قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 1 ف 14

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع عشر: غزو البحر 1492 - 1517

1- كولمبس

لقد كان "قدراً ظاهراً" أن يجرؤ امرؤ في هذا العصر على اقتحام مخاطر الأطلنطي ليكتشف الهند أو "كاثي" إذ تحدثنا الأسطورة عن وجود "أطلانتس" عبر البحر بل إن الأساطير المتأخرة ذهبت إلى وجود نبع وراء الأطلنطي تنمح مياهه الشباب الدائم. وأدى فشل الحملات الصليبية إلى ضرورة كشف أمريكا وكانت لسيطرة الأتراك على شرقي البحر الأبيض المتوسط وما اقترفه العثمانيون في القسطنطينية والأسر الملكية المناهضة للمسيحية في فارس وتركستان من إغلاق الطرق البرية ومنع المرور فيها سببا في جعل الطرق القديمة للتجارة بين الشرق والغرب باهظة التكاليف ومحفوظة بالمخاطر. وتشبثت إيطاليا وفرنسا ببقايا تلك التجارة على الرغم من كل عوامل التثبيط من ضرائب الطرق والحرب ولكن البرتغال وإسبانيا كانتا بعيدتين جدا في الغرب وكان من الصعب عليهما الاستفادة من مثل الاتفاقات وكانت مشكلتهما لا تحل إلا بالعثور على طريق آخر وقد وجدت البرتغال طريقا حول أفريقيا ولم يعد أمام إسبانيا إلا أن تجرب حظها في المرور غرباً.

وقد أدى تقدم المعرفة إلى إثبات كروية الأرض منذ عهد بعيد وشجعت أخطاء العلم ذاتها على الأقدام وذلك بإساءة تقدير عرض المحيط الأطلنطي وبتصوير آسيا على أنها أرض سهلة للغزو والاستثمار في الطرف الأقصى. ولقد وصل البحارة الاسكنديناويون عامي 986 و 1000 إلى لبرادور وعادوا يحملون نبأ العثور على قارة جديدة فسيحة، وزار كرستوفر كولمبس أيسلندا عام 1477، إذا صدقنا القصة التي رواها بلسانه، ومن المسلم به أنه سمع الروايات المأثورة التي تردد في فخر رحلة لايف اريكسونى إلى فنلنده Vindland.

كان المال هو كل ما تحتاجه المغامرة الكبرى وقتذاك أما الشجاعة فكانت متوفرة. وقد سجل كولمبس نفسه في المايورازو mayorazzo أو الوصية التي حررها قبل أن يقوم برحلته الثالثة عبر الأطلنطي أنه من مواليد جنوا. حقا أنه كان في محرراته الموجودة لدينا يتسمى بالاسم الأسباني كريستوبال كولون ولم يستخدم قط اسمه الإيطالي كريستوفورو كولومبو ولكن المعتقد أن هذا كان بسبب كتابته بالأسبانية لأنه عاش في إسبانيا أو لأنه كان يقوم برحلاته البحرية لحساب ملك إسبانيا لا لأنه ولد في إسبانيا. ومن المحتمل أن يكون أجداده أسبانيين من اليهود الذين اعتنقوا المسيحية وهاجروا إلى إيطاليا، والدليل قوي على أن الدم العبري يسري في عروق كولمبس وعلى ميله لليهود. وكان والده نساجا ويبدو أن كريستوفورو امتهن هذه المهنة بعض الوقت في جنوا وسافونا، وقد ورد في الترجمة الذاتية التي كتبها ابنه فرديناند أنه درس التنجيم والهندسة وعلم الكون (الكوزموجرافيا) في جامعة بافيا وإن لم يدرج اسمه في سجلات الجامعة، وها هو يقول لنا بنفسه إنه أصبح بحارا في الرابعة عشرة من عمره لأن كل طريق في جنوا يؤدي إلى البحر.

وهاجم القراصنة عام 1476 سفينة كان كولمبس بها نحو لشبونة وأغرقت هذه السفينة. ويروى أنه سبح ستة أميال حتى وصل إلى الشاطئ مستعيناً ببعض الحطام ولكن يبدو أن أمير البحر العظيم أطلق لخياله العنان إذ يقول إنه سافر بعد بضعة شهور إلى إنجلترا بحارا أو قبطانا ثم سافر إلى آيسلنده فلشبونة وهناك تزوج واستقر واشتغل برسم الخرائط الجغرافية، وكان حموه بحارا خدم الأمير هنري الملاح، وليس من شك أن كولومبوس سمع بعض الحكايات الممتعة عن شاطئ غينيا، ولعله انضم عام 1482 كضابط إلى الأسطول البرتغالي الذي أبحر حذاء هذا الشاطئ إلى مينا، وقرأ باهتمام كتاب البابا بيوس الثاني Historia rerum gestarum "تاريخ الأجناس" وكثيراً من التعليقات مما أوحى إليه بفكرة الطواف بحرا حول إفريقيا.

ولكن دراساته مالت به شيئاً فشيئاً نحو الغرب وعرف أن سترابون روى في القرن الأول من عصرنا محاولة للطواف حول الكرة الأرضية وكان يعلم ما كتبه سينيكا: "بعد سنوات سيأتي عصر يطلق فيه المحيط قيود الأشياء وتظهر أرض فسيحة ويكشف فيه النبي تيفيس عوالم جديدة ولن تكون ثولي (أيسلندة؟) أقصى طرف للأرض"، وقد قرأ "كتاب سير ماركوبولو الذي امتدح ثروات الصين وحدد وضع اليابان على بعد 1500 ميل شرق قارة آسيا. وكتب أكثر من ألف ملاحظة في نسخته من كتاب بيير دالي (صورة العالم) Imago mundi وقبل التقدير الراجح لمحيط الأرض بأنه يبلغ من 18,000 إلى 10,000 ميل ويربط هذا بتحديد بولولمكان اليابان حسب أن أقرب الجزر الأسيوية على بعد 5,000 ميل غرب لشبونة وقد سمع عام 1474 عن خطاب كتبه الطبيب الفلورنسي باولو توسكانيلي لملك البرتغال ألفونسو الخامس عليه بأنه اكتشاف طريق أقصر للهند من الطريق حول أفريقيا وذلك بالسفر بحرا لمسافة 5000 ميل غربا. وكتب كولومبوس إلى توسكانيلي وتلقى منه ردا مشجعا ونضجت الفكرة في ذهنه.

وحوالي عام 1484 عرض على جون الثاني ملك البرتغال أن يجهز ثلاث سفن للقيام بحركة استكشافية لمدة عام عبر الأطلنطي والعودة منها على أن يعين كولومبس أمير بحر أعظم للمحيط وحاكما دائما لكل الراضي التي يكتشفها، وأن يحصل على عشر كل الإيراد والمعدن الثمين الذي تحصل عليه البرتغال من تلك الأراضي (ومن الواضح أن فكرة نشر المسيحية كانت ثانوية بالنسبة للاعتبارات المادية). وقدم الملك العرض إلى لجنة من العلماء فرفضوه على أساس أن تقدير كولومبوس للمسافة عبر الأطلنطي بأنها لا تعدو 2400 ميل أقل بكثير من الحقيقة (كان هذا التقدير صحيحاً تقريباً للمسافة من جزر كاناري إلى جزر الهند الغربية) وعرض ملاحان برتغاليان عام 1485 مشروعاً مماثلاً على الملك جون ولكنهما وافقا على تمويله بنفسيهما فمنحهما جون بركته وهذا أضعف الإيمان، وانطلقا عام 1487 متخذين طريقاً أقرب للشمال تحف به الرياح الغربية الشديدة ثم عادا بخفي حنين. وجدد كولومبوس طلبه عام 1488 فدعاه الملك لمقابلته وأقبل كولومبوس في الوقت المناسب ليشهد العودة الظافرة لبارثولوميودياس من رحلة ناجحة طاف فيها حول أفريقيا. ولما كانت الحكومة البرتغالية تطمع في اكتشاف طريق إلى الهند يمر بأفريقيا فإنها تخلت عن فكرة البحث عن طريق عبر الأطلنطي فتحول إلى جنوا والبندقية ولكنهما بدورهما لم يقدما له أي تشجيع لأن اهتمامهما كان موجهاً لاكتشاف طريق للشرق بالإتجاه شرقاً. وفوض كولمبس أخاه في جس نبض هنري السابع ملك إنجلترا فدعاه إلى مقابلته ولكن عندما وصلت الدعوة إلى كولومبس كان قد وضع نفسه في خدمة أسبانيا. وكان عندئذ (1488) في حوالي الثانية والأربعين من عمره. طويلاً نحيلاً له وجه مستطيل وبشرة حمراء قانية وأنف معقوف وعينان زرقاوان بوجه نمش وشعره أحمر فاتح بدأت تتخلله الشعرات البيضاء ويوشك أن يشتعل شيباً، وقد وصفه ابنه وأصدقاؤه بأنه رجل متواضع، رزين، وديع، فطن، معتدل في طعامه وشرابه، تقي للغاية. وزعم آخرون أنه كان معجباً بنفسه، يعرض الألقاب التي منحت له ويبالغ فيها وأنه رفع أجداده إلى طبقة النبلاء في خياله وكتاباته وأنه ساوم بشدة للحصول على نصيب من ذهب العالم الجديد. ومهما يمن الأمر فإنه كان يستحق أكثر مما طلب. وكان بين الفينة والفينة ينحرف عن العمل بالوصايا العشر فقد حدث في قرطبة أن أنجبت منه بياتريس انكريكيز ولداً غير شرعي عام 1488 وذلك بعد وفاة زوجته. ولم يتزوج منها كولومبس وإن كان قد وفر لها كل شيء في حياته ولم ينسها في وصيته ولما كان معظم علية القوم في تلك الأيام النشيطة قد أنجبوا أبناء من علاقات عارضة فإنه يبدو أن أحداً لم يعر هذا الحادث اهتماماً. وفي غضون ذلك كان قد قدم التماسه إلى إيزابيلا صاحبة قشتالة (أول مايو سنة 1486) فأحالتها إلى جماعة من المستشارين يرأسهم صاحب القداسة رئيس أساقفة طلبيرة. وبعد أن تشاوروا طويلاً قدموا تقريراً ذكروا فيه أن الخطة غير عملية واحتجوا بأن آسيا تقع على مسافة أبعد من ناحية الغرب مما ظن كولومبس ومع ذلك فإن فرديناند وإيزابيلا منحاه راتباً سنوياً قدره 000و12 مارافيدس (840 دولاراً؟) وزوداه عام 1489 بخطاب يأمران فيه كل البلديات الأسبانية بأن توفر له الطعام والمأوى ولعلهما كانا يريدان أن يحتفظا بحق الاختيار بالنسبة لمشروعه لئلا يمنح قارة لملك منافس بطريق المصادفة ولما رفضت لجنة طلبيرة المشروع مرة أخرى بعد أن تداولت بشأن الخطة قرر كولومبس أن يقدم المشروع إلى شارل الثامن ملك فرنسا غير أن فراي جوان بيريز رئيس رهبان دير لارابيدا أثناه عن عزمه ورتب له مقابلة مع إيزابيلا فأرسلت إليه 000و20 مارافيدس لمواجهة نفقات رحلته إلى مقر قيادتها في مدينة سانتافي المحاصرة وذهب هناك واستمعت في رقة إلى حجته ولكن مستشاريها عارضوا الفكرة مرة أخرى فاستأنف استعداداته للذهاب إلى فرنسا (يناير سنة 1492).

وعند هذه المرحلة الحرجة حرك يهودي متنصر سير التاريخ فقد لام لويس دي سانتاندر، وزير مالية فرديناند، إيزابيلا لافتقارها إلى الخيال والعزيمة، وأغراها بأن لها لوح بالأمل في أن تحول آسيا إلى المسيحية وأقترح أن يمول الحملة بنفسه بمعاونة أصدقائه وأيده في فكرته يهود آخرون -دون إيزاك أبرابانل Abrabanel وخوان كابريرو وأبراهام سنيور، وتأثرت إيزابيلا بالفكرة وعرضت أن ترهن جواهرها لرفع قيمة المبلغ المطلوب ولكن سانتاندر رأى أن هذا الإجراء غير ضروري وأقترض مبلغ 000و400و1 مارافيدس من جماعة الرهبان التي كان أميناً لصندوقها وأضاف إليه مبلغ 000و350 من جيبه الخاص كما حصل كولومبس بطريقه ما على مبلغ 000و250 علاوة على ما سبق. وفي السابع من أبريل عام 1492 وقع الملك الأوراق الضرورية ثم أعطى عندئذ أو بعد ذلك لكولومبس خطاباً إلى خان كاثاي، وكان هذا في الصين وليس في الهند التي كان يأمل كولومبس أن يصل إليها والتي ظن حتى لآخر لحظة في حياته أنه قد اكتشفها.

وفي الثالث من أغسطس أبحرت سانتاماريا (سفينة أمير البحر) وبنتا ونينيا Nina من بالوس وعلى ظهرها ثمانية وثمانون رجلاً ومؤن تكفيهم لمدة عام.


2- أمريكا

واتجهوا جنوباً نحو جزر كاناري ينشدون الرياح من الشرق قبل أن يواجهوا الغرب. وبعد إقامة طويلة في الجزر أقدموا على السير في خط مواز لخط عرض ثمان وعشرين (6 سبتمبر) في مكان لا يبعد جنوباً بدرجة تكفي لينعموا بالرياح التجارية ونحن نعلم أنهم لو اتجهوا جنوباً أكثر من ذلك لقصروا المسافة إلى أمريكا وجنبوا أنفسهم ما لاقوه من عناء في طريقهم إليها وكان الطقس لطيفاً وكتب كولومبس في سجل سير السفينة "مثل جو أبريل في الأندلس والشيء الوحيد الذي ينقصنا هو سماع صوت البلابل". واعتراهم القلق ثلاثة وثلاثين يوماً وكان كولومبس يقلل من المخصصات الغذائية التي تصرف لرجاله بنسبة الأميال التي يقطعونها كل يوم ولكن نظراً لأنه بالغ في تقدير سرعته فإن بياناته كانت صحيحة برغم أنفه.

وعندما استمر سكون الرياح غير طريقه وإذ ذاك شعر البحارة، أكثر من أي وقت مضى -بالضياع في خضم البحر وهم يسيرون فيه على غير هدى. وفي التاسع من أكتوبر صعد ربانا السفينتين بنتا ونينيا على ظهر السفينة وطالبا بإلحاح بالعودة فوراً إلى إسبانيا فوعدهما كولمبوس بأنه سيحقق رغبتهما إذا لم يروا الأرض خلال ثلاثة أيام وفي العاشر من أكتوبر تمرد بحارة سفينته ولكنه هدأ من ثورتهم بأن تعهد لهم بنفس الشيء. وفي الحادي عشر من أكتوبر التقطوا من المحيط غصناً أخضر يحمل أزهاراً فعاودتهم الثقة في قائدهم. وفي الساعة الثانية من صباح اليوم التالي والقمر بدر تقريباً صاح روديجودي تريانا القائم بالحراسة (الأرض! الأرض!) أخيراً هاهي الأرض..

وعندما أقبل الفجر رأوا جماعة من الوطنيين العراة على الشاطئ وكلهم معتدلو القامة. واستقل القباطنة الثلاثة قاربا بصحبة رجال مسلحين جدفوا بهم نحو الشاطئ وركبوا وقبلوا الأرض وحمدوا الله وأطلق كولمبس على الجزيرة اسم سان سلفادور المخلص المقدس- واستولى عليها باسم فرديناند وإيزابلا والمسيح. واستقبل المتوحشون مستعبديهم في المستقبل بدماثة المتحضرين. وكتب أمير البحر: "ما دمت قد عرفت انهم قوم يمكن تحريرهم وهدايتهم إلى أبينا المقدس عن طريق الحب لا القهر فلكي نكسب صداقتهم أعطيت لبعضهم قلانس حمراء وللبعض الآخر خرزاً وأشياء أخرى كثيرة تافهة القيمة سرتهم كثيراً. ولقد ظلوا أصدقاء أوفياء لنا وهذه أعجوبة. واقبلوا فيما بعد سابحين إلى قوارب السفينة واحضروا معهم ببغاوات وخيوطاً من القطن... وأشياء أخرى كثيرة فأعطيناهم في مقابلها خرزات صغيرة... وأخيراً تبادلوا معنا كل ما يملكون وهم راضون كل الرضى".

ولعل خبر "المتوحش المسالم السلس" الذي فتن روسو وشاتوبريان وهويتمان قد بدأ عندئذ وفي ذلك المكان ولكن كان من بين الأمور التي عرفها كولمبس عن الجزيرة أن هؤلاء الوطنيين كانوا عرضة لغارات تقوم بها جماعات أخرى من الوطنيين لاسترقاقهم وأنهم أنفسهم أو أسلافهم تغلبوا على أهالي البلد الأصليين. وبعد رسوهم بيومين كتب في يومياته ملاحظة مشئومة: "إن هؤلاء الناس غير حاذقين في استخدام الأسلحة ويمكن إخضاعهم بخمسين رجلا وحملهم على القيام بكل ما يريده المرء". ولكن لم يكن في سان سلفادور للأسف أي ذهب. وفي الرابع من أكتوبر أقلع الأسطول الصغير بحثاً عن سيبانجو-اليابان- والذهب. وفي الثامن والعشرين من أكتوبر رسوا على كوبا وهناك أحسن الأهالي بدورهم التصرف وحاولوا أن ينضموا لضيوفهم في إنشاد (ايف ماريا) وبذلوا جهدهم في رسم علامة الصليب. وعندما عرض عليهم كولمبس الذهب ابدوا له ما يدل على انه سيجد بعضه في نقطة بالداخل أطلقوا عليها اسم كوبانا كان-أي وسط كوبا- واعتقد أنهم يقصدون بهذا الخان العظيم أو خان الصين العظيم فأرسل أسبانيين معهما أوراق اعتماد دبلوماسية ليجدا هذا الحاكم المراوغ وعادا دون أن يلتقيا بالخان وإن كانا قد جاءا بقصة ممتعة عن الحفاوة التي استقبلا بها في كل مكان كما أنهما قدما أول تقرير للأوربيين عن التبغ الأمريكي فقد شاهدوا رجلا وامرأة من الأهالي يدخنان أعشاب التبغ وهي ملفوفة في سيجار أدخلاه في الأنف وغادر كولمبس كوبا وهو يشعر بخيبة الأمل (4 ديسمبر) وأخذ معه عنوة خمسة من الشباب الوطنيين ليقوما بمهمة الترجمة وسبع نساء للترفيه عنهم وقد مات الجميع وهم الطريق إلى أسبانيا.

وفي غضون ذلك كان مارتين الونزوبينزون الربان الأول في أسطول كولمبس قد هجره وانطلق بسفينته لينقب عن الذهب لحسابه الخاص. وفي الخامس من ديسمبر وصل كولمبس إلى هايتي وهناك ظل أربعة أسابيع وهو يلاقي من الأهالي كل الترحيب وحفاوة. وعثر على بعض الذهب وشعر أنه غدا قاب قوسين أو أدنى من الخان ولكن سفينته المعقود لها لواء القيادة اصطدمت بسلسلة من الصخور وحطمتها الأمواج والصخور عشية يوم عيد الميلاد الذي كان قد فكر بالاحتفال به كأسعد يوم في حياته. ومن حسن الحظ أن السفينة نينيا كانت على مقربة منه فأنقذت البحار واقتحم الأهالي الطيبون أمواج البحر في قواربهم للمعاونة في إنقاذ معظم الشحنة قبل أن تغرق السفينة وواسى زعيمهم كولمبس فعرض عليه ضيافته وقدم له الذهب وأكد له أن هناك كمية وفيرة من هذا المعدن القاتل في هايتي. فحمد أمير البحر الله على الذهب وسامحه على تحطيمه لسفينته وكتب في يومياته أنه فرديناند وإيزابلا سيكون عندهما الآن من الأموال ما يكفي لغزو الأرض المقدسة. وتأثر بسلوك الأهالي الحسن فترك قسما من بحارته يتوطنون لارتياد الجزيرة بينما عاد إلى أسبانيا ليقدم تقريراً عن اكتشافاته. وفي السادس من يناير سنة 1493 عاد بنزون وانضم إليه بسفينته بنتا وقبل كولمبس اعتذاره فقد كان يمقت العودة وليس معه إلا سفينة واحدة. وفي السادس عشر من يناير بدأ رحلة العودة للوطن.

كانت رحلة طويلة تعسة فطوال شهر يناير كانت الرياح معاكسة وفي الثاني والعشرين من فبراير هبت ريح عاصفة صفعت السفينتين الصغيرتين ولم يكن طول كل منهما يتجاوز سبعين قدماً وبينما كان كولمبس ورفيقه يقتربان من شاطئ الأزور تخلى عنه بنزون مرة أخرى مؤملاً أن يكون أول من يصل إلى أسبانيا بالأنباء العظيمة عن اكتشاف آسيا وألقت السفينة مراسيها بعيداً عن سانتا ماريا في شاطئ الأزور (17 فبراير) وانطلق نصف البحارة إلى الشاطئ للقيام بالحج إلى مزار للعذراء فاعتقلتهم السلطات البرتغالية وألقت بهم في السجن لمدة أربعة أيام بينما كان كولمبس يتميز غيظا على الشاطئ ثم أطلق سراحهم وأقلعت السفينة نينيا مرة أخرى ولكن عاصفة أخرى دفعتها بعيداً عن طريقها المرسوم ومزقت قلوعها فاغتم البحارة ونذروا أن يقضوا أول يوم يطئون فيه الأرض صائمين على الخبز والماء وأن يعملوا بالوصايا العشر. وفي الثالث من مارس رأوا شاطئ البرتغال وعلى الرغم من أن كولمبس علم أنه كان يخاطر بالوقوع في ورطة دبلوماسية فإنه قرر أن يرسو في لشبونه وفضل هذا على محاولة قطع الأميال المائتين وخمسة وعشرين الباقية للوصول إلى باولوس مستعينا بقلع واحد. واستقبله جون الثاني بحفاوة ورممت السفينة نينيا وفي الخامس عشر من مارس وصلت إلى باولوس بعد "عناء وهول لا حد لهما" (كما قال كولمبس) بعد مرور 193 يوما من مغادرة ذلك الميناء. وكان مارتن بنزون قد رسا شمالي أسبانيا قبل ذلك ببضعة أيام وبعث برسالة إلى فرديناند وإيزابيلا ولكنهما رفضا أن يقابلاه هو أو رسوله ودخلت السفينة بنتا باولوس بعد يوم من وصول السفينة نينيا وفر بنزون يغمره الفزع ويجلله العار الذي جلبه على وطنه ولازم فراشه حتى مات.


3- مياه المرارة

ورحب الملك والملكة بكولومبس في برشلونة وعاش في البلاط ستة شهور وانعم عليه بلقب "أمير البحر الأوقيانوس ويقصد به الأطلنطي غرب شواطئ الأزور". ونصب حاكما على العالم الجديد أو كما وصف نفسه "نائب الملك وحاكم عام الجزر وأراضي آسيا والهند". وعندما شاع أن جون الثاني يجهز أسطولا لعبور الأطلنطي استغاث فرديناند بالبابا ألكسندر السادس. وطلب منه أن يحدد حقوق أسبانيا في "البحر الأوقيانوس"فعين البابا الأسباني، في سلسلة من المنشورات (1493) لأسبانيا ملكية كل الأراضي التي لا تدين بالمسيحية في الغرب، وللبرتغال كل الأراضي في الشرق ويفصل بينهما خط وهمي مرسوم بحيث يمر من الشمال إلى الجنوب على بعد 270 ميلا غرب الأزور وجز الرأس الخضراء ولكن البرتغاليين رفضوا قبول هذا الخط الفاصل وأوشكت الحرب أن تنشب بين الحكومتين المتنافستين لولا أنهما وافقتا في معاهدة تورديسيلاس (7 يونية سنة 1494) على أن يمر ذلك الخط موازيا لخط الزوال الطولي على بعد 250 فرسخا غرب جزر الرأس الخضراء بالنسبة للاكتشافات التي تمت قبل ذلك التاريخ، ولكن على بعد 370 فرسخا غربا بالنسبة للاكتشافات التي تتم بعد ذلك.(يقع الطرف الشرقي للبرازيل شرق هذا الخط الثاني) وقد أطلقت منشورات پييترو شهيد أنگييرا Peter Martyr d'Anghiera رأى كولمبس بأنه قد وصل إلى آسيا واستمر هذا الوهم حتى طاف ماجلان حول الكرة الأرضية.

وقام فرديناند وإيزابيلا يحدوهما الأمل في الحصول على الذهب بتزويد كولومبس بأسطول جديد يتكون من سبع عشرة سفينة مجهزة بألف ومائتي بحار وحيوانات للشروع في تربية قطعان من الماشية والأغنام في جزر الهند وخمس من رجال الدين لتلقي اعترافات الإسبانيين ولهداية "الهنود". وقد بدأت الرحلة الثانية من إشبيلية يوم 25 سبتمبر سنة 1493 وبعد تسعة وثلاثين يوما (مقابل سبعين يوماً في الرحلة الأولى) شاهد الحارس جزيرة أطلق عليها كولمبس اسم "دومينيكا" لأنهم كانوا في يوم الأحد. ولم ينزلوا إلى الأرض هناك لأن أمير البحر اشتم رائحة فريسة أكبر. ومر خلال مجموعة جزر الأنتيل الصغرى في أقصى الغرب وتأثر كثيراً بعدها فأطلق عليها "إحدى عشر ألفاً من العذارى". وهي لا تزال جزراً عذراء وتابع رحلته واكتشف بويرتوريكو، وتمهل هناك قليلا ثم أسرع ليرى ما حدث للمستوطنين الأسبان الذين تركهم في هايتي منذ عشرة شهور فلم يجد منهم رجلا على قيد الحياة، إذ أن الأوربيين طافوا بالجزيرة وسطوا على الذهب الأهالي وسبوا نساءهم وأقاموا فردوسا استوائيا عاش فيه كل رجل مع خمس نساء وتنازعوا فيما بينهم وقتل بعضهم بعضا أما الباقون فقد قضى عليهم الهنود الذين انتهكت حرماتهم.

وسارت سفن الأسطول شرقاً بحذاء شاطئ هايتي، وفي الثاني من يناير عام 1494 أنزل أمير البحر رجالا وشحنة لتأسيس مستعمرة جديدة أطلق عليها اسم "إيزابيلا". وبعد أن أشرف على بناء مدينة وبعد ترميم سفنه سافر ليرتاد كوبا. وعندما عجز عن الطواف حولها استنتج أنها قارة آسيا ولعلها شبه جزيرة الملايو. وفكر في الالتفاف حولها والدوران بالكرة الأرضية ولكن سفنه لم تكن مجهزة لهذه الرحلة. فعاد إلى هايتي (29 أكتوبر سنة 1494) وهو يتساءل ماذا حدث لمستعمرته الجديدة. وصدم عندما وجد أنها تصرفت كالمستعمرة السابقة وأن الإسبانيين اغتصبوا النساء الوطنيات ونهبوا مخازن طعام الأهالي وخطفوا أولاد الوطنيين ليخدموهم كالعبيد وأن الوطنيين قتلوا كثيراً من الأسبان على سبيل الانتقام. وقامت البعثات التبشيرية بمحاولة صغيرة لتنصر الهنود وانضم راهب إلى جماعة الساخطين الذين عادوا إلى إسبانيا ليقدموا للملك والملكة تقريرا لا يشجع عن موارد هايتي الذائعة الصيت. وقد أصبح كولومبس نفسه الآن تاجرا للعبيد إذ أرسل حملات لأسر 1,500 وطني وأعطى للمستوطنين أربعمائة من هؤلاء وبعث إلى أسبانيا بخمسمائة مات منهم مائتان أثناء الرحلة وبيع الباقون في إشبيلية ولكنهم ماتوا بعد بضع سنوات بعد أن عجزوا عن تكييف أنفسهم مع المناخ البارد، ولعلهم لم يحتملوا همجية المدينة وترك كولومبس لأخيه تعليمات بنقل المستعمرة من إيزابلا إلى موقع أحسن في سانتو دومينجو (ثيودادتريخليو الآن) وسافر إلى إسبانيا (10 مارس سنة 1496) ووصل إلى قادس بعد رحلة تعسة استمرت ثلاثة وتسعين يوماً. وأهدى للملك والملكة الهنود وسبائك الذهب ولم تكن بالكثير، إلا أنها خففت من الشكوك التي ثارت لدى البلاط حول الحكمة من صب مزيد من الأموال في الأطلنطي ولم يشعر أمير البحر بالارتياح وهو فوق الأرض، فقد كان ملح البحر يجري في عروقه فالتمس تزويده بثماني سفن على الأقل للقيام بمحاولة أخرى بحثا عن الثروة، ووافق الملك والملكة وفي مايو عام 1498 سافر كولمبس مرة أخرى.

وقد اتجهت الرحلة الثالث نحو الجنوب الغربي إلى خط عرض عشرة ثم سارت غربا في هذا الخط المستقيم. وفي الحادي والثلاثين من يوليو شاهد البحارة جزيرة كبيرة أطلق عليها القائد التقي اسم "ترينيداد". وفي الحادي والثلاثين من أغسطس رأى قارة أمريكا الجنوبية وربما كان ذلك قبل أو بعد فسبوتشي. وبعد استكشاف خليج باريا أبحر-نحو الشمال الغربي ووصل إلى سانتو دو مينجو يوم 31 أغسطس فوجد أن المستعمرة الثالثة قد بقيت ولكن كان ربع الخمسمائة من الأسبان الذين تركهم عام 1496 يشكون من مرض الزهري، وانقسم المستوطنون إلى فريقين متعاديين وكانا عندئذ على حافة الحرب. ولتهدئة التذمر أقطع كولمبس كل رجل مساحة كبيرة من الأرض وسمح له باسترقاق الوطنيين والإقامة فيها، وأصبحت هذه قاعدة تتبع في المستعمرات الأسبانية، وأنهكت الصعاب وخيبات الأمل وداء النقرس ومرض في العينين قوى كولومبس في ذلك الوقت فانهار تحت وطأة هذه المشكلات وكان ذهنه يتكدر بين الفينة والفينة واصبح يستثار بسهولة؛ متذمراً مستبداً، شحيحاً، جائراً في عقابه أو عقابه أو هذا على الأقل ما زعمه كثير من الأسبان فقد تميزوا من الغيظ تحت حكم رجل إيطالي. وأدرك أن مشكلات إدارة المستعمرة كانت دخيلة عليه بالنسبة لتدريبه ومزاحه. وأرسل في أكتوبر عام 1499 بعثتين إلى أسبانيا مع التماس لفرديناند وإيزابيلا لتعيين نائب للملك يساعده في حكم الجزيرة.

واخذ الملكان بكلمته وعينا فرانشسكو دي بوباديلا ولكنهما ذهبا إلى أبعد مما طلب أمير البحر فخولا نائبهما سلطة كاملة بل سلطة تفوق سلطة كولمبس. ووصل بوباديلا إلى سانتو دومينجو بينما كان كولمبس غائبا وسمع كثيرا من الشكايات من الأسلوب الذي كان يحكم به كريستوفورو وأخواه بارتولومي ودييجو ما تسمى الآن باسم هسبانيولا وعندما عاد كولمبس ألقى به بوباديلا في غياهب السجن والأغلال في ذراعيه والسلاسل في قدميه وبعد إجراء تحقيق أرسل النائب الأخوة الثلاثة إلى أسبانيا(أول أكتوبر عام 1500) وعندما وصل كولمبس إلى قادس كتب خطاباً مؤثراً إلى أصدقائه في البلاط "لقد انقضت سبعة عشر عاما منذ حضرت لأخدم هذين الأميرين بمشروع جزر الهند، ولقد أضاعا من عمري ثمانية أعوام في النقاش وفي النهاية رفضاه كأن الأمر دعابة. ومع ذلك لم أيأس... وها أنذا قد وضعت هناك تحت إمرتهم أرضاً تزيد عما لديهم في أفريقيا وأوربا وأكثر من 10.700 جزيرة ... وفي سبع سنوات قمت أنا بمشيئة الله، بهذا الغزو، وفي الوقت الذي كنت أنتظر فيه المكافأة وأتطلع إلى التقاعد قبض على بلا جريرة وأرسلت للوطن مصفدا بالأغلال... ووجهت إلى تهمة الحقد على أساس الاتهامات التي وجهها إلى مدنيون ثاروا وأرادوا الاستيلاء على الأرض... إني أرجو من مراحمكم أن تقرأوا جميع أوراقي بحماسة المسيحيين المخلصين الذين وضع فيهم سموهما ثقتهما وأن تفكروا مليا كيف ألوث شرقي وخلقي في أواخر أيامي دون سبب، أنا الذي جاء من أقصى البلاد لخدمة هذين الأميرين دون أن ألقي منهما عدالة ولا رحمة".

وكان فرديناند مشغولا بتقسيم مملكة نابلي مع لويس الثاني عشر، ومرت ستة أسابيع قبل أن يأمر بإطلاق سراح كولمبس وأخويه ودعوتهم إلى البلاط واستقبلهم الملك والملكة في قصر الحمراء وواسياهم وأعادا لهم الاعتبار وإن كانوا لم يصلوا إلى سلطاتهم في العالم الجديد. وكان الملكان ملزمين بشروط التسليم أو الاتفاقية التي وقعاها عام 1492 بتخويل كولمبس سلطاناً كاملاً على الأراضي التي اكتشفها، ولكنهما شعرا بأنه لم يعد جديراً بممارسة هذه السلطة فعينا دون نيكولاس دي أوفاندو حاكماً جديداً على جزر الهند. ومهما يكن من أمر فإنهما سمحا لأمير البحر أن يحصل على كل حقوقه من أملاكه في سانتو دومينجو وكل ما يستحق له حتى ذلك الوقت من التنقيب عن الذهب ومن التجارة. وعاش كومبس ما بقي من عمره في رغد من العيش. ولكنه لم يكن راضياً. وألح على الملك والملكة أن يمداه بأسطول آخر ومع أنهما لم يتبينا بعد ما إذا كان "مشروع جزر الهند" سيعود عليهما بربح صاف فإنهما شعرا بأنهما يدينان له بمحاولة أخرى. وبدأ كولمبس رحلته الرابعة من قادس بأربع سفن على ظهرها مائة وأربعون رجلاً منهم أخوه بارتولومي وابنه فرناندو، وذلك في اليوم التاسع عام 1502. وفي التاسع والعشرين من يونيه أحس بزوبعة في الجو وفي مفاصله، فرسا في بقعة آمنة من شاطئ هاييتي قرب سانتو دوينجو، وكان في الميناء الرئيسي ثلاثون سفينة على وشك الإبحار إلى إسبانيا. وبعث كولمبس برسالة إلى الحاكم يبلغه فيها بأن إعصاراً سوف يهب وأشار عليه بأن يؤخر سفر السفن قليلاً، ولكن أوفاندو أعرض عن هذا التحذير وأرسل الأسطول وهبت الزوبعة الهوجاء ونجت منها سفن أمير البحر ولم يصبها إلا أقل الضرر، أما سفن أسطول الحاكم فقد تحطمت جميعاً إلا واحدة وغرق خمسمائة رجل ومنهم بوباديلا وغاصت في أعماق البحر شحنة من الذهب.

وليس من شك في أن كولمبس بدأ عندئذ أصعب الشهور الحافلة بالأسى في حياته المضطربة -فقد استأنف سيره غرباً ووصل إلى هندوراس وارتاد شاطئ نيكاراجوا وكوستريكا مؤملاً أن يجد مضيقاً يتيح له أن يطوف بالأرض. وفي الخامس من ديسمبر عام 1502 هبت ريح عاصفة مصحوبة بالمطر وصف كولمبس في يومياته قوتها العاتية :"ظللت تائهاً لمدة تسعة أيام وضاعت كل بارقة أمل في الحياة. لم تر عيناي قط بحراً كهذا هائجاً عالي الأمواج، يغطيه الزبد. إن الرياح لم تمنع تقدمنا فحسب بل إنها لم تتح لنا أية فرصة للسير وراء لسان من الأرض يعتصم به من العاصفة ومن ثم اضطررنا إلى مواصلة السير في هذا المحيط الملعون ونحن نتقلب فيه كالقدر حين يغلي على النار، ولم تبد السماء قط مخوفة كما بدت في هذا اليوم فقد ظلت يوماً وليلة ترسل شواظا من نار يلسعنا كالسنة اللهب. وتفجر البرق بشدة حتى أنني كنت في كل مرة أتساءل عما إذا كانت الرياح قد حطمت صواري وانتزعت قلوعي. وكانت ومضات البرق تتوالى بعنف وبصورة مروعة حتى اعتقدنا جميعاً أن السفن توشك أن تنفجر.

ولم تتوقف الأمطار عن الهطول طوال ذلك الوقت. وأنا لا أقول أنها كانت تمطر فقد كانت المياه تتدفق حتى خيل إلى أنه طوفان آخر. وكان الرجال منكوهي القوى وتمنوا الموت ليضع حداً لآلامهم المروعة".

وإلى جانب ما كانت تحدثه الريح والمطر والبرق وسلسلة الصخور القريبة من فزع هب إعصار عاقص ينشر الرذاذ البحر وكان قريبا جداً إلى درجة الخطورة من السفن وبدأ الماء إلى أعلى بحيث يطاول السحب فتناول كولمبس كتابه وقرأ فيه كيف هدأ المسيح العاصفة في كابيرناوم ثم تعوذ من الإعصار ورسم في السماء بسيفه وإذ ذاك يقال لنا إن قمة الماء انهارت وانتهى هياج البحر بعد مرور أثنى عشر يوماً مروعة، ورسا الأسطول في ميناء قرب الطرف الشرقي الحالي لقناة بنما، وهناك احتفل كولمبس ورجاله بعيد الميلاد عام 1502 وبرأس السنة الجديدة عام 1503 وقلوبهم مثقلة بالحزن دون أن يدور بخلدهم أن المحيط الهادي لا يبعد عنهم إلا أربعين ميلاً.

وتوالت المصائب. فبينما كان ثلاثة عشر بحاراً يجدفون في قارب من قوارب سفينة القيادة نحو النهر للحصول على ماء عذب هاجمهم الهنود ولقي جميع الأسبان مصرعهم ما عدا رجل واحد وضاع القارب. واضطروا إلى التخلي عن سفينتين أتى السوس عليهما ولم تعودا صالحتين للملاحة أما السفينتان الباقيتان فقد كان بهما كثير من الخروق وكان لا بد من تشغيل المضخات ليل نهار وأخيراً أثبت السوس أنه أقوى من الرجال ولم يكن هناك بد من إرساء السفينتين الباقيتين على شاطئ جامايكا (25 يونيه سنة 1503). وهناك أقام البحارة البائسون سنة وخمسة وكانون يعتمدون في طعامهم على صداقة الأهالي المتقلبة والذين لم يكن لديهم أنفسهم ما يستغنون عنه إلا النذر القليل. وتطوع ديجو منديز، الذي كان لرباطة جأشه في مواجهة كل هذا الضيق في عدم تردي كولمبس في هوة اليأس، أن يرأس جماعة من ستة من المسيحيين وعشرة من الهنود ويستقلوا قارباً منحوتاً من جذع شجرة لقطع 455 ميلا- منها ثمانون ميلا لا ترى بالبصر من فوق الأرض- إلى سانتو دومينجو لطلب النجدة. ونفد زادهم من الماء في تلك المغامرة ومات بضعة هنود. ووصل منديز إلى هدفه ولكن أوفاندو لم يقدم أو يستغني عن سفينته حتى مايو عام 1404 لنجدة أمير البحر. وما أن حل شهر فبراير حتى خفض هنود جامايكا هداياهم من الطعام للملاحين الذين جنحت سفنهم إلى الحد الذي بدأ فيه الأسبان يتضور ون جوعاً، وكان مع كولمبس تقويم رجيومونتانوس الفلكي الذي جاء بحساباته خسوف للقمر يوم 29 فبراير، فاستدعى زعماء الوطنين وأنذرهم بأن الله غاضب بسبب سماحهم بتجويع رجاله وأنه يحجب عنهم ضوء القمر فسخروا منه ولكن عندما بدأ الخسوف سارعوا بإحضار الطعام إلى السفن. وعندئذ طمأنهم كولمبس وقال إنه دعا الله أن يعيد للقمر ضياءه وأنه وعده سبحانه وتعالى أن الهنود سيطعمون المسيحيين جيداً بعد هذا. وعاد القمر للظهور.

ومرت أربعة شهور أخرى قبل أن يصلهم العون وحتى ذلك الوقت كانت السفينة التي أرسلها أوفاندو قد اتسعت خروقها فلم يكن أمامها إلا أن تعود إلى سانتو دومينجو وسافر كولمبس مع أخيه وابنه في سفينة أشد متانة إلى إسبانيا فوصلوا في اليوم السابع من نوفمبر بعد رحلة طويلة واجهوا فيها العواصف، واغتم الملك لأنه لم يعثر على مزيد من الذهب ولم يكتشف مضيقا يوصل إلى المحيط الهندي، ولم يجد فرديناند وإيزابلا التي كانت تحتضر، وقتاً لمقابلة البحار الذي اشتعل رأسه شيباً بعد عودته أخيراً من البحر. وكانت عشوره "من هايتي لا تزال تدفع له... وكان يشكو من داء النقرس لا من الفاقة. وعندما وافق فرديناند أخيراً على مقابلة كولمبس لم يستطيع أمير البحر وقد بدا أكبر عمراً من سنواته الثمانية والخمسين. أن يتحمل مشاق الرحلة إلى بلاط الملك في سيجوفيا إلا بصعوبة بالغة وطالب بالألقاب والحقوق والدخول التي وعد بها عام 1492، فاعترض الملك وعرض عليه ضيعة كبيرة في قشتالة فرفض كولمبس. ولاحق البلاط إلى سلمنقة وبلد الوليد، وهناك مات يوم 20 مايو سنة 1506 محطم الجسد كسير الفؤاد ولم يتيسر قط لأحد أن يعيد رسم خريطة الأرض على نحو هذا النحو.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المنظور الجديد

والآن بعد أن أضاء كولمبس الطريق اندفع مائة ملاح آخر إلى العالم الجديد، ويبدو أن هذا الاسم قد استخدمه لأول مرة تاجر فلورنسي يطلق اسمه الآن على الأمريكتين فقد أرسل آل مديتشي إلى أسبانيا أمير يجو فسبوتشي ليقوم على شئون مصرف فلورنسي وفاز عام 1495 بعقد ينص على إعداد اثنتي عشرة سفينة لفرديناند وأصيب بحمى الكشف وزعم في خطابات أرسلها فيما بعد (1503-1504) لأصدقاء في فلورنسا أنه قام بأربع رحلات إلى ما أسماه بالعالم الجديد وأنه في إحدى هذه الرحلات في اليوم السادس عشر من يونيه عام 1497، وصل إلى قارة أمريكا الجنوبية. ولما كان جون كابوت قد وصل إلى جزيرة كيب بريتون في خليج سانت لورانس في اليوم الرابع والعشرين من يونيه عام 1497 وشاهد كولمبس فنزويلا عام 1498 فإن قصة فسبوتشي تنسب له أنه أول أوربي وصل إلى قارة في نصف الكرة الغربي منذ عهد لايف أريكسون (سنة 1000) ولكن ما اتسمت به روايات فسبوتشي من عدم الدقة وما خالطها من اضطراب ألقى ظلالا من الشك على مزاعمه ومما يجدر ذكره أن كولمبس، والذي كان في وسعه عندئذ أن يحكم على مدى وثوق أخبار فسبوتشي عهد إليه عام 1505 بخطاب لتسليمه إلى دييجو ابن أمير البحر. وفي سنة 1508 نصب فسبوتشي كبيراً لجميع الربانية في أسبانيا واحتفظ بهذا المنصب حتى وفاته.

وقد نشرت نسخة لاتينية من إحدى رسائله في سان دييه، اللورين في أبريل عام 1507. واستشهد مارتن فالدسيمولر، أستاذ (الكوزموجرافيا) علم الكون بجامعة سان دييه، بهذا الخطاب في "مقدمة لعلم الكون" الذي نشره هناك في تلك السنة وقبل رواية فسبوتشي واعتبرها جديرة بالثقة واقترح أن يطلق اسم أمريجي على ما نسميها الآن أمريكا الجنوبية.

وفي سنة 1538 استخدم گرهاردوس مركاتور اسم "أمريكا" في إحدى خرائطه الشهيرة وأطلقه على كل نصف الكرة الغربي. ومن المتفق عليه أن فسبوتشي قام عام 1499 إن لم يكن عام 1497، مع ألونزو دي أوخيد بارتياد شاطئ فنزويلا وفي سنة 1500 عقب اكتشاف كابرال مصادفة للبرازيل ارتاد فيسنته بنزون، وكان رباناً للسفينة نينيا في رحلة كولمبس الأولى، الشاطئ البرازيلي واكتشف الأمازون. وفي سنة 1513 شاهد فاسكو نونييز دي بالبوا المحيط الهادي واكتشف بونسه دي ليون، فلوريدا، وهو يحلم بالعثور على ينبوع الشباب. وكان للاكتشافات التي بدأها هنري الملاح وتبعه فيها فاسكو دا گاما وبلغت أوجها في عهد كولمبس وانتهت بماجلان، أثر في قيام أعظم ثورة تجارية في التاريخ قبل اختراع الطائرة. فتحت البحار الغربية والجنوبية للملاحة والتجارة وأنهت عهد البحر الأبيض المتوسط في الحضارة وبدأت عهد الأطلنطي. وكلما ازداد تدفق الذهب من أمريكا إلى أسبانيا ازداد التدهور الاقتصادي في ولايات البحر الأبيض المتوسط بل وفي تلك المدن الواقعة في جنوب ألمانيا مثل أوگسبرگ ولمبورگ، التي كانت ترتبط تجارياً بإيطاليا. ووجدت دول الأطلنطي في العالم الجديد مخرجاً لفائضها من السكان ولطاقاتها الاحتياطية ولمجرميها هناك أسواقاً رائجة لبضائعها الأوربية. وازدهرت الصناعة في أوربا الغربية وطالبت بالاختراعات الآلية وبأشكال أحسن من الطاقة مما أدى إلى الثورة الصناعية. واستوردت نباتات جديدة من أمريكا لإثراء الزراعة الأوربية-البطاطس والطماطم والخرشوف والقرع العسلي والذرة. وأدى تدفق الذهب والفضة إلى رفع الأسعار وتشجيع أصحاب المصانع وإنهاك قوى العمال وزيادة الدائنين والإقطاعيين وأثارت في أسبانيا حلم السيطرة على العالم وقضت عليه.

ولم تكن الآثار الأدبية والذهنية لهذه الاكتشافات بأقل من النتائج الاقتصادية والسياسية فقد انتشرت المسيحية فوق رقعة واسعة من نصف الكرة الأرضية وكسبت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية من الأنصار في العالم الجديد أكثر مما سلبهم منها الإصلاح الديني في العالم القديم. وتلقفت أمريكا اللاتينية اللغتين الإسبانية والبرتغالية اللتين أثمرتا أدبا قويا مستقلا. ولم تتمسك أخلاق الأوروبيين بهذه الاكتشافات إذ تدفقت وحشية الأوربيين، التي لا تخضع لقانون، إلى أوربا مع البحارة والمستوطنين العائدين وجاءت بالإفراط في العنف والشذوذ الجنسي. وتأثر الفكر الأوروبي كثيراً بالكشف عن هذه الشعوب والعادات والمعتقدات الدينية الكثيرة وعانت المذاهب الدينية من الاحتكاك المتبادل بل إنه في الوقت الذي كان البروتستانت والكاثوليك يشتبكون في حروب مدمرة من أجل مذاهبهم المتخاصمة فإن هذه المذاهب كانت تذوب في الشكوك التي يثيرها التثقيف وما يستتبع ذلك من تسامح.

يضاف إلى كل هذا أن الاعتزاز بالعمل الفذ ألهم العقل البشري في اللحظة التي كان فيها كوبرنيكوس على وشك أن يقلل من الأهمية الكونية للأرض وسكانها إذ شعر الناس أن شجاعة العقل البشري قد تغلبت على دنيا المادة. وأنكر الاختصار والشعار السائد في القرون الوسطى لجبل طارق- لا شيء خلفه - وأصبح هذا الشعار الآن - خلفه الكثير - وزالت كل الحدود وأصبح العالم مفتوحا وبدا كل شئ ممكنا. والآن بدأ التاريخ الحديث بموجة طاغية تتسم بالإقدام والتفاؤل.