قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 1 ف 4
صفحة رقم : 9455
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلترا -> وليم شكسبير -> أيام الشباب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: وليم شكسبير 1564 - 1616
أيام الشباب 1564 - 1585
فلنخلص الآن، استكمالاً للبحث، ما يعرفه نصف العالم عن شكسبير. واليوم وقد عكف الباحثون المخلصون على فحص مخلفاته ودراستها لثلاثة قرون، فإنه يهمنا أن نقيس ما نعرف عنه-وهناك شيء كثير يطرح جانباً لأنه غير جدير بالمناقشة، وهناك الشكوك التي تثار حول تأليفه لكل الروايات التي نسبت إليه تقريباً. ومهما يكن من أمر فإننا لسنا على يقين من اسمه. فقد أباحت إليزابث من الحرية في هجاء الكلمات أكثر مما أباحت في حرية العقيدة، ولربما حملت نفس الوثيقة الواحدة عدة طرق لهجاء كلمة واحدة بعينها، ولربما وقع رجل بعينه اسمه بأشكال مختلفة تبعاً لمزاجه وسرعته في الكتابة. وهكذا كتب المعاصرون مارلو، مارلين، مورلي وغيرها، أما توقيعات شكسبير الستة الباقية فهي كما تقرأ: Willm Shaksp-William Shakspeare-Willm Shakspere-Wm Shakspe-William Shakespe وهو الهجاء السائد الآن، وليس له ما يؤيده في مخطوطاته، والتوقيعات الثلاثة الأخيرة تنبع من نفس الفكرة.
وكانت أمه ماري آردن، من أسرة قديمة في ووروكشير. وقد قدمت إلى جون شكسبير، ابن مستأجر أرض والدها، صداقاً ضخماً نقداً وأرضاً، وأنجبت له ثمانية أطفال كان ثالثهم وليم. وأصبح جون من رجال الأعمال الأثرياء الناجحين في ستراتفورد على نهر الآفون، واشترى دارين، وخدم بلده ذائقاً للجعة، ومسئولاً عن الأمن، وعضواً في مجلس المدينة، ومساعداً لمأمور التنفيذ، وأحسن إلى الفقراء بسخاء، وبعد 1572 انحطت موارده، وأقيمت عليه الدعوى من أجل ثلاثين جنيهاً، وأخفق في دفع التهمة عنه، وصدر أمر بالقبض عليه. وفي 1580، ولأسباب مجهولة، مثل أمام المحكمة ليقدم ضماناً بعدم الإخلال بالأمن. وفي 1592 سجل اسمه ضمن الذين "لا يحضرون إلى الكنيسة شهرياً طبقاً لما نصت عليه قوانين صاحبة الجلالة". واستنتج بعضهم من هذا أنه كاثوليكي "عاصياً"، وآخرون أنه كان بيوريتانياً، كما استنتج غيرهم أنه لم يكن يجرؤ على مواجهة دائنيه. واستعاد وليم فيما بعد مالية أبيه، ولما قضى الوالد نحيه (1601) بقي في شارع هنلي منزلان باسم شكسبير.
وسجلت كنيسة الأبرشية في ستراتفورد تعميد وليم في 16 أبريل 1564. ودون نيقولا رو-وهو أول من كتب سيرة حياته-في 1709، أسطورة ستراتفورد التي يصدقها الجميع الآن، وهي أن الوالد ربى ابنه... لبعض الوقت في مدرسة مجانية... ولكن سوء ظروفه وحاجته إلى مساعدة ابنه له في موطنه... أجبرتاه على سحب ابنه من المدرسة(1). وفي المرثية التي ظهرت في مقدمة طبعة فوليو الأولى لروايات شكسبير، قال بن جونسون يخاطب منافسه الذي مات "لقد تعلمت قليلاً من اللاتينية، وأقل من اليونانية".. ومن الواضح أن الكتاب المسرحيين اليونانيين ظلوا على حالهم يونانيين بالنسبة لشكسبير (لم يطلع عليهم) ولكنه تعلم من اللاتينية ما يكفي لملء رواياته الصغيرة بشذرات لاتينية وتوريات ثنائية اللغة، ولو أنه تعلم المزيد منها فلربما كان يصبح عالماً آخر، مجداً نشيطاً، مجهولاً، وتصبح لندن مدرسته.
وثمة أسطورة أخرى سجلها ريتشارد ديفيز حوالي 1681 وصفت وليم الصغير بأنه "كثيراً ما كان سيئ الحظ في سرقة الغزلان والأرانب، وبخاصة من سير توماس لوسي الذي كان غالباً ما يجلده بالسوط، وأحياناً يسجنه(2)". وفي 27 نوفمبر 1582 عندما كان هذا الوغد المزعوم في سن الثامنة عشرة، حصل هو وآن هاثاواي، وكانت هي نحو الخامسة والعشرين، على إذن بالزواج. وتشير الظروف إلى أن أصدقاء آن أرغموا شكسبير على الزواج منها(3). وفي مايو 1583- أي بعد زواجهما بستة أشهر، ولدت لهما طفلة أسمياها سوزانا، وأنجبت آن فيما بعد للشاعر توأمين عمدا تحت اسم هامنت وجوديث في 2 فبراير 1585. ويحتمل أنه حوالي نهاية هذا العام هجر شكسبير زوجته وأولاده. وليس لدينا أية معلومات عنه فيما بين عامي 1585-1592، حين نعثر عليه ممثلاً في لندن.
2- تطور الشاعر 1592-1595
أن أول إشارة لشكسبير هنا تحط من قدره. وفي 3 سبتمبر 1592 أصدر روبرت جرين وهو على فراش الموت تحذيراً إلى أصدقائه، بأنه يزحزحهم عن مكنته في مسرح ندن "غراب ناشئ يزدان بريشنا نحن، وأنه في جرأة وحشية (له قلب نمر) يرتدي جلد الممثلين، (وفي هذا تهجم لاذع على بيت في مسرحية هنري السادس)، ويظن بذلك أنه قادر على أن يطنطن بالشعر المرسل كأحسن فرد فيكم أنتم. وبما أنه مستخدم يؤدي كل المهام، ففي تصوره أنه أحسن ممثل في أي بلاد(4)". وأعد هذه القطعة باعتبارها جزءاً من كتاب جرين "ما يساوي بضعة سنتات" من ذكاء جرين-أعدها هنري شاتل، الذي قدم في رسالة لاحقة، اعتذاراً إلى أحد الرجلين (ويحتمل أن يكونا مارلو وشكسبير) اللذين هاجمهما جرين.
إنني لم تكن لي صلة بأي من هذين الرجلين المعتديين، ولا أعبأ قط بأنني لن تكون لي صلة بأحدهما. أما الآخر، فإني آسف لأني رأيت بنفسي أن سلوكه لم يكن أقل لطفاً، كما لم يكن هو أقل امتيازاً في المهنة التي يدعيها، وفوق ذلك فان مختلف العادات تؤكد استقامة تصرفاته، التي تنم على أمانته وكياسته في الكتابة التي تؤيد فنه(5). ويبدو انه ليس ثمة شك في أن هجوم جرين واعتذار شاتل كانا يشيران إلى شكسبير. وما أن جاءت سنة 1592 حتى كان سارق الصيد في ستراتفورد ممثلاً وكاتباً مسرحياً في العاصمة. ويروي دودال (1693) ورو (1709) أنه "استقبل في المسرح كخادم في مرتبة وضيعة جداً(6)"، وهذا أمر محتمل. ولكن صدره كان يجيش بأشد الطموح "يتلهف على فن هذا ومقدرة ذاك، دون أن ينصرف تفكيره إلى شيء سوى الجلال والعظمة(7)" وسرعان ما كان يمثل أدواراً صغيرة، جاعلاً من نفسه متعة وبهجة للنظر(8)، ثم مثل دور "آدم الشفوق" في رواية "على هواك" والشبح في هملت وربما صعد إلى مرتبة أعلى لأن اسمه تصدر قائمة الممثلين في رواية جونسون Everyman In His Humour أو في رواية جونسون Sejanus، (1604) هو ويوريدج بأنهما "الممثلان المأساويان الرئيسيان(9)". وفي أواخر 1594 أصبح مساهماً في فرقة تشمبرلين للممثلين. ولم يكسب ثروته من كونه كاتباً مسرحياً، بل لكونه ممثلاً ومساهماً في فرقة مسرحية. ومهما يكن من أمر فانه في 1591 كان يكتب الروايات. ويبدو أنه بدأ "طبيباً للرواية" (يعالجها ويفحصها) فحرر المخطوطات ونقحها وكيفها للفرقة. وانتقل من مثل هذا العمل إلى الاشتراك في التأليف. وإن الأجزاء الثلاثة من "هنري السادس" (1592) لتبدو أنها من مثل هذا الإنتاج المشترك. وبعد ذلك كتب روايات بمعدل إثنتين كل عام، حتى بلغت جملتها ستاً وثلاثين أو ثماني وثلاثين رواية. وإن عدة من رواياته الأولى مثل Two Gentlemen Of Venoma, Acomedy Of Errors، (1594)، Loves Labours Lost (1594)- توافه هزلية مليئة بالمزاح المرهق لنا الآن. وإنه لمن الدروس المفيدة أن نعلم أن شكسبير صعد سلم المجد بالعمل الشاق والجهد المضني. ولكن الصعود كان سريعاً. وأوحت إليه رواية مارلو "إدوارد الثاني" أن يلتمس في التاريخ الإنجليزي أفكاراً لموضوعات مسرحية كثيرة وضارعت رواية "ريتشارد الثاني" (1595) رواية مارلو. أما رواية "ريتشارد الثالث" (1592) فكانت بالفعل قد بزتها. ووقع إلى حد ما في خطأ خلق شخص واحد من صفة واحدة-الملك الأحدب من الطموح الموصوم بالخيانة والقتل، ولكنه بين الحين والحين ارتفع بالرواية عن متوى مارلو بعمق التحليل وقوة الإحساس وومضات من العبارة المشرقة. وسرعان ما أصبحت عبارة "جواد! جواد! مملكتي مقابل جواد!"، ذائعة على كل الألسنة في لندن.
ثم فترت العبقرية في Titus Andronicus (1593). وغلب التقليد، وعرض رقصة الموت البغيضة، فان تيتس يقتل ابنه، وآخرين صهره أو زوج ابنته، على المسرح، وتغتصب عروس وراء الكواليس فتأتي إلى خشبة المسرح، وقد قطعت يداها، وقطع لسانها، والدم ينزف من فمها، ثم يقطع أحد الخونة يد تيتس بفأس أمام جمهور الدرجة الثالثة الذين تكاد عيونهم تلتهم المشهد. وتعرض رأساً ابني تيتس المفصولان، وتقتل إحدى المرضعات على المسرح. وجهد النقاد الذين يجلون شكسبير ليحملوا المشتركين في التأليف جزءاً من مسئولية هذه المذبحة، طبقاً للنظرية الخاطئة القاتلة بأن شكسبير لا يكتب هراء، ولكنه كتب بالفعل قدراً كبيراً منه. وألف شكسبير حوالي هذه المرحلة من مراحل تطوره، شعره القصصي وقصائد السونيت، وربما كان الطاعون الذي تسبب غب إغلاق كل مسارح لندن بين 1592-1594، هو الذي تركه في فراغ أليم بائس، ورأى أنه من صواب الرأي أن يوجه شيئاً من الشعر المؤمل إلى أحد رعاة الشعر. وفي (1593) أهدى فينوس وأودنيس إلى هنري ريوتسلي أرل سوثمبتون الثالث. وكان لودج قد اقتبسها من قصة أوفيد Metamorphoses، واقتبسها شكسبير عن لودج، وكان الأول شاباً وسيماً منغمساً في الملذات الجنسية والصيد والقنص، وربما تلت أو كيفت لتلائم ذوقه. ويبدو كثير منها غذاء تافهاً عديم القيمة في هذه السنوات العجاف، ولكن في غمرة هذا الإغراء الشديد هناك قطع ذات جمال حسي مثل الأبيات من (679-708) مما قل أن قرأت إنجلترا مثله من قبل. وتشجع شكسبير بما لقيت القصيدة من استحسان عام، وبهدية من سوثمبتون فأصدر في 1594 The Ravyshement Of Lucrece حيث تم الإغراء باقتصاد أكبر في الشعر. وكانت هذه آخر ما أصدره بمحض اختياره. وحوالي 1593 بدأ يكتب ولكنه حجز عن المطبعة قصائد السونيت التي كانت أول ما ثبت مكانته الرفيعة بين شعراء عصره. وهي من الناحية الفنية أدق أعمال شكسبير تقريباً، وقد نهلت كثيراً من معين بترارك من قصائد السونيت- الجمال العابر للمحبوبة وتردداتها وتقلباتها القاسية، وتثاقل خطوات الزمن الذي يضيع سدى وغير الحبيب وظمؤه القاتل، وتفاخر الشاعر بأن قريضه سوف يخلد جمال الحبيبة وشهرتها إلى الأبد. بل إن هناك عبارات وألقاباً ونعوتاً منتحلة من كوننستابل ودانيل، وواطسون- وغيرهم من شعراء السونيت الذين كانوا هم أنفسهم حلقات في سلسلة السرقات الأدبية. ولم يفلح أحد في ترتيب قصائد السونيت في نظام قصصي ثابت، وكانت كلها عملاً طارئاً في أيام متباعدة. ويجدر بنا ألا نأخذ بكثير من الجد حبكتها الغامضة-حب الشاعر لشاب يافع، وميله إلى "سيدة سمراء" في البلاط. وصدودها عنه، وترحيبها بصديق له، وظفر شاعر منافس بذاك الصديق، وسهاد شكسبير اليائس وتفكيره في التخلص من الحياة. ومن الجائز أن شكسبير، وهو يمثل في البلاط، اختلس النظرات في لهف بعيد إلى الوصيفات المحيطات بالملكة، واللائى تضمخن بعطور ذات رائحة مثملة، وارتدين ثياباً تبهر الأنظار، ولكن ليس من المرجع أنه تحدث إليهن أو حاول اقتناصهن قط. ولقد أصبحت واحدة منهن، وهي ماري فتون Fitton خليلة أرل بمبروك، ويبدو أنها كانت شقراء،أو أن هذا كان مجرد أصباغ زائلة، ومهما يكن من أمر فقد كانت غير متزوجة، في الوقت الذي خانت فيه زوجة شكسبير "عهد الزوجية" بحب الشاعر و "محبوبه"(10). وفي 1609 نشر توماس ثورب قصائد السونيت، وواضح أن هذا كان بدون موافقة شكسبير، لأن المؤلف لم يكتب فيها إهداء، ولكن ثورب نفسه صدرها بإهداء حير الأجيال: "إلى الوحيد الذي يقدر القصائد التالية، السيد و.هـ. مع كل ما بشر به شاعرنا الخالد من سعادة وخلود، مع أطيب التمنيات للمغامر الذي يبغي الخير، فيما يعتزم من ترحال. "ويحتمل أن التوقيع ا.ت.ث. "توماس ثورب". ولكن من هو "و.هـ."؟ ربما كان هذان هما الحرفان الأولان من وليم هربرت أرل بمبروك الثالث الذي أغوى ماري فتون، والذي قدر له هو وأخوه فيليب أن يتلقيا إهداء الكتاب الذي نشر بعد وفاة المؤلف، على انه أعظم راع لرجال العلم والأدب من أي نبيل في عصره أو منذ ذلك العصر". وكان هربرت في عامه الثالث عشر فقط حين بدأت قصائد السونيت 1593، ولكن تأليفها امتد حتى 1598، حين كان بمبروك قد اشتد عوده ونضج للحب ورعاية الأدب والأدباء. ويتحدث الشاعر بحرارة عن حبه "للمحبوب الفتي"، وغالباً ما استخدمت كلمة الحب بمعنى الصداقة. ولكن القصيدة رقم 20 تطلق على الفتى "سيد- سيدة هيامي وهواي" وتنتهي بتورية تصور الحب الجنسي. والقصيدة 128 (والظاهر أنها موجهة "للفتى الوسيم" الوارد ذكره في القصيدة 126) تتحدث عن نشوة العشق والغرام. وكان بعض الشعراء في عصر إليزابث أدباء لوطيين قادرين على تهيئة أنفسهم للحب الطروب المبهج، لأي رجل من ذوي اليسار. إن أهمية قصائد السونيت لا تكمن في قصصها بل في جمالها. فكثير (مثل القصائد التي تحمل أرقام 29، 30، 33، 35، 64، 66، 71، 97، 106، 117) زاخرة بسطور يتجلى فيها عمق التفكير وحرارة الأحاسيس وروعة التصوير وجزالة العبارة، مما جعل صداها يرن لعدة قرون عبر العالم الذي يتحدث باللغة الإنجليزية.
3- تفوق الشاعر 1595-1608
ولكن نظم السونيت وما تطلبه من صنعة وفرضه من قيود، قصقص أجنحة الخيال، ولا بد أن شكسبير ابتهج بما هيأ له الشعر المرسل من حرية واسعة، حين أطلق لنفسه العنان، وهو بعد يافع متحمس، في إحدى قصائد الحب العظيمة الباقية على مر الزمان، لقد جاءت قصة "روميو وجوليت إلى إنجلترا من قصص مازوتشيو وباندللو. وأعاد آرثر بروك صياغتها (1562) في شعر قصصي، ونقلاً عن بروك، وربما عن رواية أخرى أسبق في نفس الموضوع، أخرج شكسبير للمسرح روايته "روميو وجوليت" حوالي 1595. وأسلوبها محشو بأخيلة وأوهام ربما علقت بقلمه من نظم قصائد السونيت، فجاءت المجازات جافة شاذة، ورسمت شخصية روميو بشكل ضعيف إلى جانب مركوشيو المنفعل المهتاج. زحل العقدة عبارة عن سلسلة متصلة من السخافات. ولكن من ذا الذي يذكر الشباب، أو يرسب في أعماقه حلم، يستطيع أن يستمع إلى هذه الموسيقى العاطفية الرومانسية الحلوة، دون أن ينبذ كل معايير الثقة والتصديق، وينهض لاهثاً أو حابساً أنفاسه نحو الشاعر وهو يشق طريقه إلى هذا العالم بما فيه من غيرة جامحة وقلق مرتجف، وفناء حزين؟
والآن يسير شكسبير من نصر إلى نصر في عالم المسرح، في كل عام تقريباً. ففي 7 يونيه 1594 أعدم ردريجو لوبيز، طبيب الملكة اليهودي، بتهمة قبول رشوة ليدس السم للملكة. ولم يكن الدليل قاطعاً، وترددت إليزابث طويلاً في التصديق على حكم الإعدام، ولكن العامة في لندن أخذوا جريمته قضية مسلماً بها. واستعرت روح العداء للسامية في الحانات(11). ويمكن أن يكون شكسبير قد تأثر إلى حد أن يضرب على هذا الوتر الحساس، أو أنه كلف بذلك، فكتب "تاجر البندقية" (1596؟)، وشارك إلى حد ما مستمعيه في مشاعرهم، فأجاز أن يمثل شيلوك في شخصية هزلية في ثياب رثة مع أنف عريض مصطنع، ونافس مارلو في إبراز كراهية مقرض النقود وجشعه، ولكنه أضفى على شيلوك بعض الصفات المحببة التي لا بد أنها جعلت الحمقى يحزنون، ثم أنه أورد على لسانه عرضاً للقضية من أجل اليهود، بلغ من الوضوح والجرأة حداً جعل كبار النقاد لا يزالون يجادلون فيما إذا كان شيلوك قد صور مفترى عليه أكثر منه آثماً مذنباً(12)؟ وهنا، فوق كل شيء، أظهر شكسبير براعته في أن يؤلف صورة متناسقة الأجزاء من خيوط مختلفة من قصص جاءت من الشرق ومن إيطاليا، كما جعل جسيكا المرتدة متلقية مثل هذا الشعر العاطفي الرومانتيكي، كما لا يمكن أن تتصوره إلا روح ذات حساسية عالية.
وانصرف شكسبير طيلة أعوام خمسة إلى الملهاة بصفة أساسية. وربما أدرك أن الجنس البشري المنهوك يختص بأسخى جوائزه أولئك الذين يستطيعون إلهاءه بالضحك والخيال. إن رواية "حلم منتصف ليلة صيف" هراء قوي عوض عنه مندلسون. ولم نقذ هيلينا رواية "Allls Well That Ends Well". أما رواية "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً" فهي تتفق مع اسمها. ورواية "الليلة الثانية عشرة" محتملة فقط لأن فيولا تمثل فتى وسيم جداً. ورواية "ترويض النمرة" زاخرة بمرح صاخب بشكل لا يصدق، ومن المستحيل ترويض النساء ذوات الألسنة السليطة.
هذه الرايات كلها كانت إنتاجاً لمجرد كسب المال، وإرضاء جمهور الدرجة الثالثة، ووسائل لإبقاء القطيع داخل الحظيرة، وإبقاء الذئب بعيداً عن الباب.
ولكن بجزئي "هنري الرابع" (1597slash1598) صعد الساحر العظيم ثانية إلى القمة، وجمع بين المهرجين والمراء-فولستاف وبستول، هتسبير والأمير هال-في نجاح كان يمكن أن يجعل سدني يتردد. واستساغت لندن استخدام تاريخ الملوك على هذا النحو، مزخرفاً بالأوغاد، والمومسات. وتابع شكسبير العمل فأخرج "هنري الخامس" (1599)، يهز بها مشاعر المشاهدين ويسليهم في وقت معاً، ثرثرة فولستاف الذي يعاني سكرات الموت: "أيتها المروج الخضر"، ويثيرهم بجعجعة أجنكورت، ويبهجهم بمغازلة الملك الذي لا يقهر للأميرة كيت Kate بلغتين. وإذا اعتقدنا في صحة كلام رو، فإن الملكة لم تكن ترتضي الراحة لفولستاف وأمرت منشئه (مؤلف الرواية) أن يحييه ويعرضه في مشهد عشق وغرام(13). ويضيف جون دنيس (1802) وهو يروي نفس القصة، أن إليزابث رغبت في أن تتم المعجزة في مدى أسبوعين. وإذا كان كل هذا صحيحاً، فإن رواية "الزوجات المرحات في وندسور" كانت عملاً مدهشاً من أعمال البراعة والقوة، لأنها برغم كونها صاخبة لأنها حافلة بالخشونة والعنف متخمة بالتوريات، ففيها فولستاف في ذروة نشاطه وحيويته، حتى ألقى به إلى نهر في سلة غسيل. وقيل لنا إن الملكة كانت مسرورة.
وأنه لشيء مروع أن نجد كاتباً مسرحياً ينتج في موسم واحد (1599-1600؟) مثل هذا الهراء التافه، ثم ينتج بعده هذه المقطوعة القصصية الرومانتيكية البالغة الرقة "على هواك" وربما كان سبب ها هو أنها استرشدت بمقطوعة لودج "روزاليند" (1590)، وموسيقى الرواية صافية نقية-لا تزال معوقة بالمزاح والهزل الجاف غير الممتع، ولكنها ناعمة رقيقة من حيث الإحساس، مرحة رشيقة من حيث الكلام. فأية صداقة كريمة هنا بين سليا وروزاليند، وهذا أورلندوو يحفر اسم روزاليند في لحاء الشجر، معلقاً القصائد الغنائية على أشجار الزعرور البري، والمراثي على الأشجار كثيرة الشوك، وأي رصيد سعيد من الفصاحة ينثر عبارات خالدة
على كل صحيفة- وأية أغان رحبت بها ملايين الشفاه: "نحت الشجرة الخضراء هب؛ هب يا نسيم الشتاء،" "فهناك كان عشيق وفتاته". إن التدفق أو الإنتاج بأسره كان حماقة وعاطفة لذيذتين محببتين، لا يمكن مباراته في أي أدب.
ولكن وسط هذه الوفرة من الحلوى يضع مسيو ميلانكولي جاك شيئاً من الفاكهة المرة، معلناً أن "مسرح الحياة الواسع العالمي يعرض مهرجانات وأبهة فارغة أفجع أو أشد حزناً مما يقدم المشهد الذي نمثله" على خشبة المسرح، وليس ثمة شيء محقق يقيني إلا الموت، ولكنه عادة يأتي بعد مرحلة من الشيخوخة لا طعم لها، يفقد المرء فيها أسنانه وبصره:
وهكذا من ساعة إلى ساعة ننمو وننضج، وبعد ذلك، من ساعة إلى ساعة نذبل ونذوي، حتى نصبح حديثاً بعدنا(14).
وهكذا أنذرنا شاعر آفون أن رواية "على هواك" كانت آخر روائع المرح والبهجة، ومن بعدها، حتى إشعار آخر، عرض أن يسبر غور الحياة ليظهرنا على حقيقتها الدامية، وهو الآن يريد أن يفيض علينا من معين "الروايات المأسوية"، ويجمع بين المرارة وطيب المذاق.
في 1579 عرض كتاب توماس نورث عن بلوتارك ذخيرة نفيسة من المسرحيات، أخذ منها شكسبير ثلاثاً من "سير الحياة" وصاغها في مسرحية "يوليوس قيصر" (1599؟). ووجد أن ترجمة نورث مفعمة بالحيوية إلى حد أنه أخذ منها عدة قطع بأكملها كلمة كلمة بالنص، وكل ما عمله هو أنه حول النثر إلى شعر مرسل، ومهما يكن من أمر فإن خطبة أنتوني أمام جثمان قيصر كانت من ابتداع الشاعر نفسه، جاءت تحفة رائعة في فن الخطابة والرقة والدقة، ثم الدفاع الوحيد الذي أجازه لقيصر. وربما أثر فيه إعجابه بدوق سوثمبتون وإرل بمبروك، وارل إسكس الشاب، فرأى القتل من وجهة نظر النبلاء الأرستقراطيين المتآمرين المهددين بالخطر. ومن ثم يصبح بروتس محور الرواية. ولكنا، نحن الذي حصلنا على تفاصيل مومسن عن الفساد ذي الرائحة الكريهة في "الديمقراطية" التي أطاح بها قيصر، أشد ميلاً إلى التعاطف مع قيصر، كما فوجئنا بموت بطل الرواية في مستهل الفصل الثالث.
وإن الماضي ليقف عاجزاً بين يدي الحاضر الذي كثيراً ما يعيد تشكيله ليصبح من نزوات الساعة. وفي كتابة هملت استعان شكسبير برواية سابقة في نفس الموضوع وتحداها. وكانت هملت قد أخرجت في لندن قبله بست سنوات فقط. ولسنا ندري كم أخذ من هذه "المأساة" المفقودة، أو من كتاب بلفورست "التواريخ الفاجعة" (1576)، أو من "تاريخ الدنمرك" (1514) للمؤرخ الدنمركي ساسكو جراماتيكوس، كما أننا لا نستطيع القول بأن شكسبير قرأ "أمراض الاكتئاب والحزن"، وهي ترجمة إنجليزية حديثة لكتاب طبي فرنسي ألفه دي لورنس. وإنا، ونحن نشك في غير انفعال أو تذمر، في كل محاولة لتحويل الروايات إلى سيرة حياة ذاتية، ليباح لنا أن نتساءل عما إذا كان شيء من الحزن الشخصي-بالإضافة إلى تأديب الليل والنهار-قد انضم إلى التشاؤم الذي شاع في هملت، واشتدت مرارته فيما أعقبها من روايات. وكان يمكن أن يكون هذا تحرراً جديداً من وهم الحب، وهل كان القبض للمرة الأولى على اسكس (5 يونيه 1600)، أو إخفاق ثورة اسكس، أو اعتقال اسكس وسوثمبتون، أو إعدام اسكس (25 فبراير 1601)؟ ويفترض أن هذه الأحداث كلها هزت مشاعر شاعرنا المرهف الحس، الذي كان قد امتدح، في حرارة بالغة، اسكس في مقدمة الفصل الأخير من "هنري الخامس"، كما كان في إهداء "لوكريس" إلى سوثمبتون، قد عاهده على الولاء له إلى الأبد. ومهما يكن من أمر، فان أعظم روايات شكسبير كتبت أثناء هذه النكبات أو فيما بعدها. فهي أدق في حبكة الرواية، وأعمق في التفكير، وأروع في اللغة من سابقاتها، ولكنها تعبر كذلك عن أمر اللوم والعتاب للحياة في الأدب بأسره. إن إرادة هملت المذبذبة، بل "عقله الملكي الممتاز" على الأغلب قد أصابهما بالاعتدال والاضطراب اكتشاف الحقيقة واقتراب الشر، وتشبعه بفكرة الانتقام، حتى تمتلكه هو نفسه قساوة لا ترحم ولا تهدأ، فأرسل أوفليا، لا إلى دير الراهبات، بل إلى الجنون والموت. وفي النهاية تجيء مذبحة عامة، لم يفلت منها إلا هوراشيو، وقد قارب أن يصاب بلوثة.
وفي الوقت نفسه وجدت إليزابث، هي الأخرى، البلسم الأخير. وأصبح جيمس السادس ملك اسكتلنده، ملكاً على إنجلترا تحت اسم جيمس الأول. وما أن جلس على العرش حتى ثبت وتوسع في إمتيازات فرقة شكسبير التي أصبحت "رجل الملك". ومثلت روايات شكسبير أمام الملك بانتظام ولقيت تشجيعاً ملكياً كبيراً. وصعدت المواسم الثلاثة بين 1604-1607 بالشاعر إلى ذروة عبقريته وأقصى مرارته، فرواية "عطيل" (1604؟) قوية بقدر ما هي بعيدة عن التصديق. فقد أثار إخلاص ديدمونا وموتها شفقة المشاهدين، كما افتتنوا بخبث ياجوالدال على ذكائه، ولكن في تصوير هذا الشر المحض الذي لا باعث عليه في الإنسان؛ وقع شكسبير في خطأ مارلو، ألا وهو الشخصيات القائمة على وحدة كاملة. وحتى عطيل نفسه، على الرغم من أنه جمع بين البراعة العسكرية والغباء، كان ينقصه هذا المزاج الفني من العناصر التي تضفي الروح الإنسانية على هملت ولير وبروتس وأنطوني.
ولا تزال "ماكبث" (1605؟) تأملاً أشد رهبة في الشر الذي لا تخف حدته. وكان شكسبير يستشهد بهولنشد في الحقائق المطلقة، ولكنه زاد في عتامة القصة وكآبتها بتحرره من الوهم بشكل انفعالي غاضب وانحطت هذه الحالة النفسية إلى الحضيض، كما بلغ الفن ذروته في رواية "الملك لير" (1606؟) وكان جوفري اوف مموث قد طور القصة، ثم نقلها هولنشد، وأخرجها للمسرح مؤخراً كاتب مسرحي مجهول الآن تحت عنوان "التاريخ الصحيح للملك لير" (1605) وكانت حبكات الرواية ملكاً مشاعاً. ونهجت المسرحية القديمة نهج هولنشد في أنها هيأت للملك لير خاتمة سعيدة، عن طريق احتمائه بابنته كورديليا واستعادة العرش، وواضح أن شكسبير آثم في جنون الملك وموته بخلعه من العرش كما أنه أضاف الإعماء الدامي الفظيع الذي أصاب جلوستر على المسرح. إن المرارة هي النغمة الأساسية السائدة في الرواية، وإن لير ليأمر الفسوق أن ينتشر والزنى أن يزداد "لأني يعوزني الجنود(15)" وكل الفضيلة، في نظرته القاتمة، ما هي إلا واجهة للفسق والفجور،وكل الحكومة رشوة، وكل التاريخ عبارة عن الإنسانية تفترس نفسها أو بني البشر يأكل بعضهم بعضاً. وهو يصاب بالجنون وهو يرى عمق الشر وانتصاره الواضح. وهو يضع كل إيمانه وثقته "بالعناية الإلهية" التي تشد من أزره وتأخذ بيده. وتصل رواية "أنطوني وكليوبطرة" إلى آفاق وأعماق أقل. وثمة شيء أنبل في هزيمة أنطوني منه سورة غضب لير، شيء أكثر تصديقاً واحتملاً في افتتان الرومان بالملكة المصرية منه في قساوة البريتون البغيضة مع ابنة صريحة صراحة حمقاء، وفي جبن كليوبطرة في الحرب، وروعتها في الانتحار. وهنا كانت لدى شكسبير روايات سابقة يعمل على أساس منها، فتناول أيضاً بالتحسين، وجدد في القصة التي طال ترديدها، وزادها إشراقاً وتألقاً، بتحليل أدق للخلق، وبسحر بيانها المتلألئ الذي لا يعرف الكلل. أما التشاؤم في رواية "تيمون الأثيني" (1608؟) فهو تشاؤم تهكمي، لم يتخلص منه. ويصوب لير سهامه إلى نساء، ولكنه يحس ببعض الرثاء المتأخر للبشر، ويحتقر بطل "كوريولانس" الناس على أنهم النتاج المتقلب الذليل الأبله للإهمال والطيش، ولكن تيمون يذم الجميع رفيعهم ووضيعهم، ويصب اللعنة على المدنية نفسها على أنها أفسدت أخلاق البشر. وكان بلوتارك فيسيرة أنطوني قد ذكر تيمون على أنه مبغض للبشر مشهور، وكان لوشيان قد أورده في حوار، كما كانت رواية إنجليزية قد ألفت عنه قبل أن يأخذ شكسبير الفكرة مع مساعد مجهول بثماني سنوات. وكان تيمون ثريا (مليونير) أثينيا يحيط به أصدقاء متملقون متفتحون يسارعون إلى تقبل أفكاره، وعندما يفقد ماله، ويرى أصدقاءه يختفون بين عشية وضحاها، ينفض غبار المدينة عن قدميه ويأوى-جاداً صارماً-إلى العزلة في غابة، حيث يأمل أن "يجد أشد الحيوانات وحشية أكثر رفقاً وشفقة من بني الإنسان(16)" وهو يتمنى لو "أن ألسبيادس" كان كلباً "حتى أكن لك شيئاً من الحب(17)" ويعيش على جذور الشجر، وينقب فيجد ذهباً، وهنا يظهر الأصدقاء من جديد فيطردهم ويحتقرهم ويهجوهم ألذع هجاء. ولكن عندما تأتي العاهرات وبنات الهوى ينفحهن بالذهب، شريطة أن ينقلن الأمراض التناسلية إلى أكبر عدد ممكن من الرجال:
انشرن الأمراض والعلل
لتنخر في عظام الرجال الجوفاء، واضربن على طنايينهم
وأفسدن عليهم زيجاتهم، وأخرسن
صوت المحامي
حتى لا يعود يترفع عن اللقب الزائف
وتدوي مرافعاته عالية رنانة، وجللن بالمشيب
ذاك الكاهن
الذي يسلق الناس بألسنة حداد من أجل طبيعتهم الشهوانية
وهو لا يصدق نفسه، حطمن الأنف
حطمنها، وأكسرن قصبتها تماماً،
ولتدعن دعاة الحرب المتبجحين الذين ليس فيهم أثر لجراح
ينقلوا عنكم الأمراض الموجعة. اصببن العذاب على الجميع
حتى يقهر ويقمع نشاطكن
مصدر كل بناء وتعمير- ثمة مزيد من الذهب
هل تردن إدانة آخرين، فلتنصب اللعنة عليكن(18)
وفي سورة الكراهية يأمر تيمون الطبيعة أن تكف عن النسل، ويأمل أن تتكاثر الوحوش الضارية لتستأصل الجنس البشري، إن هذا الإسراف في بعض البشر يجعله يبدو غير حقيقي، ولا يمكن أن نصدق أن شكسبير قد أحس بهذا التشامخ السخيف على الخاطئين، وبأنه غير مؤهل بمثل هذا الجبن لمتاع الحياة الدنيا. إن مثل هذه المبالغة في تقدير توافه الأمور لتوحي بأن الداء قد عالج نفسه بنفسه، وأن شكسبير لا بد ستعود إليه الابتسامة سريعاً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
4- براعة شكسبير الفنية
كيف تسنى لامرئ لم يتلق من العلم إلا أقله أن يخرج على الناس بروايات تعددت وتنوعت فيها ألوان المعرفة المكتسبة بالإطلاع والدرس؟ ولكنها لم تكن حقاً معرفة على هذا النحو. ولم تكن شاملة أو واسعة في أي من حقولها اللهم إلا في علم النفس. ولم يكن شكسبير يعرف من الكتاب المقدس إلا ما أتاحت له دراسته في صباه أن يطالعه، وكانت مراجعاته وإشاراته إلى الكتاب المقدس عادية. وجاء علمه بالآداب القديمة اليونانية واللاتينية مصادفة عن غير قصد، ودون إتقان أو تعمق، وواضح أنه كان مقصوراً على المترجمات. وعرف معظم المعبودات الوثنية، حتى أقلها شأناً وأكثرها خلاعة، وربما استقى هذه المعرفة من الترجمة الإنجليزية أوفيد Metamorphoses ووقع في أخطاء صغيرة، ما كان بيكون مثلاً ليقع فيها، من ذلك أنه قال عن تيسيوس بأنه "دوق" وجعل هيكتور من القرن الحادي عشر قبل الميلاد يشير إلى أرسطو في القرن الثالث ق.م. (19) وأجاز لأحد أشخاص رواية كوريولانوس(20) (القرن الخامس ق.م. أن يقتبس من كاتو (من القرن الأول).
وكان على إلمام يسير بالفرنسية، وأقل منه بالإيطالية، وله بعض إلمام بالجغرافية، فزود رواياته ببعض أماكن ومواقع دخيلة من إسكتلندة إلى إفسس، ولكنه خلع على بوهيميا شاطئاً على البحر . وأرسل فالنتين من نيرونا إلى ميلان بحراً(23)، وبرسبيرو من ميلان في قارب عابر للمحيط(24). وأخذ معظم ما عرف من التاريخ الروماني عن بلوتارك، ومعظم ما عرف من التاريخ الإنجليزي عن هولنشد وعن روايات قديمة، ولم يقدر للزلات التاريخية أية أهمية للكاتب المسرحي، فوضع ساعة الحائط في روما على عهد قيصر، والبليارد في مصر على عهد كليوبطرة. وكتب "الملك جون" دون ذكر للعهد الأعظم (ماجنا كارتا)، و"هنري الثامن" دون التعرض للإصلاح الديني، ومن ثم نرى من جديد أن الماضي يتغير مع كل حاضر. ومن ناحية الإيجاز والعرض العام نجد أن مسرحياته التاريخية الإنجليزية صحيحة من وجهة نظرنا السائدة، أما من حيث التفصيل فهي غير جديرة بالثقة، وهي تصطبغ، من وجهة نظرنا، بصبغة وطنية-فان جان دارك في رأي شكسبير ساحرة داعرة، وعلى الرغم من هذا كله، اعترف بعض الإنجليز مثل القائد مارلوبور بأنه استقى معظم معلوماته عن التاريخ الإنجليزي من روايات شكسبير.
واستخدم شكسبير-مثل غيره من كتاب المسرح في عهد إليزابث، كثيراً من المصطلحات القانونية استخداماً غير صحيح أحياناً. وربما كان قد التقطها من دور القضاء-مدارس الحقوق التي أخرجت فيها ثلاث من رواياتها-أو من القضايا التي انشغل بها هو ووالده. وكانت لديه ذخيرة كبيرة من المصطلحات الموسيقية، وواضح جداً أنه كان يتمتع بحس موسيقي مرهف-"أليس غريباً أن أحشاء الغنم بالأرواح لتحلق بعيداً عن أجسامها(25)"؟ وإنه ليذكر في رقة وحنان أزهار إنجلترا، وينظمها في عقد في رواية "قصة الشتاء"، ويكسو بها أوفيليا عندما انتابتها الحمى وأخذت تهذي. وهو يلمح إلى مائة وثمانين نوعاً مختلفاً من النبات، وكان ملماً بالألعاب الميدانية وبسباق الخيل، ولكنه لم يهتم إلا قليلاً بالعلوم، التي سرعان ما افتتن بها بيكون. وكما فعل بيكون، حفظ شكسبير فلك بطليموس(26). وبدا في بعض الأحيان (سونيت 15) أنه يؤمن بالتنجيم، فتحدث عن روميو وجوليت بأنهما "عاشقان منحوسان(27)". ولكن إدموند في "الملك لير" وكسياس في "يوليوس قيصر" يرفضان التنجيم بشدة. "إن الخطأ، يا عزيزي بروتس، ليس في نجومنا (طالعنا) بل في أنفسنا، ذلك أننا أتباع أذلاء(28)".
وجملة القول،إن كل الدلائل تشير إلى أن شكسبير حصل على المعرفة العارضة التي يتسنى الحصول عليها لرجل العمال المشغول أعظم الشغل بالتمثيل والإدارة، الذي عاش لينكب على الكتب. وعرف أفظع آراء مكيافللي، وأشار إلى رابيليه، واقتبس من مونتاني. ولكن ليس من المرجح أنه قرأ مؤلفاتهم. ووصف جونزالو للدولة الديمقراطية(29) مأخوذ من بحث مونتاني "أكلة لحوم البشر". وربما أراد شكسبير بشخصيته كاليبان (العبد الرقيق الذي كان يمتلكه برسبيرو في رواية العاصفة)-أراد أن يهجو مونتاني لأنه أضفى الصفات المثالية على هنود أمريكا. أما التشكك عند هملت، وهل ينسب شيء منه إلى شكوك مونتاني اللطيفة، فهو مسألة لم تحل بعد. فقد نشرت المسرحية في 1602، أي قبل طبع ترجمة فلوريو بعام واحد، ولكن شكسبير عرف فلوريو، وربما اطلع على المخطوطة وربما ساعد نقد مونتاني الدقيق على تعميق فكر شكسبير، ولكن ليس في كتاب الرجل الفرنسي ما يماثل مفاجأة هملت، أو الذم الشديد للحياة في الملك لير، كريولانوس، تيمون، ماكبث،. إن شكسبير هو شكسبير يسرق الموضوعات والقطع والعبارات والأبيات، من كل مكان، ومع ذلك فهو أعظم الكتاب في كل الأزمان أصالة وامتياز وخلقاً وإبداعاً.
وتكمن الأصالة في اللغة والأسلوب والخيال والفن المسرحي والدعابة وأشخاص الرواية والفلسفة. فلغته أغنى اللغات في كل الأدب: فهناك خمسة عشر ألف لفظ، بما فيها المصطلحات الفنية وشعارات النبلاء ورموزهم، والموسيقى والألعاب والمهن، ولهجات المقاطعات: ولهجات رواد الأرصفة في الشوارع، بالإضافة إلى ألف من الابتكارات المتعجلة أو البطيئة- Occulted, Unkenneled, Fumitory, Burnet, Spurring... لقد استساغ ألفاظاً، ونقب في مختلف أركان اللغة وجوانبها، وأحب الألفاظ عامة، فانسابت منه في حيوية دافقة، مرحة، فإذا ذكر اسم زهرة، فانه لا بد يتابع حتى يسمي اثنتي عشرة زهرة، وإن الألفاظ نفسها ليفوح منها عبير الزهر. وأجرى على ألسنة الأشخاص في رواياته كلمات متعددة المقاطع يتشدقون بها ويدورون بها حول المعنى. وكان يخرب في النحو والصرف تخريباً لطيفاً، فيحول الأسماء والصفات، بل حتى الظروف إلى أفعال، ويقلب الأفعال إلى صفات، كذلك الضمائر إلى أسماء، ويضع فعل الجمع للفاعل المفرد، أو الفعل المفرد للفاعل الجمع، ولكن لم يكن هناك حتى ذاك الوقت استخدام للنحو ولا الصرف في الإنجليزية ولا قواعد لهما. ولقد كتب شكسبير على عجل، ولم يتيسر له وقت فراغ للندم.
وللأسلوب الرائع "الأنيق المتميز الباروكي(30)" (يتسم بالزخرفة والتعقيد والصور الغريبة) نقول إن لهذا الأسلوب أخطاء ثروته غير الخاضعة لقانون: في عبارات متكلفة أو ملتوية بشكل غريب، وصور بعيدة الغور، وتلاعب باللفظ معقد بشكل مرهق، وتورية وسط المأساة، ومجازات واستعارات يهبط بعضها فوق بعض في فوضى وتناقض، وتكرارات لا حصر لها، وتفاهات مبتذلة حافلة بالحكم، وهنا وهناك كلام منمق مملوء بالمرح الصاخب والهراء تتشدق به أبغض الأفواه غير المرغوب فيها. ولا شك أن التعليم الكلاسيكي ربما هذب وبسط الأسلوب، وقضى على التورية والغموض، ولكن تدبر، ماذا عسانا كنا نفقد حينئذ؟ ولعله كان يفكر في نفسه حين أورد وصف أورايانو باعتباره رجلاً على لسان فرديناند:
إن لديه في مخه داراً لسك العبارات،
وإن عباراته لتسلب الألباب
وكأنها الإيقاع الساحر.
ولكني أحتج، أحب أن أسمعه يكذب(31)
ومن هذه الدار صدرت عملة من العبارات تكاد تكون عالمية: شتاء استيائنا(32)، تضييع وقت السلم سدى(33)، أريد أباً للفكر(34)، قل الحق وأخجل الشيطان(35)، يسكن الريح في هذا الركن(36)؟ لا يستقر قرار للرأس الذي يحمل التاج(37). يطلي الزنبق(38)، لمسة واحدة من الطبيعة تجعل العالم كله أسرة واحدة(39)، أي حمقى هؤلاء البشر المعرضون للفناء(40). إن الشيطان ليستطيع أن يقتبس من الأسفار المقدسة ما يخدم غرضه(41)، جنون منتصف الصيف(42) طريق الحب الصادق ممتلئ بالأشواك+، ألبس قلبي على كمي (أحمل رأسي فوق كفي)(44)، في كل بوصة ملك(45)، قدر الطاقة(46)، الإيجاز روح الفطنة(47)،.. وربما كان هذا تلميحاً لنا للاكتفاء بهذا القدر. هذا إلى جانب ألف مجاز واستعارة قد نفيد منها "قد نرى الأشرعة نحمل وينتفخ بطنها بالريح الفاجرة(48)". كما أن هناك قطعاً بأكملها تكاد تكون مألوفة بنفس القدر، مثل العبارات: آنية أزهار أوفيليا المضطربة، أنطوني أمام جثة قيصر، كليوباترا تحتضر، لورزنزو على موسيقى الكون، كما أن هناك ذخيرة من الأغاني: "من هي سيليفيا(49)"؟، "هارك! القبرة تغرد على باب السماء(50)"، "أبعدوا، أبعدوا هذه الشفاه عني(51)"، وربما حضر جمهور نظارة شكسبير من أجل هذه الزخارف، ومن أجل القصص معاً.
"إن الخيال ليتمثل المجنون والعاشق والشاعر منضمين في صورة واحدة(52)"، واجتمع في شكسبير اثنان من هؤلاء، وربما مس الثالث مساً. إنه ليخلق في كل رواية عالماً، ولا يقنع بهذا، فيملأ الإمبراطوريات والغابات والمروج المتخلية بسحر صبياني، وجن سريع العدو، وسحرة مرعبين وأشباح. وإن خياله ليجعل أسلوبه الذي يفكر بالصور، يحول كل الأفكار إلى صور، وكل التجريدات إلى أشياء محسوسة أو مرئية. فمن غير شكسبير (وبترارك) كان يمكنه أن يجعل روميو، وقد نفي من فيرونا، يتميز غيظاً وحقداً، لأن قططها وكلابها قد تحدق النظر إلى جولييت، على حين لا يباح له هذا؟ ومن غير شكسبير (اللهم ألا بليك) كان يستطيع أن يجعل الدوق المطرود في رواية "على هواك"، يأسف لأنه لا بد أن يعيش على صيد حيوانات هي في الغالب أجمل من الإنسان؟ لا عجب أم روحاً قوية بكل معاني الكلمة، لا بد أن تكون قد انفعلت انفعالاً شديداً بالقبح والكآبة والجشع والقسوة والشهوة والألم والحزن، مما بدا في بعض الأحيان أنه يشيع في النظرة الشاملة إلى العالم.
ولم يؤت شكسبير من الأصالة في الفن المسرحي إلا أقلها، لقد عرف، بوصفه رجل المسح، أفانين مهنته. فبدأ رواياته بمشاهد أو ألفاظ تشد انتباه جمهور المشاهدين الذين يقضمون البندق ويلعبون الورق ويحتسون الجعة ويتبادلون النظرات الغرامية مع النساء. وأفاد أكبر فائدة من "أدوات" المسرح في عهد إليزابث وآلاته. ودرس رفاقه التمثيل وخلق الأدوار الملائمة لخصائصهم الجسمية والذهنية. واستخدم كل حيل التنكر والتعرف، وكل تغييرات المناظر، وكل تعقيدات رواية داخل رواية. ولكنه، مع مهاراته الفنية، لم يتفاد آثار العجلة والتسرع. فإن الحبكة داخل الحبكة قد تشطر القصة إلى اثنتين أحياناً، فماذا كان شأن كارثة جلوستر بكارثة لير؟ فكل القصص تقريباً تنقلب إلى مصادفات بعيدة الاحتمال، وهويات خفية، ورؤى ملائمة إلى حد بعيد، وقد يطلب منا بحق أن نؤمن بالمسرحية كما نؤمن بالأوبرا، من أجل القصة أو الأغنية، ولكن يجدر بالفنان أن يحصر في أقل الحدود "البناء القائم على غير أسا" لحلمه، أو اختلاقه دون مبرر. وأقل من هذا أهمية تناقضات الزمن والخلق(53)، ويحتمل أن شكسبير الذي فكر في سرعة الإنتاج. لا في نشر الدقيق، قدر أن هذه العيوب والأخطاء قد تمر دون أن يلحظها أحد من الجمهور المتأثر، وإن المعايير القديمة والذوق الحديث لتنكر العنف الذي يصطبغ به مسرح شكسبير، وهذا امتياز آخر منح لشاغلي المقاعد الرخيصة، ومحاولة لمواجهة مدرسة "القتل والذبح" عند المسرحيين في عهد إليزابث وجيمس الأول.
ولما أخذ شكسبير بأسباب النمو والتطور، عوض عن العنف بالدعابة والمرح، وتعلم الفن الشاق، فن تكثيف المأساة بالترويح الفكاهي. وكانت الروايات الهزلية (الملهيات) القديمة ذكاء وبراعة ودعابة غير مجسمة، والروايات التاريخية القديمة ثقيلة مملة حيث كان يعوزها المرح والدعابة، وفي مسرحية هنري الرابع تعاقبت المأساة والملهاة على التوالي، ولكنهما لم تتكاملا تكاملاً تاماً. ولكن التكامل تحقق في هملت، وتبدو الدعابة فيبعض الأحيان بذيئة أكثر مما ينبغي، ولا بد أن سوفوكليس وراسين كانا يشمئزان من النكات التي تدور حول غازات بطن الإنسان(54) أو تبول الخيل(55). وإن نكتة جنسية لهي أكثر استساغة لدى الذوق الحديث. ودعابة شكسبير، بصفة عامة، بهيجة ودية، بعكس البغض الوحشي للجنس البشري عند سوفيت، فقد أحس شكسبير بأن العالم يكون أفضل بوجود مهرج أو اثنين، واحتمل المهرجين في صبر وأناة، وشارك الرب رأيه في أنه ليس ثمة فرق كبير بينهم وبين الفلاسفة الذين يفسرون العالم.
وإن أعظم مهرجيه لينافس هملت، وهو أسمى وأروع ما أنجزه شكسبير، في خلق أشخاص الرواية- وهذا أشق اختبار يواجهه المؤلف المسرحي. إن ريتشارد الثاني وريتشارد الثالث، وهو تسبير، رولزي وجونت وجلوستر وبروتس وأنطوني ليبعثون من زوايا النسيان في التاريخ إلى حياة ثانية. وليس هناك في المسرحية اليونانية، ولا حتى في بلزاك، أشخاص خياليون أسبغ عليهم مثل هذه الشخصية المتماسكة والقوة والحيوية. وكانت أصدق الشخصيات التي خلقها هي تلك التي تبدو فقط متناقضة، بسبب تعقيدها- فالملك لير قاس ثم رقيق رؤوف، وهملت دائم التفكير متهور، شجاع. والشخصيات في بعض الأحيان بسيطة إلى حد كبير-ريتشارد الثالث مجرد خسة ونذالة، وتيمون مجرد شك وسخرية وتهكم، وياجو مجرد كراهية. وتبدو بعض النساء في مسرحيات شكسبير، وكأنهن اقتطعن من نفس العجينة-بياتريس روزالند، كورديليا وديدمونة، ميراندا وهرميون- وإنهن يفقدن الحقيقة والواقع، ثم في بعض الفترات، تبعثهن بضع كلمات قليلة إلى الحياة، من ذلك أن أوفيليا، حين يبلغها هملت أنه لم يكن يحبها في يوم من الأيام، تجيبه دون اتهام مضاد، ولكن في بساطة حزينة مؤثرة: "كنت أنا المخدوعة أكثر". إن الملاحظة والإحساس والتشخيص وتفتح الحواس المدهش، ونفاد البصيرة والانتقاء الرشيق للتفاصيل الهامة المميزة، والذاكرة المتماسكة- كل هذه تأتي جميعها معاً لتعمر المدينة الحية بالأموات أو الأنفس الخيالية، أو في مسرحية بعد أخرى تنمو هذه الشخصيات إلى الحقيقة والواقع والتعقيد والعمق، حتى ينضج الشاعر في هملت ولير إلى فيلسوف. وتصبح مسرحياته أدوات متألقة للفكر.
5- فلسفة شكسبير
"ألك أية فلسفة، أيها الراعي(56)؟" هكذا يسأل تتشستون Toutchstone الراعي كورين (في رواية "على هواك") ونحن بدورنا نوجه هذا السؤال إلى شكسبير. ويجيب أحد منافسيه المعترف بهم على السؤال بالنفي(57). وإنا لنقبل هذا الحكم، كما قصده برنادشو- ليس لدى شكسبير ميتاً فيزيقاً (فيما وراء الطبيعة) ولا فكرة عن الطبيعة النهائية للحقيقة، ولا نظرية عن الإله. وكان شكسبير أعقل من أن يذهب إلى أن أي مخلوق يستطيع تحليل خالقه، أو أنه حتى عقله المرتكز على قطعة لحم، يمكنه أن يدرك الكل. أي هوراشيو، إن في السماء والأرض لأشياء أكثر مما تحلم به في فلسفتك(58)). وإذا راوده خاطر احتفظ به لنفسه، ومن ثم أثبت به أنه فيلسوف. وهو يتحدث دون اكترث أو إجلال للفلاسفة المشهود لهم، ويشك في أن واحداً منهم احتمل يوماً ألماً في أسنانه صابراً متجلداً(59). وهو يسخر من المنطق، ويؤثر عليه نور الخيال، وهو لا يعرض أن يفك طلاسم الحياة أو العقل، ولكنه يشعر بها ويبصر بها بقوة تزري بإفتراضاتنا أو تعمقها. وإنه ليقف بعيداً، ويرقب أصحاب النظريات يدمر بعضهم بعضاً، أو يتفسخون ويتحللون في غمرات الزمان. وإنه ليخفي نفسه في شخصياته، وليس من اليسير أن تعثر عليه، ويجدر بنا أن نحذر نسبة أي رأي إليه، إلا إذا عبر عنه في شيء من التوكيد اثنان على الأقل من مخلوقاته (شخوص مسرحياته). وإنه، لأول وهلة، عالم نفساني، أكثر منه فيلسوف، ولكنه كذلك ليس نظرياً، بل على الأرجح، مصور فكري عقلي، يضع يده على الأفكار الخفية والأفعال العرضية التي تكشف عن طبيعة الإنسان. ومهما يكن من أمر، فانه ليس واقعياً سطحياً، فان الأشياء لا تقع، والناس لا يتكلمون، وفي الحياة، كما يحدث في رواياته، ولكننا في النهاية نحس من خلال هذه الأشياء البعيدة الاحتمال وهذه المغالاة. أننا نقترب من لب الإنسانية والفكر الإنساني، وإن شكسبير ليعلن جيداً، مثل شوبنهور "أن العقل يقود الإرادة(60) وانه ليعتنق مذهب فرويد اعتناقاً كاملاً، حين يورد قصائد الجنس على لسان العذارى، لسان أوفيليا المخبولة التي تتضور جوعاً، ويذهب فيما وراء فرويد إلى دوستوفسكي في دراسة ماكبث ونصفه "الرديء" (زوجته). وإذا فسرنا الفلسفة، لا على أنها علم ما وزراء الطبيعة- الميتافيزيقيا، بل على أنها رسم متطور لأحوال الإنسان، أو نظرة تعميمية، لا للكون والعقل وحدهما، بل للأخلاق والسياسة والتاريخ والعقيدة كذلك- نقول إذا فسرنا الفلسفة على هذا الأساس، لكان شكسبير فيلسوفاً أعمق من بيكون، مثلما أن مونتاني أعمق من ديكارت، فليس الشكل هو الذي يصنع الفلسفة. إنه ليقر النسبية في الأخلاق "ليس ثمة شيء حسن أو رديء، ولكن التفكير هو الذي يجعله كذلك(61)". "وإن فضائلنا لتخضع لتفسير الزمن(62). وأنه ليحس بلغز مذهب الجبرية (القضاء والقدر) المحير في أن بعض الناس أشرار بالوراثة "على حين أنهم غير مذنبين، طالما أن الأخلاق لا تستطيع أن تختار أصلها أو منشأها(63)". وإنه ليعرف نظرية ثراسيماخوس (فيلسوف سفسطائي إغريقي في القرن الخامس ق.م.) في الأخلاق: فيعتقد ريتشارد الثالث أن "الضمير ليس إلا كلمة يستخدمها، الجبناء ابتكرت، أول ما ابتكرت، لتلقي الرعب في قلوب الأقوياء، فلتكن سواعدنا المفتولة هي ضميرنا، ولتكن أسيافنا قانونا(64)". أما ريتشارد الثاني فيقرر "أن أجدر الناس بالتملك هم أولئك الذين يعرفون أقوى السبل وأكثرها ضماناً للكسب(65)". ولكن هذين الشخصين الذين اتبعا نيتشه باءا بخاتمة محزنة. ويلحظ شكسبير، أيضاً خلق الأرستقراطية الإقطاعية الذي يتمسك بالشرف، ويصفه بعبارات عظيمة، ولكنه يستنكر (كما ورد على لسان المهرج هتسيبر) نزوعه إلى الزهو والعنف، و"سوء السلوك والحاجة إلى ضبط النفس(66)". أما الأخلاق عنده هو، فتقوم في النهاية على اعتدال ارسطو وضبط النفس عند الرواقيين. وكان الاعتدال والتعقل الموضوع الرئيسي في حديث يوليسيوز الذي أنب فيه أجاكس وأشيللس(67)، ومهما يكن من أمر، فان العقل وحده لا يكفي، ولا بد أن يدعمه خيط من توجيه الرواقيين:
على المرء أن يحتمل
ذهابه هناك قدر احتماله قدومه هنا
والنضج هو كل شيء(68).
والموت أمر يمكن التجاوز عنه ما دمنا قد حققنا أنفسنا. وشكسبير يؤيد أبيقور كذلك، ولا يسلم بتناقضات فاصلة بين اللذة والحكمة، ويرد على البيوريتانيين بشدة فيورد على لسان الخادمة ماريا قولها لمالفوليو: "اذهب وهز أذنيك(69)" أي "أنت جحش". وهو متسامح، مثل البابا، في خطايا الجسد، ويجري على لسان لير المجنون أنشودة مرحة صاخبة للاتصال الجنسي(70).
أما فلسفته السياسية فتتسم بروح المحافظة. وأدرك آلام الفقراء، وجعل لير يرددها في إحساس عميق. ولحظ صياد سمك في "بركليز" (1609؟) أن الأسماك تعيش في البحر:
مثلما يعيش الإنسان على الأرض- تأكل كبارها صغارها، ولا يمكن أن أقارن أغنيائنا البخلاء، مقارنة سليمة، ألا بالحوت، يلعب ويلهو ويسوق صغار السمك المسكين أماه، وفي النهاية يلتهمه دفعة واحدة، ولقد سمعت عن مثل هؤلاء الحيتان على الأرض، لا يفتئون يفغرون أفواههم حتى يبتلعوا الأبرشية بأسرها، والكنيسة، والبرج، والأجراس، وكل شيء(71)".
ويحلم جنزالوا في "العاصفة" بشيوعية فوضوية "يكون فيها كل ما تنتجه الطبيعة ملكاً مشاعاً"، ولا يكون فيها قوانين ولا قضاة أو حكام ولا عمال ولا حرب(72). ولكن شكسبير يهزأ بهذه "المدينة الفاضلة"- يوتوبيا- لأن طبيعة الإنسان تجعل من المستحيل قيامها. ولا بد، في ظل أي دستور، من أن تأكل الحيتان السمك.
وماذا كانت ديانة شكسبير؟. إن البحث عن فلسفته في هذا المجال، بوجه خاص، شاق عسير. فهو من خلال أشخاص مسرحياته يعبر عن كل المعتقدات، في تسامح لا بد أنه كان يحمل البيوريتانيين على القول بأنه كافر. وكثيراً ما استشهد بالكتاب المقدس في إجلال وتقديس، وجعل هملت، المفروض أنه متشكك، يتحدث، عن الإيمان، عن الله والصلاة والسماء والجحيم(73). ولقد عمد شكسبير وأبناؤه وفقاً للطقوس الأنجليكانية(74). وبعض أبياته تنم على بروتستانتية قوية ويتحدث الملك جون عن "الغفران البابوي" على أنه "شعوذة وسحر". وكأنه يستبق هنري الثامن:
... لن يفرض قسيس إيطالي
دفع العشور أو يقرع الناقوس في أرضنا،
ولكن، كما أننا نرفع الرأس عالياً تحت السماء،
فستكون لنا السيادة العظمى في وجود الله العلي العظيم،
حيث نملك ونحكم، ونثبت الملك وحدنا،
هكذا أنبئوا البابا، مع كل الاحترام
له ولسلطانه المغتصب(75).
على أن جون، بطبيعة الحال، يكر عن خطيئته، آخر الأمر. وثمة رواية بعد هذه، هي "هنري الثامن"، اشترك شكسبير في جزء منها فقط، تزودنا بصور مؤيدة لهنري وكرانمير (أسقف كنتربري)، وتنتهي بمديح إليزابث- وكلهم كبار مهندسي الإصلاح الديني في إنجلترا. وثمة مسحة كاثوليكية، مثلما جاء في تصوير كترين- أراجوان والراهب لورنس، بشكل فيه تعاطف(76)، ولكن الشخصية الأخيرة كانت قد جاءت إلى شكسبير، كما شكلت في أخبار الكاثوليك الإيطاليين.
وهناك بعض إيمان باق في الروايات المأساوية. ويظن الملك لير، من فرط ما يشعر به من مرارة: إننا بالنسبة للآلهة، مثل الذباب بالنسبة للأطفال الأشقياء يقتلونه من أجل اللهو واللعب(77). ولكن إدجار الطيب يرد على ذلك بقوله "ولكن الآلهة عدول، وإنهم ليتخذون من رذائلنا السارة أدوات لتعذيبنا(78)"، كما يؤكد هملت إيمانه "باله يشكل نهايتنا ويقطعها دون صقل كيف ما نشاء(79).." وعلى الرغم من الإيمان الذي يصطرع في النفوس، بعناية إلهية تتصرف معنا تصرفاً عادلاً، هناك في أعظم روايات شكسبير من عدم الإيمان بالحياة نفسها، فان جاك (أحد أتباع الدوق المطرود في رواية على هواك.) لا يرى في "العصور السابقة" للإنسان شيئاً إلا كان بطيء النمو سريع العطب. ونسمع مثل هذه "اللازمة" في رواية الملك جون:
الحياة مملة مثل حكاية تروى مرتين
فترهق الأذن الثقيلة لرجل نعسان(80).
وفي ذم هملت للدنيا:
تباً لها آه، تباً لها، إنها حديقة ملأى بالأعشاب الضارة.
التي تنمو وتتكاثر، وكل شيء يحدث ويكبر في الطبيعة،
نمتلكه فحسب(81).
وفي ماكبث:
إنطفئي، أيتها الذبالة القصيرة!
ليست الحياة إلا خيالاً عابراً،
أو هي أشبه بممثل مسكين يختال ويضيع وقته فوق المسرح،
ثم لا يعود يسمع له صوت، إنها حكاية
يرويها معتوه، تعج بالضجيج والعنف،
ولكنها لا تعني شيئاً(82).
وهل ثمة شيء من فكرة الخلود يخفف من حدة هذا التشاؤم؟ إن لورنزو- بعد أن وصف لجسيكا موسيقى النجوم، يضيف أن "مثل هذا التناغم أو الانسجام موجودة في النفس الخالدة.(83). وتخيل كلوديو في رواية Measure For Measure حياة آخرة، ولكن بالشكل القائم في جحيم دانتي أو مثوى الموات:
آه ولكنا نموت، ونذهب إلى حيث لا ندري،
ونرقد في حفرة باردة بعيدين عن الأنظار، ونتعفن،
وتتحول الحركة الدائبة المحسوسة إلى كتلة من طين معجون،
وتستحم الروح المرحة في بحار من نار، أو تسكن
في صقع متماوج من جليد متراكم تراكماً كثيفاً
أو تسجن في الرياح غير المنظورة
التي تهب في عنف لا يهدأ حول
العالم المتدلي.... أن هذا شيء بالغ الرهبة(84).
وتحدث هملت عرضاً عن النفس، على أنها خالدة(85). ولكن مناجاته لا تؤكد أية عقيدة أو إيمان. وكلماته على فراش الموت في النسخة القديمة "فلتستقبل السماء نفسي"، غيرها شكسبير إلى أن الراحة هي السكون (الموت).
ولسنا نستطيع أن نقول، على وجه التحقيق، كم من هذا التشاؤم، جاء نتيجة لمتطلبات المسرحية المأساوية. وكم منه كان يعبر عن حالة شكسبير النفسية، ولكن تكراره وتوكيده يوحيان بأنه- أي التشاؤم- عبر عن أحلك مراحل فلسفته. وإنما كان التخفيف الوحيد الذي جاء في الروايات التي توجت أعماله، كان اعترافاً حائراً متردداً بأنه يوجد هناك وسط رذائل هذه الدنيا نعم البركات ومباهج، كما يوجد وسط الأشرار الأوغاد كثير من الأبطال وبعض القديسين، فهناك إلى جانب ياجو وجدت ديدمونه، وإلى جانب جونريل وجدت كورديليا، وإلى جانب إدموند وجد أدجار أو كنت، وحتى في خملت، يهب نسيم عليل من وفاء هوراشيو، ومن رقة أوفيليا وحنانها الموسومين بالحزن والكآبة. وبعد أن يغادر الممثل والكاتب المسرحي المنهوك لندن بما فيها من فوضى ووحشية برغم الازدحام، إلى المروج الخضر والسلوى الأبوية في بيته في ستراتفورد، فلسوف يستعيد الحب الشديد للحياة لدى الإنسان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
6- الرضا والقناعة
ومهما يكن من أمر، فليس ثمة سبب واضح يدعو شكسبير إلى الشكوى من لندن، فقد هيأت له النجاح والهتاف باسمه والثروة. وثمة أكثر من مائتي إشارة ومرجع له، وكلها مؤيدة له وتشيد بذكره، في الأدب الباقي من عصره. وفي 1599 أورد كتاب فرانسيس ميرز "خزانة المفكرين الموهوبين"، سدني، سبنسر، دانيل، داريتون، وارنر، شكسبير، مارلو، تشابمان، بهذا الترتيب، على أنهم أقطاب المؤلفين في إنجلترا، ووضع شكسبير على رأس الكتاب المسرحيين(86). وفي نفس العام أعلن ريتشارد بارنفيلد-وهو شاعر منافس-أن أعمال شكسبير (التي لم يكن أفضلها قد ظهر بعد) قد وضعت اسمه في "سجل الشهرة الخالدة(87)" وكان محبوباً مألوفاً حتى عند منافسيه. وكان داريتون وجونسون وبوريدج من بين أصدقائه الحميمين. وعلى الرغم من أن جونسون انتقد أسلوبه الطنان، وتساهله الطائش في التأليف، وإغفاله الشنيع للقواعد الكلاسيكية (القديمة)، فان جونسون نفسه، في المقدمة رفع شكسبير فوق كل الكتاب المسرحيين قديمهم وحديثهم، وقرر أنه "ليس فريداً في عصر بعينه، بل في كل العصور" وفي الأوراق التي خلفها جونسون عند موته، كتب يقول "لقد أحببت الرجل... الشبيه بالصنم الذي يحبه الإنسان حباً أعمى(88)". وتحدثنا الأخبار بأن جونسون وشكسبير التقيا في اجتماعات رجال الأدب في حانة مرميد في شارع "Bread Street"، فتعجب فرانسيس بومونت الذي كان يعرف الرجلين كلاهما:
ما هذا الذي رأيناه؟
في مرميد! سمعنا كلاماً يفيض
رقة، ويتقد حرارة
وكأنما جاء كل إنسان من حيث أتى
قاصداً أن يفرغ كل ذكائه وتفكيره في نكتة،
معتزماً أن يقضي، مهرجاً، بقية
حياته البليدة(89).
وقال توماس فولر في كتابه "الشخصيات البارزة في إنجلترا (1662):
كم كانت الحرب الفكرية سجالاً بين شكسبير وجونسون. وإني لأنظر إليهما، وكأنهما سفينة شراعية أسبانية ضخمة وبارجة إنجليزية، ومستر جونسون (وهو كالأولى)، علا كعبه في العلم والمعرفة، وهو راسخ وطيد الأركان، ولكنه بطيء في أداء عمله. أما شكسبير... فهو أقل في البنيان ولكنه أخف حين يمخر عباب الماء، يستطيع أن يتجه حيث يتجه الموج، ويغير اتجاهه حيث يشاء، ويستفيد من كل ريح، بفضل سرعة بديهيته وابتكاره(90).
وتابع أو يرى حوالي 1680 الأخبار المتواترة التي يسهل تصديقها عن شكسبير و"بديهته الحاضرة اللطيفة المتدفقة" وأضاف أنه كان "رجلاً رشيقاً وسيماً لطيف المعشر(91)"، والشبيه الوحيد الموجود له الآن هو التمثال النصفي الموضوع على مقبرته في كنيسة سترتفورد، والصورة الموجودة في "الكتاب الأول"، وهما يتفقان إلى حد كبير في إبراز رجل نصف أصلع، ذي شارب، و(في التمثال) ذي لحية، وأنف حاد، وعينين متأملتين، ولكنهما لا تبديان أية إشارة إلى الشرر الذي يتقد في الروايات. وربما ضللتنا الروايات فيما يتعلق بأخلاقه، فإنها توحي برجل ذي طاقة عصبية، شديد الحساسية، سريع الانفعال، يتذبذب بين قمتي الفكر والشعر، وشفيري الكآبة واليأس، على حين يصفه معاصروه بأنه مهذب أمين لا تأخذه العزة بالإثم، ذو طبيعة صريحة منطلقة(92)"، يستمتع بالحياة ولا يأبه بالنسل، تبدو عليه مسحة من الروح العملية التي لا تلائم الشاعر. وسواء كان عن طريق الاقتصاد في الإنفاق أو عن طريق المنح والهبات، فإنه كان بالفعل في 1598 ثرياً إلى حد يسمح له بالمشاركة في تمويل "مسرح جلوب". وفي 1608 شيد هو وستة آخرون مسرح The Black Friars وزادت أنصبته في مثل هذه المشروعات من عائداته بوصفه ممثلاً وكاتباً مسرحياً، وعادت عليه بدخل كبير، اختلف تقديره بين 200(93) و600(94) جنيه سنوياً. ويبدو أن الرقم الأخير أصلح لأنه يفسر لنا شراءه للعقارات في ستراتفورد.
ويقول أوبري إن شكسبير "تعود أن يزور مسقط رأسه مرة كل عام(95)". وتوقف أحياناً على الطريق في أكسفورد، حيث كان جون دافنانت يدير نزلاً، وكان سير وليم دافنانت (شاعر البلاط 1637) يحب أن يوحي بأنه نتيجة غير مقصودة لتخلف شكسبير في هذا النزل(96). وفي 1597 اشترى الكاتب المسرحي "البيت الجديد"New Place بستين جنيهاً، وكان ثاني أكبر بيت في ستراتفورد، ومع ذلك ظل يقطن لندن. ومات أبوه في 1601 تاركاً له منزلين في شارع هملي في ستراتفورد، وبعد ذلك بعام واحد، اشترى 127 فداناً من الأرض بالقرب من المدينة، بثمن قدره 320 جنيهاً، ويحتمل أنه أجر هذه الأرض لمستأجرين مزارعين وفي 1605 بمبلغ 440 جنيهاً أسهماً في العشور الكنسية المرتقبة في ستراتفورد وثلاث دوائر أخرى. وفي إثناء انشغاله بكتابة أعظم رواياته في لندن، كان معروفاً في ستراتفورد بأنه رجل أعمال ناجح، أساساً، مشغول في الغالب بالتقاضي من أجل ممتلكاته واستثماراته.
وكان ابنه هامنت قد توفي في 1597. وفي 1607 تزوجت ابنته سوزانا من جول هول. وهو طبيب مشهور في ستراتفورد، وبعد عام واحد جعلت من الشاعر جداً، ومن ثم روابط جديدة تشده إلى مسقط رأسه. وحوالي 1610 هجر لندن واعتزل المسح، وآوى إلى "البيت الجديد". ومن الواضح أنه كتب هناك "Cymberline" (1609؟) و"قصة الشتاء" (1610؟) و"العاصفة" (1611؟). لم يكن لاثنتين من هذه الروايات كبير قيمة. ولكن "العاصفة" تظهر أن شكسبير لا يزال يحتفظ بكل قواه. فهنا ميراندا التي تكشف منذ البداية عن طبيعتها، حين تشاهد من الشاطئ غرق سفينة فتصرخ "أوه لقد تألمت مع هؤلاء الذين رأيتهم يتألمون(97)". وهنا كاليبان الذي يرد به شكسبير على روسو. وفيها أيضاً بوسبيو الساحر الرقيق الفؤاد الذي يتخلى عن صولجان فنه ويودع دنياه المرحة وداعاً حنوناً، وهناك صدى لاكتئاب الشاعر، في الفصاحة التي لم يعتروها أي وهن في أبيات بروسبيرو:
انتهى الآن مرحنا وصخبنا. إن ممثلينا هؤلاء
صفحة رقم : 9488
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلترا -> وليم شكسبير -> الرضى والقناعة
كما تنبأت لكم، كانوا أرواحاً،
ذابت في الهواء، في الهواء الرقيق،
ومثل كيان هذه الرؤيا الواهن القائم على غير أساس
تكون الأبراج التي يتوجها السحاب والقصور الشامخة
والمعابد الهيبة، والأرض التاسعة نفسها،
نعم، وكل ما نرثه سوف يذوب ويفنى،
كما ذبلت هذه الأبهة الفارغة المتهافتة،
لا تتركوا مصدراً للألم وراءكم، إننا مصنوعون
من نفس المادة التي تصنع منها الأحلام، وحياتنا قصيرة
يحف بها النوم(98).
ولكن ليست هذه هي الحالة النفسية الغالبة الآن، بل على النقيض من ذلك فالرواية هي شكسبير يسترخي ويستجم، ويتحدث عن الغدران والأزهار، ويشدو بأغنيات عذبة، "Where the bee sucks there suckl, Full fathom five"-وعلى الرغم من كل المعترضين واعتراضاتهم، فان الشاعر الذي تقدمت به السن هو الذي يتحدث على لسان بروسبيرو وهو يودع الحياة:
... إن الأحداث، بأمر مني
أيقظت النيام، فيها، وفتحت أبوابها وأطلقتهم
بفضل فني الفعال. ولكن هذا السحر الشاق
أعد بأن أتخلى عنه هنا... ولسوف أحطم عصاي
وأدفنها بضع أقدام تحت الأرض،
وفي مكان أعمق من أن ترن فيه رصاصة الفادن
سوف أغرق كتابي(99).
وربما كان شكسبير أيضاً، الذي ابتهج ببناته وحفيده هو الذي صاح على لسان ميراندا:
عجباً!
كم من المخلوقات الوسيمة أرى هنا!
ما أجمل بني الإنسان! أيتها الدنيا الجديدة الرائعة
التي يعيش فيها مثل هؤلاء الناس(100)!
وفي فبراير 1616 تزوجت جوديت من توماس كويني. وفي 25 مارس كتب شكسبير وصيته. فترك ممتلكاته لسوزانا، و300 جنيه لجوديت، وأوصى بمبالغ لرفاق التمثيل، و"بسريره الثاني" لزوجته التي كان قد هجرها، وربما كان قد رتب مع سوزانا أن ترعى أمها. وعاشت آن هاثاواي سبع سنوات بعده. وذكر جون وارد قسيس كنيسة ستراتفورد (1662-1681)، أن "شكسبير وداريتون وبن جونسون اجتمعوا في جلسة مرحة، ويبدو أنهم أسرفوا في الشراب، لأن شكسبير مات إثر حمى أصابته بعد ذلك(101) ". وحم القضاء في 23 أبريل 1616، ووري جثمانه التراب تحت الهيكل في كنيسة ستراتفورد، وهناك بالقرب من هذا المكان توجد بلاطة الضريح التي لا تحمل اسماً، وقد نقش عليها عبارة تخليد الذكرى، تنسبها أقوال متواترة محلية إلى شكسبير نفسه:
أيها الصديق الكريم، بحق يسوع المسيح، تحمل
أن تحفر التراب الذي يحيط بهذا المكان،
وليبارك الله الرجل الذي يحافظ على هذه الأحجار،
ولعنة الله على من ينقل عظامي.
7- بعد موت الشاعر
ومبلغ علمنا، أن شكسبير كان قد اتخذ خطوات لنشر رواياته. وطبعت الروايات الست عشرة التي كثيراً ما ظهرت في حياته، وواضح أن هذا دون تعاون منه، في قطع الربع عادة، وعلى درجات متفاوتة من حيث التحريف في النص. وأثارت هذه القرصنة والإنتحالات اثنين من زملاءه السابقين: جون همنج وهنري كوندل، فأصدر في 1623 "الكتاب الأول"، وهو مجلد من القطع الكبير به نحو 900 صحيفة على نهرين، يضم النص الموثوق لست وثلاثين رواية. وجاء في تصدير الكتاب "إننا لم نفعل إلا أن أدينا خدمة للراقد تحت التراب، ولم نبغ من وراء ذلك ربحاً لنا أو شهرة، بل نهدف إلأى تخليد ذكرى صديق عظيم ماثل بيننا... شكسبير" وكان يمكن شراء المجلد آنذاك بجنيه واحد. أما النسخ الباقية حتى الآن؛ وعددها مائتان تقريباً، فتقدر قيمة الواحدة منها بسبعة عشر ألفاً من الجنيهات، أي أغلى قيمة من أي كتاب آخر، باستثناء إنجيل جوتنبرج.
وتأرجحت شهرة شكسبير بشكل عجيب من حين لآخر. ففي 1630 امتدحه ملتون وقال "شكسبير الأعز، ثمرة الذوق والفن". ولكن على عهد البيوريتانيين، حين أغلقت المسارح 1642-1660، جبت شهرة الشاعر، وعادت بعودة الملكية. وفي الصورة التي رسمها فان ديك لسير جون سكلنج (والمحفوظة بقاعة فريك في نيويورك)، ترى سكلنج يمسك "بالكتاب الأول" مفتوحاً على رواية هملت. ويمتدح دريدن، معجزة أواخر القرن السابع عشر، شكسبير على أنه "من بين الشعراء الحديثين، وربما القدامى أيضاً، أعظم نفس وأوسعها إدراكاً.. وكان دوماً عظيماً إذا عرضت له مناسبة عظيمة" ولكن "كثيراً ما انحط فنه الهزلي (الملهاة) التافه الفاتر إلى فن مرهق ثقيل تضيق النفوس به ذرعاً، كما انحط تمثيله الجاد إلى مجرد كلام منمق طنان(102)..." وذكر جون افلين في مفكرته (1660) "أن الروايات القديمة تثير اشمئزاز هذا العهد المهذب، حيث أن صاحب الجلالة عاش طويلاً في الخارج" ويقصد بهذا أن شارل الثاني والملكين العائدين جلبوا معهم إلى إنجلترا المعايير المسرحية من فرنسا، وسرعان ما أخرج المسرح بعد عودة الملكية أشد الروايات دعارة وفجوراً في الأدب الحديث، وظلت روايات شكسبير تمثل، ولكن عادة، بعد تعديلها بمعرفة دريدن أو أتواي Otway أو غيرهما ممن يمثلون ذوق "عودة الملكية".
وأعاد القرن الثامن عشر روايات شكسبير إليه. فنشر نيقولا رو (1709) أول طبعة إنتقادية وأول سيرة حياة للشاعر. وأصدر بوب وجونسون طبعات وتعليقات. أما بترتون وجاريك وكمبل، والممثلة ساره سيدونز فقد جعلوا شكسبير معروفاً مألوفاً محبوباً بشكل لم يسبق مثيل على المسرح. وفي 1778 خلد توماس بودلر Bowdler اسمه هو نفسه بنشر. نسخة مهذبة حذف منها "كل ما ينافي الحشمة والفضيلة، مما لا يمكن قراءته جهراً في الأسرة". وفي أوائل القرن التاسع عشر احتضنت الحركة الرومانتيكية شكسبير، وحولته مبالغات كولردج وهازلت ودي كوينسي وتشارلز لام إلى معبود قبلي.
واعترضت فرنسا-فما جاءت سنة 1700 حتى كان رونسار وماليرب وبوالو قد شكلوا معاييرها الأدبية وفق التقاليد اللاتينية، من حيث التراتيب والشكل المنطقي والذوق الهذب والتحكيم العقلاني. وكانت فرنسا قد أقرت، في أعمال راسين الكلاسيكية في المسرحية. وقد أزعجها وعكر صفوها شكسبير بتلاعبه الفارغ بالألفاظ، والسيل الجارف من العبارات، وعواصفه العاطفية، ومهرجيه الأفظاظ، وجمعه بين الملهاة والمأساة. وعندما عاد فولتير من إنجلترا (1729) أتى معه ببعض التقدير لشكسبير، فهو يقول "أظهرت الفرنسيين لأول مرة على بعض اللآلئ التي عثرت عليها بين الأكداس الهائلة(103)". ولكن إذا وضع أحدهم شكسبير في مرتبة أعلى من راسين، انبرى فولتير للدفاع عن فرنسا بقوله "إن شكسبير همجي محبوب"(104). وفي القاموس الفلسفي (1765) أجرى فولتير بعض التعديل "إن لهذا الرجل نفسه قطعاً تلهب الخيال وتنفد إلى القلب...... لقد أدرك هذه المنزلة من الرفعة والسمو دون أن يسعى إليها(105)" وساعدت مدام دي ستاي (1804) وجيزو (1821) وفيلمين (1827)-ساعدوا فرنسا على الاصغاء لشكسبير في أناة وصبر. وأخيراً فان ترجمة الروايات إلى نثر فرنسي جيد، تلك الترجمة التي قام بها فرنسوا بن فيكتور هيجو أكسبت شكسبير احترام فرنسا له، ولو أنه لم يصل إلى مستوى الإعجاب القلبي المخلص الذي أسبغته على راسين.
وكان حظ الشاعر من الطباعة أسعد في ألمانيا، حيث لم ينافسه كاتب مسرحي محلي. فإن الكاتب المسرحي الألماني العظيم الأول جوتهلد لسنج، هو الذي أنبأ مواطنيه (1759) بأن شكسبير يسمو على كل الشعراء القدامى والمحدثين، وأيده في هذا هردر. ورفع أوجست فون سكلجل ولودفيج تيك وغيرهما من زعماء المدرسة الرومانتيكية راية شكسبير، وأسهم جيته بمناقشة حماسية عن هملت في "قاعة ولهلم" (1796)(106). وأصبح شكسبير معروفاً محبوباً على المسرح الألماني، وانتزع العلماء الألمان من إنجلترا مقام الصدارة، في دراسة حياة شكسبير ورواياته وتوضيحاته.
ويتعذر التقدير الموضوعي أو المقارنة الموضوعية على هؤلاء الذين شبوا وترعرعوا وهم ينشقون عبير شكسبير. فان الذي يعرف لغة الإغريق على عهد بريكليز وعقيدتهم وفنهم وفلسفتهم، هو وحده الذي يحس بالمسرحية المأساوية الديونيسية وسموها الذي لا مثيل له، وبساطتها الواضحة، وبالمنطق القوي في بنيانها، وبضبط النفس الباعث على الفخر في القول والفعل، وبالشرح الذي يهز النفوس في ترانيم مجموعة المغنين فيها، وبالمغامرة النبيلة في مشاهدة الإنسان من زاوية مكانه وقدره في الكون. كما إن الذي يعرف اللغة الفرنسية والخلق الفرنسي، وخلفية "القرن الأعظم" (السابع عشر) يمكنه وحده أ يحس، في روايات كورني وراسين-لا مجرد عظمة الشعر وموسيقاه فحسب-بل يحس كذلك بالجهد البطولي للعقل في إثارة العاطفة وبعث الانفعال، والتمسك الحكيم الرزين بالمعايير الكلاسيكية العسيرة، وتركيز المسرحية في بضع ساعات تشد فيها الأعصاب، لتلخيص حياة الإنسان والفصل فيها، كذلك فان الذي يعرف اللغة الإنجليزية، في كمالها أيام إليزابث، ويتعمق ويجد لذة واستمتاعاً في البلاغة والأغاني والتراشق في عهد إليزابث، ولا يغل المسرح عن أن يعكس صورة الطبيعة ويحرر الخيال، نقول إن هذا وحده هو الذي يستطيع أن يهيئ لروايات شكسبير ما تستحقه من تقدير وترحيب قلباً وقالباً. ولكن مثل هذا الرجل لا بد أن يرقص طرباً لروعة لغتها، ويهتز من الأعماق وهو يتابع ويسير غور الفكر فيها، تلك هي الفترات الثلاث التي نعمت بموهبة المسرحية في العالم. ويجدر بنا، على الرغم من عجزنا، أن نرحب بها جميعاً من أعماقنا، شاكرين لتراثنا من الحكمة الإغريقية، ومن الجمال الفرنسي، ومن الحياة في عصر إليزابث.