مثل الدولة الحديثة. وما أن حل عام 1500 حتى كانت الكنيسة تملك، وفقاً لتقدير كاثوليكي محافظ، حاولي خمس الأملاك بأسرها في إنجلترا(25). وحسد النبلاء هناك كما في ألمانيا رجال الدين على هذه الثروة وتلهفوا على استعادة الأراضي والدخول التي تنازل عنها لله أسلافهم الأتقياء أو الخائفون.
وأجمل دين كوليه حالة رجال الدين العلمانيين مع مبالغة واضحة في خطاب وجهه إلى جمعية رجال الكنائس عام 1512 فقال: "أود أخيراً وأنا عالم بشهرتكم ومهنتكم، أن تفكروا في إصلاح أمور الكهنوت لأنه لم يحدث من قبل أن كان الأمر محتوماً كما هو الآن... لأن الكنيسة - زوجة المسيح - التي تمنى ألا تشوبها شائبة أو تدب فيها الشيخوخة قد أصبحت دنسة مشوهة"، وكما يقول إشعيا: "كيف صارت القرية الأمينة زانية ". وكما يقول أرميا: "أما أنت فقد زنيت بأصحاب كثيرين" . وقد حملت بكثير من بذور الظلم وهي تنجب كل يوم أعظم الذرية دنساً. ولم يشوه شيء وجه الكنيسة مثل ما شوهته المعيشة العلمانية والدنيوية لرجال الدين... أي لحفة وجوع يشيعان في هذه الأيام بين رجال الدين بعد الشرف والوقار. وأي سباق تنقطع فيه الأنفاس من صدقة إلى صدقة ومن منفعة أقل إلى منفعة أكبر. ألم تغرق الشهوة إلى الجسد، ألم تغرق هذه الرذيل الكنيسة بالفيضان... ولهذا فليس هناك ما يسعى إليه في حرص الجانب الأكبر من القساوسة أكثر مما يهيئ لهم اللذة الحسية؟ إنهم لينصرفون إلى المآدب والولائم... ويقفون حياتهم وينصرفون إلى القنص والصيد بالصقور، وهم غارقون في مباهج هذه الحياة الدنيا. وقد تملك الجشع أيضاً... قلوب كل القسس... إلى حد أننا اليوم لا نرى شيئاً سوى ما يخيله لنا أنه كفيل بأن يعود علينا بمغنم، ونحن نعاني في هذه الأيام من الهراطقة - وهم رجال يتصفون بحماقة عجيبة، إلا أن هرطقتهم ليست وبائية خبيثة بالنسبة لنا وللناس مثل حياة رجال الدين الفاسدين الغاوين. ولابد أن يبدأ الإصلاح الديني بكم(26).
وصاح نائب الأسقف مرة أخرى وهو يتميز غيظاً: "أيها القساوسة... يا طائفة القسس... أواه! إن الضلال المقيت الذي يسدر فيه هؤلاء القساوسة التعساء، الذين يضم منهم عصرنا عدداً كبيراً لا يخشون الاندفاع من أحضان بغي دنسة إلى حرم الكنيسة، وإلى مذبح المسيح، وإلى أسرار العشاء الرباني(27)". بل إن رجال الدين النظاميين أو الرهبانيين تعرضوا لاستنكار شديد، فقد اتهم كبير الأساقفة مورتون عام 1489 الراهب وليام من دير البانز بـ "الاتجار في المقدسات والرتب والوظائف الدينية والربا والاختلاس والعيش علناً وباستمرار مع العاهرات والعشيقات داخل أرياض الدير وخارجه" واتهم الرهبان بأنهم يحيون حياة داعرة... كلا بل يدنسون الأماكن المقدسة، حتى كنائس الرب بالذات مضاجعة الراهبات الممقوتة، ويحولون ديراً ثانوياً مجاور إلى "ماخور عام"(28). وترسم سجلات الجولات التفتيشية الأسقفية صورة أقل إكفهراراً. فمن بين اثنين وأربعين ديراً تم التفتيش عليها بين عامي 1517 و 1530 وجد خمسة عشر ديراً لم تقترف فيها خطيئة كبيرة، وفي معظم الأديار الأخرى كانت جرائم التعدي على النظام أكثر منها على العفة(29). وكانت بعض الأديار لا تزال تمارس نظام الصلاة في القرون الوسطى والإقبال على العلم والضيافة والبر وتعليم الشباب. واستغل بعضها السذاجة وجمعت النقود من العامة لمخلفات وهمية نسبوا إليها شفاء معجزاً من الأمراض، وشكا أساقفة من "الأحذية المنتنة والأمشاط القذرة... والزنارات الرثة وخصلات الشعر والخرق القذرة المقررة والموصى بها للجهلة من الناس. باعتبارها مخلفات صحيحة لنساء أو رجال مقدسين(30).
وعلى الجملة فإن الأديار الستمائة في إنجلترا أظهرت، طبقاً لتقدير آخر مؤرخ كاثوليكي، سوء سلوك على نطاق واسع وكسلاً متلافاً وإهمالاً يكلف غالياً في رعاية أملاك الكنيسة(31).
وفي عام 1520 كان في إنجلترا نحو 130 ديراً للراهبات. منها أربعة فقط تضم ما يزيد على ثلاثين نزيلة(32). وألغى الأساقفة ثمانية أديار، وقال الأسقف في إحدى الحالات بسبب "الأخلاق الداعرة لنساء البيت وتبذلهن بسبب مجاورتهن لجامعة كمبرج(33)". وتمت ثلاث وثلاثون جولة تفتيشية لواحد وعشرين ديراً للراهبات في أبرشية لنكولن وقدمت عنها تقارير من بينها ستة عشر تقريراً مشجعاً، وأربعة عشر تقريراً تضمنت ملاحظات عن الافتقار إلى النظام أو الأخلاق وتقريران تحدثا عن راهبات كن يعشن في الخنا، وتقرير وجد راهبة حاملاً من قسيس(34). وكانت مثل هذه الانحرافات عن القواعد الصارمة تعد طبيعية في المناخ الأخلاقي السائد في تلك العصور، ولعل الخدمات الكريمة في التعليم والبر كانت ترجحها. وكان رجال الدين لا يتمتعون بالشعبية. وكتب يوستاس شابويس السفير الكاثوليكي لشارل الخامس في إنجلترا إلى مولاه عام 1529 فقال: "إن كل الناس يكرهون القساوسة"(35). وندد كثير من الناس، من المتشبثين بعقيدة المحافظين تماماً بقسوة الضرائب التي فرضها رجال الدين وتبذير الأساقفة وثراء الرهبان وكسلهم. وعندما اتهم كاتب سر أسقف لندن بقتل هرطيق (1514) توسل الأسقف إلى ولزى أن يمنع المحاكمة أمام محلفين مدنيين "لأني واثق أن كاتب سري لو حوكم أمام أي أثنى عشر رجلاً في لندن فإنهم سوف ينحازون في حقد إلى صف الهرطيق إلى حد أنهم سوف ينبذون كاتبي ويدينونه على الرغم من أنه بريء مثل هابيل"(36). وأخذت الهرطقة تشتد مرة أخرى. وفي عام 1506 اتهم خمسة وأربعون رجلاً بالهرطقة أمام أسقف لنكولن وتراجع ثلاثة وأربعون عما قالوا، وأحرق أثنان. وفي عام 1510 حاكم أسقف لندن أربعين هرطقياً وأحرق أثنين، وفي عام 1521 حاكم خمسة وأربعين وأحرق خمسة، وتورد السجلات قائمة تضم 342 محاكمة مثل هذه في خلال خمسة عشر عاماً(37).
ومما كان يعد بين الهرطقات الجدل حول القربان المقدس وهل يظل يقدم من الخبز فحسب، وأن القساوسة لا حول لهم ولا قوة أكثر من الآحاد الآخرين من الناس في التكريس أو الحل، وأن القرابين المقدسة ليست ضرورية للحصول على الخلاص، وأن رحلات الحج إلى المزارات المقدسة والصلاة من أجل الموتى لا قيمة لها، وأن الصلوات يجب أن توجه لله وحده، وأن في وسع الإنسان أن يظفر بالنجاة بالإيمان وحده، بغض النظر عما يقدم من صالح الأعمال، وأن المسيحي المخلص فوق كل القوانين ما عدا شريعة المسيح، وأن الكتاب المقدس والكنيسة يجب أن يكونا القاعدة الوحيدة التي يحتكم إليها في العقيدة، وأن كل الرجال يجب أن يتزوجوا، وأن الرهبان والراهبات يجب أن يجحدوا اقسامهم بالتزام العفة.
وكانت بعض هذه لهرطقات أصداء لمذهب لولارد، وكانت بعضها انعكاسات لنفخات من بوق لوثر.
وفي أواخر عام 1251 كان الثائرون الشبان في أكسفورد يتلقفون في لهفة أنباء الثورة الدينية في ألمانيا، وآوت كامبردج في أعوام 1521-25 أثنى عشر من زعماء هراطقة المستقبل، وليام تيندال وكيلز كوفردال وهيولاتيمر وتوماس بلني وأدوارد فوكس ونسكولاس ردلي وتوماس كرانمر... لقد هاجر كثير منهم: وهم يتوقعون الاضطهاد، إلى القارة، وطبعوا كراسات دينية مناهضة للكاثوليكية وبعثوا بها سراً إلى إنجلترا.
وأصدر هنري الثامن عام 1521 كتابه المشهور "قضية المقدسات السبعة ضد مارتن لوثر"، ولعله أصدره كرادع لهذه الحركة أو ربما لإظهار سعة علمه في اللاهوت، واعتقد الكثيرون أن ولزى هو المؤلف الخفي، ولعل ولزى هو الذي اقترح تأليف الكتاب، وصاحب ما ورد فيه من أفكار رئيسية كجزء من دبلوماسيته في روما، بيد أن أرازموس ادعى أن الملك قد فكر في الرسالة من أولها لآخرها وألفها، ويميل الحكم الآن إلى هذا الرأي. وهذا الكتاب له سمات المبتدئ، وهو لا يكاد يحاول تقديم رد عقلي يدحض به الآراء الأخرى، ولكنه يعتمد على فقرات منقولة من الكتاب المقدس والروايات الكنسية والتعسف الشديد، وكتب الثائر المنتظر ضد البابوية يقول: "إي ثعبان سام يصل إلى درجة مَن يصف سلطة البابا بأنها مستبدة؟... وأي جارحة من جوارح الشيطان تحاول أن تمزق أعضاء المسيح وتفصلها عن رأسها". ما من عقوبة يمكن أن تكون جسيمة عندما توقع على مَن يعصى القس الأكبر والقاضي الأعلى على الأرض لأن الكنيسة بأسرها ليست رعية للمسيح فحسب... بل لكاهن المسيح الوحيد، بابا روما(38). وكان هنري يغبط ملك فرنسا على ألقاب التشريف التي تسبغها الكنيسة عليه مثل: "أكثر المسيحيين مسيحية" وفردينان وايزابلا على لقب العاهلين الكاثوليكيين. وعندما قدم وكيله وقتذاك الكتاب إلى ليو العاشر طلب منه أن يمنح هنري وحلفاءه لقب - حامي العقيدة - ووافق ليو ووضع مَن استهل الإصلاح الديني في إنجلترا الكلمات على سكنه.
وتمهل لوثر في الإجابة. ورد عام 1525 رداً فريداً على ذلك "الحمار الأحمق"، و "ذلك المجنون الهائج... ملك الأكاذيب، الملك هيتز، ملك إنجلترا يغضب الله... ولما كانت تلك الدودة اللعينة العفنة قد افترت كذباً بشر مبيت على مليكي في السماء فإنه يحق لي أن ألطخ هذا الملك الإنجليزي بقذره"(39) و "لم يتعود هنري على هذا الرشاش فاشتكى إلى أمير سكسونيا المختار الذي قال له بتأدب جم ألا يتطفل على الأسود، ولم يصفح الملك قط عن لوثر على الرغم من اعتذاره فيما بعد، ونبذ البروتستانت الألمان حتى عندما تمرد تماماً على البابوية.
وكان أعظم رد مفحم للوثر هو نفوذه في إنجلترا ففي ذلك العام نفسه 1525 نسمع عن "جمعية الاخوان المسيحيين"، في لندن التي انطلق وكلاؤها المأجورون يوزعون كراسات دينية لوثرية وهرطقية أخرى وأناجيل بالإنجليزية كلها أو بعضها.
وفي عام 1408 انزعج كبير الأساقفة أروندل بسبب توزيع نسخة الكتاب المقدس التي ترجمها ويكلف، فمنع القيام بأي ترجمة له باللغة الوطنية دون الحصول على موافقة من الأسقف، على أساس أن أي نسخة تترجم بدون ترخيص قد يحدث فيها تحريف للفقرات الصعبة، أو تلون التعبير لتأييد هرطقة. ولم يشجع كثير من رجال الدين قراءة الكتاب المقدس بأي صيغة، واحتجوا بأن الترجمة الصحيحة تستلزم معرفة خاصة، وأن المنتخبات من الكتاب المقدس كانت تستخدم لإثارة الفتنة(40). ولم تبدِ الكنيسة أي اعتراض رسمي على الترجمات السابقة لويكلف بيد أن هذا الإذن المفهوم ضمناً لم تكن له أهمية لأن كل النسخ الإنجليزية قبل عام 1526 كانت مخطوطة. ومن ثم تأتي الأهمية الزمنية للعهد الجديد الإنجليزي الذي نشره تندال عام 1525-26. وكان قد فكر مبكراً في أيام دراسته في ترجمة الكتاب المقدس، لا من النسخة اللاتينية له كما فعل ويكلف، بل من الأصلين العبري واليوناني. وعندما لامه كاثوليكي غيور وقال له: "خير لك أن تعيش بلا شريعة الرب، أي الكتاب المقدس من أن تعيش بشريعة البابا"، رد تندال بقوله: "إذا مد الله في عمري فلن تمضي بضع سنين حتى أجعل الصبي الذي يدفع المحراث يعرف من الكتاب المقدس أكثر مما تعرف أنت(42)". ومنحه أحد معاوني بلدية لندن الفراش والمأوى لمدة ستة شهور عكف الشاب أثناءها على العمل. وذهب تندال عام 1524 إلى فنتبرج واستمر في العمل تحت إرشاد لوثر. وبدأ في كولونيا يطبع نسخة العهد الجديد المترجمة من النص اليوناني كما حققه أرازموس. وأثار وكيل إنكليزي السلطات عليه، ففر تندال من كولونيا الكاثوليكية إلى ورمز البروتستانتية، وهناك طبع 6.000 نسخة، أضاف لكل منها مجلداً منفصلاً ضمنه تعليقات ومقدمات عدوانية، اعتمد فيها على مقدمات أرازموس ولوثر. وهربت كل هذه النسخ إلى إنجلترا وكانت بمثابة الوقود، الذي أشعل نار البروتستانتية الأولى، وزعم كوثبرت تونستال، أسقف لندن أن هناك أخطاءً شنيعة في الترجمة، وتحاملاً مغرضاً في التعليقات، وهرطقات في المقدمات، وحاول أن يمنع تداول الطبعة بشراء كل النسخ المكتشفة وأحراقها علناً في ميدان سانت بول كروس، بيد أن نسخاً جديدة ظلت ترد من القارة، وعلق مور على ذلك بقوله إن تونستال كان يمول مطبعة تندال. وكتب مور نفسه حواراً مستفيضاً (1528)، انتقد فيه النسخة الجديدة فرد عليه تندال، ورد مور على الرد في "تفنيد" يتألف من 578 صفحة من القطع الكبير. ورأى الملك أن يخمد الفتنة بمنع قراءة الكتاب المقدس بالإنجليزية وتداوله، إلى أن تصدر ترجمة معتمدة من ذوي الشأن (1530)، وفي غضون ذلك حرمت الحكومة كل طبع أو بيع أو استيراد أو حيازة للمؤلفات الهرطقية.
وبعث ولزى بأوامره بالقبض على تندال، إلا أن فيليب، حاكم لاندجراف هس أسبغ حمايته على المؤلف، وتابع في ماربورج ترجمته للأسفار الخمسة (1530). وترجم الجانب الأكبر من العهد القديم إلى الإنجليزية في أناة، بجهده الخاص أو تحت إشرافه. غير أنه سقط في أيدي الموظفين الإمبراطوريين في لحظة لم يتخذ فيها احتياطاته وسجن لمدة ستة عشر شهراً في فلفورد (قرب بروكسل)، وأعدم في المحرقة (1536) على الرغم من تشفع توماس كرومويل وزير هنري الثامن. وتحدثنا الرواية أن آخر كلماته كانت: "رباه، افتح عيني ملك انجلترا(43)" وقد عاش ما يكفي لإتمام رسالته، فالصبي الحارث يستطيع الآن أن يسمع المبشرين الإنجيليين الآن وهم يروون له بإنجليزية ثابتة واضحة قوية قصة المسيح الملهمة. وعندما ظهرت النسخة التاريخية المعتمدة (1611) كان 90 في المائة من أعظم ما كتب في الأدب الكلاسي الإنجليزي وأشدها تأثيراً كانت لتندال بلا تغيير(44).
وكان موقف ولزى تجاه هذا الإصلاح الديني الإنجليزي الوليد يتسم باللين، كما يمكن أن يتوقع من رجل على رأس الكنيسة والحكومة على السواء. فاستأجر شرطة سرية لكشف الهرطقة، وفحص الأدب المشكوك فيه والقبض على الهراطقة. غير أنه سعى إلى إغراء هؤلاء بأن يسكتوهم لا أن يعاقبوهم، ولم يصدر أوامره قط بإرسال هرطيق إلى المحرقة. وفي عام 1528 سجن ثلاثة من طلبة جامعة أكسفورد بتهمة الهرطقة، وترك أسقف لندن واحداً منهم يموت في الحبس وأنكر آخر ما قاله وأطلق سراحه، أما الثالث فأخذه ولزى ووضعه تحت رعايته وسمح له بالفرار(45). وعندما ندد هيو لاتيمر، أفصح المصلحين المدينيين الأوائل في القرن السادس عشر بإنجلترا، بفساد رجال الدين وطلب أسقف أيلي من ولزى منعه، منح ولزى لاتيمر ترخيصاً بالوعظ في أي كنيسة بالبلاد.
ورسم الكاردينال خطة ذكية لإصلاح الكنيسة. وفي رواية لأسقف برنت أنه كان يحتقر رجال الدين وبخاصة... الرهبان الذين لا يؤدون خدمة للكنيسة أو الدولة، ولكنهم بسبب حياتهم الفاضحة وصمة عار في جبين الكنيسة وحملاً على الدولة. ومن ثم قرر أن يوقف عدداً منهم ويحولهم إلى مؤسسة أخرى(46). ولم يكن إغلاق دير لا يؤدي وظيفته على ما يرام بالأمر الذي لم يسمع به من قبل، فقد حدث في كثير من الحالات قبل ولزى بأمر صدر من الكنيسة. وبدأ (1519) بإصدار تشريعات لإصلاح القوانين الكنسية نموذجية للغاية. وفوض كاتم سره توماس كرومويل في زيارة الأديار بنفسه أو بواسطة وكلاء له وأن يقدم له تقارير عن الأحوال الموجودة، وأتاحت هذه الجولات التفتيشية مهارة متمرسة لكرومويل في تنفيذ أوامر هنري فيما بعد بتقصي الحياة في الأديار بإنجلترا بشدة. وارتفعت الأصوات بالشكوى من قسوة هؤلاء الوكلاء ومن تلقيهم "الهدايا" أو أخذها كرها، وعن مشاطرتهما كرومويل والكاردينال(47) في هذه الهدايا. وحصل ولزى عام 1524 على إذن من البابا كليمنت السابع بإغلاق الأديار التي تضم أقل من سبعة نزلاء وإنفاق دخول هذه الممتلكات على إنشاء كليات. وشعر بالسعادة عندما مكنته هذه الأموال من فتح كلية في موطنه ابسويتش وأخرى في أكسفورد وراوده الأمل في أن يستمر على هذا المنوال فيغلق المزيد من الأديار عاماً بعد عام ويستبدل بها كليات(48). إلا أن نياته الطيبة ضاعت في غمرات السياسة، وكانت أعظم نتيجة لإصلاحاته المتعلقة بالأديار هي أنه زود هنري بسابقة جديرة بالإجلال لخطة أبعد مدى، وتدر ربحاً أكثر.
وفي غضون ذلك كانت سياسة الكاردينال الخارجية قد أدت إلى نتيجة تدعو إلى الأسى. ولعله سمح لإنجلترا بالانضمام إلى شارل في حربه مع فرنسا (1522) لأنه كان يسعى إلى الحصول على تأييد الإمبراطور لترشيحه للبابوية (1521). ومنيت الحملات الإنجليزية بالفشل وتكلفت أموالاً طائلة، وأزهقت فيها أرواح كثيرة. ودعا ولزى (1523) أول مجلس نيابي في سبع سنوات، لتمويل الجهود الجديدة وصدمه بطلب إعانة مالية لم يسبق لها مثيل قدرها 800.005 جنيه - أي خمس ما يملكه كل علماني. واحتج أعضاء مجلس العموم ثم صوتوا على سبع فقط، واحتج رجال الدين بيد أنهم سلموا دخل نصف عام من كل الصدقات. وعندما وصلت الأنباء بأن جيش شارل قد تغلب على الفرنسيين في بافيا (1525) وأخذ فرانسيس أسيراً. رأى هنري وولزى أن من الحكمة أن يسهما في تقطيع أوصال فرنسا الذي يوشك أن يحدث. ووضعت خطة للقيام بغزو جديد واقتضى الأمر تدبير المزيد من الأموال وخاطر ولزى بآخر ما تبقى له من شعبية، بأن طلب من كل الإنجليز الذين يتجاوز دخلهم 50 جنيهاً (500 دولار) أن يسهموا بسدس أموالهم في "هبة ودية"، لمتابعة الحرب والوصول بها إلى غاية مجيدة، "ودعونا نتبرع ودياً حتى نمنع شارل من ابتلاع فرنسا بأسرها". وقوبل الطلب بمقاومة انتشرت على نطاق واسع اضطر ولزى إلى أن يتحول إلى وضع برنامج للسلام. ووقعت معاهدة للدفاع المتبادل مع فرنسا كمحاولة أخرى لاستعادة توازن القوى... ولكن جنود الإمبراطور استولوا عام 1527 على روما وأسروا البابا وبدا أن شارل قد أصبح وقت ذاك سيد القارة الذي لا يقهر، وقضى على سياسة ولزى القائمة على الصد والتوازن. وانضمت إنجلترا إلى فرنسا عام 1528، في الحرب ضد شارل. وكان شارل ابن أخي كاثرين الأراجونية التي كان هنري شديد الرغبة في الطلاق منها، وكان كليمنت السابع، الذي يستطيع أن يمنحه لأسباب تتعلق بمصلحة الدولة، أسيراً لشارل بشخصه وسياسته.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
طلاق الملك
جاءت كاترين الأراجونية، ابنة فرديناند وإيزابلا إلى إنجلترا عام 1501، وكانت في السادسة عشرة من عمرها وتزوجت (14 نوفمبر) من آرثر البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، وهو أكبر أبناء هنري السابع. ومات آرثر في اليوم الثاني من أبريل عام 1502 وكان المفروض بوجه عام أن الزوج ذد دخل بزوجته. ومن ثم أرسل السفير الأسباني قياماً بالواجب "أدلة" إلى فرديناند، ولم ينتقل لقب أرثر، أمير ويلز رسمياً إلى شقيقه الأصغر هنري إلا بعد مرور شهرين على وفاة آرثر(49). ولكن كاثرين أنكرت أن زوجها دخل بها. وقد أحضرت معها صداقاً قدره 200.000 دوكات (5.000.000 دولار) وكره هنري السابع أن يدع كاثرين تعود إلى أسبانيا ومعها هذه الدوكات، وتلهف على أن يجدد مصاهرته لفرديناند القوي فاقترح أن تتزوج كاثرين من الأمير هنري على الرغم من أنها كانت تكبر الصبي بست سنوات. وكانت هناك آية في الكتاب المقدس (سفر اللاويين إصحاح 20 : آية 21) تحرم هذا الزواج:
"وإذا أخذ رجل امرأة أخيه فذلك نجاسة... يكونان عقيمين" ومهما يكن من أمر فإن هناك آية أخرى تنص على خلاف ذلك: "إذا سكن إخوة معاً ومات واحد منهم وليس له ابن... أخو زوجها يدخل عليها ويتخذها لنفسه زوجة". (سفر التثنية: إصحاح 25 آية 5). واستنكر كبير الأساقفة وارهام الزواج المقترح ودافع عنه الأسقف فوكس الونشستري إذا أمكن الحصول على محلل من البابا للمانع من المصاهرة. وطلب هنري السابع الحصول على المحلل. فمنحه له البابا يوليوس (1503) وجادل بعض خبراء القانون الكنسي في حق البابا في التحلل من مبدأ نص عليه الكتاب المقدس(50) وأكد البعض حقه في هذا، أما يوليوس نفسه فقد راودته بعض الشكوك(51). وأعلنت رسمياً الخطبة، وهي في الواقع زواج شرعي - عام 1503، ولما كان العريس لا يزال في الثانية عشرة من عمره فحسب فقد أجلت المعاشرة. وفي عام 1505 طلب الأمير هنري إعلان بطلان الزواج، لأن أباه أكرهه(52) عليه ولكنه أقنع بصحة الزواج على أساس أنه مصلحة إنجلترا.
وفي عام 1509، وبعد ستة أسابيع من ارتقائه العرش احتفل علناً بالزواج. وبعد سبعة شهور (31 يناير سنة 1510) أنجبت كاثرين أول طفل لها، وقد مات عند الولادة. وأنجبت بعد ذلك بعام ابناً وابتهج هنري بولادة وريث ذكر يصل به سلسلة نسب تيودور، ولكن الطفل مات بعد بضعة أسابيع وسقط ابن ثان وثالث بعد الولادة مباشرة (1513 و 1514). وبدأ هنري يفكر في الطلاق. أو بعبارة أدق في إعلان بطلان الزواج باعتباره غير صحيح. وحاولت كاثرين المسكينة مرة أخرى وفي عام 1516 أنجبت طفلة قدر لها أن تكون الملكة ماري. وأذعن هنري وقال لنفسه: "إذا كانت هذه المرة ابنة فإن الأبناء سوف يجيئون بعدها(53)" بفضل الله ومنه. وفي عام 1518 أنجبت كاثرين ابناً آخر ولد ميتاً. واشتدت خيبة أمل الملك والبلاد لأن ماري البالغة من العمر عامين، كانت قد خطبت إلى ولي عهد فرنسا، وإذا لم يرزق هنري بولد فإن ماري سوف ترث العرش الإنجليزي، وعندما يصبح زوجها ملكاً على فرنسا فإنه سيكون في الواقع ملكاً على إنجلترا أيضاً، وتصبح بريطانيا مقاطعة تابعة لفرنسا، وكان دوقات نورفولك وبكنجهام تداعبهم الآمال في أن يزيحوا ماري ويضمنوا التاج لأنفسهم، وأطلق بكنجهام لسانه فاتهم بخيانة البلاد وقطع رأسه (1521)، وعبر هنري عن خوفه من أن يكون حرمانه من إنجاب ولد عقاباً من الله لأنه استخدم محللاً بابوياً(54) من وصية واردة في الكتاب المقدس. وأقسم ليقودن حملة صليبية ضد الأتراك إذا أنجبت له الملكة ولداً. غير أن كاثرين لم تحمل بعد ذلك. وما أن حل عام 1525 حتى تخلى عن كل أمل في الحصول على ذرية أخرى منها.
وكان هنري منذ أمد بعيد قد فقد الميل إليها باعتبارها أنثى. وكان وقتذاك في الرابعة والثلاثين، أي في عنفوان الرجولة الفتية، وكانت في الأربعين وتبدو أكبر من سنها. ولم تكن قط مغرية، والحق أن مرضها المتكرر، أو ما صادفها من سوء الحظ، قد شوه جسدها وأضفى إلى روحها قتامة، وكانت تبز النساء بثقافتها ودماثتها ولكن الأزواج قلما يرون أن التضلع في العلم خصلة محمودة في الزوجة. وكانت زوجة صالحة مخلصة، تحب زوجها حباً لا يفوقه إلا حبها لإسبانيا. وكانت ترى نفسها باعتبارها - وكانت كذلك لفترة ما - سفيرة لإسبانيا وكانت ترى أن إنجلترا يجب أن تقف دائما في صف فرديناند أو شارل. وفي حوالي عام 1518 اتخذ هنري أول حظية له عرفها بعد الزواج وهي اليزابيث بلاوتد شقيقة مونتجوي صديق أرازموس، وأنجبت له ابناً عام 1519 وأنعم هنري على الصبي بلقب دوق رتشموند وسومرست، وفكر في أن يقف وراثة الهرش عليه. وفي عام 1524 اتخذ حظية أخرى، هي ماري بولين(55)، والحق أن سير جورج ثروكمورتون اتهمه في وجهه بالزنا مع أم ماري أيضاً(56). وكان هناك قانون غير مكتوب في ذلك العهد ينص على أن الملك إذا ما تزوج لأسباب تتعلق بمصلحة الدولة ولم يكن ذلك باختياره، فإن له الحق في أن ينشد خارج الزواج الغرام الذي فقده في المخدع الشرعي.
وفي عام 1527 أو قبله حول هنري فتنته إلى آن شقيقة ماري. وكان والدهما سير توماس بولين، تاجراً دبلوماسياً حظي منذ وقت طويل بعطف الملك، أما أمهما فكانت من آل هوارد، وهي ابنة الدوق نورفولك. وأرسلت آن إلى باريس لإتمام دراستها فيها، وهناك عينت وصيفة للملكة كلود ثم لمرجريت دي نافار، ولعلها تشربت منها بعض النوازع البروتستانتية. وكان في وسع هنري أن يراها فتاة طروباً في الثالثة عشرة من عمرها في ميدان كلوث أف جولد، وعندما عادت إلى إنجلترا وهي في الخامسة عشرة من عمرها (1522) أصبحت وصيفة للملكة كاثرين. ولم تكن رائعة الجمال، وكانت قصيرة القامة لها بشرة قاتمة وفم واسع ورقبة طويلة، ولكنها خلبت لب هنري وآخرين غيره بعينيها السوداويين البراقتين وشعرها البني المسترسل ورشاقتها وذكائها ومرحها. وكان لها بعض العشاق المولهين بها، ومنهم توماس ويات الشاعر، وهنري برسي، الذي اصبح فيما بعد أيرل نور ثمبرلاند، واتهمها أعداؤها فيما بعد بأنها كانت متزوجة في السر من برسي قبل أن تضع أنظارها على الملك، إلا أن الدليل لم يكن قاطعا(57). ولا نعرف متى بدأ هنري يطارحها الغرام وأقدم رسائل الحب الباقية التي كتبها لها ترجع فيما يرجح إلى يوليه عام 1527. ما هي العلاقة بين هذه القصة الغرامية والتماس هنري الحكم ببطلان زواجه؟ مما لا جدال فيه أنه قد فكر في هذا الأمر في وقت يرجع إلى عام 1514 عندما كانت آن فتاة في السابعة من عمرها. ويبدو أنه طرح الفكرة جانباً حتى عام 1524، عندما كف عن مباشرة علاقاته الزوجية مع كاثرين، وفقاً لروايته(58). وأقدم إجراءات سجلت ببطلان الزواج اتخذت في مارس عام 1527، بعد تعرف هنري بآن بوقت طويل، وفي الوقت الذي حلت فيه محل شقيقتها في أحضان الملك، والظاهر أن ولزى كان لا يعلم شيئاً عن أي نية للملك في الزواج من آن عندما ذهب في يوليو عام 1527 إلى فرنسا لإعداد العدة للزواج بين هنري ورينيه، ابنة لويس الثاني عشر التي سرعان ما أثارت حركة بروتستانتية في إيطاليا. وأول إشارة لما انتواه هنري وردت في خطاب أرسله يوم 16 أغسطس سنة 1527 السفير الإسباني إلى شارل الخامس يبلغه فيه أن هناك اعتقاداً عاماً في لندن بان الملك إذا حصل على "طلاق" فإنه سوف يتزوج "إبنة سير توماس بولين(59)" ولم يكن هذا يعني ماري بولين لأن هنري وآن كانا يعيشان في شقتين متجاورتين تحت نفس القف في جرينوتش(60) عند حلول نهاية عام 1527. وقد نستنتج من هذا أن هنري سارع بطلب بطلان الزواج على الرغم من أنه يصعب أن يقال إن السبب في ذلك هو افتتانه بآن. وكان السبب الأساسي رغبته في الحصول على ولد يمكن أن ينقل إليه العرش مع شيء من الثقة في خلافة هادئة. وكانت إنجلترا بأسرها تشاطره ذلك الأمل. وتذكر الناس في فزع السنوات العديدة (1454-85) التي نشبت فيها الحرب بين بيتيورك ولانكاستر على التاج، ولك يكن قد مضى على ظهور أسرة تيودور غير اثنين وأربعين عاماً في سنة 1527، وكان حقها قي العرش مشكوكاً فيه، ولم يكن في وسع أحد أن يصل حبل الأسرة الحاكمة دون منازع إلا ولد شرعي ينحدر مباشرة من صلب الملك، ولو لم يلتقِ هنري قط بآن بولين فإنه كان قميناً بأن يرغب في الحصول على طلاق وزوجة ولود بصورة مقبولة. ولا شك أنه يستحق هذا.
واتفق ولزى مع الملك في هذا الموضوع وأكد له أنه يمكن الحصول على قرار من البابا ببطلان الزواج، وكانت سلطة البابا في منح مثل هذا الانفصال أمر مقبول بوجه عام، كإجراء حكيم لتلبية مثل هذه الضرورات الوطنية تماماً، ويمكن تقديم سوابق كثيرة. بيد أن تقدير الكاردينال المشغول لم يعمل حساباً لتطويرين بغيضين: فهنري لم يكن يريد رينيه بل كان يريد آن وبطلان الزواج سوف يصدر من بابا، كان عندما وصلته المشكلة، أسيراً لإمبراطور، كان لديه أكثر من سبب لمناصبة هنري العداء، وربما كان شارل حرياً بأن يعارض بطلان هذا الزواج ما دامت عمته تقاومه، وكان يعارض أكثر لو عقد زواج جديد، كما دير ولزى، بربط إنجلترا بحلف قوي مع فرنسا. ولم يكن السبب الأولي للإصلاح الديني الإنجليزي هو جمال آن بولين الصاعد، بل الرفض العنيد الذي بدا من كاثرين وشارل في إدراك عدالة رغبة هنري في الحصول على ولد. واشتركت الملكة الكاثوليكية مع الإمبراطور الكاثوليكي والبابا الأسير في انفصال إنجلترا عن الكنيسة. ولكن السبب النهائي للإصلاح الديني الإنجليزي لم يكن طلب هنري بطلان الزواج بقدر ما كان من ارتفاع شأن الملكية الإنجليزية وبلوغها درجة من القوة جعلتها قادرة على أن ترفض التسليم بسلطة البابا في التدخل في شئون انجلترا، وتحكمه في مواردها.
وأكد هنري أن رغبته العارمة في الحصول على بطلان الزواج إنما دعا إليها جبربيل دي جرامون الذي أقبل إلى إنجلترا في فبراير عام 1527 لمناقشة الزواج المقترح بين الأميرة ماري والأسرة الملكية الفرنسية. فقد أثار جرامون، كما يروي هنري، سؤالاً عن شرعية بنوة ماري، على أساس أن زواج هنري بكاثرين قد يكون غير صحيح باعتباره مخالفة لأحد نواهي الكتاب المقدس ولا يستطيع البابا أن يمحوها. ظن البعض أن هنري لفق القصة(61)، ولكن ولزى رددها وأبلغت إلى الحكومة الفرنسية (1528)، ولم ينكرها، بقدر ما هو معروف جرامون، وجاهد جرامون لإقناع كليمنت بأن طلب هنري بطلان الزواج أمر عادل، وأبلغ شارل سفيره في إنجلترا (29 يوليو سنة 1527) أنه كان ينصح كليمنت برفض التماس هنري.
وبينما كان ولزى في فرنسا ابلغ على وجه التحديد بأن هنري لا يرغب في الزواج من رينيه بل يريد الزواج من آن. واستمر يعمل للحصول على البطلان، ولكنه لم يخفِ اكتئابه بسبب اختيار هنري. وتجاوز الملك حاجبه في خريف عام 1527، وبعث بكاتم سره وليام نايت لتقديم ملتمسين للبابا الأسير، الأول يتضمن أن كليمنت، إذ يتعرف على صحة زواج هنري الذي تكتنفه الشكوك وافتقاره إلى ذرية من الذكور وكراهية كاثرين للطلاق، يجب أن يسمح لهنري بالاحتفاظ بزوجتين. وأصدر الملك أمراً في آخر لحظة أثنى نايت عن تقديم هذا الاقتراح، وكانت جرأة هنري قد خمدت ولابد أنه ذهل، عندما تلقى، بعد ثلاث سنوات، خطاباً من جيوفاني كاسالي أحد وكلائه في روما، مؤرخاً في 18 سبتمبر سنة 1530 يقول فيه: "منذ بضعة أيام اقترح على البابا سراً أن يأذن لجلالتك باتخاذ زوجتين(62)". وكان ملتمس هنري الثاني لا يقل غرابة، على البابا أن يمنحه محللاً للزواج من امرأة كان للملك علاقات جنسية مع أختها(63). ووافق البابا على هذا بشرط أن يعلن بطلان الزواج بكاثرين إلا أنه لم يكن على استعداد لإعلان بطلان هذا الزواج. وكان كليمنت لا يخشى شارل فحسب بل كان ينفر من القاعدة التي تقضي بأن أحد البابوات السابقين قد ارتكب خطأ جسيماً بإعلان صحة الزواج. وتلقى في نهاية عام 1527 ملتمساً ثالثاً - بأنه يجب أن يعين ولزى قاصداً رسولياً آخر لعقد محكمة في إنجلترا تسمع الدليل وتحكم بصحة زواج هنري بكاثرين. وأذعن كليمنت (13 أبريل سنة 1528)، وعين الكاردينال كامبيجيو لعقد جلسة مع ولزي في لندن ووعد - في منشور بابوي لا يطلع عليه سوى ولزى وهنري - أن يؤيد أي قرار يتخذه المندوبان البابويان(64). وربما كان لانضمام هنري إلى فرانسيس (يناير سنة 1528) في إعلان الحرب على شارل وتعهدهما بتحرير البابا قد أثر في إذعان البابا.
واحتج شارل وأرسل إلى كيمنت نسخة من وثيقة ادعى أنها وجدت في المحفوظات الأسبانيّة، وفيها أكد يوليوس الثاني صحة المحلل الذي اقترح هنري وولزى بطلانه. وتعجل البابا، وهو لا يدر يما يفعل ولا يزال أسيراً لشارل، فأرسل تعليمات إلى كامبيجو بألا ينطق بحكم قبل أن يحصل على تفويض صريح من الآن فصاعداً... فإذا ألحق بالإمبراطور ضرر كبير، فإن كل أمل في السلام العالمي يكون قد تبدد ولا تستطيع الكنيسة أن تنجو من الخراب التام لأنها تخضع خضوعاً كاملاً لسلطات أتباع الإمبراطور... أجل بقدر الإمكان(65").
وعند وصول كامبيجو إلى إنجلترا (أكتوبر سنة 1528) حاول أن يحصل على موافقة كثرين بالاعتزال في دير للراهبات، فوافقت بشرط أن يحلف هنري أيمان الرهبان. ولكن لم تكن هناك أمور أبعد عن ذهن هنري من الفقر والخضوع والعفة، ومهما يكن من أمر فإنه اقترح أن يحلف هذا الأيمان إذا وعد البابا يحله منها عند الطلب ورفض كامبيجيو أن ينقل هذا الاقتراح إلى البابا وأبلغه بدلاً من ذلك (فبراير سنة 1529) بعزم الملك على الزواج من آن. وكتب يقول: "إن هذه العاطفة أمر خارق للعادة أنه لا يرى شيئاً ولا يفكر في شيء سوى حبيبته آن، إنه لا يستطيع أن يستغني عنها ساعة واحدة. وإني لأشعر بالإشفاق عليه عندما أرى أن حياة الملك واستقرار وسقوط البلاد بأسرها تتوقف على هذه المسألة وحدها(66)".
وحدثت تغيرات في الموقف الحربي جعلت البابا يتحول أكثر فأكثر ضد اقتراح هنري. وفشل الجيش الفرنسي، الذي كان هنري قد ساعده بتمويله، في حملته الإيطالية، وترك البابا في حالة اعتماد كلي على الإمبراطور. وطردت فلورنسا حكامها من آل مديتشي - وكان كليمنت مخلصاً لتلك العائلة مثله في ذلك مثل شارل الذي كان مخلصاً لآل هابسبورج.
وانتهزت (فينيسيا) البندقية فرصة عجز البابا لكي تنتزع رافتا من الولايات البابوية، فمن كان وقتذاك يستطيع أن ينقذ البابوية سوى آسرها؟ وقال كليمنت "لقد استقر رأيي تماماً على أن أصبح من أنصار النظام الإمبراطوري، وسوف أعيش وأموت وأنا متمسك بهذا الرأي(67)". ووقع في التاسع والعشرين من يونيه معاهدة برشلونة، وبمقتضاها وعد شارل بإعادة فلورنسا لآل مديتشي ورافنا للبابوية والحرية لكليمنت، ولكن على شريطة ألا يوافق كليمن مطلقاً على بطلان زواج كاترين إلا برضا كاترين وإرادتها الحرة.
ووقع فرانسيس الأول في الخامس من أغسطس معاهدة كامبراي التي سلمت في الواقع إيطاليا والبابا للإمبراطور.
وفي 31 مايو افتتح كامبيجيو مع ولزى المحكمة المختصة بالقاصد الرسولي للنظر في الالتماس المقدم من هنري، بعد أن أجل افتتاحها لأطول مدة ممكنة. واستغاثت كاترين بروما، وأبت أن تعترف باختصاص المحكمة. ومهما يكن من أمر فإن كلاً من الملك والملكة حضرا يوم 31 يونيه. وخرت كاترين على ركبتيها أمامه وتوسلت إليه بكلمات مؤثرة أن يستأنفا حياتهما الزوجية. وذكرته بأعمالها الكثيرة وإخلاصها التام، وصبرها على لهوه خارج الأسوار، وأقسمت أن الله يشهد على أنها كانت عذراء عندما تزوجها هنري، وتساءلت أي شيء صنعته أساءت به إليه(68)؟ فأنهضها هنري وأكد لها أنه لم يكن هناك ما يتمناه بحماسة أكثر التوفيق في زواجهما وأوضح لها أن الأسباب التي حملته على طلب الانفصال ليست شخصية، بل أملتها عليه مصلحة الأسرة المالكة والأمة. ورفض استغاثتها بروما على أساس أن الإمبراطور يسيطر على البابا، فانسحبت وهي تبكي، ورفضت أن تشترك بعد ذلك في الإجراءات القضائية. وتكلم الأسقف فيشر مدافعاً عنها ومن ثم اكتسب عداوة الملك. وطالب هنري بصدور قرار من المحكمة وتحايل كامبيجيو على المماطلة في إصدار الحكم وأخيراً (23 يوليو سنة 1529) أجل المحكمة إلى العطلة الصيفية. وألغى كليمنت القضية وحولها إلى روما لكي يجعل التردد أشد حسماً.
واستشاط هنري غضباً وشعر بأن كاترين عنيدة بصورة غير معقولة، فرفض أن تربطه بها أية علاقة بعد ذلك، وأخذ يقضي ساعات لهوه علناً مع آن وربما ترجع إلى هذه الفترة معظم رسائل الحب السبع عشرة التي نقلها كامبيجيو سراً من إنجلترا(69) والتي تحتفظ بها مكتبة الفاتيكان بين ذخائرها الأدبية. ويبدو أن آن المجربة التي خبرت أساليب معاملة الرجال والملوك لم تمنحه إلا تشجيعاً ودغدغة تثير عواطفه، وشكت وقتذاك من أن شبابها يضيع في الوقت الذي يتوانى فيه الكرادلة الذين لم يستطيعوا أن يدركوا رغبة عذراء في الظفر برجل ميسور عن اعتراف بحق هنري في أن يتوج الرغبة برباط الزواج. ولامت ولزى لأنه لم يتعجل البت في طلب هنري بعزم أشد وبلاغ أسرع، وشاركها الملك استياءها.
وقد بذل ولزى كل ما في وسعه وإن كان يعارض الأمر بكل جوارحه. وكان قد ارسل بالمال إلى روما لرشوة الكرادلة(70) ولكن شارل كان قد أرسل بدوره مالاً وجيشاً علاوة على هذا. بل إن الكردينال كان قد أغضى عن فكرة التزوج من اثنتين(71) كما فعل لوثر بعد بضع سنوات. ومع ذلك عرف ولزى أن آن وأقرباءها من ذوي النفوذ يقومون بمناورة لإسقاطه. وحاول أن يهدئ من تأثيرها بالأطعمة اللذيذة والهدايا الثمينة، غير أن عداءها كان يزداد كلما طال العهد على إصدار قرار ببطلان الزواج. وتحدث عنها فقال: "إنها العدو الذي لم تكتحل عيناه قط بالنوم، ولم يكف عن الدرس والتصور معاً، في النوم واليقظة على السواء، للقضاء المبرم عليه(72)". وتنبأ بأن البطلان لو منح فغن آن سوف تصبح ملكة وتقضي عليه، وأنه لو لم يمنح ذلك القرار فإن هنري سوف يستغني عنه باعتباره رجلاً فاشلاً. ويطلب محاسبته على ادارته، حساباً مالياً دقيقاً مفصلاً.
وكان لدى الملك أسباب كثيرة لعدم الرضى عن حاجبه، فقد فشلت السياسة الخارجية وأثبتت أن التحول من صداقة شارل إلى الحلف مع فرنسا قد أدى إلى عواقب وخيمة.
ولم يكن في إنجلترا وقتذاك أمرؤ يقول كلمة طيبة في صالح الكاردينال الذي تمتع يوماً بسلطة مطلقة، فقد كان رجال الدين يكرهونه بسبب حكمه المطلق، وكان الرهبان يخشون أن يشهدوا مزيداً من حل الأديار، والعامة يبغضونه لأنه أخذ أبناءهم وأموالهم لشن حروب لا طائل من ورائها، والتجار يمقتونه لأن الحرب مع شارل عاقت تجارتهم مع الفلاندرز، والأشراف يكرهونه بسبب ما انتزعه منهم ظلماً، ولكبريائه الطارئة وثروته التي تضاعفت سريعاً. وأبلغ بعض الأشراف السفير الفرنسي (17 أكتوبر سنة 1525) بقولهم انهم "ينوون" عندما يموت ولزى أو يقضى عليه أن يتخلصوا من الكنيسة ويتلقوا أموال الكنيسة وولزى معاً(73). واقترح القماشون في كنت أن يوضع الكاردينال في قارب يتسرب منه الماء، ويترك لتتقاذفه الأمواج في البحر(74).
وكان هنري أشد دهاء. وفي اليوم التاسع من أكتوبر سنة 1529 أصدر أحد وكلائه أمراً قضائياً باستدعاء ولزى للمثول أمام قضاة الملك، للرد على اتهام بأن أعماله كقاصد رسولي قد خالفت قانون الخضوع لسلطة التاج (1392)، الذي يقضي بمصادرة أموال أي إنجليزي يأتي بالكتب البابوية إلى إنجلترا. ولم يختلف الموقف لأن ولزى كان قد كفل سلطة القاصد الرسولي بناء على طلب الملك(75)، وأنه استخدمها بخاصة لصالح الملك. وادرك ولزى أن قضاة الملك سوف يدينونه فأرسل إلى هنري امتثالاً ذليلاً، يعترف بفشله ويلتمس أن يتذكر الملك أيضاً خدماته وآيات ولائه. ثم غادر لندن في نقالة مائية سارت في نهر التيمس. وتلقى في بوتنى رسالة رقيقة من الملك. وجثا على الطين في شكر بائس وحمد الله. واستولى هنري على المحتويات الثمينة في قصر كاردينال في هويتهول إلا أنه سمح له بالاحتفاظ بمنصب رئيس أساقفة يورك وبأموال شخصية تكفي احتياجات 160 جواداً تجر 72 عربة إلى مقره الأسقفي(76). وخلف الدوق نورفولك ولزى في رئاسة الوزارة وخلفه مور في منصب الحاجب (نوفمبر سنة 1529).
واقبل الكاردينال الذي جرد من سلطاته، على عمله، كبير أساقفة، في ورع ومثالية، وأخذ يزور أبرشياته بانتظام ويدبر ترميم الكنائس، ويعمل قاضياً موثوقاً به للتحكيم. وتساءل رحل من يوركشاير: "مَن كان أقل نصيباً من الحب في الشمال من مولاي الكاردينال قبل أن يعيش بينهم؟ ومَن كان محبوباً أكثر بعد أن عاش هناك فترة ما(77)؟" بيد أن الطموح استيقظ في أعماقه مرة أخرى وسكن روعه من الموت وكتب خطابا ليوستاس شابويس سفير الإمبراطور في إنجلترا، وضاعت هذه الخطابات، بيد أن هناك تقريراً من شابويس إلى شارل ورد فيه: "لدي خطاب من طبيب الكاردينال يقول إني سيده... رأى أن على البابا أن يمضي قدماً في إجراءات لوم أشد ويستدعي الجيش العلماني(78)". أي الحرمان من غفران الكنيسة والغزو والحرب الأهلية.
وعلم نورفولك بهذه الرسائل المتبادلة وقبض على طبيب ولزى وانتزع منه، بوسائل لم تعرف على وجه التحقيق، اعترافاً بأن الكاردينال قد أشار على البابا بحرمان الملك من غفران الكنيسة. ولا نعرف هل كان السفير أو الدوق هو الذي ابلغ صدقاً عن الطبيب، أو هل كان الطبيب هو الذي ابلغ حقاً عن الكاردينال، وعلى أية حال فإن هنري أو الدوق أمر بالقبض على ولزى.
واستسلم في هدوء (4 نوفمبر سنة 1530) وودع أسرته وانطلق إلى لندن. وأصيب في شيفلد بارك بدوزنتاريا شديدة ألزمته الفراش. وهناك اقبل جنود الملك يحملون أوامر باقتياده إلى البرج. واستأنف رحلته، ولكن بعد مضي يومين من الركوب بلغ من الضعف حداً جعل حارسه يسمح له بأن يلزم الفراش في دير ليسيستر. وغمغم أمام ضابط الملك سير وليام كنجستون بالكلمات التي نقلها كافنديش واقتبسها شكسبير "لو أنني خدمت الله بإخلاص وجد كما خدمت الملك لما أسلمني في شيخوختي(79)". ومات ولزى بالغاً من العمر خمسة وخمسين عاماً في دير ليسيستر يوم 29 نوفمبر سنة 1530.