قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 1 ف 8
صفحة رقم : 7863
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> أوروبا الوسطى -> الأرض والعمل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثامن: أوربا الوسطى 1300 - 1460
الأرض والعمل
ما دام الإنسان يعيش تحت رحمة الجغرافية الطبيعية، فقد كتب عليه أن ينقسم بواسطة الجبال والأنهار والبحار، إلى جماعات تتطور في سبه عزلة، مختلف لغاتها وشرائعها، وملامحها التي تتحكم فيها الظروف المناخية وعاداتها وأزياؤها. ودفع الافتقار إلى الأمن الإنسان إلى الشك في الغريب، فأصبح يره ويختصم الملامح الأجنبية المستهجنة، وطرائق العيش للجماعات الأخرى غير جماعته. وهذا التنوع الأخذ في الأرض-من جبال وأودية وأزقة بحرية ومضايق، وخلجان وغدران-الذي جعل أوربا منظراً جامعاً لمباهج شتى، وقد مزق، سكان قارة صغيرة إلى عشرة من الأقوام، يجترون خلافاتهم، ويحسبون أنفسهم في تراث أحقادهم. وهناك فتنة في هذا الخليط من النشأة المختلفة يستطيع المرء أن يطلب الغوث لعالم من الناس، محصور في أساطير بذاتها وأزياء بأعيانها. ومع ذلك، فإن فوق هذه الخلافات وتحتها..الخلافات في الزي والعادة والعقيدة واللغة، فقد فرضت الطبيعة والحاجة على الإنسان، وحدة اقتصادية وارتباطاً، ويزداد وضوحها وسلطانها كلما حطم الاختراع والمعرفة الحدود. وتستطيع العين المنصفة الشاملة أن ترى، من النرويج إلى صقلية ومن روسيا إلى أسبانيا، الناس لا يختلفون كثيراً في الزي واللغة، وإنما تراهم مشغولين في مهن متماثلة ومصبوبين في قوالب أخلاقية متشابهة، كالفلاحة والتعدي ونسج الملابس وبناء المنازل والهياكل والمدارس، وتربية الناشئين والتجارة بالفائض عن حاجتهم ويشكون النظام الاجتماعي باعتباره أقوى وسيلة للدفاع والبقاء. وسنتأمل لحظة أوربا الوسطى باعتبارها وحدة على هذا الأساس.
فقد كان الشغل الشاغل للإنسان في اسكنديناوه، أن يقهر البرد، وفي هولنده أن يتغلب على البحر، وفي ألمانيا الغابات وفي النمسا الجبال، وتوقف مصير الزراعة وهي أساس الحياة على مدى الانتصارات. وما ـن جاء عام 1300 حتى كانت دورات المحاصيل قد أصبحت عامة في أوربا مضاعفة غلة الأرض. ولكن سكان أوربا الوسطى بين عامي 1347، 1381، قد هلكوا بالطاعون، فعطل موت الفلس خصوبة الأرض. ولقد فقدت ستراسبورج في عام واحد 14.000 نسمة وكراكاً و20.000 وبرسلو 30.000. ولبثت مناجم "هارز" بلا عمال قرناً من الزمان. وواصل الناس الأعمال القديمة معتمدين على صبر الحيوان الأعجم، في حفر الأرض وحرثها. وتوسعت السويد وألمانيا في استخراج الحديد والنحاس، كما كان الغ يستخرج من آخن ودرتمند من سكسونياه والقصدير من هارز والفضة من السويد والبترول والذهب من كارنثيا وترانسلفانيا.
وعمل هذا الفيض من المعادن على تغذية الصناعة النامية التي غدت بدورها تجارة رائجة. وكانت ألمانيا إماماً في التعديل فأصبحت بطبيعة الحال، رائدة في علم المعاد. وظهرت أفران صهر المعادن هنالك في القرن الرابع عشر، فغير تشغيل المعدن بمساعدة المطرقة المائية والطاحونة الدوارة وغدت نورمبرج، عاصمة تجار الحديد واشتهرت بموقعها وأجراسها. وجعلت التجارة والصناعة نورمبرج واجزبرج ومنير وسبير وكلونيا، ومدنا ذوات حكومة مستقلة تقريباً. وبوأت أنهار الرين ومين ولش والدانوب، مدن ألمانيا الجنوبية، وكان الصدارة في المواصلات البرية، مع إيطاليا والشرق. ونشأت بيوت تجارية ومالية، لها أسواق وعملاء إلى مدى بعيد، على طول هذه الطرق، وتوقفت في القرن الخامس عشر على الحلف الهنسياتي اتساعاً وقوة. وكان هذا الحلف لا يزال قوياً في القرن الرابع عشر. مسيطراً على التجارة في مجرى الشمال والبلطيق، ولكن الأقاليم الاسكنديناوية اتحدت عام 1397 لتحطيم الاحتكار، وسرعان ما بدأ الإنجليز والهولنديون بعد ذلك ينقلون سلعهم بأنفسهم. بل إن سمك الرنجة قد تآمر على الهانس، إذ قرر أن يتكاثر في بحر الشمال، بدلاً من البلطيق، ففقدت لوبك وهي من عمد الحلف تجارة الرنجة وأفل نجمها، وغنمت أمستردام هذه التجارة وازدهرت.
وغليت مراجل حرب الطبقات تحت هذا التطور الاقتصادي-بين الريف والمدينة وبين السلدة لملاكك وعبيد الأرض والنبلاء ورجال الأعمال وبين الغرف التجارية ونقابات العمال بين الرأسماليين والصناع وبين الكهنوت والعلمانيين وبين الكنيسة والدولة. وكان رق الأرض في السويد والنرويج وسويسرا أخذا في الزوال بالفعل، ولكنه اتخذ حياة جديدة في المناطق الأخرى من أوربا الوسطى، أما في الدنمارك وبروسيا وسيليزيا وبوميرينا وبرندنبرج، حيث نال الفلاحون حريتهم بتمهيد البراري للزراعة، فقد أعيد رق الأرض في القرن الخامس عشر علي يد أرستقراطية عسكرية، ونحن نستطيع أن ندرك مدى الفظاظة التي اتسم بها هؤلاء الفتيان النبلاء الألمان من مثل سائر ردده فلاحو برندنبرج، وهو يدعو بطول البقاء لجياد السيد الملك، حتى لا يحل العبيد محلها في الركوب. وقنع البارونات والفرسان التيوتون، في أراضي البلطيق أول الأمر، باسترقاق أهل البلاد التي غزوها الصقالبة، وحملهم، نقص الأيدي العاملة بسبب الطاعون والحرب البولندية عام 1409، على أن يسترقوا جميع "الكسالى الذين يتسكعون في الطرق أو في المدن"، وعقدت المعاهدات مع الحكومات المجاورة بشأن تسليم الهاربي من رقيق الأرض.
وقرب الأباطرة ، الطبقة البرجوازية التجارية، لتجد من غلواء البارونات، فحكم هؤلاء التجار البلديات تماماً، حتى صارت دار البلدية في كثير من الأحيان، هي بعينها الغرفة التجارية. وضعف سلطان النقابات المهنية وأخضعت للقواعد التي تضعها المجالس البلدية تحديداً للأجور، ومنعت من العمل المشترك، وتحول العمال الحاذقون للمهن، المعتزون بخبرتهم، هنا، كما حدث في إنجلترا وفرنسا إلى عمال يدويين بلا حول ولا قوة. وحلول العمال الثورة حيناً بعد حين. وفي عام 1348 استولى عمال مدينة نورمبرج على المجلس البلدي وحكموا المدينة مدة عام، ولكن جنود الإمبراطور أعادوا التجار الأشراف إلى السلطة. وصدر في بروسيا عام 1358 مرسوم يقضي بصلم أذن، كل عامل يضرب عن العمل. واندلعت ثورات الفلاحين في الدنمرك (1340، 1441)، وسكسونيا وسيلزيا برندنبرج وأراضي الرين (1432) والنويج والسويد (1424)، ولكن هذه الثورات كانت منحلة العرى في التنظيم فلم ينتج عنها غير أعمال عنف عارضة. وانتشرت الأفكار الثورية في المدن والقرى. ولقد كتب عام 1478 متطرف مجهول، رسالة يعرض فيها "إصلاحاً يقوم به القيصر سيجيسموند" وهو شخصية خيالية، ذلك على أسس اشتراكية. وهكذا مهد المسرح ببطء لحرب الفلاحين عام 1525.
إقرار النظام
النظام أبو الحضارة والحرية، والفوضى هي القابلة التي تولد الدكتاتورية، من ثم فإن التاريخ يمتدح حيناً بعد حين الملوك. وكانت وظيفتهم في القرون الوسطى أن يحرروا الفرد من السيطرة المحلية وأن يركزوا في يد واحدة، سلطة التشريع والقضاء والعقاب وإصدار السكة وإعلان الحرب. وتباكى البارون الإقطاعي على فقدان الاستقلال المحلي. بيد أن المواطن البسيط رأى خير أن يكون هناك سيد واحد وعملة واحدة وقانون واحد، وقلما أمل الناس في تلك الأيام التي فشت فيها الأمة، أن الملوك أنفسهم قد يختفون من الوجود، ولا يخلفون وراءهم سلطاناً غير القوانين والأخطاء التي اقترفها الناس بحرية.
ولقد حكم اسكنديناوه بعض الملوك الأفذاذ في القرن الرابع عشر فوحد ماجنوس الثاني ملك السويد، قوانين مملكته المتعارضة في مجموعة قوانين منسجمة قومية (1347). ونم أريك الرابع البارونات ودعم السلة المرزية، وأضعفها كريستوفر الثاني وأعادها ولدمار الرابع، وجعل بلاده، إحدى الدول الرئيسية في السياسة الأوربية. ولكن أعظم شخصية في الدول الحاكمة الاسكنديناوية في ذلك العصر، هي شخصية، مارجريت ابنة فالديمار، ولقد زوجت وهي في العاشرة (1363) من هاكون السادس ملك النرويج، وهو ابن ماجنوس الثاني ملك السويد، وبدا أنه قد كتب عليها، بفضل الزواج والم، أن توحد العرشين اللذين تربط بينهما القرابة، ولما قضى أبوها (1375) أسرعت إلى كوبنهاجن ومعها ابنها أولاف وعمره خمس سنوات، وأقنعت الناخبين في البارونات ورجال الدين أن يقبلوا ابنها ملكاً على أن تكون هي نائبة الملك. وبموت زوجها (1380) ورث أولاف تاج النرويج، ولما كان لا يزال في العاشرة من عمره فقد أصبحت مرجريت هناك أيضاً نائبة الملك، وكانت إذ ذاك في السابعة والعشري من عمرها. وأذهلت حكمتها وحياتها وشجاعتها معاصريها، الذين ألفوا عدم الكفاءة. أو العنف في الحكام من الرجال، وأيد السادة الإقطاعيون في الدنمرك والنرويج مفاخرين، هذه الملكة الرشيدة الخيرة، وهم الذين تسلطوا على ملوك كثيرين قبل ذلك. حتى إذا بلغ أولاف سن الرشد (1385) غنمت له دبلماسيتها، حق الجلوس على عرش السويد. ولكنه مات بعد ذلك بسنتين، فظهر أن خطها التي وضعتها في فراسة وبعد نظر، لتوحيد اسكنديناوة قد حبطت بموته. ولكن المجلس الملكي في الدنمارك، لم يجد وريثاً ذكراً يضارع "مارجريت" في القدرة على إقرار الأمن والسلام، فتجاوز القوانين الاسكنديناوية، التي تعارض حكم المرأة، وانتخبها نائبة ملك (1387). وتقدمت إلى أسلو، فاختيرت نائبة ملك النرويج مدى الحياة (1388)، وبعد ذلك بعام، أقصى النبلاء السويديون ملكاً لم يرضوا عنه، ونصبوها ملة عليهم. وأقنعت العروش الثلاثة كلها بأن تبايع أريك أكبر أبناء أخيها، ولياً لعهودها. واستدعت عام 1397 مجالس الدول الثلاث إلى كالمر في السويد، وهناك أعلن أن السويد والنرويج والدنمرك قد اتحدت إلى الأبد، تحت سلطة حاكم واحد، على أن تحتفظ كل واحدة منها بعاداتها وقوانينها. وتوج أريك ملكاً، بيد أنه كان لا يزال في الخامسة عشرة، فاستمرت مارجريت نائبة ملك إلى أن ماتت (1412)، ولم تحظَ حاكم أوربي في ذلك العصر بمملكة متسعة كهذه، أو بحكم موفق كحكمها.
ولم يرث ابن أخيها حكمتها، فجعل أريك الاتحاد، يصبح في الحقيقة إمبراطورية دنمركية، بمجلس في كوبنهاجن يحكم الدول الثلاث. واضمحلت النرويج في هذه الإمبراطورية، وفقدت زعامتها الأدبية التي احتفظت بها من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر. وفي عام 1434 تزعم انجلبركت انجلبركسن ثورة السويد على سيادة الدنمرك، وجمع في أربوجا (1435) مجلساً قومياً من النبلاء والأساقفة وملاك الأراضي وممثلي المقاطعات، وأصبح هذا المجلس المتوسع في تكوينه، وقد استمر خمسمائة سنة، ريخستاج السويد الحالي. وانتخب انجليبروكس وكارك كنتسن نائبي ملك. واغتيل بطل الثورة بعد ذلك بعام، وحك كنتسن السويد نائب ملك، ثم ملكاً، إلى أن مات (1470).
وبدأ في الوقت نفسه كريستيان الأول (1448-1481) أسرة ألدنبرج الحاكمة، التي حكمت الدنمرك إلى عام 1863 والنرويج إلى عام 1814. ودخلت أيسلندة في حكم الدنمرك إبان نيابة مرجريت عن الملك (1381). وقد ولى مجد تاريخ الجزيرة وأدبها، ولكنها استمرت تقدم إلى أوربا التي تمزقها الفوضى، درساً لم يلتفت إليه عن كفاءة الحكومة ونظامها.
وكانت أقوى ديمقراطية في العالم وقتذاك مستقرة في سويسرا. ونجد أن البطولة في تاريخ هذه البلاد المنيعة كانت مجسمة في الولايات، وفي عام 1291 بدأت الولايات التي تكتنفها الغابات، ويتحدث أهلوها الألمانية وهي أورى وشوتز وانترفالدن، تؤلف اتحاداً من أجل الدفاع المشترك. وأحرز الفلاحون السويسريون انتصاراً تاريخباً على جيش آل هبسبرج في مورجارتن (1315)، فاحتفظ الاتحاد باستقلال حقيقي بينما اعترف بالسيادة الاسمية للإمبراطورية الرومانية المقدسة. وأضيفت إلى الاتحاد ولايات جديدة: لوسون (1332) وزيورخ (1351) وجلاروس وزج (1352) وبرن (1353)، وأصبح اسم ولاية شوتز يطلق على الجميع عام (1352). وشجعت الحدود الجغرافية على الاستقلال الذاتي وقبل الاتحاد اللغات الفرنسية أو الألمانية أو الإيطالية وطرائق كل منها تبعاً لانحدار أوديتها ومجارى أنهارها، فاحتفظت كل ولاية بإصدار قوانينها بواسطة مجالس ينتخبها المواطنون. وتراوح تمثيل الحرية بين ولاية وأخرى ومن عصر إلى عصر، ولكن جميع الولايات خضعت لسياسة خارجية موحدة وحل منازعاتها بواسطة مجلس اتحادي. ومع أن الولايات يحارب بعضها بعضاً، فإن دستور الاتحاد أصبح وظل مثالاً موحياً بالاتحاد-اتحاد أقاليم تستمتع بالحكم الذاتي تحت أجهزة وقوانين اختيرت بحرية.
وتطلب دفاع الاتحاد عن حريته تدريباً عسكرياً لجميع الذكور وخدمة عسكرية عند الطلب، يتقدم بها جميع الرجال بي العاشرة والستين وأصبح المشاة السويسريون، المسلحون بالحراب والمدربون على النظام الدقيق، أكبر جيش مخوف باهظ التكاليف في أوربا. ورأت الولايات أن تقصد في دخلها، فأجرت فرق جيشها للدول الأجنبية، وجعلت "البسالة السويسرية حيناً من الزمن سلعة تجارية. ولبث الأمراء النمسويون، يدعون لأنفسهم حقوقاً إقطاعية في سويسرا، وحاولوا الحصول عليها أحياناً، فقضى على هذا الادعاء سمباتش (1386) وتافلس (1388)، بمعارك تستحق الذكر في تاريخ الديمقراطية. وأكدت معاهدة كنستانس عام 1446 مرة أخرى، حرية سويسرا الفعلية وولاءها الاسمي الإمبراطورية الفعلية.
ألمانيا تتحدى الكنيسة
كانت ألمانيا أيضاً اتحاداً، ولكن الأجزاء التي تألفت منها، لم تكن تحكم بواسطة مجالس ديمقراطية، وإنما بواسطة أمراء مدنيين أو دينيين، يعترفون بولاء محدود، فقط لرأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وحكم بعض هذه الولايات مثل بفاريا ووتنبرج وثورنجيا وهي وناسو وميس وسكومونيا وبرندنبرج وكارنثيا والنمسا والبلتنيان-دوقات أو كونتات، أو مرغيرفات أو غيرهم من السادة المدنيين، بينما خضعت ولايات أخرى-مثل مجديبرج ومينز وهال وبامبرج وكلونيا وبريمن وستراسبورج وسالزبورج وتربيه وبازل وهلديشين-من الناحية السياسية بدرجات متفاوتة، لأساقفة أو رؤساء أساقفة، وما وافت سنة 1460، حتى كانت حوالي مائة مدينة قد حصلت على مواثيق تحررها بالفعل من حكامها المدنيين أو الدينيين. ويوجد في كل إمارة مندوبين عن الطوائف الثلاث-النبلاء ورجال الدين والعامة-يجتمعون بين حين وآخر في مجلس إقليمي، يحدد عن طريق المال سلطة الأمير. وأرسلت الإمارات والمدن الحرة ممثلين لها إلى الريخستاج أو المجلس الإمبراطوري. وكان يدعى مجلس خاص هو كرفير ستنتاج أو مجلس المنتخبين، لاختيار الملك، وجرى العرف أن يتألف من ملك بوهيميا ودوق ساكسونين ومارجريت Margrave براندنبرج وكونت بلاتين ورؤساء أساقفة منيز وترير وكولونيا. وكان اختيارهم يسفر عن تنصيب ملك، ويصبح رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة، عندما يتوجه البابا، ومن ثم فلقبه قبل التتويج هو "ملك الرومان" والأصل أن يتخذ عاصمة في نورمبرج، وكثيراً ما يتخذها في مكان آخر، حتى في براغ. وارتكز سلطانه على العرف والسمعة، اكثر من اعتماده، على الممتلكات أو القوة، وليست له من الأرض سوى أملاكه الخاصة باعتباره أميراً إقطاعياً مثل كثيرين غيره، وكان يعول على ريخستاج أو الكوفير ستنتاج للحصول على الأموال لإدارة حكومته أو شن الحرب، ولقد فرض هذا التعويل على رجال قادرين من أمثال شارل الرابع أو سيجسمند، سقواً مهيناً في الشؤون الخارجية. وقضى الباباوات الأقوياء في القرن الثالث عشر على أسرة هوهنستوفن، فأنهك ذلك الإمبراطور الرومانية المقدسة التي أنشأها (800) البابا ليو الثالث وشارلمان. أما في عام 1400 فقد كانت ارتباطاً واهياً من ألمانيا والنمسا وبوهيميا وهولنده وسويسرا.
وبعث الصراع بين الإمبراطورية والبابوية، عندما أختار يوم واحد من عام 1314، فريقان متنازعان من المنتخبين لويس أمير بافاريا وفردريك صاحب النمسا، ملكين متنافسين واعترف البابا يوحنا الثاني والعشرون، من مقره البابوي في الأفنيون بالاثنين كملكين، ولم يجعل أحدهما إمبراطوراً، واحتج بأنه ما دام البابا، لا يملك إلا أن يتوج الملك إمبراطوراً، فيجب أن يسمح له، أن يحكم على صحة الانتخاب، قال الحبر الطموح أكثر من ذلك، بأن إدارة شؤون الإمبراطورية يجب أن تسند إلى البابوية بين وفاة إمبراطور وتتويج آخر. وآثر لويس وفردريك الاحتكام إلى الحرب. وانتصر لويس على غريمه وأسره في موهلدورف (1322) ومن ثم ادعى
صفحة رقم : 7874
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> أوروبا الوسطى -> ألمانيا تتحدى الكنيسة
لنفسه السلطة الإمبراطورية الكاملة . فأمره يوحنا أن يجرد نفسه من جميع الألقاب والسلطات، وأن يمثل أمام المحكمة البابوية لتلقى الحكم بعصيان الكنيسة. فأبى لويس وأصدر البابا قراراً بحرمانه (1324) وطلب إلى جمع المسيحيين في الإمبراطورية أن يخرجوا عن طاعته، وحكم بحرمان كل إقليم يعترف به ملكاً عليه. فتجاهلت معظم ألمانيا هذه المراسيم، لأن الألمان كانوا كالإنجليز، يعدون باباوات أفينيون، خدامها وخلفاء لفرنسا. ولقد بدأ الناس يرون أنفسهم، إبان ضعف العقيدة والبابوية المضطرد، وطنيين أولاً ومسيحيي بعد ذلك. واضمحلت الكاثوليكية، التي تتجاوز القومية، ونشأت القومية وهي بروتستنتية.
وحصل لويس في هذا المأزق على المعونة والتأييد من حلفاء متباينين. ووسمت نشرة البابا يوحنا "Pope John's Bull Cam Inter Nonnulla" (1323) بالهرطقة، القول بأن المسيح والرسل أبوا تملك العقار، وأنه وجه محكمة التفتيش، لتستدعي أمام جلستها "الفرنسسكان الروحانيين" الذين أكدوا هذا الرأي. ورد كثير من الإخوان الرهبان، الاتهام الهرطقة على البابا، وعبروا عن فزعهم المقدس من ثروة الكنيسة، ووصف بعضهم الحبر العجوز بأنه خارج على المسيحية، وقاد ميكل سيزينا، رئيس الروحانيين، أقلية كبيرة منهم، إلى التحالف الصريح مع لويس بافاريا (1324) فتشجع لويس بتأييدهم، وأصدر في مدينة ساشزينها وزن منشوراً ضد "يوحنا الثاني والعشرين"، الذي يدعي أنه البابا، واتهمه بأنه سفاح نصير للظلم، صمم على أن يقوض أركان الإمبراطورية، وطالب بأن يعقد مجلس عام، يحاكم البابا بتهمة الهرطقة.
ومما شجع الملك أكثر من ذلك، ظهور أستاذين من جامعة باريس، في بلاطه بنورمبرج وهما مرسينيوز من بادوا وجون من جاندان-وليس من شك في أن كتابهما "دفاع عن السلام" قد هاجم بابوية أفنيون، في عبارات
صفحة رقم : 7875
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> أوروبا الوسطى -> ألمانيا تتحدى الكنيسة
أدخلت السرور على الملك: "ما الذي تجده هناك غير حشد من تجار الرتب الدينية من كل صقع؟ وماذا غير صحب المتلاعبين بالقضايا،...وامتهان الرجال الشرفاء؟ أما أنصافهم الأبرياء فيسقط في الحضيض، إلا إذا اشترى بالمال، وردد المؤلفان أقوال الوعاظ الألبجنيين والولدنيزيين في القرن الثالث عشر، وسبقا لوثر بمائتي سنة، وكانت حجتهما أن تعتمد المسيحية، كلية على الكتاب المقدس. ويجب أن يدعى مجلس عام للكنيسة لا بواسطة البابا ولكن بواسطة الإمبراطور، وينبغي أن يحصل على موافقة الأخير في انتخاب أي حبر، والبابا مثله في ذلك مثل أي شخص آخر، عليه أن يخضع للإمبراطور.
وابتهج لويس بذلك، وصم ليذهبن إلى إيطاليا، وليوتجن إمبراطوراً، بواسطة أهل روما. وخرج في أوائل عام 1327 على رأس جيش صغير، وبعض الفرنسيسكان والفيلسوفين، اللذين استخدمهما في تأليف تصريحاته العامة. وأصدر البابا أبريل نشرات جديدة، تقضي بالحرمان على جون ومارسيليوز، وأمر لويس أن يترك إيطاليا. ولكن الفيكونت الحاكم رحب به في ميلان، وتسلم التاج الحديدي، باعتباره الملك الاسمي للمبارديا. وفي السابع من يناير عام 1328، دخل روما، وسط تهليل، جمهور ينكر إقامة البابا في أفنيون. واستقر في قصر الفاتيكان، واستدعى مجلساً للاجتماع في الكابيتول. وظهر أمام الجمع الحاش مرشحاً لتقلد التاج الإمبراطوري وأبدى الجمع موافقته الصاخبة، وفي التاسع عشر من يناير وضع على رأسه التاج المنشود، وكان الذي وضعه هو الأمور سكباراكولونا- عدو البابوية العنيد، الذي حارب قبل ذلك بقرن تقريباً بونيفاس الثامن وتوعده بالموت، والذي رمز ثانية في لحظة، إلى تحدي الدولة الناشئة، للكنيسة الآخذة في الضعف.
ولم يدر في خلد البابا يوحنا قط، وقد بلغ الثامنة والسبعين- أن يهزم-
صفحة رقم : 7876
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> أوروبا الوسطى -> ألمانيا تتحدى الكنيسة
فأعلن حرباً صليبية ليجرد لويس من كل سلطة، وأمر الرومان، أن يطردوه من مدينتهم؛ حتى لا يقعوا تحت طائلة قرار الحرمان، وأن يعودوا إلى طاعة البابوية. فأجاب لويس بعبارات تذكر بسلفه هنري الرابع المحروم من غفران الكنيسة، فعقد اجتماعاً شعبياً آخر، وأصدر أمام الجمع مرسوماً إمبراطورياً، يتهم البابا بالهرطقة والطغيان، ويجرده من منصبه الكهنوتي، وحكم عليه بعقوبة، تقررها السلطة الزمنية. وتألفت لجنة، من رجال الدين ومن العلمانيين، بتوجيه لويس، فعينت بيتر الكورفاري منافساً على كرسي البابوية. وعكس لويس تقاليد ليو الثالث وشارلمان، فوضع التاج البابوي المثلث على رأس بيتر، ونادى به بابا نيقولاس الخامس (12 مايو 1328). ودهش العالم المسيحي، وانقسم إلى معسكرين؛ على نفس الأسس تقريباً التي قسمت أوربا بعد الإصلاح الديني.
وقلبت الأحداث المحلية الصغيرة الموقف رأساً على عقب. فقد عين لويس مارسيوز من بادوا مديراً روحانياً للعاصمة، فأمر هذا الرجل، القساوسة القليلين الذين بقوا في روما، أن يحتفلوا بالقداس كالمعتاد، على الرغم من قرار الحرمان، ثم عذب بعض الذين رفضوا، وعَرّض راهباً أوغسطينياً لجب الأسود على الكابيتول؛ فأحس كثير من الرومان بأن هذه الأعمال تحمل الفلسفة فوق طاقتها. ولم يتعلم الإيطاليون قط، حب التيتون، فلما اغتصب بعض الجنود الألمان، الطعام من الأسواق، دون أن يدفعوا له ثمناً، شبت الفتن. واحتاج لويس إلى المال لينفق على جنده وحاشيته، ففرض جزية مقدارها عشرة آلاف فلرون على المدنيين، ومبالغ مماثلة على رجال الدين واليهود. وبلغت المعارضة حداً من الخطورة جعل لويس يرى أن الوقت قد حان، ليعود إلى ألمانيا. فبدأ في الرابع من أغسطس عام 1328، انسحابه عبر إيطاليا. وفي اليوم التالي احتلت الكتائب البابوية روما، وخربت قصور الذين أيدوا لويس من الرومان، وصودرت
صفحة رقم : 7877
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> أوروبا الوسطى -> ألمانيا تتحدى الكنيسة
أملاكهم لحساب الكنيسة. ولم يبدِ الناس مقاومة، بل عادوا إلى عباداتهم وجرائمهم.
واطمأنت نفس لويس في بيزا بلقاء نصير جديد، هو أشهر فيلسوف في القرن الرابع عشر. فقد فر وليم الأوكهامي من سجن بابوي في أنيون، وعرض على الإمبراطور خدماته قائلاً (عن رواية غير محققة) "دافع عني بسيفك وسأدافع عنك بقلمي". فأصدر كتابات قوية، ولكنه لم يستطع أن ينقذ الموقف. فقد أقصى لويس، جميع العناصر الحاكمة في إيطاليا، وكان أنصاره من الجيبلين، يأملون أن يحكموا شبه الجزيرة لمصلحتهم باسمه، فأحزنهم أن يجدوه يزعم لنفسه السلطات والمصالح جميعها، يضاف إلى ذلك أنه جعلهم يفرضون ضرائب باهظة لخزانته. وكانت قواته ضئيلة لا تناسب مزاعمه، فانصرف عنه كثير من الجيبلين حتى للفيكونت، وعقدوا مع البابا صلحاً بالشروط التي قدروا عليها. وترك منافس البابا، لموارده فاستسلم لضباط البابا الذين قبضوا عليه، وسيق أمام يوحنا الثاني والعشرين، وحبل المشنقة حول عنقه، فألقى بنفسه على قدمي البابا مستغفراً (1328). فعفى عنه يوحنا، وعانقه كضال يعود إلى الكنيسة، وحبسه مدى الحياة.
وعاد لويس إلى ألمانيا، وأرسل الوفود مراراً إلى أفنيون، تعلن سحبه لقراراته السابقة واعتذاراته، من أجل عفو البابا واعترافه. فرفض يوحنا، واستمر في الحرب إلى أن مات (1334). واستعاد لويس بعض نفوذه، عندما بدأت إنجلترا حرب المائة عام، ورغبت في محالفته، واعترف إدوارد الثالث بلويس إمبراطوراً، محيا لويس بدوره، إدوارد، باعتباره ملكاً لفرنسا. فاغتنم مجلس من الأمراء والمطارنة الألمان (في 16 يوليو سنة 1338) فرصة محالفته دولتين كبيرتين ضد البابوية، وقرر، أن اختار ملك ألماني بواسطة الناخبين الألمان، لا تبطله سلطة أخرى، وأعلن مجمع في فرنكفورت الموافقة على المين (3 أغسطس 1338) أن قرارات البابا ضد لويس
صفحة رقم : 7878
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> أوروبا الوسطى -> ألمانيا تتحدى الكنيسة
ملغاة وباطلة. وحكم بأن لقب الإمبراطور وسلطته، متحفاً من الناخبين الإمبراطوريين، ولا يحتاجان إلى إقرار من البابا. وتجاهلت ألمانيا وإنجلترا احتجاجات البابا بندكت الثاني عشر، وبذلك سارا خطورة نحو الإصلاح الديني.
وثمل لويس بالنجاح، فقرر أن يطبق إلى أقصى حد نظريات مارسليوز، وأن يمارس السلطة الدينية والدنيوية معاً، فصرف من عينهم البابا عن صدقات الكنيسة، وعين رجاله في مكانهم، ووضع يده على الأموال التي جمعها جباة البابا من أجل حرب الصليبية، ونسخ زواج مارجريت أميرة كارينثيا-وهي وارثة معظم التيرول-وزفها إلى ابنه، على الرغم مما بينه وبينها من قرابة تجعل الزواج منها من ناحية الشريعة الكنسية باطلاً فأقسم الزوج المرفوض وهو أخوه الأكبر شارل كما أقسم أبوهما جون ملك بوهيميا أن ينتقما منه، ورأى كليمنت السادس، الذي أصبح بابا عام 1342، في هذا رفصة، ليخلص من العدو العنيد للسدة البابوية. واستطاعت الدبلوماسية البارعة أ، تكتسب ناخباً بعد آخر، إلى الرأي الذي يقول، إن السلام والأمن، لا يعودان إلى الإمبراطورية، إلا بخلع لويس وتنصيب شارل ملك بوهيميا إمبراطوراُ، وتعهد شارل بطاعة أوامر البابا، في مقابل تأييده. وفي يوليو عام 1346 اجتمع مجلس ناخبين في رنز، وقرر بالإجماع، أن يكون شارل ملكاً على ألمانيا. وأخفق لويس في أن يجد، أذناً صاغية في افنيون لإلحاحه بالخضوع للبابا، فأعد العدة للحرب حتى الموت دون عرشه، وكان أثناء ذلك مشغوفاً بالصيد وقد بلغ الستين من عمره، وسقط عن جواده وقتل (1347).
وأحس شارل الخامس الحكم، ملكاً وإمبراطوراً. وكرهه الألمان لأنه جعل براغ عاصمة الإمبراطورية، ولكنه أصلح الإدارة في ألمانيا، كما فعل في موطنه، وأمن التجارة والمواصلات، وأنقص الضرائب، واحتفظ بعملة
صفحة رقم : 7879
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> أوروبا الوسطى -> ألمانيا تتحدى الكنيسة
مستقرة، وأمد الإمبراطورية كلها بجيل من الناس ينعم بسلام نسبي. وفي عام 1356، نال شهرة فيها قدر من المغالطة في التاريخ، بإصدار سلسلة من القوانين عرفت "بالنشرة البابوية الذهبية"-وإن كانت قليلاً من كثير من الوثائق تحمل الخاتم الإمبراطوري الذهبي. لعله اقتنع بأن غيابه الطويل عن ألمانيا يتطلب مثل هذا الإجراء، فقد منح الناخبين السبعة سلطات تكاد تمحو سلطة الإمبراطور. وكان على الناخبين أ، يجتمعوا سنوياً ليصدروا التشريعات الخاصة بالمملكة، والملك أو الإمبراطور، مجرد رئيس لهم ويدهم المنفذة. وكانوا في ولاياتهم يملكون السلطة القضائية الكاملة، وملكية المناجم والمعادن الكامنة في الأرض، والحق في ضرب السكة الخاصة بهم، وزيادة الدخل إلى جانب الحق المقيد في إعلان الحرب وإبرام معاهدات السلام. وكانت هذه النشرة بمثابة إقرار ثانوي للحقائق الواقعة، فحاول شارل أن نشئ بواسطتهم اتحاداً تعاونياً من الإمارات. ومع ذلك فقد شغل الناخبون بشئونهم الإقليمية، وأهملوا مسئولياتهم باعتبارهم يؤلفون مجلساً إمبراطورياً، حتى أن ألمانيا ظلت إمبراطورية بالاسم فقط. وقد هيأ الاستقلال المحلي للناخبين على هذا النحو لناخب سكسونيا أن يحمي لوثر، وما أعقب ذلك من انتشار المذهب البروتستانتي.
وحافظ شارل في شيخوخته على ولاية العهد الإمبراطوري لابنه بواسطة الرشوة بالجملة (1378) وتحلى ونسسلوس الرابع ببعض الفضائل، ولكنه كان يدمن الشراب ويحب موطنه الأصلي، فكرة الناخبون منه ذلك وخلعوه (1404). مؤثرين عليه روبرت الثالث الذي يخلف أثراً يذكر في التاريخ. واختير سيجموند أمير لكسمبورج ملكاً على المجر (1387) وهو في التاسعة عشرة من عمره، وانتخب عام 1411 ملكاً على الرومان وسرعان ما حصل على لقب الإمبراطور. وكان رجلاً ذا ملكات منوعة، جذاباً،
صفحة رقم : 7880
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> أوروبا الوسطى -> ألمانيا تتحدى الكنيسة
جميلاً مغروراً وكريماً محبوباً وقاسياً في بعض الأحيان وثقف لغات متعددة وكلف بالأدب لا يفضل عليه سوى النساء والسلطان. وربما مهدت نياته الطيبة له موضعاً صغيراً في جهنم، ولكن شجاعته كانت تخونه في الأزمات. ولقد حول مخلصاً أن يصلح مساوئ الحكومة الألمانية ويقضي على أسباب ضعفها، وأصدر بعض القوانين الصالحة، ونفذ قليل منها، بيد أن الناخبين أحبطوا مساعيه، باستقلالهم الذاتي ومحافظتهم على ما ألفوه وعدم رغبتهم في الإسهام بنصيبهم في نفقات صد هجمات الترك المتقدمين. وأوقف في أعماله الأخيرة ماله ونشاطه على محاربة الهوسيين في بوهيميا. ولما توفي (1437) بكت أوربا فيه، رجلاً كان يمثل التقدم الأوربي فترة من الزمن وإن أخفق في لك شيء إلا الكرامة.
ولقد أوصى شارل الناخبين في بوهيميا والمجر وألمانيا أن يختاروا زوج ابنته، ألبرت أمير هبسبورج. ونعم ألبرت الثاني بالتيجان الثلاثة، ولكنه مات بالدوسنطاريا قبل أن تتفتح قدراته، وفي حملة ضد الأتراك (1440). ولم يخلف ابناً، ولكن الناخبين، اختاروا للتاجين الملكي والإمبراطوري، شخصاً آخر من آل هبسبورج هو فريدريك أمير ستيريا، ومنذ ذاك وقع اختيارهم مراراً على أمير من آل هبسبورج، حتى أصبح السلطان الإمبراطوري في واقع أمره، ملكاً وراثياً، في هذه الأسرة الموهوبة الطموح. وجعل فريدريك الثالث، النمسا، دوقية كبرى، واتخذ آل هبسبورج فينا عاصمة لهم، وأصبح المفروض أن يكون ولي العهد، هو الدوق الأكبر للنمسا، ودخلت الصفة الوراثية في الأخلاق النمساوية والفيناوية كمقوم نسائي رشيق يمتزج بخشونة الشمال المذكرة في نفس التيوتونية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المتصوفة
لقد غرس القرنان الرابع عشر والخامس عشر بذور الإصلاح الديني: وكابد لويس ملك بافاريا ووايكليف في انجلترا وهس في بوهيميا، التجربة قبل لوثر وهنري الثامن وكالفن ونوكس وأصبحت ثورة رجال الدين المتزايدة في اسكندناوة والمعفاة من الضرائب عبئاً ثقيلاً على الشعب الحكومة وزعم النقاد أن الكنيسة كانت تملك نصف أراضي الدنمارك، ولها الحق الإقطاعي على كوبنهاجن نفسها. ونزر النبلاء بحسم مشئوم، إلى أملاك لا يحميها إلا العقيدة بل إن المسيحيين المحافظين كانوا ضد الكهنوت. أما في سويسرا فقد كان الاستقلال الأشم للولايات تمهيداً لظهور زونجلي وكالفن. وفي عام 1433 طردت مجديبورج، كبير أساقفتها وهكهانها، وانتقضت بمبرج على حكم الأساقفة، وحاصرت باسو أسقفها في قلعته. وفي عام 1449، وجه أستاذ في جامعة إرفورت (حيث قدر للوثر أن يدرس) إلى البابا نيقولاس الخامس، دفاعاً عن مجالس العامة باعتبارها أعلى سلطة من الباباوات. وانتشرت أصداء من ثورة الهوسيين المجاورة، إلى ألمانيا بأسرها، وحافظت الجماعات الولدنيزية، هنا وهناك، سراً على الهرطقة القديمة والأطماع الشبيهة بالشيوعية. واتجه الورع نفسه إلى تصوف يقترب من الهرطقة.
وأجمع التصوف عند يوهانس إكهارت، مذهباً من مذاهب وحدة الوجود، لا يعبأ بالكنيسة، ويكاد يتجاهل القانون الديني المحدود. وكان هذا الراهب الدومينيكي على حظ من العلم جعل لقب "أستاذ" جزءاً من اسمه. وصيغت كتاباته الفلسفية بلغة لاتينية متحذلقة، ولو أنها كانت كل أثاره، لما بلغ حظاً من الشهرة أو الخطر. ولكنه كان يدعو بلغة ألمانية منظومة من ديره في كولونيا، إلى مذهبه الجريء في وحدة الوجود مما عرضه لمحكمة التفتيش. واتبع ديونيس الأريوفاغيظ وجوهانز سكوتس ارجينا، فجهد للتعبير عن حسه الغلاب بباله موجود في كل مكان. وهذا الإله غير المحدود، لم يتصوّره إيكهارت، شخصاً أو روحاً، ولكنه وحدة مطلقة خالصة... هوة بلا كيفية ولا شكل، للإله الصامت الواسع... حيث لا يرى قط خلاف، لا أب ولا ابن ولا روح القدس، حيث لا يوجد واحد في داره، ولكن حيث تكون جذوة النفس في سلام أكثر مما تكون مع نفسها. ولا يوجد بصفة أساسية سوى هذا الإله الذي لا شكل له..."الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله. إن الأب ينجيني بلا توقف، فأكون ابنه. وأنا أقول أكثر من ذلك: إنه يُنْجِبُ في ذاتهِ، وفي ذاته ينجبني. والعين التي أرى بها الله هي العين ذاتها التي أرى الله بها... وعيني وعين الله عين واحدة".
وفي كل فرد قطعة من الله، وعن طريقها تستطيع الاتصال به مباشرة وتستطيع أن تكون ذاته. لا عن طريق شعيرة الكنيسة، ولا حتى عن طريق الكتاب المقدس، ولكن عن طريق هذا الوعي الكوني وحده تستطيع النفس أن تقترب وأن ترى الله. وكلما تجرد الفرد من أغراضه الذاتية والدنيوية، كلما أصبحت هذه الجذوة الإلهية أكثر شفافية وأحد بصراً حتى يكون الله والنفس واحد آخر الأمر، و "نتحول كلية إلى الله". فليست الجنة والأعراف والجحيم أماكن، ولكنها أحوال النفس.. فالافتراق عن الله هو الجحيم، والاتحاد معه هو الفردوس. واشتم كبير أساقفة كلونيا من هذه الأقوال رائحة الهرطقة، فدعا إيكهارت للمحاكمة (1326) فأكد الرجل صحة محافظته على العقيدة واقترح أن يحكم على أقواله باعتبارها مبالغات أدبية، ومع ذلك فقد أدانه الأسقف. فاستأنف الراهب الحكم إلى البابا يوحنا الثاني والعشرين ثم تخلص من المحرقة بالموت في الوقت المناسب (1327).
وانتشر تأثيره على يد تلميذين دومينكيين عرفا كيف يحتفظان بمذهبه وفي وحدة الوجود في نطاق أمين. فقد عذب هانيريخ سوسو نفسه، ست عشرة سنة، في زهادة صارمة، وحفر اسم المسيح في لحمه على قلبه؛ وزعم أنه تلقى في فمه دماً من جراح المسيح، وألف كتيبه في "الحكمة الخالدة" باللغة الألمانية. لأن الله كما قال، أوحاه إليه بهذه اللغة. أما جوهانزتولر فقد وصف ديكهارت بأنه "أستاذه الأقدس" ودعا في ستراسبورج وبازل إلى مذهب الاتحاد الصوفي بالله. ونسب لوثر إليه كتاباً عنوانه علم اللاهوت الألماني، وكان تأثير هذا الكتاب، في عميقاً، ببساطة معتقده: الله، المسيح، الخلود.
ونظرت الكنيسة بشيء من الاهتمام إلى المتصوفة الذين تجاهلوا أغلب تعاليمها، وأهملوا شعائرها وزعموا الوصول إلى الله بلا استعانة من القصص أو الأسرار المقدسة. وهنا نجد مبادئ الإصلاح الديني بحكم الفرد على نفسه، وكل إنسان في ذاته قسيس، وليس التبرير في الأعمال الطيبة ولكنه في العقيدة السامية. وفي رأي الكنيسة أن الإيحاءات الخارقة قد تأتي من الشياطين والمجاذيب كما تأتي من الله والقديسين، وأن الأمر يحتاج إلى إرشاد صارم يحفظ الدين من التحلل إلى الفوضى تتألف من ديانات وعلوم دين فردية. ولا يزال هذا الخلاف في الرأي يقسم المخلصين.
الفنون
طال مكث الطراز القوطي في ألمانيا، بعد أن أخلى مكانه، في إيطاليا وفرنسا، لمؤثرات عصر النهضة الكلاسية بأمد طويل. وهو الآن يتوج المدن المزدهرة في أوربا الوسطى بكنائس، لم تبلغ في جلالها المهيب ما بلغته المزارات العظيمة في فرنسا، وهي مع ذلك ترفع الروح بجمالها الهادئ وروعتها غير المتكلفة. ولقد بدأت إبسالا تشيد كاتدرائيتها عام 1287، وفرايبورج السكسونية عام 1283، وأولم عام 1377 (وبها أعلى برج قوطي في العالم) وشرعت فينا في بناء كاتدرائية القديس ستيفن 1304، وسترولزيند كنيسة السيدة مريم عام 1382، ودانزرج كنيسة أخرى للسيدة مريم عام 1425. وأضافت أخن وكلونيا موضع المرتلين في كاتدرائيتهما، وأتمت ستراسبورج "الموسيقى المجمدة" الخاصة بكتدرائيتها عام 1439،وشيدت أكزانتن كنيسة القديس فيكتور الجامعية الأنيقة، وقد خربتها الحرب العالمية الثانية. واعتزمت نورمبرج بأربع كنائس مشهورة، تصقل التقوى بالفن والذوق. وتدين كنيسة لورنز (1278-1477) إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ببابها الفخم ونافذتها المستديرة المتلألئة. وكانت كاتدرائية القديس (1304-1476) ستيفن معلماً محبباً، فإن سقفها المنحدر يغطي صحن الكنيسة ومماشيها بقنطرة واحدة، وأسقطه إله الحرب عام 1945. وأعيد عام 1309 بناء مماشي كنيسة سبالدوس وأقيم فيها عام 1361 مكان جديد للمرتلين، وتم حوالي عام 1948 بناء أبراجها الغربية وركب بين عامي 1360،1510 زجاجها الملون البديع. وزودت كنيسة السيدة مريم (1355-1361)، بدهليزها المزين بكثير من التماثيل، وأصبحت أثراً بعد عين في الحرب العالمية الثانية، ولكنها أعيدت إلى ما هي عليه، وفي كل يوم عند الظهيرة تنحني بلا كلل تماثيل الناخبين الأربعة، في الساعة المشهورة بالواجهة أمام شارل الرابع، اعترافاً بجميل دستوره المشهور. وكان فن النحت لا يزال ساذجاً، بيد أن الكنائس في برسلاو وهالجارتن وكنيسة سيبالدوس في نورمبرج، كانت تتلقى تماثيل خشبية أو حجرية للعذراء من بعض النبلاء. ولم تجمل المدن كنائسها فحسب وإنما جملت أيضاً مبانيها العامة وحوانيتها ودورها. وقامت وقتذاك تلك الدور، هرمية السقف المعرش نصفها بالخشب، التي تكسب المدن الألمانية، فتنة مشوقة توحي بجو القرون الوسطى، للعيون العصرية المثالية. وكانت "دار المجلس مركز الحياة الدينية، وهي ملتقى النقابات الكبيرة أحياناً، وقد تحمل حوائطها صوراً جدارية، وكانت أعمال الخشب فيها تحفر عادة بما عرف عن التيوتون من عزم وقوة. وللبهو الكبير في دار المجلس بمدينة نريمن (1410-1450) سقف من جذوع الخشب المنقوش، وسلم محوى بأعمدة وحاجز من الخشب المنقوش، وثريات مزخرفة على شكل سفن. ولقد خربت دور المجالس الآتية في الحرب العالمية الثانية: مجلس كلونيا (1360-1571) عقد فيه الاجتماع العام الأول للاتحاد الهنسياتي، ومجلس منستر (1335)، حيث أبرمت معاهدة وستفاليا، ومجلس برنزفيك وهي من دور القرن الرابع عشر من المجالس البلدية التي على الطراز القوطي، وفرنكفورت-على-المين (1405) حيث دعا الناخبون إمبراطوراً جديداً لتناول طعام الغداء. وفي مارينبورج، شيد أشياخ الشعب التيوتوني قصرهم الألماني الضخم (1309-1380). وقد واجهت دار البلدية كنيسة سيبالدس في نورمبرج، وشيدت (1340) لكي تسع جميع أعضاء ريشستاج الإمبراطورية، ثم رمم ست مرات، فلم يبقَ منه إلا القليل من طابع القرون الوسطى في الشكل. وأقام هبفرتش بارلو، وهو مثال من براج، في ميدان السوق أمام كنيسة العذراء، النبع الجميل (1361) الذي تكثر فيه تماثيل أبطال وثنيين ويهود ومسيحيين وتجسم نورمبرج في القرون الثلاثة بين عامي 1250، 1550 بتماثيلها وكنائسها وعماراتها المدنية، الروح الألماني في أوجه وكماله. وكانت طرقاتها الملتوية في أغلبها ضيقة غير مرصوفة، ومع ذلك فقد كتب بابا المستقبل بيوس الثاني عن نورمبرج.
"عندما يأتي المرء من فرانكونيا السفلي، ويرى هذه المدينة المجيدة، فإن فخامتها تبدو بحق. فإن دخلها، تأكدت مشاعره الأولى بجمال الطرقات وتناسب المنازل، والكنائس.. جديرة بالعبادة جدارتها بالإعجاب. وتسيطر القلعة الإمبراطورية بشموخها على المدينة، وكأنما بنيت دور نواب المقاطعة للأمراء. والحق أن ملوك اسكتلندة يسرهم أن يسكنوا بيوتاً مترفة كالتي يسكنها المواطن العادي في نورمبرج". أما الفنون الصناعية الصغرى والصناعية في المدن الألمانية، على الخشب والعاج والنحاس والبرونز والحديد والفضة والذهب، فقد بلغت وقتذاك النضج الكامل لنموها في القرون الوسطى. وأنتج الفنانون والنساجون أقمشة مزركشة رائعة تعلق على الحوائط، كما مهد النقاشون على الخشب الطريق لديرر وهولبين، وزين المنمنمون المخطوطات عشية ظهور الطباعة على يد جوتنبرج، ونقش العاكفون على زخرفة الخشب، الأثاث الفخم، وصاغ سباكو الحديد، للكنائس، في القرن الخامس عشر، نواقيس لا مثيل لها في رخاصة حليها. ولم تكن الموسيقى فناً فحسب، ولكنها كانت نصف حياة الفراغ في المدن. ومثلت نورمبرج وغيرها من المدن حفلات تنكرية عظيمة تتألف من التمثيليات والأغاني الشعبية. ولقد عبرت الأغنية الشعبية عن أحاسيس الشعب الدينية أو الغرامية. وشنت الطبقات الوسطى هجوماً جماعياً على مشكلات تعدد الأنغام، ونافست النقابات في تأليف فرق الغناء الجماعي الضخمة، وأخذ القصابون والدباغون وسباكو النواقيس وغيرهم من الرجال الأقوياء يتبارون للحصول على جائزة المغنى الأول في دورات إنشائية صاخبة وأسست أول مدرسة للمغنيين الأوائل في مينز عام 1311، ونشأـ غيرها في ستراسبورج وفرنكفورت على المين وويرزبرج وزيورخ وأوجزبرج ونورمبرج وبراغ. أما الطلاب الذين ينجحون في الحصول على الإجازات الأربع وهي دارس وصديق مدرسة وشاعر ومغن فيمنحون لقب أستاذ. وهبط العنصران الروماني والمثالي إىل الأرض عند النسبيين، والنسبيون هم الشعراء الألمان الغنائيون الذين شاع مذهبهم من 1150-1350م.، لما حمل نواب المقاطعات الألمان الأغنية، واقعيتهم الشهوانية. وإذا سيطرت الطبقة التجارية على المدن، فإن جميع الفنون ما عدا عمارة الكنائس، تتخذ اتجاهاً واقعياً. وكان الجو بارداً ورطباً في الغالب لا يشجع على العري، ولم تجد عبادة الجسم أو الكبرياء الجسمي موطناً ملائماً هنا كما كان الحال في إيطاليا إبان عصر النهضة أو في بلاد الإغريق. ولما رسم كونراد وتز الكنستانسي "سليمان وملكة سبأ" ألبسهما وكأنهما يعيشان على جبال الألب في فصل الشتاء. ومع ذلك فقد كان في حوالي عشرة مدن مدارس تصوير في القرن الخامس عشر: ألم وسالزبرج وفرنكفورت وأوجزبرج وميونخ ودرستاد وبازل وأخن ونورمبرج وهمبورج وكولمبار وكولونيا، وبقيت إلى الآن نماذج من هذه المدارس جميعاً ونحن نقرأ في أخبار 1380: "كان في كولونيا في هذا الوقت مصور مشهور اسمه ولهلم، لا يوجد له مثيل في طول البلاد وعرضها. ولقد رسم رجالاً ببراعة يخيل للرائي معها أنهم أحياء" وكان الأستاذ ولهيلم واحداً من كثيرين "على الفطرة". ولقد أنشأ الأستاذ برترام والأستاذ فرانك وأستاذ سانت فيرونيكا وأستاذ مذبح هسترباكر-تحت التأثير الفلمنكي في الغالب نظاماً للتصوير المشترك في ألمانيا، ورسموا موضوعات الإنجيل التقليدية بعاطفة دينية، يمكن إرجاعها إلى إيكهارت والمتصوفة الألمان الآخرين.
وتنتهي بالمصور ستيفن لوكنر، الذي مات في كولونيا عام 1451، هذه المرحلة التمهيدية للتطور، وبذلك نصل إلى أوج المدرسة الأولى. وتعد صورته "عبادة المجوس" مفخرة كاتدرائية كولونيا، وهي تضارع معظم الصور التي أنشئت قبل منتصف القرن الخامس عشر؛ ففيها عذراء جميلة متواضعة معتزة بنفسها في وقت واحد، وطفل مبتهج وحكماء الشرق وهم ألمانيو السحنة ولكنهم حكماء بحق. وتأليفها تقليدي، وتلوينها ناصع بالأزرق والأخضر والذهبي. وفي "عذراء وردة التكعبية وعذراء البنفسج"، صورت الأمهات الشواب المثاليات الألمانيات، ذوات الجمال الرقيق الرصين. بكل ما في إن القرون الوسطى من حِرْفية، تتجه بوضوح إلى التجديد. فقد كانت ألمانيا على أعظم عصورها.
جوتنبرج
ما الذي وضع نهاية للعصور الوسطى؟ أسباب كثيرة أخذت تعمل حلال ثلاثة قرون: فشل الحروب الصليبية، وزيادة معرفة أوربا الناهضة بالإسلام، والاستيلاء على القسطنطينية، وبعث الثقافة الكلاسية الوثنية، وانتشار التجارة بفضل رحلات أسطول هنري الملاح وكلولمبس وفاسكو دا جاما، ونشأة الطبقة التجارية التي مولت مركزية الحكومة الملكية، وتقدم الدولة القومية، متحدية سلطة الباباوات التي تعلو على القومية، وثورة لوثر الموفقة في وجه البابوية، والطباعة. ولقد كان التعليم كله تقريباً، قبل جوتنبرج، في يد الكنيسة...وكانت الكتب باهظة الثمن، والنسخ مجهداّ وغير معتنى به أحياناً. واستطاع قليل من الكتاب الاتصال بجمهور كبير ولكن بعد وفاتهم، وكان عليهم أن يكسبوا عيشهم من التعليم، أو الانخراط بفرقة من فرق الرهبان، أو بمعاش يجريه الأغنياء أو صدقات يحصلون عليها من الكنيسة. ويدفع ناشرو كتبهم، النزر اليسير لهم، أولاً يدفعون لهم شيئاً على الإطلاق، بل إذا وجد ناشر يدفع لهم، فإن حق الطبع لم يكن مكفولاً لهم، إلا بمنحة بابوية بين حين وآخر. وكانت المكتبات كثيرة، وأن تكن صغيرة، وكانت الأديرة والكاتدرائيات والكليات وبعض المدن مجموعات متواضعة قلما تزيد على ثلثمائة مجلد، وحفظت الكتب عادة داخل الجدران، وربط بعضها بالسلاسل في المقارئ أو الأدراج. وكان لشارل الخامس ملك فرنسا مكتبة مشهورة بحجمها-910 مجلدات، ولهمفري، دوق جلوسستر 600 مجلد، وربما كانت مكتبة الدير بكنسية السيد المسيح في كنتربري، تضارع في الكبر أي مكتبة خارج حدود الإسلام، وضمت 3.000 مجلد، عام 1300. وكانت خير مكتبة عامة في إنجلترا هي مكتبة ريتشارد دي بوري سانت ادموندز، الذي سجل غرامة بكتبه في رسالة "حب الكتب" (1345)، وجعل هذه الكتب تشكو من سوء المعاملة التي لقيتها من "ذلك الحيوان من ذوات الساقين الاثنين المسمى امرأة"، الذي أصر على أن تستبدل بها التيل الرقيق أو الحرير.
وزاد الطلب على الكتب بكثرة المدارس وانتشار القراءة ورأت طبقات رجال الأعمال، القراءة مفيدة في شئون الصناعة والتجارة، وفر نساء الطبقتين الوسطى والعليا، بواسطة القراءة، إلى عالم الخيال، يستعضن به عن دنيا الواقع، وما إن جاء عام 1300 حتى كان الوقت الذي لا يستطيع فيه القراءة غير رجال الدين قد ولى أو كاد، وأدى هذا الإقبال المتزايد إلى ظهور جوتنبرج أكثر من أي شيء آخر، حتى عن زيادة مقدار الورق وظهور مداد زيتي. ولقد أحضر المسلمون صناعة الزورق إلى أسبانيا في القرن العاشر، وإلى صقلية في القرن الثاني عشر، وانتقلت إلى إيطاليا في الثالث عشر، وإلى فرنسا في الرابع عشر، وكانت صناعة الورق قد بلغ عمرها قرناً من الزمان عندما جاءت الطباعة. ولما صار ارتداء التيل مألوفاً في أوربا في القرن الرابع عشر، اتخذت صناعة الورق مادتها الرخيصة من خرقه المنبوذة، فهبط سعر الورق وتهاونت سهولة الحصول عليه مع انتشار القراءة، على تقديم مادة الكتب المطبوعة وتسويقها.
أما الطباعة نفسها فكانت كالآثار المطبوعة، أقدم من المسيحية فقد طبع البابليون على الآجر حروفاً أو رموزاً، وطبع الرومان وشعوب كثيرة أخرى على النقود، والخزانون على أوانيهم، والنساجون على الأقمشة، ومجلدو الكتب على أغلفتها، واصطنع كل رجل من الأعيان، في العصور القديمة أو الوسطى، الطباعة، كلما وقع الوثائق بخاتمه، واستخدمت وسائل مماثلة في الخرائط وأوراق اللعب. ويرجع تاريخ الطباعة الحجرية-وهي كتب من لخشب أو المعدن تنقش عليها كلمات أو رموز أو صور-في الصين واليابان إلى القرن الثامن، وربما قبل ذلك. ولقد طبع الصينيون بهذه الطريقة، عملة ورقية، في القرن العاشر أو قبله. وظهرت الطباعة الحجرية في تبريز عام 1294، وفي مصر حوالي 1300، ولكن المسلمين فضلوا النسخ بالخط على الطباعة، ولم يعملوا في هذه الحالة، كما في أحوال كثيرة أخرى، على نقل التقدم الثقافي من الشرق إلى الغرب.
واستعملت طباعة الحروف-وهي الطبع بحرف منفصل متحرك-في الصين منذ عام 1041-ولقد استخدم وانج تشن عام 1314 حوالي ستين ألف حرف خشبي متحرك، ليطبع كتاباً واحداً في الزراعة، وحاول أول الأمر استخدام حروف طبع معدني، ولكنه وجد أنها لا تستوعب المداد في يسر كالخشب. وكان الحرف المطبعي المتحرك، مع ذلك، قليل التيسير أو الفائدة، للغة أبجدية لها ولكنها تضم أربعين ألف حرف منفصل، ولذلك، ظلت الطباعة الحجرية هي المألوفة في الصين إلى القرن التاسع عشر. وفي عام 1403 طبع إمبراطور كوري، عدداً كبيراً من المجلدات، بواسطة حروف معدنية متحركة، وكانت الحروف تحفر على خشب صلب، وصبت قوالب من عجينة الخزف على تلك النماذج، وفي هذه القوالب صيغت الحروف المعدنية.
أما في أوربا فربما ظهرت الطباعة بالحروف المتحركة في هولندة أولاً. وهي ليست قبل عام 1569، طبقاً للروايات الهولندية. وطبع لورنس البارلمي، كتيباً في الدين بالحروف المعدنية المتحركة عام 1430، بيد أن هذا الشاهد غير محقق. ولم يسمع شيء غير ذلك في هولندة، عن الحروف المتحركة، حتى عام 1473، عندما أقام ألماني من كولونيا، مطبعة في أترخت. ولكن هؤلاء الرجال كانوا قد تعلموا فن الطباعة في منيز. وولد جوهان جوتنبرج هناك لأسرة ثرية حوالي عام 1400 واسم أبيه جتر فليش ومعناه لحم الأوزة، وآثر جوهان لقب أمه. وعاش معظم سنواته الأربعين الأولى في ستراسبورج، وبيد أنه قام هناك بتجارب في قطع الحروف المعدنية وصبها. وأصبح حوالي عام 1448 مواطناً في مينز. وفي الثاني والعشرين من أغسطس عام 1450 تعاقد مع جوهان فست، وهو صائغ غني، رهن له بمقتضى ذلك العقد، مطبعته في مقابل دين مقداره 800 جلدر، بلغ بعد ذلك 1.600 جلدر "وربما كان جوتنبرج هو الذي طبع صك غفران، أصدره نيقولا الخامس عام 1451، ولا تزال باقية منه نسخ متعددة، تحمل أقدم تاريخ طبع وهو عام 1454. وقاضى فست جوتنبرج مطالباً إياه بسداد الدين عام 1455، فعجز عن الوفاء وتنازل عن مطبعته. واستمر فست في إدارة المؤسسة مع بيتر سكوفر، الذي استخدمه جوتنبرج صفاً للحروف. ويعتقد البعض أن سكوفر هو الذي طور وقت ذاك، الأدوات الجديدة وفن الطباعة: "مِجْوب" جامد في الصلب المنقوش لكل حرف ورقم وفاصلة، وبيت معدني لتلقي المجاوب، وقالب معدني أيضاً لصف البيوت والحروف في سطر.
وفي عام 1456، أقام جوتنبرج، بمال اقترضه مطبعة أخرى، ومنها أصدر، في تلك السنة أو التي تليها، ما اعتبر بصفة عامة أول كتاب له، مطبوع بالحروف المعدنية المتحركة، وهو النسخة المشهورة الجميلة المنسوبة لجوتنبرج من الكتاب المقدس-وهي مجلد ضخم في 1.282 صحيفة من القطع الكبير على عمودين. وفي عام 1462 حاصرت جنود أدولف أمير ناسو، مدينة مينز، ففر الطباعون، فنشروا بذلك الفن الجديد، في أنحاء ألمانيا. ولما جاء عام 1463 كان هناك طباعون في ستراسبورج وكولونيا وبازل وأوجزبرج ونورمبرج وإلم. وأما جوتنبرج، وكان أحد الفارين، فقد أقام في إلتفيل، حيث واصل طباعته. وجاهد الأزمات المالية المتلاحقة، حتى تصدق عليه أدولف (1465) بمنحه تضمن له دخلاً يحميه غوائل الدين. ومات بعد ذلك بثلاث سنوات.
وليس من شك في أن حروف الطبع المتحركة، كان لا بد أن تظهر على يد غير جوتنبرج لو لم يولد، إذ دعت إليها، حاجة العصر الملحة، وهذا يصدق على معظم المخترعات. ولقد كتب جويوم فيشيه الباريسي، وهو من أهل باريس عام 1470، رسالة يعبر فيها عن الترحيب الحماسي الذي قوبل به الاختراع وهو يقول: "لقد اكتشف في ألمانيا طريقة جديدة مدهشة لإنتاج الكتب، ولقد حصل حذاقها فنهم، في مينز ومنها نشروه في العالم...ولسوف ينتشر نور هذا الاكتشاف من ألمانيا، حتى يعم جميع أنحاء الأرض. ولم يرحب به كل الناس. فقد احتج النساخون بأن الطباعة ستقضي على أسباب معاشهم، وعارضته الطبقة العليا بحجة أنه ابتذال آلي، وخشوا أن يقلل من قيمة مكتباتهم الخطية، وارتاب فيه رجال السياسة والدين لاحتمال أن تصبح الطباعة محلية سهلة للآراء الهدامة. ومع هذا كله فقد شقت لنفسها طريق النصر. وفي عام 1464 أقام الألمان مطبعة في روما، وفي عام 1469 أو قبله افتتح ألمانيان آخران دار طباعة البندقية، وفي عام 1470 أدخل ثلاثة من الألمان أيضاً هذا الفن في باريس، وفي عام 1471 وصلت الطباعة إلى هولندة، وفي عام 1472 إلى سويسرا، وفي عام 1473 إلى المجر، وفي عام 1474 إلى أسبانيا، وفي عام 1476 إلى إنجلترا، وفي عام 1482 إلى الدنمرك وفي عام 1482 إلى السويد وفي عام 1490 إلى القسطنطينية. وأصبحت نورمبرج على يد أسرة كوبرجر وباريس على يد الاتيينيين وليون بفضل دوليه والبندقية بفضل ألدوس مانوتيوس وبازل بوساطة أمرباخ وفروبن وزيورخ بوساطة فروشاور وليدن على يد الزيفير، خلايا عامرة بالطباعة والنشر. وسرعان ما أصبح نصف سكان أوربا من القارئين كما لم يحدث ذلك قط من قبل". وأضحت الرغبة في اقتناء الكتب، إحدى عوامل الفوران في "عصر الإصلاح الديني" وإليك ما كتبه دارس من بازل إلى أحد أصدقائه "في هذه اللحظة بالذات، وصل من البندقية، حمل عربة كاملة من الكتب الكلاسية، من خير طبعاً ألدوس. هل تريد شيئاً منها؟ إن كنت تريد أخبرني في الحال، وأرسل النقود، فما تكاد سلعة كهذه تصل، حتى ينهض إليها ثلاثون شارياً لكل مجلد، متسائلين عن الثمن، ويفقأ بعضهم أعين بعض للحصول عليها" واستمرت الطباعة بالحرف المتحرك.
وإذا أردنا أن نصف نتائجها جميعاً، كان لزاماً علينا أن نسجل نصف تاريخ العقل الإنساني الحديث. ووصف أرازمس، في نشوة رواج مؤلفاته، الطباعة بأنها أعظم المكتشفات، ولعله بخس بذلك الكلام والنار والعجلة والزراعة والكتابة والقانون بل لعله قد بخس وصول الإنسان إلى استعمال الألفاظ النكرات الشائعة. وأحلت الطباعة محل المخطوطات الخفية، نصوصاً رخيصة الثمن، تتضاعف بكثرة، في عدد نسخها، التي تمتاز بدقتها وخفة حملها عما كانت عليه من قبل، وتعمل بذلك التوحيد بين المشتغلين بالعلم، حتى أن الدارسين في بلاد شتى، يستطيعون أن يعمل أحدهم مع الآخر بواسطة مراجع إلى صفحات معينة من طبعات معينة. وكثيراً ما كان الكيف ضحية الكم، بيد أن أقدم الكتب المطبوعة، كانت في كثير من الأحوال نماذج فنية للطبع بالحرف المتحرك والتجليد. ولقد أذاعت الطباعة-أو بمعنى آخر يسرت للجمهور-كتيبات رخيصة للإرشاد في الدين والأدب والتاريخ والعلم، فأصبحت أعظم وأرخص الجامعات كلها، تفتح أبوابها للجميع. ولم تثمر الطباعة عصر النهضة، ولكنها مهدت الطريق للتنوير...للثورتين الأمريكية والفرنسية..للديمقراطية. وجعلت الكتاب المقدس ملكاً شائعاً. وهيأت الناس لدعوة لوثر بالتحول من الاحتكام إلى الباباوات إلى الإنجيل، وسمحت بذلك بدعوة العقليين من الاحتكام إلى الإنجيل، إلى الاحتكام إلى العقل. وقضت على الاحتكار الكهنوتي للتعليم، وسيطرة القساوسة على التربية. وشجعت آداب اللهجات المحلية، لأن الجمهور الكبير الذي تتطلبه لا يمكن الوصول إليه عن طريق اللغة اللاتينية ويسرت الاتصال والتعاون الدوليين بين العلماء. وأثرت في نوع الأدب وقوامه بإخضاع المؤلفين لجيوب الطبقات الوسطى وأذواقها، بدلاً من إخضاعهم لمن يرعاهم من الطبقتين العليا والكهنوتية، وأعدت بعد الحديث الملفوظ، وسيلة ميسرة لاستيعاب الهذر، أكثر مما عرف العالم إلى زماننا.