قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 1 ف 12

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 7962

قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> أسبانيا -> الشهيد الأسباني

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثاني عشر: أسبانيا 1300 - 1517

الشهيد الأسباني 1300 - 1469

لقد وجدت أسبانيا في جبالها وقايتها ومأساتها في وقت واحد: فقد منحتها أمناً نسبياً من الغزو الخارجي، ولكنها عوقت تقدمها الاقتصادي ووحدتها السياسية وإسهامها في الفكر الأوربي. ولقد عاش في ركن صغير من الشمال الغربي شعب نصف بدوي من الباسك وكانوا ينتقلون بأغنامهم من السهول إلى التلال ثم يهبطون إلى السهول مرة أخرى تبعاً لتقلبات الفصول. ومع أن كثيرين من الباسك كانوا رقيق أرض، إلا أنهم جميعاً زعموا نبل المحتد، وحكمت ولايتهم الثلاث نفسها تحت السيادة الواهية لقشتالة أو نافار. وظلت نافار مملكة قائمة برأسها، حتى ضم فرديناند الكاثوليكي قسمها الجنوبي إلى قشتالة (1555) بينما أصبحت البقية الباقية منها إقطاعاً ملكياً تابعاً لفرنسا. وتملكت أراجون سردينيا منذ عام 1326 وتبعتها جزر البليار عام 1354. وصقلية عام 4409. وزادت ثروة أراجون نفسها بفضل صناعة وتجارة بلنسية وطركونة وسراقسطة وبرشلونة- وهي عاصمة ولاية قطلونية ضمن مملكة أراجون. وكانت قشتالة أقوى الممالك الأسبانية وأوسعها رقعة، وقد حكمت المدن الآهلة أفيدو وليون وبرجس وبلد الوليد وسلامنكا وقرطبة وأشبيلية وطليطلة، وهي عاصمتها، ولعب ملوكها أدوارهم أمام أكبر عدد من النظارة وفي سبيل أعظم المخاطر في أسبانيا. وأصلح ألفونسو الحادي عشر (1312-50) قوانين قشتالة ومحاكمها وحول منافسات النبلاء إلى حروب تشن على المسلمين، وشجع الأدب والفن، وكافأ نفسه بخليلة نجيبة. ولقد حملت له زوجته ابناً شرعياً واحداً، نشأ في ظروف غامضة وإهمال وحقد وأصبح فيما بعد بدرو الغشوم ومن الواضح أن اعتلاءه على العرش ولما يناهز الخامسة عشرة (1350) جلب اليأس لأبناء الفونسو التسعة غير الشرعيين، فقد أقصوا جميعاً عن البلاد، وأعدمت أمهم ليونورا ده جزمان، ولما جاءت عروسه الملكية بلانش البوربونية من فرنسا من تلقاء نفسها، تزوجها وأنفق ليلتين معها ثم أمر أن يدس لها السم متهماً إياها بالتآمر (1361) وتزوج عشيقته ماريا ده باديلا، التي تؤكد الأسطورة أن جمالها بلغ من الخلابة حداً، جعل فرسان البلاط يشربون بنشوة ماء اغتسالها. وكان بدرو محبوباً في الطبقات الدنيا التي أيدته إلى النهاية المريرة، ولكن المحاولات المتكررة من اخوته غير الأشقاء لإقصائه عن العرش، قد دفعته إلى مجموعة من الدسائس والقتل وانتهاك الحرمات، تقف في وجه كل حكاية وتلطخها بالدم. واستطاع هنري التراستاماري، أكبر أبناء ليونورا أن ينظم ثورة موفقة ويقتل بدرو بيديه ويصبح هنري الثاني ملك قشتالة (1369).

ولكننا نظلم الأمم إذا حكمنا عليها من ملوكها، لأنهم اتفقوا مع مكيافلي في أن الأخلاق لم تجعل للملوك. وبينا نجد الحكام يتلهون بالقتل الفردي أو المتخذ صفة القومية، فإن الشعب الذي بلغ عدده ملايين عام 1450، هو الذي أنشأ حضارة أسبانيا، ومع أنهم كانوا يعتزون بنقاء أرومتهم إلا أنهم كانوا مزيجاً غير ثابت من الكلت والفينيقيين والقرطاجنيين والرومان والقوط الغربيين والوندال والعرب والبربر واليهود، وعند سفح الكيان الاجتماعي قليل من العبيد، وطبقة من الفلاحين ظلوا رقيق لأرض إلى عام 1471، وفوقهم العمال اليدويون والصناع وتجار المدن، وفوق أولئك وهؤلاء الفرسان (caballeros) في طبقات رفيعة من الشرف، والنبلاء الذين يعتمدون على الملك(أبناء الأسر العريقةbidalgos والنبلاء المستقلون (proceres) وإلى جانب هؤلاء المدنيين طبقات الكهنوت تبدأ من قساوسة الأبرشيات فالأساقفة ورؤساء الأديرة وتنتهي برؤساء الأساقفة والكرادلة. ولكل مدينة مجلسها البلدي (conseijo) وهي ترسل مندوبين عنها، ينضمون إلى النبلاء والمطاردة في المجالس الإقليمية والقومية، والأصل النظري أن مراسيل الملوك تتطلب موافقة هذه المجالس لتصبح قوانين. ونظمت الأجور وشروط العمل والأسعار ومعدل الفائدة على الأموال، المجالس البلدية أو النقابات. وتعثرت التجارة بسبب الاحتكارات الملكية والمكوس الحكومية التي تفرضها الدولة أو الأقاليم على الواردات والصادرات وتنوع الموازين والمقاييس وبالعملات المتدهورة وقطاع الطرق وقرصان البحر الأبيض المتوسط ورفض رجال الدين للحساب واضطهاد المسلمين- الذين غذوا معظم الصناعة والتجارة بالقوة البشرية- واليهود، الذين كانوا يدبرون شئون المال. وافتتح مصرف حكومي في برشلونة (1401) يضمان لودائع المصرف، وصدرت صكوك للتعامل، وأنشئ تأمين بحري قرابة عام 1435.

ولما كان الأسبان يجمعون في أرومتهم بين الأصول السامية والأصول المناهضة للسامية، لذلك احتفظوا بحرارة إفريقيا في دمائهم، وكانوا يميلون مثلهم في ذلك البربر، إلى الوداعة والعنف في القول والعمل فيهم سورة وفي عقولهم تطلع وفضول، وهم أغرار ويؤمنون بالخرافة إلى حد مخيف واحتفظوا باستقلال للروح وكرامة للشجاعة حتى في النكبات والفقر. كانوا يحبون اقتناء المال ولقد فطروا على ذلك، ولكنهم لم يحتقروا الفقراء ولم يلعقوا نعال الأغنياء. واحتقروا العمل وتقاعسوا عنه، بيد أنهم احتملوا الشدائد برباطة جأش، كانوا كسالى ومع ذلك غزوا نصف العالم الجديد. وظمئوا إلى المغامرة والعظمة والفروسية، وكانوا يستمتعون بالمخاطر ولو كانت بالتفويض فحسب، فإن مصارعة الثيران، وهي من لآثار كريت وروما كانت قد أصبحت لعبة قومية تقليدية رسمية زاخرة بالألوان محكمة، تعلم الشجاعة والبراعة الفتية وسرعة الخاطر. ولكن الإسبان تناولوا مباهجهم بشيء من الكآبة، وهم يشبهون الإنجليز المحدثين (وعلى خلاف إنجليز عصر إليزابث) ولقد أضفى جدب التربة وظلال المنحدرات الجبلية على نفوسهم كآبة جارفة، وكانت أخلاقهم جادة مستقيمة كاملة وهي أحسن كثيراً من المحافظة على صحة أبدانهم، وكان كل إسباني مهذباً، بيد أن القليلين منهم، كانوا مفتولي الأجسام، وازدهرت صور ألعاب من الفروسية وسط القاذورات التي اكتنفت الجماهير. وأصبحت مسألة الشرف عقيدة، وكانت النساء في إسبانيا ربات وسجينات أما زي الطبقات العليا فكان بسيطا في أيام الأسبوع ويتحول إلى الأبهة أيام الآحاد والأعياد بالحرير الزاهي والقباء المكشكش والملون المحزم والذهب. وكلف الرجال بالعطور والكعوب العالية، ولم يقنع النساء بفتنتهن الطبيعية فخلبن ألباب الرجال بالبنيقة والمخرمات والخمار يخفي وجوههن واتخذت المطاردة الجنسية آلاف الأشكال وتنكرت في آلاف الصور، وجاهدت صنوف الإرهاب الديني والقوانين الصارمة ومسائل الشرف، في الحد من تلك المطاردة ولكن فينوس انتصرت على الجميع، وزادت خصوبة النساء على غلة الأرض.

وكانت الكنيسة في إسبانيا حليفاً لا ينفصل عن الدولة، ولم تدخل بابا روما في حسابها إلا قليلاً، وتقدمت بمطالب كثيرة لإصلاح البابوية حتى عندما أعطتها إسكندر السادس الذي لا يعترف بالإصلاح، وفي سنة 1513 حرم الكاردينال اكزيمينس نشر صكوك الغفران التي قدمها يوليوس الثاني في إسبانيا لإعادة بناء كنيسة القديس بطرس، ونتج ذلك أن الملك عد رئيساً للكنيسة الإسبانية، ولم ينتظر فرديناند في هذا الشأن، هنري الثامن ليعلمه، ولم تكن إسبانيا في حاجة إلى إصلاح ديني يجعل الكنيسة والدولة أو الدين والقومية شيئا واحداً، وحصلت الكنيسة على امتيازات مادية كجزء من هذا الاتفاق غير المكتوب في ظل دولة تعتمد عليها اعتماداً واعياً في توطيد النظام الأخلاقي والاستقرار الاجتماعي والعمل على قياد الشعب لها. ولم يكن موظفوها، حتى الطبقات الدنيا منهم، يخضعون إلا للمحاكم الكهنوتية. وامتلكت مساحات كبيرة من الأرض، يفلحها مستأجرون لها، وكانت تتسلم عشر غلة العقارات الأخرى، ولكنها كانت تدفع ثلث هذا العشر للخزانة، ولقد أعفيت من الضرائب علاوة على إيطاليا. ومن الواضح أن أخلاق الأكليروس ونظام الأديرة، كانت فوق مستوى القرون الوسطى، بيد أن اتخاذ الحظايا قد شاع وسمح به كما حدث في غير إسبانيا واستمر الزهد في إسبانيا بينما أخذ يفترض شمالي جبال البرانس، بل إن العشاق كانوا يجلدون أنفسهم ليذيبوا مقاومة ما في السيدات من حنان وخفر أو ليحصلوا على شيء من الوجد الماسوشي .

وكان الناس على ولاء شديد للكنيسة والملك، لأن عليهم أن ينتظموا لمحاربة أعدائهم الألداء المسلمين ونجاح، ولقد عرض الصراع لتخليص غرناطة على أنه حرب في سبيل العقيدة المقدسة، فسارت مواكب حاشدة من الرجال والنساء والأطفال ، الأغنياء منهم والفقراء، أيام الأعياد في الطرقات صامتين في حزن أو مرددين الأناشيد، وأمامهم تماثيل كبيرة تجسم العذراء أو أحد القديسين. واعتقدوا اعتقاداً راسخاً بأن العالم الروحي هو بيئتهم الحقيقية وموطنهم الأبدي. والحياة الدنيا إلى جانبه إنما هو شر وحلم مؤقت. وكرهوا الهراطقة باعتبارهم خائنين للوحدة والمبدأ القوميين، ولا اعتراض لهم على إحراقهم، وهذا هو أقل ما يستطيعون أن يبذلوه من اجل إلههم الذي انتهكت حرمته ولم تنعم الطبقات الدنيا بشيء من التعليم المدرسي إلا قليلاً وهو ديني فحسب. ولما وجد كورتز القوي بين المكسيكيين الوثنيين، شعيرة تشبه القربان المسيحي- شك بأن الشيطان هو الذي علمهم إياها لكي يضلل الفاتحين. وشجع على قوة انتشار الكاثوليكية في أسبانيا تلك المنافسة الاقتصادية بين الأسبان وبين المسلمين واليهود، الذين كانوا يؤلفون عشر عدد السكان في أسبانيا المسيحية. ومن الأمور السيئة في نظرهم أن يحتل المسلمون غرناطة الخصيبة، وأكثر من هذا مضايقة لهم أولئك المدجنون- أي المسلمين الذين لم ينتصروا، الذين عاشوا بين الأسبان المسيحيين والذين أدت براعتهم في التجارة والحرف إلى حسد شعب تستعبده الأرض استعباداً بدائياً. أما الأسبان اليهود فلم يصفح عنهم قط. ولقد اضطهدتهم أسبانيا المسيحية مدى ألف سنة: فقد أخضعوهم لضرائب مهنية وقرون مغتصبة ولمصادرة الأموال والاغتيال والتعميد الإجباري، وأرغموهم على الاستماع إلى العظات المسيحية، وحرضوهم حتى في معابدهم أحياناً على التنصر، بينما جعل القانون تهود المسيحي جريمة عقوبتها الإعدام، ودعوا أو ألزموا على الاشتراك في مناظرات مع علماء الدين المسيحي، وهم فيها بين اثنتين إما أن تحيق بهم هزيمة فاضحة أو يحصلون على انتصار محفوف بالمكاره. وأمروا هم والموديجار عدة مرات أن يرتدوا شارة مميزة، وكانت في العادة دائرة حمراء توضع على الكتف في أرديتهم وحرم على اليهود أن يستأجروا خادماً مسيحياً، ولم يسمح لأطبائهم أن يعالجوا المرضى المسيحيين، ورجالهم الذين يعاشرون امرأة مسيحية يقتلون. ولقد حرض راهب فرنسسكاني عام 1328 في عظاته بمدينة ستلا من أعمال نافار، المسيحيين أن يعملوا القتل في خمسة لآلاف يهودي وأن يحرقوا منازلهم، وفي عام 1391 أثارت عظات فرنان مارتينيز الجماهير في كل مركز كبير بأسبانيا، أن يقتلوا كل من يجدونه من اليهود الذين يرفضون التحول إلى المسيحية. وفي سنة 1410 تحركت بلد الوليد وغيرها من المدن ببلاغة فيسنت فرر الذي يشبه القديس المتعصب، فأمرت أن يحصر اليهود والمسلمون أنفسهم في أحياء معينة- جوديريا أو ألباما- تغلق أبوابها من غروب الشمس إلى شروقها وربما كانت هذه العزلة من أجل حمايتهم.

واستغل اليهود كل فرصة للتطور بما أتسموا به من الصبر والعمل والذكاء فتكاثروا وازدهرت أحوالهم حتى تحت وطأة هذه العوائق. وأحب بعض ملوك قشتالة، أمثال الفونسو الحادي عشر وبدرو الغشوم، اليهود وعينوا الناهبين منهم في المناصب الرفيعة. وجعل الفونسو دون يوسف الأسيجي وزيراً لماليته، واختار يهودياً آخر هو يوسف ابن وقار طبيباً خاصاً له، فأساءا استعمال منصبيهما، واتهما بالتآمر فسجنا وماتا في السجن. وتكررت الحادثة مع صمويل يوسف أبي لافيسه فقد عين قواماً على خزانة الدولة في عهد بدرو، فجمع ثروة طائلة، فحكم الملك بقتله. وكان صمويل قد شيد قبل ذلك بثلاث أعوام (1357) في مدينة طليطلة معبداً يهودياً جميلاً على بساطته، على الطراز التقليدي، وهو الذي حوله فرديناند إلى الكنيسة المسيحية "الترنسيتو" وتحافظ الحكومة عليها اليوم باعتبارها أثراً من الآثار العبرية- الإسلامية في أسبانيا وكانت حماية بدرو لليهود من سوء طالعهم، ذلك لأن هنري أمير تراستامارا- عندما عزله من الملك، أعمل الجنود المنتصرون السيف في ألف ومائتي يهودي (طليطلة 1353)، وتبعت ذلك مذابح أسوأ، عندما أحضر هنري إلى أسبانيا "الصحاب الأحرار" الذين جمعهم دي جيكلان من أوشاب فرنسا..

وآثر آلاف من اليهود الأسبان التعميد على الفزع من النهب والقتل، فلما أصبحوا مسيحيين من الناحية الشرعية استطاع هؤلاء المنتصرون أن يرقوا سلم الحياة الاقتصادية والسياسية، وفي المهن بل وفي الكنيسة ذاتها وأصبح بعضهم من كبار رجال الكهنوت والآخرون من مستشاري الملوك. وأكسبتهم مواهبهم المالية نجاحاً يثير الحسد، في جمع الدخل القومي وتدبيره. وأحاط بعضهم نفسه بمظاهر الشرف الأستقراطي، وجعل بعضهم نجاحه عدوانياً واضحاً، ووصم الكاثوليك الغضاب، هؤلاء المنتصرين بهذا الاسم الفظيع "حلوف العرب المورسكو"(marranos) ومع ذلك فإن الأسر المسيحية التي كانت عراقة نسبها أكثر من مالها، أو التي كانت تحترم القدرة من الناحية العملية، قبلت الإصهار إليهم. وبهذه الطريقة ساط الشعب الأسباني وبخاصة طبقاته العليا، الدم اليهودي بصورة مادية ملموسة. وكان لفرديناند الكاثوليكي وتوركيمادا قاضي محكمة التفتيش أسلاف من اليهود. وأطلق البابا بول الرابع على خصمه الذي يحاربه فيليب الثاني، وعلى الأسبان "أنهم بذرة لا قيمة لها من اليهود والمسلمين".


غرناطة (1300 - 1492)

وصف ابن بطوطة موقع غرناطة على أنه لا يضارعه موقع مدينة أخرى في العالم ... وحولها من كل جانب بساتين وحدائق ومراعي مزهرة وكروم، وفيها مباني جليلة. واسمها العربي غرناطة - ومعناه غير محقق ؟ ونصرها الفاتحون الأسبان وجعلوه (جرانادا Granada) ومعناه الممتلئ بالحبوب - ولعله مأخوذ من شجرة الرمان التي فيما جاورها. ولم يطلق الاسم على المدينة فقط، وإنما أطلق على إقليم يضم شريش وجيان والمربة ومالقا وغيرها من المدن، ويبلغ عدد سكانه نحوا من أربعة ملايين نسمة. ونهضت العاصمة، التي كانت تضم عشر ه}لاء السكان مثل "برج المراقبة" إلى قمة تسيطر على واد رائع، يكافئ العناية بالري والزراعة على أساس علمي بمحصولين في السنة. وقام على حراسة المدينة من أعدائها المحيطين بها سور عليه ألف برج، واتخذت الأرستقراطية قصوراً رحبة جميلة التصميم، ورطبت نوافير المياه في الميادين العامة سعير الشمس، وعقد السلطان أو الأمير أو الخليفة بلاطه في أبهاء الحمراء الرحبة.

وكانت الحكومة تأخذ سبع غلة الأرض كلها، وربما أخذت الطبقة الحاكمة مقداراً مماثلا كنفقات للإدارة الاقتصادية والقيادة العسكرية، ووزع الحكماء والنبلاء بعض مواردهم على الفنانين والشعراء والدارسين والعلماء والمؤرخين والفلاسفة، وتولوا جامعة سمح فيها لعلماء المسيحيين واليهود أن يكونوا أساتذة وعمداء أحياناً. ونقش على أبواب الكلية خمسة أسطر:"دعائم الدنيا أربعة:علم الحكماء، وعدالة العظماء، وصلوات الأبرار، وأقدام الشجعان". وأسهم النساء في الحياة الثقافية بحرية، ونحن نعرف بعض أسماء العالمات في غرناطة الإسلامية. ولم يمنع التعليم السيدات مع ذلك، من تحريض رجالهم، لا على العواطف العارمة بل على حب الفروسية ومبارزاتها، وقال أحد ظرفاء العصر: "يميز النساء بدقة ملامحهن ورشاقة أجسامهن وطول شعورهن وتموجها، وبياض أسنانهن وخفة حركاتهن التي تسر الناظرين ... وسحر حديثهن،وعطر أنفاسهن، وكانت النظافة الشخصية ورعاية الصحة العامة أكثر تقدماً منها في العالم المسيحي المعاصر. وكانت الأزياء والأخلاق رائعة وزينت المباريات الفروسية أو المهرجانات أيام الأعياد. والأخلاقيات سهلة، ولم تكن أعمال العنف نادرة بيد أن الكرم والشرف الإسلاميين اكتسبا مدح المسيحيين. فقد قال مؤرخ أسباني : "لقد اشتهر سكان غرناطة بأنهم أهل للثقة، إلى حد أن كلمتهم كان يعتمد عليها أكثر من اعتمادنا على عقد مكتوب". وبين هذه التطورات العظيمة اعتصر الترف النامي قوة الأمة ودعا التفكك الداخلي إلى الغزو الخارجي.

وما أن دعمت أسبانيا المسيحية ببطء ممالكها وزادت في ثرواتها حتى نظرت بعين العداوة الحسود إلى تلك الإمارة المزدهرة المحاصرة التي تحدت ديانتها المسيحية بأنها شرك كفور والتي قدمت ثغورها، منافذ خطيرة لدولة من الكفار يضاف إلى ذلك أن تلك الحقول الأندلسية الخصبة قد تعوض كثيراً من فدادين الأرض القاحلة في الشمال. ولم تحتفظ غرناطة بحريتها، إلا لأن أسبانيا الكاثوليكية، قد انقسمت إلى مذاهب وملوك. بل إن الإمارة المعتزة بنفسها وافقت (1457) على دفع جزية سنوية إلى قشتالة. ولما أبى أمير مغامر هو علي أبو الحسن أن يستمر على دفع رشوة السلام هذه (1466) لم يجبره هنري الرابع على الدخول في الطاعة لأنه كان منغمساً في ملذاته. بيد أن فرديناند وإزابيلا سرعان ما أرسلا الوفود بعد اعتلائهما العرش مطالبة بمواصلة دفع الجزية. فأجاب الأمير على بجرأة مهلكة : " قولوا لملوككم إن ملوك غرناطة الذين دفعوا الجزية قد ماتوا وإن سكتنا التي نتعامل بها الآن ليست سوى حداً لسيوف". ولم يعلم أبو الحسن بأن فرديناند أقوى منه سلاحاً وادعى السخط على غزوات المسيحيين على الحدود فباغث الثغر المسيحي الزهراء واستولى عليها، وساق أهلها جميعاً إلى غرناطة لبيعهم بيع العبيد (1481) فأن مركيز فارس بنهب المعقل الإسلامي المنيع الحامة (1482) وهكذا بدأ فتح غرناطة.

وعمل الحب على تعقيد الحرب. فقد فتن أبو الحسن بإحدى جواريه حتى أن زوجته السلطانة عائشة أثارت الشعب لخلعه عن العرش وتتويج ابنها أبي عبد اللّه ، الذي عرفه الغربيون باسم(Boabdil)،(1482) ففر أبو الحسن إلى مالقة وسار جيش أسباني لمحاصرة المدينة، وأبيد كله تقريباً في ممرات سلسلة جبال أجاركيه، على يد فرق لا تزال موالية للأمير المخلوع، وثارت غيرة أبي عبد اللّه على انتصارات أبيه العسكرية فسار على رأس جيش من غرناطة لمهاجمة قوة مسيحية بالقرب من الأشانة وحارب بشجاعة، ولكنه هزم وأخذ أسيراً. واشترى خلاصة بأن وعد بمساعدة المسيحيين ضد أبيه. وبأن يدفع للحكومة الأسبانية أثنى عشر ألف دوكات كل سنة. وفي الوقت نفسه نصب عمه أبو عبد الله المشهور بلقب عز زغرل "أي الشجاع" نفسه أميراً على غرناطة، ونشبت حرب أهلية ثلاثية بين الأب ولابن والعم على العرش الغرناطي، ومات الأب واستولى لابن على الحمراء، وانسحب العم إلى وادي آش Guadix حيث حاول مراراً أن يهاجم الأسبان كلما وجدهم عبد الله أن يقلد عمه فامتنع عن الوفاء بوعده ودفع الجزية وأعد عاصمته لمقاومة الهجوم الذي لا مفر منه. فوزع فرديناند وإيزابلا ثلاثين ألف رجل على الحقول التي تمد غرناطة بالغذاء ليكتسحوها. فأتلفت الطواحين ومخازن الغلال ودور الفلاحين والكروم وغياض الزيتون والبرتقال، وحوصرت مالقة ليمنعوها من تلقي المؤن إلى غرناطة أو إرسالها وصمدت مالقة للحصار حتى أكل سكانها كل ما تقع عليه أيديهم من الخيل والكلاب والقطط، وكانوا يموتون بالمئات من الجوع أو المرض. وأرغمها فرديناند على أن تسلم بلا قيد ولا شرط، واستعبد الأثني عشر ألف الذين بقوا من سكانها، ولكنه سمح للأغنياء منهم بأن يفتدوا أنفسهم بتسليم كل ما يملكونه. واستسلم عز زغرل وأصبح إقليم غرناطة بأسره خارج العاصمة في أيدي المسيحيين.

وشيد الملكان الكاثوليكان، فسطاطاً كاملاً لجندهم، حول القلعة المحاصرة وأطلقوا عليها اسم سانتافيه، وانتظروا أن يموت أهلها جوعاً، ليجعلا مفخرة الأندلس تحت رحمتها، وخرج الفرسان المسلمون من غرناطة، يطلبون مبارزة فرسان الأسبان فرداً لفرد، واستجاب هؤلاء بعزم مماثل، بيد أن فرديناند لما رأى أن خير المحاربين من رجاله يقتلون واحداً بعد واحد، على أساس خطة الفروسية هذه، وضع حداً لتلك المبارزة، وقاد أبو عبد الله قواته في هجوم يائس، لكنهم ردوا على أعقابهم وأنفذت الرسائل تطلب العون من سلطان تركيا ومصر، ولم يتلقوا شيئاً، فقد كان العالم الإسلامي منقسماً على نفسه كالعالم المسيحي.

ولم يجد أبو عبد الله بداً من توقيع شروط التسليم التي أسبغت شرفاً نادراً على الفاتحين. ذلك لأنه سمح لأهل غرناطة أن يحتفظوا بمالهم ولغتهم وزيهم ودينهم وشعائرهم، ولهم أن يحتكموا إلى شريعتهم وقضائهم ولا تفرض عليهم ضرائب إلا بعد ثلاث سنوات، وعند ذلك يؤخذ منهم ما كان يجبيه الحكام المسلمون، وكان على المدينة أن تفتح أبوابها لاحتلال الأسبان، وللمسلمين حق الهجرة من المدينة إذا شاءوا، ويجب أن توفر وسائل المواصلات لمن يرغب في العبور إلى إفريقية الإسلامية.

ومع ذلك فقد احتج أهل غرناطة على استسلام أبى عبد الله. وتهددته الثورة حتى دفع بمفاتيح المدينة إلى فرديناند (2 يناير 1492) وركب مع أقاربه وفرسانه الخمسين، وسط صفوف المسيحيين، إلى إمارته الجبلية الصغيرة التي كان عليه أن يحكمها تابعاً لقشتالة، ومن فوق الصخور الشماء التي عبر عليها ألقى نظرة أخيرة على المدينة الرائعة التي فقدها، ول اتزال هذه القنة تسمى آخر زفرة للعربي El Ulxtimo Sospiro del Moro وأنبته أمه على بكائه قائلة " أبكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال".

ودخل في الوقت نفسه الجيش الإسباني بالمدينة. ورفع الكاردينال مندوزا صليباً فضياً عظيماً فوق الحمراء، وركع فرديناند وإيزابلا في ساحة المدينة شكراً لله الذي أخرج الإسلام من إسبانيا بعد إحدى وثمانين وسبعمائة سنة.

فرديناند وإيزابلا

يعد القرن الذي يقع بين موت هنري أمير ترستمارا (1379)، واعتلاء فرديناند لعرش أرجوان، فترة ركود لإسبانيا. فقد تعاقبت مجموعه من الحكام الضعفاء وسمحوا للنبلاء بأن يعيثوا في الأرض فساداً بتنازعهم، وكانت الحكومة مهملة فاسدة، ولم يكن هناك رادع للثأر الشخصي، وكثرت الحروب الأهلية إلى حد أن الطرق لم تكن آمنة للتجارة، وكثيراً ما احتلت الجيوش الحقول، حتى اضطر الفلاحون إلى تركها جرداء. ولقد جون الثاني القشتالي فترة طويلة (1406 - 54 ) وكان كلفه بالموسيقى والشعر قد جعله لا يعنى بشئون الدولة، وتبعه تملك هنري الرابع الوبيل، وهو الذي اكتسب لقب إنريك العقيم بعدم كفايته الإدارية وعبثه بالعملة وبعثرة الموارد على المقربين الطفيليين. وأوصى بعرشه إلى جوانا، التي ادعى أنها ابنته، وأنكر النبلاء الغضاب أبوته وقدرته على الإنجاب، وأجبروه على أن يستخلف أخته إيزابلا ولكنه أعاد تأكيد بنوة جوانا وحقها في الحكم عندما جاءته الوفاة (1474) ومن هذا الاضطراب المعطل للمرافق، صاغ فرديناند وإيزابيلا النظام والحكم اللذين جعلا أسبانيا أقوى دولة في أوربا مدى قرن من الزمان. ومهد السفراء لتحقيق ذلك بإقناع إيزابيلا، وهي في الثامنة عشرة من عمرها أن تتزوج ابن عمها فرديناند، البالغ من العمر سبع عشرة سنة فقط (1469) وكان العروسان معا من نسل هنري أمير ترستامارا، وكان فرديناند قد أصبح بالفعل ملكاً على صقلية، وإذا مات أبوه يصبح ملكاً على أرجوان ايضاً، فجمع الزواج لذلك ثلاث دول في مملكة قوية واحدة، وامتنع بول الثاني من إعطاء الوثيقة البابوية المطلوبة لتجعل زواج أبناء الأعمام شرعياً، وزيفت الوثيقة المنشودة على يد فرديناند وأبيه وكبير أساقفة برشلونة، وبعد أن تم هذا الصنيع صدرت وثيقة أصلية عن البابا سكتوس الرابع، وبقيت صعوبة مادية أكبر هي فقر العروس، الذي أبى أخوها أن يعترف بالزواج، وفقر العريس الذي أنهمك أبوه في الحرب، انهماكاً يجعله لا يستطيع إقامة حفل ملكي، ويسر محام يهودي طريق السياسة الخالصة، بأن قدم قرضاً مقداره عشرون ألف سولدس سددتها إيزابيلا عندما أصبحت ملكة على قشتالة (1474).

وتحدى حقها في اعتلاء العرش أفرنسو الخامس ملك البرتغال الذي تزوج من جوانا. وحددت الحرب في تورو النتيجة إذ قاد فرديناند القشتاليين إلى النصر (1476) وبعد ذلك بثلاث سنوات ورث عرش أراجون وهكذا أصبحت إسبانيا بأسرها ما عدا غرناطة ونافار في ظل حكومة واحدة. وظلت إيزابلا ملكة على قشتالة فقط، وحكم فرديناند أراجون وسردينيا وصقلية وشارك في حكم قشتالة واحتفظ لإيزابلا بالإدارة الداخلية لقشتالة، ولكن المواثيق والمراسيم الملكية كانت توقع منهما معا، وحملت العملة الجديدة رأسيهما معاً. وجعلت صفاتهما الحميدة فرديناند وإيزابلا أكثر زوجين ملكيين تأثيراً في التاريخ.


وكانت إيزابلا ذات جمال لا يعادله جمال، هكذا قال رجال حاشيتها أي أنها كان لها نصيب من الجمال، كانت متوسطة القوام، ذات عينين زرقاوين وشعر كستنائي يميل إلى الحمرة. ونالت من التعليم حظا أكبر من فرديناند، وكانت أقل منه ذكاء وأرق حاشية. وكانت تستطيع أن ترعى الشعراء وأن تتحدث إلى الفلاسفة الحذرين، ولكنها آثرت صحبة القساوسة. واختارت أكثر الأخلاقيين تزمتاً ليكونوا أصحاب هدايتها واعترافها. ومع أنها زفت إلى زوج غير أمين فيبدو أنها حافظت على العهود الزوجية الكاملة إلى النهاية، وعاشت في عصر مائع كعصرنا إلا أنها كانت نموذجاً للفخر. ظلت وسط الموظفين الفاسدين والسفراء المنحرفين صريحة مستقيمة لا يتطرق إليها الفساد. ولقد ربتها أمها على الصرامة في اتباع السنة والتقوى، وتوسعت إيزابلا فيهما إلى حد التقشف، وكانت شديدة قاسية في القضاء على الهرطقة بمقدار ما كانت رحيمة كريمة في كل أمر آخر. وكانت الرقة نفسها بالنسبة لأطفالها، وسند الوفاء لأصدقائها. وبذلت وأعطت في سعة للكنائس والأديرة والمستشفيات. ولم تمنعها أرثوذكسيتها من اتهام بعض بابوات عصر النهضة بالخروج على الأخلاق. وتفوقت في كل من الشجاعة المادية والمعنوية، ولقد صمدت للنبلاء الأقوياء وأخضعتهم ونظمتهم واحتملت بهدوء أقصى ضروب الحرمان. وواجهت بشجاعة تنتقل منها إلى غيرها أهوال الحرب وأخطارها. ورأت أن من الحكمة أن تحرص على مظهر الملكة أمام الشعب وغالت في المظاهر الملكية إلى حد البذخ في الحلل والحلي، أما في حياتها الخاصة فقد كانت بسيطة الثياب، معتدلة في طعامها وتزجي فراغها بالتطريز الدقيق للكنائس التي تؤثرها. وعملت بضمير حي في القيام بشئون الحكومة وأخذت على عاتقها المبادأة في الإصلاحات الرشيدة ونهضت بالقضاء وربما كانت في ذلك صارمة أكثر من اللازم، ولكنها صممت على أن ترفع مملكتها من الاضطراب الذي لا يعرف قانوناً إلى سلم يعتصم بالقانون ووضعها المعاصرون الأجانب أمثال باولو وجيوفيو وجويشياردين والفارس بايار، بين أقدر ملوك العصر، وشبهوها بالبطلات العظيمات في التاريخ القديم. وقدسها رعاياها، بينما احتملوا بصبر نافذ.

ولم يستطع أهل قشتالة أن يغتفروا لفرديناند أنه دخيل عليهم - أي أرجوني ورأوا فيه نقائض كثيرة حتى وهم يمجدون انتصاراته باعتباره رجل دولة وسياسيا ومحارباً ووازنوا بين مزاجه الفاتر المتحفظ وبين حرارة الملكة في عطفه، وبين انطوائه الحذر وبين صراحتها المستقيمة، بين تقتيره وكرمها، بين كزازته في معاملة معاونيه وبين انبساط يدها بالمكافأة على ما يقدم لها من خدمات، بين صبواته وبين قناعتها الهادئة، ولم ينكروا عليه إنشاءه لمحاكم التفتيش ولا استغلاله لعواطفهم الدينية كسلاح من أسلحة الحرب، فقد استحسنوا حملته على الهرطقة وفتحه غرناطة وطرده اليهود والمسلمين الذين لم ينتصروا، وكان أكثر ما يحبون فيه أقل ما يعجب الخلف. فلم نسمع احتجاجاً على صرامة قوانينه - قطع اللسان على السب والإحراق حياً على اللواط ولاحظوا أنه يجنح إلى العدالة بل إلى التساهل، إذا لم يمنع ذلك امتيازاً شخصياً أو يعطل سياسة قومية وأنه يستطيع أن يقود جيشه بشجاعة وبراعة، إن آثر مساجلة العقول بالمفاوضة أكثر من منازلة الإنسان في الحرب وأن بخله لم يكن للإنفاق على أسباب الترف الشخصي ولا بد أنهم تثبتوا من عاداته التي تؤثر الاعتدال ورباطة جأشه في الملمات، واتزانه عند النجاح، واختيار الرشيد لمعاونيه، وجهده المبذول بلا كلل على شئون الحكومة وشعبه وراء أهداف بعيدة بكياسة مملة ووسائل حذرة. واغتفروا له الظهور بوجهين باعتباره سياسيا وكثرة حنثه بوعده، ألم يحاول جميع الحكام غيره بوسائل مماثلة أن يدعوا قرابتهم له ويحتالوا على إسبانيا؟ ولقد قال متجهما "إن ملك فرنسا يشكو أنني خدعته مرتين. إنه يكذب، ذلك الغبي لقد خدعته أكثر من عشر مرات". ودرس مكيافلي بعناية سيرة فرديناند وأفاد من دهائه ومدح أعماله... بأنها كلها عظيمة وبعضها صادق. ووصفه أنه أفضل ملك في العالم المسيحي. وكتب جويكشيارديني " ما أعظم الفرق بين أقوال هذا الأمير وأفعاله، وكيف يضع خططه في عمق وتكتم". ورأى البعض أنه محدود. ولكن الحق أن حظه الموفق إنما كان في تدابيره للأحداث بعناية وانتهازه للفرص السانحة وإذا أحكم التوازن بين فضائله وجرائمه، فإنه يبدو أنه دفع إسبانيا بوسائل شريفة وأخرى دنيئة، من أجزاء متناثرة عقيمة متعددة الألوان، إلى وحدة وقوة جعلتاها في الجيل التالي المسيطرة وحدها على أوربا.

ولقد تعاون فرديناند مع إيزابلا على إعادة الاستقرار للأنفس والأموال في قشتالة، وفي بعث السانتا هرمانداد أو الآخر ة المقدسة لتكون حرسا أهليا محليا لتحافظ على النظام، وفي إنهاء السطو في الطرق العمومية والدسائس الجنسية في البلاط، وفي إعادة تنظيم المحاكم وتوحيد القوانين، وفي استرداد أراضي الحكومة التي سلمها الملوك السابقون بغير اكتراث إلى المقربين، وفي أخذ النبلاء بالطاعة الكاملة للتاج، وهنا أيضا، كما كان الحال في فرنسا وإنجلترا، أسلمت الحرية والفوضى الإقطاعيات إلى النظام المركزي للملكية المطلقة وتنازلت المجالس البلدية بدورها عن امتيازاتها، وقلما اجتمعت المجالس الإقليمية وكان اجتماعها في الغالب للموافقة على أموال تمنح للحكومة، وذبلت ديمقراطية واهية الجذور وماتت في ظل ملك صلب المراس. بل ان الكنيسة الإسبانية التي كانت عزيزة على الملكين الكاثوليكيين los reyes catolicas انتزع منها جانب من ثرواتها وكل حقها في التشريع المدني، وأصلحت إيزابلا أخلاق رجال الدين بصراحة ، وأكره البابا سكتوس الرابع، على التنازل للحكومة عن حق تعيين كبار رجال الكهنوت في الكنيسة الإسبانية ورقي الكهنة القادرون أمثال بدرو جنزالس ده مندوزا واكسمنس ده نيروس، لينصبوا كبار أساقفة دفعة واحدة لطليطلة ورؤساء وزراء في الدولة.

وكان الكاردينال اكسمينس شخصية إيجابية قوية كالملك، ولقد انحدر من أسرة نبيلة وإن كانت رقيقة الحال، فذهب في طفولته للكنيسة، وأحرز في جامعة سالامنكا وهو في سن العشرين، إجازات الدكتوراه في كل من القانونين المدني والكنسي. وعمل سنوات قسيسا وناظراً لمندوزا في أسقفية سيجونزا وكان ناجحاً ولكن غير سعيد ، ولم يأبه بالجاه أو المناصب، فالتحق بأكثر فرق الأديرة صرامة في أسبانيا - وهي الفرنسيسكان الملتزمون بالأوامر والنواهي Observantine Franciscans". ولم يبهجه غير الزهد فكان ينام على التراب أو الأرض الصلبة ويكثر من الصوم ويضرب نفسه بالسياط، ويلبس قميصا من الشعر على جلده. وفي عام 1492 اختارت إيزابلا الورعة هذا المتعبد النحيل راعيا لكنيستها الخاصة ومتلقيا لاعترافاتها. وقبل ولكن بشرط وهو أن يسمح له بالاستمرار في سكن الدير والتزام قواعد الفرنسسكان الصارمة، وجعلته رئيسها المحلى، واستجابت لإلحاحه في الإصلاح العسير. ولما رشحته إيزابلا كبيراً لأساقفة طليطلة (1495) رفض قبول المنصب، ولكنه استسلم بعد إباء ستة أشهر لنشرة بابوية تأمره بالخدمة. وكان قد أشرف على الستين من عمره، ويبدو أنه كان يرغب صادقا أن يعيش راهبا. واستمر على طباعه الخشنة وهو مطران إسبانيا ورئيس المجلس الملكي، وكان يلبس تحت الأردية الفخمة التي يتطلبها منصبه، ذلك الجلباب الفرنسسكاني الخشن، وتحته قميص الشعر كما اعتاد قبل ذلك. وطالب جميع فرق الرهبان في الأديرة بأن تجرى نفس الإصلاحات التي أجرتها فرقته فعارضه كبار رجال الدين ولكن الملكة أيدته وكأنما تجرد القديس فرنسيس من تواضعه وزود فجأة بقوتي برنارد ودومنيك وقدرتيهما.

ولم يكن ليرضى هذا القديس العبوس، أن يجد يهوديين لم ينتصرا لهما مكانة مرموقة في البلاط. أحدهما من أكثر مستشاري إيزابلا ثقة وهو إبراهام سنيور، وقد أخذ هو وإسحاق إبرابانيل يجمعان الموارد لفرديناند وينظمان تمويل حرب غرناطة. وكان الملك والملكة وقتذاك معنيين بالمنتصرين بصفة خاصة آملين أن يأتي وقت يصبح فيه هؤلاء مسيحيين مخلصين وأجرت إيزابلا مدرسة لأصول الدين لتعليمهم، ومع ذلك فقد احتفظ كثير منهم بعقيدته السالفة سراً ولقنوها أبناءهم. وسكنت كراهية الكاثوليك لليهود غير المعمدين إلى حين، بينما اشتد الحنق على "المسيحيين الجدد" ونشبت الفتن ضدهم في طليطلة (1467) وبلد الوليد(1470) وقرطبة (1472) وسيجوفيا (1474) وأصبحت المسألة الدينية عنصرية أيضاً، ودبر الملك والملكة الفتيان الوسائل التي تحول هذا المزيج المضطرب في الشعوب واللغات والمذاهب المتصارعة إلى وحدة منسجمة وسلام اجتماعي. ورأيا أن خير وسيلة لبلوغ هذه الأهداف هي إعادة محاكم التفتيش إلى إسبانيا.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وسائل محكمة التفتيش

نحن اليوم غير متحققين ومختلفون في آرائنا حول أصل العالم والإنسان ومصيرهما حتى إننا أمسكنا في معظم البلاد، عن معاقبة الناس لمجرد أنهم يختلفون عنا في معتقداتهم الدينية. ونحن إنما نوجه تسامحنا الحاضر إلى أولئك الذين يناقشون مبادئنا السياسية والاقتصادية، ونحن نفسر مذهبنا الثابت المروع على أساس أن أي شك في وجه ادعائنا الذي نقيم عليه الدليل، يهدد تماسكنا وبقاءنا القوميين. ولقد كان المسيحيون واليهود والمسلمون إلى منتصف القرن السابع عشر، اكثر تشبثا بالدين مما نحن عليه الآن، وكانت علوم الملام هي أثمن وأوثق ما يملكون، ونظروا إلى أولئك الذين ينكرون هذه المذاهب كأنما يهاجمون أصول النظام الاجتماعي وجوهر الحياة الإنسانية. واعتقاد كل جماعة بصحة مذهبها جعلتها متشددة إلى حد التعصب ودمغ الآخرين بأنهم كفار. وانتشر مبدأ محكمة التفتيش في يسر بين الأشخاص الذين لم تتأثر مذاهبهم الدينية بالتعليم والرحلة، والذين كانت عقولهم أكثر خضوعاً لحكم العادة والخيال. واعتقد جميع مسيحي القرون الوسطى تقريباً عن طريق تعليمهم في الطفولة والوسط الذي عاشوا فيه بأن الكتاب المقدس من وحي اللّه بكل لفظ فيه، وأن ابن اللّه قد أنشأ الكنيسة المسيحية مباشرة. وبدا أنه ينتج عن هذه المقدمات أن اللّه يريد أن تكون جميع الأمم مسيحية وأن الإيمان بديانات غير مسيحية- أو ضد المسيحية على التحقيق- يعد كبيرة في حق اللّه. يضاف إلى ذلك، أنه ما دامت كل هرطقة مادية تؤدي بالضرورة إلى عقاب أبدي فإن المختصين منها قد يعتقدون (ويظهر أن كثيرين منهم قد اعتقدوا بإخلاص) أنهم بإرهاق روح هرطيق، إنما ينقذون الهدى الكامن فيه وربما أنفذوه هو نفسه من الجحيم الأبدي.

ومن المحتمل أن إيزابلا، التي عاشت في جو علماء الدين، قد شاركت في هذه الآراء. ولعل فرديناند، الذي كان رجلا صلبا من رجال الدنيا قد ارتاب في بعضها، ولكن يبدوا أنه اقتنع بأن توحيد العقيدة الدينية يجعل إسبانيا أيسر حكماً، وأقدر في التغلب على أعدائها. ولقد أصدر البابا سكستوس الرابع، بناء على رغبة فردينان وإيزابلا قراراً (أول نوفمبر 1478) يفوض لهما أن يعينا ستة قسس، من ملة الإجازات العليا في علوم الدين والشريعة، ليؤلفوا هيئة محكمة التفتيش ليحققوا تهم الهرطقة ويعاقبوا عليها. وأبرز شيء في هذا القرار هو إعطاء السلطة لملوك إسبانيا.

أن يعينوا هيئة محاكم التفتيش، التي كانت في صورها السابقة، تختار بوساطة رؤساء فرق الفرنسسكان والدومنيكان المحلية. وهكذا أصبح الدين هنا خاضعا للدولة مدى ثلاثة أجيال، وكان قضاة هذه المحاكم يرشحهم الملوك فقط من الناحية العملية، ثم يعينهم البابا، ويستمدون سلطتهم من هذا القرار البابوي، وظلت المنظمة كهنوتية، ووسيلة من وسائل الكنيسة وفي الوقت نفسه وسيلة من وسائل الدولة. وكان على الدولة أن تدفع نفقاتها وأن تحصل على دخلها الخالص ويراقب الملوك تفاصيل أعمالها، وإليهم قد تستأنف أحكامها. وآثر فرديناند بمحبته هذه الوسيلة من بين جميع وسائل حكمه. ولم تكن أهدافه أول أمرها مالية، فقد غنم من الأموال المصادرة للمحكوم عليهم ولكنه رفض رشاوى مغرية من الضحايا الأغنياء للتأثير على القضاة، وكان همه منصباً على توحيد أسبانيا. وأعطى القضاة سلطة استخدام المعاونين من رجال الدين ومن المدنيين كمحققين ومنفذين للأحكام . ووضعت المنظمة برمتها بعد عام 1483 تحت إمرة وكالة حكومية، هي هيئة التفتيش العامة وتسمى عادة "مجلس محكمة التفتيش العليا والعامة "Concejo de la Suprema-y General Inquisicior، وشمل تشريع محكمة التفتيش جميع المسيحيين في أسبانيا، ولم تمس اليهود الذين لم ينتصروا، ووجهت أهوالها إلى المنتصرين الذين يشك أنهم ارتدوا إلى اليهودية أو الإسلام وإلى المسيحيين المتهمين بالهرطقة، وكان اليهودي غير المنتصر إلى عام 1492 آمنا على نفسه أكثر من المعمد. وطالب القس والرهبان والمتعبدون الإعفاء من التفتيش؛ ولكن مطالبهم رفضت، وقاوم اليسعيون تشريعها نصف قرن ولكنهم غلبوا على أمرهم أيضاً. والحد الوحيد لقوة الهيئة العليا إنما هو سلطة الملوك، بل أن هذا الحد قد أهمل في القرون المتأخرة. وطالبت محكمة التفتيش وتلقت عادة التعاون من جميع الموظفين المدنيين. وشرعت محكمة التفتيش القوانين والإجراءات الخاصة بها. وكانت قبل أن تقيم قضاتها في مدينة من المدن تذيع في الشعب عن طريق منابر الكنائس منشوراً دينياً "يطالب كل من له علم بهرطقة أن يكشف عنها لرجال التفتيش. وشجع كل امرئ على أن يكون شاهدا، ليبلغ عن جيرانه وأصدقائه وأقاربه. (ولم يكن يسمح في القرن السادس عشر مع ذلك باتهام الأقربين ووعد المبلغون بالسرية الخالصة والحماية التامة، وأوقع حرم صارم- أي حرمان ولعنة- على هؤلاء الذين يعرفون هرطيقاً ويخفونه. فإن ظل يهودي معمد يأمل في عودة المسيح، وإذا حافظ على قواعد الطعام التي في الشريعة الموسوية وإذا اعتبر السبت يوم عطلة وعبادة أو غير ملابسه لذلك اليوم، وإذا احتفل بأي وجه من الوجوه بيوم من أعياد اليهود، وإذا ختن أي واحد من أطفاله أو أسماه باسم عبري، أو باركهم دون أن تقوم بعلامة الصليب، وإذا صلى بحركات رأسه أو ردد مزموراً من مزامير الكتاب المقدس دون أن يضيف تمجيد الله في الأعالي، وإذا اتجه بوجهه إلى الحائط وهو يحتضر، فإذا فعل هذا وأمثاله، كانت عند رجال التفتيش من الشواهد على الهرطقة السرية التي لابد من إبلاغها إلى المحكمة فوراً. ولكل من يشعر بأنه اقترف هرطقة فله في خلال "مهلة صفح" أن يأتي إلى المحكمة ويعترف بها، فيحكم عليه بغرامة أو تفرض عليه كفارة ويصفح عنه بشرط أن يكشف عن كل ما يعرفه عن هراطقة آخرين.

ويلوح أن قضاة محكمة التفتيش كانوا يفصحون بعناية القرائن التي جمعها المبلغون والمحققون. حتى إذا اقتنعت المحكمة بالإجماع بإدانة شخص من الأشخاص فأنها تصدر أمراً بالقبض عليه. ويتحفظ على المقبوض عليه في سجن انفرداي، حيث لا يسمح لغير عملاء محكمة التفتيش بالتحدث إليه، ولا يزوره أحد من أقربائه. وكان يقيد بالسلاسل عادة. ويطلب إليه أن يستحضر معه فراشه وملابسه، وأن يدفع جميع نفقات محبسه وطعامه. فإذا لم يقدم المال الكافي لهذا الغرض فإنه يباع القدر المناسب من متاعه ليفي بالمبلغ المطلوب. أما باقي أمتعته فيحجز عليه بوساطة مندوبي محكمة التفتيش حتى لا يخبأ أو يتنازل عنه هرباً من المصادرة. وفي معظم الأحوال يباع جانب منه لإعانة من يعجزون عن العمل من أسرة الضحية. وعندما يدفع المقبوض عليه للحضور أمام المحاكمة فإن المحكمة وقد سبق وأن حكمت عليه بأنه مذنب، تلقى على كاهله عبء إثبات براءته. وكانت المحكمة سرية خاصة وعلى المدافع عن نفسه أن يقسم على أنه لن يشفى أية واقعة من الوقائع في حالة إطلاق سراحه. ولا يستدعى شهود إثبات التهمة إليه، ولا يذكر له اسم أحد، وبرز قضاة التفتيش هذا الإجراء بأنه ضروري لحماية مبلغهم. ولم يكن يخبر المتهم أولا عن التهم الموجهة ضده، وإنما يستدعى لمجرد الاعتراف بتقصيره كما تقضى بذلك العقيدة والعبادة الصحيحتان وأن يشي بكل الأشخاص الذين يتهمون بالهرطقة. فإن أقنع اعترافه المحكمة فقد يصدر عليه حكم غير الإعدام، وإذا أبى الاعتراف سمح له باختيار محامين للدفاع عنه، ويتحفظ عليه في الوقت نفسه في سكن انفرادي. وفي كثير من الأحوال كان يعذب ليكره على الاعتراف وتستمر القضية عادة شهوراً، ويكفي التقييد بالسلاسل في السجن الانفرادي غالباً للحصول على أي اعتراف. ولم يكن يلجأ إلى التعذيب إلا بعد أن يقترع عليه أغلبية قضاة المحكمة على أساس أن الذنب محتمل، وإن كانت القرائن لا تقطع به. ويؤجل التعذيب الذي يحكم به على هذا النحو غالباً على أمل أن الفزع منه يدفع إلى الاعتراف ويبدو أن قضاة التفتيش اعتقدوا بإخلاص أن التعذيب خدمة للمدافع عن نفسه وهو الذي سبق أن عد مذنباً، فقد يكسبه بالاعتراف عقاباً أخف، بل أنه إذا حكم بإعدامه بعد اعترافه يحصل من قسيس على المغفرة تنجيه من الجحيم؛ ومع ذلك، لم يكن الاعتراف بالذنب كافياً، فقد يلجأ إلى التعذيب مع مدافع عن نفسه لإكراهه على ذكر شركائه في الهرطقة أو الجريمة. وربما عذب الشهود المتناقضون للكشف عمن يذكر الحقيقة منهم؛ وقد يعذب العبيد ليقيموا الدليل على ساداتهم. ولم يكن هناك حد في السن ينقذ الضحايا، ذلك أن فتيات في الثالثة عشرة ونسوة في الثمانين قد ألزمن العذراء ، بيد أن قواعد محكمة التفتيش الأسبانية حرمت التعذيب بالنسبة للمراضع أو ذوي القلوب الضعيفة أو المتهمين بهرطقات صغيرة كالأخذ بالرأي الشائع الذي يقول إن الزنا خطيئة صغيرة يصفح عنها. ويجب أن يحال بين التعذيب وبين إصابة الضحية بعاهة مستديمة، ولا بد أن يوقف كلما أمر الطبيب المسئول، ولا ينفذ إلا بحضور قضاة التفتيش المنوط بهم القضية، وأحد الأعيان وكاتب للتسجيل وممثل للأسقف المحلي. واختلفت الوسائل باختلاف الزمان والمكان. وقد توثق يد الضحية خلف ظهرها ويعلق منهما أو يربط وثاقه حتى يعجز عن الحركة تماماً، ثم يقطر الماء في حلقه حتى يشرف على الاختناق؛ وقد تربط يداه ورجلاه بالحبال ربطاً وثيقاً حتى تقطع اللحم إلى العظام. ولقد أنبئنا أن وسائل التعذيب التي استعملتها محكمة التفتيش الأسبانية كانت أخف مما استخدمته محاكم التفتيش البابوية السابقة، أو مما توسلت به المحاكم المدنية في ذلك العصر. وكان أهم وسائل التعذيب السجن الطويل الأمد.

ولم تكن محكمة التفتيش تتألف من مدع وقاض ومحلفين فقط، ولكنها أصدرت أيضاً أوامر خاصة بالعقيدة والأخلاق وأنشأت مراتب للعقوبات وكانت رحيمة في معظم الأحوال، وتتسامح في جزء من العقوبة بسبب سن المحكوم عليه أو جهله أو فقره أو سكره أو سمعته الحسنة بصفة عامة. وكانت أخف العقوبات هي التعنيف. وأقسى منها هو الإكراه على المجاهرة بالإقلاع عن الهرطقة أمام الناس- التي تترك حتى البريء ميسوماً بها إلى آخر حياته، وكان يطلب عادة إلى المعاقب بالأشغال الشاقة أن يحضر القداس بانتظام، ومرتدياً لباس الإدانة "sanbenito" وهو جلباب رسم عليه صليب برّاق. وربما عرض في الطرقات وقد جرد من ثيابه إلى وسطه وحمل شعار جريرته. وقد يحرم هو وذووه من المناصب العامة إلى الأبد. أو ينفى من مدينته، وقلما ينفى خارج أسبانيا. وقد يجلد من عشر جلدات إلى مائة جلدة إلى الحد الذي لا تزهق فيها روحه. وكانت هذه العقوبة تطبق على النساء كما تطبق على الرجال. وقد يلقى به في السجن أو يدفع به إلى السفن- وهو ما أوصى فرديناند بأنه أنفع للدولة، وربما دفع غرامة مادية أو صودرت أمواله. وقد اتهم بعض الموتى بالهرطقة في أحوال متعددة وحوكموا بعد الموت وحكم عليهم بالمصادرة فيفقد الورثة في هذه الحالة ميراثهم. وكان المبلغون عن الهراطقة الموتى يمنحون من 30% إلى 50% من المتحصل. ودفعت الأسر المفزعة من هذه المحاكمات ذات الأثر الرجعي للمبلغين في بعض الأحيان "مصالحات" تأميناً لهم من مصادرة ميراثهم فأصبحت الثروة خطراً على صاحبها وإغراء للمبلغين والمفتشين والحكومة. حتى إذا انسابت الأموال في خزائن محكمة التفتيش فإن موظفيها أصبحوا أقل اهتماماً بالمحافظة على العقيدة الصحيحة من الحصول على الذهب وانتشر الفساد انتشاراً مروعاً.

وكانت العقوبة القصوى هي الإحراق في المحرقة. وهي للذين حكم عليهم بأنهم اقترفوا هرطقة عظيمة، ولم يعترفوا قبل بدء المحاكمة، ولأولئك الذين اعترفوا في الوقت المناسب وخففت عنهم عقوبتهم أو صفح عنها ولكنهم ارتدوا إلى الهرطقة. وصرحت محكمة التفتيش نفسها بأنها لم تقدم على القتل قط، وقصاراها أنها كانت تسلم المحكوم إليه إلى السلطات المدنية، وقد علمت أن القانون الجنائي يجعل في المحرقة نافذاً في جميع العقوبات على الهرطقة الكبيرة أو التي لا توبة عليها. وإن حضور رجال الكهنوت عند المحرقة يدل على مسؤولية الكنيسة، ولم يكن المشهد الخاص بالإيمان هو مجرد الإحراق، لكنه الاحتفال المؤثر المروع كله بالنطق بالحكم والتنفيذ. ولم يكن مقصوداً على ترويع المخالفين في السر، وإنما لتهذيب الشعب كأنما يطلعونها مقدما على الحساب. وكان الإجراء في أول أمره بسيطاً فإن الذين يحكم بإعدامهم يقادون إلى الساحة العامة، وكانوا يوثقون بأربطة على كومة حطب، بينما يجلس قضاة التفتيش في أبهة على منصة تواجهها، ويطلب للمرة الأخيرة إلى المحكوم عليه أن يدلي باعترافه، وتقرأ عليه الأحكام، وتشعل النيران، ويبلغا الفزع منتهاه. بيد أن كثرة الإحراق وفقد بعض سلطانها النفسي، جعل الاحتفال أكثر تعقيداً ورهبة وعنى بإظهاره بكل أسباب العناية والنفقة، التي يتطلبها إخراج مسرحي كبير. وكان يحدد ميعاده كلما أمكن ذلك للاحتفال بالاعتلاء على العرش أو الزواج أو الزيارة من ملك أو ملكة أو أمير أسباني. وكان يدعى موظفو البلديات والحكومة وهيئة محكمة التفتيش والقسس والرهبان المحليون، بل في الواقع كان يطلب حضورهم. وفي أمسية التنفيذ ينضم هؤلاء الأماثل إلى موكب كئيب يسير في طرق المدينة الرئيسية ليضع صليب محكمة التفتيش الأخضر فوق مذبح الكاتدرائية أو الكنيسة الرئيسية. وتبذل محاولة أخيرة للحصول على اعترافات المحكوم عليهم، فيستسلم كثيرون منهم، وتخفف أحكامهم إلى السجن فترة من الزمن أو مدى الحياة. وفي الصباح التالي يساق المسجونون وسط الجموع الغفيرة إلى إحدى ساحات المدينة. وفيهم الدجالون والمجدفون في الدين والمضارون والهراطقة والمرتدون، وفي الأيام المتأخرة كان يساق البروتستانت، وينتظم الموكب أحياناً دمى تمثل المحكوم عليهم غيابياً او- صناديق تحمل عاظم الذين حكم عليهم بعد الموت. وفي الباحة على مدرج مرتفع أو أكثر، يجلس قضاة محكمة التفتيش ورجال الدين من قساوسة ورهبان وموظفو المدينة والدولة، يرأسهم الملك بين حين وآخر. وتذاع عظة، يؤمر بعدها جميع الحضور بترديد يمين الطاعة لحكام محكمة التفتيش المقدس وعهد ينكر ويحارب الهرطقة بجميع أشكالها وفي كل مكان. ثم يساق المسجونون واحداً بعد واحد، أمام المحكمة، وتتلى عليهم الأحكام الخاصة بهم. ويجب علينا ألا نتخيل معارضة باسلة لذلك، وربما كان كل سجين في هذه المرحلة مشرفا على التلف الروحي والانهيار البدني. بل إنه قد ينقذ حياته في هذه اللحظة بالاعتراف. وفي تلك الحالة تقنع محكمة التفتيش بجلده ومصادرة أمواله وسجنه مدى الحياة، وإذا لم يعترف إلا بعد صدور الحكم عليه، فإنه يغنم الرحمة بشنقه قبل إحراقه، ولما كانت الاعترافات في اللحظة الأخيرة كثيرة، فقد أصبح إحراق الأحياء نادراً نسبياً، أما الذين يحكم عليهم بالهراطقة الكبيرة، وينكرون ذلك إلى النهاية، يحرمون ( وظل ذلك مرعيا إلى عام 1725) من الكنيسة المقدسة، ويتركون برغبة محكمة التفتيش للجحيم الأبدي. أما الذين تخفف أحكامهم فيعادون إلى السجن، والذين لم تقبل توبتهم فيدفع بهم إلى السلطة المدنية، مع تحفظ وردع بعدم إراقة دم. ويساقون إلى خارج المدينة وسط حشود تجمعت من مسافات بعيدة للفرجة على هذا المشهد من مشاهد العطلة. حتى إذا وصلوا إلى مكان التنفيذ شنق المعترفون ثم أحرقوا بينما يحرق المعاندون أحياء. وتظل النيران تغذى بالوقود حتى تصير العظام رماداً، ينتثر على الحقول والجدران. ثم يعود القساوسة والمشاهدون إلى مذابحهم ودورهم مقتنعين، بأن قرباناً قدم استعطافاً لإله غاضب من الهرطقة. وهكذا أعيد القربان البشري.


تقدم محكمة التفتيش (1480 - 1516)

عين فرديناند وإيزابلا القضاة الأوائل لمحكمة التفتيش في سبتمبر من عام 1480، لمنطقة إشبيلية. ففر كثيرون من الإشبيليين المتنصرين إلى الريف، وبحثوا عن الملجأ الأمين عند السادة الإقطاعيين، وكانت عند أولئك رغبة في حمايتهم، ولكن قضاة التفتيش هددوا البارونات بالحرمان من غفران الكنيسة ومصادرة الأموال، فما كان منهم إلا أن سلموا اللاجئين، أما في المدينة نفسها فقد دبر بعض المتنصرين المقاومة المسلحة ولكن التدبير أفشى، وقبض على الضالعين في هذا التدبير وسرعان ما امتلأت السجون. وتبعت ذلك محاكمات متعجلة غضوب، واحتفل بأول محرقة أثمرتها محكمة التفتيش الإسبانية في السادس من فبراير لعام 1481 بإحراق ستة من الرجال والنساء. وما أن جاء الرابع من نوفمبر للعام نفسه، حتى كان قد أحرق ثمانية وتسعون ومائتا شخص وسجن مدى الحياة تسعة وسبعون شخصاً.

وفي عام 1483 عين البابا أسكستوس الرابع بترشيح وطلب من فرديناند وإيزابلا، راهباً دومينيكيا، هو توماس ده تور كيمادا، مفتشاً عاماً لإسبانيا بأسرها، وكان مؤمناً متعصباً لا يتطرق الفساد إليه، يحتقر الترف ويعمل بحماسة شديدة ويحتفل بفرصته السانحة ليخدم المسيح بتصيد الهراطقة وكان يؤنب قضاة التفتيش على التساهل، ونقض كثيراً من أحكام البراءة وطالب الربانيين في طليطلة مهدداً إياهم بالموت أن يبلغوا عن الذين ارتدوا إلى اليهودية. وفزع البابا إسكندر السادس من قسوته، وهو الذي سبق أن مدحه على أخلاقه لعمله، فأمره (1494) أن يشرك في سلطته مفتشين عامين آخرين. وتجاوز توركيمادا هذين الزميلين؛ واحتفظ برآسة حازمة عليهما. وجعل محكمة التفتيش حكومة في داخل الحكومة تضارع سلطة الملوك. وأحرقت محكمة التفتيش في سوداد ريال بدافع منه في ستين (1483- 84) اثنين وخمسين شخصاً وصادرت أموال مائتين وعشرين شريداً وعاقبت مائة وثمانين تائباً. وفي مدى سنة واحدة من نقل المفتشين لمقرهم الرئيسي إلى طليطلة قبضوا على سبعمائة وخمسين يهودياً متنصراً وصادروا خمس أموالهم، وحكموا عليهم بأن يسيروا في مواكب حاشدة في ستة أيام جمعة، يضربون أنفسهم بسياط من القنب، وفي هذه السنة(1486) أقيمت محرقتان أخريان وأحرقت رفات ألف وستمائة وخمسين تائباً. وبذلت جهود مماثلة في بلد الوليد ووادي لوب وغيرهما مند مدن قشتالة.

وقاومت أراجون محكمة التفتيش بشجاعة يائسة. فقد أغلق حكام تيرول أبواب المدينة في وجه المفتشين. فما كان من هؤلاء إلا أن أصدروا قرار الحرمان على سكانها وأوقف فرديناند مرتبات موظفي المجلس البلدي، وسير جيشاً يكره الأهلين على الطاعة، أما الفلاحون المجاورون الذين كانوا على عداء دائم للمدينة؛ فقد هرعوا يؤيدون محكمة التفتيش، التي وعدتهم بالإعفاء من جميع الإيجارات والديون التي عليهم لأشخاص المتهمين بالهرطقة. واستسلمت مدينة تيرول وأعطى فرديناند المفتشين سلطة تفي كل شخص يشكون في أنه اشترك في المقاومة، وفي سرقوسة انضم إخوة المسيحيين القدماء إلى الإخوة "المسيحيين الجدد" في الاحتجاج على دخول محكمة التفتيش مدينتهم، ومع ذلك فلما أقيمت محكمة التفتيش هناك اغتال بعض المتنصرين أحد رجالها(1485) وكان ذلك خطأ مهلكاً، لأن الأهلين المفزعين احتشدوا في الطرقات صائحين "احرقوا المتنصرين" وسكن كبير الأساقفة من روع الغوغاء بأن وعد بالمحاكمة السريعة. وقبض على جميع المتآمرين تقريباً وأعدموا، وقفز أحدهم ليلقى مصرعه من البرج الذي سجن فيه؛ وحطم آخر مصباحاً من الزجاج وابتلع شظاياه، ثم وجد ميتاً في محبسه. ورفض مجلس الكورتيس في بلنسية، السماح للمفتشين بمزاولة عملهم، فأمر فرديناند بالقبض على كل من يحول بينهم وبين أداء مهمتهم، واستسلمت بلنسية. وخنق الملك تأييداً للتفتيش الحريات التقليدية لأرجون، الواحدة بعد الأخرى؛ وأثبت اتحاد الكنيسة مع الملكية، بقرارات الحرمان والجيوش الملكية، بأنه أقوى من أن تقاومه مدينة أو ولاية بمفردها. وحددت في بلنسية وحدها عام 1488 تسعمائة وثلاثة وثمانون حكماً بالهرطقة وأحرق مائة رجل.

فكيف نظر الباباوات إلى اصطناع محاكم التفتيش كأداة من أدوات الدولة ليس من شك في أن عدداً من البابوات قد حاولوا أن يوقفوا مثل هذا الإفراط وأن يبسطوا حمايتهم على ضحايا التفتيش بين حين وآخر، منكرين هذا التحكم المدني؛ ومدفوعين في الغالب بالعواطف الإنسانية مع إدراكهم للمصاريف الباهظة التي تدفع للتصديق على أحكام محكمة التفتيش. فقد أصدر البابا سكستوس الرابع عام 1482 منشوراً بابوياً لو نفذ لوضع حداً لمحكمة التفتيش في أراجون؛ وشكا فيه من أن المفتشين يبدون طمعاً في الحصول على الذهب أكبر من الإخلاص للدين، وأنهم سجنوا وعذبوا وأحرقوا مسيحيين مؤمنين بشهادة مريبة من أعدائهم وعبيدهم وأمر بأن على المفتش في المستقبل ألا يباشر مهمته إلا بحضور بعض ممثلي الأسقف المحلي والحصول على موافقتهم؛ وأن يعلن المتهمون بأسماء الذين اتهموهم واتهاماتهم ولا يبيت المسجونون إلا في سجون الكنيسة؛ وأن يسمح للشاكين في الظلم الواقع عليهم أن يقدموا ظلاماتهم إلى السدة الأسقفية المقدسة، وأن يؤجل كل تصرف في القضية حتى يحكم في الاستئناف، وأن يحصل جميع المتهمين بالهرطقة، على حكم البراءة إذا اعترفوا وتابوا؛ وبذلك يصبحون في حل من المحاكمة والاضطهاد بسبب هذه التهمة. وكل الإجراءات السابقة المناقضة لهذا المرسوم تعد باطلة وملغاة، وكل من يخرج على هذه القواعد في المستقبل يكون عرضة للحرمان من غفران الكنيسة. لقد كان مرسوما متنوراً وأحكامه توحى بصدقة ومع ذلك فيجب أن نلاحظ اقتصاره على أراجون التي أنفق المتنصرون فيها بسخاء في سبيل الحصول عليه. ولما رفضه فرديناند وقبض على مبلغيه وطالب المفتشين بأن يواصلوا عملهم، لم يتخذ البابا سكستوس إجراء آخر؛ اللهم إلا تعطيله لمفعول قراره بعد ستة أشهر من إصداره.

وأخذ المتنصرون اليائسون يصبون الأموال صبا في مدينة روما، مناشدين الحصول على فتاوى شرعية وبراءة من استدعاء محكمة التفتيش لهم أو حكمها عليهم. وقبلت هذه الأموال، وأعطيت الفتاوى، بيد أن المفتشين الأسبان الذين يبسط عليهم الملك حمايته جملة تجاهلوها، وكان الباباوات في حاجة إلى حماية فرديناند وإلى المنحة الأسبانية السنوية، فلم يصروا على تلك الفتاوى، وكان المال يدفع في سبيل الحصول على قرار بالعفو فيصدر ثم يسحب بعد ذلك. وعمل الباباوات بين حين وآخر على تأكيد سلطتهم مستدعين المفتشين إلى روما للرد على اتهامات وجهت إليهم بسوء السلوك. وحاول إسكندر السادس أن يخفف من قسوة المحكمة. وأمر يوليوس الثاني بمحاكمة المفتش لوسيرو على سوء استعماله لسلطته، وأصدر قرار الحرمان على مفتش طليطلة. ومع ذلك فقد عد ليو المهذب العالم، القول بعدم إحراق الهراطقة، من الهرطقة التي تستوجب اللوم.

كيف كان موقف الشعب الأسباني من محكمة التفتيش؟ لقد عارضتها الطبقات العليا والإقليمية المتعلمة معارضة ضعيفة، أما عامة المسيحيين فقد أيدوها عادة. وأظهرت الجماهير التي احتشدت عند المحرقة تعاطفا واهنا، وأبدوا دائما عداوة فعالة للضحايا، وحاولوا في بعض الأماكن قتلهم حتى لا ينجيهم اعترافهم من المحرقة. وتجمع المسيحيون لابتياع أمتعة المحكوم عليهم المصادرة بالمزاد.

كما بلغت كثرة الضحايا؟ قدر ليورنت . بأنهم بلغوا بين عامي 1480 و 1488 ثمانية آلاف وثمانمائة أحرقوا، وستة وتسعين ألفا وأربعمائة وتسعين عوقبوا، وبين عامي 1480- 1508 بواحد وثلاثين ألفا وتسعمائة وأثنى عشر أحرقوا ومائتين وواحد وتسعين ألفا وأربعمائة وأربعة وتسعين حكم عليهم بعقوبات صارمة، وكانت هذه الأرقام في معظمها تخمينية. ويرفضها اليوم بصفة عامة المؤرخون البروتستنت ويعدونها تطرفا في المبالغة، يذهب مؤرخ كاثوليكي إلى أنه قد أحرق ألفان بين عامي 1480و1504، وألفان آخران حتى سنة 1758. وأحصى كاتب سر إيزابلا واسمه هرناندو ده بولجر عدد الذين أحرقوا، بألفين قبل عام 1490 وفاخر ذوريتا أمين محكمة التفتيش بأنها أحرقت أربعة آلاف في إشبيلية وحدها هناك ضحايا في معظم المدن الأسبانية، بل في الإمارات التابعة لأسبانيا مثل البليار وسردينيا وصقلية والأراضي الواطئة وأمريكا. ونقص معدل الإحراق بعد عام 1500. ولا تصور الإحصائيات أياً كانت الفزع الذي عاش فيه العقل الأسباني في تلك الأيام والليالي. فقد كان على الرجال والنساء حتى في ستر منازلهم، أن يرقبوا كل كلمة يتلفضونها بها حتى لا يؤدى بهم نقد عارض إلى سجن محكمة التفتيش. لقد كان ضغطا عقليا لا نظير له في التاريخ.

هل نجحت محكمة التفتيش؟ نعم، نجحت في تحقيق غرضها الذي أعلن عنه، وهو تخليص أسبانيا من الهرطقة الصريحة. فإن الفكرة القائلة بأن اضطهاد المعتقدات لا تأثير له أبداً، ضلال، فقد سحق الألبيجينزيين والهيجونوت في فرنسا، والكاثوليك في إنجلترا في عهد إليزابث والمسيحيين في اليابان- وانتزعت، في القرن السادس عشر، الجماعات الصغيرة التي عطفت على البروتستانتية في أسبانيا. ولعلها قوت من ناحية أخرى البروتستانتية في ألمانيا وإسكنديناوه وإنجلترا بإثارة خوف قتال في نفوس شعوبها، مما قد يحيق بهم، إذا أعيدت الكاثوليكية.

ومن العسير أن نقدر نصيب محكمة التفتيش في القضاء على الفترة المزدهرة من تاريخ أسبانيا، الواقعة بين كولومبس وفيلاسكيه (1492- 1660) وبلغت هذه الفترة أوجها بمجيء سرفانتس (1547- 1616) لوب ده فيجا (1562- 1635) وذلك بعد انتشار محاكم التفتيش في أسبانيا بمائة عام. ولقد كانت محكمة التفتيش نتيجة كما كانت سبباً لقوة المذهب الكاثوليكي، وسيطرته على الشعب الإسباني، وإن هذه الحالة الدينية، قد نمت خلال قرون في الصراع، ضد المسلمين: ولعل انحلال إسبانيا من جراء حروب شارل الخامس وفيليب الثاني وضعف الاقتصاد الإسباني بفضل انتصارات بريطانيا في البحر والسياسة التجارية للحكومة الأسبوعية، كان أشد تأثيراً في اضمحلال إسبانيا من أهوال محكمة التفتيش. ولقد أظهر الحكم بإعدام العرافين في أوربا الشمالية ونيو إنجلند نزوعاً في الشعوب البروتستانتية قريباً لما في محكمة التفتيش الإسبانية, ومن العجيب أن نقول إن محكمة التفتيش الإسبانية قد عاملت العرافة بتعقل وعدتها وهما يستحق الإشفاق والعلاج لا العقاب. ولم تكن محكمة التفتيش وإحراق العرافين سوى تعابير عن عصر مصاب بالإيمان، الباعث على القتل، لفرط ثقته بعلوم الدين، كما تعود بعض أسباب أو سياسية, ويجب علينا أن نحاول تفهم مثل هذه الحركات بمصطلحات زمانها، ولكنها تبدت لنا الآن أكبر جريمة لا تغتفر من الجرائم التاريخية. ذلك لأن عقيدة سائدة لا تنازع عدو ومهلك للعقل الإنساني.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هجرة إسرائيل

كان الغرض من محكمة التفتيش أن ترهب جميع المسيحيين المحدثين والقدامى على السواء ليتمسكوا بالسنة الظاهرة على الأقل، على أمل أن يقضى على الهراطقة في مهدها وأن الجيل الثاني أو الثالث من اليهود المعمدين سوف ينسون يهودية أسلافهم. ولم تكن هناك نية للسماح لليهود المعمدين أن يرحلوا عن إسبانيا، فلما حاولوا الهجرة حرمها عليهم فرديناند ومحكمة التفتيش ولكن مذا كان مصير اليهود غير المعمدين؟ لقد ظل حوالي مائتين وخمسة وثلاثين ألفاً منهم في إسبانيا المسيحية. فكيف السبيل إلى تحقيق الوحدة الدينية للدولة، إذا سمح لهؤلاء أن يمارسوا شعائر عقيدتهم وأن يصرحوا بها؟ ورأى توركيمادا استحالة ذلك، وأوصى بإكراههم على التنصر أو نفيهم.

فتردد فرديناند. ذلك أنه كان يعرف القيمة الاقتصادية لقدرة العبرانيين في التجارة والمالية. ولكنه أخبر أن اليهود عنفوا المتنصرين منهم، وحاولوا أن يعيدوهم إلى اليهودية، بشرط واحد هو أن يكون ذلك سراً. واتهم طبيبه رباس ألتس، وهو يهودي معمد، بأنه علق في رقبته كرة ذهبية تحتوي على صورة له على هيئة فيها تنجيس الصليب، ويبدو أن التهمة غير صحيحة ولكن هذا الطبيب أحرق (1488). وزيفت رسائل نصح فيها زعيم يهودي في القسطنطينية، رئيس الجماعة اليهودية في أسبانيا بأن يسرق ويدس السم للمسيحيين كلما استطاع إلى ذلك سبيلا. وقبض على متنصر بتهمة وجود رقاقة مقدسة في جعبته، وعذب مراراً فتكراراً حتى وقع على عبارة مفادها أن ستة من المتنصرين ومثلهم من اليهود قتلوا طفلا مسيحياً، ليستعملوا قلبه في شعيرة سحرية، دبرت لتؤدى إلى هلاك جميع المسيحيين والقضاء الكامل على المسيحية. وكانت اعترافات الرجل المعذب يناقض أحدهما الآخر ولم يبلغ عن فقد طفل من الأطفال، ومع ذلك أحرق أربعة من اليهود، بعد أن انتزع لحم اثنين منهم بوساطة كلابة متوهجة وربما أثرت هذه الاتهامات وأمثالها في نفس فرديناند، ومهما يكن من شئ فقد مهدت لرأى عام يطلب إجلاء اليهود غير المعمدين عن أسبانيا. ولم تعد المساهمة الاقتصادية لليهود حيوية بعد أن استسلمت غرناطة (5 نوفمبر 1491) وانتقل النشاط التجاري والصناعي من المسلمين إلى المسيحية. وجعل التعصب الشعبي الذي تلهبه المحرقة وعظات الرهبان، السلام الاجتماعي مستحيلا، إلا إذا قامت الحكومة بحماية اليهود أو طردهم.

وفي 30 مارس 1492-وهي سنة مزدحمة بالأحداث في تاريخ أسبانيا وقع فرديناند وإيزابلا مرسوم نفي اليهود. ومؤداه أن جميع اليهود غير المعمدين، أيا كانت أعمارهم أو أحوالهم، عليهم أن يتركوا أسبانيا في موعد غايته 31 يوليه، ولا يسمح لهم بالعودة، ومن يفعل عقوبته الإعدام، ولهم أن يتخلصوا من متاعبهم في هذه الفترة القصيرة بأي ثمن يحصلون عليه ولهم أن يأخذوا معهم المتاع المنقول وصكوك المعاملات دون النقد من ذهب وفضة. وقدم أبراهام سنيور وإسحاق ابرابانل، للملكين مبلغاً كبيراً من المال ليسحبا مرسومهما ولكنهما رفضا. ولم يقم اتهام ملكي على اليهود سوى رغبتهم في إغراء المتنصرين للارتداد إلى اليهودية. وصدر ملحق لذلك المرسوم، يجعل الضريبة إلى آخر العام يجب أن تجبى على جميع أملاك اليهود ومبيعاتهم. أما الديون المستحقة على المسيحيين والمسلمين فلا تدفع إلا عند بلوغ سن الرشد، عن طريق العملاء الذين يستطيع المنفيون العثور عليهم، أو تحلى هذه المطالب بخصم لمشترين مسيحيين. وهكذا انتقلت أموال اليهود في هذه المدة الإجبارية القصيرة إلى أيدي المسيحيين بجزء ضئيل من قيمتها. فكانت الدار تباع في مقابل حمار والكرمة في مقابل قطعة من القماش. وأحرق بعض اليهود في نوبة يأس منازلهم "أليجمعوا قيمة للتأمين عليها؟" وتنازل بعضهم الآخر عنها للمجلس البلدي. ووضع المسيحيون أيديهم على المعابد وحولوها إلى كنائس. وتحولت مدافن اليهود إلى مراع. وذاب في شهور قليلة، الجانب الأكبر من ثروات اليهود الأسبان، التي كدسوها خلال قرون. وقبل ألف يهودي تقريبا التنصر، وسمح لهم بالبقاء، وترك أسبانيا أكثر من مائة ألف في موكب خروج طويل كئيب.


وقبل رحيلهم زوجوا جميع أطفالهم الذين فوق الثانية عشرة. وساعد الصغار الكبار، وأعان الأغنياء الفقراء. وسار الحجيج على متون الخيل أو الحمير وفي العربات أو على الأقدام. وناشد المسيحيون الطيبون-من رجال دين ودنيا- المنفيين عند كل منعطف أن يذعنوا للتعميد. فقابل الربانيون ذلك بأن أكدوا لأشياعهم بأن الله سيهديهم إلى أرض الميعاد، وذلك بأن يفتح لهم معبرا في البحر كما فعل لآبائهم في القديم. وانتظر المهاجرون الذين أجمعوا في قادس يملؤهم الأمل بأن يتفرق الماء ويسمح لهم بالعبور إلى إفريقيا دون أن تبتل أقدامهم. فلما إنجاب عنهم الوهم دفعوا الأجور الباهظة للنقل بالسفن وفرقت العواصف أسطولهم الذي كان يتألف من خمس وعشرين سفينة، وردت ست عشر منها إلى أسبانيا حيث آثر الكثيرون من اليهود اليائسين التعميد على دوار البحر. وتحطمت السفينة بخمسين من اليهود بالقرب من صقلية، فسجنوا عامين ثم بيعوا رقيقاً. ولم يجد الآلاف الذين أبحروا من جبل طارق ومالقة وبلنسية أو برشلونة، في العالم المسيحي بأسره إلا إيطاليا الراغبة في استقبالهم بدافع إنساني.

كانت البرتغال أكثر الأهداف ملاءمة للمهاجرين. فقد وجدت فيها من قبل جماعة كبيرة من اليهود، وبلغ بعضهم مكانة من الثراء والمركز السياسي في كنف ملوك لا يضمرون لهم عداوة. ولكن جون الثاني أفزعه عدد اليهود الإسبان-ربما بلغوا ثمانين ألفا - الدين تدفقوا عليها. فمنحهم مهلة ثمانية أشهر، عليهم أن يرحلوا بعدها. وتفشى بينهم الطاعون وانتشر منهم إلى المسيحيين، الذين طالبوا بإجلائهم فوراً. فيسرجون خروج اليهود المهاجرين بأن هيأ لهم سفنا بأجور زهيدة، بيد أن الذين اعتصموا منهم بهذه السفن، تعرضوا للسرقة والاغتصاب، وألقي بكثيرين على شواطئ غير مأهولة وتركوا للموت جوعاً أو ليسبيهم المسلمون ويبيعونهم. وهام مائتان وخمسون يهودياً على ظهر سفينة في البحر أربعة أشهر؛ ترفض ميناء بعد ميناء نزولهم، لأن الطاعون لما يزل متفشيا بينهم. واعتقل قرصان بسكاي إحدى السفن ونهبوا ركابها ثم إستاقوا السفينة إلى مالقة، حيث خير القسس والحكام اليهود بين التعميد أو الموت جوعا. وبعد أن مات خمسون منهم زودت السلطات الباقين بالخبز والماء وطالبتهم بالإيجار إلى إفريقيا.

وما أن انتهت مهلة الثمانية أشهر، حتى باع جون الثاني بيع الرقيق، أولئك اليهود المهاجرين الذين بقوا في البرتغال وانتزع الأطفال دون الخامسة عشرة من آبائهم وأرسلوا إلى جزر القديس توماس لينشئوا تنشئة مسيحية. ولما ذهبت التوسلات إلى منفذي المرسوم عبثاً، فقد آثرت بعض الأمهات إغراق أنفسهن وأطفالهن، على تحمل الآم فراقهم، ومنحهم خليفة جون واسمه مانويل فرصة جديدة يجمعون فيها أنفاسهم، فقد حرر أولئك الذين استرقهم جون وحرم على القسس أن يثيروا الدهاء على اليهود، وأمر محاكمة أن ترفض جميع المزاعم بأن اليهود قتلوا أطفال المسيحيين باعتبارها حكايات خبيثة. ولكن مانويل خطب إيزابيلا في الوقت نفسه، وهي ابنة فرديناند وإيزابيلا ووريثتهما، حالما أن يوحد العرشين في فراش واحد ووافق الملكان الكاثوليكيان بشرط أن مانويل ينفي من البرتغال جميع اليهود غير المعمدين سواء أكانوا مواطنين أم مهاجرين. وخضع مانويل لهذا الشرط، مؤثرا الجاه على الشرف وأمر جميع اليهود والمسلمين في مملكته أن يتنصروا أو يطردوا من البلاد (1496). ولما وجد أن فئة قليلة منهم آثرت التنصر، وكره أن تباد المهن والصناعات التي تفوق فيها اليهود أم جميع الأطفال اليهود دون سن الخامسة عشرة، أن يفصلوا عن آبائهم وينصروا كرهاً. وعارض رجال الدين الكاثوليك هذا الجراء، ولكنه نفذ. فقد روى أحد الأساقفة "رأيت أطفالاً كثيرين يسحبون إلى حوض التعميد من شعورهم". واحتج بعض اليهود على ذلك بوأد أطفالهم ثم قتل أنفسهم، وأصبح مانويل شرساً، فعطل اليهود، ثم أمرهم بأن ينصروا كرهاً. فسحلوا إلى الكنائس، الرجال من لحاهم والنساء من شعورهن، وقتل كثيرون منهم نفسه في الطريق وأرسل المتنصرون البرتغاليون رسالة إلى البابا إسكندر السادس يرجون توسطه ولا يعرف رده، ولعله كان في مصلحتهم، لأن مانويل منح إذ ذاك (مايو 1491) جميع المتنصرين كرها إذنا رسمياً مدته عشرون سنة لا يقدمون أثناءها إلى أي محكمة بتهمة التشيع لليهودية. ولكن مسيحي البرتغال رفضوا منافسة اليهود معمدين وغير معمدين، فإذا جادل يهودي في معجزة تنسب إلى كنيسة في لشبونه فإن الغوغاء يمزقونه إربا(1506)، وانتشرت المذابح ثلاثة أيام لا يمنعها أحد، وقتل فيها ألفا يهودي ودفن مئات منهم أحياء. وأنكر المطارنة الكاثوليك هذه السورة من الغضب، وقتل راهبان دومينيكان حرصا على الشغب. واستتب السلام، أو كاد، باستثناء هذه الأحداث مدى جيل من الزمان.

وتم خروج اليهود الرهيب من إسبانيا. بيد أن الوحدة الدينية لم تكن قد تحققت بعد: فقد بقى المسلمون. ذلك أن غرناطة سقطت، ولكن سكانها المسلمين منحوا الحرية الدينية. وانتدب كبير الأساقفة هرناندو ده تالافيرا، حاكماً على غرناطة. فنفذ الميثاق في شئ من السرية وحاول أن يستدرج المسلمين إلى التنصير بالرفق والعدل. ولكن اكسيمينيس لم يوافق على مثل هذا الاعتناق للمسيحية. فألح على الملكة، بأن العهد لا يحافظ عليه مع الكافرين، وأقنعها بأن تصدر مرسوماً (1499) يخير المسلمين بين الدخول في المسيحية وبين مغادرة إسبانيا. وذهب بنفسه إلى غرناطة، وتسلط على طلبيرة وأغلق المساجد، ونصب المحارق العامة التي التهمت جميع الكتب والمخطوطات العربية التي وصلت إليها يده، وأشرف على التنصير الإجباري بالجملة. وكان المسلمون يمسحون الماء المقدس عن أطفالهم عندما يبتعدون عن عين القسيس ونشبت الثورات في المدينةوالولاية، وسحقت. وخير جميع المسلمين في قشتالة وليون بمقتضى مرسوم ملكي صدر في الثاني عشر من فبراير لعام 1502 بين الدخول في المسيحية ومغادرة البلاد وأعطوا لذلك مهلة غايتها آخر إبريل من العام نفسه. واحتج المسلمون بأن أسلافهم عند ما حكموا معظم إسبانيا، فإنهم سمحوا بالحرية الدينية، إلا في القليل النادر، للمسيحيين الذين تحت سلطاتهم، ولكن الملكين لم يتأثرا بهذا الاحتجاج وحرم على الأطفال الذكور دون الرابعة عشرة والإناث دون الثانية عشرة أن يغادروا إسبانيا مع آبائهم وسمح للأمراء الإقطاعيين بأن يحتفظوا بأرقائهم المسلمين على أن يوضعوا في الأغلال. ورحل الألوف، أما الباقون فقبلوا أن ينصروا بفلسفة أكبر مما فعل اليهود وتعرضوا باعتبارهم عربا موريسكيين "morisccos" محل اليهود المعمدين لتحمل عقوبات محكمة التفتيش على عودتهم إلى ديانتهم السابقة وترك إسبانيا إبان القرن السادس عشر ثلاثة ملايين من المسلمين المتظاهرين بالمسيحية ووصف الكاردينال ريشليه مرسوم عام 1502 بأنه "أمجد حادث في إسبانيا منذ عهد الرسل". واستطرد قائلا: "الآن أصبحت الوحدة الدينية في مأمن، وأوشك عهد من الازدهار أن يبزغ".

وفقدت إسبانيا كنزاً لا يقدر بخروج التجار وأصحاب المهن والدارسين والأطباء والعلماء من اليهود والمسلمين، وأفادت الأمم التي تلقتهم من الناحيتين الاقتصادية والفكرية. ولما لم يعد يعرف الشعب الإسباني منذ ذاك غير ديانة واحدة، فقد أذعن تماماً لرجال الدين وتنازل عن كل حق له في التفكير إلا في حدود العقيدة التقليدية. وآثرت إسبانيا أن تحتفظ بطابع القرون الوسطى، وسيان كان ذلك لخيرها أو لشرها، في حين اندفعت أوربا نحو التقدم العصري بفضل الثورات التجارية والطبوغرافية والفكرية والبرتستانتينية.


الفن الإسباني

لقد عبرت العمارة الإسبانية المتشبثة بالطراز القوطي تعبيراً قوياً عن ذلك الطابع للقرون الوسطى. ولم يسخط الشعب على المرويدات التي أعانت ضمير الملوك والنبلاء على إنفاق المال أو السياسة الدينية، لبناء الكتدرائيات الضخام كما دفعت إلى الإسراف في الزينة باهظة النفقة والنحت والتصوير الرائعين على القديسين الأثيرين لديهم وعبادة أم الرب بكل مشاعرهم. وأقيمت كتدرائية برشلونة في بطئ بين عامي 1298،1448: وبين فوضى الطرق الضيقة ترتفع أعمدتها الساحقة وبابها الذي لا مزية له وصحنها المنيف بينما لا تزال أروقتها ذوات النوافذ الكثيرة تصلح ملجأ يعتصم الناس فيه من جهاد النهار. ومدت بلنسية وطليطلة وبرجوس وبرغشت ولاردة وطراكونة وسرقسطة وليون أو زينت معابدها التي كانت موجودة من قبل، بينما أقيمت معابد جديدة في شقة وبمبلونة التي تعد أروقتها من الرخام الأبيض، ذوات النقش الرشيق، تعد في جمال أبهاء الحمراء. وفي عام 1401 قررت هيئة الكتدرائية في إشبيلية أن تشيد كنيسة تبلغ من العظمة والجمال حداً يجعل الذين يشاهدونها في الأجيال المقبلة يرون أننا مجانين لإقامتها. "فأزال المعماريون المسجد المتهالك الذي يقوم على المكان المختار لبناء الكنيسة ولكنهم أبقوا على أسسه، وعلى تخطيطه ومئذنته الجيرالدا، البديعة. وظلوا يضعون حجراً طوال القرن الخامس عشر حتى أكملت إشبيلية تشييد أكبر بناء قوطي في العالم ، وقال عنها تيوفيل جوتييه: "إن كنيسة نوتردام في باريس قد تسير منتصبة القامة في صحنها." ومع ذلك فإن نوتردام كاملة، وكتدرائية إشبيلية فسيحة. وعمل سبعة وستون نحاتاً وثمانية وثلاثون مصوراً من موريللو إلى جويا على تزيين هذا الكهف العظيم للآلهة.

واقترح المعماري جويللو موبو في حوالي عام 1410 على هيئة كنيسة جيرونا أن يزيل الأعمدة والعقود، التي تقسم داخلها إلى صحن ممرات، وأن يوحد الجدران بعقد واحد عرضه ثلاثة وسبعون قدما. ونفذ ذلك، وهكذا أصبح لصحن كتدرائية جيرونا أعرض عقد قوطي في العالم المسيحي. وكانت نصراً للهندسة وهزيمة للفن. وشيدت أضرحة لم تبلغ هذه الضخامة أبان القرن الخامس عشر في بربنيان ومانريزه واسترقة وبلد الوليد. وتوجت شقوبية عمارتها بتشييد كتدرائية على شكل حصن عام 1472، وأتمت سجيونزا أروقتها المشهورة عام 1507، وبدأت سلمنقة في إقامة مزارها الجديد عام 1531 وترتفع في كل مدينة كبيرة في أسبانيا، ما عدا مدريد، كتدرائية تبدو من الخارج بناية ضخمة في جلال رائع وداخلها يسترحم الشمس بظلامه الدامس ويروع النفس بالتقوى، ومع ذلك تبدو زاهية بالألوان الناصعة التي يتسم بها فن التصوير الأسباني، وبتماثيلها الملونة وبريق الجواهر والفضة والذهب. وهذه هي دور الروح الإسباني، الخاضع في خوف المتكبر في وحشية.

وعلى الرغم من هذا كله وجد الملوك والنبلاء كما وجدت المدن، الأموال لتشييد القصور الباهظة. وكان بطرس الغشوم وفرديناند وإيزابلا وشارك الخامس يعيدون تشكيل القصر"Alcazar" الذي صممه معماري مسلم في إشبيلية عام 1181، وقام بمعظم الترميم مسلمون منغرناطة حتى ليبدو البناء أخا ضعيفا للحمراء. ولقد شيد دون بدرو انرنيكز على طراز إسلامي مشابه، لأمر القلعة "Alcala" في إشبيلية (1500) قصراً منيفاً، وهو قصر بيلاطس وكأنما يكرر الدار التي يقال أن بيلاطس، أسلم من بابه المسيح للصلب ولقد زود ديوان بلنسية (1500) للبلاط المحلي بصالون دوراد وينافس في فخامته سالا دل ماجيور كونسيجليو، في قصر الدوج في البندقية. وكان فن النحت لا يزال خادما للعمارة والعقيدة، يزحم الكنائس الإسبانية بتماثيل العذراء من المرمر أو المعدن أو الحجر أو الخشب، وهنا تجد التقوى تتجسم في أشكال دينية صارخة، أو زهدية جافية، يذكيها اللون ويضاعف من إثارتها للروع كآبة صحونها. ويفاخر الفن الأسباني خاصة بالحواجز المنقوشة والملونة المقامة خلف منضدة المذبح، وأنفقت مبالغ طائلة اغتصبت تحت وطأة التهديد بالموت، لجمع أحدق الصناع-والاحتفاظ بالمصممين والنقاشين والنحاتين والدور دور الذين يذهبون أو يدمشقون السطوح والاستوفادور الذين يصبغون الثياب والحلي والانكارنادور في الضريح. يلونون الأجزاء التي تحكى اللحم، وعمل الجميع معا أو بالتناوب في الضريح وخلف المذبح الرئيسي لكتدرائية إشبيلية حاجز يتألف من خمسة وأربعين قسما(1483-1519)- ويصور الأساطير المحببة، في تماثيل ملونة أو مذهبة سانت جيمس في كتدرائية طليطلة في خشب شربين مذهب وبواقعية متجهمة سيرة أكبر قديس أسبانيا تمجيداً.

وقد يمثل الأمراء والمطارنة في فن النحت؛ ولا يكون ذلك إلا على قبورهم التي توضع في الكنائس أو للأديرة التي تعد المداخل إلى الجنة وعلى هذا النحو دفنت دونا منسيا أنريكيز، دوقة البوكرك في حدث منقور نقراً جميلاً، وهو الآن موجود في متحف الجمعية الأسبانية في نيويورك، وحفر يابلو أرتيز لكتدرائية طليطلة، تابوتين فخمين لدون الفاروده لونا وزوجته. وصمم جيل ده سيلوى في دير ميرا فلورس الكاثوسي بالقرب من برغشت، مدفناً على الطراز الإيطالي لوالدي الملكة وأخوتها. وبلغ من ابتهاج إيزابلا بهذه المدافن الشهيرة للرفات الملكية إنها عندما علمت بمصرع وصيفها، جوان ده باديلا (الذي كان شجاعاً في استهتار حتى أطلقت عليه "معتوهى" بإصابة في رأسه إبان حصار غرناطة، كلفت ده سيلوى، أن ينقر مدفنا ملكيا لضم رفاته، ونافس جيل مرة أخرى أحسن ما في فن النحت الإيطالي في عصره.

وليس هناك فن أكثر تمييزاً من الفن الاسباني، ومع ذلك فليس بينها ما أسلم للتأثير الأجنبي بخشوع مثله. وخضع أول أمره، بطبيعة الحال، للتأثير الإسلامي، الذي استقر طويلاً في شبه الجزيرة ، وإن استمد جذوره من العراق وفارس وأدخلت في الطراز الأيبيرى، دقة في الصناعة، وكلفا بالزينة فلما تضارع في أي بقعة من بقاع العالم المسيحي. أما في الفنون الصغرى، حيث يحتل الزخرف المكان الأكبر، فإن إسبانيا قلدت فيها أساتذتها العرب ولم تتفوق عليهم فيها قط. فترك الخزف بأكمله للمدجنين، الذين لم يضارعهم في لمعان آثارهم سوى الصينيين، والذين زادت قراميدهم الملونة-وبنوع أخص الزلزلي الأزرق-من أبهة الأرضيات والمذابح والنوافير والجدران والسقوف في أسبانيا المسيحية. كما أن الحذق الإسلامي نفسه، قد جعل المنسوجات الإسبانية من المخمل والحرير والمخرم-أدق ما في العالم المسيحي من نوعه. وهذا الحذق يبدو مرة أخرى في المصنوعات الجلدية الإسبانية، وفي الزخارف العربية "أرابسك" وفي الحواجز المعدنية وفي أوعية السر المقدس الدينية وفي النقش على الخشب الذي تصنع منه الحواجز خلف المذبح ومقاعد الشمامسة والأقبية وتسللت تأثيرات متأخرة من التصوير البيزنطي ثم من فرنسا وبرجنديا والأراضي الواطئة وألمانيا. واستمد النحت والتصوير الأسبانيان واقعيتهما الرائعة من الهولنديين والألمان - وهي الواقعية التي أظهرت رسوم العذراء مخيفة بالقدر الذي يجعل سنها ملائمة لأن تكون أم المصلوب، على الرغم من رأي ميشيل انجيلو من أن العذرة التي تبتعث الشباب - ولقد انحسرت جميع هذه التأثيرات إبان القرن السادس عشر أمام انتصار الطراز الإيطالي الذي شمل القارة الأوربية.

وسار التصوير الأسباني في تطور مماثل، ولكنه تقدم ببطيء، وربما كان ذلك لأن المسلمين لم يبذلوا في هذا المجال معاونة أو توجيها. وكانت الصور الجدارية القطلونية في القرنين الثاني والثالث عشر، أحط من حيث التصميم، من الرسوم على جدران كهف التاميرا التي تعود إلى ما قبل التاريخ في إسبانيا. ومع ذلك فما جاء عام 1300 حتى أصبح التصوير الفتنة التي تأخذ بالألباب في شبه الجزيرة بأسرها، وصور فنان صوراً جدراية كثيرة ولوحات ضخمة على المذبح، وقد بقي بعضها مما يرجع إلى عام 1345 مدة طويلة أكثر ما يستحق-وفي عام 1428 زار جان ايك، إسبانيا وأدخل معه تأثيراً فلمنكياً قوياً. وأرسل ملك أرجون بعد ذلك بثلاثة أعوام، لويس دلو، ليدرس دلو في بروجس، ولما عاد صور لويس صورة مغرقة في الفلمنكية هي "عذراء مجلس الشورى". وأخذ المصورون الأسبان منذ ذاك، وإن ظلوا يفضلون الألوان غير اللامعة، يغمسون ألوانهم في الزيت شيئا فشيئا. وبلغ عصر البدائيين في التصوير الإسباني، ذروته على يد بارتلومة برميجو (المتوفى عام 1498) وقد حفر نفسه اسماً في فترة مبكرة عام 1447 بصورته سانتو دومنجو المعلقة في البرادو. أما صورتا: سانتا انجراسيا التي اشتراها متحف جاردنر في بوسطن، وسانت ماكايل الموجودة في مجموعة ليدي ليدلو، فإنهما جديرتان برفائيل، الذي جاء بعده بجيل من الزمان. ولكن أحسنها جميعها هي صورة بيتا(1490) في كتدرائية برشلونة: وفيها جيروم أصلع على عينيه نظارات، ومريم سمراء أسبانية تمسك بابنها الكسيح الهزيل الذي لا حياة فيه، وفي مهاد الصورة أبراج أورشليم تظللها سماء قريبة، وإلى اليمين صورة جافية للمنعم الكاهن ديسبلا، غير مرجل الشعر غير حليق اللحية، يشبه قاطع طريق تائباً محكوماً عليه، ويوحي تصور برميزو المريض للإنسانية. وهنا نجد أن الرشاقة الإيطالية تتحول إلى قوة اسبانية، وتحتفل الواقعية بانتصارها في الفن الإسباني.

واستمر التأثير الفلمنكي في فرناندو جاليجوس، وأثمر رائعة مذهلة بــ" فارس من جماعة قلعة رباح"، صورها ميجويل سييثيوم وهو فلمنكي في حاشية إيزابلا، وهي من أجمل صور الأشخاص في المعرض القومي بواشنطن. ولكن التأثير الإيطالي بدأ مرة أخرى عندما عاد بدرو برجوت إلى إسبانيا بعد تمرس طويل في إيطاليا. وناك درس مع بييرو دلافرنشسكا وميلوزودا فورلي، وتمثل طرقتهما الهادئة في التظليل. ولما أراد فيديريجو أمير أربينو، مصورين يزينون قصره، اختار جستوس فون جنت وبيرو سبانيولو، ولما توفى الدوق (1582) جلب بدور فن التكليل معه إلى إسبانيا، ورسم لوحات مذبح مشهورة في طليطلة وأبلة والصور المنسوبة إليه في اللوفر والبريرا والرادو ومتحف كليفلند، فلَم يؤيد شهرته الحالية، أباعتباره فيلاسكين الملوك الكاثوليك؟ ولكنها تبدو في الرسم والتأليف أعظم من جميع الآثار التي ظهرت في إسبانيا قبلهم. وأخذت العوامل الأجنبية تتفاعل ببطيء مع العبقرية الوطنية لتمهد الطريق لظهور الآثار الفنية الناضجة التي قام بها الونزوكواللو والجريكو في عهد فيليب الثاني، وانتصارات فيلاسكيه وزرباران وموريللو في عصر إسبانيا الذهبي إبان القرن السابع عشر. والعبقرية موهبة فردية من القوة والإرادة. ولكنها في الوقت نفسه ميراث اجتماعي للنظام والقدرات تشكلت على الأيام وتمثلها النمو والعبقرية تولد وتصنع في آن واحد.


الأدب الإسباني

وكان على النفوذ الإيطالي في الأدب أن يتريث في الوقت الذي تبادلت فيه أسبانيا لتأثير مع فرنسا في القرون الوسطى. وربما أخذ التروبادور في برفانس عن أسبانيا الإسلامية والمسيحية، قوالبهم وأخيلتهم الشعرية ومع ذلك فقد أرسل جون الأول ملك أرجون وفدا إلى شارك الرابع ملك فرنسا (1388) يطلب مجيء-التروبادور من تولوز إلى برشلونة، لينشئوا فيها فرعا من فرقتهم، الحكمة المرحة وتحقق له ذلك وعقدت المطارحات الشعرية في برشلونة وطرطوشة على النهج البروفانسي، وشغفت الأقلية المتعلمة في أرجون وقشتالة بنظم الشعر وإلقائه. وأنشد منشدون جوالون القصائد الغنائية في الحب أو العقيدة أو- الحرب بمصاحبة آلات وترية بسيطة.

وإذا كان الجيل الثاني فقد أيد جون الثاني ملك قشتالة النماذج الشعرية الإيطالية. وانتشرت في شبه الجزيرة الأيبيرية طرائف النظم الإيطالي وأوزانه عن طريق نابولي وصقلية، حيث حكم الإسبان، وعن طريق جامعة بولونيا، حيث تعلم الشباب الأسبان مثل آل بورجيا، ووجد دانتي بترارك مقلدين لهما مشغوفين بهما باللسان القشتالي. وكانت مقطعات الشعراء الأسبان الغنائية تجمع بين وآخر في دواوين الشعر الغنائي cancioneros، وهي أناشيد فروسية العاطفة بتراركية الأسلوب. واستورد ماركيز سنتيلانا- وهو سياسي وباحث وراعية للأدب وشاعر- قالب المقطوعة الغنائية في إيطاليا، وسرعان ما صنف تاريخا للأدب. وقلد جوان ده مينا، دانتي تقليداً صريحاً في ملحمة شعرية، عنوانها "قصر التيه" وقد فعلت الكثير لتجعل اللغة القشتالية لغة أدبية، مثلما فعلت الكوميديا الإلهية، للغة الحديثة التسكانية وسبق دون جوان مانويل في الوقت نفسه بوكاشيو، في كتابة حكايات درامية اقتبس شكسبير من إحداها الشخصية التي لا يمكن تصديقها لبتروشيو في ترويضه النمرة. وظلت الرومانس تجد لها مدخلا لكل الطبقات القراء. وترجمت أماديس داجولا إلى الإسبانية (1500) على يد جارسا أردونية، الذي أكد لقرائه، أنه استحدث في الأصل البرتغالي تنقيحا كبيراً، وما دامت هذه الترجمة قد ضاعت فنحن لا نستطيع أن نخالفه. أماديس ابن غير شرعي لأميرة بريطانية خيالية، وقد ألقت به أمها في البحر. فأنقذه فارس اسكتلندي وصار وصيفاً لملكة اسكتلنده. ويترك ليوزيرات ملك إنجلترا ابنته أوريانا التي تبلغ من العمر عشرة أعوام في البلاط الاسكتلندي، ليخمد ثورة مغتصب لملكه. وتعين الملكة أماديس الذي يبلغ من العمر أثنى عشر عاما وصيفاً لأوريانا قائلة "هذا الطفل يقوم على خدمتك".. فأجابت إن هذا يسرها. واحتفظ الطفل بهذه الكلمة في قلبه، على نحو لم تفارقه بعد ذلك قط... ولم يكل قط، طوال أيام حياته من خدمتها. وهكذا بقي حبهما ما بقيا، ولكن أماديس الذي لم يعرف مطلقاً مدى حبها له، رأى نفسه جسوراً في أن يحصر أفكاره فيها وقد أدخل في اعتباره عظمتها وجمالها، ولم يجسر قط، أن يتفوه بكلمة معها وهي أيضاً، وان أحبته من قلبها، حرصت على ألا تكلمه أكثر مما تكلم غيره، ولكن عينيها وجدت السلوى العظيمة في أن تبدي لقلبها أعظم ما تحبه في الدنيا.

ومن المطمئن أن نعلم أن حبهما قد انتصر بزواجهما، بعد محن بلغت من الكثرة في القصة قبل الزواج، ما بلغته بعد ذلك في الحياة. وفي هذه الحكاية الطويلة لحظات كثيرة تزخر بالعاطفة وبعضها يتسم بالنبل، وإذا كان سرفانتيس، قد أقسم أن يمحو كل هذا النوع من القصص الخيالي فإنه أبقى هذه باعتبارها أحسنها.

وتعد الرومانس مورداً من موارد الدراما، التي انبثقت ببطيء من مسرحيات المعجزات والأخلاقيات، في صورة الهزليات الشعبية ومسرحيات التنكر الخاصة بالبلاط. وأقدم وقت معلوم في تاريخ الدراما الإسبانية هو عام 1942، عندما ظهرت على المسرح المحاولات الدرامية لجوان دل انسينا وسار فرناندو ده روجاس وهو من المتنصرين خطوة أخرى نحو الدراما بتأليفه La Celestina ، "القوادة" (1499) وهي قصة تسرد قصتها في كل شكل حوار، وتنقسم إلى اثنين وعشرين فصلا، وكانت أطول من أن تمثل على المسرح، بيد أن تشخيصها الحي وحوارها المشرق قد مهدا للكوميديا الإسبانية الكلاسيكية. وكانت الكنيسة تعمل على تعويق الدراسات وتشجيعها معاً. بينما فيينا أخذت محكمة التفتيش تراقب الفكر، فإن صفوة رجال الدين قد عملوا الكثير من أجل التربية والتعليم. وجلب الإيطاليون من أمثال بيترو ومارتيره وانجييرا، الذي جاء إلى إسبانيا عام 1487، أخبار الحركة الإنسانية، كما عاد الأسبان الذين تعلموا في إيطاليا بعدوى التحمس لها. واستجاب بيتر مارتير لطلب الملكة فافتتح في بلاطها، كما فعل الكوبن لشرمان ذلك بسبعة قرون، مدرسة لتعليم الآداب واللغات الكلاسيكية. ودرست الأميرة جوانا اللاتينية في جد ومثابرة قبل أن تصاب بالجنون. وكتب بيتر نفسه التواريخ الأولى للكشوف الجغرافية في أمريكا، بعنوان"في أمور المحيطات وفي أمور الكرة الأرضية الجديدة (1504)" De rebvs Oceanis et novo orbe والكلمتان الأخيرتان تسايران استعمال فسبوتشي (1502؟) لهما قبل ذلك لتدل على العالم الجديد.

وأسهم الكاردينال اكسيمنيس، الذي كان إيمانه صارماً حاداً كالصلب في الحركة الكلاسيكية. وقد أسس عام 1499 كلية الدوفنسو، وفي عام 1508 جامعة القلعة. وهناك بدأ، عام 1502، تسعة من اللغوين تحت إشرافه بأحد الأعمال الكبيرة للنهضة العلمية، وهو "الكتاب المقدس بعدة لغات"Biblia polyglotta compluti وهو أول نسخة كاملة للكتب المقدسة المسيحية باللغات الأصلية. ولقد أضاف الناشرون إلى النص العبري الماسوريتي للعهد القديم والنص اليوناني للعهد الجديد. على عمود مقابل أو تعليق؛ الترجمة اليونانية وترجمة جيروم اللاتينية وشرحا سريانيا للتوراة. فتح ليو العاشر، لمعاوني اكسيمنيس، خزائن مخطوطات الفاتيكان، ونشر ثلاثة من اليهود المتنصرين علمهم العبري، وتم تحقيق هذه النصوص عام 1517 ولكن المجلدات الستة لم تطبع إلا عام 1522. وأحس اكسيمنيس بالوفاة، فاستحث علماؤه. قائلا:"لا تضيعوا وقتاً في تنفيذ عملنا المجيد، وإلا، فقدتم في خضم حوادث الحياة داعيكم أو قدر على أن أندب فقد أولئك الذين خدماتهم أعظم في نظري من كنوز الدنيا وأمجادها"، وقدم إليه المجلد الأخير قبل وفاته بأشهر قليلة مع تحيات أصدقائه. وقال لهم إنه لا يوجد بين جميع أعمال إدارته ما هو أحق من هذا بتهيئتهم. وشرع إصدار نصوص أرسطو بالطريقة نفسها، مع ترجمة لاتينية جديدة لها، ولكن المنية حالت بينه وبين ذلك.


موت الملك

سبقت إيزابلا وزيرها الناشط في المغامرة الكبرى فقد كانت على الرغم من قساوتها، امرأة عميقة الإحساس، احتملت ملمات أشد وطأة من الحروب. فقد دفنت أمها عام 1496. ومات من أطفالها العشرة خمسة عند الولادة أو في سن الطفولة، ومات اثنان آخران في الشباب المبكر.


وفقدت ابنها الوحيد عام 1497، وهو أملها الوحيد في وراثة طبيعية للعرش، كما ماتت أحب بناتها عام 1498، وهي ملكة البرتغال، التي ربما وحدت شبه الجزيرة توحيداً سلمياً لو قدرت لها الحياة. وكابدت وسط هذه الضربات المأساة اليومية وهي تشاهد ابنتها جوانا، التي كانت وقتذاك ولية للعهد، تفقد عقلها ببطيء.

وكانت جوانا قد تزوجت فيليب الجميل، دوق برجندي وابن الإمبراطور مكسيمليان الأول (1946) وأنجبت منه إمبراطورين مقبلين هما شارل الخامس وفرديناند الأول. وأهمها زوجها فيليب إما لمزاجها المتقلب، أو لسفاهتها، واستمر على اتصال بإحدى سيدات بلاطها في بروكسل، وجزت جوانا شعرها الخلاب فأقسم زوجها ألا يضاجعها-وسمعت إيزابلا بهذا كله. فوقعت مريضة وفي الثاني من أكتوبر عام 1504 كتبت وصيتها. بأن يحتفل بجنازتها أبسط احتفال وأن المال المدخر من هذا الصنيع يجب أن يوزع على الفقراء، وأن تدفن في دير فرنسسكاني داخل الحمراء، وأضافت: ولكن إذا رأى مولاي الملك أن يكون جدثه في مكان آخر وصيتي أن ينقل جثماني إلى جواره، وأن الاتحاد الذي نعمنا به في هذه الدنيا، وقد تقتضي رحمة الله أن تتحد معاً روحانا مرة أخرى في الآخرة، ويمثله اتحاد جسمينا في الثرى" وماتت في الخامس عشر من نوفمبر عام 1504 ودفنت كما أوصت، حتى إذا مات فرديناند نقل جثمانها ليدفن إلى جواره في كتدرائية غرناطة. وكتب بيتر مارتير "لقد فقدت الدنيا أنبل زينتها، لا أعرف أحداً من جنسها في العصور القديمة أو الحديثة، جديرة على الإطلاق بأن يوضع اسمها مع هذه المرأة التي لا تضارع". (لقد كانت مرجريت ملكة السويد بعيدة عن مجال إدراكه، كما أن إليزابث ملكة إنجلترا كانت كذلك لم تأت بعد).

وقد عينت وصية إيزابلا، فرديناند ليكون نائب ملك على قشتالة من أجل فيليب الذي تمثلته الأراضي الواطئة ومن أجل جوانا التي تسرع الخطى نحو الاعتصام بالجنون. وكان أمل فرديناند أن يمنع سقوط العرش الأسباني في يد آل هبسبرج، في شخص شارل بن فيليب، فبادر وهو في الثالثة والخمسين إلى الزواج (1505) من جرمين ده فوا، ابنة أخي لويس الثاني عشر، والبالغة من العمر سبعة عشر عاماً، ولكن الزواج ضاعف من سخط النبلاء القشتاليين على مولاهم الأرجواني. وماتت ثمرة هذا الزواج في سن الطفولة. فطالب فيليب بعرش قشتالة، ووصل إلى أسبانيا ورحب به النبلاء (1506) بينما انسحب فرديناند إلى مقره باعتباره ملكاً على أرجون. وبعد ذلك بثلاثة أشهر مات فيليب، واستعاد فرديناند ملك قشتالة باسم ابنته المخبولة. وظلت جوانا لالوكا، ملكة من الناحية القانونية، وعاشت إلى عام 1555، ولم تترك قصرها في تورديزبلاس إطلاقاً، بعد عام 1507، وكانت تأبى الاغتسال أو ارتداء الثياب ولم تكل يوماً عن النظر من خلال إحدى النوافذ إلى المدافن التي تضم رفات الزوج الخائن الذي لم تنقطع عن محبته. وحكم فرديناند حكماً مطلقاً وهو نائب ملك أكثر مما كان وهو ملك فقد تحرر من تأثير إيزابلا الملطف، وتحولت عناصر الصلابة والانتقام في شخصيته إلى التصلب الصارم. وكان قد استعاد قبل ذلك روسيلون وسردينيا (1493) كما فتح جونز الو أمير قرطبة باسمه نابولي عام 1503. ونقض ذلك معاهدة وقعها فيليب مع لويس الثاني عشر في ليون تقسم مملكة نابولي بين أسبانيا وفرنسا: وأكد فرديناند للعالم بأن فيليب تجاوز تعليماته. وأبحر إلى نابولي واستولى بشخصه على عرشها (1506) وساوره الشك في رغبة جونزالو في العرش لنفسه! ولما عاد إلى أسبانيا (1507) أخذ معه القبطان الكبير وأسلمه إلى عزلة عدها معظم أهالي أسبانيا إذلالاً لا يستحقه.

وسيطر فرديناند على كل شئ إلا الزمن. وغاضت ينابيع الإرادة والنشاط فيه شيئاً فشيئاً. وطالت فترات راحته. وأصابه الإنهاك مبكراً، فأهمل شئون الحكومة، وأصبح نافذ الصبر قلقاً، سيئ الظن إلى حد المرض بأوفى خدامه له. وأضناه الأستسقاء والربو، وتعذر عليه التنفس في المدن ففر في يناير عام 1516 جنوبا إلى الأندلس، آملاً أن يقضي الشتاء في ريفه الطلق. ولكنه مرض في الطريق، وأقنع آخر الأمر بأن يتأهب للموت. فعين أكسيمينيس ليكون نائب الملك على قشتالة، كما عين ابنه غير الشرعي كبير أساقفة سرقسطة، نائب الملك على أرجون. وبات في الثالث والعشرين من يناير عام 1516 في السنة الرابعة والستين من عمره، والثانية والأربعين من حكمه.

ولا غرابة في أن يمتدحه ميكافلي: كان هنا ملك قام بدور الأمير قبل أن يفكر مؤلفه في كتابته. فقد جعل فرديناند من الدين أداة للسياسة القومية والحربية، وغمر وثائقه بعبارات التقوى ولكنه لم يسمح لاعتبارات الأخلاق قط أن يتغلب على مقاصد الضرورة أو الغنم. ولا يستطيع أحد أن يشك في قدرته وكفاءته في الإشراف على الحكومة، واختياره الفطن لوزرائه وقواده ونجاحه المستمر في الدبلوماسية والاضطهاد والحرب. أما من الناحية الشخصية فلم يكن جشعاً ولا مبذراً، وكانت شهرته تنزع إلى تحقيق السلطة أكثر من تحقيق الترف، وكان جشعه من أجل بلاده، يريدها موحدة قوية. ولم يؤمن بالديمقراطية، وتضاءلت في كنفه الحريات المحلية وماتت وكان مقتنعاً بأن النظم الإقليمية القديمة لا يمكن التوسع فيها بنجاح أمة تضم ولايات وعقائد ولغات جد كثيرة. وكان عمله وإيزابلا معه أن يحل الملكية محل الفوضى والقوة محل الضعف ومهد الطريق لشارل الخامس أن يحتفظ بالسيادة الملكية على الرغم من فترات غيبته الطويلة، كما مهد الطريق لفيليب الثاني ليركز الحكومة كلها في رأس واحد قاصر. وكان آثماً من أجل تحقيق هذه الأغراض بما يعد في زماننا همجية وتعصباً وقسوة غير إنسانية، ولكن يعد عند معاصريه نصراً مجيداً من أجل المسيح.

وحافظ أكسيمنيس باعتباره نائب الملك بحماسة على حكم العرش المطلق، ولعله كان بديلا من الارتداد إلى الانقسام الإقطاعي. وهو وإن كان في الثمانين من عمره، فقد حكم قشتالة بإرادة صلبة، وقضى على كل محاولة من الإقطاع أو المجالس البلدية لاستعادة سلطاتها السابقة، فلما سأله بعض النبلاء بأي حق يمنع امتيازاتهم، لم يشر إلى وثيقة إسناد المنصب إلى شخصه وإنما أشار إلى المدفعية في فناء قصره. ومع ذلك كانت إرادة السلطة عنده نابعة لإحساسه بالواجب، لأنه استحث الملك الشاب شارك مراراً على أن يترك فلاندرز وأن يحضر إلى أسبانيا ليتولى ملكها. ولما جاء شارل (17 سبتمبر 1517) سارع اكسيمنيس شمالا لاستقباله. ولكن مستشاري شارل الفلمنكيين أيدوا نبلاء قشتالة في إعطائه تقريراً ضد إدارة الكاردينال وشخصيته، حتى بعث الملك، وكان لا يزال فتى غير ناضج في السابعة عشرة من عمره، إلى اكسيمنيس ورسالة يشكره فيها على خدماته، مرجئا مقابلته مطالبا إياه بأن يسحب إلى مقره الديني في طليطلة لينعم براحة يستحقها. وبعث بعدها برسالة أخرى يعفي المتزمت العجوز من جميع المناصب السياسية، وبلغته الرسالتان متأخرتين حتى لا يضاعفا من إذلاله، فقد مات في الثامن من نوفمبر عام 1517 بالغاً من العمر واحداً وثمانين عاماً. وعجب الناس من أنه على الرغم من صلاحه في الظاهر فقد جمع الثروة الشخصية الضخمة التي خلقتها وصيته إلى جامعة القلعة.

وختم لإسبانيا عصراً غنيا بالأمجاد والأهوال والرجال الأقوياء. ويوحي الأعقاب على هذه الأحداث بأن انتصار التاج على المجالس النيابية والولايات قد أزال الوسيلة التي كانت الإسبانية تستطيع بواسطتها أن تعبر وتحافظ على استقلالها وتنوعها وأن توحيداً قد استتب في مقابل أن يسيطر على أسبانيا جهاز يعمل على قمع الفكر الأصيل في أوليات الأشياء وأواخرها، وأن إجلاء اليهود والمسلمين الذين لم يتنصروا، قد أنقص من القوة البشرية المعاملة في التجارة والصناعة في نفس الوقت الذي تطلب اكتشاف العالم الجديد فيه التوسع والتقدم الاقتصاديين، وأن تورط أسبانيا المستمر في سياسات وحروب فرنسا وإيطاليا (ثم فلاندرز وألمانيا وإنجلترا) وضعت أثقالا لا تحتمل على كاهل موارد الأمة في المال والرجال، بدلا من تحويل السياسة ولمغامرة في عهد فرديناند وإيزابلا باصطلاحات لا يستطيع شعب أوربي في عصرهما فهمهما. فقد اضطهدت جميع الفرق الدينية، اللهم إلا قليلا من المسلمين ومنكري تعميد الأطفال، المخالفة في الدين، واستعملت جميع الحكومات، إيطاليا وفرنسا الكاثوليكيتان وألمانيا وإنجلترا البروتستانتيان، القوة في توحيد العقيدة الدينية، واستشعرت جميع الدول الظمأ إلى ذهب جزائر الهند-الشرقية والغربية- وكلها توسلت بالحرب والدهاء الدبلوماسي لتؤكد بقاءها وتوسع حدودها أو تزيد من ثروتها.

ولم تكن المسيحية عند جميع الأمم المسيحية حكما بالوسائل وإنما كانت وسائل إلى الحكم، وكان المسيح أثيراً عند الشعب وميكافلي أثيراً عند الملوك. وقد حضرت الدولة الإنسان من بعض الوجوه، ولكن من ذا الذي يحضر الدولة؟.