قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 16

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 8210

قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> تيتزل


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الثاني: الثورة الدينية 1517 - 1564

الفصل السادس عشر: لوثر: الإصلاح الديني في ألمانيا 1517 - 1524

1- تيتزل


أصدر البابا ليو العاشر في اليوم الخامس عشر من مارس عام 1517 أشهر صكوك الغفران. ومما يؤسف عليه - وإن كان له ما يسوغه - أن الإصلاح الديني فرض عليه أن يحارب في عهد سلطة بابوية جمعت في روما كثيراً من ثمار عصر النهضة وجانباً كبيراً من روحها؛ فلقد أصبح ليو، ابن لورنزو العظيم، وقتذاك عميداً لأسرة مديتشي، التي غذّت عصر النهضة في فلورنسا، وكان بحاثة وشاعراً وسيداً مهذباً رقيق القلب كريماً، يعشق الأدب الكلامي والفن الرقيق. وكان حسن الأخلاق في وسط منحل، ويميل بطبعه إلى المرح المشروع الذي يشيع البهجة في النفوس، وأضحى مثالاً للسعادة في مدينة كانت منذ قرن خراباً بلقعاً. وكانت كل أخطائه جميعاً سطحية، إذا استثنينا سطحيته هو نفسه، ولم يكن يفرق إلا قليلاً بين مصلحة أسرته ومصلحة الكنيسة، وبدد أموال البابوية على شعراء أصالتهم محل شك وعلى حروب هي موضع نظر، وكان متسامحاً في العادة يستطيب الهجاء الموجه ضد رجال الدين الوارد في كتاب "الثناء على الطيش" لأرازموس، وقد عمل إلا في فترات عارضة بالاتفاق غير المكتوب الذي منحت بموجبه الكنيسة في عصر النهضة حرية لا بأس بها للفلاسفة والشعراء والعلماء - الذين كانوا يوجهون أحاديثهم باللاتينية - إلى الأقلية المتعلمة وإن تركوا عقيدة - الجماهير الراسخة دون مساس.

وكان ليو ابن مصرفي اعتاد أن يبادر إلى إنفاق المال، وبخاصة على الآخرين. وورث خزائن بابوية مفعمة بالأموال من يوليوس الثاني وأفرغها قبل أن يموت. ولعله لم يبالِ كثيراً بالكنيسة الضخمة التي فكر يوليوس في إنشائها وشرع في ذلك إلا أن كنيسة القدّيس بطرس القديمة لم تكن صالحة للترميم، وكان لابد أن تتدفق مبالغ كبيرة لإنشاء الكنيسة الجديدة ووجدت سلطات الكنيسة من العار عليها أن تدع هذا المشروع العظيم يُقبر في مهده. ولعله عرض في شيء من التردد أن يمنح في عام 1517 صك غفران لكل مَن يسهم في نفقات تكملة هذا المعبد العظيم. واحتج الحكام في إنجلترا وألمانيا وفرنسا وأسبانيا لأن ثروات بلادهم كانت تستنزف، ولأن اقتصادياتها القومية تتعرض للضرر بالحملات المتكررة لتحويل المال إلى روما، وكان ليو أحرص ما يكون على إرضاء الملوك وهم أقوياء: فوافق على أن يحتفظ هنري الثمن بربع الأموال التي تجمع من إنجلترا وقدم قرضاً قدره 175000 دوكات إلى الملك شارل الأول (الإمبراطور شارل الخامس فيما بعد) في مقابل الأموال المنتظر جمعها من أسبانيا ووافق على أن يحتفظ فرانسيس الأول بجزء من المبلغ الذي يجمع في فرنسا، أما ألمانيا فقد قوبلت بمعاملة أقل كرماً، فلم تكن فيها ملكية قوية تستطيع أن تساوم البابا ومهما يكن من الأمر، فإن الإمبراطور ماكمليان نال مبلغاً متواضعاً قدره 3000 فلورين من الإيرادات، وفوض آل فوجر في أن يأخذوا من الأموال التي تجمع مبلغ 20000 فلورين كانوا قد أقرضوه لألبرخت البراندنبرجي لكي يدفعها للبابا لتثبيته في منصب كبير أساقفة ماينز. ولسوء الحظ كانت تلك المدينة قد فقدت ثلاثة من كبراء أساقفتها في عشر سنوات (1504-1514) ودفعت مرتين نفقات باهظة للحصول على تأييد البابا، ومن ثم اقترض البرخت ليعفيها من الدفع مرة ثالثة - ووافق ليو وقتذاك على أن يتولى رئيس الأساقفة الشاب توزيع صكوك الغفران في ماجدبرج وهالبرشتادت وفي ماينز أيضاً. وكان يصحب كل واحد من واعظي ألبرخت وكيل لآل فوجر يراجع المصروفات والإيرادات وكان يحتفظ بأحد مفاتيح الخزانة التي تضم الأموال(1).

وكان جوهان تيتزل وكيل ألبرخت الأول، وهو راهب دومينيكاني اكتسب مهارة وشهرة في جمع المال. وكان عمله الرئيسي منذ عام 1500 توزيع صكوك الغفران، وكان يلقى عادة في هذه المهام عون رجال الدين المحليين وإذا دخل مدينة استقبله موكب من القساوسة والحكام والأتقياء من العامة وهم يحملون الأعلام والشموع ويرتلون الأناشيد ويرفعون نشرة صك الغفران عالية فوق وسادة من المخمل أو وسادة مذهبة في حين تقرع الكنيسة أجراسها وتعزف على آلات الأرغن فيها وهكذا استطاع تيتزل(2) بفضل هذه المساندة أن يقدم بصفة مؤثرة صك غفران كامل لهؤلاء الذين يعترفون بخطاياهم وهم نادمون ويسهمون في بناء كنيسة جديدة للقديس بطرس حسب ما تسمح به مواردهم:

ألا فليرحمك الرب يسوع المسيح ويغفر لك بفضل ما لقي من آلام مقدسة وأنا بتفويض منه ومن رسوليه المباركين بطرس وبولس، ومن البابا المقدس منح لي وعهد به الي في هذه الأجزاء إن احلك أولاً من كل لوم ديني مهما كانت الطريقة التي تعرضت لها، ثم من كل خطاياك ومن كل تجاوز للحدود وكل إفراط في الملذات مهما بلغت من الجسامة، بل حتى من أي إثم تحتفظ بتقريره وإدراكه السدة البابوية، وبقدر ما يمتد نطاق سلطان الكنيسة المقدسة أعفيك من كل عقاب تستحقه في المطهر بسبب هذه الآثام، وأعيدك إلى القربان المقدس للكنيسة وإلى البراءة والطهر اللذين حزتهما في العماد، ولهذا فإنك عندما تموت ستغلق أمامك أبواب العذاب وتفتح لك أبواب جنة النعيم، وإذا لم تمت الآن فإن هذا الفضل سوف يظل في أوج قوته عندما تصبح على وشك الموت باسم الأب والابن والروح القدس(3).

وكانت هذه الصفقة الرائعة بالنسبة إلى مؤمن تتفق مع المفهوم الرسمي لصكوك الغفران بالنسبة للأحياء، وها هو اسم تيتزل يتردد مرة أخرى خلال الخطاب المتضمن لتعليمات أسقفه عما استغنى عن الاعتراف التمهيدي إذا لجأ المتبرع إلى تقديم صك الغفران لروح في المطهر. ويقول مؤرخ كاثوليكي: ليس من شك في أن تيتزل أعلن طبقاً لما كان يتصوره من العقيدة المسيحية وفق التعليمات المخولة له أنه لا داعي لشيء سوى تقديم المال للحصول على صك غفران للميت في غير ما حاجة إلى الندم أو الاعتراف. ومن تعاليمه أيضاً، طبقاً للرأي الذي كان يعتنقه، أن صك الغفران يمكن أن يُمنح لأي روح معينه ويكون له أثر لا يخيب. وبناء على هذا الغرض فإن مما لا شك فيه أن مذهبه كان متفقاً مع هذا المثل السائر: "ما أن ترن قطع النقود في الخزانة حتى تقفز الروح من نار المطهر". ولم تنص نشرة البابا الخاصة بصكوك الغفران على أي دليل لهذا الرأي. وكان رأياً غامضاً لأنصار فلسفة اللاهوت... ولم يكن يمثل عقيدة ما للكنيسة(4). وسمع مايكونيوس، وهو راهب فرنسسكاني ربما كان معادياً للدومينيكان بصنيع تيتزل فكتب تقريراً عن هذا العام 1517، يقول: "إن ما قاله هذا الراهب الجاهل وبشر به أمر لا يصدق. لقد أعطى خطابات مختومة ضمنها أن الخطايا التي يعتزم المرء أن يرتكبها سوف تخفر له، وقال إن البابا يملك سلطاناً يفوق سلطان الرسل والملائكة والقديسين، بل يفوق سلطان العذراء مريم نفسها، لأن هؤلاء جميعاً كانوا أتباعاً للمسيح أما البابا فانه ند للمسيح". وقد يكون في هذا مبالغة، ولكن مثل هذا الوصف يمكن أن يقدمه أي شاهد عيان يشير إلى ما يثيره تيتزل من مقت. ومثل هذا العداء يبدو في الشائعة التي ذكرها لوثر(5) في ارتياب والتي استشهد بها تيتزل عندما قال في هال إنه إذا حدث المستحيل أغتصب الرجل أم الرب فإن صك الغفران كفيل بأن يمحو عنه هذا الإثم. وحصل تيتزل على شهادات من السلطان المدنية والكهنوتية في هال بأنهم لم يسمعوا القصة قط(6). كان بائعاً متحمساً ولكنه لم يكن يفتقر تماماً إلى الضمير.

وكان يمكن أن ينجو من حكم التاريخ لو لم يقترب كثيراً من أراضي فردريك الحكيم الأمير المختار لسكسونيا وكان فردريك حاكماً ورعاً حسن التدبير، ولم يكن لديه اعتراض من الناحية النظرية على صكوك الغفران وقد جمع 19000 من مخلفات القديسين في كنيسة قصره بفيتنبرج(7)، واتخذ التدابير اللازمة للحصول على صك غفران يرتبط بتوقيرها كما حصل على صك غفران آخر للمتبرعين بالأموال اللازمة لبناء قنطرة في تورجاو، وعهد إلى تيتزل بأن يعلن عن فوائد هذا الصك البابوي(8)، ومهما يكن من أمر فإنه أمسك من البابا الكسندر السادس (1501) المبلغ الذي جمع في إمارة سكسونيا بموجب صك غفران يمنح مقابل التبرعات اللازمة للحرب الصليبية ضد الأتراك، وقال إنه سوف يرفع يده عن المال عندما تتجسم الحرب الصليبية في صورة مادية، ولما لم يتحقق هذا قط احتفظ فردريك الحكيم بالأموال واستخدمها في بناء جامعة بفيتنبرج(9). وحرم في أرضه وقتذاك التبشير بصك غفران عام 1517 مدفوعاً بنفوره من السماح لعملة ساكسونيا بالهجرة، أو لعل هذا كان بدافع من التقارير عن مبالغات تيتزل؛ بيد أن تيتزل اقترب كثيراً من الحدود حتى أن أهالي فيتنبرج عبروا الحدود للحصول على صك الغفران، وجاء عدد من المشتركين لهذه "الرسائل البابوية" بها إلى مارتن لوثر أستاذ علم اللاهوت في الجامعة وطلبوا منه أن يشهد بفاعليتها فرفض، وترامى الرفض إلى مسامع تيتزل فتوعد لوثر وهكذا خلد اسمه في التاريخ.

كان قد أساء تقدير خصام الأستاذ إذ أن لوثر سرعان ما ألّف باللاتينية وخمسة وتسعين رسالة أطلق عليها اسم Disoutatio pro declaratione virtutis indulgentiarum "بحث في بيان قوة صكوك الغفران". ولم يعتبر آراءه من قبيل الهرطقة ولم تكن كذلك بكل تأكيد. وكان لا يزال كاثوليكياً متحمساً ليست لديه أدنى فكرة لقلب الكنيسة... كان غرضه أن يدحض الادعاءات المغالى فيها بشأن صكوك الغفران وأن يصحح المساوئ التي تنشأ عن توزيعها. وشعر بأن سهولة اصدار صكوك الغفران والاتجار فيها على نطاق واسع قد أضعف الاحساس بالندم الذي يجب أن يثيره ارتكاب الاثم، وجعل الخطيئة تبدو أمراً تافهاً يمكن تسويته ودياً بصفقة تُعقد مع بائع يتجر بالغفران، ومع ذلك فإنه لم ينكر "السلطة" البابوية في غفران الخطايا، وسلم بسلطة البابا في إحلال (إعفاء) النادم المعترف من العقوبات الدنيوية التي يفرضها عليه رجال الكنيسة ولكن من وجهة نظر لوثر هي أن سلطة البابا في تحرير الأرواح من المطهر أو في تقليل مدة عقابها، هناك تتوقف لا على السلطة التي تمثلها مفاتيح بطرس الرسول والتي لا تصل إلى أبعد من القبر - ولاكن تتوقف على تأثير الشفاعة لصلوات البابا، وهي قد تُسمع وقد لا تُسمع (الرسائل: 20-22) يضاف إلى هذا كله أن لوثر قال إن كل المسيحيين يشاركون آلياً في خزينة الفضائل التي كسبها المسيح والقديسون حتى وإن لم ينص خطاب بابوي بالغفران على منحهم مثل هذا النصيب. وأعفى البابوات من مسؤولية مبالغات الوعاظ، ولكنه أردف في خبث: "إن التبشير المطلق العنان بالغفران يجعل من الصعب حتى على الناس المتعلمين، أن ينقذوا الاحترام الواجب من التساؤلات الذكية اللماحة للعامة: لم لا يفرغ البابا مطهراً من أجل الحب المقدس والحاجة الملحة للأرواح الهائمة هناك إذا كان يفتدي... عدداً من الأرواح من أجل المال التعس الذي يبني به كنيسة؟ (رسائل من 81-82).


وفي وقت الظهيرة في اليوم الحادي والثلاثين من أكتوبر عام 1517 ألصق هذه الرسائل على الباب الرئيسي لكنيسة القصر في فيتنبرج، وفي اليوم الأول من نوفمبر في يوم عيد جميع القديسين عرضت هناك المخلفات المقدسة التي جمعها الأمير المختار، وكان من المتوقع حضور جمع غفير. ولا شك أن عملية اعلان هذه الرسائل على الجمهور، والتي قام بها مقدمها لمواجهة كل المتحدين، كانت عادة قديمة في جامعات القرون الوسطى وأن الباب الذي استخدمه لوثر في لصق هذا الاعلان به، كان قد استخدم بانتظام لوحة النشرات الأكاديمية. وقدم لهذه الرسائل بدعوة ودية تقول: بدافع من الحب للعقيدة والرغبة في تسليط الضوء عليها سوف تناقش الآراء التالية في فيتنبرج تحت رعاية الأب الموقر مارتن لوثر، أستاذ الآداب واللاهوت المقدس والمحاضر الثبت لنفس العلم في ذلك المكان. ولهذا يرجو من هؤلاء الذين لا يستطيعون الحضور والجدال شفوياً أن يفعلوا هذا بخطاب. وقام لوثر بترجمة هذه الرسائل إلى الألمانية ووزعها على الناس لكي يتأكد من أنه سوف تفهم على أوسع نطاق. وارسل نسخة من هذه الرسائل إلى ألبرخت كبير أساقفة ماينز بجرأة لا نظير لها، وهكذا بدأ الاصلاح الديني في جو من الرقة والورع وعن غير قصد.


2- تكوين لوثر


ترى ما هي ظروف الوراثة والبيئة التي صاغت من راهب مغمور، في مدينة لا يتعدى سكانها ثلاثة آلاف نسمة داود الثورة الدينية؟ كان أبوه هانز رجلاً صارماً فظاً يستثار بسهولة، ومناهضاً لرجال الدين، وكانت أمه امرأة خجولاً متواضعة تكرس كثيراً من أوقاتها للصلاة، وكان كلاهما مقتصداً. وعمل هانز فلاحاً في موهرا ثم اشتغل بالتعدين في مانسفيلد، إلا أن مارتن ولد في أيسليبين في اليوم العاشر من نوفمبر عام 1483، وأعقب والده بعده ستة أطفال. وكان هانز وجريتا يؤمنان بالعصا كوسيلة سحرية لتقويم الأخلاق، ويقول مارتن إن أباه ثابر على ضربه يوماً حتى إنهما ظلا زمناً طويلاً يناصب كل منهما الآخر العداء، وفي مناسبة أخرى جلدته أمه حتى سال دمه لأنه سرق جوزة. وقال مارتن مفكراً فيما بعد: "إن الحياة الخشنة القاسية التي عشتها معهما هي التي دفعتني إلى أن ألجأ فيما بعد إلى الدير وأصبح راهباً"(10). وليس من شك في أن صورة الرب التي نقلها له والداه عكست مزاجهما الخاص. أب قاسٍ وقاضٍ صارم يطالب بفضيلة عبوس ويطلب استرضاءه دائماً ويلعن أخيراً الجانب الأكبر من البشر ويدعو عليهم بأن يخلدوا في النار. وكان والداه كلاهما يؤمنان بوجود سحرة وعفاريت وملائكة وشياطين من فصائل متعددة وتخصصات متنوعة، وحمل مارتن معه حتى النهاية معظم هذه الخرافات. وهكذا أسهم دين قام على الفزع في بيت يحتفل بالتأديب الصارم في تكوين شباب لوثر وعقيدته الدينية.

والتحق بمدرسة في مانسفيلد كان الطلبة يتلقون فيها مزيداً من العصي وكثيراً من الوعظ وجُلد فيها مارتن خمس عشرة مرة في يوم واحد لأنه أخطأ في اعراب اسم. وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره نقل إلى مدرسة ثانوية تديرها جمعية دينية في ماجدنبرج، وفي سن الرابعة عشرة حول إلى مدرسة سانت جورج في أيزيناخ، وأمضى ثلاث سنوات سعيدة نسبياً اقام فيها بمنزل السيدة كوتا المريح. ولم ينسَ لوثر قد قولها إنه ليس على ظهر الأرض ما هو أثمن للرجل من حب إمرأة فاضلة. وكانت هذه نعمة لم يظفر بها إلا بعد اثنين وأربعين عاماً، وفي هذا الجو الصحي استكمل السحر الطبيعي للشباب، إذ كان سليماً معافى صريحاً ومنشرحاً من الناحية الاجتماعية. وكان يحسن الغناء والعزف على العود. وأرسله والده الميسور الحال عام 1501 إلى الجامعة في أرفورت، وكان برنامج الدرس يركز على اللاهوت والفلسفة، وكانت لا تزال كلامية ولكن المذهب الاسمي لأوكهام كان قد انتصر هناك، ولعا لوثر قد فطن إلى رأي أوكهام الذي يذهب إلى أن البابوات والمجالس الدينية يمكن أن تخطئ، وكان من رأيه أن فلسفة الكلام في أية صورة من صورها غير مستحبة حتى انه امتدح لصديق له "إلا يتعلم الروث الذي يقدم باعتباره فلسفة"(11).

وكان في أرفورت بعض علماء الانسانيات المعتدلين، وتأثر بهم قليلاً ولكنهم لم يهتموا به عندما وجدوه يحتفل بالعالم الآخر. وتعلم قليلاً من اليونانية والنزر اليسير من العبرية ولكنه قرأ أمهات الكتب الكلاسيكية باللاتينية، وحصل على 1505 على درجة الماجستير في الآداب، فأرسل له أبوه المزهو به نسخة غالية من مجموعة قوانين البلد هدية بمناسبة تخرجه. واغتبط عندما بدأ ابنه في دراسة القانون. وفجأة بعد شهرين من هذه الدراسة قرر الشاب أن يصبح راهباً، الأمر الذي أفزع والده.

وهذا القرار يعبر عن التناقض في خلقه، فقد كان قوياً يفيض بالحيوية إلى حد الانغماس في الشهوات، وكان من الواضح أنه خلق لحياة يرضي فيها الغرائز الطبيعية، ومع أنه لقن في البيت والمدرسة عن اقتناع أن الإنسان آثم بطبعه، وأن الاثم معصية لإله قادر على كل شيء شديد العقاب، فإنه لم يوفق قط، في الفكر أو في السلوك، بين غرائزه الطبيعية وبين معتقداته المكتسبة. ويبدو أنه عندما كان يمر بالتجارب الغرامية العادية ونزوات المراهقة لم يستطع أن ينظر إلى هذه التجارب على أنها مراحل من التطور، بل رأى أنها من أعمال شيطان نذر نفسه للإيقاع بالارواح في لعنة أبدية لا فكاك منها. وكان مفهومه الذي لقن له عن الله لا يكاد يشمل أي عنصر من الحنان، ولم يكن لصورة مريم المواسية موضع كبير في هذا اللاهوت القائم على الخوف، ولم يكن يسوع هذا هو الابن المحب الذي لا يستطيع أن يرفض طلباً لأمه، بل كان عيسى في يوم الدينونة الذي كثيراً ما صوّر في الكنائس، المسيح الذي هدد الخاطئين بعذاب جهنم الأبدي. وليس من شك في أن الفكرة المتواترة عن الجحيم وضعت غشاوة على عقل كان شديد التمسك بتعاليم الدين بحيث نسيها وهو ينتهب لذة الحياة كل يوم. وبينما كان عائداً يوماً من بيت أبيه في أرفورت (يوليو سنة 1505) واجهته عاصفة رهيبة، ولمع البرق حوله، وأصابت الصاعقة شجرة قريبة منه؛ وخيل للوثر أن هذا انذار من الله وأنه ما لم يكرس أفكاره للخلاص فسوف يفاجئه الموت ويلقى حتفه دون أن يسمع اعترافه وتطارده اللعنة. ترى اين يستطيع أن يحيا حياة ينصرف فيها إلى التعبد؟ إن هذا لا يتيسر إلا حيث يقيم حاجزاً بينه وبين العالم والشهوة والشيطان، بين أربعة جدران، أو يقهر النفس بالانصراف إلى التقشف، ونذر عهداً للقديسة آن أنه لو نجا من هذه العاصفة فسوف يصبح راهباً.

وكان هناك عشرون ديراً في أرفورت فاختار واحداً عرف بالإخلاص في مراعاة قواعد الأديرة، وهو دير الرهبان الأوغسطينيين، ودعا أصدقاءه جميعاً وشرب وغنى معهم في حفل قال لهم إنه يقوم به لآخر مرة وفي اليوم التالي استقبل في خلوة بدير كمبتدئ في الرهبنة، وقام بأحقر الأعمال في تواضع لا يخلو من الاعتزاز بالنفس، وتلا الصلوات مراراً وتكراراً كمن نوّم نفسه تنويماً مغناطيسياً، وتجمد جسده في مضجع بارد وصام وعذب نفسه، أملاً في أن يطرد من جسده الشياطين وقال: "كنت راهباً ورعاً أراعي أحكام الطائفة التي أنتمي إليها بشدة إلى حد أنه... إذ قد قدر لراهب أن يدخل الجنة عن طريق الرهبنة فإني أدخلها لا محالة... ولو أن هذا الأمر طال أكثر من هذا لكنت عذبت نفسي حتى الموت بالسهر والصلاة والقراءة وغيرها من الأعمال"(12). وفي إحدى المناسبات عندما اختفى عن الاعين بضعة أيام اقتحم اصدقاؤه عليه خلوته فوجدوه يرقد على الأرض غائب الوعي، وكانوا قد أحضروا معهم عوداً وعزف عليه واحد منهم فاسترد قواه وشكرهم. وفي سبتمبر عام 1506 أقسم قسماً مغلظاً بأن يلتزم الخصاصة والعفة والطاعة، وفي مايو عام 1507 رُسم قساً ومحضه زملاؤه الرهبان نصيحة ودية وأكد له أحدهم أن عذاب المسيح إنما هو تكفير عن طبيعة الإنسان الخاطئة وأنه فتح للتائب أبواب الجنة.

وما قرأه لوثر عن الصوفيين الألمان وبخاصة عن تاولر أعطاه أملاً في أن يجتاز الثغرة الرهيبة بين روح تنزع بطبيعتها إلى الخطيئة وبين إله مقسط قادر على كل شيء. ثم وقعت في يديه رسالة بقلم جون هس فساورته شكوك عقائدية زادت من اضطرابه الروحي. وتساءل قائلاً: "ترى لماذا أحرق رجل استطاع أن يكتب بمثل هذه الروح المسيحية وبهذه القوة؟ لقد أغلقت الكتاب وأشحت بوجهي وقلبي جريح"(13). وأولى جوهان فون شتاوبتز، وهو قسيس اقليمي من الرهبان الأوغسطينيين، الراهب القلق، اهتماماً أبوياً، وأمره أن يستبدل بالتقشف قراءة الكتاب المقدس وتعاليم القدّيس أوغسطين بكل عناية. وأعرب الرهبان عن جزعهم لم أصابه فأعطوه كتاباً مقدساً باللاتينية - وكان وقتذاك من المقتنيات النادرة - بالنسبة لأي فرد.

وفي أحد أيام عام 1508 أو عام 1509 استرعت انتباهه عبارة وردت في رسالة القدّيس بولس إلى الرومان (1 : 17) "إن الحق يحيا بالإيمان" وقادته هذه الكلمات في بطئ إلى العقيدة التي تذهب إلى أن الإنسان يمكن أن يزكى - أي يرجع إلى الصواب وينجو من النار - لا بالأعمال الطيبة التي لا يمكن أن تكفي أبداً للتكفير عن معصيته لإله لا حد لقدرته، بل بالإيمان المطلق بالمسيح وبتكفيره عن خطايا البشر. ووجد لوثر في تعاليم أوغسطين فكرة أخرى لعلها جددت من مخاوفه - تلك هي القدر - أن الله قدر حتى قبل الخليقة أن تحظى بعض الأرواح بالخلاص وأن يزج بالباقي في جهنم، وأن الاختيار تم بمشيئة الله أن يكون الخلاص بالتضحية بالمسيح. ومن هذا المجال الصريح فر مرة أخرى إلى أمله الأساسي في الخلاص عن طريق الأيمان.

وحول عام 1508 نقل إلى دير أوغسطين في فيتنبرج بناء على توصية من شتاوبيتز، وعين في وظيفة معلم للمنطق والفيزياء، ثم عين أستاذاً للاهوت في الجامعة. وكانت فيتنبرج عاصمة الشمال - وقلما كانت محل إقامة - لفردريك الحكيم وقال أحد المعاصرين عنها: "مدينة فقيرة لا أهمية لها بيوتها خشبية صغيرة، قديمة قبيحة الشكل" ووصف لوثر السكان بقوله: "إنهم سكارى يفتقرون إلى التهذيب منغمسون في العربدة إلى حد يجاوز الاعتدال، وقد اشتهروا بأنهم أشد الناس إدماناً على الشراب في ساكسونيا التي كانت تعد أعظم مقاطعة في ألمانيا يغرم أهلها بالشراب". وقال لوثر إن الحضارة انتهت على بعد ميل من الشرق وبدأت الهمجية وظل هناك الجانب الأكبر من حياته إلى نهاية أيامه. ولا بد أنه قد أصبح راهباً مثالياً وقتذاك لأنه أرسل في اكتوبر من عام 1510 مع زميل له من الرهبان، إلى روما في مهمة غامضة للرهبان الأوغسطينيين، وكان أول رد فعل عنده لدى مشاهدته المدينة رهبة مشوبة بالورع، فسجد ورفع يديه وهتف يقول: "سلاماً عليكِ يا روما المقدسة!" وقام بكل الشعائر شأنه شأن أي حاج، وانحنى في إجلال أمام مخلفات القديسين وصعد على السلم المقدس Scala Santa وهو يسير على ركبتيه، وزار عشرين كنيسة وظفر بكثير من صكوك الغفران، حتى انه تمنى أو كاد لو كان والداه ميتين حتى يستطيع أن ينقذهما من المطهر. وارتاد المنتدى الروماني ولكن كان من الواضح أنه لم يتأثر بفن عصر النهضة، وكان رافائيل ومايكل أنجيلو ومئات غيرهما قد بدءوا في تزيين العاصمة. وظل سنوات عديدة بعد القيام بهذه الرحلة دون أن يقوم بتعليق واضح جلي على تعلق رجال الدين الرومان بالدنيا، أو على الانحلال الخلقي الذي كان شائعاً وقتذاك في المدينة المقدسة. ومهما يكن من أمر فإنه بعد عشر سنوات رصف روما عام 1510 بأنها "تدعو للمقت" ولا يزال من هذا المزيد في ذكرياته التي تبتسم بالخيال المتوقد، والتي تخطر له أحياناً في أحاديثه حول مائدة الطعام في سن الشيخوخة، وقال إن البابوات أسوأ من الأباطرة الوثنيين وإن اثنتي عشرة فتاة عارية كن يقمن بخدمة رجال البلاط البابوي وقت العشاء"(14). ومن المحتمل أنه لا يتيسر له الدخول في أوساط رجال الكهنوت الكبار ولم تكن له معرفة مباشرة بأخلاقهم المنحلة التي لا شك فيها.

وارتقى بسرعة في المناصب التعليمية بعد عودته إلى فيتنبرج "فبراير عام 1511" ونصب نائباً للأسقف في طائفته. وألقى محاضرات في الكتاب المقدس، وقام بالوعظ بانتظام في كنيسة الأبرشية ونهض بعبء العمل في وظيفته بجد وولاء، ويقول عالم كاثوليكي مشهور: "إن خطاباته الرسمية تنم على اهتمام شديد بالذين ساورتهم الشكوك وتفيض بعطف رقرق على الآثم وتفصح عن لمسات عميقة من الشعور الديني والرأي العملي النادر وإن كانت لم تخلُ من تشويه نصائح لها اتجاهات مخالفة للعقيدة، وعندما اجتاح الطاعون فيتنبرج عام 1516 لزم مكانه بشجاعة، ورفض أن يتخلى عنه على الرغم مما أبداه أصدقاؤه من قلق"(15). وخلال هذه السنوات (1512-1517) تحولت آراؤه الدينية ببطء عن المذاهب الرسمية للكنيسة، وبدأ يتحدث عن "لاهوتنا" مقابل ما كان يدرس في ارفورت. وفي عام 1515 عزا ما أصاب العالم من فساد إلى رجال الكهنوت الذين قالوا للناس كثيراً جداً من أمثال وحكايات خرافية من إبداع البشر وليست من الكتب المنزلة. واكتشف عام 1516 مخطوطة ألمانية مجهولة المؤلف أيد ما بها من التقوى الصوفية رأيه في اعتماد الروح الكلي في الخلاص على رحمة الله إلى حد أنه أعدها للنشر وطبعها باسم "لاهوت ألماني Theologia Germanica". ووجه اللوم إلى المبشرين بصكوك الغفران لاستغلالهم سذاجة الفقراء، وبدأ في مراسلاته الخاصة يبرهن على أن "ضد المسيح" الوارد في الرسالة الأولى ليوحنا شبيه بالبابا(16). ودعاه الدوق جورج صاحب ألبرتين سكسونيا عام 1517 إلى الوعظ في برسدن، فأثبت بالدليل أن مجرد قبول فضائل المسيح يحقق الخلاص للمؤمن. وشكا الدوق من أن مثل هذا التشدد في الإيمان أكثر من الفضيلة "سوف يجعل الناس مغرورين ومتمردين فحسب"(17)، وبعد ثلاثة شهور تحدى الراهب المشهور العالم إلى مناظرته في الرسائل الخمس والتسعين التي علها في كنيسة فيتنبرج.


3- الثورة تتخذ شكلاً


قد توحي الصورة التي حفرها كراناخ على الخشب عام 1520 أن لوثر في عام 1517 كان راهباً حليق الرأس متوسط القامة رشيق الجسم إلى حين، وله عينان واسعتان ينما على العزم الجاد، وأنف كبير وذقن يدل على قوة العزيمة ووجه يفصح في هدوء لا في لجاجة عن الشجاعة وقوة الشخصية، ومع ذلك فإنه كتب هذه الرسائل بدافع من الغضب المتسم بالاخلاص لا عن جرأة حمقاء ولم يرَ فيها الأسقف الحلي شيئاً من الهرطقة ولكنه نصح لوثر في لطف ألا يكتب شيئاً آخر في الموضوع لفترة ما. وقد هل المؤلف نفسه ما أثاره من غضب. وفي مايو عام 1518 أبلغ شتاوبتز أن أمله الحقيقي هو أن يقضي حياته في عزلة هادئة ولكنه كان يخدع نفسه فقد كان تلذ له المعركة. وأصبحت الرسائل حديث الطبقة المتعلمة في ألمانيا. كان الآلاف ينتظرون احتجاجاً كهذا، وهللت الحركة المضادة لرجال الدين وانطلقت من عقالها إذ وجدت صوتاً يعبر عنها. وقل الإقبال على شراء صكوك الغفران. ولكن كثيراً من أنصاره تصدوا لمواجهة التحدي وأجاب تيتزل، بمعاونة بعض المحترفين، في "مائة وست رسالة مضادة" (ديسمبر عام 1517). ولم يسلم فيها باي شيء ولم يقدم أي اعتذار بل "إنه أصدر في بعض الأحيان حكماً لا يقبل التفاهم مؤيداً لآراء لاهوتية بحتة لا تكاد تتفق مع أعظم الدراسات دقة"(18). وعندما وصل هذا المؤلف إلى فيتنبرج وعرضه بائع جوال للبيع تألبت عليه جمهرة من طلبة الجامعة، وأحرق المخزون لديه وقدره 800 نسخة في ساحة السوق - وهو إجراء استهجنه لوثر في جذل. ورد على تيتزل في "عظة حوول صكوك الغفران والرحمة"، وختمها بقوله في تحد لا نظير له: "إذا كنت هرطيقاً في نظر مَن تعاني أكياس نقودهم من الحقائق التي أذكرها فإني لا أبالي كثيراً بصياحهم لأنه لا يقول هذا إلا مَن رانت على عقولهم غشاوة فلم يعرفوا قط الإنجيل"(19). وأمطر جاكوب فان هوجسترايتن الكولوني، لوثر ووابلاً من عبارات التنديد، واقترح أن يحرق على السارية، وأصدر جوهان إيك، نائب مدير جامعة أنجولشتادت كتيباً باسم Obeilsci (مارس عام 1518) اتهم فيه لوثر بنشر "السم البوهيمي" (هرطقات هس) وتقويض النظام الاكليروسي بأسره.

وفي روما نشر سيلفستر بريرياس، رقيب الأدب البابوي حواراً "يؤيد فيه سيادة البابا المطلقة بألفاظ لا تخلوا تماماً من المبالغة وبخاصة عندما يبسط نظريته إلى نقطة خاصة بالتجارة في صكوك الغفران ليس لها سند ولا عليها دليل"(20).

وردّ لوثر في كتيب اسمه Resolutiones قرارات (أبريل عام 1518) وأرسل نسخاً منه إلى أسقفه المحلي وإلى البابا - مع تأكيدات بالمحافظة والطاعة في كلتا الحالتين وتحدث النص في رفق عن ليو العاشر: "على الرغم من أن في عالم الكنيسة رجالاً يجمعون بين العلم والقداسة فإن من سوء طالع عصرنا مع ذلك أنهم لا يستطيعون أن يمدوا يد العون للكنيسة... وها نحن أولاء نجد حبراً أعظم لا يباري هوليو العاشر، يمتاز بكمال وعلم هما بهجة لكل آذان الناس الطيبين، ولكن ماذا يستطيع أن يفعل وحده أرق الرجال قلباً في مثل هذه البلبلة الكبيرة بين الامور مهما كان جديراً بأن يحكم في أوقات خير من هذه؟... إننا في هذا العصر لا نستحق إلا بابوات من أمثال يوليوس الثاني وألكسندر السادس... إن روما نفسها - نعم روما، أكثر من الكل، تسخر الآن من الناس الطيبين، ترى في أي جزء من العالم المسيحي غير روما، حصن بابيلون الحقيقي، يهزأ الناس بحرية من أحسن الأساقفة؟" وأكد لليو مباشرة خضوعاً غريباً بقوله: "أيها الاب المبارك أقدم تحت أعتاب قداستك تذللي وخضوعي بكل ما أكونه وما أملك. هيا وسارع، واقتل وادعِ واستدعِ واستحسن واستهجن إذا راق ذلك في نظرك. إني سأقر بأن صوتك هو صوت المسيح، إذ يقيم في جسدك ويتحدث. وإذا كنت أستحق الموت فلن ارفض أن أموت"(21). ومهما يكن من أمر فإن كتابة قرارات Resolutiones كما لاحظ مستشارو ليو أكد أن المجلس المسكوني أعلى رتبة من البابا، وتحدث مستخفاً عن المخلفات المقدسة وعن الحجج وأنكر فضائل القديسين الزائدة ونبذ كل الإضافات التي قام بها البابوات في القرون الثلاثة الأخيرة على نظرية صكوك الغفران وممارستها، ولما كانت هذه مصدراً له أهميته للدخل البابوي ولما كان ليو في حيرة لا يدري كيف يمول مشروعاته الإنسانية ومنازله وحروبه وإدارة وتنفيذ برنامج بناء الكنيسة أيضاً فإن الحبر الأعظم الذي استبد به القلق، والذي لم يعبأ في مبدأ الأمر بالنزاع باعتباره ضجة عابرة بين الرهبان، تصدى للأمر وأخذه وقتذاك على عاتقه واستدعى لوثر إلى روما (7 يوليو سنة 1518).

وواجه لوثر قراراً حرجاً فحتى إذا عامله أرق البابوات برفق فإنه قد يجد نفسه ملزماً بإيثار الصمت في أدب واعتقال نفسه في دير روماني وسرعان ما ينساه هؤلاء الذين يهتفون له الآن. وكتب إلى جورج سبالاتان القسيس الخاص بالأمير المختار فردريك يقترح عليه أن يبادر الأمراء الألمان بحماية مواطنيهم من التسليم الإجباري لإيطاليا فوافق الأمير إذ كان يجل لوثر الذ كان له الفل في نجاح جامعة فيتنبرج، وفضلاً عن هذا فإن الإمبراطور ماكس رأى أن لوثر ورقة رابحة يمكن أن يلعب بها في نزاعه الدبلوماسي مع روما فأشار على الأمير المختار أن "يهتم جداً بذلك الراهب"(22).

وفي هذا الوقت نفسه كان الإمبراطور قد دعا المجلس النيابي الإمبراطوري إلى الاجتماع في أوجسبورج للنظر في طلب البابا فرض ضريبة على ألمانيا للمعاونة في تمويل حملة صليبية جديدة ضد الأتراك فرجال الاكليروس (كما رأى ليو) يجب أن يدفعوا عشر دخلهم والعلمانيون جزءاً من أثني عشر جزءاً من دخلهم، وكل خمسين من أرباب البيوت يجب أن يجهزوا رجلاً ورفض المجلس النيابي بل أنه على النقيض سجل مرة أخرى... المظالم التي كانت تهيئ الدعامة التي قام عليها لوثر، وأوضح للقاصد الرسولي أن ألمانيا كثيراً ما فرضت على نفسها الضرائب للحملات الصليبية فوجدت أن الأموال تنفق في أغراض البابا الأخرى وأن الناس يعارضون بشدة أية تنازل آخر عن المال لإيطاليا وأن المبالغ السنوية التي تدفع للبابا عن ريع أول عام ورسوم التثبيت الديني ونفقات القضايا الكنسية المحالة إلى روما كانت عبئاً ثقيلاً لا يطاق، وأن التبرعات الألمانية كانت تعطى مثل ثمار البرقوق إلى القساوسة الإيطاليين. وقال أحد النواب إن مثل هذا الرفض الجريء للمطالب البابوية لم يعرف قط في تاريخ ألمانيا(23). وعندما لاحظ ماكسمليان روح الثورة بين الأمراء كتب إلى روما ينصح بالحرص في معاملة لوثر، ولكنه وعد بالتعاون في القضاء على الهرطقة. وكان ليو ميالاً أو مضطراً إلى التسامح، والحق أن مؤرخاً بروتستانتياً عزا انتصار الاصلاح الديني إلى اعتدال البابا(24) واستبعد الأمر بمثول لوثر أمامه في روما، وبدلاً من ذلك أمره بأن يمثل أمام الكاردينال كاجيتان في أوجسبورج وأن يجيب على التهم الموجهة إليه بالخروج على النظام والهرطقة. وأصدر تعليماته إلى قاصده الرسولي بأن يعرض على لوثر صفحاً كاملاً ومناصب في المستقبل إذا تراجع عن أقواله وأقر بذلك وإلا فإنه سوف يطلب من السلطات الزمنية أن ترسله إلى روما(25). وفي الوقت نفسه أعلم ليو عن نيته في تقديم تكريم لفردريك طالما تطلع إليه الأمير المختار الورع - ألا وهو "الوردة الذهبية" التي كان البابوات يمنحونها للحكام الزمنيين الذين يودون أن يخصّوهم بأرفع هباتهم، ولعل ليو عرض وقتذاك أن يؤيد فردريك كوارث للعرش الامبراطوري(26).

وقابل لوثر في أوجسبورج الكردينال كاجيتان وهو متسلح بجواز أمان من الإمبراطور (12-14 أكتوبر عام 1518)، وكان الكردينال رجلاً متضلعاً في اللاهوت ويعيش حياة مثالية، ولكنه أساء تفسير وظيفته على أنه قاضٍ وليس دبلوماسياً، ورأى أولاً وقبل كل شيء أن الأمر مسألة تتعلق بالنظام الكنسي وضبطه: هل يسمح لراهب أن ينتقد علناً رؤساءه - الذين أقسم أن يدين لهم بالطاعة وأن يدافع عن آراء أدانتها الكنيسة؟ ورفض أن يناقش صحة آراء لوثر أو خطأها وطالبه بأن يسحب أقواله وأن يتعهد بألا يعكر صفو الكنيسة. ولم يستطع أحدهما صبراً على الآخر، وعاد لوثر إلى فينبرج دون أن يتوب وطلب كاجيتان من فردريك أن يرسله إلى روما فأبى فردريك. وكتب لوثر بياناً شائقاً عن المقابلات نشر في أرجاء ألمانيا، وعندما قدمه إلى صديقه فينتسل لينك أضاف قائلاً: "أرسل لك عملي التافه لكي ترى ما إذا كنت مخطئاً في رأيي، طبقاً لتعاليم بولس، أن المناهض الحقيقي للمسيحية يسيطر على البلاد الروماني وأنا أعتقد أنه أسوأ من أي تركي"(27). وفي خطاب أكثر اعتدالاً بعث به إلى الدوق جورج طالب بقوله: "يجب القيام بإصلاح ديني عام للطبقات الروحية والزمنية"(28) والمعروف أن هذه هي المرة الولى التي استخدم فيها الكلمة التي أضفت على ثورته اسمها التاريخي.

واستمر ليو في محاولاته للتوفيق، فأصدر نشرة بابوية في التاسع من نوفمبر عام 1518 أنكر فيها كثيراً من المزاعم المتطرفة التي نسبت إلى صكوك الغفران، فهذه لا تمحو الآثام أو الذنوب ولكنها تعفي فحسب من العقوبات الدنيوية التي فرضتها الكنيسة - لا الحكام الزمنيون - أما بالنسبة لإطلاق سراح الأرواح من المطهر فإن سلطة البابا محدودة بصلواته التي يبتهل فيها إلى الله أن يمنح روح ميت البركة الزائدة للمسيح والقديسين. وفي الثامن والعشرين من نوفمبر قدم لوثر طلباً إلى مجلس عام يستأنف فيه حكم البابا. وفي ذلك الشهر نفسه عهد ليو إلى كارل فون ميلتيتز، وهو نبيل من الطبقات الصغرى في روما، بأن يأخذ "الوردة الذهبية" إلى فردريك وأن يقوم أيضاً بجهد سلمي للعودة بلوثر "إبن الشيطان" إلى حظيرة الطاعة(29).

وعندما وصل ميلتيتز إلى ألمانيا دهش عندما وجد أن نصف أهالي البلد يجاهرون بالعداء للسدة الرومانية وأن من بين كل خمسة من أصدقائه في أوجسبورج ونورمبورج ثلاثة يؤيدون لوثر. وفي ساكسوني كان الشعور المناهض للبابوية قوياً إلى حد أنه تنصل من كل الدلائل التي تشير إلى أنه مبعوث بابوي. وعندما التقى بلوثر في ألتن بورج (3 يناير سنة 1519) وجده صريحاً يؤثر أن يقرع الحجة بالحجة ولا يهاب أحداً. وربما كان لوثر في هذه المرحلة يتوق في اخلاصه إلى الحفاظ على وحدة العالم المسيحي الغربي. وقام بتنازلات كريمة: أن يلزم السكوت إذا التزم خصومه بذلك وأن يكتب رسالة يعلن فيها خضوعه للبابا وأن يقر علناً بصحة الصلوات للقديسين وبحقيقة المطهر وبفائدة صكوك الغفران في الإعفاء من العقوبات الكنسية وأن ينصح الناس بالولاء المسالم للكنيسة، وفي غضون ذلك يجب أن تعرض تفاصيل الخلاف على أسقف ألماني يقبله الطرفان(30) للفصل فيها. فسر ميلتيتز كثيراً وانطلق إلى ليبتسيج واستدعى تيتزل وعنّفه على تطاوله واتهمه بالكذب وخيانة الأمانة وعزله فانزوى تيتزل في ديره ومات بعدها بقليل (11 أغسطس سنة 1519) وتلقى، وهو على فراش الموت، خطاباً رقيقاً من لوثر يؤكد له فيه أن بيع صك الغفران لم يكن غلا مناسبة وليس سبباً للفتنة و "أن المسألة لم تكن قد بدأت من أجل ذلك ولكن أن للموضوع الوليد أبا آخر"(31). وفي الثالث من مارس كتب لوثر رسالة إلى البابا يعلن فيها خضوعه التام فرد عليه ليو بروح وديّة (29 مارس) ودعاه للحضور إلى روما ليدلي باعترافه، وعرض عليه مالاً لتغطية نفقات رحلته(32). ومهما يكن من أمر فإن لوثر، في تناقض صريح كان قد كتب إلى سبالاتان في الثالث عشر من مارس: "إني في حيرة لا أدري هل البابا مناهض للمسيح أم أنه رسوله"(33). ورأى أن في هذه الظروف أن من الأسلم له أن يبقى في فيتنبرج.

وهناك كانت الكلية والطلبة والمواطنون يعطفون في الغالب على قضيته، ولقد أسعده بصفة خاصة أن يلقى التأييد من شاب ألمعي، عالم بالإنسانيات واللاهوت، كان قد عينه الأمير المختار عام 1518 وهو في الحادية والعشرين من عمره لتدريس اللغة اليونانية بالجامعة. وكان فيليب شفارتسرت (الأرض السوداء) قد صبغ اسمه بالهيلينية وغيرّه إلى ميلانكتون على يد عمه العظيم رويخلين، كان رجلاً صغير القامة ضعيف البنية، يعرج في مشيته، وله تقاطيع لطيفة، وحاجبان مرتفعان، وعينان تنمان عن الخجل، وقد أصبح مفكر الاصلاح الديني هذا محبوباً في فيتنبرج إلى حد أن خمسمائة أو ستمائة من الطلبة كانوا يتجمهرون في قاعة محاضرته، بل إن لوثر نفسه الذي وصفه بأنه "ستحلى بكل فضيلة معروفة للإنسان"(34) كان يجلس في تواضع بين تلاميذه. وقال أرازموس: "إن ميلانكتون رجل رقرق الحاشية فحتى أعداؤه يذكرونه بالخير(35). وكان لوثر يلذ له الصراع بينما كان ميلانكتون يؤثر المسالمة والتراخي، وكان لوثر يؤنبه أحياناً على أنه حليم أكثر مما يجب، إلا أن أنبل جانب للوثر وأشده اعتدالاً قد اتضح في حبه الذي لم ينقطع لرجل يختلف عنه في المزاج والسياسة. "لقد خلقت للحرب والقتال مع الأحزاب والشياطين، ومن هنا فإن كتب عاصفة خليقة بمحارب. لابد أن أجتث جذور جذوع الأشجار وبقاياها وأن أنتزع الأشواك وأقلم نباتات الأسوار وأن أردم الحفر، فأنا خبير بالإحراج وأستطيع أن أقتحم فيها طريقاً وأن أهيّئ الامور، أما الأستاذ فيليب فإنه يسير في رفق وهدوء ويفلح الأرض ويزرع ويبذر ويسقي وهو مسرور كما حباه الله في سخاء"(36).

وثمة أستاذ آخر في فيتنبرج لمع ببريق أشد من بريق ميلانكتون ذلك هو أندرياس بودينشتاين، المعروف من محل ميلاده باسم كارلشتادت، وقد انضم إلى هيئة التدريس بالجامعة وهو في الرابعة والعشرين من عمره (1504) وفي الثلاثين عين أستاذاً لكرسي الفلسفة التومية واللاهوت. وفي اليوم الثالث عشر من ابريل عام 1517 سبق احتجاج لوثر التاريخي بنشر 152 مقالاً ضد صكوك الغفران. وكان في مبدأ الأمر معارضاً للوثر ولكنه سرعان ما تحول إلى نصير غيور حتى لقد قال عنه الثائر العظيم "إنه أشد تحمساً مني للأمر"(37). وعندما تحدى إيك في كتابه Obelisci رسائل لوثر دافع عنها كارلشتادت في 406 قضية منطقية واحدى هذه القضايا المنطقية تحتوي على أول بيان محدد بالألمانية عن الاصلاح الديني الألماني وعن سلطة الإنجيل العليا على مراسيم الكنيسة وتقاليدها. فرد إيك وتحداه أن يدخل معه في مناظرة علنية، فوافق كارلشتادت في الحال وقام لوثر بعمل التدابير اللازمة، ثم نشر إيك بياناً أورد فيه قائمة بثلاثة عشر مقالاً عرض أن يقيم عليها الدليل في المناظرة. وجاء في إحداها "نحن ننكر أن الكنيسة الرومانية لم تكن أعلى من الكنائس الأخرى قبل عهد سيلفستر وقد اعترفنا لشاغل كرسي بطرس بأنه خليفة المسيح ونائبه". ولكن لوثر وليس كارلشتادت هو الذي أثار في كتابه "قرارات" Resolutiones مسألة أن السلطة الرومانية في القرون الأولى من المسيحية لم يكن لها من السلطان ما يزيد على سلطان عدة أساقفة آخرين من أساقفة الكنيسة، وشعر لوثر بأن هذا التحدي موجه له وزعم أن مقال إيك قد حرره من عهده الذي قطعه على نفسه بالتزام السكوت وقرر أن ينظم إلى كارلشتادت في المبارة اللاهوتية.

وفي يوليه عام 1519 انطلق المحاربان إلى ليبتسيج يصحبهما ميلانكتون وستة اساتذة آخرون، ويرافقهما 200 طاب من فيتنبرج في عربات ريفية وهم مسلحون ومسربلون بالدروع وكأنهم مقبلون على معركة، والحق أنهم كانوا يدخلون أرضاً معادية للوثر. وفي القاعة الكبيرة المفروشة بالطنافس في قلعة بلايسينبورج ووسط جمهرة من المشاهدين المتلهفين وتحت رئاسة الدوق المحافظ جورج صاحب ألبرتين ساكسوني بدأ إيك وكارلشتادت المثاقفة بين القديم والجديد (27 يونيه). ولم يكد أحد في ليبتسبورج يعبأ بأن إمبراطوراً جديداً سوف يُنتخب غداً في فرانكفورت الواقعة في المين.

وبعد أن عانى كارلشتادت أياماً من براعة إيك العالية في المناظرة ناب لوثر عن فيتنبرج. وكان المعياً قوي الحجة في النقاش، ولكنه كان قليل المبالاة إلى درجة التهور، فأنكر بشدة رئاسة أسقف روما في أيام المسيحية الأولى وذكر أشد مستمعيه كراهة بأن الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية الواسعة الانتشار لا تزال ترفض سيادة روما. وعندما هاجم إيك رأي لوثر وقال إنه إنما يردد وجهة نظر هس التي أدانها مجلس كونستانس، رد لوثر بقوله إن المجالس المسكونية يمكن أن تخطئ وأن كثيراً من آراء هس كانت صحيحة وعندما انتهى هذا الجدل (8 يوليه) كان إيك قد وصل إلى غرضه الحقيقي - وهو أن يستدرج لوثر إلى أن يرتكب بنفسه جريمة هرطقة محددة، فقد تحول الاصلاح الديني من خلاف صغير حول صكوك الغفران إلى تحدٍ كبير للسلطات البابوية على العالم المسيحي.

وانطلق إيك إلى روما وقدم إلى السدة البابوية تقريراً عما دار من نقاش وأوصى بحرمان لوثر من غفران الكنيسة، ولكن ليو لم يكن متعجلاً إلى هذا الحد إذ كان لا يزال يراوده الأمل في حل سلمي ثم إنه كان بعيداً جداً عن ألمانيا فلم يدرك مدى ما بلغته الثورة، كما أن مواطنين بارزين مبجلين من أمثال جوهان هولتسشوهر ولازاروس شبينجلر وفيليبالد بيركهايمر، دافعوا عن لوثر ودعا ديرر له بالنجاح وكان علماء الانسانية يطلقون وابلاً من الكتيبات تطعن في البابوي بكل ما استوعبه العصر من نقد جارح. وعندما وصل أولريخ فون هوتن إلى أوجسبورج عام 1518 تحول بقصائده ضد نداء ليو بجمع الأموال للحرب الصليبية وأعرب عن أمله في أن يذهب الجباة إلى الوطن بحقائب خاوية. وعندما بلغته أنباء المناظرة في ليبتسيج حيا لوثر كمحرر لألمانيا وشرع قلمه ابتداء من ذلك الوقت سيفاً مسلطاً للدفاع عن الاصلاح، وانخرط في سلك فرسان فرانتس فون سيكنجن - الذين كانوا يتلهفون على الثورة - وأغراه على أن يقدم إلى لوثر كل التأييد والحماية اللتين يمكن لعصبته المسلحة أن تزوده بهما، ورد لوثر معبراً عن تقديره الحار، ولكنه لم يكن على استعداد لاستخدام القوة دفاعاً عن شخصه.

وفي مارس عام 1520 نشر هوتن مخطوطة ألمانية قديمة كتبت في عيد الإمبراطور هني الرابع (حكم من 1056-1106)، وكانت تؤيد هنري في صراعه مع البابا جريجوري السابع، وأهدى الكتاب إلى الإمبراطور الشاب شارل الخامس إشارة إلى أن ألمانيا تتوقع منه أن ينتقم لإذلال هنري وهزيمته. وقال هوتن إن تحرير ألمانيا من روما أشد إلحاحاً من صد الأتراك. "في الوقت الذي رأى فيه أجدادنا أنه لا يخلق بهم أن يخضعوا للرومان عندما كان هؤلاء أعظم أمه حربية في العالم نجد أننا لا نخضع لهؤلاء العبيد المخنثين المنغمسين في حمأة الشهوة والترف فحسب بل إننا نعرض أنفسنا للاغتصاب ونهيّئ لهم إرضاء شهواتهم الحسية"(38). وفي أبريل عام 1520 أصدر هوتن أول سلسلتين من Gesprache وهو محاورات منظومة لعبت دوراً لا يفوقه إلا مؤلفات لوثر، وذلك في الإعراب عن الرغبة القومية في الاستقلال عن روما واستنهاضها ووصف روما بأنها: "دودة ضخمة تمتص الدماء". وصرّح بأن "البابا زعيم لص وأن عصابته تحمل اسم الكنيسة... وروما بحر من الدنس وحمأة من القذارة وبالوعة ليس لها قرار من الظلم.


ألا يجدر بنا أن نتقاطر من كل حدب وصوب لنقوم بإزالة هذه اللعنة الشائعة التي حاقت بالبشرية؟"(39)، وأقام أرازموس الحجة مع هوتن ليلطف من أسلوبه وحذره ودياً بأنه في خطر وعرضة للقبض عليه. واختبأ هوتن نفسه في قلاع سيكينجن واحدة إثر أخرى ولكنه استمر في حملته. ونصح الأمير المختار فردريك باستيلاء السلطة الزمنية على كل ثروة الأديرة، وأوضح الوجوه السامية التي يمكن لألمانيا أن تنفق فيها الأموال التي ترسل سنوياً إلى روما(40). ولكن مركز الحرب ظل في فيتنبرج الصغيرة. وفي ربيع عام 1520 نشر لوثر موجزاً به ملاحظات عنيفة استشهد بها أحدث المزاعم التي لا تلين والتي يرددها علماء اللاهوت المحافظون عن سيادة البابوات وسلطانهم. وقابل لوثر التطرف بالتطرف: إذا كانت روما تؤمن وتعلم بمعرفة البابوات والكرادلة (التي أرجو ألا تكون تلك هي الحالة) فإني أعلن بحرية في هذه الكتابات بأن المناهض للمسيحية الحقيقي يجلس في معبد الرب ويحكم في روما - بابل هذه المصبوغة بلون الارجوان - وأن مجلس تلك العشيرة الرومانية هو هيكل الشيطان... وإذا استمر هياج أنصار روما على هذا النحو فلن يكون أمامنا من علاج سوى أن يتولى الأباطرة والملوك والأمراء، تحيط بهم القوة والأسلحة، مهاجمة هذه الأوبئة في العالم وحسم الأمر بالسيف لا بالكلمات... وإذا كنا نقضي على اللصوص بالمشانق ونضرب أعناق الناهبين بالسيوف ونلقي بالهراطقة في النار فلماذا لا نهاجم أيضاً بالأسلحة أساتذة الدمار هؤلاء، أعني هؤلاء الكرادلة وهؤلاء البابوات وكل هذه البالوعة من سدوم الرومانية التي أفسدت كنيسة الرب بلا حدود، ونغسل أيدينا في دمائهم؟"(41). وأصدر كارلشتادت فيما بعد في العام نفسه "كتيباً" De Canonicis Scripturis Libelus جعل فيه الكتاب المقدس يعلو على البابوات والمجالس الدينية والتقاليد والأناجيل أعلى من الرسالات الإنجيلية، ولو أن لوثر اتبع هذا الخط الأخير لكانت البروتستانتية قد أصبحت أقل بولسية وأوغسطينية وجبرية كان كتاب Libellus على رأس عصره في الشك في تأليفٍ مؤسٍ للاسفار الخمسة (التوراة) وصحة الأناجيل ولكنه كان ضعيفاً في حجته الرئيسية: فقد قرر صحة الكتب الإنجيلية استناداً إلى الروايات المأثورة عن القرون الأولى ثم رفض الرواية التي تؤيد الكتب الثابتة على هذا النحو. وتشجع لوثر بتأييد ميلانكتون وكارلشتادت وهوتن وسيكنجن فكتب إلى سبالاتان (11 يوليه سنة 1520): "لقد ألقيت النرد. وأنا أحتقر الآن غضب الرومان بقدر ما أحتقر رضاهم. ولن أهادنهم إلى الأبد... فليدينوا ويحرقوا كل ما يمت لي بصلة، وأنا في مقابل هذا سوف أفعل لهم الكثير... إني لم أعد اليوم أخشى أحداً وسوف أنشر كتاباً باللغة الألمانية عن الاصلاح المسيحي وهو موجه ضد البابا بلهجة عنيفة كما لو كنت أوجهها إلى مناهض للمسيحية"(43).


4- نشرات بابوية ملتهبة


أصدر ليو العاشر في اليوم الخامس عشر من شهر يونيه عام 1520 نشرة أدان فيها واحداً وأربعين بياناً للوثر، وأمر بأن تُحرق علناً مؤلفاته التي ظهرت فيها، وأنذر لوثر بأن يتراجع عن أخطائه وأن يعود إلى حظيرة الدين. وإذا رفض أن يأتي إلى روما في خلال ستين يوماً ويسحب أقواله علناً فإنه سوف يُبتر من عضوية العالم المسيحي بحرمانه من غفران الكنيسة، وسوف يعرض عنه كل المؤمنين باعتباره هرطيقاً، وسوف تتوقف العبادة في جميع الأماكن التي يقيم فيها، وعلى جميع السلطات الزمنية أن تطرده من أملاكها أو تسلمه إلى روما.

وأعلن لوثر نهاية عهد التسامح بنشر أول كتاب من الكتيبات الثلاثة التي كونت برنامج الثورة الدينية. وكان حتى هذا الوقت قد كتب باللغة اللاتينية مخاطباً الطبقات المستنيرة، أما الآن فإنه كتب باللغة الألمانية - كوطني ألماني - خطاباً مفتوحاً إلى أشراف الأمة الألمانية المسيحية بشأن إصلاح طبقة رجال الدين، وشمل نداءه "استغاثة بالنبيل الشاب" الذي كان قد اختير منذ عام امبراطوراً باشم شارل الخامس "وأنعم به الله علينا ليكون زعيماً لنا وبهذا ينعش في كثير من الأفئدة آمالاً كباراً في الخير"(43). وهاجم لوثر "الجدران الثلاثة" التي شيدتها البابوي حول نفسها وهي: التمييز بين رجال الأكليروس والعلمانيين وحق البابا في أن يفسر الكتاب المقدس على هواه، وحقه المطلق في دعوة مجلس عام للكنيسة، وقال لوثر إن كل هذه الدعاوى الدفاعية يجب أت تُهدم. فأولاً ليس هناك فرق حقيقي بين رجال الأكليروس والعلمانيين إذ أن كل مسيحي ينصب قساً بالتعميد ومن ثم فإن على الحكام الزمنيين أن يمارسوا سلطاتهم "دون عائق أو اعتراض بغض النظر عما إذا كانوا يسيئون إلى البابا أو الأسقف أو القس... وكل ما نص عليه القانون الكنسي مما يناقض ذلك من خالص بنات أفكار الوقاحة الرومانية"(44). وثانياً: أن كل مسيحي يُعد قساً فإن له الحق في أن يفسر الكتب المقدسة طبقاً لما يراه(45). وثالثاً: يجب أن يكون الكتاب المقدس مرجعنا الأخير للعقيدة أو أداء الشعائر فالكتاب المقدس لا يقدم أية بينة على حق البابا المطلق في دعوة مجلس. وإذا كان ينشد بالحرمان من غفران الكنيسة أو التحريم أن يمنع مجلساً، "فإننا يجب أن نستخف بسلوكه كأنه تصرف رجل مجنون ونقذفه بحرمانه معتمدين في ذلك على الله ونقمته بقدر الإمكان"(46) ويجب دعوة مجلس في أقرب وقت وعليه أن يفحص المفارقة الفظيعة في أن زعيم العالم المسيحي يعيش في ترف دنيوي يفوق ما يحلم به أي ملك ولابد أن يضع هذا حداً لاستيلاء رجال الدين الإيطاليين على التبرعات الألمانية وأن يقلل إلى واحد في المائة من "زمرة الهوام" الذين يشغلون في روما مناصب دينية تدر عليهم دخلاً دون أن يؤدوا عملاً ويعيشون بصفة أساسية على الأموال التي يسلبونها من ألمانيا.



 صفحة رقم : 8239   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> نشرات بابوية ملتهبة


"لقد قرر البعض أن أكثر من 300000 جولدن تجد طريقها كل عام من ألمانيا إلى إيطاليا... وها نحن أولاء نصل إلى لب الموضوع... كيف يتأتى أن يكون لزاماً علينا نحن الألمان أن نتسامح في مثل هذه السرقة ومثل هذا السلب لأملاكنا على يدي البابا؟... وإذا كنا بحق نشنق اللصوص ونضرب أعناق السارقين بالإكراه فكيف نسمح للشره الروماني أن يفلت من العقاب؟ ذلك لأنه أكبر لص وسارق بالإكراه جاء أو يمكن أن يجيء إلى العالم بل وشرهم قاطبة بالاسم المقدس للمسيح والقديس بطرس ومَن في وسعه بعد هذا أن يتحمل أو يلزم السكوت؟"(47). لماذا يتحتم على الكنيسة الألمانية أن تدفع هذه الجزية الدائمة إلى سلطة؟ فليتخلص رجال الدين الألمان من تبعتهم لروما ولينشئوا كنيسة قومية تحت زعامة كبير أساقفة ماينز. إن أوامر الاستجداء يجب أن تقل ويجب أن يُسمح للقساوسة بالزواج ويجب ألا تؤخذ عهود الرهبنة قبل سن الثلاثين، وأن تلغى التحاريم والحج وشعائر القداس على أرواح الموتى... والعطلات (ما عدا أيام الآحاد) وعلى الكنيسة الألمانية مصالحة الهسيين في بوهيميا، إن هس أحرق دون أن يشفع له حصوله على جواز الأمان من الإمبراطور، وفي أية حال فإننا "يجب أن نتغلب على الهراطقة بالكتب لا بالحرق"(48) "ويجب أن يُنبذ كل قانون كنسي وألا يكون هناك إلا قانون واحد يطبق على رجال الدين والعلمانيين على السواء" - "يجب علينا فوق كل شيء أن نطرد من الأراضي الألمانية مبعوثي البابا بكل ما لهم من قوى" - وهي التي يبيعونها لنا مقابل مبالغ كبيرة من المال - لإقرار الأرباح الجائرة، للتحلل من الأقسام والعهود والاتفاقيات بحجة أن البابا له سلطة القيام بهذا العمل - وإن كان هذا خداعاً لا مراء فيه... وإذا لم يكن هناك أضاليل خبيثة أخرى لإثبات أن البابا هو المناهض الحقيقي للمسيحية فإن هذا الشيء يكفي لإثبات هذا. أتسمع هذا أيها البابا، ولا أقول أقدس الرجال بل أكبرهم إثماً؟



 صفحة رقم : 8240   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> نشرات بابوية ملتهبة


ثق بأن الله رب السموات سوف يقوض عرشك قريباً ويغرقه في هاوية الجحيم... يا سيدي المسيح أطل علينا من عليائك ودع يوم قصاصك يشرق ودمر عش الشيطان في روما!(49). وأصبح هذا الهجوم العنيف الذي قام به رجل ضد سلطة تشمل كل أوربا الغربية، حديث ألمانيا، فالحذرون من الرجال عدّوه من قبيل الافراط والتهور وعدّه الكثيرون من بين أعظم الأفعال البطولية في تاريخ ألمانيا. وسرعان ما نفدت أول طبعة من كتاب "خطاب مفتوح" وشغلت مطابع في تمبرج بإخراج طبعات جديدة. وكانت ألمانيا مثل إنجلترا، مهيأة لتقبل الدعوة إلى القومية ولم يكن هناك إبان هذا العهد دولة اسمها ألمانيا على الخريطة ولكن كان هناك ألمان بدءوا يشعرون بأنفسهم كشعب. وبما أن هس قد أكد وطنيته البوهيمية، وبما أن هنري الثامن لم ينبذ العقيدة الكاثوليكية بل رفض أن يمتد سلطان البابا إلى إنجلترا، فإن لوثر وقتذاك زرع بذرة الثورة لا في صحارى اللاهوت بل في الأرض الخصبة لروح ألمانيا القومية وحيثما فازت البروتستانية حملت القومية العلم. وفي سبتمبر عام 1520 أصدر إيك وجيروم ألياندر منشور الحرمان من غفران الكنيسة في ألمانيا فرد عليهم لوثر الطعنة باصدار بيان ثانٍ هو "الأسر البابلي للكنيسة" (6 أكتوبر) ولما كان موجهاً إلى علماء اللاهوت والدارسين فإنه عاد إلى الكتابة باللاتينية، ولكن سرعان ما ترجم البيان وكان له تأثير عظيم على العقيدة المسيحية قارب تأثير "خطاب مفتوح" على التاريخ الديني والسياسي. فكما قاسى اليهود طويلاً من الأسر في بابل فإن الكنيسة كما أنشأها المسيح، وكما نص عليه في العهد الجديد قد تعرضت للأسر ما يزيد على ألف عام تحت حكم البابوية في روما. وفي خلال تلك الفترة تعرض دين المسيح إلى الفساد في الإيمان والأخلاقيات والشعائر. وبما أن المسيح قد أعطى حوارييه نبيذاً وخبزاً في العشاء الأخير فإن الهسيين كانوا



 صفحة رقم : 8241   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> نشرات بابوية ملتهبة


على حق فيما ذهبوا إليه: إذ يجب أن يتناول القربان المقدس بكلا الشكلين كما يشاء الناس، والقس لا يغير الخبز والنبيذ إلى جسد ودم المسيح، فليس هناك قس يملك هذه القدرة الصوفية، ولكن المسيح سيجيء روحياً ومادياً لكل مَن يتناول القربان المقدس لا عن طريق أي تحول معجز على يد أحد القساوسة بل سيجيء بإرادته وقوته، فهو حاضر في القربان المقدس مع الخبز والنبيذ عن طريق التجاسد لا عن طريق التجسيم(50). ورفض في هلع الفكرة التي تذهب إلى أن القس يقدم المسيح إلى أبيه في القداس قرباناً للتكفير عن خطايا البشر ولو أنه لم يجد ما يفزعه في الفكرة التي تقول إن الرب قد سمح للبشر بأن يصلبوا الرب قرباناً للرب تكفيراً عن خطايا البشر. وأضاف بعض المستحدثات الأخلاقية إلى هذه الأمور الدينية التي تدق على الفهم، فالزواج ليس قرباناً مقدساً لأن المسيح لم يقطع على نفسه عهداً بأن يبث فيه الرحمة الإلهية وقال "إن زيجات الأقدمين لم تكن تقل قداسة عن زيجاتنا كما أن زيجات الكفار ليست أقل صحة من زيجاتنا"(51). وعلى ذلك يجب ألا يحرم الزواج بين المسيحيين وغير المسيحيين "فكما آكل وأشرب وأنام وأمشي... وأتعامل مع وثني أو يهودي أو تركي أو هرطيقي فإن في وسعي أن أتزوج من أي واحدة من نسائهم، فلا تبالوا بالقانون الذي سنه الأحمق لتحريم هذا... إن الشخص الوثني سواء كان رجلاً أو امرأة خلقه الله كما خلق القدّيس بطرس والقديس بولس أو القديسة لوسي"(52). وأي امرأة تتزوج من رجل عنين يجب أن يسمح لها، إذا وافق زوجها، بأن تضاجع رجلاً آخر لكي تنجب منه طفلاً ويجب أن يسمح لها بأن تدعي أن الطفل هو ابن زوجها وإذا أبى الزوج فإنها تستطيع بحق أن تطلق منه. ومع ذلك فإن الطلاق مأساة لا نهاية لها، ولعل تعدد الزوجات خير منه(53). ثم أضاف لوثر التحدي إلى الهرطقة وانتهى إلى أن يقول "إني أسمع إشاعة إن نشرات بابوية جديدة ولعنات بابوية تُرسل ضدي تتضمن حثاً على سحب أقوالي(54)...



 صفحة رقم : 8242   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> نشرات بابوية ملتهبة


وإذا كان هذا حقاً أود أن يكون هذا الكتاب جزءاً من الانكار الذي أقوم به". وكان حرياً بمثل هذه السخرية أن تزيغ ميلتيتز عن حلمه بالمهادنة. ومع ذلك فإنه سعى مرة أخرى إلى لوثر (11 أكتوبر سنة 1520) وأقنعه بأن يرسل للبابا ليو خطاباً يتنصل فيه من أي قصد في مهاجمته شخصياً ويعرض القضية باعتدال للاصلاح وسوف يحاول ميلتيتز من جانبه أن يكفل له إلغاء النشرة، فما كان من لوثر البالغ من العمر سبعة وثلاثين عاماً "والفلاح ابن الفلاح" كما كان يدعو نفسه مفاخراً، إلا أن كتب خطاباً لم يضمنه اعتذاراً بل نصيحة ابوية تقريباً إلى خليفة القدّيس بطرس وسليل آل مديتشي البالغ من العمر خمسة وأربعين عاماً. وأعرب عن احترامه للبابا كفرد ولكنه استنكر في غير هوادة فساد البابوية في الماضي والمحكمة البابوية في الحاضر: "إن ما تتمتع به من سمعة وشهرة في حياتك الطاهرة الذيل أمر معروف تماماً وأسمى من أن يكون مجالاً للهجوم... ولكن سدتك البابوية التي تسمى المحكمة الرومانية والتي لا يمكنك أنت أو أي انسان أن تنكر أنها أكثر فساداً مما كان عليه أهل بابل أو سدوم والتي بقدر ما أستطيع أن أرى، تتسم بخبث غوى لا أمل فيه قبيح الصيت - فهذه السدة أنا أزدريها... ولقد أصبحت الكنيسة الرومانية أكبر وكر داعر للصوص وأعظم المواخير التي يندى لها الجبين ومملكة الاثم والموت والجحيم... ولطالما ساءني يا صاحب المقام السامي ليو إنك تُنصَّب بابا في هذه العهود لأنك خليق بأيام خير منها... "ولذلك أرجو" يا عزيزي ليو أن تستمع إلى تلك الأقوال المعسولة التي لا تجعلك بشراً سوياً وترفعك إلى مصاف أنصاف الآلهة لكي تأمر... بما تشاء فأنت خادم الاجراء وبعد كل الرجال الآخرين في مركز خطير يرثى له. فلا يخدعك هؤلاء الذين يدعون أنك سيد العالم... الذين



 صفحة رقم : 8243   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> نشرات بابوية ملتهبة


يهرفون بأن لك سلطاناً على السماء والجحيم والمطهر... إن الذين يعلون قدرك فوق المجلس وفوق الكنيسة العالمية يخطئون. والذين ينسبون إليك الحق في تفسير الكتاب المقدس يخطئون لأنهم ينشدون تحت ستار اسمك أن يرسوا قواعد خبثهم في الكنيسة، ومما يؤسف له أن الشيطان من خلالهم قد أحرز نجاحاً تحت حكم أسلافك. والخلاصة لا تصدق أحداً يعلي من قدرك، وصدق هؤلاء الذين يضعون من شأنك(55). وأرسل لوثر مع هذا الخطاب ثالث بياناته وأطلق عليه اسم "عجالة في الحرية المسيحية" (نوفمبر عام 1520) وشعر بأنه "ما لم أكن مخدوعاً فإنها الحياة المسيحية بأسرها في شكل موجز"(56). وعبّر هنا باعتدال يخلو من الرقة عن مذهبه الأساسي - أن ذلك الإيمان وحده لا الأعمال الصالحة هي التي تخلق المسيحي الصادق وتخلصه من عذاب النار. لأن الإيمان بالمسيح هو الذي يجعل الإنسان صالحاً وأعماله الصالحة تترتب على ذلك الإيمان. "فالشجرة تحمل الثمار أما الثمرة فلا تحمل الشجرة"(57). والإنسان القوي الإيمان بالله والذي يكفّر عن تضحية المسيح لا ينعم بحرية الإرادة فحسب ولكن ينعم بأعمق الحريات كلها: التحرر من نداء الجسد ومن كل القوى الشريرة ومن اللعنة الأبدية بل ومن القانون لأن الانسان الذي تتدفق فضيلته تلقائياً من إيمانه في غنى عن الأوامر بالاستقامة(58). ومع ذلك فإن هذا الإنسان الحر يجب أن يكون خادماً لكل الناس لأنه لن يكون سعيداً إذا عجز عن عمل كل ما في وسعه لإنقاذ الآخرين كما ينقذ نفسه. إنه بالإيمان يرتبط بالله وبالحب مع جاره. وكل مسيحي مؤمن يُعَد قساً يقوم بالخدمات الدينية. وبينما كان لوثر يكتب تلك الرسائل التاريخية كان إيك والياندر يواجهان الثورة الدينية مباشرة وأحرزا نجاحاً في إعلان نشرة الحرمان من غفران الكنيسة في مايسين ومرسيبورج وبراندينبورج، أما في نورمبورج فإنهما



 صفحة رقم : 8244   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> نشرات بابوية ملتهبة


لم يستخلصا إلا الاعتذارات من بيركهايمر وشينجلر وفي ماينز طرد كبير أساقفتها ألبرخت من بلاطه هوتن بعد أن هادن فترة الاصلاح الديني وسجن طابعي كتب هوتن وصودرت كتب لوثر في أنجولستادت وأحرقت في ماينز ولوفان وكولونيا، ولكن في ليبتسيج وتورجاو وديبيلين لُطخت النشرة المعلقة بالقذارة ومُزقت وفي أرفورت انضم كثير من الأساتذة ورجال الدين في رفض عام للاعتراف بالنشرة، وألقى الطلبة بكل ما وصل إلى أيديهم من النسخ في النهر، وأخيراً فر إيك من المسرح الذي شهد انتصاراته قبل ذلك العام(59). وندد لوثر بالاعلان في سلسلة من الكتيبات التي تقطر مرارة وفي إحدى هذه الكتيبات أعلن موافقته الكاملة على آراء هس، وحوالي 31 من أغسطس عام 1520 استغاث بالامبراطور طالباً الحماية مثل "برغوث واحد يجرؤ على مخاطبة ملك الملوك" وفي السابع عشر من نوفمبر نشر استغاثة رسمية من البابا بمجلس للكنيسة. وعندما علم أن مبعوثي البابا يحرقون كتبه قرر أن يرد عليهم بالمثل؛ فأصدر نداء إلى الشباب التقي المثقف في فيتنبرج لكي يتجمع خارج بوابة "الستر" في المدينة صباح يوم 10 ديسمبر، وهناك أمسك بيديه نشرة البابا وقذف بها في النار مع بعض المراسيم الكنسية ومجلدات من لاهوت أصحاب الفلسفة الكلامية، ورمز في عمل واحد إلى رفضه للقانون الكنسي وفلسفة الأكويني وكل سلطة للكنيسة تأخذ بسياسة القمع. وجمع الطلبة كتباً أخرى من نفس النوع في ابتهاج وألقوا بها في النار لتظل مشتعلة حتى ساعة متأخر من بعد ظهر ذلك اليوم. وفي الحادي عشر من ديسمبر أعلن لوثر أنه لا يمكن لإنسان الخلاص ما لم يتبرأ من حكم البابوية(60) وهكذا حرّم الراهب البابا من غفران الكنيسة.



 صفحة رقم : 8245   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> المجلس النيابي في ورمس


5- المجلس النيابي في ورمس


ولقد ظهر على المسرح وقتذاك ممثل ثالث قام منذ تلك اللحظة بطور كبير واستمر ثلاثين عاماً وذلك في الصراع بين اللاهوت والحكومات. ولسوف يفرض نفسه على سردنا التاريخي في اثني عشر فصلاً أو يزيد. واستهل الرجل، الذي قُدّر له أن يصبح الإمبراطور شارل الخامس، سيرته بميراث ملكي وإن يكن مدنساً، فجده من جهة أبيه الإمبراطور ماكسمليان وجدته ماري البورغندية ابنة شارل الجسور، وجده من جهة أمه فرديناند وجدته إليزابلا، أما أبوه فهو فيلب المجيل ملك قشتالة الذي ارتقى العرش في السادسة والعشري ومات وهو في الثامنة والعشرين من عمره، وأمه هي جوانا لالوكا التي جنت عندما بلغ شارل السادسة، وعاشت حتى بلغ الخامسة والخمسين من عمره. ولقد ولد في غنت (24 فبراير سنة 1500) ونشأ في بروكسل وظل فلمنكي اللسان والطبع إلى أن اعتزل الحكم نهائياً في إسبانيا. ولم تغفر له هذا إسبانيا ولا ألمانيا ولكنه بمرور الوقت تعلم الحديث بالالمانية والأسبانية والإيطالية والفرنسية، وكان يستطيع أن يلتزم الصمت في اللغات الخمس. وحاول أدريان الأوترختي أن يعلمه الفلسفة ولكنه لم يصب نجاحاً يذكر، وتلقى على يدي هذا الأسقف الصالح تأديباً صارماً، يتفق مع عقيدة المستمسكين بأهداب الدين، وربما تشرب مع ذلك في منتصف العمر نزعة شك خفية من مستشاريه ورجال بلاطه الفلمنكيين الذين شاع بينهم قدر يكتنفه الرضا من عدم المبالاة بالعقيدة على طريقة أرازموس. ولكم شكا بعض القساوسة من اطلاق حرية الرأي الديني بين حاشية شارل(61). واعتصم بالتقوى ولكنه عكف على دراسة فن الحرب. وقرأ كومينيس وتعلم في مرحلة الطفولة حيل الدبلوماسية وعدم تمسك الدول بالأخلاق. وعند وفاة أبيه (1506) ورث ألفراندرز وهولندة وكونتيه فرانش وادعاء الحق في حكم برغنديا. ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره نهض



 صفحة رقم : 8246   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> المجلس النيابي في ورمس


بمسئولية الحكم ووقف نفسه على الادارة، وفي السادسة عشرة أصبح شارل الأول ملك أسبانيا وصقلية وساردينيا ونابلي وأمريكا الاسبانية، وفي التاسعة عشرة طمح إلى أن يصبح امبراطوراً، وكان فرانسيس الأول ملك فرنسا يصبوا إلى الشرف نفسه في ذلك الوقت أيضاً، وسر الأمراء المختارون الإمبراطوريون بدماثة أخلاقه إلا أن شارل أنفق 850000 فلورين ليكسب هذه المباراة واستطاع أن يفوز بها (1519). واضطر في سبيل جمع هذا المبلغ الطائل إلى أن يقترض مبلغ 543000 فلورين من آل فوجر، وهكذا أصبح شارل(62) منذ ذاك صديقاً لآل فوجر، كما أصبح آل فوجر أوفياء له، ولكنه لما تأخر في سداد القرض أرسل له جاكوب فوجر الثاني مذكرة حادة اللهجة: من المعروف جيداً أن جلالتكم ما كنتم تستطيعون الحصول إلى الشرف الإمبراطوري لولا مساعدتي وفي وسعي أن أثبت ذلك بالبيانات المسجلة من جميع المندوبين ولم أنشد في هذا منفعتي الخاصة... واني أطلب بكل احترام أن تتفضلوا... باصدار الأمر بإعادة المبلغ الذي كنت قد دفعته هو والفائدة دون تأخير(63). وواجه شارل جانباً من التزامه بمنح آل فوجر حق الاستيلاء على رسوم الجمارك في ميناء أنتورب(64)، وعندما أوشك آل فوجر على الخراب نتيجة لغزوات الأتراك لهنغاريا هب لنجدتهم بمنحهم حق الاشراف على المناجم الاسبانية(65)، ومنذ ذلك الوقت صار مفتاح كثير من التاريخ السياسي "فتش عن المصرفي". وهذا الفتى الذي وجد نفسه في التاسعة عشرة من عمره زعيماً بالاسم لكل وسط أوربا وغربها ما عدا إنجلترا وفرنسا والبرتغال والولايات البابوية قد يميز بالصحة الضعيفة التي ضاعفت من تقلباته... كان شاحب الوجه قصير القامة، تبدو عليه البساطة، له أنف حاد أقنى، وذقن ينم على التحدي، خافت الصوت رصين السمات، وكان رقيق القلب لطيف المعشر بطبعه، ولكنه سرعان ما تعلّم أن الحاكم يجب أن يحافظ



 صفحة رقم : 8247   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> المجلس النيابي في ورمس


على المسافة والاتجاه وأن السكوت نصف الدبلوماسية، وأن روح الفكاهة الصريحة تكدر عبير جلال الملك. وعندما التقى به ألياندر عام 1520 كتب إلى ليو العاشر يقول: "في رأيي أن هذا الأمير قد وهب... فطنة تفوق عمره وأنه يخفي في رأسه أكثر مما يبدو على وجهه"(66). ولم يكن متوقد الذكاء إلا في الحكم على الرجال - مما يكسبه نصف المعركة، وكان يرتفع إلى مستوى الأزمات التي تواجهه بالجهد الجهيد - بيد أن ذلك كان يتكلف الكثير حقاً. ثم إن استمرار وهنه في الجسم والعقل جعله يفتر إلى أن يتأزم الموقف ويضطره إلى اتخاذ قرار حاسم وعندئذ يواجهه بعزم مفاجئ واصرار يتسم بالدهاء. كانت الحكمة تواتيه لا بالسليقة ولكن بالتجارب. وفي الثالث والعشرين من أكتوبر عام 1520 انطلق شارل الخامس، ولم يكن أكبر سناً من القرن الذي وجد فيه، إلى مدينة آخن بلدة شارلمان ليتوج فيها، وانطلق الأمير المختار فردريك لحضور الحفل ولكنه اضطر إلى التوقف في كولونيا بسبب داء النقرس، وهناك قدم له ألياندر التماساً آخر للقبض على لوثر، فما كان من فردريك إلا أن استدعى أرازموس وطلب منه النصيحة، فدافع أرازموس عن لوثر وأشار إلى أن هناك عيوباً صارخة في الكنيسة، وقال إن الجهود التي تُبذل لإصلاحها يجب ألا تُقمع، وعندما سأله فردريك ما هي الأخطاء الرئيسية التي ارتكبها لوثر: "خطأين: هاجم البابا في تاجه، والرهبان في بطونهم"(67). وناقض صحة النشرة البابوية وقال إنه يرى أنها لا تتفق مع ما عرف به ليو العاشر من رقة الحاشية(68) وأبلغ فردريك القاصد الرسولي أن لوثر قدم التماساً وأن لوثر يجب أن يظل طليقاً إلى أن يبت في هذا الالتماس. وردّ الإمبراطور بالجواب نفسه... كان قد وعد الأمراء المختارين كشرط لانتخابه، ألا يُدان ألماني دون محاكمة عادلة في ألمانيا. ومهما يكن من أمر فإن مكانته جعلت - مذهب المحافظة على الدين لا مندوحة عنه.



 صفحة رقم : 8248   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> المجلس النيابي في ورمس


وكانت أسبانيا تعترف به ملكاً عليها اسميا أكثر من اعتراف ألمانيا به إمبراطوراً عليها وهي بلد ينفر من نظام الحكم المركزي، ولم يعد رجال الدين في أسبانيا يحتملون طويلاً ملكاً يترفق بالهراطقة. يُضاف إلى ذلك أن الحرب مع فرنسا كانت تلوح في الأُفق ولسوف يدور القتال حول ميلان باعتبارها مغنماً، ومن هنا كان تأييد البابا يساوي جيشاً بأسره... كانت الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة مرتبطة بالبابوية بمائة وشيجة، وليس من شك في أن سقوط احداها سوف يلحق بالأخريات ضرراً بليغاً فكيف يستطيع الإمبراطور أن يحكم مملكته المتناثرة المتباينة دون أن يلقى العون من الكنيسة في النظام الأخلاقي والادارة السياسية؟ كان كبار وزرائه إلى ذلك الوقت من رجال الدين كما أنه كان في حاجة إلى أموال الكنيسة ونفوذها لحماية هنغاريا من الأتراك. كان شارل يقلب في ذهنه هذه المشاكل على اختلافها، وكانت تشغله أكثر من مسألة راهب مشاكس، فدعا مجلساً نيابياً امبراطورياً لعقد اجتماع في ورنس، ولما اجتمع هناك كبار النبلاء ورجال الدين ممثلو المُدن الحرة (27 يناير عام 1521) إذا بلوثر هو الموضوع الرئيسي في المناقشة وليس من شك في أن القوى التي كانت تعد للاصلاح الديني خلال قرون بلغت أوجها في مسرح من أعظم المسارح الدرامية في التاريخ الأوروبي. ويقول مؤرخ كاثوليكي: لقد امتدحت الطائفة العظمى لنبلاء الألمان محاولات لوثر وأيدتها". بل إن إلياندر نفسه كتب تقريراً قال فيه: "إن ألمانيا بأسرها ترفع السلاح ضد روما والعالم كله يصرخ مطالباً بمجلس يجتمع على الأرض الألمانية. ولقد أصبحت النشرات البابوية التي تنص على الحرمان من غفران الكنيسة تثير السخرية وامتنع عدد كبير من الناس عن تناول القربان المقدس للتكفير... أما مارتن فإنه يصور وفوق رأسه هالة ويقبل الناس هذه الصورة. ولقد بيعت منها مقادير هائلة حتى أني عجزت عن الحصول على



 صفحة رقم : 8249   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> المجلس النيابي في ورمس


صورة واحدة... وأنا لا أستطيع أن أخرج إلى الطرقات خشية أن يرفع الألمان سيوفهم في وجهي ويصرون بأسنانهم غضباً عن رؤيتي وإني لأرجو من البابا أن يمنحني صك غفران كامل وأن يرعى إخوتي وأخواتي إذا أصابني مكروه"(70). وهبّت عاصفة من الكتيبات المناهضة للبابوية زادت من الإثارة وقال ألياندر في أسى أن عربة لا تسع كل هذه المقالات البذيئة. وأصدر هوتن، من قلعة سيكنجن في ابيرنبورج على بعد أميال قليلة من ورمس، نشرة تضمنت هجوماً محموماً ضد رجال الدين الألمان: "اذهبوا أيها الخنازير القذرة... ارحلوا عن الهيكل المقدس أيها التجار المبتذّلون ولا تلمسوا المذابح بايديكم الدنسة... كيف تجرءون على إنفاق المال المخصص لأغراض دينية في مظاهر الترف وفي التبذل والأبهة بينما الناس الشرفاء يتضورون جوعاً؟ لقد فاضت الكأس. ألا ترون أن نسمة الحرية قد بدأت تهب؟"(71) وكان تعاطف الناس مع لوثر قوياً إلى حد أن كاهن الاعتراف عند الإمبراطور الراهب الفرنشكاني جان جلابيون اختلى بجورج سبالاتان راعي كنيسة فردريك في محاولة للتوفيق بين الطرفين. وأعرب عن عطفه الكبير على كتابات لوثر الأولى، ولكن "الأسر البابلي جعله يشعر كما لو كان قد جُلد بالسياط وضُرب بمقبض السيف من قمة رأسه إلى أخمص قدميه..." وأشار إلى أنه لا يمكن أن يقوم أساس سليم لعقيدة دينية تعتمد على الكتاب المقدس لأن "الانجيل يشبه شمعاً طرياً يستطيع كل انسان أن يفتله أو يمطه على هواه". وسلم بالحاجة الملحة إلى إصلاح كهنوتي. والحق أنه كان قد حذّر إمبراطوره التائب من أن "الله سوف يعاقبه هو وكل الأمراء إذا لم يحرروا الكنيسة من مثل هذه المساوئ التي تنطوي على الغرور". ووعد بأن شارل سوف ينجز الاصلاحات الكبرى خلال خمس سنوات. وحتى ذلك الوقت وبعد كل تلك الثورات اللوثرية المردعة كان يعتقد أن السلام ممكن إذا تراجع لوثر عما قاله(72). ولكن لوثر ابى عندما أخطر بذلك في فيتنبرج....



 صفحة رقم : 8250   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> المجلس النيابي في ورمس


وفي الثالث من مارس قدم ألياندر إلى المجلس النيابي (الدايت) اقتراحاً بالادانة الفورية للوثر فاحتج المجلس بأن الراهب يجب ألا يدان دون سماع أقواله، وعلى ذلك وجه شارل دعوة إلى لوثر للحضور إلى ورمس ليؤدي الشهادة... عن تعاليمه وكتبه. وكتب له يقول: "لا حاجة بك إلى الخوف من التعرض لأي عنف أو ازعاج لأننا أعطيناك جواز الأمان"(73). وتوسل أصدقاء لوثر إليه ألا يذهب وذكروه بجواز الأمان الذي كان الإمبراطور سيجسموند قد أعطاه لهس وأرسل أدريان الأوترختي، وكان وقتذاك كاردينالاً لتورتوزا، ثم نصب بابا بعد قليل، التماساً إلى الإمبراطور تلميذه السابق طلب فيه أن يتجاهل جواز الأمان وأن يقبض على لوثر ويرسله إلى روما، وفي اليوم التالي من أبريل غادر لوثر مدينة فيتنبرج، وعندما وصل إلى أرفورت حياه حشد كبير من بينهم أربعون أستاذاً من الجامعة باعتباره بطلاً. وعندما اقترب من ورمس سارع سبالاتان وأرسل له تحذيراً ألا يدخل المدينة وأن يقفل راجعاً على جناح السرعة إلى فيتنبرج. فردّ عليه لوثر بقوله: "على الرغم من أن في ورمس كثيراً من الشياطين بقدر عدد طوب القرميد على الأسطح فسوف أذهب إلى هناك"(74). وانطلقت عصبة من الفرسان إلى لقائه ومرافقته إلى المدينة (16 أبريل). وانتشر نبأ وصوله في الطرقات فتجمع 2000 حول عربته، وقال ألياندر "يخيل إلي أن العالم بأسره أقبل لرؤيته بل وحتى شارل حجب في الظلال". وفي يوم 17 ابريل مثل لوثر في رداء الرهبان أمام المجلس النيابي (الدايت) الإمبراطور وستة أمراء مختارون محكمة رهيبة من الأمراء والنبلاء والبطاركة وأوساط الناس وجيوم إلياندر مسلحاً بسلطة بابوية ووثائق رسمية وفصاحة قضائية ورصّت على منضدة قريبة من لوثر مجموعة من الكتب. وتصدى جوهان إيك - ولم يكن صاحب مناظرة ليبتسيج بل موظفاً عند كبير أساقفة ترير - وسأله هل هذه الكتب من تأليفه وهل هو



 صفحة رقم : 8251   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> المجلس النيابي في ورمس


على استعداد لإنكار كل هذه الهرطقة التي تضمنها؟ ومرّت لحظة على لوثر وهو واقف أمام هذا الجمع الذي يمثل هيئة الإمبراطوريّة والسلطة النيابية وجلال الكنيسة، فخانته شجاعته وأجاب بصوت خافت حي أن الكتب من تأليفه وأما بالنسبة للسؤال الثاني فإنه التمس منحه مهلة للتفكير فأمهله شارل يوماً. وعندما عاد إلى مسكنه تلقى رسالة من هوتن يناشده فيها الثبات في موقفه، وأقبل كثير من أعضاء المجلس النيابي لزيارته زيارة خاصة لتشجيعه ويبدو أن الكثيرين كانوا يحسون بأن جوابه النهائي سوف يكون نقطة تحول في التاريخ. وفي يوم 18 أبريل واجه المجلس النيابي بثقة كاملة، وكانت قاعة المجلس تموج بالحاضرين إلى حد أن الامراء المختارين وجدوا صعوبة بالغة في الوصول إلى مقاعدهم ووقف معظم الحضور. وسأله إيك عما إذا كان على استعداد لإنكار المؤلفات التي كان قد كتبها كلياً أو جزئياً، فأجاب بأن تلك الأجزاء التي تناولت المفاسد الكهنوتية صحيحة بإجماع الآراء فقاطعه الإمبراطور بصوت جهوري دوى في القاعة "لا". ولكن لوثر استأنف حديثه وهاجم شارل نفسه فقال: "إذا أنكرت ما قلت في هذا الوقت فإني أفتح الباب لمزيد من الطغيان والزندقة وسوف يصبح هذا كله أسوأ ما يكون إذا ظهر أني فعلت هذا بناء على طلب الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة". أما بالنسبة للفقرات العقائدية في كتبه فقد وافق على أن يسحب أي فقرة منها إذا ثبت أنها تخالف ما جاء في الكتاب المقدس، فأبدا إيك على هذا باللاتينية اعتراضاً عبّر على وجهة نظر الكنيسة: "يا مارتن إن التمسّك بسماع ما جاء في الكتاب المقدس هو نفس ما كان يتذرع به دائماً الهراطقة إنك لا تفعل شيئاً سوى أن تكرر الأخطاء التي ارتكبها ويكليف وهس... كيف تدعي أنك الوحيد الذي يفهم معنى آيات الكتاب المقدس؟ وهل تضع حكمك فوق حكم كتبه كثيرون من الرجال المشهورين وتزعم أنك تعرف أكثر مما يعرفون



 صفحة رقم : 8252   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> المجلس النيابي في ورمس


جميعاً؟ ليس لك الحق في أن تدخل في المناقشة العقيدة الأرثودكسية المقدسة التي لقنها المسيح المشرّع الكامل والتي نشرها الرسل في أرجاء العالم، والتي ختمت بدماء الشهداء وأكدتها المجالس المقدسة وعرفتها الكنيسة... والتي يحرم علينا البابا والامبراطور مناقشتها خشية ألا ينتهي النقاش. إني أسألك يا مارتن. أجب بأمانة وصدق بغير مواربة - هل تنكر أو لا تنكر كتبك والأخطاء التي تحتويها؟"(75) فرد لوثر بجوابه التاريخي بالألمانية: مادام جلالتكم وسيادتكم تريدون جواباً بسيطاً فغني سأجيب بغير مواربة... ما لم تدينني آية في الكتاب المقدس أو الحجة الواضحة (وأنا لا أقبل سلطة البابوات والمجالس الدينية لأن كل منهم يناقض الآخر) فان ضميري أسير لكلمة الله. وأنا لا أستطيع أن أسحب شيئاً من أقوالي. ولن افعل هذا، لأن مخالفة ضميري ليس من الصواب والأمن في شيء. أسأل الله العظيم. آمين"(76) . فواجهه إيك بأنه لا يمكن إثبات أي خطأ في المراسيم العقائدية التي أصدرتها المجالس، فرد عليه لوثر بأنه على استعداد لإثبات مثل هذه الأخطاء، ولكن الإمبراطور اعترض قائلاً بلهجة قاطعة: "هذا يكفي. ما دام أنه أنكر المجالس فإننا لا نود سماع كلمة أخرى"(78). وعاد لوثر إلى مسكنه وقد أنهكه الصراع ولكنه كان واثقاً من أنه قدّم شهادة طيبة فيما أسماه كارلايل "أعظم لحظة في التاريخ الحديث للإنسانية"(79). كان الإمبراطور لا يقل رجفة عن الراهب. ولما كانت تجري في عروقه الدماء الملكية ولأنه ألف السلطة فإنه اعتقد أن من الأمور التي لا تحتاج إلى برهان أن حق كل فرد في تفسير الكتاب المقدس وقبول المراسيم المدنية أو الدينية أو رفضها طبقاً لهواه الشخصي وما يمليه عليه ضميره سوف



 صفحة رقم : 8253   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> المجلس النيابي في ورمس


يعجل بتقويض أسس النظام الاجتماعي لأن هذا كما بدا له قائم على قانون أخلاقي يستمد بدوره قوته من الأحكام الخارقة للعقيدة الدينية. وفي اليوم التاسع عشر من ابريل دعا كبار الأمراء إلى مؤتمر عقده في حجراته الخاصة وقدّم لهم بياناً عن الولاء والنية مكتوباً بالفرنسية ويبدو أنه كتبه بنفسه: "إني أنحدر من صلب سلسلة طويلة من الاباطرة المسيحيين لهذه الأمة الألمانية النبيلة ومن ملوك أسبانيا الكاثوليكيين ومن أرشيدوقات النمسا ودوقات برغنديا. وكانوا جميعاً اوفياء حتى الموت لكنيسة روما، ولقد دافعوا عن العقيدة الكاثوليكية ومجد الرب وقد عزمت على أن أحذو حذوهم. إن راهباً واحداً يسير ضد المسيحية بأسرها كما عرفت منذ ألف عام لابد أن يكون على خطأ مبين، ومن ثم فإني قررت أن أخاطر ببلادي واصدقائي وجسمي ودمي وحياتي وروحي... وبعد أن استمعت أمس إلى دفاع لوثر المتشبث برأيه فإني آسف لأني تأخرت طويلاً في اتخاذ الاجراءات ضده. وضد تعاليمه الزائفة. لن يكون لي معه شأن آخر. وفي وسعه أن يعود فقد منحته جواز الأمان ولكن عليه أن يمتنع عن الوعظ أو إحداث أية فتنه ولسوف أحاكمه على أنه هرطيق سيّئ السمعة وإني أطلب منكم أن تدلوا بآرائكم كما وعدتموني"(80). فوافق أربعة من الأمراء المختارين على هذا الاجراء وامتنع فردريك صاحب سكسونيا ولودفيج صاحب بالاتينيت عن ابداء رأيهما - وفي تلك الليلة - 19 ابريل ثبت أشخاص مجهولون على باب قاعة المدينة وفي أماكن أخرى من ورمس إعلاناً كبيراً يحمل حذاء الفلاح رمز الثورة الاجتماعية. وأفزع هذا بعض رجال الدين والحوا شخصياً على لوثر بإحلال الوئام محل الخصام مع الكنيسة. ولكنه أيد تصريحه للمجلس النيابي. وفي السادس والعشرين من ابريل بدأ رحلة العودة إلى فيتنبج وأرسل ليو أوامر تقضي باحترام جواز الأمان(81)، ومع ذلك فإن الأمير المختار فردريك خشي أن يحاول رجال الشرطة الإمبراطوريّة القبض على لوثر بعد انتهاء مفعول جواز الأمان



 صفحة رقم : 8254   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> المجلس النيابي في ورمس


يوم 6 مايو، فرتب - بعد أن رضي لوثر بهذا على مضض - كميناً له في طريق عودته إلى وطنه، كما لو كان من عمل قطاع الطرق واخذه خفية إلى قلعة فارتبورج. وفي السادس من مايو قدم الإمبراطور للمجلس النيابي، وكان عدد أعضائه قد انخفض بسبب رحيل الكثيرين، المسودة التي أعدها ألياندر عن منشور ورمس وفيه يتهم لوثر بأنه "دنّس الزواج واستخف بالاعتراف وأنكر وجود جسد الرب ودمه. ثم إنه جعل القربان المقدس يتوقف على إيمان مَن يتناوله. إنه وثني في إنكاره للإرادة الحرة. إن هذا الشيطان الذي يرتدي مسوح راهب قد جمع الأخطاء القديمة في بركة آسنة منتنة، بل وابتدع أخطاء جديدة أنه ينكر سلطة الرؤساء، ويشجع العلمانيين على أن يغسلوا أيديهم من دم رجال الدين. وتعاليمه تدعو إلى العصيان والانقسام والحرب والقتل والسرقة والحرق عمداً وإلى انهيار العالم المسيحي وهو يحيا حياة بهيمية. لقد أحرق المراسيم البابوية، إنه يحتقر الحرمان من غفران الكنيسة والسيف على السواء. وهو يلحق بالسلطة المدنية من الأذى أكثر مما يلحق بالسلطة الكهنوتية للكتاب المقدس الذي يفسره على هواه. لقد أمهلناه واحداً وعشرين يوماً من 15 ابريل... وعندما تنقضي هذه المهلة فليس لأحد أن يؤويه ولسوف يدان أتباعه ايضاً. أما كتبه فيجب أن تمحى من ذاكرة الإنسان"(82). وبعد يومين من تقديم هذا المنشور حول ليو العاشر تأييده السياسي من فرانسيس الأول إلى شارل الخامس. ووافق المجلس النيابي (الدايت) المجرد من السلطة على المنشور، وفي اليوم السادس والعشرين من مايو أصدره شارل رسمياً فحمد ألياندر الرب وامر بإحراق كتب لوثر أينما وجدت.



 صفحة رقم : 8255   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> الراديكاليون


6- الراديكاليون


كانت فارتبورج في حد ذاتها قطعة من العذاب الكئيب، فقد كانت القلعة القديمة تجثم على قمة جبل على مسيرة ميل من إيزيناخ، وكانت مختفية



 صفحة رقم : 8256   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> الراديكاليون


عن أنظار العالم وعن أنظار الإمبراطور أيضاً. واقام لوثر هناك مدة تقرب من عشرة شهور (4 مايو سنة 1521 إلى 29 فبراير سنة 1522) في غرفة مظلمة مجهزة بفراش ومنضدة وموقد وجذع شجرة يستخدم كمقعد. وكان يحرس القلعة بضعة جنود، ويعنى بالأراضي حارس، ويقوم بخدمة لوثر صبيان يعملان وصيفين له. ورأى أن من الأوفق، ولعل هذا كان من قبيل التنكر المحلي، أن يخلع مسوح الرهبان، ولبس رداء فارس، وأطلق لحيته، وأصبح وقتذاك يعرف باسم جورج النبيل الألماني الشاب، وخرج للصيد ولكنه لم يستطب قتل الارانب في الوقت الذي لا يزال فيه كثير من المناهضين للمسيحية بنجوة من القتل. وأسقمه الكسل والأرق وكثرة الطعام وشرب الجعة وأصيب بالبدانة وأخذ يسب ويلعن كما يفعل أي نبيل الماني شاب وكتب يقول: "ليتني أُحرق على جمرات ملتهبة فهذا خير لي من أن أتعفن هنا... بودي أن أخوض غمار المعركة"(83). ولكن وزير فردريك نصحه بأن يظل في مخبئه لمدة عام ريثما تهدأ حماسة شارل. ومهما يكن من أمر فإن شارل لم يبذل أي جهد للعثور عليه أو لاعتقاله. وراودت الشكوك والأوهام لوثر في خلوته الفكرية وتساءل أيمكن أن يكون على حق وأن يكون مثل هؤلاء الأحبار على ضلال؟ وهل كان من الحكمة أن يقوض دعائم عقيدة راسخة؟ وهل مبدأ الاجتهاد الشخصي نذير بنشوب الثورة والقضاء على القانون؟ إذا كنا نصدق القصة التي رواها في أخريات أيامه فإن أصواتاً غريبة كانت تزعجه... أصواتاً لم يستطع تفسيرها إلا بأنها من صنع الشياطين وأكد أنه رأى الشيطان في مناسبات عديدة وقرر أن الشيطان رجمه يوماً بالجوز(84). وتذهب أسطورة مشهورة إلى أن لوثر قذفه يوماً بزجاجة حبر ولكنها أخطأته(85). وكان يسلي نفسه بكتابة خطابات ناصعة العبارة لأصدقائه وأعدائه وبتأليف عجالات في علم اللاهوت وبترجمة العهد الجديد إلى الألمانية وقام في إحدى المرات برحلة خاطفة إلى فيتنبرج ليزكي نار ثورة.



 صفحة رقم : 8257   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> الراديكاليون


وكان تحديه لرجال الدين في ورمس وبقاؤه على قيد الحياة قد أدارا رؤوس أتباعه وجعلهم يتيهون اعجاباً. وفي أر فورت هاجم الطلبة وأصحاب الحرف والفلاحون أربعين بيتاً في الأبرشيات وهدموها وأتلفوا مكتبات ومحفوظات وقتلوا عالماً بالإنسانيات (يونيه 1521)، وفي خريف ذلك العام المثير هجر الرهبان الأوغسطينيون في أرفورت الدير وبشروا بالعقيدة اللوثرية ونددوا بالكنيسة باعتبارها "أم الجمود والخيلاء والشح والترف والجهود والهرطقة"(86). وحينما ألّف ميلانكتون في فيتنبرج كتابه Loci Communes rerum theologicarum (1521)- وهو أول عرض منهجي للاهوت البروتستانتي. طالب زميله الاستاذ كارلستادت، وكان قد أصبح وقت ذاك رئيساً للشمامسة في كنيسة القلعة، بأن يتلى القداس (إذا كان لابد منه) باللغة الوطنية وأن يتناول القربان المقدس بالنبيذ والخبز دون أن يسبقه اعتراف أو صوم، كما يجب أن تُرفع الصور الدينية من الكنائس وأن يتزوج رجال الدين- من رهبان وقساوسة علمانيين- وأن ينجبوا. واتخذ كارلشتادت خطوة بالزواج من فتاة في ربيعها الخمس عشر (19 يناير سنة 1522) وكان هو في الأربعين من عمره. ولم يستنكر لوثر هذا الزواج ولكنه كتب يقول: "يا للسماء! أيقبل أهالي فيتنبرج أن يقدموا زوجات للرهبان؟"(87) ومع ذلك فإنه وجد في الفكرة ما يجذبه لأنه بعث إلى سبالاتان (21 نوفمبر سنة 1521) برسالة عن "عهود الرهبنة" دافع فيها عن نبذهم لهذه العهود. فتباطأ سبالاتان في نشره لأنه كان صريحاً بصورة تخالف التقاليد إذ كان يسلم بأن الغريزة الجنسية أمر طبيعي لا يمكن قمعه ويعلن أن عهود الرهبنة من غوايات الشيطان وأنها تضاعف الآثام. وكان لابد من مرور أربع سنوات قبل أن يتزوج لوثر نفسه إذ يبدو أن تقديره المتأخر للمرأة لم يلعب دوراً في افتتاح عهد الاصلاح الديني.


ومضت الثورة قدماً ففي اليوم الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1521 ناول ميلانكتون القربان المقدس بكلا الطريقتين وهنا ظفر الأواكويستيون في بوهيميا بنصر جاءهم على مهل، وتوقفت تلاوة القداس في دير لوثر يوم 23 أكتوبر وخرج ثلاثة عشر راهباً من الدير يوم 12 نوفمبر وتقدموا للزواج، وسرعان ما خلت نصف أديرة ألمانيا على إثر خروج مماثل. وفي الثالث من ديسمبر دخل بعض الطلبة وسكان المدينة وهم مسلحون بالمدى كنيسة الأبرشية في فيتنبرج وطردوا القساوسة من المذابح ورجموا بعض المصلين الذين كانوا يؤدون الصلاة أمام تمثال العذراء. وفي الرابع من ديسمبر هدم أربعون طالباً مذابح دير الفرنشيسكان في فيتنبرج وفي اليوم نفسه زار لوثر، وكان لا يزال متنكراً في زي نبيل ألماني شاب، المدينة خفية وأقر زواج الرهبان ولكنه حذر رجال الدين والعلمانيين من الالتجاء إلى العنف وقال: "إن الإكراه ليس حقاً مطلقاً للجميع ولكنه يجب أن تمارسه السلطات الشرعية"(88). وفي اليوم التالي عاد إلى فارتبورج وبعد ذلك بقليل أرسل إلى سبالاتان لنشر كتاب: "تحذير" جاد لكل المسيحيين يحذرهم من العصيان والثورة فقد خشي إذا انتشرت الثورة الدينية بسرعة أو إذا أصبحت ثورة اجتماعية أن تنفر منها طبقة النبلاء وتقضي على نفسها، غير أن صفحاته الأولى ذاتها كانت موضع انتقاد لأنها كانت تحض على العنف. "يخيل إليَّ أن المحتمل أن يكون هناك خطر من الثورة، وأن القساوسة والرهبان والأساقفة والطبقة الروحية بأسرها يمكن أن تتعرض للقتل أو الابعاد إلى المنفى ما لم يصلحوا من أنفسهم تماماً وبصورة حادة، ذلك لأن الرجل العادي كان يتذكر دائماً في فزع الضرر الذي حاق به في المال والجسد والروح وأصبح هدفاً للاستفزاز. لقد أمعنوا في اختباره إلى حد بعيد وحمّلوه ما لا طاقه له به بلا وازع من ضمير. ولم يكن في وسعه، هذا ولم يشأ، أن يتحمله بعد ذلك واستطاع أن يتعلل بحجة قوية لكي يضرب



 صفحة رقم : 8259   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> الراديكاليون


في كل اتجاه بمدقات الحنطة والهراوات كما يهدد الفلاحون بالقيام بهذا العمل. وأنا الآن لست مستاء أن أسمع أن رجال الدين قد وصلوا إلى مثل هذه الحالة من الخوف والقلق. ولعلهم عادوا إلى رشدهم وخففوا من استبدادهم الجنوني... بل إني سوف أمضي إلى أبعد من هذا. لو أن لي عشرة أجساد واستطعت أن أنال من الله منة فيقتص منهم (أي من رجال الدين) بالوسائل الرفيقة (ذيل الثعلب غزير الشعر) التي تؤدي إلى الوفاة أو العصيان فإني أهب أجسادي العشرة كلها للموت وأنا مغتبط "في سبيل الفلاحين الفقراء"(89). وأردف يقول: "ومع ذلك فإن على الأفراد أن يتحاشوا الالتجاء إلى القوة فالله منتقم جبار". "إن العصيان أمر غير معقول وهو بصفة عامة يضر الأبرياء أكثر مما يضر الآثمين. ولذلك فإن العصيان ليس من الصواب، في شيء، مهما كان الدافع لأصحاب المصلحة فيه، ذلك لأن الضرر الذي ينجم عنه يتجاوز دائما قدر ما يتم من الاصلاح... عندما يتخلص السيد فلان (أي سيد) من قيده فإنه لا يستطيع أن يميز الخبيث من الطيب ويضرب خبط عشواء وعندئذ لا مناص من وقوع ظلم فظيع... إن عواطفي ستكون دائماً، ولسوف تظل، مع أولئك الذين يوجه التمرد ضدهم"(90). واستمرت الصورة سليمة إلى حد ما. وفي يوم عيد الميلاد منذ عام 521 أقام كارلستادت القداس باللغة الألمانيّة، وهو يرتدي ملابس مدنية ودعا الجميع إلى تناول القربان المقدس بأخذ الخبز في أيديهم والشرب من كأس القداس. وفي ذلك الوقت تقريباً دعا جابرييل تسفيلينج، وهو أحد زعماء الطائفة الأوغسطينية، مستمعيه إلى إحراق الصور الدينية وهدم المذابح حيثما وجدت. وفي السابع والعشرين من ديسمبر صب "الأنبياء" الذين وصلوا من تسفيكا الزيت على النار. وكانت هذه المدينة من أعظم المُدن الصناعية



 صفحة رقم : 8260   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> الراديكاليون


في ألمانيا، وفيها عدد كبير من السكان يشتغلون بالنسيج في ظل بلدية أعضاؤها من السادة التجار، وشجعت حركة اجتماعية من العمال بأصداء وذكريات تجربة التابورية التي قمعت وأثارت بوهيميا القريبة، وأصبح توماس مينتسر راعي كنيسة سانت كاترين للنساجين الناطق بلسانهم والمعبر عن آمالهم وأصبح في الوقت نفسه نصيراً متحمساً للإصلاح الديني، وعندما أدرك أن تعظيم لوثر للإنجيل باعتباره القاعدة الوحيدة قد أثار التساؤل عمّن يفسر النص أعلن منتسر وإثنان من رفاقه- وهما نيكولاس ستورك النساج وماركوس شتيبنز العالم- أنهم وحدهم مؤهلون ليكونوا مفسرين للكتاب المقدس فقد أحسوا بأنهم يوحى إليهم من الروح القدس. وصرحوا بأن هذه الروح المقدسة أمرتهم بأن يؤجلوا العماد إلى حين بلوغ سن الرشد لأن القربان المقدس لا يكون له أثر إلا بالإيمان وهو أمر لا ينتظر من الأطفال. وتنبئوا بأن العالم سيتعرض قريباً لخراب شامل يهلك فيه كل الفجار- بما فيهم جميع القساوسة الجامدين بصفة خاصة، وتبدأ بعد ذلك على الأرض مملكة الرب الشيوعية(91) وفي عام 1521 سحق تمرد قام به النساجون وأقصى ثلاثة من "رسل تسفياكو" وانطلق منتسر إلى براغ فأخرج منها وحصل على أبرشية في الشتد في ساكسونيا". وذهب ستور إلى وشتينز إلى بيتنبرج وكان لهما أثر طيب على ميلانكتون وكارلشتادت أثناء غياب لوثر. وفي يوم 6 يناير سنة 1522 تبدد جميع الأوغسطينيين في فيتنبرج، وفي يوم 22 يناير كان انصار كارلشتادت قد بلغوا حظاً كبيراً من القوة في المجلس البلدي إلى حد أنهم عملوا على إصدار مرسوم يقضي برفع كل الصور من كنائس فيتنبرج، وتحريم القداس إلا إذا أقيم بالشكل المبسط الذي ينادي به كارلشتاد. وأدخل كارلشتاد صورة لصلب المسيح ضمن الصور الممنوعة وحرم مثل المسيحيين الأوائل عزف الموسيقى في



 صفحة رقم : 8261   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> الراديكاليون


العبادات وقال: "إن ألحان الأرغن الفاجرة تدعو إلى التفكير في أمور الدنيا، ففي الوقت الذي ينبغي فيه أن نتأمل في آلام المسيح التي تذكرنا باسطورة بيراموس Byramus Thibes... ابعدوا آلات الأرغن والأبواق والناي إلى المسرح"(92). وعندما أرجأ مندوبو إزالة الصور قاد كارلشتاد اتباعه إلى داخل الكنائس، ومزقت الصور والصلبان من فوق الجدران ورجم القساوسة الذين قاوموهم ايضاً بالأحجار(93). وقبل كارلشتاد رأي أنبياء تسيفاكاو- أن الله يخاطب الناس مباشرة كما يخاطبهم من خلال الاسفار المقدسة، بل ويتكلم مع بسطاء العقول والقلوب أكثر مما يتكلم مع المتبحرين في اللغات والكتب- ولما كان هو نفسه علامة فإنه أعلن أن المدارس والدراسات تصرف الناس عن التقوى وأن المسيحيين حقاً سوف يعرضون عن كل الآداب والعلوم والفنون وعن التعليم ويصبحون فلاحين أميين أو حرفيين. وصرف أحد أتباعه وهو جورج مور طلبة المدرسة الذين يدرس لهم وحرض الآباء على أن يحافظوا على براءة أطفالهم من التأثر بالآداب والعلوم والفنون وترك عدد كبير من الطلاب الجامعة وانكفأوا إلى بيوتهم ليتعلموا حرفة يدوية وقالوا إنه لا حاجة بهم بعد هذا إلى الدراسة. وعندما سمع لوثر بهذا خشي أن يجد نقاده المحافظون ما يؤيد نبوءاتهم التي رددها بأن رفضه التسليم بالسلطة الكنسية سوف يفصم عرى النظام الاجتماعي بأكمله. وتحدى لوثر أمر الإمبراطور وضرب عرض الحائط بالحماية التي أسبغها عليه الأمير المختار إذا سعى شارل للقبض عليه. فغادر قلعته وعاد إلى ارتداء مسوح الرهبان وحلق شعر رأسه وسارع بالعودة إلى فيتنبرج، وفي يوم 9 مارس عام 1522 بدأ سلسلة مؤلفة من ثماني عظات تدعو بشدة الجامعة والكنائس والمواطنين إلى مراعاة النظام، ذلك لأنه لم يكن يحبذ وقتذاك أي التجاء إلى العنف، ولمَ لا؟ ألم يحرر الملايين من الناس من



 صفحة رقم : 8262   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني في ألمانيا -> الراديكاليون


عسف الكنيسة دون أن يرفع شيئاً أكثر من القلم؟ وقال: "اتبعوني فأنا أول مَن اختصه الله بهذا الأمر والرجل الذي كشف له سبحانه وتعالى عن كلمته التي لابد أن أبشركم بها. ولذلك أقول إنكم قد ارتكبتم خطأ بشروعكم في القيام بهذا العمل دون... تستشيروني أولاً(94)... امهلوني بعض الوقت... ولا تظنوا أن المظالم تمحى بتدمير الهدف الذي يساء التصرف فيه. إن الناس يمكن أن يضلوا بالنبيذ والنساء فهل نحرم شرب النبيذ ونقضي على النساء؟ لقد عبد الناس الشمس والقمر والنجوم فهل ننتزعهما من السماء(95)؟" إن الذين يريدون الاحتفاظ بالصور والتماثيل والصلبان وسماع الموسيقى أو ترتيل القداس يجب ألا يتدخل أحد في شئونهم فهو نفسه قد اقر الصور الدينية(96). واتفق على ضرورة إقامة القداس وفقاً للشريعة التقليدية في إحدى كنائس فيتنبرج وعلى تناول القربان المقدس في كنيسة أخرى بالخبز وحده في المذبح العالي وبالخبز والنبيذ في مذبح جانبي... وقال لوثر إن الشكل لا يهم إلا قليلاً والمهم هو الروح التي يتناول بها القربان المقدس.

كان في أحسن حالاته وأعظم الناس استمساكاً بالمسيحية في تلك العظات الثمانية التي القاها في ثمانية أيام. ولقد خاطر بكل شيء لكي يتمكن من كسب فيتنبرج والعودة بها إلى حظيرة الاعتدال، ونجح في ذلك، وسعى أنبياء تسفيكا لتحويله إلى آرائهم وعرضوا أن يقرءوا أفكاره كدليل على أنهم يتلقون الوحي من الله فقبل التحدي وأجابوا بأنه يضمر لأفكارهم عطفاً خفياً فرد جلاءهم البصري إلى الشيطان، وامرهم بمغادرة فيتنبرج وعندما فصل كارلشتادت من وظائفه بقرار من مجلس مدينة أُعيد تكوينه، أخذ أبرشية في أورلامينديه، وندد من فوق منبرها لوثر ووصفه بأنه: "كاهن نهم... وبابا فيتنبرج الجديد"(97). ولقد سبق كارلشتاد جماعة الكويكر فتخلى عن كل الثياب الكهنوتية وارتدى معطفاً رمادياً بسيطاً واستغنى عن الالقاب وطلب أن يدعى "الأخ أندرياس" ورفض قبول مرتب عن قيامه بالخدمة الدينية، وعمل على كسب عيشه بالمحراث ورفض كل استخدام للعقاقير وفضّل الصلاة على الدواء ودافع عن تعدد الزوجات باعتباره أمراً لم يحرمه الإنجيل، وتبنى وجهة نظر رمزية محضة فيما يختص بالقربان المقدس، وذهب لوثر بناء على طلب الأمير المختار إلى أورلاميندية ليعظ ضد كارلشتادت ولكنه أخرج من المدينة ورُجم بالحجارة والطين(98). وعندما انهارت ثورة الفلاحين خشي كارلشتادت أن يُقبض عليه بتهمة التحريض فسعى إلى مكان أمين مع لوثر وحصل عليه. وبعد جولة طويلة وجد الراديكالي ملجأه الأمين بالعمل أستاذاً في بازيل حيث قضى نحبه في هدوء على 1541 في جو مدرسي.


7- أسس الإيمان


استأنف لوثر طريقه العام غير المستقيم باعتباره قساً لطائفة واستاذاً في الجامعة - ودفع له الأمير المختار مرتباً قدره 200 جيلدر (5000 دولار) سنوياً وكان كل طالب يضيف إليه أتعاباً زهيدة مقابل حضور محاضرته. وعاش لوثر صحبة راهب آخر، وكان كل منهما يرتدي ملابس عامة الناس في دير أوغسطيني مع طالب يقوم بخدمتها وقال: "كان فراشي لا يُرتب لمدة عام كامل حتى يصبح قذراً تفوح منه رائحة العرق، ومع ذلك كنت أواصل العمل طوال النهار فإذا جن الليل أكون منهوك القوى إلى حد أني أتهاوى في الفراش دون أن أدري أن هناك خطأ ما"(99). وكان العمل الشاق يغفر له شهيته المفتوحة وفي هذا يقول: "إني آكل كبوهيمي وأشرب كألماني والحمد لله آمين"(100). وكان يعظ كثيراً ولكن في إيجاز يتسم بالاشفاق، وبلغة بسيطة أخاذة تستولي على ألباب مستمعيه الأجلاف. وكانت رياضته الوحيدة هي الشطرنج والعزف على الناي، ويبدو أنه كان يجد متعة أكبر في الساعات التي يقضيها في مهاجمة "البابويين". كان أقوى مَن عرفه التاريخ في الجدل لا يصده عنه شيء. وكانت كل كتاباته تقريباً صراعاً ممتزجاً بعبارات لاذعة تفيض سخرية وطعناً. وترك خصومه يتأنقون في اللاتينية الرفيعة بحيث لا يقرأ لهم إلا قلة من الباحثين وكان هو أيضاً يكتب باللاتينية عندما يريد مخاطبة العالم المسيحي بأسره، بيد أن الجانب الأكبر من أهاجيه الّفه بالألمانية أو كان يترجم فوراً إلى الألمانية لأن ثورته كانت وطنية ولا يبزه مؤلف ألماني آخر في وضوح ألفاظه أو قوة أسلوبه وفي مباشرة عباراته وحدتها اللاذعة وفي تشبيهاته الموفقة والتي كانت أحياناً تبعث على الإبتهاج في ألفاظ تمتد جذورها في كلام الناس وتلائم العقلية القومية.

ووافقت الطباعة أغراضه باعتبارها بدعة أرسلتها العناية الإلهية فيما يبدو فاستخدمها ببراعة لا ينضب لها معين، وكان أول مَن جعل منها آلة للدعاية والحرب ولم تكن هناك وقتذاك جرائد ولا مجلات، وكانت المعارك تذكيها الكتب والعجالات والرسائل الخاصة التي دبجت للنشر. وارتفع عدد الكتب المطبوعة، في ألمانيا من 150 عام 1518 إلى 990 عام 1524، وذلك بحافز من ثورة لوثر، وكانت أربعة أخماس هذه الكتب تؤيد الإصلاح الديني أما الكتب التي كانت تدافع عن العقيدة المحافظة فقد كان من الصعب أن تجد مَن يشتريها، في حين كانت مؤلفات لوثر هي أكثر الكتب رواجاً في هذا العصر، وكانت لا تباع في المكتبات فحسب بل كانت تُباع عند الباعة الجائلين والطلبة المسافرين أيضاً، وقد أحضرت 1400 نسخة في سوق واحدة بفرانكفورت، بل إن ما بيع منها في باريس عام 1520 فاق ما بيع من أي كتاب آخر. وفي مطلع عام 1519 صدرت لفرنسا وايطاليا واسبانيا والأراضي المنخفضة وإنجلترا. وكتب أرازموس عام 1521 يقول: "إن كتب لوثر في كل مكان وبكل لغة ولن يصدق أحد مدى تأثيره في الناس"(101).


ورجح الأثر الأدبي القوي للمصلحين كفة المطبوعات من جنوبي أوروبا إلى شمالها حيث ظلّت على هذا الوضع منذ ذلك. كانت الطباعة هي الاصلاح الديني، ولا شك أن جوتنبرج هو الذي جعل نجاح لوثر ممكناً. وكان أعظم عمل قام به لوثر هو ترجمة الإنجيل إلى الألمانية كانت ثماني عشرة ترجمة مثلها قد تمت من قبل ولكنها اعتمدت على نسخة جيروم اللاتينية من الكتاب المقدس، وحفلت بالأخطاء وصيغت عباراتها بأسلوب سقيم، وكانت صعوبات الترجمة عن الأصل مروعة ولم تكن هناك بعد معاجم من العبرية أو اليونانية إلى الألمانية وكل صفحة من النص تثير مائة مسألة في التفسير، وكانت اللغة الألمانية ذاتها لا تزال تفتقر إلى الدقة والاحكام في التركيب، واستخدم لوثر في ترجمة العهد الجديد النص اليوناني الذي كان أرازموس قد نشره مع نسخة لاتينية عام 1516، وأكمل هذا الجزء عام 1521 ونشر عام 1522. وبعد عمل دائب استمر أكثر من اثني عشر عاماً، ووسط كفاح دائم في مجال علم اللاهوت نشر لوثر العهد القديم بالألمانية، ولكن بمساعدة ميلانكتون وعدد من الباحثين اليهود وبرغم عدم دقة الدراسة في هذه الترجمات فإنها كانت من الأحداث المهمة في هذا العهد، فقد افتتحت الأدب الألماني وأصلها اللغة الألمانية الجديدة الرفيعة في ساكسونيا العليا - باعتبارها اللغة الأدبية الألمانية. ومع ذلك فإن الترجمات كانت غير أدبية عن عمد، وعلى نهج اللغة الدارجة، وقد فسر لوثر منهجه بطريقته الواضحة المعهودة فقال: "ينبغي ألا نطلب، كما يفعل الحمير، من الحروف اللاتينية أن تعلمنا كيف نتحدث الألمانية بل يجب أن نسأل الأمهات في بيوتهن والأطفال في الشوارع وعامة الناس في السوق... يجب أن نسترشد بهم في الترجمة ولسوف يفهموننا ويعرفون أننا نخاطبهم بالألمانية)(102). ومن هنا كان لترجمته في ألمانيا نفس الأثر والجلال اللذين حظيت بهما نسخة الملك جيمس المترجمة بعد قرن: كان لها تأثير حميد لا حد له على لغة الحديث القومية ولا تزال أعظم عمل نثري في الأدب القومي.


وطبعت في فيتنبرج مائة ألف نسخة من عهد لوثر الجديد إبان حياته، وظهرت في أمكنة أخرى إثنتا عشرة طبعة لم يرخَّص بها وعلى الرغم من المنشورات التي تحرم تداولها في براندنبرج وبافاريا والنمسا فإنها أصبحت أكثر الكتب رواجاً في ألمانيا وظلت كذلك.

وأثمرت ترجمات الإنجيل كنتيجة وعامل مساعد معاً وأعانت على أن تستبدل باللاتينية اللغات الوطنية والآداب التي واكبت الحركة القومية والتي سايرت هزيمة الكنيسة العالمية في بلاد لم تكن قد تلقت اللغة اللاتينية وغيرتها. ولما كان لوثر قد أكبّ طويلاً على الكتاب المقدس وورث وجهة نظر القرون الوسطى عن صدوره من الله فإنه جعله عن محبة خالصة المصدر الأوحد لعقيدته الدينية وشريعتها. ومع أنه قبل بعض الروايات المأثورة التي لا تقوم على ما جاء في الكتاب المقدس - مثل تعميد الطفل والراحة يوم الأحد - فإنه رفض أن يسلّم بحق الكنيسة في أن تضيف إلى المسيحية عناصر لا تعتمد على ما جاء في الكتاب المقدس وإنما تعتمد على عرفها وسلطتها مثل المطهر وصكوك الغفران وعبادة مريم والقديسين وكان كشف فالا عن "هبة قسطنطين" (هبة أوربا الغربية المزعومة للبابوات) باعتبارها أضحوكة عتيقة في التاريخ قد زعزع إيمان الآلاف من المسيحيين في الوثوق بروايات الكنيسة وشكك في الشرعية الملزمة لمراسيمها وفي عام 1537 ترجم لوثر نفسه رسالة فالا إلى الألمانية. فالرواية يقوم بها انسان عرضه للزلل أما الكتاب المقدس فقد قبلته أوربا بأسرها تقريباً وعدته كلمة الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

ثم إن العقل أيضاً يبدو ضعيفاً بالقياس إلى الإيمان في وحي من لدن الله. وقال "نحن المساكين، الناس التعساء... نسعى في غرور إلى فهم الجلال الذي يدق على الفهم لنور عجائب الله التي لا تدرك... ونحن نتطلع بعيون مغمضة، مثل حيوان الخلد، إلى مجد الله"(103). وقال لوثر: "أنت لا تستطيع أن تقبل كلاً من الإنجيل والعقل فأحدهما يجب أن يفسح الطريق للآخر".

"إن كل آيات عقيدتنا المسيحية التي كشف لنا الله عنها في كلمته أمام العقل مستحيلة تماماً منافية للمعقول وزائفة. فإذن كيف يعتقد ذلك الأحمق الصغير الماكر أن هناك شيئاً يمكن أن يكون أكثر مجافاة للعقل واستحالة من أن المسيح يعطينا جسده لنأكله ودمه لنشربه في العشاء الأخير؟... أو أن الموتى سيبعثون من جديد يوم القيامة؟... أو أن المسيح ابن الله حملت به مريم العذراء وولدته ثم غدا رجلاً يتعذب ثم يموت ميتة مخجلة على الصليب؟(105)... إن العقل هو أكبر عدو للإيمان... إنه أفجر صنائع للشيطان كبغي فتك بها الجرب والجذام، ويجب أن توطأ بالأقدام ويقضى عليها هي وحكمتها... فاقذفها بالروث في وجهها... وأغرقها في العماد"(106). وأدان لوثر الفلاسفة الكلاميين لأنهم سلموا للعقل بكثير من الأمور ولأنهم حاولوا أن يثبتوا العقائد المسيحية بالخضوع لمقتضى العقل ولأنهم حاولوا أن يوفقوا بين المسيحية وبين فلسفة أرسطو ذلك الوثني الداهية المغرور اللعين(107).

ومع ذلك فإن لوثر خطا خطوتين في اتجاه العقل: جعل الموعظة، وليس الاحتفال مركز شعيرته الدينية وأعلن في الأيام الأولى لثورته بحق كل فرد في تفسير آيات الكتاب المقدس لنفسه. واستن قانونه الخاص بصحة أسفار الكتاب المقدس: إلى أي مدى تتفق مع تعاليم المسيح؟ وقال "إن كل ما لا يبشر بالمسيح ليس رسولياً حتى لو كتبه القدّيس بطرس أو القدّيس بولس... وكل ما يبشر بالمسيح يكون رسولياً حتى لو صدر من يهوذا وبيلاطس أو هيرودس"(108). ورفض التسليم برسالة جيمس وأطلق عليها اسم: "رسالة الهشيم" لأنه لم يستطع أن يوفق بينها وبين رأي بولس في التبرير بوساطة الإيمان، واستراب في أن الرسالة من عمل العبريين إذ بدا أنها تنكر صحة التوبة بعد العماد (ولذلك فإنها تؤيد الذين ينكرون التعميد النصراني) وقدر أولاً أن سفر الرؤيا مزيج لا يدرك من ضروب الوعد والوعيد "لا هي رسولية ولا هي نبوية"(109). "أما سفر عزرا الثالث فإني أقذف به في نهر ألبا"(110). وعلى الرغم من أنه يقوم على عقلية وثنية وأن معظم أحكامه التي تقوم على شريعة الكتاب المقدس قبلها النقاد الإنجيليون المتأخرون وقالوا إنها ذكية وسليمة. وقال: "إن أحاديث الأنبياء لم يدون منها شيء بانتظام في حينه بل جمعها مريدوهم وسامعوهم فيما بعد... ولم تكن أمثال سليمان من عمل سليمان". ولكن خصومه الكثالكة أكدوا أن الاختبارات التي وضعها للحكم على الصحة والوحي كانت ذاتية وتحكمية وتنبأوا أن نقاداً آخرين سيحذون حذوه ويرفضون الاعتراف بكتب مقدسة أخرى حسب أهوائهم وآرائهم حتى لا يبقى شيء من الكتاب المقدس يعتبر أساساً للعقيدة الدينية. وباستبعاد الاستثناءات السالفة فإن لوثر دافع عن الكتاب المقدس باعتباره صحيحاً بحذافيره وحرفياً. وسلّم بأنه لو لم ترد قصة يونس في الحوت في الكتاب المقدس لسخر منها وعدها خرافة وبالمثل حكايتا عدن والحية، ويوشع والشمس ولكنه قال متّى قبلنا القول بقداسة الكتاب المقدس، فلابد أن هذه القصص بالإضافة إلى الباقي حقيقة من كل وجه. ورفض محاولات أرازموس والباقين للتوفيق بين الكتاب المقدس والعقل عن طريق التأويل المجازي(111) وعدّها من قبيل الإلحاد. ولما كان قد فاز بالطمأنينة الذهنية لا عن طريق الفلسفة ولكن عن طريق الإيمان بالمسيح كما صورته الأناجيل، فإنه اعتصم بالكتاب المقدس باعتباره الملاذ الأخير للروح، وعارض علماء الانسانيات وعبادتهم للكلاسيات الوثنية فعرض الكتاب المقدس لا باعتباره نتاج فكر بشري، بل باعتباره بركة من الله وعزاء للبشر. وقال: "إنه يعلّمنا أن نرى ونشعر وندرك ونفهم معنى الإيمان والأمل والبر بطريقة مغايرة لما يستطيع أن يفعله العقل البشري وعندما تضيق صدورنا بالشر فإنه يعلّمنا كيف تشع هذه الفضائل الضوء لكي يبدد الظلام وكيف أن هناك حياة أخرى خالدة بعد هذه الحياة الهزيلة التعسة التي نحياها على الأرض"(112).

وعندما سُئل عن الأساس الذي استند إليه في أن الكتاب المقدس من وحي الله أجاب ببساطة أنه استند إلى تعاليمه ولا يمكن غلا لأُناس ألهمهم الله أن يكوّنوا مثل هذا الإيمان العميق الذي هو عزاء للنفس.


8- لاهوت لوثر


وعلى الرغم من أن لاهوته قام على تصديق حرفية ما جاء بالكتب المقدسة فإن تفسيره احتفظ لا شعورياً بالروايات المأثورة في القرون الوسطى المتأخرة. وجعلته قوميته عصرياً أما لاهوته فيمت إلى عصر الإيمان. وكانت ثورته موجهة ضد النظام الكاثوليكي وطقوسه أكثر منها ضد العقيدة الكاثوليكية ولازمه معظم هذه الثورة إلى النهاية. بل إنه حذا في ثورته حذو ويكليف وهس ولم ينتهج أي منهج جديد. فثورته مثل ثورتهما تكمن في رفض البابوية والمجالس الدينية والمراتب الكهنوتية والاهتداء بأي شيء آخر للعقيدة غير الكتاب المقدس، وقد وصف مثلهما البابا بأنه مناهض للمسيحية ووجد مثلهما الحماية في رحاب الدولة. وتواصل الفكر من ويكليف إلى هس إلى لوثر يعد الخيط الرئيسي للتطور الديني من القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر. فقد كان تواصل الفكر من الناحية اللاهوتية قد اعتصم بآراء أوغسطين عن القدر والرحمة، وهذه الآراء كانت لها بدورها جذور في رسائل بولس الذي لم يعرف المسيح قط. وقد تساقطت تقريباً جميع العناصر الوثنية التي شابت المسيحية عندما اتخذت البروتستانتية شكلها المرسوم وانتصرت الهيبة اليهودية على الاغريقية وفاز الانبياء على أرسطو رائد فلسفة الجدليين وأفلاطون رائد علماء الانسانيات وحول بولس باعتباره أقرب إلى مصاف الأنبياء منه إلى مصاف - الرسل - المسيح إلى تكفير عن خطيئة آدم وحجب العهد القديم العهد الجديد أظلم يهوه وجه المسيح.

وكان مفهوم الله عند لوثر يهودياً، وكان في وسعه أن يتكلم بفصاحة عن رحمة الله وعفوه إلا أن صورة الله القديمة باعتباره منتقماً ثم صورة المسيح باعتباره القاضي الأخير أكثر استقراراً في نفسه، ولقد آمن دون أن يسجل أي اعتراض بأن الله قد أغرق كل البشر تقريباً في الطوفان وأنه أحرق سدوم وأهلك الأراضي والناس والامبراطوريات بنفثة من غضبه وإشارة من يده. ورأى لوثر أن "قلة قدر لها أن تنجو وأن كثرة كثيرة لحقتها اللعنة إلى الأبد"(113). ونبذت من القصة الأسطورة التي تخفف من هول تلك الصورة وهي التي تتناول الدور الذي تقوم به مريم في الشفاعة وبقي فيها اليوم الآخر بكل ما فيه من فزع شديد للبشر الخاطئين بطبيعتهم. وكان الله في عضون هذا كله قد سلط الوحوش المفترسة والديدان والنسوة الخبيثات على الناس عقاباً لهم على خطاياهم. وكان لوثر يذكر نفسه بين الفينة والفينة بأننا لا نعلم شيئاً عن الله إلا أنه قوة مدركة كونية موجودة. وعندما سأله شاب لحوح من علماء اللاهوت: أين كان الله قبل خلق العالم؟ أجابه بأسلوبه الخطابي الفظ عن طريقة جونسون "كان يبني جهنم لهذه الأرواح الفضولية المقلقة المغرورة من أمثالك"(114). ولقد أخذ الجنة والجحيم قضية مسلّمة وآمن بنهاية مبكرة للعالم(115). ووصف جنة حافلة بالمسرات وفيها كلاب مدللة "لها شعر ذهبي يلمع كالأشجار الكريمة"(116)، وهي منحة طيبة لأطفاله الذين أعربوا عن اهتمامهم بمصير كلابهم المدللة. وتحدث في ثقة مثل الأكويني عن الملائكة وقال إنها أرواح كريمة لا أجساد لها. ولقد تصور لوثر الإنسان أحياناً عظمة لا نهاية لها يتنازعها ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وهم الذين يعزى إلى اختلاف مشاربهم وإلى جهودهم كل الظروف التي تحيط بمصير الإنسان وفي هذا إقحام للزرادشتية في لاهوته. كما سلّم تسليماً كاملاً بالمفهوم السائد في القرون الوسطى عن الشياطين التي تهيم في الأرض وتوسوس للناس وتغويهم بالإثم وتعرضهم للنحس وتمهد للإنسان طريقه إلى جهنم. وقال: "إن كثيراً من الشياطين تهيم في الغابات والمياه والبراري وفي الأماكن المظلمة المليئة بالبرك وهي متأهبة أبداً لإيذاء الناس، وبعضها يهيم في السحب الكثيفة السوداء"(117).

وقد يكون بعض هذا الاعتقاد إبداعاً تربوياً واعياً لمخاوف خارقة نافعة، ولكن لوثر كان يتحدث بغير كلفة عن الشياطين ويبدو أنه صدق كل ما قيل عنهم. وقال "إني أعرف الشيطان حق المعرفة"، وذكر بالتفصيل أحاديثهم مع بعضهم بعضاً(118). وكان أحياناً يفتن الشيطان بالعزف على الناي واحياناً كان يفزع الشيطان المسكين(119) بأن يرميه بأقذع السباب(120). وأصبح من عادته أن يعزو إلى الشيطان الأصوات المخيفة التي تصدر من الجدران وهي تتقلص من البرودة في الليل وذلك عندما كان يستيقظ على هذه الأصوات، وكان في وسعه أن يستنتج وهو واثق أنها من عمل الشيطان، وهو يحوم حوله وأن يستأنف نومه في هدوء(121). ونسب إلى فعل الشيطان ظواهر مختلفة لا تسر. سقوط البَرَد والرعد والحرب والطاعون، أما الحوادث السعيدة كلها فهي في نظره من فعل الله(122). وكان يجد صعوبة في إدراك كل ما نسميه القانون الطبيعي. ويبدو أن كل التراث الشعبي التيتوني عن الطيف الصخّاب أو الروح التي تحدث الضجة قد صدقه لوثر بحذافيره والشياطين يؤثر أن تتقمص أجساد الثعابين والقردة(123). وكان لوثر يرى أن الفكرة القديمة التي تذهب إلى أن في وسع الشياطين أن تضاجع النساء وأن تنجب منهن أطفالاً فكرة صائبة، بل إنه أشار في مثل هذه الحالة بضرورة إغراق الطفل الذي يولد نتيجة لهذه العلاقة(124). وقبل السحر والعرافة على أنهما من الحقائق المسلّم بها وكان يرى أن إحراق الساحرات على السارية(125) واجب مسيحي بسيط، وكان يشاطره في معظم آرائه معاصروه سواء أكانوا من الكثالكة أم من البروتستانت.

ثم إن الاعتقاد في قوة الشياطين وقدرتها على الوجود في كل مكان بلغ في القرن السادس عشر درجة قصوى لم تسجل في أي عصر آخر وقد أفسد هذا الاهتمام بالشيطان كثيراً من اللاهوت البروتستانتي.

وازدادت فلسفة لوثر قتامة بالاقتناع بأن الإنسان بطبعه شرير وميال للإثم ، وقد انتزعت الصورة الإلهية من قلب الإنسان عقاباً لعصيان آدم وحواء ولم يبقِ فيه إلا الميول الطبيعية. وها هو يقول: "ليس هناك مَن هو مسيحي أو ورع بفطرته... والناس والجماهير بعيدة عن روح المسيحية ولسوف تكون هكذا... والأشرار يفوقون دائماً الأخيار عدداً"(126). بل إن أعمال الشر في الرجل الخير تفوق في عددها أعمال الخير لأنه لا يستطيع أن يهرب من فطرته وكما قال بولس: "لا أحد بار، لا أحد". وشعر لوثر "بأننا أبناء الغضب وكل أعمالنا ونياتنا وأفكارنا لا تساوى في الميزان أمام آثامنا"(127). ومن جهة سير أعمال الخير فإن كل واحد منا يستحق العذاب المقيم، وكان لوثر يقصد بعبارة "أعمال الخير" بصفة خاصة تلك الأشكال من الورع الطقسي الذي أوصت به الكنيسة - الصيام والحج والابتهالات إلى القديسين والقداسات للموتى وصكوك الغفران والمواكب والتبرعات للكنيسة ولكنه ضمّنها أيضاً "كل الأعمال مهما كانت صفتها"(128) ولم يشك في مدى الحاجة إلى الاحسان والحب لتوفير حياة صحية اجتماعية ولكنه أحس بأنه حتى لو كانت هناك حياة مباركة بمثل هذه الفضائل فإنها لا تستطيع أن تفوز بسعادة أزلية ويقول "غن الإنجيل لا يبشر بشيء من الجزاء عن الأعمال وإن مَن يقول إن الإنجيل نص على أن الأعمال هي وسيلة الخلاص أقول له بصراحة تامة إنه كاذب"(129). ولا يمكن لقدر من الأعمال الصالحة - فكل منها إهانة لإله لا حد لقدرته - أن تكفّر عن الذنوب التي اقترفها خير الناس. ولا يمكن أن تكفّر عن خطايا البشر إلا تضحية المسيح المفتدية - آلام ابن الله وموته -، ولا يمكن أن ينجينا من عذاب جهنم إلا الإيمان بهذا التكفير الإلهي. وكما قال بولس للرومان: "إذا كنت تقر بلسانك أن الرب يسوع وإذا كنت تؤمن في قرارة فؤادك بأن الله قد رفعه من بين الأموات فإنك سوف تنجو"(130). وهذا الإيمان هو الذي "يبرر" - يجعل الإنسان باراً على الرغم مما اقترف من ذنوب ويجعله صالحاً للخلاص، وقد قال المسيح نفسه "كل مَن يؤمن ويُعمَّد سوف ينجو أما مَن يكفر فسوف تلحقه اللعنة"(131). وقال لوثر مستنتجاً منطقياً: "ولهذا فإن أول ما يجب أن يهتم له كل مسيحي هو أن يطرح جانباً كل يقين في الأعمال وأن يقوي إيمانه وحده شيئاً فشيئاً"(132) واستطرد قائلاً في فقرة أزعجت بعض علماء اللاهوت وإن كانت قد أراحت كثيراً من الخاطئين:

"إن يسوع المسيح ينحني ويدع الخاطئ يقفز فوق ظهره وهكذا ينقذه من الموت... أية تعزية للارواح التقية أن يعتصم بالمسيح على هذا النحو وأن تلفه في خطاياي وخطاياك وخطايا العالم بأسره وتعده هكذا يحمل خطايانا جميعاً!... وعندما ترى أن خطاياك تلصق به فعند إذ تنجو من الخطيئة والموت والجحيم... إن المسيحية ليست إلا ممارسة متصلة للإحساس بأنك لا ترتكب خطيئة على الرغم من أنك تقترفها وأن خطاياك إنما توضع على كاهل المسيح. حسبك أن تعرف الحَمَل الذي يحمل خطايا العالم والخطيئة لا يمكنها أن تُفرِّق بيننا وبينه حتى لو ارتكبنا ألف جريمة زنى كل يوم أو مهما ارتكبنا من جرائم القتل، ألا تعد هذه بشرى طيبة أن تعرف إنساناً غارقاً في الخطايا إلى أذنيه فيأتي الإنجيل يقول له: "كن على ثقة وآمن تُغفر لك خطاياك من الآن فصاعداً؟ حالما يقتلع هذا الحائل تُغفَر لك خطاياك وليس ثمة شيء آخر تعمل من أجله"(133).

ولعل هذا كان المقصود به تعزية وانعاش بعض الأرواح المرهفة الحس التي كانت تجزع كثيراً بسبب ما اقترفت من خطايا. واستطاع لوثر أن يتذكر كيف أنه قد غالى يوماً في جسامة ذنوبه ورأى أنها لا تغتفر ولكن الأمر بدا عند بعضهم يشبه كثيراً قول تيتزل المزعوم "أسقط قطعة نقدية في الصندوق تتبدد ذنوبك كلها" وكان الإيمان وقتذاك يفعل الأعاجيب التي زعموا من قبل أنها تتحقق بالاعتراف والتحلل من الذنوب والصدقة وصك الغفران. ومع ذلك فهناك فقرة تسترعي الانتباه: وجد لوثر الغيور الثائر كلمة طيبة يقولها عن الخطيئة ذاتها وقال عندما يغوينا الشيطان بإلحاح مزعج فقد يكون من الحكمة أن نستسلم لإغرائه ونقترف ذنباً أو اثنين. "إسعَ يا مجتمع رفاقك الطروبين واشرب واقصف وانطلق بالفحش وسل نفسك فلابد للمرء أن يقترف أحياناً ذنباً كراهية واحتقاراً للشيطان حتى لا يعطيه الفرصة لكي يجعله يشعر بتأنيب الضمير على مجرد أشياء لا تستحق الذكر، فالمرء يضل إذا اشتد فزعه من أن يقترف ذنباً... أه!... بودي لو كان في استطاعتي أن أجد ذنباً عظيماً حقاً يقذف بالشيطان!"(134).

ولقد دعت هذه الأحكام العرضية المرحة إلى التأويل، وفسر بعض أتباع لوثر شخصيته بأنه يتسامح في الفجور والزنى والقتل واضطر أستاذ من أنصاره إلى نصح الوعاظ المؤثرين بأن يحرصوا على الاقلال ما أمكن من القول بأنه يمكن الحصول على البراءة من الذنب بالإيمان وحده(135). ومهما يكن من أمر فإن لوثر كان لا يقصد بالإيمان التسليم العقلي بغرض فحسب ولكنه كان يقصد المكابدة الحيوية الشخصية لاعتقاد عملي، وكان على ثقة من أن الاعتقاد الكامل في أن عفو الله منح بسبب موت المسيح تكفيراً عن ذنوب البشر يجعل الإنسان أولاً وقبل كل شيء صالحاً إلى الحد الذي يجعل مجوناً عارضاً تشيع فيه شهوة الجسد لا يترتب عليه ضرر دائم، ذلك لأن الإيمان سرعان ما يعود بالخاطئ إلى الصحة الروحية، ووافق من صميم قلبه على فائدة الأعمال الصالحات(136). غير أن ما أنكره هو فاعليتها في سبيل الخلاص. وقال "إن الأعمال الصالحات لا تخلق رجلاً صالحاً ولكن الرجل الصالح يقوم بأعمال صالحات"(137). وماذا يجعل الرجل صالحاً؟ الإيمان بالله والمسيح.

وكيف يتأتى لإنسان أن يصل إلى مثل هذا الإيمان الذي ينجيه من عذاب الجحيم؟ إنه لا يصل إليه عن طريق أعماله التي يثاب عليها بل انه منحة يهبها الله، بغض النظر عن هذه الأعمال، إلى مَن يشاء أن ينجيه من عذابه وكما قرر بولس وهو يتذكر قصة فرعون "إن الله يتغمد برحمته مَن يشاء ويحرم منها مَن يشاء"(138). والله قدّر مَن اصطفاهم للسعادة الأبدية أما الباقون فقد تركهم محرومين من رحمته ملعونين ومخلدين في نار جهنم(139). "هذه هي ذروة الإيمان: أن تؤمن بأن الله، الذي ينجي من عذابه قلة من عباده والذي يعاقب الكثرة منهم، غفور رحيم وأنه تعالى عادل، إذ سبق في تقديره أن قضى علينا باللعنة الأبدية لأنه... ويبدو أنه يرضى بتعذيب الأشقياء. وإذا استطعت بأي جهد عقلي أن أدرك كيف يكون الله رحيماً في الوقت الذي يصدر عنه الكثير من الغضب والظلم فلن تكون بي حاجة إلى الإيمان"(140).

وهكذا نرى أن لوثر في غمرة رد فعله القروسطي ضد كنيسة عصر النهضة التي ارتدت إلى عصر الوثنية ثق عاد لا إلى العقيدة الأوغسطينية فحسب ولكنه عاد إلى الترتوليانية: الإيمان بما لا يصدق، وبدا له أن من الفضيلة أن يؤمن بالقدر لأنه كان بالنسبة للعقل أمراً لا يصدق، ومع ذلك فقد رأى بالمنطق العسير أنه إنما دفع إلى هذا الاعتقاد بعدم قابلية الأمر للتصديق، وها هو عالم اللاهوت الذي كتب ببلاغة لا تضارع عن "حرية الإنسان المسيحي" قد رأى وقتذاك (1525) في إحدى رسائله أنه إذا كان الله قادراً على كل شيء فلابد أنه السبب الوحيد لكل ما يصدر من أفعال بما فيها أعمال الإنسان وأنه إذا كان الله عليماً بكل شيء فإنه يعرف كل شيء مسبقاً وكل شيء لابد أن يحدث كما سبق في علمه وعلى ذلك فإن كل الأحداث في كل زمان قد قُدّرت بإرادته تعالى وأصبحت قدراً محتوماً للأبد. وانتهى لوثر مثل أسبينوزا إلى أن الإنسان "ليس حراً مثل كتلة من الخشب أو صخرة أو كتلة من الصلصال أو عموداً من الملح"(141). ومع ذلك فإنه لأمر أكثر غرابة أن تحرم الحكمة الإلهية نفسها الملائكة، لا، بل والله نفسه من الحرية فإنه تعالى يجب أن يعمل كما سبق في علمه فحكمته هي قدره.

ولقد فسر أحد المجانين هذه العقيدة كما شاء له هواه: ضرب شاب عنق أخيه وعزا هذا إلى فعل الله الذي لم يكن هو إلا عبده العاجز فحسب، وحطم أحد المناطقة جسد زوجته بعصبية حتى ماتت وهو يصرخ "الآن تمت إرادة الأب"(142). وتتدرج معظم هذه الاستنتاجات ضمناً في لاهوت القرون الوسطى، وقد استخلصها لوثر من بولس إلى أوغسطين في تزمت لا يلين وبدا راغباً في قبول لاهوت القرون الوسطى إذا تجرد من سلطان كنيسة عصر النهضة، فقد كان في وسعه أن يكون أكثر تسامحاً في قبول حتمية وجود جمهرة كبيرة من الملعونين منه في الخضوع لسلطان بابوات يشتطون في جمع الضرائب بصورة فاضحة. ورفض التسليم بالتعريف الكهنوتي للكنيسة بأنه هي الأسقفية وعرّفها بأنها جماعة المؤمنين بالله وبآلام المسيح تكفيراً عن ذنوب البشر ولكنه ردد العقيدة البابوية عندما كتب يقول: إن كل الناس الذين ينشدون الوصول إلى الله ويعملون من أجل هذا الوصول بأية وسيلة أخرى غير التوسل بالمسيح (مثل اليهود والأتراك والبابويين والقديسين الزائفين والهراطقة...إلخ) يسيرون في ظلام دامس سادرين في الخطأ ولابد من أن يموتوا آخر الأمر ويضيعوا في آثامهم"(143). وهنا ولدت من جديد في فيتنبرج تعاليم يونيفاس الثمن ومجلس روما (1302) التي تقول: "لا خلاص للإنسان خارج الكنيسة".

وأعظم مادة ثورية في لاهوت لوثر هي تجريد القسيس من منصبه وإباحته للقساوسة الحصول على راتب لا بصفته موزعين لا غنى عنهم للقربان المقدس ولا باعتبارهم وسطاء مختصين بين الله والناس ولكن بصفتهم خادمين اختارتهم كل أبرشية للوفاء بحاجاتها الروحية، ولسوف يبدد هؤلاء القساوسة، بزواجهم وتنشئتهم لأسرة هالة القداسة التي جعلت نظام القسوسة قوياً رهيباً، فهم سيكونون "أولاً بين أنداد" ولكن أي انسان في وسعه عند الحاجة أن يقوم بوظائفهم بل يحل تائباً من ذنبه. وعلى الرهبان أن يتخلوا عن عزلتهم الأنانية وحياة الدعة التي يعيشونها في الغالب وأن يتزوجوا ويكدحوا مع الآخرين، فالرجل الذي يجر المحراث والمرأة التي تشتغل في المطبخ يعبدان الله خيراً مما يفعل الراهب وهو يتمتم بصلوات غير مفهومة في تكرار يجلب النعاس. ولابد أن تكون الصلاة هي الصلة الروحية المباشرة بين العبد وربّه ولا تكون ابتهالات بقديسين شبه أسطوريين، ومن رأي لوثر أن عبادة القديسين لم تكن معايشة ودية موازية بين عزلة الحي وقداسة الموتى، كانت ردة إلى عبادة الأصنام البدائية المشركة(144).

أما القرابين المقدسة التي كان ينظر إليها على أنها حفلات يقيمها القساوسة للحصول على الغفران من الرب فأن لوثر هون من شأنها بقسوة فهي لا تنطوي على قوى معجزة وفاعليتها تتوقف لا على أشكالها وصيغها ولكن على إيمان مَن يتلقاها، وتثبيت العماد والزواج والرسالة الأسقفية للقساوسة والمسيح المغالى فيه للمحتضر ليست إلا طقوساً لم يرتبط بها أي وعد يعفو الله في الكتاب المقدس ويمكن للدين الجديد أن يستغني عنها. أما العماد فهناك بينة عليه في مثال يوحنا المعمدان ويمكن استبقاء الاعتراف السمعي باعتباره من المقدسات على الرغم مما يحيط من شكوك بالأساس الذي يستند إليه في الكتاب المقدس . وأعظم قربان مقدس هو عشاء الرب أو العشاء الرباني. ويرى لوثر أن الفكرة التي تذهب إلى أن القسيس يمكنه بتعويذة من كلماته أن يغير الخبز إلى المسيح سخيفة تنطوي على التجديف، ورأى مع ذلك أن المسيح يهبط من السماء بمحض مشيئته ليكون حاضراً بطريق التجسد مع الخبز والنبيذ في القربان المقدس. وليس القربان المقدس سحراً كهنوتياً ولكنه معجزة إلهية دائمة(145).

ولا شك أن عقيدة لوثر في القربان المقدس وإحلاله عشاء الرب محل القداس ونظريته عن الخلاص بالإيمان لا بالأعمال الصالحات قد قوضت دعائم سلطة رجال الكهنوت في شمال ألمانيا.

وأخذ لوثر يروج لهذا النهج فرفض الاغتراف بالمحاكم الأسقفية والقانون الكنسي وأصبحت المحاكم المدنية في أوروبا اللوثرية هي المحاكم الوحيدة كما أصبحت السلطة الزمنية هي السلطة الشرعية الوحيدة. وعين الحكام الزمنيون موظفي الكنيسة وانتزعوا أملاكها وبدأوا في الاشراف على مدارسها مبرات الأديرة. وظلت الكنيسة والدولة مستقلتين إحداهما عن الأخرى من الناحية النظرية وإن أصبحت الكنيسة بالفعل خاضعة للدولة. وهكذا قدر للحركة اللوثرية التي كان يعتقد أنه الحياة بأسرها للاهوت أن تقدم، بلا قصد ورغم أنفها، ذلك التحول الشامل نحو الدنيوية الذي أصبح الموضوع الأساسي في الحياة العصرية.


9- الثورة


عندما سعى بعض الأساقفة إلى اسكات لوثر وأتباعه أطلق صرخة مدوية غاضبة كانت بمثابة الناقوس المنذر بالثورة تقريباً، ففي كتيب "ضد النظام الذي يطلق عليه بهتاناً اسم النظام الروحي للبابا والأساقفة" (يوليو 1522) دمغ البطاركة ووصفهم بأنهم "أكبر الذئاب" جميعاً وناشد كل الألمان الصالحين أن يطردوهم بالقوة. "كان من الخير أن يُقتل كل أسقف وأن تُقتلع جذور كل مؤسسة أو دير، فهذا أفضل من أن تُزهق روح واحدة فما بالك بفقد كل الارواح من أجل بهرجهم التافه وعبادة الأوثان. ما فائدة هؤلاء الذين يعيشون غارقين في الشهوات ويتغذون بعرق الآخرين وكدحهم؟... إنه إذا رضوا بكلمة الله وسعوا إلى حياة الروح فإن الله يكون معهم... أما إذا لم يستمعوا إلى كلمة الله وثاروا غضباً وتوعدوا بالحرمان والحرق والقتل وبكل شر مستطير، فماذا يستحقون غير ثورة عارمة تكتسحهم من فوق ظهر الأرض؟ ولسوف تبتسم إذا حدث هذا. إن كل مَن يتبرع بالجسد أو بالمتاع أو الشرف للقضاء على حكم الأساقفة هم أطفال الله الأعزاء ومسيحيون صادقون"(146).

وفي هذا الوقت انتقد لوثر الدولة انتقاده للكنيسة، فقد آلمه تحريم بيع عهده الجديد أو حيازته في المناطق التي تخضع لحكام من المحافظين فكتب في خريف عام 1522 رسالة عنوانها "عن السلطة الزمنية: إلى أي حد يجب أن تطاع". وبدأها بأسلوب ودي للغاية فأقر عقيدة القدّيس بولس عن الخضوع المدني والأصل الإلهي للدولة. ومن الواضح أن هذا كان يتناقض مع تعاليمه الخاصة التي تقول بالحرية الكاملة للمسيحي. وأوضح لوثر أنه على الرغم من أن المسيحيين المخلصين ليسوا في حاجة إلى قانون... ومع أن أحداً منهم لن يواجه الآخر بالقانون أو القوة فإنهم يدب أن يطيعوا القانون وأن يكونوا قدوة لغالبية الناس من غير المسيحيين المخلصين لأن فطرة الإنسان التي تجنح للإثم في غيبة القانون سوف تمزق المجتمع إرباً. ومع ذلك فإن سلطة الدولة يجب أن تنتهي حيث يبدأ ملكوت الروح. مَن هم هؤلاء الأمراء الذين يأخذون على عواتقهم أن يفرضوا على الناس ما يقرأونه أو ما يعتقدونه؟

"لابد أن تعرفوا أن الأمير الحكيم يندر وجوده حقاً منذ بداية الخليقة مثله في ذلك مثل الأمير الورع. فالأمراء في العادة أكبر الحمقى أو أسوأ الأفاقين على ظهر الأرض. إنهم السجانون والجلادون الذين يسلطهم الله على عباده، وهم أدوات الله التي تحقق غضبه تعالى بعقاب الأشرار وللمحافظة على السلام بين الناس... ومهما يكن من أمر فإني بكل إخلاص أنصح هؤلاء الناس الذين طمس الله على ابصارهم أن ينتبهوا إلى القول الموجز في المزمور 107: (27) "إن الله تعالى ينزل سخطه على الأمراء" وإني أقسم لكم بالله أن هذه العبارة الموجزة لو أصبحت سيفاً مسّلطاً على أعناقكم بسبب خطئكم فلا تلوموا إلا أنفسكم، وذلك على الرغم من أن كل واحد منكم متين البنيان كالتركي ولن يجديكم فتيلاً تميزكم غضباً وتحمسكم للكلام فقد تحقق فعلاً جانب كبير منه، لأن... الرجل العادي يتعلم كيف يفكر... ثم إن الجماهير وعامة الناس تستجمع نقمتها على الأمراء وعلى الناس بعد هذا الا يعانوا من طغيانهم وغرورهم فهذا ما لا يستطيعونه ولن يسمحوا به. فيا أيها الأمراء والسادة الاعزاء تمسكوا بأهداف الحكمة واهتدوا بهديها. إن الله لن يتسامح معكم بعد هذا ولم يعد العالم ذلك الذي كنتم فيه تطاردون الناس وتسوقونهم كالأنعام"(147). واتهمه رئيس وزراء بافارى بأن هذه دعوة للثورة تتسم بالخيانة، وندد بهذه الرسالة الدوق جورج ووصفها بأنها إفك وحث الأمير المختار فردريك على أن يصادرها. ولكنه على العكس من ذلك سمح بتوزيعها بما عهد فيه من اتزان. ترى ماذا كان يقول الأمراء لو أنهم قرأوا رسالة لوثر إلى فنتسل لينك Wanzel Link، (19 مارس 1522)؟ "إننا ننتصر على الطغيان البابوي الذي طالما سحق ملوكاً وأمراء فكيف لا يسهل علينا إذن أن نتغلب على الأمراء أنفسهم نطأهم بنعالنا"(148). أو ماذا هم قائلون إذا أطلعوا على تعريفة للكنيسة؟ "أعتقد أنه لا توجد على ظهر الأرض إلا كنيسة مسيحية عامة، حكيمة كالعالم ولكنها كنيسة مقدسة وهي ليست إلا جماعة القديسين... وأعتقد أن كل الأشياء على المشاع في هذه الجماعة أو في هذا العالم المسيحي، وكل ما يملكه الإنسان من متاع ملك للآخر ولا يوجد شيء ملك لأحد فحسب"(149).

كانت هذه سورة عارضة يجب ألا تؤخذ بمعناها الحرفي؛ فالواقع أن لوثر محافظاً بل ورجعياً في السياسة والدين بمعنى أنه كان يريد أن يعود بالناس إلى المعتقدات والرسائل الأولى في القرون الوسطى، وكان يعد نفسه ممن يردون الأشياء إلى أصولها وأنه ليس مبتدعاً. وكان يمكن أن يقنع بالحفاظ على المجتمع الزراعي الذي عرفه في طفولته واستمراره مع إدخال بعض وجوه التحسين التي تتسم بالبر. واتفق في الرأي مع الكنيسة في القرون الوسطى في إدانة الربا إلا أنه أضاف بطريقته المرحة أن الربا بدعة من عمل الشيطان وأسف لنمو التجارة الخارجية ووصف التجارة بأنها: "مهنة مرذولة"(150) واحتقر هؤلاء الذين يكسبون معاشهم بشراء السلعة بثمن رخيص وبيعها بثمن غالٍ. وندد بالمحتكرين الذين كانوا يتآمرون لرفع الأسعار لأنهم "لصوص ظاهرون للعيان"، وقال: "لَكَم تحسن السلطات صنعاً لو أخذت من هؤلاء الناس كل ما يملكون وطردتهم من البلاد"(151) ورأى أن الوقت قد حان لوضع "شكيمة في فم آل فوجر"(152)، وانتهى إلى راي ينذر بالويل في رسالة عاصفة عنوانها: "عن التجارة والربا" (1524): "ينبغي أن ينظر الملوك والأمراء إلى هذه الأشياء وأن يحرموها بمقتضى قوانين صارمة، ولكني أسمع أن لهم مصلحة فيها وهكذا يتحقق قول إشعيا: "لقد أصبح الأمراء رفاقاً للصوص" وأنهم ليشنقون اللصوص الذين سرقوا جولدن أو نصف جولدن ولكنهم يتاجرون مع مَن يسلبون العالم بأسره...


وهكذا يشنق اللصوص الكبار صغارهم؛ وكما قال كاتو عضو الشيوخ الروماني: "الأغرار من اللصوص يزج بهم في السجن ويطرحون لآلات التعذيب بينما يسير اللصوص المعروفون للناس في الخارج يرفلون في الحرير ويتحلون بالذهب". ولكن ما هو حكم الله على هذا في آخر الأمر؟ إنه سوف يفعل ما يقوله لحزقيال: أمراء وتجار، لص مع آخر لسوف يصهرهم الله معاً كما يصهر الرصاص والنحاس أو كما تحترق مدينة؛ فبالمثل لن يكون هناك أمراء ولا تجار بعد هذا. وفي هذه المرة أخشى أن يكون هذا على الباب"(153). وقد كان.

وفي مارس 1525 صاغ في ميمينجن مندوبوهم، بإرشاد البروتستانت من أتباع تسفينلجي أو بتأثيره، البنود الأثني عشر التي أشعلت النار في نصف ألمانيا.